#1  
قديم 01-22-2015, 09:34 AM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود غير متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 56,103
ورقة الذات فخًا للأنا!


الذات فخًا للأنا!
ــــــــ

(سلطان البنوي)
ـــــــــ

2 / 4 / 1436 هـ
22 / 1 / 2015 م
ـــــــــ

31-12-2014.jpg

تتسرب إلى العقل كثير من الرؤى والأفكار التي يظنها عامة الناس بدهيات معرفية وأساسيات فكرية، فيعرّفون أنفسهم وفقاً لها، فالفكرة جنين في عُرف اللاوعي حتى يستطيع الوعي إعادة إكتشافها في ذاته، فتكون بذلك جزءاً من كلانيته وفردانيته، والأنا لا تتخلى عن وهم الفرادة والتمايز عن الآخرين . قال ربُّ العزّة (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ)، فالإنسان يكابِد في حياته محاولاً إثبات كينونته في هذا العالم المُصطخِب، ومَكْبودٌ يستغله غيره في إثبات كينونته، وبينهما "يصعب على الإنسان أن يثبت لنفسه أصالة أناه، وينجح في إقناع نفسه بوحدتها الفريدة في عالمنا الذي يتزايد فيه عدد الوجوه ويشتد الشبه بينها يوماً بعد يوم"1"، إذ يتسم عالمنا المعاصر بأيديولوجيات تستخدم آليات تسلطية تقتحم بها عقول البشر فتتلاعب برغباتهم ومخاوفهم حتى تختفي فرادة شخصياتهم، فتتوغل في ذواتهم مرادات متماثلة، إذ فرض التماثل كأحد القبليات التخاطبية أساسٌ لأي خطاب سلطوي، فبدونه يحِلُّ التمايز والاختلاف وبهما تفقد الخطابات الأيديولوجية سطوتها على العقول والنفوس، لذلك ينبغي التساؤل عن منافذ أو كيفية اقتحام تلك الآليات ؟

الفكر/الفخ :
------------

كتوطئة لإحاطة تلك الآلية التسلطية ومعرفة نفوذها العميق في بنية الفكر نذكر أن من طبيعة الإنسان حينما يحاول تأمل أناه أن يختزل حتى يُشبع رغبة السيطرة لديه، ومن ثم يحقق ذاته كما يريد متوهماً أنه المتحكم بقراره ومصيره دوماً، إذ تتبدى على سطح العمق إشكالية تسمى عند المتفلسفة "إشكالية الوجود الذهني" هل الماهية بوصفها الصفات الذاتية هي عين وجودها أم أن الوجود صفة زائدة عليها؟ رغم قبلية البدهيات الذهنية فإن تفعيلها لازم لوجود الواقع الموضوعي، فبينهما تلازم من ناحية التفعيل لا من ناحية وجودها الذهني، من هذه المقدمة يُستنتج التساؤل السابق، ولقد تصارع الفلاسفة حول المسألة حتى رسى كثير منهم على أن الماهية في الخارج هي عين وجودها، وليس هذا مكمن الخطورة المتعلقة بموضوعنا إذ رغم التطابق بين الماهية والوجود في الخارج فإن الذهن يستطيع تصور ماهية لا حقيقة لها كتصور المعدوم وغيره، ومن هذا التصور الذهني يتدخل الوهم ويؤثر في تأمل الذات لأناها، وذلك أن التداخل بين الوهم الذهني وآلية الاختزال الإدراكي تشكل ما تظنه الذات تحققاً لها وتحكماً بمصيرها، وليس الأمر كذلك، لذلك فإن التعامل مع ما نريده أو ما نقدر عليه أبسط للنفس مما لا تستطيع تفهمه أو التحكم به، فالاختزال والتوهيم يقطع المسافة المتخيلة بين اللامفهوم/اللامقدور والمفهوم/المقدور بالنسبة إليها، إذ بين"فاهمة متناهية وإرادة لامتناهية"2" تتركز "السمة العامة في عدم تطابق الإنسان مع نفسه"3" ، فتطغى الإرادة على الفاهمة عن طريق الاختزال والتوهيم، فتريد ما تتوهم أنها تريده وبذلك تختزل أناها في مرادات تتماثل مع أنات أخرى ! ونجد عند روائي الأنا الإنسانية (ميلان كونديرا) مشكلة تأملية يسميها سياسة "الطرح والجمع" التأملي للذات، فكلما حاول الإنسان طرح ما هو دخيل عليه فلن يجد شيئاً أصيلاً في أناه، فهنا تكون "الأنا" آخراً متطفلاً، وكذلك الأمر في مفهوم الجمع، لذلك فإنه يُشير وإن لم يُصرّح لمفهوم "الضرب" فخاصيته التوليف والخلق، فالذات تأخذ وتضيف ثم تخلق وتصنع شيئاً لا هو "أنا" صافية ولا "آخراً" متطفلاً .

اللغة/الفخ :
-------------

عندما حاول فيلسوف اللغة لودفيج فتجنشتين في كتابه (رسالة منطقية فلسفية) مطابقة اللغة للواقع عند طريق تحليل اللغة لقضاياها الذرية الأولية ذكر أمراً مهماً جزئياً في الرسالة، وهو أن المعنى ليس مرتبطاً بقابلية الصدق والكذب الخارجي، فقد نتحصل على معنى لقضية ما قبل أن نعرضها على الواقعة الخارجية فنتأكد صدقها من كذبها بخلاف الوضعية المنطقية فقد ربطت المعنى بصدق وكذب القضايا فقعّدوا لقانون "التحقق التجريبي" كمعيار للمعنى، وهذا يستلزم أمراً لا أدري لما لم يتبع فتجنشتين لوازمه أثناء كتابته للرسالة ؟! لكنه في كتابه "البحوث الفلسفية" أدركه هو ولوازمه، ولعله هو الذي ضغط على فكره فجعله يتراجع عن بعض أفكار الرسالة وعلى رأسها عبارته الأساسية "الفكر هو الرسم المنطقي للواقع"، إذ كيف يكون الفكر رسماً للواقع وفي نفس الأمر ينتج معنى لا يخضع له؟ هذا تضاد واضح، والمتضادان لا يجتمعان، ومفهوم التضاد يشير لتنوع المتضادات ولا يحصرها كمفهوم التناقض . واللازم عن كون المعنى مستقل عن القضية الذرية أن اللغة ومن ثمة الفكر لا يمكن مطابقته للواقع كلياً حتى لو استطعنا إرجاع القضايا لذريّتها، ومن ثمة فإن عدم المطابقة تستلزم كمون إمكانية تنوعيّة للغة، إذ ما دام أن علاقة اللغة والواقع ليست تطابقية، فإن الجزء اللامطابق يتخلق وفقاً للسياق الذي ذُكر فيه، وبالتالي فإن اللغة تخلق صيغاً كثيرة لمعنى أو معاني متعددة، ولذلك تجد في البحوث الفلسفية فكرة "الإستعمال" السياقي للجملة، إن الممكنات الكامنة في اللغة قد تساعد على فهم تنوع وتكثر الوجود لكن قد تصنع أيضاً عوالم ذهنية لها واقع اسمي موجود فقط في اللغة لا خارجها، وبذلك تبقى بعض المشكلات الفلسفية ضحية لاستخدام اللغة وألعابها، وهنا تماماً يحل "التوهيم" كفعل لغوي بدلاً عن الحقيقة، إذن ليس الفكر رسماً للواقع على حقيقته بل إنه تشويه له أيضاً، إذ تلعب التحيُّزات الفكرية بكافة أنواعها دوراً في صنع الوهم اللغوي، وبذلك تحل الأوهام مكان الحقائق .

الذات فخاً لأناها :
---------------

اجتث الإنسان المعاصر جذوره وقطع صلواته هائماً بذاته في فضاء لا متناهي بإمكانات محدودة، فتحققت فيه (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِين َنَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ)، نسيان الذات فقدان للذاكرة، والذاكرة مأوى الألم، وبه تبقى التجربة الإنسانية مستحضرة في الذهن، تكون الذات فخاً لأناها حينما تتعمد نسيان آلامها، فتتهاوى دفاعاتها أمام الوهم الفكري واللغوي الذي تستغله الخطابات التسلطية المُشكِّلة للأيديولوجيات في غرس الأفكار التي تريدها، فتستخدمها الرأسمالية لنشر الاستهلاك، والسياسة لتصديق الدجل السياسي، والإعلام لصُنع الخبر والإشاعات، فتتشكل من هذا التوهيم الفكري/اللغوي ميثولوجيا شعبية وأساطير تنبع من آليات التخاطب والتفاكر، ولذلك فإن هذه البنية الفكرية/اللغوية التي ذكرتها أعلاه تمثل مفارقة تدعو للتأمل والتعجب بحق، فهي بوصفها تخلق وتصطنع عوالم لغوية وذهنية تشكل قوة فكرية للإنسان فمنها تنبع الرموز والأشكال الهندسية وغير ذلك، فإنها بقدر هذا كله تمثل أيضاً ضعفاً بنيوياً في التفكير الإنساني، إذ يستعمله الخطاب السلطوي لفرض التماثل كآلية ينحت بها الفكر/اللغة لتتفق مع غاياتها ومقاصدها، والتماثل أسُّ تكوين الطبع الإجتماعي بوصفه سلوك اللاوعي بخلاف التطبع الذي هو سلوك الوعي، وعلاقتهما مع بعضهما ديالكتيكية بالنسبة للذات المُدركة لأناها، إذ تتعامل معهما على أساس من إمكانية تجاوزهما إلى خلق سلوك آخر مزيجاً منهما وليس مثلهما، فغلبة السلوك الواعي على السلوك اللاواعي يستلزم استحضار منافذ التأثير وتجفيفها واستبقاء النفس في حالة حركة جدلية بين اللاوعي والوعي، وهذا أمر صعب إذ طبيعة اللاوعي زئبقية لا تكاد تمسك بها حتى تتفلت منك، أما غلبة السلوك اللاواعي على السلوك الواعي يستلزم سكون الذات وتماهيها مع أناها، فالوعي في هذه الحالة في غيبوبة إدراكية وغفلة واقعية عن مآلات أفعاله وعواقبها وهذا ما يصنعه أساطين التأثير والتلاعب على الجماهير . وتمثل هذه السمة البنيوية في الفكر واللغة الإنسانية تقاطعاً بين اللاوعي والوعي، لذلك يجد المتأملُ الدوال والمدلولات في حالة تماهي وتمازج كموني، ومشكلة الوهم/الفخ لا يتوقف عند إدراك مكمنه التجردي في العقل بل يمتد إلى الخطابات المذهبية والإعلامية والسياسية وغيرها وكيفية استغلالها له .

----------------------

"1" ميلان كونديرا ، رواية الخلود 15
"2" "3" بول ريكور ، الإنسان الخطّاء 26
--------------------------------------
المصدر: ملتقى شذرات

رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية

الكلمات الدلالية (Tags)
للأنا!, الذات, فخًا


يتصفح الموضوع حالياً : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
أدوات الموضوع

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


المواضيع المتشابهه للموضوع الذات فخًا للأنا!
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
عبودية الذات جاسم داود الملتقى العام 0 06-22-2013 04:29 PM
الأهداف وإدارة الذات Eng.Jordan الملتقى العام 0 03-13-2012 01:20 PM
تطوير الذات Eng.Jordan الملتقى العام 0 03-12-2012 12:45 PM
مللنا العار كسرا وانهزاما... بقلم الدكتور علي طوالبة الدكتور علي طوالبة د. علي طوالبة 4 01-20-2012 08:15 PM
10منارات في صناعة الذات احمد ادريس كتب ومراجع إلكترونية 0 01-09-2012 01:10 AM

   
|
 
 

  sitemap 

 


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 12:12 AM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.12 by vBS
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والمشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59