#85  
قديم 08-23-2014, 07:18 AM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود غير متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 56,039
ورقة غنائم الغرب من الحروب الصليبية

غنائم الغرب من الحروب الصليبية
ــــــــــــــــ

27 / 10 / 1435 هــ
23 / 8 / 2014 م
ــــــــــ

(عبدالعزيز كحيل)
ــــــــــ



لا تكتفي الأقليَّة العَلمانية في البلاد الإسلامية بالمطالبة بتَحْيِيد الإسلام، والفصل بين أحكامِه وبين نظام الدولة، كما هو الأمر في البلاد الغربية، وإنَّما تُمْعِن في الطعن الصَّريح تارة والخفي تارة أخرى في مَرجعيته وتَجرُّده من المحاسن، ولا تنسب إليه أيَّ إيجابية، لا في الأخلاق، ولا في التشريع، ولا في النظرة إلى الكون والإنسان والحياة، ويُجَنُّ جنونها، وتتوتَّر أعصاب دعاتها حين يربط دين الله بالعلم، ويقول القائلون: إنَّ الإسلام يقوم في كلِّ مجالاته على المعرفة العميقة والعلم الرَّاسخ، وقد أقام بهما حضارة امتدَّت في الزمان، فدامت ثلاثةَ عَشَرَ قرنًا، واتَّسعت في المكان شرقًا وغربًا وشمالاً وجنوبًا، وغاصت عمقًا، فشَمِلَت حياةَ الفرد والمجتمع والأمم في العقائد، والأخلاق، والسُّلوك على أصعدة التجارة، والسياسة، والسلم، والحرب، والتربية، والاجتماع، والاقتصاد، والأدب، والفنِّ.

"ما للإسلام والعلم والحضارة؟ إنَّه فقط عَلاقة رُوحية بين الفرد ومُعتقداته الغيبية، بل هو في الحقيقة سبب تأخُّر المسلمين، وما داموا يقحمونه في شؤون السياسة والتنمية والحياة الشخصيَّة، فلن يزيدوا إلاَّ تقهقُرًا"؛ هذه قناعة العَلمانيِّين في بلادنا، لا يكادون يتزحزحون عنها قِيدَ أُنْمُلَة، ويرفضون أنْ نُناقشهم فيها، فلننظرْ في صفحات التاريخ، لعلَّ بعضَهم يتنازل عن كبريائه، ويُذعن للحقِّ، فيعود إلى صفِّ أمَّته التي يَدَّعي الانتصار لها.

نعرف ماذا جَنَت حروب الفرنجة - التي سمَّاها النصارى "الحروب الصَّليبية" - على المسلمين، لكن ماذا جنى منها الغربيُّون بعد تسع حملات متتالية تزعَّمها ملوكهم وقادةُ كنائسهم، وكان تَعْداد الجنود فيها بمئات الألوف؟

هذا ما لا يُكلِّف العَلمانيُّون أنفسَهم عناءَ البحث فيه؛ لأنَّهم مثل كلِّ المقلدين للمتغلِّب والمهزومين روحيًّا، يرتمون في أحضان الأفكار التغريبية الميِّتة والمُميتة، مُنبهرين بها، واقفين عند سطحها، لا يغوصون في أعماقها، ولا يبحثون عن تاريخ نشأتِها؛ لإدراك حقائقها، ومعرفة دقائق مسيرتها، وهذا الجهلُ قاد النخبة المنسلخة من مقوِّمات المجتمع إلى الدُّخول في حرب ضدَّ الإسلام من منطلق كَنَسِي عَفَّى عليه الزمان، ولعلَّ هذا الموقف العدائي الذي لم يتَّعظ بدروس التاريخ يُحتِّم علينا أنْ نرجع ببعض التحليل إلى الحروب الصَّليبية، باعتبار ذلك صفحةً منسيَّة من الصراع الفكري الثقافي العقدي، الذي انتصر فيه الإسلام، وانتصرت فيه الروح العلمية.

هل كانت الحروبُ الصليبية حروبًا استعمارية توسُّعية فحسب، أو هي مُواجهة بين ديانتين مُتجاورتين جغرافيًّا، كما يردِّد بعض الباحثين؟
هذا تفسير في غاية السطحية، بل في منتهى الزيف لمن تتبَّع أبعاد تلك الحروب، فمن خلالها كانت الكنيسة تريد القضاءَ على التحرُّر الفكري بوقف زحف المسلمين الذي من شأنه زَعْزَعَة العقائد النصرانية المصادمة لحقائق العلم والمجافية له، كما كانت تُحرِّض الملوك والإقطاعيِّين على حرب الإسلام؛ لتُضعف قوَّتهم وسيطرتهم؛ لتتعاظم قوَّتها هي، إضافةً إلى شغل الرأي العام عن خلافاتِها الداخلية المحتدمة.

إنَّ الحروب الصليبية كانت حروبًا ضد الأفكار التحرُّرية، ومن أجل تكريس الاستعباد الفكري للنَّصارى، كانت دفاعًا عن الجهل ضِدَّ العلم، الذي كانت أوروبا تخشاه وتبغضه؛ لأنَّها رأت مركزها المبني على الخرافة والاستبداد باسم الدين يتهاوى أمام الإشعاع العلمي المنبعث من بغداد وقرطبة والقاهرة وغيرها من الحواضر الإسلامية، والكنيسة كانت تعلم أنَّ جبروتها لن يصمد أمام المنهج العلمي، الذي يتبنَّاه المسلمون، والذي ما كان ليدع وزنًا لشعارات: "اعتقد ثم استدلَّ"، أو "أغمض عينيك واتَّبعني"... إلخ، وبدل أن تَحتضن النور الوضيء راحت تُحاول وقف زحفه؛ لتحافظ على امتيازاتِها المادية والأدبية في ظلِّ الظلام البهيم.

ولكنَّ المتتبع لحركة الأفكار وأحداث التاريخ يتأكَّد أن فترة الحروب الصليبية كانت إيذانًا بانحطاط الدين النصراني المحرَّف حيث أدَّى الاحتكاك بالمسلمين عقودًا عدَّة إلى استفاقة حقيقية في الصفِّ النصراني، فشجَّع العلماء والباحثين والمفكرين على الثَّورة على الكنيسة المتسلِّطة والانعتاق من قبضتها الحديدية، وهذا حَدَثٌ ضخم قلب كثيرًا من الموازين والحقائق والمسلَّمات والمناهج في أوروبا، وعرف بالمعركة بين العلم والكنيسة، وانتهى بعد تطوُّرات وسجال ومعارك طاحنة إلى انتصار العلم، عندما أثبت زَيْفَ الكتب المقدَّسة التي فرضتها الكنيسة على المجتمع، واعتبار تلك الحِقْبة زمن انطلاق الثورة على الكنيسة ليس رأيًا ذاتيًّا، فقد اعترف بذلك مؤرخون وعلماء كثيرون، وحسبنا شهادة مفكِّر وأديب نصراني مُبغض للإسلام هو "شاطوبريان".

إن النصارى الذين غَزَوْا بلادًا إسلامية، ومكثوا فيها زمنًا طويلاً - لمسوا مدى احتفاء المسلمين بالعلم، واحترامهم للعقل، ومدى تمسُّكهم بالمنهج التجريبي إلى جانب ما كانوا عليه من طيب الأخلاق، وحسن المعاملة، وعلموا أنَّ كل هذا يأمر به الإسلام، في حين تشجِّع الكنيسة الخرافة، وتؤجِّج الأحقادَ، وتعمل على تكاثُر الخطايا والخطَّائين؛ ليزدهر بيعُ صكوك الغفران، فانزاحت حجب التضليل عن أبصار المنصفين، ورجعوا إلى أوروبا غانمين للمنهج العلمي والتحرُّر الفكري، ولعله من المهم التذكير بكلِّ اعتزاز وجُرأة أنَّ حركة تحرير المرأة الأوروبية انطلقت بعد شرارة الحروب الصليبية في اتِّجاه تحسين مركز وظروف كائنٍ كان يُعَدُّ سببَ البلايا ورَمْزَ الشرِّ في نظر النصرانية المحرَّفة، فالمرأة الغربية مَدينة للإسلام في رفع مستواها وتكريمها، خلافًا للأفكار المعلَّبة السائدة، حتَّى عند بني جِلْدتنا من المفتونين بالغرب على غير بصيرة.

هكذا إذًا انهزم الأوروبيُّون عسكريًّا، ولكنَّهم غنموا آلياتِ الحياة الفكرية، وأحسنوا العمل، فبلغوا ما بلغه المسلمون من قبل في عِمارة الأرض، وزادوا عليه، كيف لا، وقد أخذوا من فلسفة الإسلام أهمَّ مسألتين أحدثتا انقلابًا معرفيًّا واجتماعيًّا في أوروبا، هما:
♦ القضاء على فكرة الحكم الإلهي التي كان يستند إليها ملوكُهم، الذين لم يكن للشعوب دخلٌ في تعيينهم أو محاسبتهم، وتبعًا لذلك - أو قبله - القضاء على سطوة الكنيسة وتحكُّمها في السياسة والمال والأفكار.
♦ التحرُّر من فكرة الخوف من الطبيعة التي درجوا عليها بناءً على تعاليم الكهنوت، وذلك أفسح لهم مجالَ معرفةِ الكون وأسراره، والسنن التي تحكمه، ومِنْ ثَمَّ استخراج خيراته على اختلافها.

بهذه الغنائم دخل الغرب التاريخَ حين أحسن استعمالها، فقد تحرَّر من الملك العَضوض من جهة، وخاض غمار استكشاف الكون من جهة ثانية، فانعتق من الاستبداد السياسي والكهنوتي ومدَّ يد البحث العلمي إلى أعماق البحار، وسطح الأرض، وجو الفضاء، وتمكَّن الإنسان من الإبداع في جميع المجالات، وهو لا يخشى أن يحرق حيًّا بتهمة الهرطقة، كما حدث لغير واحد من عباقرة أوروبا في ظل الجبروت الكنسي.

هذه حقائق يَصْدَع بها مؤرِّخون غربيُّون منصفون، لكنَّ النخبة العلمانية العربية تَهْرِفُ بما لا تعرف! وباسم العلم والحَدَاثة والتقدُّم! ولو أنصفت لاختصرت الطريق، وبدلَ أن تأخذ من التلميذ تَعْمِد مُباشرة إلى الأستاذ، لكن هذه مشكلتها: إنَّها لا تعترف بأيِّ فضل للإسلام؛ لأنَّه الطود الشامخ، والعَقَبَة الكَأْدَاء أمام حركة التَّغريب والانسلاخ من مقوِّمات الأصالة، وقد أجَّجت حيويةُ الإسلام أحقادَ الياسوعيِّين الجُدُد، فأعمَتْهم عن إبصار أيٍّ من مَحاسنه، ولو اعترف بها غير المسلمين أنفسهم، وما زلنا نذكر أنَّ شخصيةً بارزة تُمثِّل العرب في أكبر عاصمة أوروبية كان موقفها من قضية الحجاب المشهورة، التي اشتعل أُوَارُها في منتصف الثمانينيَّات من القرن العشرين بفرنسا - أخزى من موقف الفرنسيِّين أنفسهم؛ إذ وصف ذلك المسؤول الحجاب بأبشعِ الأوصاف، واتَّهم من يَرتدينه بالتخلُّف والظلامية والطائفية، وهي مصطلحات تعلَّمها من قاموس النظام العلماني الاستبدادي الجاثم على بلده الأصلي.

غيرَ أنَّ الإسلاميين يتحمَّلون جزءًا كبيرًا من مسؤولية انطماس معالم العقليَّة الإسلامية؛ إذ كان ينبغي المبادرة إلى تكثيف العمل؛ من أجل تجليتها نظريًّا وعمليًّا؛ لإقامة الحُجَّة على خصوم الإسلام، وبيان أنَّ الحرية والروح العلمية والذهنية المبدعة إنَّما هي بضاعتنا أساسًا، ولا يَكفي التغنِّي بالأمجاد، بل يَجب المنازلة في ميدان البَذْل والعطاء العلمي؛ لإسعاد البشرية بَدءًا بالأمة الإسلامية المقهورة، وتلك خير إجابة نُعطيها للغرب المتنكِّر، وللنخبة العاقَّة التي "تأكل غلَّتنا وتسبُّ مِلَّتنا" كما يقول المثل.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رد مع اقتباس
  #86  
قديم 08-26-2014, 09:48 AM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود غير متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 56,039
ورقة أهم خرافات العلمانية

أهم خرافات العلمانية
ــــــــــــ

(د. عامر الهوشان)
ـــــــــ

30 / 10 / 1435 هـ
26 / 8 / 2014 م
ـــــــــــ



رغم التقدم العلمي والتقني الكبير الذي وصل إليه العالم المعاصر, من خلال ثورات متلاحقة في الاتصالات و المعلومات, ومن خلال غزو الفضاء واختراق المجهول وتسارع وتيرة المخترعات والمبتكرات, إلا أن تصوره عن الكون والإنسان والحياة ما زال قاصرا عن الحقيقة, كما أن كثيرا من الخرافات والأساطير ما تزال تهيمن على كثير من معتقداته وأفكاره, وخاصة فيما يتعلق بالأمور الدينية العقائدية, وإن كان يدعي عكس ذلك في كل مناسبة.

وإذا كان الغرب لا يفتأ يتهم الأديان السماوية زورا وبهتانا -وعلى رأسها الدين الإسلامي الحنيف الذي يعتبر الدين الوحيد الذي لم يطاله شيء من التحريف أو التزييف– باحتوائها على الخرافات, وينسب لها –افتراء- الأساطير والأوهام, فإن العلمانية التي جاء بها الغرب -كبديل حضاري عن الأديان كما يزعم- مليئة بالخرافات التي لا تقل سوءا عن خرافات أهل الجاهلية الأولى, إلا أنها بصورة منمقة تناسب العصر والزمان الحالي.

نعم .. قد يكون هناك بعض الفرق التي تدعي الانتساب إلى الإسلام -وهي منه ومن تعاليمه ومبادئه وثوابته براء– تعتقد وتوقن ببعض الخرافات التي لا أساس لها من الصحة, كتلك التي تعتقد بأن الأموات ينفعون أو يضرون, أو أن أحدا من البشر يطلع على الغيب أو غير ذلك, إلا أن ذلك يعتبر استثاء لا يمكن أن يعمم على جميع المسلمين, ناهيك عن كون هذه المعتقدات الخرافية مخالفة لتعاليم الإسلام الذي حاربها -وما زال- دون هوادة من أجل القضاء عليها.

وإذا كانت الخرافة أنواع وأشكال, فهناك خرافة اجتماعية ثقافية كاعتقاد بعض الناس أن الخرزة الزرقاء تدفع الشر أو أن الغراب ي*** الخراب, أو شخصية كمن تحل به مصيبة في يوم معين فيربط الشؤم بهذا اليوم طوال حياته, فإن ما يهمنا في هذا المقال هي الخرافة الفكرية العقائدية في العلمانية المعاصرة.

تعريف الخرافة

وقبل البدء بأهم خرافات العلمانية لا بد من تعريف الخرافة لغة واصطلاحا, أما في لغة العرب فالخرافة هي الحديث المستملح من الكذب كما قال ابن منظور في كتابه لسان العرب, كما نقل عن ابن الكلبي قوله: خرافة: اسم لرجل من بني عذرة أو جهينة, غاب عن قبيلته زمنا ثم عاد فزعم أن الجن استهوته واختطفته, وأنه رأى أعاجيب جعل يقصها عليهم فأكثر فكذبوه حتى قالوا في الحديث المكذوب (حديث خرافة) وقالوا فيه (أكذب من خرافة).

وفي الاصطلاح هي معتقد لا يعتمد على أساس من الواقع ولا من الدين، مثل الأقوال أو الأفعال أو الأعداد أو الأبراج التي يُظن أنها ت*** السعد أو النحس, أو هي فكرة غير منطقية نشأت لتفسير ظاهرة ما، لم يتمكن الفرد من إيجاد تفسير واضح لها, وتتميز بالرسوخ في أذهان الكثيرين من الناس.

أهم خرافات العلمانية

1- فصل الدين عن الحياة: رغم كونها من أهم أسس العلمانية الغربية, ورغم أنها أضحت من أكثر النظم السياسية انتشارا وتطبيقا في دول العالم –من خلال شعار العلمانية الأبرز "فصل الدين عن السياسة"- إلا أن هذه الفكرة تعتبر بمقياس العلم والواقع خرافة لا وجود لها إلا في أذهان من ابتدعها واخترعها.

أما من ناحية خرافتها علميا, فإن الإنسان يميل إلى اعتناق دين -بغض النظر عن كونه حقا أم باطلا– بطبيعته, كما أن الإنسان متدين بفطرته, وهو كما يقول علماء الاجتماع و"الانثروبولوجيا" حيوان ديني, لا غنى له عن الدين ولا يمكن أن يحيا بدونه, فالتدين فطرة إلهية مركوزة في نفسه ووجدانه, ناهيك عن أن الدراسات الاجتماعية وحقائق التاريخ تؤكد أن التدين أيضا حاجة اجتماعية, وبالتالي فهي تهيمن على حياته وتتحكم في سلوكه وممارساته.

يقول برغستون: "لقد وجدت جماعات إنسانية من غير علوم ولا فنون ولا فلسفات, ولكن لم توجد قط جماعات بدون ديانة" وحين انحرفت الفطرة الإنسانية عن وجهتها الصحيحة, عبدت بعض الجماعات البشرية آلهة من دون الله, فجعل الإغريق لكل ظاهرة كونية إلها, فهناك آلهة الجمال والشمس والريح والظلمة والنور, وكذلك فعل الرومان والمصريون القدماء والهنود, ولم يحيا الإنسان عبر تاريخ وجوده الطويل بلا دين أبدا, ولا شك أن تلك الأديان قد أثرت على سلوكيات الإنسان سلبا أو إيجابا, فأين هي حقيقة مقولة: "فصل الدين عن الحياة"؟؟

وأما خرافتها واقعيا فلأنها في الحقيقة ينطبق على من ابتدعها المثل القائل "كالمستجير من الرمضاء بالنار", فإذا كانت الدول الغربية قد اخترعت العلمانية هربا من الكهنوت الكنسي الذي تسلط على رقابهم سنوات طوال, فإن هذه العلمانية أضحت اليوم كهنوتا جديدا ودينا حديثا, والفرق الوحيد بين ماكانوا عليه وما آلوا إليه, هو جعل المادية والنفعية دينا كبديل عن الأساطير الكنسية التي كانت تحكمهم, فهي في الحقيقة استبدال خرافة بخرافة وأسطورة بأسطورة أخرى.

والسؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح: أي دين ذاك الذي فصله الغرب عن حياتهم, وهم بأنفسهم من ابتدع دينا جديدا ليتحكم ليس في حياتهم فحسب, بل في حياة الملايين من البشر في هذا العالم, من خلال حملتهم المسعورة لفرض العلمانية على جميع الدول والشعوب, وخاصة على الدول والشعوب الإسلامية.

إن تحريف اليهود والنصارى لدينهم ولكتاب ربهم هو السبب الرئيس لنشأة الأفكار المنحرفة والعقائد الباطلة في هذا العالم, وإذا كانت العلمانية نتيجة طبيعية لغلو الكنيسة وخروجها عن حقيقة دين عيسى عليه السلام, حيث تحول التوحيد فيها إلى شرك بالله واضح, وأضحت العقائد الدينية بسببها خرافات وأساطير, فإنه سيأتي على العلمانية وقت يثور الناس عليها كما ثاروا على الكنيسة من قبل, لكونها كررت الخطأ ذاته, وإن لم يكن الخطأ بالغلو كما فعلت الكنيسة, وإنما بالتفريط وجعل الهوى والمادة والمنفعة دينا وإلها كما تفعل العلمانية الحديثة.

2- خرافة نفي الحقائق غير المادية: فالمادة والطبيعة والعقل والتجريب والحس والمشاهدة هي أساس كل شيء في هذا الكون عند أتباع العلمانية, وكل ما هو وراء المحسوس والعقل فهو خيال ووهم, والإيمان بالغيب في نظرهم جزء من الخرافات والأساطير التي لا بد من التخلي عنها.

فالدين عند العلمانية صنع بشري محض وإفراز تاريخي اقتضاه التطور البشري, بدأ بأساطير أملاها الخوف من القوى المجهولة, ثم تطور إلى تعدد الآلهة ليصل إلى توحيد الآلهة على يد الأديان التوحيدية, فالأديان مجرد وهم من أوهام الجماهير كما يرى "فرويد", والإنسان هو الإله الحقيقي الوحيد عند "فويرباخ", وأما "نيتشه" فهو الأكثر خرافية حين قال: "إن الله قد مات أو هو في طريقه إلى الموت -والعياذ بالله- فنحن لا نقصد أن العقائد الدينية قد تلاشت من ضمير الشعوب، وإنما نعني أن النظرة العلمية التي وصل إليها الإنسان عن طبيعة الكون والمجتمع والإنسان خالية من ذكر الله تماما".

وإذا تحدثنا عن الجنة والنار والملائكة والجن وغير ذلك من الأمور الغيبية, فجميعها عند العلمانية خرافات وأساطير لا يعترف بها, فالحقيقة عندهم وقف وحكر على ما هو خاضع للمادة والتجربة والحس.

وعلى الرغم من أن نفي الحقائق غير الخاضعة للمادة والحس والعقل هي الخرافة الأكبر والأخطر على البشرية, لكونها ببساطة تنفي الكثير من الحقائق الموجودة في حياة الإنسان عمليا وواقعيا, فالروح موجودة بلا ريب ومع ذلك لا يعرف العلمانيون عنها أي شيء, وهي غير خاضعة للحس والعقل والتجريب, وسر الحياة الكائن في هذه الروح والتي تنعم بسببها المخلوقات بالاستمرار والبقاء موجود أيضا, وعلى رغم من ذلك فإن العقل العلماني لم يفسر لنا شيئا من أسرار هذه الحياة التي نعيشها, ناهيك عن كثير من الظواهر الكونية التي لم يجد الفكر العلماني لها أي تفسير أو توضيح حتى اليوم, فأين هو العقل والحس ليخضع تلك الظواهر إلى مختبره وتجربته.

ولعل أعظم دليل على خرافة نفي الحقائق غير المادية عند العلمانية هو وجود الله تعالى, فجميع ما في الكون يدل على وجود الصانع سبحانه, وكل البدهيات العقلية –التي يتملق أتباع العلمانية بالخضوع له– تدل بما لا يدع مجالا للشك على وجود الله تعالى, ومن المعلوم أن الله جل جلاله لا يمكن أن يخضع للحس والمادة والعقل, لأنه ببساطة هو خالق العقل والمادة والحس سبحانه وتعالى, مما يعني أن نفي الحقائق غير المادية عند العلمانية خرافة وأي خرافة؟!!

لقد عاند كبار رموز العلمانية والإلحاد حقيقة وجود الله تعالى على مر عقود من الزمان خلت, إلا أن تطور العلم الحديث كان يثبت يوما بعد يوم عقم الأفكار العلمانية وصحة الحقائق الإسلامية, فتساقط العلمانيون واحدا تلو الآخر, وتخلوا عن خرافة نفي الحقائق غير المادية في هذا الكون, واعترفوا بوجود الإله سبحانه, وكان آخرهم (سير أنتوني فلو) أستاذ الفلسفة البريطاني الشهير, من خلال كتابه الذي صدر عام 2007م بعنوان: (هناك إله).

3- خرافة أن العلمانية هي الحل: رغم كونها من أكبر خرافات العصر الحديث, إلا أن الغرب استطاع أن يروج لهذا الشعار في معظم دول العالم وشعوبها, كبديل عن حقيقة أن الإسلام هو الحل, مستغلا قوته المادية والآلة الإعلامية الجبارة التي تقلب الحق باطلا والباطل حقا, والتي تسوق الخرافات والأساطير على أنها حقائق علمية وعقلية.

وبعيدا عن الخوض في الأسباب التي أدت لتبني الغرب للعلمانية, والتي من أهمها تسلط الكنيسة التي حاربت العلم والعلماء وانحرفت بالدين النصراني عن حقيقته وجوهره الأصيل كما نزل على عيسى عليه السلام, فإن هروب الغرب من الكهنوت الكنسي إلى الكهنوت المادي الإلحادي كان هروبا من الغلو إلى التفريط ومن الخرافة الدينية الكنسية إلى الخرافة المادية كما سبق.

وإذا كانت البيئة في الدول الغربية قد مهدت لظهور العلمانية وتقبلها هناك, نظرا للتحريف الكبير الذي تعرضت له النصرانية على يد اليهود, فإن بيئة الدول الإسلامية تختلف اختلافا جذريا عن الغرب, فالإسلام محفوظ بحفظ الله ولم يتعرض لأي تبديل أو تشويه أوتحريف, وهو لا يتعارض مع العلم ولم يضطهد العلماء كما فعلت الكنيسة, بل على العكس من ذلك فالعلماء هم أعلى الناس منزلة عند الله تعالى بنص القرآن الكريم: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} المجادلة/11, كما أن العلماء همأكثر الناس خشية لله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} فاطر/28, ناهيك عن الآيات والأحاديث التي تحض على طلب العلم وفرضيته في الإسلام, وابتداء الوحي على الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بكلمة "اقرأ", فكيف بعد كل هذا تكون العلمانية هي الحل؟؟

ثم إن الواقع المعاصر يؤكد أن شعار "العلمانية هي الحل" خرافة بكل المقاييس, فبينما ادعت العلمانية أنها إن طبقت واعتقد الناس بها فإنها ستقضي على التعصب الديني المنتشر في العالم, فإنها وبعد إيمان كثير من النخبة في الدول العربية والإسلامية بها, بالإضافة لمحاولة إقناع جميع الناس بقدرة العلمانية على حل هذه المعضلة فيما بينهم, وذلك من خلال تركيز وسائل الإعلام على نجاعتها في الحل, ناهيك عن عقود من التطبيق الكامل لها في معظم دول العالم, فإننا لا نرى التعصب الديني قد تناقص فضلا عن أن يزول وينتهي, بل على العكس من ذلك تماما , فقد ازداد التعصب الديني كما وكيفا في ظل العلمانية, بل وبتحريض ورعاية منها, والأحداث الدامية التي نشهدها في العالم اليوم –وخصوصا العالم العربي والإسلامي- أكبر دليل على هذه الزيادة الملحوظة.

لقد قضت العلمانية على الحياة الروحية تماما, وحولت الإنسان من كائن حي ينبض ب********ة والمحبة والإلتجاء لخالقه ومولاه, إلى كائن مادي أرضي لا صلة له بالسماء, فانتشرت بسببها الأمراض النفسية, وامتلأت عيادات الأطباء النفسانيين, وكثرت حالات الانتحار للخلاص من الحياة المادية الروتينية, فكيف تكون العلمانية هي الحل؟؟

كما أن العلمانية كانت سببا بتفكك الروابط الأسرية والاجتماعية, وكانت العامل الأبرز في إطلاق شهوات الإنسان الغريزية خارج نطاقها وضوابطها الدينية والأخلاقية, فانتشرت الرذيلة وعم الفساد الخلقي, حتى ظهرت الأمراض والأوجاع التي حيرت العلماء وأنهكت البشرية ماديا ومعنويا, فكيف تكون هي الحل وهي في الحقيقة المشكلة والمعضلة؟؟

كثيرة هي الخرافات والأساطير العلمانية, ولا مجال لحصرها واستعراضها في هذا المقال, ويكفي ما ذكر ليستيقظ المخدوع بشعارات العلمانية البراقة من غفوته وسكرته, ويعلم أن العلمانية في الحقيقة وهم وخرافة, ويتيقن المسلم أن دينه هو الحقيقة الوحيدة المتبقية في هذا الكون, فيزداد إيمانا مع إيمانه ويقينا فوق يقينه.
--------------------------------
رد مع اقتباس
  #87  
قديم 09-03-2014, 07:59 AM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود غير متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 56,039
ورقة تعريف العلمانية ونشأتها

تعريف العلمانية ونشأتها
ــــــــــــ

(علي محمد مقبول الأهدل)
ـــــــــــــ

8 / 11 / 1435 هــ
3 / 9 / 2014 م
ـــــــــــ




تعريف العلمانية ونشأتها
------------

تعتبر العلمانية كلمة لها أكثر من مدلول، وهي ذات تاريخ طويل، وقد انتقلت مع الزمن من معنى إلى معنى آخر.

وقد حاول مترجموها عن اللغات الغربية إخفاء حقيقتها، حتى لا تصدم الحس العربي وتبقى في نطاق العلم، هو نطاق يرد عنها عادية الاتهام. ويبقى هدفها الحقيقي مختفياً وراء اللفظ المشتق من أقرب الأسماء إلى نفوس العرب والمسلمين[1].

والعلمانية مادة علمية متشعبة؛ وقد بحثت كثيراً وفيها رسائل علمية كثيرة.. ولذلك سوف أتكلم وباختصار شديد عن النقاط الآتية في العلمانية:
أولاً: تعريفه العلمانية.
ثانياً: نشأة العلمانية.
ثالثاً: هل للعلمانية مسوغ في العالم العربي والإسلامي؟
رابعاً: نماذج لبعض صور العلمانية.
خامساً: وسائل العلمانية في تحريف الدين.

أولاً: تعريف العلمانية:
---------------

لفظ العلمانية ترجمة خاطئة لكلمة (Secularism) في الإنجليزية أو (Secularite) بالفرنسية. وهي كلمة لا صلة لها بلفظ (العلم) على الإطلاق ولا حتى مشتقاته. والعلم في اللغة الإنجليزية والفرنسية معناه (Science) والمذهب العلمي نطلق عليه كلمة (Scientism) والترجمة الصحيحة لكلمة (Secularism) هي "اللادينية" أو "الدنيوية" وتتضح الترجمة الصحيحة من التعريف الذي تورده المعاجم ودوائر المعارف الأجنبية للكلمة، فدائر المعارف البريطانية تقول وفي مادة (Secularism) هي: "حركة اجتماعية تهدف إلى صرف الناس وتوجيههم من الاهتمام بالآخرة إلى الاهتمام بهذه الدنيا وحدها".

ويقول معجم إكسفورد "الرأي الذي يقول أنه لا ينبغي أن يكون الدين أساساً للأخلاق والتربية".

والتعبير الشائع في الكتب الإسلامية المعاصرة هو: "فصل الدين عن الدولة"، وهو في الحقيقة لا يعطي المدلول الكامل للعلمانية الذي ينطبق على الأفراد وعلى الذي قد لا يكون له صلة بالدولة، ولو قيل أنها "فصل الدين عن الحياة لكان أصوب" ولذلك فإن المدلول الصحيح للعلمانية هو: "إقامة الحياة على غير الدين سواء بالنسبة للأمة أم للفرد"[2].

ثانياً: نشأة العلمانية:
------------

أما عن النشأة فيمكن تلخيصها في الآتي:

1- الطغيان الكنسي:

فقد نشأت العلمانية في أوروبا إثر صراع مرير بين الكنيسة ورجال الدين فيها وبين الجماهير الأوروبية؛ لأن رجال الدين تحولوا إلى طواغيت ومحترفين سياسيين ومستبدين تحت ستار الدين، وقول الراهب جروم: "إن عيش القسوس ونعيمهم كان يزري بترف الأمراء والأغنياء المترفين. وقد أنحطت أخلاق البابوات انحطاطاً عظيماً، واستحوذ عليهم الجشع وحب المال؛ بل كانوا يبيعون المناصب والوظائف كالسلع، وقد تباع بالمزاد العلني، ويؤجرون أرض الجنة بالوثائق والصكوك، وتذاكر الغفران..." ودخلت الكنيسة -أيضاً- في نزاع طويل وحاد مع الأباطرة والملوك لا على الدين والأخلاق ولكن على السلطة والنفوذ..

2- تحريف النصرانية:

وكانت القاصمة التي بها تم ذلك انفصام النكر بين الدين والحياة وهو الجناية الكبرى التي جنتها الكنيسة الغربية على نفسها وعلى الدين النصراني.. هو احتجاز الكنيسة لنفسها حق فهم الكتاب المقدس وتفسيره، وحظرت على أي عقل من خارج الكهنوت أن يحاول فهمه أو تفسيرة.

وأوجدت الكنيسة بعض المعميات في العقيدة النصرانية لا سبيل لإدراكها أو تصورها أو تصديقها.. ومثال ذلك العشاء الرباني وهي مسألة مستحدثة ما جاء بها الكتاب المقدس، وقصتها:
إن النصارى يأكلون في الفصح خبزاً، ويشربون خمراً، ويسمون ذلك العشاء الرباني؛ وقد زعمت الكنيسة أن ذلك الخبز يستحيل إلى جسد المسيح وذلك الخمر يستحيل إلى دم المسيح المسفوك فمن أكلهما وقد استحالا هذه الاستحالة فقد أدخل المسيح في جسده بلحمه ودمه...

وقد فرضت الكنيسة على الناس قبول هذا الزعم ومنعتهم من مناقشته؛ وإلا عرضوا أنفسهم للطرد والحرمان.

3- الصراع بين الكنيسة والعلم:

والأدهى من ذلك وقوف الكنيسة ضد العلم وهيمنتها على الفكر، وتشكيلها لمحاكم التفتيش وقتل العلماء مثل: كوبر نيكوس الذي ألف كتاب حركات الأجرام السماوية وقد حرمة الكنيسة هذه الكتب، وجردانو الذي صنع التلسكوب فعذب عذاباً شديداً حتى توفي وغيرهم كثير..

وخلاصة القول: إن هذا الدين المحرف هو الذي ثارت عليه أوروبا؛ وهي ملابسات أوروبية تحته وليست إنسانية عالمية، ومتعلقة بنوع معين من الدين لا بحقيقة الدين..

هذه هي قصة العلمانية رد فعل خاطئ لدين محرف وأوضاع خاطئة كذلك، ونبات خرج من تربة خبيثة ونتاج سيئ لظروف غير طبيعية.. ولا شك أنه كان من المفترض على أوروبا التي ابتليت بهذا الدين المحرف أن تبحث عن الدين الصحيح ولا تكون مجتمعاً لا دينيناً..

ثالثاً: هل للعلمانية مسوغ في العالم العربي والإسلامي:

إذا وجدنا مجتمعاً آخر يختلف في ظروفه عن المجتمع الذي تحدثت عنه، ومع ذلك يصر على أن ينتهج اللادينية ويتصور أنها حتم وضرورة فماذا نحكم عليه؟! وكيف يكون ألحكم -أيضاً- إذا كان هذا المجتمع الآخر يملك الدين الصحيح...

فقط نثبت السؤال، ونترك - ولا نقول لكل مسلم - بل لكل عاقل الإجابة عليه[3].
-------------------------------------
[1] سقوط العلمانية، أنور الجندي، (ص:7).
[2] انظر: العلمانية، د. سفر الحوالي، (ص:21)، تهافت العلمانية، د. عماد الدين خليل، (ص:7)، ومذاهب فكرية معاصرة، محمد قطب، (ص:445).
[3] راجع للتوسع: العلمانية، د. سفر الحوالي، (ص:12) وما بعدها، مذاهب فكرية معاصرة، محمد قطب، (ص:445)، المستقبل لهذا الدين، سيد قطب، (ص:27) تهافت العلمانية، د. عماد الدين خليل، (ص:7)، لماذا نرفض العلمانية، محمد محمد بدري، (ص:72)، سقوط العلمانية، أنور الجندي، (ص:18).


---------------------------------
رد مع اقتباس
  #88  
قديم 09-11-2014, 07:50 AM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود غير متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 56,039
ورقة أن تُنْزَعَ رؤوس من رمال

أن تُنْزَعَ رؤوس من رمال
ــــــــــــــ

(د. محمد علي يوسف)
ـــــــــــ

16 / 11 / 1435 هــ
11 / 9 / 2014 م
ــــــــــــ




لم تكن الثورة الفرنسية في بداياتها تعرف ذلك الشعار المشهور عنها اليوم، الذي ينسب لميرابو خطيب تلك الثورة، إذ يقول:
«اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس».
تلك الثورة لم تكن في الأصل ثورة على الكنيسة كمؤسسة أو على المسيحية كدين، لكنها كانت ثورة على ممارسات سلطوية متشابكة بين الكنيسة والإقطاع والسلطة الملكية الحاكمة؛ ممارسات أدت إلى تردٍّ اقتصادي واجتماعي شديد، فكان المطلب الرئيس لها الذي يدركه الفلاح الفقير الذي كان وقود تلك الثورة، هو الخبز والخبز أولاً، كما أشار إلى ذلك سير. هـربرت جورج ويلز في كتابه “معالم تاريخ الإنسانية”.
لذلك؛ احتاج تلاميذ فولتير وروسو وموليير إلى أن يقوموا بمرحلة وسيطة تتيح لهم غرس تلك الأفكار المتمردة والمعقّدة في عقول أولئك البسطاء، من خلال حملات توجيه بسيطة وسهلة الفهم، لكنها تغرس في العقل الجمعي الفرنسي صورة مشوهة لرجال الدين.
قاد خطباء الثورة والممثلون في مسارحهم المتنقلة، تلك الحملة لسنوات أحصاها بعض المؤرخين بعشر سنوات، وقال بعضهم الآخر أضعاف تلك المدة؛ أظهروا فيها رجال الدين بأسوأ وأحط صورة يمكن تخيلها، وحرصوا على أن يبدو الممثلون الذين يقومون بأدوارهم بصورة مقززة منفرة، بل فاحشة، حتى ذكرت بعض الروايات التاريخية أنه مرت على رجال الدين في فرنسا فترات لم يتمكّنوا فيها من ارتداء زيهم المميز والخروج به؛ خشية السخرية والامتهان والاستهزاء، التي كانت ثماراً طبيعية لتلك الجهود الموجهة والمساعي الحثيثة.
بذلك، زالت أولاً قداسة (ما أنزل الله بها من سلطان)، ثم زال الاحترام والقبول ثانياً، ثم زالت المرجعية بالكلية بعد ذلك.
من هنا، صارت الثورة الفرنسية ثورة علمانية شرسة عازلة للدين نفسه وليس فقط لرجاله أو لفكرة الكهنوتية وصكوك الغفران وغيرها من المسائل التي أحسن علمانيو فرنسا استغلالها وصنعوا من خلالها وعبر ذلك المنحنى الفكري المتصاعد هزة عقدية زلزالية كانت بمنزلة شرارة سرت بعدها العلمانية في ربوع أوروبا والعالم سريان النار في الهشيم.
ومما لا شك فيه أن الأحداث المفصلية الكبرى تتبعها اهتزازات شاملة في البنى الفكرية والأيديولوجية والقيمية الخاصة بهذه الشعوب التي مرت بتلك الظروف الاستثنائية.
هذا الأمر متكرر في جل الأمم التي حدثت فيها مثل تلك المنحنيات الحادة في مسارها السياسي والاجتماعي.
وسواء كانت تلك المنحنيات في شكل ثورات شعبية أو حروب شاملة أو أهلية أو احتلال أو تحرر من احتلال؛ فإن المآل الفكري يتشابه ويشترك في معامل أساس، ألا وهو التغيير؛ التغيير الحاد والجذري والشامل.
الشعوب في تلك الظروف الاستثنائية تميل بشكل واضح للتغيير في كل شيء تقريباً، وهذا التغيير أحياناً يكون بشكل جمعي موجه أو بشكل عشوائي أو تختلط فيه العشوائية بالتوجيه.
والحقيقة أن المقلّب لصفحات التاريخ يجد قاعدة مهمة ماثلة أمام عينيه، مفادها أن ليس ثمة أمة يمكن أن يقال عنها إنها بمعزل عن التغير والتحول والتبدل.
فكم من الأمم تغيّرت عقائدها وأفكارها مراراً وليس مرة واحدة، خصوصاً بعد الأحداث الجسام كالثورات والحروب؟
وهل عرفت روسيا الشيوعية قبل ما يسمى الثورة البلشفية؟
وهل كانت فرنسا ليبرالية أو عرفت علمانية شرسة تعلن شنق آخر ملك بأمعاء آخر قسيس قبل الثورة الفرنسية؟
وهل تشبه تركيا أتاتورك وما بعده تركيا الخلافة العثمانية، أو تبدو إيران الشاه قريبة أيديولوجياً أو ظاهرياً من إيران الخميني وولاية الفقيه؟!
وهل كانت مصر قبل الحقبة الفاطمية وحكم العبيديين مثل مصر بعدهم؟!
بل هل مصر الخمسينيات والستينيات تشبه مصر في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين من حيث التمسك بالدين وشعائره وسمته وثوابته؟!
إن نظرة سريعة على أدبيات النصف الثاني من القرن الميلادي العشرين ومنتجاته الفكرية والثقافية والفنية؛ تظهر لنا بجلاء تغيّراً جذرياً في البنية الدينية للأمة المصرية في ذلك الوقت.
ولست بصدد التناول التفصيلي والتحليل التفكيكي لتلك المرحلة ومظاهر الانتكاس الديني فيها، على الأقل ظاهراً؛ فإنها معروفة ومسجلة، لكنها قد لا تظهر إلا عند المقارنة بالحقبة المحافظة التي سبقتها في أوائل ذلك القرن أو الذي سبقه.
وإن المتأمل في الواقع الإسلامي اليوم يلحظ بسهولة ويسر أن هزة شبيهة وربما أعمق وأخطر تتعرّض لها الحالة الدينية المعاصرة، على الأقل ظاهراً، وأن الاتصال بين الظاهر والباطن أمر لا يجحده بصير؛ ففي الجسد مضغة بصلاحها يصلح وبفسادها يفسد، والكتاب قد يظهر شيء من حاله عبر عنوانه.
إن من ينكرون اليوم أن هناك مشكلة حقيقية في التزام الناس بتعاليم الدين وتكاليفه وإقبالهم على شعائره وقبولهم دعوته؛ هم في رأيي يمارسون نوعاً من دس الرؤوس في الرمال، ويتجاهلون ظواهر إعلامية وثقافية وحياتية يومية تصرخ فيهم أن انزعوا رؤوسكم من رمالها وانتبهوا.. فثمة مشكلة.
ولولا أنني لست من محبّي الخوض في التفاصيل المحزنة والمشاهد الموجعة، على الأقل من باب “لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظُلم”؛ لذكرت عشرات الشواهد التي تعضّد ما ذهبت إليه من أن هناك مشكلة حقيقية تصل أحياناً إلى أسوار العقيدة نفسها، لكنني أنأى بالقارئ الكريم عن أن تتلوث عيناه ويتأذى قلبه بها، أو أن تهون المعصية في نظر بعض الخلق بسبب كثرة شيوعها، و”إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة”.
لذلك؛ أعنى في تلك السطور برصد العوامل التي أدت وتؤدي إلى تلك الهزة الدينية والانتكاسة الالتزامية المعاصرة، وتلك هي أولى خطوات الحل، “ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبداً ولكن الله يزكي من يشاء”.
والعوامل التي تتضافر لزلزلة معتقدات الناس وثوابتهم وخلخلة تماسكهم العقدي وتمسّكهم العملي؛ كثيرة، من ضمنها بلا شك: تجفيف منابع التلقي الديني، خصوصاً من خلال الدعوة العامة والوعظ المطلق الذي رغم رتابته وعدم تجديد آلياته يتم تقييده وحصره، وأيضاً: ارتباط الأعمال الدعوية في أذهان المتلقين بالصراعات المعاصرة وافتراضهم المسبق أنها ليست دعوة خالصة لكنها لأجل غايات سياسية أو حزبية، كل ذلك جنباً إلى جنب مع إسراف في مصادر التلقي المضاد وإطلاق يد الآخرين في المقابل ليعبثوا بأدواتهم من شهوات جاذبة أو شبهات لامعة تلقى بكل حرية.
لكنني هنا أريد أن أقف وقفة مع العامل الأكثر تأثيراً في نظري، الذي يتم هدمه وإحلال غيره محله بإصرار؛ إنه عامل القدوة.. تلك التي تنهار في النفوس تدريجياً.
ولست أعني بالانهيار هنا انهيار الاستحقاق، فإن القدوات ومن يستحقون أن ينظر إليهم الناس بعين التقدير موجودون دائماً بفضل الله، ولا يزال الخير في الأمة حتى تقوم الساعة؛ لكنني أعني هنا انهيار تلك القدوات في نظر الناس، وذلك إما بتشويه متعمد مكذوب، أو للأسف بأخطاء حقيقية وقع ويقع فيها بعض الناس بسفه غير مسبوق وعدم تحمّل مسؤولية المكانة وقيمة الاقتداء بهم، ما أثر في كل من يحمل السمت نفسه بالتبعية.
كثير ممن هم في مقام القدوة يهوّنون على أنفسهم خطورة هذا العامل بترديد تلك القاعدة العظيمة المنسوبة لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: “لا يعرف الحق بالرجال”.. وهي كقاعدة لا غبار عليها، لكن كم من الناس يدركها ويطبقها؟! وكم من الخلق يتعامل على أساسها ولا يفتن بضدها؟!
الحقيقة الواقعية والمشاهدة أن أكثر الناس يتأثرون وربما يفتنون بأفعال المتدينين وأخلاقهم، وينظرون دوماً إلى صنيعهم، ولقد راعى النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأمر واعتبره فقال: “إن منكم لمنفرين”.
ولو كانت القاعدة مطردة تسري على كل الخلائق، فلماذا أقرَّ النبي صلى الله عليه وسلم بأن هناك من ينفر عن الدين بسبب أهل الدين من المنفرين؟
نعم، هي ليست حجة مبررة لأفعال وتفريط النافر، لكنها حجة على المُنَفِّر والمستهين بتلك القيمة، قيمة أنه قدوة.
والمتغافل عن كون مقام الرجل الصالح في نفس الإنسان البسيط - حتى لو كان هذا الإنسان عاصياً - مقاماً كبيراً ومهماً ينبغي أن يصان وأنه إن سقط في نفس الإنسان كانت النتيجة لا تحمد عقباها؛ هو أحد من يصرّون على مزيد من دس الرؤوس في الرمال.
لقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: “أُوصيكَ أن تَستَحي مَنَ اللهِ تعالى كما تَستَحي مِن الرَّجلِ الصَّالِحِ مِن قومِكَ”.
تأمل حرصه على رعاية تلك القيمة في نفوس الناس وإقرار أن هناك حياءً من الرجل الصالح، ثم تخيل لو انهار ذلك الصالح وسقط في أعينهم.
إذا كان هذا الرجل الصالح المتديّن فيه كذا وكذا من سيئ النعوت وقبيح الخصال، فماذا أفعل أنا وأنا الضعيف المسكين الذي لم يدَّعِ يوماً أنه متدين أو شيخ؟!
هؤلاء ثلة من المنافقين يظهرون الصلاح بينما قلوبهم تمتلئ بالفساد والباطل، أما أنا فصاحب قلب نظيف، إذاً فأنا أفضل أو على الأقل مثلهم.
كذلك لسان حال كثير ممن يستمرئون الخطأ تبعاً لأخطاء المتديّنين أو انهيار صورتهم، وإن العامل النفسي أمر لا يجب تجاهله أو إغفاله.
المفرط غير القادر على إصلاح حاله أو الإقلاع عن معصيته، البديل لديه أحياناً أن يكون الناس كلهم مثله، بل حبذا لو كانوا أسوأ؛ لذلك يريد الذين يتّبعون الشهوات أن يميل الصالحون ميلاً عظيماً لكي تكتمل الحجة وتهون المعصية بحجة.
هؤلاء المتدينون في نظره أفاقون، ومنافقون، وتجار دين، وطلاب دنيا ومنصب وجاه، بينما هو بحاله ومعاصيه لم يفعل شيئاً من هذا، فهو في نظر نفسه قد ارتاح، ولم تعد هناك حاجة إذاً للتغيير والتوبة، وهذا هو محل الخطر، وذاك ما يسعى إليه البعض بكل قوة، وتساعدهم فرص ذهبية يعطيهم إياها بعض المتديّنين بعدم تحمّلهم تلك المسؤولية وعدم الانتباه لتلك القيمة، قيمة القدوة، وأن صلاح الصالحين حجة في الأرض على الفاسدين، ويقولها رب العالمين حين يصرخ أصحاب الجحيم: {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ} [المؤمنون: 106]، فيجيبهم ويقيم عليهم الحجة بفعل الصالحين: {إنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ صلى الله عليه وسلم901صلى الله عليه وسلم) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ 110 إنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} [المؤمنون: 109-111].
حين يغفل أهل الصلاح عن ذلك ويتهاونون في قضية الحرص على عدم فتنة الناس بزلاتهم؛ تعظم تلك الزلات ويسلط عليها الضوء للغاية، ومن ثم تنهار القدوة، ويخبو في القلب ذلك المثل الذي كان يشكل جذوة من ضياء يتمنى جزء خفي من نفس العاصي وفطرته أن يعم القلب والبدن.
وبانهيار تلك القدوة وخبو تلك الجذوة من ضياء التأسي والاستحياء من صالحي القوم؛ تتحول الهزة المجتمعية أو السياسية إلى هزة دينية وتردٍّ التزامي وأخلاقي، وتزل قدم بعد ثبوتها، ويذوق المجتمع بمتديّنيه وغير متديّنيه السوء بما صدوا عن سبيل الله.
من هنا تتضاعف مسؤولية القدوات وأهل الديانة وأصحاب السمت، ويصير من الضروري أن يتم الالتفات إلى خطورة دعوة الحال بالتوازي مع دعوة اللسان والمقال، وقبل ذلك كله أن يتم الانتباه للحال والمآل.. وأن تُنزع رؤوس من رمال.
--------------------------------------------------
رد مع اقتباس
  #89  
قديم 09-23-2014, 08:20 AM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود غير متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 56,039
ورقة دور الصوفية في انتشار العلمانية في العالم الإسلامي

دور الصوفية في انتشار العلمانية في العالم الإسلامي
ـــــــــــــــــــــــــ

(يحيي البوليني)
ــــــــــ

28 / 11 / 1435 هــ
23 / 9 / 2014 م
ــــــــــــ



لم تكن العلمانية كحركة فكرية لتظهر في العالم الإسلامي في عصور ازدهاره حيث كان الإسلام يحكم جميع نواحي الحياة، وكان المسلمون يحملون مشاعل الهداية وينشرون العلم لكل أرجاء الأرض, فكانت الحالة العلمية والعملية للمسلمين لا تسمح إطلاقا بنمو بذور تلك الفكرة الخبيثة والتي ظهرت أول ما ظهرت في القارة الأوروبية كرد فعل على التسلط الكهنوتي فيما يسمى بعصور الظلام العلمية والفكرية.

إذا كانت العلمانية التي تعني فصل الدين عن كل مناحي الحياة, فان أهم أسباب ظهورها مواجهة سلطان قساوسة الكنيسة في أوروبا بعد تغولهم وتدخلهم في كل شئ، ووقوفهم حجر عثرة أمام العلم وأهله، لتخرج العلمانية لتحبس الدين داخل مبنى الكنيسة فقط، تحت الشعار المنسوب للنصرانية "دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله".

وحينما نقلت إلى ديار الإسلام واجهت هذه الفكرة معارضة شديدة على مستوى الفكر الإسلامي؛ لغربتها كل الغرابة عن الواقع الإسلامي، فاحتاجت إلى أعوان يساندونها من المسلمين، ولم يجدوا أفضل من يساندها من الطرف الإسلامي من الذين يطبقونها فعليا – بوجه آخر - تحت مسمى الطرق الصوفية.

ومن الطبيعي أن العامل المباشر لظهور الفكرة في العالم الإسلامي هو المرحلة التاريخية للاحتلال الغربي لديار الإسلام تحت اسم "الاستعمار"، إلا أنه وجد أرضا ممهدة له بوجود انحرافات ضخمة في الفكر الإسلامي السائد الذي تزعمه الصوفية حينئذ، مع وجود انحرافات أخرى كثيرة على مستوى العقيدة والعبادة واختلال في البناء الذاتي للمسلم من حيث الأفكار والتصورات والسلوك, فلما قدم المستعمرون وجدوا الطرق ممهدة تماما لنشر فكرتهم العلمانية، واستطاعوا استقطاب الكثيرين إليهم لتبدأ مرحلة انتشار وتمدد للفكرة العلمانية التي يعاني منها المجتمع الإسلامي لليوم.

فالطرق والفرق الصوفية تنزع الإسلام من كل جوانب الحياة لتحصره هو أيضا في الزوايا والتكايا والخلوات وتجعل منه دينا كهنوتيا يمارس فقط للزاد الروحي بعيدا تماما عن أي تطبيق له على الواقع, فالتقت الأفكار والمصالح لتدعم الصوفية – بعمد أو بجهل وغباء – الفكرة العلمانية في بلاد العالم الإسلامي, ولتحصل الفرق الصوفية على ثناء العلمانيين والليبراليين بوصفهم أصحاب الفهم الإسلامي المستنير، ولنجد الثناء المتبادل بينهما على حساب الإسلام والمسلمين.

وعلى الرغم من كون الصوفية قد تشابهوا كثيرا مع رجال الكنيسة في العصور التي سمتها أوروبا بعصور الظلام إلا أن العلمانيين لم يصطدموا معهم, فالشيخ الصوفي يبسط نفوذه القوي على أتباعه باسم الدين، فاخترع الصوفية مقالة تضمن ولاء الأتباع لهم وهي "من لم يكن له شيخ، فشيخه الشيطان"، واخترعوا كذلك الاعتراف للشيخ الذي يجب وان يعلم كل سر وجهر في حياة المريد حتى خطرات نفسه، ويجب على المريد أن يعلم شيخه بخطاياه حتى يتحملها عنه، وهو ما يماثل صكوك الغفران عند النصارى, وبهذا وجد العلمانيون في زعماء الطرق الصوفية والمنتسبين لهم ضالتهم في النفاذ للأمة الإسلامية، لأنهم يحققون لهم عدة ميزات تخدم فكرتهم وتساهم في انتشارها, ومنها:

- نشر الجهل والخرافات والبدع في العالم الإسلامي.
-------------------------------

نظرا للتقسيم الذي ابتدعته الصوفية للدين وجعله ما بين شريعة للعوام وحقيقة للخواص، ادعى الصوفية أن العلوم الشرعية الإسلامية لا يكلف بها إلا العوام فقط, ويقصدون بهم كل المسلمين من غير السائرين في طريق الصوفية من عارفين ومريدين, فازداد جهل الناس في دينهم, فيذكر شيخ الإسلام ابن تيمية قول بعض من غلاتهم في الصد عن العلم وإعمال العقول, فينقل عنهم: "من أراد التحقيق فليترك العقل والشرع"[1]، ولهذا يعقب فيقول "كلما كان الشيخ أحمق وأجهل، كان بالله أعرف، وعندهم أعظم"[2].

ويرصد الشيخ أبو الحسن الندوي رحمه الله أثر الصوفية في هدم وتمزيق الأمة الإسلامية بنشرهم للخرافات والبدع فيقول: "وأما الدين فقد غشيته غاشية سوداء، فألبست الوحدانية التي علمها صاحب الرسالة الناس سجفاً من الخرافات وقشور الصوفية، وخلت المساجد من أرباب الصلوات، وكثر عديد الأدعياء الجهلاء، وطوائف الفقراء والمساكين يخرجون من مكان إلى مكان يحملون في أعناقهم التمائم والتعاويذ والسبحات ويوهمون الناس بالباطل والشبهات، ويرغبونهم في الحج إلى قبور الأولياء، ويزينون للناس التماس الشفاعة من دفناء القبور، وغابت عن الناس فضائل القرآن، فصار يشرب الخمر والأفيون (والحشيشية)، في كل مكان، وانتشرت الرذائل وهتكت ستر الحرمات من غير خشية ولا استحياء" [3]

- ترك ميادين العلم الشرعي والدنيوي.
-------------------------

حارب الكثير من الصوفية العلم الشرعي وقطعوا الناس عن المعين الأساسي للعلم الشرعي وهو القران الكريم، فحرفوا تفسيره بعدة تأويلات باطنية إشارية ليس لها من القرآن نصيب، ليتم عزل الناس عن قراءة القرآن وتدبره، بادعائهم أن له ظاهرا عاما للعوام وباطنا خاصا لسادة الصوفية لا يعلمه غيرهم؛ ليكون الاتصال بالقرآن الكريم نفسه منقطعا إلا عن طريقهم.

ومن بعض تفسيراتهم الباطنية الإشارية كما يزعمون في وقله تعالى "فاخلع نعليك" يفسرها الشيخ عبد الغني النابلسي "أي صورتك الظاهرة والباطنة يعني جسمك وروحك فلا تنظر إليها لأنها نعلاك" [4], وقالوا عن آية "وإن يأتوكم أسارى" أي غرقى في الذنوب, "والجار ذي القربى" أي القلب، "والجار الجنب" أي النفس, ورغم أن سهلا ابن عبد الله التستري قال: "احفظوا السواد على البياض (يعني العلم) فما أحد ترك الظاهر إلا تزندق" [5]؛ إلا أنه هو نفسه فسر "ولا تقربا هذه الشجرة" بقوله: (لم يرد معنى الأكل في الحقيقة وإنما أراد أن لا تهتم بشيء غيري), فقال الشاطبي تعليقا على قوله: "وهذا الذي ادعاه في الآية خلاف ما ذكره الناس" [6].

ومن محاربتهم لتلاوة القرآن وتعلم علم الحديث ما ذكره الغزالي "أنه رغب مرة في قراءة القرآن فمنعه شيخه الصوفي من ذلك قائلاً " السبيل أن تقطع علائقك من الدنيا بالكلية" [7], ونقل عن الداراني قوله "إذا طلب الرجل الحديث أو تزوج أو سافر في طلب المعاش فقد ركن إلي الدنيا لأن الزهد عندنا ترك كل شئ يشغلك عن الله عز وجل" [8], فجعلت الصوفية تلاوة القرآن وطلب علم الحديث من مشاغل الدنيا ومن الركون إليها, ويعلق ابن الجوزي علي ذلك قائلاً: "عزيز أن يصدر هذا الكلام من فقيه، فإنه لا يخفي قبحه فإنه طر لبساط الشريعة التي حثت علي تلاوة القرآن وطلب العلم" [9] .

فإذا كان هذا الاحتكار لفهم وتفسير القرآن الكريم وتجهيل وصد الناس قد فعلوه بكتاب الله سبحانه فكيف بما فعلوه فيما سواه من كتب العلم من السنة الشريفة وكتب الفقه وغيرها من العلوم الإسلامية؟

وبالجملة فإن الصوفية يعتبرون أن ترك علم الحقيقة والاتجاه إلى علم الشريعة انحطاط في همة المريد -كما يلقبون كل من يلحق بهم- وجعلوه عائقا لمن يناله عن بلوغه طريقهم, فيذكر القشيري أن الدقي سئل عن سوء أدب الفقراء مع الله فقال: "انحطاطهم من الحقيقة إلى العلم" [10], وذكر الغزالي في الإحياء عن الجنيد أنه قال: "أحب للمريد ألا يشغل قلبه بثلاث و إلا تغيرت حاله: التكسب، طلب الحديث، التزوج" [11], وروى أيضا عن أبي سليمان الداراني قوله: إذا طلب الرجل الحديث، أو تزوج، أو سافر في طلب المعاش فقد ركن إلى الدنيا" [12], واثنى ابن عجيبة في فتوحاته الإلهية على قولهما وذكر أنه متفق على قبوله عند الصوفية" [13].

وفي الوقت الذي أهمل فيه القرآن الكريم والسنة الشريفة المطهرة وكتب العلم الشرعي الصحيح ألزم الناس بقراءة أوراد ليس لها أدنى سند شرعي، إلا أهواء الشيوخ والأولياء وكان بعضها بلغة غير عربية أو غير مفهومة إمعانا في تضليل الناس.

- تضييع العبادات والتلاعب بالدين.
----------------------

كما ضيع الصوفية العلم الشرعي ساهموا في تضييع العبادات عند الناس, فصار الدين لعبة يتلاعب بها شيوخهم, فيمكن أن يكون الإنسان وليا صالحا – عند الصوفية – وهو تارك للصلاة لا يصلي جمعا ولا جماعات, ويمكن أن يكون مرتكبا للمنكرات كلها شاربا للخمر زانيا ومرتكبا لكافة أنواع الفواحش ولا يقدح ذلك في ولايته, فيذكر الشعراني في طبقات الصوفية مواصفات وأفعال لمن يدعي أنهم أولياء لا يظهر منها أي اثر للإسلام فضلا عن الولاية فيحكي عن "الشيخ محمد العدل الذي يظل سنة كاملة لا يحضر فيها جمعة ولا جماعة، والشيخ الشربيني الذي لم يكن يحضر الصلوات أبدا, ولما طلب منه جماعة من الفقهاء أن يذهب معهم لصلاة الجمعة اعتذر وقال: (ما لي عادة بذلك), فلما أنكروا عليه قال: "نذهب اليوم لأجلكم", والشيخ شريف المجذوب الذي كان يفطر في نهار رمضان"[14], وغيرهم الكثير جدا من حكايات زندقة وكفر من يدعي أنهم أولياء لله.

بل صار عندهم البله والمجانين والمجاذيب أولياء أيضا لله سبحانه رغم أنهم كفاقدين للعقل ليس عليهم أي تكليف لا يصح منه إيمان ولا عبادة فكيف باعتبارهم أولياء؟, وامتلأت كتب الطبقات والتراجم لديهم بذكر هؤلاء المجانين بهلول المجنون وأبي علي المعتوه وابن القصاب المجنون والشبلي الذي دخل المارستان مرتين وعمر المجذوب وإبراهيم العريان وغيرهم ما لا يستعصي على الحصر"[15].

وضيع الصوفية أيضا العلم الدنيوي الذي يقيم الحضارات ويرفع شأن الأمم, فبعد أن كان المسلمون يعلمون الأمم العلم صور لهم الصوفية أن للكون من يديره وينظمه ويقوم على شأنه وهم أقطاب وأوتاد الصوفيين, فما عليهم إن أرادوا أن ينتصروا على عدوهم سوى اللجوء للولي الحي أو لقبر ولي مدفون.

فعند الرفاعية الصوفية قراءة الفاتحة300 مرة تكفيهم شر عدوهم، أما إهلاكه وقتله فلا يتطلب منهم سوى قراءتها 1000مرة "[16], وعندهم حزب يسمى بحزب السيف القاطع الذي يدعون أن من يداوم عليه لا يخذل ولا يهان ويكون بعين الله وظل رسوله, وهو خلط وتلاعب بترتيب آيات الله تعالى كما يفعل *****ة. ومثاله: "وتقطعت بهم الأسباب جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب وجعلنا له نورا يمشي به في الناس، فلما رأينه أكبرنه قالوا تالله لقد آثرك الله علينا إن الله اصطفاه عليكم شاكرا لأنعمه". وبين كل مجموعة من الآيات يكتبون: "أعداؤنا لن يصلوا إلينا بالنفس ولا بالواسطة، لا قدرة لهم على إيصال السوء إلينا بحال من الأحوال"[17].

وصدق السذج من المسلمين ذلك فاستمعوا لشاعر صوفي يناديهم في فتنة التتار وهجومهم الكاسح على الأمة الإسلامية ويقول:

"يا خائفين من التتر

عوذوا بقبر أبي عمر

ينجيكموا من الضرر" [18]

فلاذوا بقبر أبي عمر فما أغنى عنهم شيئا وقتل كل من في بغداد من المسلمين, وذكر الشعراني في الطبقات أن الصوفية لما هجم الصليبيون على ثغر دمياط في الوقعة المشهورة كان الصوفية يعكفون على قراءة رسالة القشيري!!.

- الكسل والقعود وترك العمل والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

كان لانتشار عقيدتي الإرجاء والجبر من خلال الصوفية تأثير كبير في ظهور روح السلبية والاستسلام التام في صفوف المسلمين إذ تشابك هذا الانحراف الإرجائي مع مفهومي العبادة والقضاء والقدر عند الصوفية، فتحول مفهوم الزهد الإيجابي الذي حث عليه الإسلام وكان عليه الزهاد الأوائل إلى سلوك سلبي انسحابي يأخذ صورة التفرغ للعبادة في مكان منعزل (مسجد أو زاوية أو خلوة أو ربما كهف في جبل)، في حين اتهم من يتجه إلى معالجة شؤون الدنيا بالدين على انه مقصر ومفرط في عبادته.

وبالتالي تركت فرضيتا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وترك أيضا الجهاد في سبيل الله ضد القوى الاستعمارية الأجنبية التي احتلت بلاد المسلمين، بل كان لهم دور خبيث في إعانة الاستعمار ومساعدته في الاستيلاء على بلاد المسلمين, فصوفية مصر ادخلوا نابليون بونابرت حلقة من حلقات الذكر وألبسوه جبة المشيخة ورحبوا به على أنه قدر الله، وذُكر أنه حمل المسبحة وسمى نفسه الدرويش عبد الله نابليون, وتيجانية المغرب كانوا في خدمة الفرنسيين وساهموا مساهمة فاعلة في ترسيخ أقدامهم في شمال أفريقيا وغربها, وختمية السودان مهدوا الطريق لدخول الإنجليز وثبطوا الناس عن مقاومة المحتل وساهموا في القضاء على الثورة المهدية.

وكما أفقدت الصوفية الأمة روح الجهاد، فقتلت فيهم روح الحياة الكريمة ومقاومة المستبد وتقويم الحاكم بصورتها الشرعية, فدفعت الناس إلى الهروب إلى الزوايا والتكايا والخلوات منكرة عليهم أي تدخل في إصلاح بأمر بمعروف غائب أو نهي عن منكر قائم.

كما ترك السعي على المعايش – على سبيل التدين بذلك - بعد أن أشيعت هذه الروح الكسولة في الأمة حتى قال احدهم: "فلو ترك الشخص العمل وهو قادر عليه غير معتمد على السؤال من شخص معين أو على الشحاذة، بل كان غير متعرض لذلك، واثقاً بربه أنه يسوق إليه رزقه فلا إثم عليه" [19] , وبذلك جعلوا النوم والخمول في الزوايا وترك العمل من التوكل، وصدق وصف أبي بكر الطرطوشي التصوف حين وصفه بأنه مذهب البطالة.

وبإشاعة هذه الروح في الأمة الإسلامية فقدت الأمة قوتها، ولم تستطع التخلص من أوهام الصوفية لقرون طويلة؛ نظرا للإرهاب الفكري الذي يضغطون به على الناس، إذ يمنعون متبعيهم من السؤال تحت قول "من قال لشيخ لِمَ لم يفلح" ويهددون العلماء بتسويق الخرافات للعامة في القصص الخيالية التي يخترعونها، مثل الحكاية التي ساقها النبهاني في جامع كرامات الأولياء فقال: "قال المناوي: قال لي فقيه عصره شيخنا الرملي: إن بعض المنكرين رأى أن القيامة قد قامت، ونُصِبَتْ أوانٍ في غاية الكِبَر، وأُغْلِيَ فيها ماء يتطاير منه الشرر، وجيء بجماعةٍ ضَبَائِرَ ضَبَائِرَ، فصُلِقوا فيه حتى تَهَرَّى اللحم والعظم، فقال: ما هؤلاء؟ قال: "الذين ينكرون على ابن عربي وابن الفارض" [20], وتعج كتب الصوفية بمثل هذه الخرافات التي يتهددون بها كل من يقترب من عروش سلاطينهم.

ويلخص أبو الحسن الندوي حال المسلمين التي أوصلهم إليها الصوفية في القرون الأخيرة حيث أصبحت لهم القيادة والريادة العلمية في العالم الإسلامي فيقول: "لا بد أن نشير إلى أن ذلك الوسط والعهد (القرنين العاشر والحادي عشر الهجريين), كان التصوف فيهما قد تغلغل في أحشاء المجتمع الإسلامي، وامتزج بلحمه ودمه، حتى أصبح التصوف له طبيعةً وذوقاً، وسمةً وشعاراً , بل كانت العامة لا تعبأ بعالم أو مرب أو مصلح، ولا تقيم له وزناً، ولا تعتقد فيه الخير والصلاح، ولا تنتفع بمواعظه وكتاباته، ما لم يكن له إلمام بالتصوف والسلوك، ويكون قد صحب بعض المشايخ المعروفين، وانخرط في سلك بعض الطرق السائدة المقبولة في الناس" [21].

فهل كان العلمانيون يحلمون بفرصة أفضل من هذه لنشر فكرتهم الخبيثة في ديار المسلمين؟ تلك الفرصة التي منحها لهم الصوفية عن عمد أو جهل.

ولهذا لوحظ انكباب المستشرقين ومن ورائهم علمانيي العرب على التنقيب عن تراث هؤلاء المنحرفين الزائغين أصحاب فكرة الحلول والاتحاد ووحدة الوجود من الصوفية الأوائل, فيقول د.ناصر الحنيني: "المتأمل في تاريخ هؤلاء الليبراليين يلحظ بجلاء أن انكبابهم على تراث المنحرفين الزائغين من أمثال الصوفية الزنادقة والفلاسفة الملاحدة ـ مع ضعف العلم والبصيرة ـ كان هو نقطة التحول الرهيبة في حياتهم الفكرية مثلما كان هو الشرارة النارية الأولى في تغير نسيجهم الثقافي، حيث يفعل ذلك التراث فعله الفظيع في النفس الإنسانية إذ يغرز فيها حب التفلت والتحرر من أي قيود أو ضوابط شرعية كما أنه يعمق فيها منهج الشك في كل شيء حتى في قطعيات الدين وثوابته الراسخة " [22].

ويلاحظ قطعا أن الحكومات قد تختلف والأنظمة السياسية قد تتصارع ويعقب بعضها بعضا وأن الدول قد تتحارب ولكنهم لا ينحرفون عن فكرة دعم الصوفية في بلدانهم, فهم مسلمون نموذجيون بالنسبة لهم, فلا يهتم الصوفية بشرق أو بغرب, ولا بعدو أو صديق ولا بسياسة ولا بحكم, وكل همهم منصب فقط في ممارسة طقوسهم وبدعهم وخرافاتهم وإقامة موائدهم وموالدهم وقراءة أورادهم ومدائحهم واحتفالات رقصهم وجمع أموال صناديق نذورهم.

وغير خاف ما ذكره الجبرتي عن اهتمام نابليون بونابرت باقامة حفل الصوفية بالمولد النبوي الشريف فقال "سأل صاري العسكر عن المولد النبوي ولماذا لم يعملوه كعادتهم فاعتذر الشيخ البكري بتوقف الأحوال وتعطل الأمور وعدم المصروف فلم يقبل وقال (لابد من ذلك ) واعطى الشيخ البكري ثلاثمائة ريال فرانسة يستعين بها فعلقوا حبالا وقناديل واجتمع الفرنسيس يوم المولد ولعبوا ودقوا طبولهم واحرقوا حراقة في الليل وسواريخ تصعد في الهواء ونفوطا".

وعلق الجبرتي على سبب اهتمام نابليون بالمولد فقال – وهو المؤرخ المعاصر له –: " ورخص الفرنساوية ذلك للناس لما رأوا فيه من الخروج عن الشرائع واجتماع النساء واتباع الشهوات والتلاهي وفعل المحرمات"[23].

وتبعه في ذلك كل قائد محتل للبلاد, فداوم على ذلك المندوب السامي البريطاني، فكما يقول الدكتور عمر فروخ: (يجب ألا نستغرب إذا رأينا المستعمرين يغدقون الجاه والمال على الصوفية, فرب مفوض سام لم يكن يرضى أن يستقبل ذوي القيمة الحقيقة من وجوه البلاد، ثم تراه يسعى إلى زيارة حلقه من حلقات الذكر ويقضي هنالك زيارة سياسية تستغرق الساعات، أليس التصوف الذي على هذا الشكل يقتل عنصر المقاومة في الأمم؟) [24]

ومنذ أن قام نابليون بذلك ومن بعده كل مندوب سام بريطاني – وهم من وضعوا بذور العلمانية في مصر والمشرق الإسلامي ومن رعوها حتى أفرخت - من يومها ولا يتخلف قادة الأنظمة في الدول العلمانية حضور احتفالات وطقوس الفرق الصوفية ويباركونها ويشجعونها بالمال وبالإعلام والحماية والأمن.

ساهم الصوفية في تحويل الإسلام إلى النموذج الذي يرضى عنه الغرب فحولوه إلى طقوس وثنية وأهازيج الشعرية وطبول ومزامير وتمايل ورقص, فرضي الغرب عنهم ورضي العلمانيون بهم وصاروا جميعا يدا واحدة على كل من ينكر على الصوفية تضييعهم للدين وتمزيقهم لدولة الإسلام من النواحي السياسية والاقتصادية والفكرية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] مجموع الفتاوى 11/243 باب مناقضة ابن عربي للرسل

[2] مجموع الفتاوى 2/174.

[3] الإمام الدهلوي، (ص:34).

[4] بدوي : شطحات الصوفية /195..

[5] تلبيس إبليس / 325.

[6] القاسمي : محاسن التأويل 1/73.

[7] ميزان العمل للغزالي : 31

[8] الإحياء 1/61 و 2/24 و 2/237 و 4/229 .

[9] تلبيس ابليس 323

[10] الرسالة القشيرية 126.

[11] الإحياء 4: 239.

[12] إحياء علوم الدين 1: 61، 4: 24، 2: 237، 4: 229.

[13] الفتوحات الإلهية 271

[14] طبقات الشعراني 2: 126 و136 و144و150.

[15] كتاب المختار من كلام الأخيار لمحمد علوي 8: 197 وطبقات الشعراني.

[16] الكليّات الأحمدية/89

[17] قلادة الجواهر ص 271

[18] ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه (اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم)

[19] بغية الطالب للحبشي 264 , وهو عبد الله الهرري الحبشي, يدعو إلى تصوف يقسّم مصادر المسلمين إلى حقيقة وشريعة وظاهر وباطن ويدّعي أخذ العلوم عن الله بما يسمونه "العلم اللدني" والاجتماع بالخضر وبأرواح المشايخ وأخذ البيعة والعهد عنهم وهم في قبورهم وغير ذلك من عقائد الصوفية الباطلة

[20] "جامع كرامات الأولياء" للنبهاني (2/ 218) ط. دار صادر - بيروت.

[21] الإمام السرهندي حياته وأعماله، (ص:124).

[22] التطرف المسكوت عنه أصول الفكر العصراني لناصر الحنيني - ص 20

[23] تاريخ عجائب الآثار(2/306):

[24] "الألوهية في العقايد الشعبية"ص(36-37).

---------------------------------------
رد مع اقتباس
  #90  
قديم 09-29-2014, 07:58 AM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود غير متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 56,039
ورقة هل وصل النموذج العلماني الفرنسي إلى الانسداد

هل وصل النموذج العلماني الفرنسي إلى الانسداد*
ــــــــــــــــــــــــــ

5 / 12 / 1435 هــ
29 / 9 / 2014 م
ـــــــــــ



برز في الآونة الأخيرة حدثان بارزان في الساحة الفرنسية، يعكسان تحولا كبيرا في النقاش المجتمعي الفرنسي، ويعكسان توترا في النظرة إلى قضايا القيم والأسرة، ويضعان النموذج العلماني الفرنسي في المحك.

الحدث الأول: موقف وزير الداخلية الفرنسي من المظاهرات المطالبة بتغيير قانون الإجهاض وتضييقه على غرار ما وقع في إسبانيا.
فقد صرح وزير الداخلية الفرنسي مانويل فالس في لقاء للفريق الاشتراكي في جمعه الوطني حول وجود خطر ديني يتهدد فرنسا، وضرورة إعلان حرب من أجل تحصين العلمانية في فرنسا، وهو التصريح الذي يثير تساؤلات عميقة.
ينبغي الإشارة أولا، أن هذا الموقف جاء عقب معارضة شديدة لمكونات مجتمعية فرنسية لقوانين تخص المرأة والأسرة، وتحديدا، ما يعرف بقانون "توبيرا" الذي يرخص بزواج الشواذ، والقانون الجديد حول الإجهاض، والذي أثار ردود فعل غاضبة، وصلت حد تنظيم مظاهرة في قلب باريس ضمت 16 ألف متظاهر حسب تقديرات وزارة الداخلية، و40 ألف متظاهر حسب تقديرات المتظاهرين.
بمعنى أن الباعث لهذا التصريح لا علاقة له بشكل من أشكال التطرف الديني المعروفة، مما قد يكون له صلة بنشر الكراهية أو العنصرية، أو العنف أو التحريض أو التمييز، وإنما يتعلق الأمر بوجهة نظر لها مستند من الدين، كما لها أيضا مستند وتأويل من داخل المرجعية الحقوقية، فمناهضة الإجهاض اليوم، في كثير من بلدان العالم، وبشكل خاص الدول العلمانية، لا تتم فقط بخلفية دينية، بل أيضا بخلفية حقوقية، تستند إلى الحق في الحياة، ويتم التعامل معها، كما في الولايات المتحدة الأمريكية بقدر كبير من المرونة، بل مثل هذه القضايا المجتمعية الخلافية، يتم فيها الحسم مجتمعيا، ولا تنتصب العلمانية فيها كسلطة حاسمة ضد توجهات الرأي العام أو جزء عريض منه.
والحقيقة، أن إشهار ورقة العلمانية كمقدس من أجل مصادرة توجهات للرأي العام، تنبئ عن وجود مأزق ما، لا ينبغي تغطيته بإعلان النفير، والزعم بوجود خطر يتهدد العلمانية، وإنما ينبغي طرح أسئلة أخرى مقارنة، تبحث السبب الذي جعل المشكلة تثار في فرنسا بهذه الحدة، ولا تثار في مجتمعات أوربية علمانية بهذا الشكل، ولماذا استطاعت علمانيات أخرى أن تستوعب هذا الخلاف المجتمعي وتجتهد في إيجاد آليات لتصريفه، بينما لم تجد العلمانية في فرنسا إلا سلاح إعلان الحرب.
صحيح أن المشكلة قامت أول ما قامت في إسبانيا، ولم يستطع اشتراكيو إسبانيا أن يتقبلوا القانون الجديد المضيق لحالات الإجهاض، واعتبروا ذلك تراجعا نحو الوراء، لكن في نهاية المطاف، احتكم الناس إلى الآليات الديمقراطية، ومر القانون، وللاشتراكيين الإسبان جولات أخرى، يمكن لهم في الولايات القادمة أن تيسر لهم النجاح في الانتخابات أن يعيدوا النظر في القانون، ويرجعوا مقتضيات قانون 2010 إلى سابق عهدها.
المفارقة في فرنسا، أن الأمر لم يقتصر فقط على إعلان الحرب على التيار المحافظ ، بل وصل إلى درجة الضغط على إسبانيا من أجل سحب القانون، لأنه في اعتقادهم هو الذي أعطى موطئ قدم للمحافظين لكي يعيدوا تنظيم صفوفهم، وينزلوا بتلك القوة إلى الشارع !
السؤال المقارن، والذي يستقرئ التجارب العلمانية على طول أوربا والولايات المتحدة الأمريكية، يخلص إلى أن المأزق يوجد في النموذج العلماني الفرنسي، الموغل في تضييق مساحة حضور الدين في المجال العام، وعدم وجود أي مرونة تأويلية تجنبه حالات الصدام الخطيرة التي ستنشأ تباعا بسبب عدم القدرة على التحكم في سيرورة وتطور المجتمع، إذ كان يمكن، بدل التفكير في العوامل التي تغذي الفكر المحافظ في المجتمع الفرنسي، أن يتم التفكير في بدائل أخرى تجنب فرنسا الوقوع في فخ تنميط المجتمع العلماني، ومحاربة خاصية الاستيعاب العلماني.
في لقاء سابق لوزير شؤون العبادة، ووزير الداخلية الفرنسي، مانويل فالس مع الجاليات المسلمة، صرح بأنه لا تعارض مع الإسلام والعلمانية، وأن العلمانية تحمي وتوفر الإطار للعيش المشترك، لكنه اليوم، لا يفعل بإعلانه الحرب على التيار المحافظ، أكثر من البرهنة على أن العلمانية الفرنسية- على الأقل بالتأويل الذي عبر عنه الإشتراكيون- لم تعد قادرة على استيعاب حتى المسيحيين الفرنسيين، فبالأحرى غيرهم من ديانات أخرى.
المشكلة، واضحة، وهي أن العلمانية الفرنسية، تواجه اليوم، وكما واجهت بالأمس، مأزق تضييقها لمجال حضور الدين في الفضاء العام، وقد مر لها في السابق قانون حظر الحجاب مع كل الحرج الذي وضعت فيه الجمهورية الفرنسية بسبب احتجاجها بمنطق الهوية الفرنسية عوض منطق الحقوق والحريات المؤسسة لمبادئ الجمهورية، لكن، اليوم، يبدو أن القضية تجاوزت الحرب على ما يسمى الرموز الدينية، ووصل إلى قناعات وتوجهات جزء عريض من المجتمع الفرنسي تخص بالتحديد قضية المرأة والأسرة وشكل العائلة التي يريدها الفرنسيون.
التقدير أن الحل البسيط، الذي عبر عنه وزير الداخلية الفرنسي، يدل في جوهره على وجود أزمة في النموذج العلماني الفرنسي، وأنه لم يفعل أكثر من التغطية على ذلك، بافتعال وجود خصم يهدد هذا النموذج، ويستوجب إعلان حرب مقدسة ضده باسم مبادئ الجمهورية وحماية لها، في حين أن الحل كان ينبغي أن يتوجه إلى البحث عن خيارات أخرى لإغناء النموذج العلماني الفرنسي، ومده بأسباب المرونة، وابتكار صيغ لاستيعاب حضور الدين في الفضاء العام من غير الاضطرار إلى خلق شرخ مجتمعي مكونات الشعب الفرنسي.

الحدث الثاني: وهو موجة الغضب التي اجتاحت شرائح واسعة من الشعب الفرنسي ضدا على برنامج تجريب لتدريس مقاربة النوع الاجتماعي في المدارس الفرنسية، والذي تسبب في خروج مظاهرات صاخبة تطالب بحماية الأسرة الطبيعية وحق الأبناء في أن يعيشوا تحت سقف أسرة يظللهم فيها ويدفئهم حنان الأم..
إذ احتدم مرة أخرى النقاش القيمي في فرنسا، وأخذ أبعادا لم تكن متوقعة بهذا الحجم في شوارع فرنسا، إذ تظاهر آلاف الفرنسيين في العاصمة باريس ومدينة ليون ضد حزمة قوانين خاصة بالأسرة أقرتها حكومة الاشتراكيين. فبعد الاحتجاج على قانون زواج المثليين وقانون التبني وقانون الإجهاض، كبرت كرة الثلج، لما أقدمت الحكومة على تدريس نظرية النوع الاجتماعي للأطفال في المؤسسات التعليمية.
اللافت للانتباه، وخلافا لما تبادر للذهن لأول مرة من أن اليمين هو من كان وراء المظاهرة، اجتمعت أطياف مختلفة من المجتمع الفرنسي في مظاهرات حاشدة قدرها منظموها بحوالي 500 ألف متظاهر في باريس و 40 ألف بليون، للاحتجاج على تدريس هذه النظرية للأطفال.
لا يهمنا في هذا المقال طبيعة السجال والاتهامات بين المتظاهرين والحكومة، إنما الذي يهمنا بدرجة أولى هو تواتر المؤشرات التي تشهد على وجود توتر في النسيج المجتمعي الفرنسي سببه بالأساس محاولة السلطة فرض منظومة فكرية ليست محل توافق بين مكونات المجتمع الفرنسي، إلى الدرجة التي بدأ فيها الحديث عن تغيير الطبيعة الأسرية في فرنسا، بحيث صار هناك خوف كبير من المدرسة بسبب الاعتقاد بأنها ستلقن التلاميذ قيما أخرى مخالفة لفطرتهم، تجعلهم لا يميزون بين الذكر والأثنى، ووظائف كل واحد على حدة، بل تجعل الآباء يسلمون الأبناء لمدرسة يعتقدون أنها تجهز على طبيعة الأسرة. وهذا ما جعلهم في حالة "فوبيا" خطيرة دفعتهم للخروج في مظاهرة حاشدة فاقت كل التوقعات.
والحقيقة أن الذي يتأمل مسار الاحتجاج وحجمه ووتيرته وتكيف رد الفعل الحكومي معه، يتبين له أن الحكومة لاسيما في المظاهرة الأخيرة، أخطأت التقدير حين اعتبرت أن معركتها هي مع أقلية يمثلها اليمين الكاثوليكي، وتأكد لها أن الأمر أكبر من مجرد طيف سياسي محدود الحجم في المشهد السياسي، وأن الإصرار على المضي في هذه الطريق يمكن أن يخلق زلزالا عميقا في فرنسا، وهو الأمر الذي جعل الحكومة تسارع إلى نفي وجود أي برنامج تجريبي لتدريس مقاربة النوع الاجتماعي في المدارس.
هذه الملاحظة تقود إلى ملاحظة أخرى، تتعلق بما هو أشمل، أي بالنموذج العلماني الفرنسي، الذي يوجد اليوم على محك واختبار حقيقي، لا ندري إلى أي حد سيستطيع أن يمر منه، وما الصيغة التي سينتجها للخروج من هذا المأزق؟ وهل سيكون الحل سياسيا؟ أي سحب هذه المشاريع وتجميدها بحجة عدم تهيؤ المجتمع الفرنسي لقبولها؟ أم سيتم فتح نقاش فلسفي عميق حول ضيق الاستيعاب في النموذج العلماني الفرنسي وآفاق الاستدراك الممكنة لأعطابه؟
في النموذج العلماني الأمريكي، هناك نقاش محتدم بين مكونات المجتمع، وهناك تمايزات واضحة بين الولايات المختلفة حول زواج المثليين والإجهاض وغيرها، لكن هذا النموذج يفتح المجال لدور فاعل للدين في الفضاء العام، ولا يستبعد التيارات المحافظة من صياغة المشهد العام إن استطاعت أن تعبئه، ولذلك، تلعب الآلية الديمقراطية (التصويت) و (التداول) وظيفة امتصاص التوتر المجتمعي، وما يكون مصادقا عليه في هذه الولاية قد يراجع في الولاية القادمة. أما في فرنسا، فيضيق مجال تدخل الدين في الفضاء العام، ويفاجأ هذا النموذج بمعارضة قوية من التيار المحافظ حينما تعتزم الحكومة الاستقواء بشرعيتها الانتخابية والسلطة للحسم في هذه القضايا المجتمعية الحساسة، مما يعني في المحصلة، أن هذا النموذج لم ينجح في تغييب دور الدين في الفضاء العام، وأنه سيضطر كل حين إلى البحث عن صيغ لتدبير التوتر المجتمعي ما لم يتم إعادة التفكير في توسيع خاصية الاستيعاب في النموذج العلماني.
أما الملاحظة الثالثة، فتتعلق بطبيعة الموضوع الذي يثير التوتر، أي موضوع الأسرة، فهذا الموضوع يؤكد بأن النموذج العلماني عجز لحد الآن أن يقدم تصورا بديلا للتصور الذي يقدمه الدين للأسرة، وأن التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي راهنت العلمنة عليها لخلق قاعدة واسعة من المقتنعين بنموذجها القيمي، لم تساعدها في ذلك، بل أججت التوتر وأعطته أبعادا أكثر راديكالية، وهو ما صار يفرض مراجعة العديد من المسلمات الحتمية التي قامت على أساسها الحداثة، وفي مقدمتها الاعتقاد بأن التحولات الاقتصادية والاجتماعية ستؤول إلى تفكيك القيم التقليدية.

نموذج آخر من الولايات المتحدة الأمريكية:
--------------------------

حراك آخر حول مناهضة الإجهاض انطلق، لكن هذه المرة في الولايات المتحدة الأمريكية. فبعد إسبانيا التي أقرت قانونا جديدا يضيق مجال الإجهاض إلى أضيق حد، وبعد المظاهرة الكبيرة التي تحركت في شوارع باريس تطالب بالاحتذاء بالنموذج الإسباني وحماية الأسرة الفرنسية، أقدم التيار الجمهوري المحافظ في أمريكا على تقديم مقترح قانون لمجلس النواب يقضي بعدم تعويض شركات التأمين لعمليات الإجهاض، والذي تم تبنيه الثلاثاء الماضي من قبل مجلس النواب بتصويت 227 مقابل 188 صوتا من المعارضين الديمقراطيين.
ومع أن هذا القانون سيتم عرضه على الغرفة الأخرى للكونغرس، ويمكن أن يجد معارضة قوية من قبل الديمقراطيين، إلا أن مجرد طرح مشروع قانون بهذه الصيغة، يعطي صورة للجدل المجتمعي حول قضية الإجهاض في المجتمع الأمريكي، وحجم الإبداع والاجتهاد في تحويل هذه الأفكار إلى قوانين وسياسات عمومية بين مكونات المجتمع الأمريكي، فبعد أن نجح الجمهوريون في يوينو الماضي في تمرير قرار في جلس النواب بمنع الإجهاض في 20 أسبوع من الحمل، جاء هذا القانون الجديد ليجعل منع استعمال المال العام في عملية الإجهاض، كليا ودائما، وبل وممتدا حتى إلى القطاع الخاص، مع استثناء حالتين اثنتين فقط، تماما كما هو القانون الإسباني، أي حالة تعرض صحة المرأة إلى الخطر، أو حالة الاغتصاب.

هذه الدينامية المجتمعية التي تعرفها المجتمعات في كثير من بلدان العالم، لا سيما منها العلمانية،
تسمح باستنتاج ثلاث دلالات أساسية:
----------------------

(1) الأولى، أن قضية منع الإجهاض أو تقييد السماح به، ليست مقصورة على المجتمعات الإسلامية، وإنما هي ظاهرة عامة في جميع بلدان العالم، وأنها إن كانت اليوم تبدو مرتبطة باليمين المحافظ أو بالتيار المحافظ بسبب دور التوجه الديني في تحديد مفهوم العائلة والأسرة، فيمكن أن تتحول في الآماد المتوسطة والبعيدة إلى ظاهرة حقوقية، ويصير لها أنصار من خارج التيار المحافظ، ممن يناصرون الحق في الحياة، ويدافعون عن الأسرة الطبيعية.

(2) الثانية، أن النموذج العلماني الأمريكي، لا يضيق بوجود تيارات محافظة تجتهد في بلورة أفكارها وتحويلها إلى قوانين وسياسات عمومية، وأنه لا يعمل سلطة العلمانية لمنع تأثير الدين في الفضاء العام، بل بالعكس من ذلك، تتعايش الأطروحات المستندة إلى مرجعيات مختلفة، وتكون كلمة الجسم للآليات الديمقراطية، خلافا للنموذج الفرنسي الذي يستعمل سلطة العلمانية لمصادرة حق مكونات مجتمعية في تبني أفكار مستندة إلى قناعاتهم الدينية بل والحقوقية أيضا.

(3) الثالثة، أنه ليس هناك من إمكانية لاستيعاب التطور المجتمعي والتعاطي مع التعددية الفكرية، إلا بصيغة تجمع بين ضمان حق الآخرين في الاستناد إلى مراجعاتهم في طرح الأفكار والسياسات العمومية التي يقترحونها، وبين الاحتكام إلى الآليات الديمقراطية في الحسم، مع ترسيخ مبدأ التداول على السلطة، بما يعنيه هذا المبدأ من إمكانية مراجعة القوانين، وتجديد النقاش المجتمعي حول كل القضايا المجتمعية الحساسة.

بكلمة، الخلاصة الكبيرة التي يمكن أن نستفيدها من تأمل هذه الدينامية المجتمعية التي انطلقت في العالم حول قضية الإجهاض، هي أن المشكلة ليست في حضور الدين في الفضاء العام، ولا في تأثيره في صناعة قناعات مكونات مهمة في المجتمع، وإنما المشكلة تتمثل في ضيق أفق النماذج السياسية لدى بعض الدول في استيعاب هذه الحقائق السوسيولوجية وتأطيرها بالآليات الديمقراطية التي تفرض على هذه المكونات تحويل هذه الأفكار إلى سياسات عمومية تتمتع بنفس شروط التعامل الديمقراطي التي تتمتع به مشاريع القوانين الأخرى، ويكون التصويت عليها تأييدا أو رفضا مدعاة إلى إعادة تجديد الدينامية السياسية للتيارات المختلفة في المجتمع والبحث عن مصادر قوة جديدة لدعم المواقف والمواقع معا.

هذا هو الدرس البارز الذي ينبغي أن نستفيده، من هذه التجربة، وهو الذي يعطينا يقينا بأن النماذج العلمانية التي تتمتع بقدر محدود من خاصية الاستيعاب مثل النموذج الفرنسي، ستجد نفسها في المدى المتوسط والبعيد عاجزة عن تقديم جواب عن التطور المجتمعي المرتقب، إلا أن تبادر إلى إعادة النظر في أسس نموذجها.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*{م: نماء للبحوث والدراسات}
ــــــــــــــــــــ
رد مع اقتباس
  #91  
قديم 10-11-2014, 09:38 AM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود غير متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 56,039
ورقة محمد أركون وحصاد الصراع بين الإسلاميين والليبراليين

محمد أركون وحصاد الصراع بين الإسلاميين والليبراليين
ـــــــــــــــــــــــــــــ

(د. أحمد إبراهيم خضر)
ــــــــــــ

17 / 12 / 1435 هــ
11 / 10 / 2014 م
ــــــــــــ



محمد أركون وحصاد الصراع بين الإسلاميين والليبراليين

في كتابه "سؤال الهوية" وجه التنويري الماركسي المتطرف "شريف يونس"، لائحة اتهام لرفاقه التنويرين، وإن كان قد تحفظ في اعتبار ما قاله بأنه لائحة اتهام.

أقرَّ يونسبأن ظاهرة التنوير ظاهرة نشِطت في السنوات الأخيرة، وأنه قد مضى وقت كاف على نشاطها العلني، وعلو صوتها الملموس في المنابر الحكومية وغير الحكومية، طرحت نفسها للناس على أنها "سلطة" و"كمبدأ مقدس"، بادرت باستخدام جميع أسلحة الإرهاب الفكري ضد خصومها؛ لأن المسألة كانت بالنسبة لها "مسألة حرب": سلطة أمام سلطة، ومبدأ مقدس أمام مبدأ آخر مقدس، خصومها يدافعون عن "الله"، وهي تدافع عن الوطن والحرية والديموقراطية، ورغم ذلك فقد حدث لهذه الظاهرة تدهور خطير صحبها منذ بدايتها ذاتها، وترافُقٌ مع عُلو صوتها، جعلها دائمًا في موقع الدفاع.

العلمانية التي نادت بها، كما يرى "يونس" هي علمانية منافقة، ليس من شأنها سوى تأكيد موقفها الدفاعي هذا، دون أمل في الخروج منه، اضطرت دومًا للتراجع المستمر كلما اشتد هجوم خصومها، وإلى جانب ذلك فهي "علمانية مبتورة"، أصبحت قضيتها "قضية نخبة" أو نحلة مضهدة تمارس تقية مكشوفة، تغطي بها على أفكار حكم عليها أصحابها أنفسهم بأنها لا تصلح للتداول العام، وأنها أشبه "بجيتو يهودي" مستقل سياسيًّا وأيديولوجيًّا، ولو فرض امتداد هذا الخط على استقامته، فسيتحول كما يرى "يونس" إلى أصولية جديدة، سرية، تقوم مع انعزالها المتزايد "بتكفير" المجتمع باسم "العقل المجرد والتقدم"، وقد تبحث لنفسها عن هجرة تحتمي بها مما يسميه "يونس" الجاهلية الإسلامية القادمة".

حدد "يونس" لائحة الاتهام لرفاقه التنويرين على النحو التالي:
التنويريون يثبون على الفجوة التي تحدث بين الإسلاميين والسلطة، ويرتمون في أحضان السلطة لتدفع عنهم ما يسميه "بالشيطان الرجيم" ممثلاً في الإسلاميين، يستعدون السلطة عليهم، ويحاولون إقناعها بخطورتهم، ويطالبونها بتحكيم العقل التنويري وبالديموقراطية والحرية في نفس الوقت الذي يصرون فيه على إبعاد الإسلاميين عن وسائل الإعلام، والعمل على الحد من تأثير دعايتهم على الناس، والالتصاق الشديد بالسلطة مقابل غير معلن: إنه التحرك في إطار خطة النظام القائم، وعلى هذا الأساس فإن التنوير الحالي لا يقدم سوى مشروع سياسي وحيد، هو تقوية الدولة القائمة، فهو تابع لها، موالٍ لنظامها، يكيف مبادئه على مقاس احتياجات النظام الذي لا يطلب تنويرًا حقيقيًّا، إنما يطلب فقط صيحات استنكار ضد الإسلاميين.

أدركت السلطة ذاتها كما يرى "يونس" ما يسميه هو نفسه "بهزال التنوير المعاصر"، فعمَدت إلى استدعاء الموتى من كتاب التنويريين القدامى؛ لينوبوا عن التنويرين الأحياء في مواجهة الإسلاميين، فقامت بإعادة طبع كتب التنوير القديمة، لكنها حذفت منها هذه النصوص المثيرة للإسلاميين؛ مما يعني فقْد قدرتها على المواجهة، بالرغم من أن هذه النصوص في حد ذاتها ذات طبيعة مراوغة تمثل مراوغة أصحابها ذاتهم كما يرى يونس.

والمعركة مع الإسلاميين في نظر "يونس" ليست معركة نصوص، وإنما هي معركة سياسية اجتماعية أيديولوجية حية؛ ولهذا فإن الإسلاميين لا يستمدون قوتهم من إعادة طبع الكتب القديمة ككتب ابن كثير مثلاً، وإنما من أعمال مفكرين إسلاميين أحياء، يطرحون إجابات إسلامية لقضايا الواقع المعاصر، وفي إطار هذا الطرح تأتي استعادة أفكار ابن كثير وغيره.

التنوير لا يخشى السلطة أساسًا، وإنما يخشى الجماهير، إنه يرتعب من الجماهير ومن التدين الشعبي التقليدي.

وصف "يونس" هذه الجماهير بأنها "هذا الكيان الجمعي المجهول الغامض، المثير للرعب بمجهوليته ذاتها، والذي يتضخم شبحه مع تزايُد انعزال التنوير جماهيريًّا، وإحجامه عن التوجه الفعال الصريح برسالة محددة ذات قيمة لهذه الجماهير".

التنوير لم ينجح - من فرْط رُعبه من الجماهير - أن يقدم لها شيئًا له قيمة،بل إنه متَّهم بتغريب هذه الجماهير، واستخدام هذا التغريب كأداة للتحديث لصالح الطبقة الحاكمة على حساب الجماهير، ويتساءل "يونس": "ما الذي يقدمه التنوير؟ فكرة الوطن، الوحدة الوطنية؟ المجد القومي؟

إنه لا يوضح لنا وطنَ مَن، ولا مجد مَن، وقصارى ما يطرق في هذا الصدد هو وطن التسامح الديني، وهو محتوى سلبي.

في مقابل ذلك يطرح الإسلاميون فكرة العروبة في إطار رؤيتهم الخاصة، فيتحدثون عن عزة العرب في ظل الإسلام، وقوة الإسلام على قيادة نهضة قومية.

ماذا يطرح التنوير أيضًا؟ الديموقراطية؟ وماذا تفعل الديموقراطية في ظل غياب محتوى ملموس لها؛ أي: في ظل غياب أيديولوجية علمانية صريحة منسقة مدافعة عن حقوق الجماهير في تنظيم نفسها للدفاع عن مصالحها".

والعلمانية المعاصرة عند "يونس" تخشى الديموقراطية خشية الموت، وهي لم تنسَ بعدُ درسَ "الانتخابات الجزائرية" التي وقفت منها موقفًا مُخزيًا، مؤيدًا عمليًّا للانقلاب على حد قوله.

ليس للتنويرين مشروعًا يتقدمون به إلى الجماهير، يربطون به بين مصالحهم والعلمانية، فهم يرفعون راية الوطنية في مواجهة راية الإسلاميين، ويقدمونها على أنها التفسير الصحيح للإسلام، ولكن في صورة وصفها "يونس" بأنها "غريبة لا تقنع أحدًا"، ادَّعوا أن نشاط الإسلاميين ما هو إلا "إرهاب متستر بالدين"، ثم تطوعوا بتعيين أنفسهم فقهاء للإسلام، يقدمون تفسيرًا له يرون أنه صحيح، ولكن في مشهد وصفه "يونس" أيضًا بأنه "مشهد كوميدي عجيب".

"القومية" كبديل يقدمه التنوير، بديل عاجز وغير مكافئ لما يقدمه الإسلاميون، و"القومية" هي في التحليل الأخير مفهوم سياسي يستند إلى طرح ضعيف عن خصوصية الأمة المعنية، وهو في نظر الإسلاميين طرح "متخلف فقير للغاية" إذا قورن بالمبدأ الأممي للإسلام الذي يطرح نفسه كرسالة عالمية،وبالإضافة إلى ذلك فإن مبدأ القومية عاجز عن حمل مشروع اجتماعي واضح يقوم على موقف من التناقضات الداخلية في الأمة، في حين أن الإسلاميين يطرحون عبر مبدأ "حاكمية النص" مشروعات اجتماعية محددة.

وهكذا أثبت الإسلاميون على اختلاف توجُّهاتهم في كل معاركهم مع العلمانيين قدرتهم على تحطيم ما يسميه "يونس" بالمتاريس الورقية؛ سواء باستيعاب مبدأي القومية والتسامح الديني داخل الإطار الإسلامي (جزئيًّا)، أو برفضهما، انطلاقًا من مبدأ "حاكمية النص"، وفي كلتا الحالتين يطرح الإسلاميون موقفهم براحة تامة في إطار محاكمة العلمانية من وجهة نظر تفسيرهم للنص، وإذا لزم الأمر فباستطاعتهم - ببساطة متناهية - رفْع شعارات "الجنسية الإسلامية" في مواجهة مبدأ "القومية"، ونظرية "أهل الذمة" في مواجهة مبدأ "المواطنة"، ودفع التنويرين إلى الدفاع عن إسلامهم، حتى وصل الأمر بالبعض من المفكرين العلمانيين إلى الرد على تهمة التكفير بتكفير مضاد، فاندفعوا لتسمية خصومهم "بالمتأسلمين" في الوقت الذي يجلسون فيه هم على المنصات، يشرحون عبرها فَهمهم الخاص للإسلام، ويظهرون بمظهر "الفقهاء" ليخفوا - بغير نجاح كبير - حقيقة العلماني المهزوم، بنفس عبارات "يونس".

العلمانية المعاصرة تتجنب بالذات الاشتباك مع جوهر الطرح الإسلامي، وهو "حاكمية النص"، وخاصة في كتابات المفكرين الإسلاميين البارزين، اللهم إلا ما يمكن تصيده من عباراتهم مما يراه "يونس" بأنه يصدم الرأي العام؛ كالتكفير، أو الأفكار الوطنية، ويلجؤون بدلاً من ذلك إلى ما يسميه "يونس"باللف والدوران".

العلمانيون عجزوا كما يرى "يونس" عن الدفاع عن علمانيتهم إلا بشكل مُلتوٍ، ومحاولة البحث عن تناقضات في فكر الإسلاميين، وحتى في هذه الحالة لا يَعجِز الإسلاميون عن دحر العلمانيين، ويتحدد مفهوم "الحاكمية" عند "يونس" بمبدأ الطاعة والخضوع للنص أو تأويلاته المحددة، والذي يؤكد نفسه عبر سلسلة أوامر تفصيلية لتنظيم الحياة الاجتماعية والاقتصادية والأيديولوجية، تطرح نفسها باعتبارها تفسيرًا مطابقًا للنص ذاته.

ويتكامل هذا الطرح كأيديولوجية عبر تجسيده في تفسير التاريخ، والإسلام في كل تفسيراته عند "يونس" دين ودولة، وهو يعني إخضاع الكِيان الاجتماعى لأحكام فقهية، وهذا أمر يلقي اتفاقًا يمتد من الأزهر وحتى ما يسميه يونس "بالتكفير والهجرة"، فالإسلام في المقام الأول مبدأ شامل ينظم كل مناحي الحياة، يمتد من الخوف من المعاصي والعادات والآداب التي لا تنتهي، لتحكم كل تفاصيل الحياة بدءًا من دخول دورة المياه والسلوك داخلها، إلى علاقة الإنسان بربه وامتدادها إلى علاقتها بالبشر،كل هذا يتعيَّن فرضه فرضًا.

ويضيف "يونس": إن مبدأ الحاكمية يقوم على أساس المساواة بين البشر، وعلى أساس راسخ مفاده وجود علاقة تعبُّدية بين الإنسان والله، دور الإنسان فيها أو دور الصفوة عمليًّا هو استطلاع الأوامر الإلهية وتنفيذها حرفيًّا، بغض النظر عن السياق التاريخي والاجتماعي المعاصر، "فالله" في الإسلام، يشار إليه ليس بوصفه خالقًا أو راعيًا فقط، ولكن كسلطة تعلو كل فرد على حدة؛ بحيث لا تقام رابطة بين هذا الفرد وغيره من البشر، أو حتى بالطبيعة إلا عبر الأوامر الإلهية كما يحددها فقهاء الإسلام، ولمواجهة هذا المبدأ الإسلامي لجأ العلمانيون إلى التمسك بمبدأ "مطاطية النصوص"، وهذا من شأنه في نظر "يونس" أن يجرد المطلب العلماني ذاته من أي معنى.

والطرح العلماني في نظر "يونس" إنما يريد التخلص من حاكمية النص عن وعي وإدراك كاملين بمخاطر محتواه، وهو محتوى تشكَّل تاريخيًّا عن طريق الفقه، واتهام "يونس" للتنويرين هنا يكمن في أنهم لجؤوا إلى التمسك بمبدأ "مطاطية النصوص" في الوقت الذي كان عليهم كما يرى "يونس" أن يرفضوا رفضًا صريحًا مبدأ "حاكمية النص"؛ لأنه يمثل في نظره إخلالاً بقيم الحرية والفردية والمواطنة، والنزعة الإنسانية عمومًا.

الطرح العلماني - كما يرى يونس - يحاول قصر نفسه بقدر الإمكان على المستوى السياسي، فيزيد من حدة التشهير السياسي بالإسلاميين؛ ولهذا تنحصر المواجهة في مسألة ما يسميه "يونس" بالإرهاب، وأساسها الفقهي "التكفير" على حد قوله.

أما دفاع التنويرين عن قضايا؛ مثل: حرية المرأة، والعدالة الاجتماعية أو الديموقراطية، أو حقوق الأقليات المسيحية - فهو دفاع لا يواجهون فيه مباشرة الطرح الإسلامي لهذه القضايا، ولا يتعرضون لمسألة الرفض الصريح لسلطة النص أو لمبدأ إسلامية الدولة والمجتمع، وهذا يعني أن التنويرين لا يستبعدون الأساس الأيديولوجي الضروري لمثل هذا الطرح، والإقرار بمرجعيته بشكل غير مباشر، في حين أن الطرح الإسلامي يتميز عن الطرح العلماني كما يرى "يونس" في أنه يضع نفسه مباشرة في مواجهة صريحة مع العلمانية ورموزها، هذا فضلاً عن أن "الإسلاميين الجدد" يطرحون مبدأ حاكمية النص بارتباطه بالثقافة السائدة عند الجمهور، وبوصفه طوق نجاة دنيوي لهذه الجماهير المقهورة.

الممارسة الحالية للعلمانية تَنِمُّ عن قبول ضمني أو صريح لمسألة إسلامية الجماهير - كما أشرنا أعلاه - ترتب على ذلك أن أصبحت العلمانية ذاتها محل شكٍّ؛ سواء من حيث معناها، أو قيمتها؛ لأنه تضمن التسليم بجوهر الطرح الإسلامي الذي يرفع الدين إلى ما يسميه "يونس" بأيديولوجية شاملة، نابعة مباشرة من وعي الجماهير وتراثها، الأمر الذي يستدعي قبول أطروحة بعض العلمانيين القائلة: "إن الإسلام هو الأيديولوجية المؤهلة للدفاع عن حق الجماهير في الحياة، والحد من امتيازات الطبقة العليا التي تتمثل القيم الغربية أو بالأحرى مظاهرها بدرجة أو بأخرى، وتتخذها سدًّا للحفاظ على امتيازاتها وتبريرها.

العلمانية عند "يونس" هي المبدأ الذي ينادي بفصل الدين عن الدولة، والتعليم العام، وتحويل الدين إلى شأن خاص بالفرد، وكفالة حق الأفراد بتغيير عقائدهم كيف شاؤوا، دون اعتبار ذلك إخلالاً بالنظام العام، ورفض ادِّعاءات أتباع أي دين أو مِلة بأن من حقهم فرض تصوُّراتهم الخاصة على المجتمع،وتنطلق العلمانية عند "يونس" من رؤية إنسانية غير دينية للعالم، تحرِّر الفرد من الخضوع لما يسميه "بالقهر" باسم الغيبي والمطلق والمقدس، وتأكيد مسؤولية الإنسان وليس "الله" عن عدله ونظامه الاجتماعى بأوسع معنى للكلمة.

هذه المطالب عند "يونس" هي أسس فكرية لا مجرد مبادئ يصفها بأنها "صحيحة" في حد ذاتها، بل هي شروط ضرورية في نظره للتقدم التاريخي، تحرر البشر مما يسميه بأشكال القهر والوصاية الفكرية، وتُمكنهم من بناء عالمهم بحرية، وفي ظل النظام العلماني لا يجوز للدولة أن تستند إلى مرجعية دينية من أي نوع، ولا يجوز لها أن تَحجُر النقاش الحر حول الأديان والعقائد، وعلى الدولة في نظر "يونس" أن تحمي حق نقد الأديان، والمسألة الجوهرية عند "يونس" هي تحرير الفكر والممارسات السياسية والاجتماعية من الدين أو التقيد بأي مرجعية دينية.

يتَّهم "يونس" التنويرين بأن شاغلهم الأساسي أصبح هو التهرب من هذه المسألة، وأنهم قد فشِلوا تحت وطأة حركة الإسلاميين من الدفاع عن حريتهم المطلقة في التعبير، وجنحوا في مقابل ذلك إلى الدفاع عن صحة إسلامهم؛ مما يعني في نظر "يونس" التسليم الضمني بحق قتل المرتد عن الإسلام، ومِن ثَمَّ انعدام القدرة على الدفاع عن حرية الفكر.

نجح الإسلاميون في دحْر التنويرين بعد أن أدركوا ضَعف موقفهم العلماني، فالتنوير كما يرى "يونس" عاجز عن طرح رؤية أيديولوجية علمانية صريحة في مواجهة الإسلاميين، فهو لا يستطيع مثلاً طرح "قيم جنسية تحرُّرية ترتبط بالمرأة"، وترتعد فرائصه أمام تهمة "الإباحية"، كما يرعب بشدة من تُهمة الإلحاد، ولا يستطيع الدفاع بشجاعة عن قيم التحرر الاجتماعي بوصفها قِيَمًا إيجابية، وهكذا...

ومن هنا حاصر الإسلاميون العلمانيين، ثم اتبعوا معهم تكتيك "تهدئة المواقف" بدلاً من الهجوم، فأطلقوا الوعود بالحفاظ على حد أدنى من الحريات في ظل الحكم الإسلامي المرتقب؛ سواء للعلمانيين، أو الأقليات الدينية.

ويرى "يونس" أن هذا موقف طبيعي من جانب أيديولوجية متكاملة تُجاه بضع أُطروحات واعتراضات جزئية، لا ترمي في نهاية المطاف إلا إلى الدفاع عن فئة محاصرة، لم تتمكَّن من طرح نفسها أصلاً كمنافسٍ كفءٍ، لا أيديولوجيًّا ولا سياسيًّا.

هذه هي لائحة اتهامات "شريف يونس" لرفاقه العلمانيين، لا نضيف إليها إلا ما أقرَّ به بعضهم من أن التنويريين العرب عمومًا مبعثرون، لا يجمعهم إطار تنظيمي عام أو حتى قضية عامة، خواء فكري وثقافي وسياسي، تسيطر عليهم القيم المادية، إنتاجهم الثقافي ليس هدفه "الشهرة" فقط كما يرى "يونس"، وإنما "الربح" كذلك.

أما "شريف بونس" نفسه، فلا يرى أمامه من عدو يجب اجتثاثه من جذوره سوى الإسلام والإسلاميين، وامتدَّ به الحقد إلى لغة القرآن، فقال ما نصه: "لا بد من نشر الثقافة والقضاء على عقلية وصاية المثقف، وهذا يتطلب بصفة أساسية تحرير اللغة المكتوبة من القواعد الموروثة، وإتاحة الفرصة لها للتطور خارج قفص الوصاية الضيق لمجامع اللغة والمصححين اللغويين، ومجمل هذا الجهاز الأيديولوجي الذي يترتب على نشاطه إقامة حوائط هائلة الارتفاع، تحول عمليًّا دون انتشار الثقافة، وتحافظ على طابعها النخبوي، انطلاقًا من الحق الديموقراطي البديهي لكل ناطق أصلي للغة في تغيير مفرداتها، ونحْت غيرها وتغيير معانيها؛ كما يحدث في كل لغة حية".

لم يتعرض "شريف يونس" لقضية هامة، وهي ارتماء التنويرين العرب في أحضان رجال اللاهوت النصارى، وبمعنى أصح اصطياد رجال اللاهوت من النصارى لهم،والمثال الواضح لذلك هو احتضان "روبير كاسبار" و"كلود جيفري" لـ"محمد أركون"، و"الأب جيفري" هو أحد أعضاء مجموعة باريس التي يرأسها الأب "روبير كاسبار"، وهما من رجال اللاهوت المسيحي.

يؤمن "كاسبار" بأهمية الحوار مع الإسلام، وفقًا لِما يدعيه "بالاحترام المتبادل"، وأهمية "البحث التاريخي"، وتعمل مجموعة باريس ضمن جماعة أوسع في البحث الإسلامي - المسيحي.

تضم هذه المجموعة "فرانسوا سميث فلورنتان"، و"جان لامبير"، و"كلود جيفري".

احتضن "كاسبار" المفكر العلماني المعروف "محمد أركون"؛ ليكون عضوًا في مجموعة باريس هذه، أما أهمية "الأب جيفري"، فتكمن في أنه صديق شخصي لأركون، وهذا الأخير يحترم "جيفري" ويُبجله كثيرًا، ويتردد عليه، ويستمع لآرائه، بل يَتوق بشدة إلى معرفة تعليقاته وملاحظاته على أفكاره، وفي كلمات مليئة بالإعجاب المشوب بالاستجداء، يصف "أركون" الأب جيفرب"، فيقول: "تركت قلمي يجري على هواه كما أفعل عادة عندما أتحدث بكل حرية مع "الأب كلود جيفري"، وعنده الجواب عن كل شيء، فهو يستحسن كلامك، أو يُعدل منه، أو يُصححه أو يُكمله، ولكنه نادرًا ما يرفضه، أريد أن أوجه إليه أمنية وطلبًا، أتمنَّى لو يجد الوقت المناسب للرد على كلامي.

"الأب جيفري" كما يصفه "أركون" أحد اللاهوتيين القلائل الذين خطوا خطوة هامة نحو تشكيل ما يسميه "بلاهوت الوحي"، لا يستبعد القرآن وإنما يدمجه داخل رؤية ديناميكية حية".

هذه الكلمات الأخيرة لـ "محمد أركون" تؤكد صدق ما أشار إليه علماء الإسلام من أن "من يرفض أن يكون عبدًا لله، فلا بد أن يكون عبدًا لغيره"، و"ما من عبد يقدم أضحية لله إلا ويقدم العابدون لغير الله أضعافها من أنفسهم وأموالهم وأعراضهم".

ويؤكد اصطياد "كاسبار" وجيفري" لـ"محمد أركون" صدق ما أكده المفكرون الإسلاميون من أن "أهل الكتاب لا يحرصون على شيء قدر حرصهم على إضلال هذه الأمة عن عقيدتها التي هي صخرة النجاة، وخط الدفاع ومصدر القوة الدافعة للأمة المسلمة، وأعداؤه يعرفون هذا جيدًا قديمًا وحديثًا، ويبذلون في سبيل تحويل هذه الأمة عن عقيدتها كل ما في وُسعهم من مكرٍ وحيلة، ومن قوة وعُدَّة، وحين يَعجِزون عن محاربة هذه العقيدة ظاهرين، يدسون لها ماكرين، وحينما يُعييهم أن يحاربوها بأنفسهم وحدهم، يُجندون من المنافقين المتظاهرين بالإسلام، أو ممن ينتسبون إلى الإسلام زُورًا - جنودًا مجندة؛ لتَنخِر لهم في جسم هذه العقيدة من داخل الدار، ولتصد الناس عنها، ولتزين لهم مناهج غير منهجها، وأوضاعًا غير أوضاعها، وقيادة غير قيادتها؛ يقول الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ ﴾ [آل عمران: 100]؛ انظر مقالتنا "التنويريون الليبراليون وحائط الحاكمية".

------------------------------------------------------------
رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية

الكلمات الدلالية (Tags)
الآلام, الحلف, الرجوع, إلى, والتقدم


يتصفح الموضوع حالياً : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
أدوات الموضوع

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


المواضيع المتشابهه للموضوع الرجوع إلى الأمام والتقدم إلى الخلف
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
تجار الآلام عبدالناصر محمود شذرات إسلامية 0 09-04-2015 02:04 PM
الحلف المصري الإماراتي عبدالناصر محمود شذرات مصرية 0 08-27-2014 03:17 PM
الرئيس اوباما يتمتع بصلاحيات شن هجوم على سوريا دون الرجوع للكونغرس عبدالناصر محمود أخبار عربية وعالمية 0 09-08-2013 06:48 AM
علماؤنا الرواد رفعوا مشعل النهضة والتقدم Eng.Jordan علماء عرب 0 11-03-2012 12:45 PM
حكم الحلف بحياة القرآن جاسم داود شذرات إسلامية 0 10-15-2012 04:14 PM

   
|
 
 

  sitemap 

 


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 10:37 AM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.12 by vBS
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والمشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59