#1  
قديم 04-19-2012, 12:24 PM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,412
افتراضي أدب المناظرة للأستاذ مصطفى لطفي المنفلوطي


أنا لا أقول إلا ما أعتقد، ولا أعتقد إلاَّ ما أسمع صداه من جوانب نفسي؛ فربما خالفت الناس في أشياء يعلمون منها غير ما أعلم ، ومعذرتي إليهم في ذلك أن الحق أولى بالمجاملة منهم، وأن في رأسي عقلاً أُجِلُّه عن أن أنزل به إلى أن أكون سيقة للعقول، وريشة في مهاب الأغراض، والأهواء.
فهل يجمل بعد ذلك بأحد من الناس أن يرميني بجارحة من القول، أو صاعقة من الغضب؛ لأني خالفت رأيه، أو ذهبت غير مذهبه، أو أن يرى أن له من الحق في حملي على مذهبه، أكثر مما يكون لي من الحق في حمله على مذهبي؟
لا بأس أن يُؤَيِّد الإنسان مذهبه بالحجة والبرهان، ولا بأس أن ينقض أدلة خصمه، ويزيفها مما يعتقد أنه مبطل لها، ولا ملامة عليه في أن يتذرع بكل ما يعرف من الوسائل إلى نشر الحقيقة التي يعتقدها إلا وسيلة واحدة لا أحبها له، ولا أعتقد أنها تنفعه، أو تغني عنه شيئاً، وهي وسيلة الشتم والسباب.
إن لإخلاص المتكلم تأثيراً عظيماً في قوة حجته، وحُلول كلامه المحلَّ الأعظم في القلوب والأفهام.
والشاتم يعلم عنه الناس جميعاً أنه غير مختص فيما يقول؛ فعبثاً يحاول أن يحمل الناس على رأيه، أو يقنعهم بصدقه، وإن كان أصدق الصادقين.
أتدري لِمَ يَسُبُّ الإنسانُ مناظرَه؟ لأنه جاهل وعاجز معاً، أما جهله؛ فلأنه يذهب في وادٍ غير وادي مُناظِرِه، وهو يظن أنه في واديه ولأنه ينتقل من موضوع المناظرة إلى البحث في شؤون المناظر، وأطواره وصفاته وطبائعه، كأن كل مبحث عنده مبحث =فسيولوجي+.
وأما عجزه فلأنه لو عرف إلى مناظره سبيلاً غير هذا السبيل لسلكه، وكفى نفسه مئونة ازدراء الناس إياه، وحماها الدخول في مأزق هو فيه من الخاسرين، محقاً كان أم مبطلاً.
لا يجوز بحال من الأحوال أن يكون الغرض من المناظرة شيئاً غير خدمة الحقيقة وتأييدها، وأحسب أن لو سلك الكُتَّاب هذا المسلك في مباحثهم لاتفقوا على مسائل كثيرة هم لا يزالون مختلفين فيها حتى اليوم، وما اختلفوا فيها إلا لأنهم فيما بينهم مختلفون، يسمع أحدهم الكلمة من صاحبه، ويعتقد أنها كلمة لا ريب فيها، ولكنه يبغضه؛ فيبغض الحق من أجله؛ فينهض للرد عليه بحجج واهية، وأساليب ضعيفة، وإن كان هو قوياً في ذاته؛لأن القلم لا يقوى إلا إذا استمد قوته من القلب، فإذا جيء بالحجج والبراهين لجأ إلى المراوغة والمهاترة،فيقول لمناظره مثلاً: إنك جاهل لا يعتد برأيك، أو إنك مضطرب الرأي لا ثبات لك، تقول اليوم غير ما قلت بالأمس، وهناك يقول له الناس: رويداً، لا تخلط في كلامك، ولا ترواغ في مناظرتك، ولا شأن لك بعلم صاحبك أو جهله؛ فإنه يقول شيئاً، فإن كان صحيحاً فسلم به، أو باطلاً فبين لنا وجه بطلانه.
وهبه قولاً لا تعلم قائله، ولا شأن لك باضطراب صاحبه وثباته، فربما كان بالأمس على رأي تبين له خطؤه اليوم، والمرء يخطئ مرة ويصيب.
فإذا ضاق بمناظره وبالناس ذرعاً فرَّ إلى أضعف الوسائل وأوهنها، فَسَبَّ مناظره، وشتمه، وذهب في التمثيل به كل مذهب، فيسجل على نفسه الفرار من تلك المعركة، والخذلان في ذلك الميدان.
على أن أكثر الناس متفقون على ما يظنون أنهم مختلفون فيه، فإنَّ لكل شيء جهتين: جهةَ مدحٍ، وجهة ذم، فإما أن تتساويا، أو تكبر إحداهما الأخرى، فإنْ كان الأول فلا معنى للاختلاف، وإن كان الثاني وجب على المختلفين أن يعترف كل منهما لصاحبه ببعض الحق، لا أن يكون كل منهما من سلسلة الخلاف في طرفها الأخير.
كان يقع بين ملك من الملوك ووزيره خلاف في مسائل كثيرة حتى يشتد النزاع بينهما، وحتى لا يسلس أحدهما لصاحبه في طرف مما يخالفه فيه؛ فحضر حوارهما أحد الحكماء في إحدى الليالي وهما يتناظران في المرأة، يعلو بها الملك إلى مصاف الملائكة، ويهبط بها الوزير إلى منزلة الشياطين، ويسرد كل منهما على مذهبه أدلته، فلما علا صوتهما، واشتد لجاجهما خرج ذلك الحكيم، وغاب عن المجلس ساعة، ثم عاد وبين أثوابه لوحٌ على أحد وجهيه صورة فتاة حسناء، وعلى الآخر صورة عجوز شوهاء، فقطع عليهما حديثهما وقال لهما: أحب أن أعرض عليكما هذه الصورة؛ ليعطيني كل منكما رأيه فيها،ثم عرض على الملك صورة الفتاة الحسناء فامتدحها ورجع إلى مكان الوزير، وقد قَلَّبَ اللوح خِلْسَةً من حيث لا يشعر واحد منهما بما يفعل، وعرض عليه صورة العجوز الشمطاء؛ فاستعاذ بالله من رؤيتها، وأخذ يذمها ذماً قبيحاً، فهاج الملك على الوزير، وأخذ يرميه بالجهل وفساد الذوق، وقد ظن أنه يذم الصورة التي رآها هو، فلما عادا إلى مثل ما كانا عليه من الخلاف الشديد استوقفهما الحكيم، وأراهما اللوح من جهتيه فسكن ثائرهما، وضحكا ضحكاً كثيراً، ثم قال لهما: هذا ما أنتما فيه منذ الليلة، وما أحضرت إليكما هذا اللوح إلا لأضربه لكما مثلاً؛ لتعلما أنكما متفقان في جميع ما كنتما تختلفان فيه لو أنكما تنظران إلى المسائل التي تختلفان فيها من جهتيها، فشكرا له همته، وأثنيا على فضله وحكمته، وانتفعا بحيلته انتفاعاً كثيراً، فما كانا يختلفان بعد ذلك إلا قليلاً .


المصدر: ملتقى شذرات

__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية

الكلمات الدلالية (Tags)
للأستاذ, أدب, مصطفي, لطفي, المناظرة, المنفلوطي


يتصفح الموضوع حالياً : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
أدوات الموضوع

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


المواضيع المتشابهه للموضوع أدب المناظرة للأستاذ مصطفى لطفي المنفلوطي
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
ساعات وتبدأ المناظرة التلفزيونية.. بين هلاري وترامب Eng.Jordan أخبار عربية وعالمية 0 09-26-2016 02:10 PM
عقيــــدة الخيّــــــام للأستاذ عبدالحق فاضل Eng.Jordan دراسات و مراجع و بحوث أدبية ولغوية 0 06-21-2013 04:47 PM
مصطفى لطفي المَنْفَلُوطي Eng.Jordan شخصيات عربية وإسلامية 0 06-16-2013 11:17 AM
كتاب غرد من قلبك للأستاذ عبد الرحمن المطوع Eng.Jordan كتب ومراجع إلكترونية 0 11-22-2012 02:47 PM
مقال بعنوان الدعوة للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي Eng.Jordan أخبار ومختارات أدبية 0 04-19-2012 12:28 PM

   
|
 
 

  sitemap 

 


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 06:19 AM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.12 by vBS
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والمشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59