#1  
قديم 02-19-2012, 09:59 AM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,413
افتراضي المذاهب الأدبية لدى الغرب


تأليف :
عبد الرزاق الأصفر









حمل الدراسة من المرفقات


المذاهب الأدبية



لدى الغرب


- مع ترجمات ونصوص لأبرز أعلامها -







دراســــــــة







/////////////////


المحتويات
-------------

مُقـــــدّمــــة‏

المذهــــب الأدبيّ‏

المذهــب الكلاسّـــيكيّ‏

أعلام وملامح ونصوص‏

الرومانســـــــيَّة‏

أعلام وملامح ونصوص رومانسية‏

نصوص من الشّعر البرناسيّ‏

الفاتحون(1)‏

الرَّمزيّة Le Symbolisme‏

المرحلة الثانية (مرحلة النضج والقمة)‏

الواقعــــــيَّة Le realisme‏

الــــذَّهــــب(1)‏

الدَّادائية Dadaisme‏

المذهب الوجوديّ Existentialisme‏

ملامح الآداب الغربية



--------------------



مُقـــــدّمــــة


ما يزال موضوع "المذاهب الأدبيّة" حيّاً يستأثر باهتمام الأوساط الأدبية في مختلف أنحاء العالم، ويشكّل قاعدة أساسية لا غنى لأي مثقفٍ عنها، سواءٌ أكان من الاختصاصيين أم المبدعين أم المستنيرين الذين يلتمسون ضياء الثقافة وتكامل المعرفة. ونحن ما نفتأ نتحدث في معالجتنا أمور الأدب، عن الواقعية والرومانسية والرمزية والتقليد والتجديد والحداثة والمثاقفة وعلاقة الأدب بالفلسفة والفن والمجتمع والبيئة والأشكال والنماذج والتطور والاتجاهات، ونتحدث عن أعلام الأدب المتواصلة عبر الزمان والآفاق، كنهر تنعكس على صفحته الصافية كل ظلال الضفاف.. وهذا وسواه لا يخرج عن نطاق المذاهب ولا غَناء له عنها البتّة. فالمذاهب هي الحاضرة الغائبة، وهي تاريخٌ جوهري لأهم العطاءات الإنسانيّة الحضاريّة. وما التاريخ إلا سلسلة متواصلة وقوانين حركة، وتطوّر وتشابك، وماضٍ في الحاضر، وحاضرٌ في المستقبل.. وتتعاقب المذاهب كما تتعاقب الأمواج، كل موجة تدفع التي قبلها، وتدفعها التي خلفها. وكلّها في بحر واحد، ترتطم على شاطئ واحد، وتختلط أصداؤها وتتلاشى لتعود في أمواجٍ جديدة إلى الأبد، وما الأمواج إلاّ البحر في مظاهره وأسراره..
ولا يفْقَهُ الأدبَ ويقدّره حقّ قدْره من لم يكن ملّماً بمذاهبه وتطوّراته والعوامل المؤثرة فيه ومزايا كل مذهبٍ أو مرحلة، ومسوّغات نشوئها وتغيّرها.. إنها العموميات التي لا عِلْمَ إلاّ بها.
ولم تعد المذاهب الأدبيّة الغربية في القرون الخمسة الأخيرة مقتصرة على آداب الغرب بقدر ما أضحت معطياتها مائدة عالميّة مشتركة (فالأدب نتاج إنساني يخضع للشروط نفسها، ولئن اختلفت سماتها فهي تشترك حتماً في نواميس واحدة، وتتواصل فيما بينها وتتفاعل متبادلة التأثير والتأثر.
ونحن- العرب- أدنى شعوب العالم إلى أوربا، بحكم موقعنا الجغرافي وعلاقاتنا التاريخية والاقتصادية والثقافية، فلا مراء في أننا نشاركها التفاعل الأدبي أخذاً وعطاءً، وأن ما يجري هنا، أو هناك، سرعان ما تسري أصداؤه إلى الطرف الآخر..
وفي أدبنا الحديث معالم ومدارس تجد فيها الأصالة والاتباع إلى جانب التجديد المتأثر بما لدى الغرب من مذاهب، فقد قبسنا في العصر الحديث كثيراً من إشعاعات الآداب الغربية في جملة ما قبسنا من الأشكال الحضارية والثقافية والعلميّة، واطلع أدباؤنا ومفكرونا على الآداب الغربية، ومذاهبها وما كتب فيها من الدراسات إنْ بطريق الاتصال المباشر أو الترجمة والتأليف، وما تزال تدرّس في جامعاتنا ومعاهدنا ومدارسنا المدارس الأدبية الغربيّة ونوالي فيها التأليف والترجمة لتكون لنا عوناً في تفقه الأداب وضَوْءاً يكشف كثيراً من خصائص أدبنا الحديث والمعاصر والتيارات التي تجري ضمنه وتعمل فيه. فمما لا شك فيه أنا تأثرنا بالآداب الغربية تأثراً كبيراً دون إغفالنا معطياتِ الأصالة التراثيّة المستمرّة.
وما هذا الكتاب إلاّ محاولةٌ متواضعة في هذا المنحى التثاقفي إلى جانب المحاولات الأخرى التي سبقته. ولستُ أدعي فيه شيئاً من إبداعي وكشفي، ولكنه "تأليف" بين خلاصات أجنبيّة وعربيّة آلفُت به بين شتى المعارف المتحصلة، وأكملت بعضها ببعض متجاوزاً الحدود السابقة إلى حدود جديدة، وسلكتُ نهجاً بين الاختصار والتطويل، وجمعت بين النظر والتطبيق، وربطت بين المدارس وأعلامها ونتاجها مع الاهتمام بالمزايا الخصوصية ضمن المذهب العام، وأبرزت معالم الإنتاج الأدبي وإطاراته الزمانية والمكانية والاجتماعية، ومهدّت لكلّ مذهب بلمحة عن أسباب نشوئه وارتباطه بالمذاهب السابقة، فما من شيء يولد طفرة، ثم انتهيت بأسباب تلاشي المذهب وتمهيده لمذهب جديد، وبينت اختلاط المؤثرات المختلفة ضمن المذهب الواحد، وتباين ألوانه باختلاف أدبائه وهكذا جمعتُ في إطارٍ واحد بين التنظير النقدي والتاريخ الأدبي بشكل موجز رجوت منه أن يقنع ناشد الثقافة، ويوجّه سواه من الراغبين في الاتساع إلى طريق الاستزادة، وأحبّ الإشارة إلى أن معظم النصوص التي أوردتها هي من ترجمتي عن الفرنسية أما سواها فقد أشرتُ إلى المصدر الذي استعرْتها منه، وأني اعتمدت في المعلومات على كثير من الكتب العربية والفرنسية، وقد أشرت إلى المصدر فيما وجدت فيه خصوصية من الرأي، أما ما شاع وعرف فلم أجد داعياً إلى ذكر مصدره. وقد حاولت أن أضيف الجديد إلى المألوف واستدرك النقص وأقتطف قدر الإمكان ما جدّ من الكشوف والآراء.
وحرصتُ على أن أُصنّف كلّ بحث في فقرات وعنوانات واضحة المعالم، ولا تخفى على القارئ هذه الطريقة المناسبة للطرائق المدرسية الميسّرة.
وإنني إذ لا أدعي غيرَ جُهد الجمع والاختيار والتأليف والتنسيق لأرجو أن أكونَ قد وُفقت إلى صنع كتاب يجمع بين الفائدة والمتعة وبين النظر والتطبيق ويربط بين المراحل والمذاهب بسلسلة التطور المتواصلة ويكشف عن الأسباب والعلل والمؤثرات والنتائج بفكر مرتّبٍ وأسلوب واضح، ولعلّ القارئ يجدُ فيه نزهة ثقافية لطيفة في شِعاب المعرفة الأدبيّة، تزيد من وعْيه لطبيعة الأدب وآفاقه، فتكون للدارس خير معين وللمبدِع خير منوّر ودليل.
عـــــبد الــــرزاق الأصفــــر
1998




المصدر: ملتقى شذرات

الملفات المرفقة
نوع الملف: zip 261-A-A1.zip‏ (222.1 كيلوبايت, المشاهدات 15)
__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
  #2  
قديم 02-19-2012, 10:01 AM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,413
افتراضي


المذهــــب الأدبيّ


1-المصطلح:

المذهب الأدبيّ أو المدرسة الأدبيّة جملةٌ من الخصائص والمبادئ الأخلاقية والجمالية والفكريّة تشكّل في مجموعها المتناسق، لدى شعب من الشعوب، أو لدى مجموعةٍ من الشعوب في فترة معيّنة من الزمان، تيّاراً يصبغ النتاج الأدبيّ والفنيّ بصبغة غالبة تميّز ذلك النتاج عما قبله وما بعده في سياق التطوّر. ويشمل المذهبُ كلّ أنواع الإبداع الفنيّ كالأدب والموسيقا والرسم والنحت والزخرفة والأزياء والطرز المعماريّة فهو حصيلة فلسفيّة تبلور نظرة الأمة إلى العالم والإنسان، وموقفها وهدفها ومصيرها وبالتالي طرائق تعبيرها الفنيّة.
2-نشأة المذهب:

لا يجري الإنتاج الأدبي والفنيّ بمعزلٍ عن المجتمع والبيئة، والمبدع محكومٌ، إلى حدٍ بعيد، بمحيطه الذي يعيش فيه، ويكوّن جزءاً منه يبادله التفاعل أخذاً وعطاءً، وتأثّراً وتأثيراً، فهو يتأثر بالطبيعة التي تحيط به وتفعل في تكوين صوره ورؤاه ونشاطه وتختلف معطيات الطبيعة باختلافها وتنوعها: فهناك البحار الصاخبة والجبال الجبارة والغابات الغامضة والأنهار المتدفقة والسماء الغائمة الراعدة والرياح المزمجرة.. وهناك الصحارى الساكنة والرمال الممتدّة تحت لهيب الشمس الساطعة والسماء الصافية والليالي الساجية ذات النجوم البراقة.. وإنّ هذه البيئات تختلف حتى في الألوان والظلال والأحاسيس والروائح. ويستدعي اختلافها اختلافاً ضرورياً في الواقع البشريّ من حيث التكوين الجسديّ والطباع وضروب المعيشة والنواحي الذوقيّة والرؤى الفكرية والفنيّة، واللغة وضروب التعبير. وإنّ انتقال الإنسان من بيئةٍ إلى أخرى لا يمحو آثار الأولى بل يجعلها في حوار جديد مع معطيات الثانية تتكون منه رؤى وانعكاسات جديدة متميزة.
ولا يقف الأمر عند تأثيرات الطبيعة، فهنالك ما هو أكثر أهميّة، هنالك البيئة البشرية بكل ما تعنيه من السكون أو الاصطخاب، والتجانس أو التشعّب، والتنوع والتقلّب.. ولا يستطيع المبدع، وهو خليّة من المجتمع، أن يتملّص من آثاره أو يجمُدَ عند تغيُّره. إن البيئة البشرية تعني الثقافة والحضارة وطرق المعيشة والمسكن والملبس والحالة الطبقية والإنتاج الاقتصادي والتقاليد والعادات والأذواق والعلوم والفنون والعمران والحياة الفكرية والشرائع والأشكال السياسيّة. والتمازج بين الشعوب وتلاقح الحضارات والانتصارات والهزائم والاستقرار أو الاضطراب.. وما إلى ذلك من الظروف الاجتماعية ذات التأثير الأكيد على الإنسان عموماً والمبدعين ونتاجهم خصوصاً. وبالمقابل تخضع هذه البيئة لتأثير المبدعين فيها، فالتفاعل بينهما متبادل بل يُعَدّ العاملُ الفكريّ والفنّي من أبرز أسباب التغيير الاجتماعي.
ومن هنا انطلق المذهب التاريخي النقدي الذي عُني بدراسة البيئة ومدى تأثيرها في الآداب والفنون وتأثرها بها ودلالة هذه الإبداعات على ملامح البيئة وتصويرها لتياراتها الخفيّة والظاهرة وإرهاصاتها المستقبليّة. يقول طه حسين في دراسته الأولى للمعري "إن الرّجل وماله من آثار وأطوار نتيجةٌ لازمة وثمرة ناضجة لطائفةٍ من العلل اشتركتْ في تأليف مزاجه وتصوير نفسه.. والخطأ كلّ الخطأ أن ننظر إلى الإنسان نظرتنا إلى الشيء المستقل عما قبله وبعده، الذي لا يتصل بشيء مما حوله، ولا يتأثر بشيءٍ مما سبقه أو أحاط به".
وهذا لا يعني أن المبدعين يتماثلون في طبيعة موقفهم من البيئة تأثيراً وتأثراً، بل يعني طابعاً عاماً يشملهم، فيطبع معظم نتاجهم ونتاج معظهم بصبغةٍ معيّنة هي صبغة العصر، مع احتفاظ كل منهم بخصوصيته وفرادته. ومن هذا التأثير البيئي العام يتكوّن بشكل عفوي، على صعيدي الممارسة والإنتاج "مذهب" لا تتضح معالمه أول الأمر ولا تلحظ قواعده، بل يحتاج إلى مرور عشرات السنين حتى يأتي الدارسون والنقاد والمنظرون الذين يتأملون تلك الظاهرة وأسبابها وتجلياتها وتطورها ثم يخلصون إلى استخلاص قواعدها وفلسفتها وتحديد معالمها وأعلامها ومصطلحاتها وظروفها المكانية والزمانية، وتأثيرها وتأثرها.. فإذا بمدرسة نقدية كاملة تنشأ حول هذا المذهب أو ذاك..
إنّ "المذهب" تكوّنٌ جماعيّ لا يقتصر على فردٍ واحد بل يشمل عدداً كبيراً من المبدعين جمعت بينهم ذوقيّة واحدة وأمزجة متشابهة لوقوعهم تحت تأثير مناخ بيئي عامٍ.. ولهذا دُعيت الرومانسية "مرض العصر" تشبيهاً لها بالجائحة.
والمذهب لا يأتي فجأة فينسخ ما قبله، ولا يزول فجأة أمام موجة مذهبية جديدة، بل يتكون تدريجياً حيث تتعايش آثار المدرسة السابقة والمدرسة الراهنة، ثم تزول الآثار القديمة رويداً رويداً كما يضمحل ضوء النهار أمام زحف الليل، ثم لا يلبث المذهب أن يتلاشى تدريجياً أمام مدرسة لاحقة. وتتزامن آثار المدرستين لدى كاتب بعينه، في بعض الأحيان، أو لدى عددٍ من الكتاب والمبدعين في فترة واحدة. وقد يكون للمذهب بعد انطوائه عودة بملامح جديدة - بل قد توجد في وقت واحد ملامحُ لمدارسَ عديدة، كما هو الأمر في الأدب العربي الحديث حيث تشاهدُ معاً اتجاهات المدارس التقليدية والإبداعية والرمزية والواقعية. والسبب في ذلك اختلاف الشروط الخاصة التي يخضع لها كلٌ من الأدباء والمبدعين كتنوع الظروف والثقافات والأيديولوجيات والمستوى الحضاري والتفاعل مع التيارات الجديدة أو الغربية، وسرعة تطوّر الأديب أو تباطؤه في الاستجابة والتلاؤم واختلاف المواهب والمزايا الفردية. وأخيراً إنها سُنة التطور الطبيعي التي تنافي المفاجأة والطفرة، وتخضع لقانون الفعل وردّ الفعل.


q



المذهــب الكلاسّـــيكيّ
"الاتباعـــي"



1-التعريف والاصطلاح:

المذهب الكلاسيكيّ classicisme أول مذهب أدبيّ نشأ في أوربا في القرن السادس عشر بعد حركة البعث العلميّ. وقوامه بعث الآداب اليونانية واللاتينية القديمة ومحاولة محاكاتها، لما فيها من خصائص فنية وقيمٍ إنسانية. ولدى العودة إلى هذه الآثار القديمة أخذ العلماء يحللونها ليستنبطوا مبادئها وخصائصها التي ضمنت لها الخلود، وذلك إمّا بالتذوق أو بالتحليل المباشر، أو بما كتبه المنظرون القدماء أمثال أرسطو في كتابيه "الخطابة" و"الشعر" وهوراس في قصيدته المطولة "فن الشعر".
أما لفظ "كلاسيّك" فهو مصطلح عائم المعنى، قليل التحديد، وعلى الرغم من شيوعه لا يمكن ربطه بزمن دقيق ومكان معيّن وخصائص حاسمة، لكنه يَعني بشكلٍ عام كلَّ عملٍ عظيم وجميل، خضع للتطوير والتكامل سنين طويلة حتى بلغ غاية الإتقان. وبتعبير آخر، يعني كلَّ عمل أجمعت العصور على جماليّته. وهذا التعريف، كما ترى، يوقع في كثير من الارتباك والتشويش والتعارض.. وإذا شئنا الاقتراب من المفهوم الشائع للمذهب قلنا: إن الكلاسيكية هي التعبير عن الأفكار العالية والعواطف الخالدة بأسلوب فنّيٍ متقنٍ روعي فيه النظام والدقة والابتعاد عن كل ما هو غريزي وبدائي وغير منضبطٍ بقواعد وقوانين.
ولم يظهر هذا الاصطلاح إلاّ في القرن التاسع عشر، فأول ما ظهر في إيطاليا عام 1818 ثم ما لبث أن شاع في أقطار أوربا خلال مدة لا تزيد عن عشرين عاماً. هذا في مجال الدراسات والنقد، أما في مجال الممارسة فقد كان الاتجاه موجوداً منذ القرن السادس عشر، بل قبله، لكنْ دون استعمال كلمة الكلاسيكيّة.
أما اشتقاق المصطلح فيعود إلى لفظ "كلاسّ Classe" ويعني الصّنف، أو الصفّ في المدرسة. وكان لفظ "كلاسيك" يعني الشيء المدرسيّ، أو يُطلق صفةً للأديب الذي تدرّس آثاره في الصفوف والكلّيات، كالأدباء المرموقين الذين كان ينظر إليهم في القرن الثامن عشر على أنهم نماذج عالية جديرة بأن يحتذيها الجيل الجديد. وبذلك تطورت دلالة كلمة "كلاسيك" فأصبحت تحمل معنى الأفضل والأكمل والممتاز، أي إن الأدباء المذكورين كانوا يعتبرون منتمين إلى طبقة كبار الشعراء اليونانيين واللاتينيين. ثم تطوّرت هذه الدلالة فأصبحت عَلَماً على مذهب معيّن، أو أسلوب، أو مدرسة لها سماتٌ شاملة، لكنها تسمح بوجود تنوعات واختلافات في داخلها وكانت مدام دوستايل M.me de staél الناقدة الفرنسية الألمانية من أوائل من أوضح سمات هذه المدرسة وذلك في كتابها: "من ألمانيا De l,allemagne"
ولا بد من الإشارة إلى أن الاتجاه الكلاسيكيّ كان في نشأته وتطوّره مرتبطاً بالأنظمة التقليدية والطبقة الأرستوقراطية والسلطة الملكية المطلقة، لأن هذه الجهات كانت، في أذواقها، تنشد الشيء الأكمل والأجمل. ولذلك كان الفرنسي العظيم فولتير المتوفى عام 1778 يعلن بصراحة انتماءه إلى عصر لويس الرابع عشر (1661-1685) وقد أكد في مؤلفاته أن الحضارة الارستوقراطية لا بد أن تستتبع نوعاً من الكلاسيكية بدرجة ما.
2-الجذور:

يمكن القول إن جذور الحركة الكلاسيكية ظهرت منذ القرن الثالث عشر في إيطاليا مع ظهور أدباء كبار منهم دانتي شاعر إيطاليا العظيم بل أشهر شعرائها في القرنين الثاني عشر والثالث عشر. وهو مؤلف "الكوميديا الإلهية" التي بسط من خلالها نظريته الشعرية الاتباعيّة. ومنهم بترارك الشاعر الذي عاش في القرن الرابع عشر وكان أول من كتب باللغة الإيطالية، واشتهر بالدعوة إلى إحياء التراث والدراسة والتنقيب في آداب الأقدمين (اليونان واللاتين). ومنهم أيضاً الشاعر بوكاشيو (القرن الرابع عشر) الذي درس اللغة اليونانية وأتقنها وتفهّم آدابها ولكنّه آثر الكتابة باللغة الإيطالية، فأغناها، وجاءت على يديه لغةً للأدب الرفيع، وألّف منها كتابه (الديكاميرون) وهو مجموعة من الحكايات النثرية التي تصور المجتمع الإيطالي.
ولما سقطت القسطنطينية في يد السلطان محمد الفاتح عام 1453 فرّ العلماء اليونان بمخطوطاتهم إلى إيطاليا، وأخذوا يعلّمون في جامعاتها وينشرون ما حملوه من النفائس في العلوم والمعارف والآداب، وساعدهم في ذلك انتشار الطباعة التي يسرّت نشر المؤلفات.
3-الــــبزوغ:

بعد هذه الممهدات السالفة الذكر بدأت بوادر الاتجاه الكلاسيكي تظهر في القرن السادس عشر وبوجه التقريب فيما بين عامي 1515-1610.
هذه الفترة التي يطلق عليها في العادة اسم "عصر النهضة". وتعبّر هذه التسمية عن يقظة الآداب والفنون في القرن السادس عشر. وكانت النهضة أمراً ضرورياً لا بدّ منه. فقد أسفر القرنان الثاني عشر والثالث عشر عن حركة أدبية مزدهرة، ولكن هذا الازدهار ما لبث أن كمد ومال إلى الانحدار في القرن الرابع عشر، ومع الحروب الفرنسية الإيطالية جرى بين القطرين احتكاك حضاري أفضى بالفرنسيين إلى العودة لدراسة النصوص اليونانية واللاتينية وفهمها على نحو أفضل، وساعد على إنجاز هذه الحركة أمران: الطباعة والإصلاح البروتستانتي، مما شجع على تطور النزعة النقدية بسبب المناقشات الفلسفية والدينية.
وبدءاً من القرن السادس عشر ينتقل مركز النشاط الكلاسيكي من إيطاليا إلى فرنسا. صحيح أن الكلاسيكية عمت أوربا ولكنها كانت في فرنسا أكثر وضوحاً وبهاءً، وباللغة الفرنسية ظهر أشهر الأدباء الكلاسيكيين، ولذلك سنعمد إلى استقراء نتاجها في الأدب الفرنسي كنموذج بارز للاتجاه الكلاسيكي الأوربي، كان له إشعاعُه القويّ على مجمل الرقعة الأوربية والعالمّية.
4-بواكير الكلاسيكية الفرنسية:

يمكن تقسيم الشعر الكلاسيكي الفرنسي في القرن السادس عشر إلى ثلاثِ مراحل أو بالأحرى إلى ثلاث مدارس كانت كلٌ منها معلماً بارزاً أفضى إلى ما يليه في سلسلة متتابعة الحلقات.
آ-مدرسة الشاعر كليمان مارو: C.Marot(1407-1544):

وكانت آثاره جسر عبور من القرون الوسطى إلى النهضة. وكان هذا الشاعر في أول الأمر يُعنى بالبلاغة التقليدية، ثم ما لبث أن تحوّل شاعراً مؤرخاً لدى البلاط. وتتميز أشعاره بالتنوع والوضوح ودقة التعبير وكان مثله المفضل الشاعران فيرجيل وأوفيد، وقرأ بترارك باللغة الإيطالية، وكتب باللغة الفرنسية فأغناها بالمفردات واحترم نحوها فجاءت في أشعاره نقية رشيقة صالحة للتعبير اللطيف عن المشاعر المعتدلة. وتعدّ قصيدته التي أرسلها من السجن إلى صديقه ليون Lyon في عام 1526 نموذجاً لهذا الشعر. كانت منظومة شعرية لطيفة تتضمن قصة الأسد والجرذ التي أُثِرتْ عن الحكيم اليوناني إيسوب. وكان يرمي فيها بشكل غير مباشر إلى حث هذا الصديق ذي النفوذ للسعي لإطلاق سراحه. وهذا ما حصل فعلاً. وقد اقتبس لافونتين فيما بعد هذه القصة ليجعل منها حكاية من أجمل حكاياته الخرافية. وتتميز قصيدة مارو بالأسلوب القصصي الحواري البسيط والسّهل الممتع مع بعض التلاعبات اللفظية البلاغية كالتورية والجناس.
ب - مدرســـــة ليون:

كانت مدينة ليون في القرن السادس عشر عاصمةً ازدهرت فيها الآداب والفنون وانتشرت فيها الطباعة، فنافست باريس، وكانت أكثر تأثراً بإيطاليا لقربها منها، فبرز منها أدباء عديدون تركوا في الاتجاه الجديد أصداءً قوية مثل أ. هيروويه A Heroét وموريس سيف M. Sèeve والسيدة لويز لابيّه L.labbé وعاشوا جميعاً في أواسط القرن السادس عشر شعراء غير بلاطيين. وقد مهدوا بأساليبهم الطريق لرونسار وجماعة الثريا الذين كانوا يقدرونهم حق التقدير وتابعو الطريق من بعدهم، ولا سيّما في الابتعاد عن الطابع العلمي والقيود اللغوية والعروضية والبلاغية والميل إلى الفكر والعاطفة، وتفضيل اللغة المحليّة مع مراعاة البساطة والوضوح.
جـ- رونسار وجماعة الثريّا La Pléade:

برزت هذه الجماعة في أواسط القرن السادس عشر، واستمرّ نشاطها إلى نهايته. وأعضاؤها هم: (رونسار Ronsard ت 1585، ويواكيم دوبيلي ت 1560 وريمي بيللو ت 1577، وأنطوان دو باييف ت 1530 وبونتوس دوتيار ت 1603 وجوديل ت 1660 وجان دورا ، ت 1588) وتبعهم شعراء آخرون غير أن هذه المجموعة الشابّة المتحمسّة لم تأتِ بكشفٍ نقديٍ جديد ولا بتغيير منهجي مفاجئ يُحدِث تحولاً جذرياً في الشعر، بل تعتبر مرحلةً من النضج والجهد المنظم لاتجاهٍ شعريٍ عام وقد نجحوا في استيعاب المعطيات التطورية البطيئة التي جرت خلال نصف قرن مضى. ويمكن تلخيص مبادئ هذه الجماعة في النقاط الآتية:

1-إن اللغة الفرنسية أضحت قادرة على منافسة اللغات القديمة والتعبير عن شتى الأفكار والأحاسيس في شتّى الأنواع الأدبيّة والأساليب، ولاجل ذلك لا بدّ أن يعمل الشعراء لإغنائها بالمفردات والارتقاء بها، سواءٌ بالترجمة أو التقليد، أو بإدخال الأنواع الأدبية العظيمة القديمة إلى مجالها الإبداعي. وملاكُ الأمر الإيمان باللغة الفرنسية وإمكان استبدال مفرداتٍ فرنسية مكان الكلمات اللاتينية التي كان يلجأ إليها بعض الشعراء بحجة أن اللغة الفرنسية قاصرة عن إمدادهم بالكلمات البديلة. ولذلك كان رونسار يؤكد دوماً ضرورة نبذ الكلمات القديمة والبحث عن لغة فرنسية كاملة. يقول في مقدمة ملحمته "الفرنسياد": "إني أنصحك بالاستفادة من كلّ اللهجات على السّواء، وبعدم استعمال كلماتٍ قديمة". بينما كان ماليرب يدعو إلى الاقتصار على اللهجة الفرنسية السائدة في جزيرة فرنسا Ile de France ، وهي المناطق الواقعة في الوسط والشمال الغربي من فرنسا المحيطة بنهر السين: أما لافونتين وفينيلون ولابرويّير فكانوا منحازين إلى الكلمات الفرنسية، ولكن دون جدوى.
ودعا رونسار في كتابه (فن الشعر) إلى تبني الكلمات التي يستعملها الحرفيون كالحصّادين والحدادين والصاغة والبياطرة وعمال المناجم وإلى اختراع كلماتٍ جديدة سواءٌ بالمزج بين مفردتين لاستيلاد دالٍ جديد مثل كلمة (حلْومرّ Doux-amer) لما هو في المذاق بين بين، أو باشتقاق كلمات جديدة بإضافة بعض المقاطع إلى النعت أو بصيغة التصغير أو بتحوير الكلمات اللاتينية واليونانية وإخضاعها إلى اللفظ الفرنسي (الفرنسة).. وقد طبق رونسار هذه الوصايا في آثاره الأدبية، إلا في أحوالٍ نادرة معدودة.
2-التجديد في النحو، لأن لغةً جديدة لا بد لها من نحو جديد
3-إدخال الأجناس الأدبية العظيمة المعروفة في الآداب اليونانية واللاتينية كالترجيديا والكوميديا والملحمة والنقد إلى مجال اللغة الفرنسية
4-استخدام المعطيات الأسطورية التي بقيت في الشعر الفرنسي إلى عهد شاتوبريان.
5-تجديد إيقاعات الشعر الفرنسيّ وتطويرها ولا سيما الشعر الغنائي وابتكار أوزان جديدة.

وإذا شئنا تحديد الموقع الأدبي لرونسار كنموذج للشعر في هذه الفترة قلنا إنّه من الوجهة الكلاسيكية متعلق بالثقافة القديمة وتقليد القدماء في الموضوعات والصور والمعالجة إلى درجة انعدام فرديّته. فالحب في شعره ليس حبّه الخاص، ولا تجربته الفردية بل هو الحب العام كما يفهمه معاصروه وأسلافه الذين نسج على منوالهم ولا سيما الإيطاليون.
ومن جهة أخرى ظل رونسار محافظاً على نظرية الأجناس الأدبيّة والأسلوب الخطابي والتعليمي الذي يتجه إلى العقل ويؤثره على العاطفة.
ولكن رونسار لم يقف عند هذا الحدّ بل خطا في الشعر خطاً جديدة وذلك باتجاهه أحياناً نحو العاطفة والخيال والجوّ الحزين مما يذكرنا بلامارتين كما تميز أسلوبه بالغزارة والتنوع والتلوين والجرأة اللغوية والانسياق مع الحماسة الشعرية دون روّية وحسن اختيار.. مما يعدّ في نظر النقاد ومؤرخي الأدب جذوراً للمدرسة الرومانسية التي بزغت فيما بعد الكلاسيكيّة.
د - تجديد ماليرب F.Malherbe (1555-1628).

يُعَدُّ ماليرب أمّةً وحدَه. فقد كان بنفسه مدرسة واضحة المعالم أثّرت في تجديد الشعر وتحديد معالمه في مستهلّ القرن السابع عشر، وكان حلقة اتصال بين جماعة البلياد والأدب الكلاسيكي العظيم في القرن السابع عشر. لم يؤيّد اتجاهات رونسار وجماعة البلياد، بل انتقدهم بشدة في كتابه "الفن الشعريّ" وهو الذي سار بالشعر الفرنسي إلى الصفات الوطنية الفرنسية الأصيلة. وله في موسيقا الشعر آراء إيجابيّة، فقد سخر من طريقة رونسار، وجاء بشعرٍ جميل الإيقاعيّة. وكان يرفض التقليد المبالغ فيه للقدماء على الرغم من تضلّعه في الآداب القديمة وترجمته بعض الآثار اللاتينية إلى الفرنسيّة، ولم يكن يرى مانعاً من الاقتباس من أفكار القدماء، لا من تقنيات التعبير وأساليبه، لأن هذه -كما يقول- منوطةٌ بالزمن وكان يُجانب التراث اليوناني ويتجه صوب التراث اللاتيني، لأنه أكثر تعويلاً على الفكر، وأقرب إلى العبقرية الفرنسية، وباختصار: إن أدب ماليرب هو أدب العقل والفكر وموضوعات الساعة لا أدب الخيال والرمز. يؤثر السهولة والوضوح والمنطق ويعوّل فقط على اللغة الفرنسية كما هي لدى أعمق الطبقات الشعبية، لا على اللهجات البروفانسية، فحسب، وإنما كان يتجه صوب اللغة الشعبية لتمده بالمفردات الفرنسية أمّا القواعد فقد بقيت عنده أصيلة نقيّة.

أما أسلوبه فكان قدوةً لموليير وراسين مع احتفاظ مقلّديه بطابعهم الشخصيّ. ولشدّة تأثيره في المدرسة الكلاسيكية قال عنه بوالو: "وأخيراً جاء ماليرب..!" ويقول إميل فاكيه عن الأدب في الثلث الأول من القرن السابع عشر: "إنه كان أدباً رومانسياً ولا سيّما في الشعر حيث يسود الخيال والنزوة والفانتازيا.. وفي هذا الوسط يبدو ماليرب منعزلاً، ليس له من الأتباع إلاّ واحد أو إثنان، وهم بدورهم شديدو الاستقلال، ومن أغرب الأمور - وذلك يحدث في الأدب أحياناً- أن نرى ماليرب قد أصبح مدرسة ذات شهرة واتساع، ولكن بعد وفاته بأربعين عاماً"
العصر الذهبيّ للكلاسيكية

بلغت الكلاسيكية الفرنسية بعد ماليرب ذروتها في النصف الثاني من القرن السابع عشر. وتقسم هذه الفترة إلى قسمين: أولهما فترة الإزدهار من 1660-1688 والثاني فترة الانتقال من 1688-1715.
أولاً- فترة الازدهار:

وقد أسهمت فيها عوامل وظروف عديدة أبرزها:
1-رعاية لويس الرابع عشر الذي كان ملكاً قوياً، حصر السلطات كلها بيده. وهو الذي قال قولته المشتهرة: "أنا الدولة" وفي عهده ازدهرت الصناعة والزراعة والتجارة والنظم الإدارية والاقتصاد، واهتم بتقوية الجيش والبحرية، وخاض حروباً كثيرة مع جيرانه حاز فيها انتصارات كثيرة، ولكنها آلت في النهاية إلى إضعاف فرنسا وضعضعة اقتصادها وتبديد ثرواتها وألحقت المآسي والآلام بالشعب الفرنسيّ.
عرف لويس الرابع عشر برعايته الآداب والفنون والعلوم مادّياً ومعنوياً وتقريبه الأدباء الكبار ومنحهم المسكن والمرتبات، ولذلك بلغت الحركة الأدبية في عهده أوج الازدهار، فظهر في المسرح كوريني وراسين وموليير وفي الشعر والنقد بوالو وفي الحكايات لافونتين وفي النقد لابرويير، وفي الفلسفة ديكارت وباسكال، وفي الخطابة فينيلون وبوسوييه، وفي التاريخ سان سيمون، وغير هؤلاء عديدون، وبرز عددٌ من الفنانين والنحاتين والمعماريين والعلماء والممثلين. ورعى الأكاديمية وافتتح المعاهد والكليات وأنشأ المكتبات.. وأعادَ للعبقري اعتباره واحترامه.
2-جمهور النخبة المثقفة وكان يتألف من الحاشية الملكية ورجال الحكم والبلاط- ومن الطبقة البورجوازية:
آ- البلاط الملكي: كان لويس الرابع عشر يختار حاشيته من النبلاء. وكان هؤلاء يتنافسون في التقرب منه وخدمته وابتغاء رضاه ويبذّرون أموالهم للظهور بالمظهر اللائق، وسرعان ما يفضي بهم التبذير إلى الإفلاس والافتقار، فيعيشون منتظرين إحسان الملك وهكذا يزداد سلطانه رسوخاً بضعف نفوذ من دونه. وقد وجد الأدباء في البلاط والحاشية جمهوراً مشجِّعاً، فثّم الثقافة والذوق والتشجيع والكرم والتنافس في المظهر الثقافي الراقي. وتألقت في هذا المحيط سيداتٌ ذكيات على جانب من الثراء والثقافة والذوق، كن يشاركن في القضايا السياسية والمناقشات الدينية، ويفتتحن الصالونات الأدبية في بيوتهن.. وإليهن يُعزى تشجيع كثير من الأدباء والارتقاء بفن المحادثة الرقيقة التي تتميز بالذكاء والحساسية والإرهاف مع لطف الكناية والتورية والإيجاز مع العمق.
والحقيقة أن فرساي واللوفر وسواهما من القصور لم تشهد أفضل من هذا الجمهور برجاله ونسائه وسياسييه وأدبائه وعلمائه وفنانيه من حيث المستوى الثقافيّ والمقدرة على الفهم والنقد والتذوق، والتحلي برعاية المبدعين وتشجيعهم.
ب- الطبقة البورجوازية: انتشر العلم في هذه الطبقة التي برزت في مجتمعات المدن ولا سيما العاصمة. وبينما كان النبلاء يفلسون الواحد تلو الآخر، كان البورجوازيون يزدادون غنىً ويسراً، فكانوا يعلّمون أبناءهم في أفضل المدارس وعلى يد خيرة الأستاذة والمربين، فيتخرجون في الكليات الجامعية أو في معاهد اليسوعيين مزودين بالمعرفة العالية، ثم يبحثون عن منصب في الدولة، لائقٍ بهم يشترونه بالمبالغ الكبيرة، وقد كانت هذه الطبقة تجمع إلى جانب الثراء، الإقبال على الأدب وتشجيع الأدباء والتنافس في اجتذابهم، مما جعل منهم جمهوراً آخر يضاف إلى جمهور البلاط والنبلاء، يُحْسن تقدير الانتاج الكلاسيكي الرفيع، ويشجع أصحابه ويحرص على الظهور في الأوساط الأدبيّة وفي المقاعد العالية في صالات العروض المسرحيّة.

3-التأثيرات الخارجية:

تتلخص هذه المؤثرات بالعوامل الآتية:
1-المجادلات والمناظرات الدينية بين أصحاب الاتجاهات البروتستانتية والكاثوليكية والجانسينيّة والصوفية. وقد برز أثر ذلك في أدب الخطباء مثل بوسُّوييه وفينيلون ولدى أمثال راسين وبوالو.
2-الدمار والضعف في بنية الدولة في أواخر حكم لويس الرابع عشر من جراء الحروب والكوارث التي لحقت بالشعب، مما ترك أصداءً مأساوية عميقة لدى الكتاب أمثال فينيلون ولا برويير، ومهد بالتالي لظهور الرومانسية.
3-الآداب الأجنبية: أثرّ الأدب الإيطالي في الأدب الفرنسي الكلاسيكي، في النصف الأول من القرن السابع عشر (تأثير لاتاسّ) وقلّد كوريني ومعاصروه الأدب المسرحي الإسباني (تأثير سيرفانتس ولوبي دي فيغا وكالديرون) وبقي أدباء الملهاة الفرنسيون يقلدون الملهاة الإسبانية حتى نهاية القرن السابع عشر. ولكنهم سرعان ما تخلصوا من هذه المؤثرات التقليدية منذ عام 1660 إلاّ في القليل النادر، فموليير مثلاً بدأ بتقليد الطليان ثم قلد الإسبان في مسرحية (دون جوان) وفيما عدا ذلك كان فرنسياً بكلّ معنى الكلمة. أما لافونتين فقد قلّد خرافات الأقدمين (إيسوب).
أما الناثرون الكبار فلم يتأثروا بأي صدى خارجي.
خصائص الكلاسيكيّة

1-التعويل على الحقيقة أو ما يشببها:

وهذا يعني الاقتراب من الواقع والابتعاد عن نزوات الخيال والوهم وهذيان العقل مهما تعاظمت فينا مناطق القلق الخفيّ. فالحقيقيّ وحده هو الجميل، وهو الطبيعيّ. إنه الطبيعة النفسيّة العامة والمختارة في آن واحد. فالعمومية لأن العمل الفنيّ يتجه إلى جميع الناس القادرين على التفكير والتصوّر والإحساس، والاختيار لأن الاستثناء والعظمة اللذين يوجدان غالباً في الطبيعة مناقضان للحالة العامة. ونحن لا نصل إلى العام إلا عن طريق الواقع الخاصّ المنتقى وهو في أغلب أحواله نفسيّ نموذجيّ. والأدب الكلاسيكي سيكولوجي لأنه يهتم بداخل الإنسان، أما الإطار الخارجيّ فليس أكثر من زينة لا يُعطىَ وصفُها إلاّ أقل مقدار كما في تحليلات لافونتين. والغاية من هذه السيكولوجية البحث عن الملامح المشتركة التي يلتقي عندها البشر في كلّ العصور.
ومع ذلك لا ينفي الناقد بوالو الاهتمام بتصوير الطبيعة الخارجية تصويراً بديعاً إذا حذفت الملامح الخاصة جداً.
والحقيقيّ وحده هو الممتع والمحبوب، ولما كان هدف الشعر ليس التثقيف والتعليم والبرهنة، بل الإمتاع، فالطبيعة وحدها هي الشيء الممتع، وكل مصطنع مقيت. ولم يكن المجتمع المصطفى في القرن السابع عشر يحتمل الجليل الدائم ولا الواقع التافه المنحطّ بل كان يؤثر أن يشاهد نفسه في مرآة التحليلات والإبداعات الأدبية التي تقدم إليه، ولا يريد أن يقع تحت سيطرة الأمور الغريبة والنادرة والاستثنائية.
2-العقلانية:

إذا كان الأمر كذلك، فما معيار الحقيقيّ أو الطبيعي أو ما يشبههما؟ إن عقلنا وحده هو الحكم الموجّه، وبه نستطيع التمييز بين الحقيقي والمزيف والنسبيّ والمطلق والخاص والعام. وهو الذي يمنعنا من أن ننساق إلى نزوات الخيال والأمور غير الواقعية والمبالغة في التعبير عن آلامنا وأفراحنا. ومن هنا غابت الغنائية المعتمدة على الخيال والأحلام والعواطف القويّة.
إن العقل مرادفٌ للحسّ السليم تقريباً. وهو الملكية المشتركة بين كل الأشخاص في جميع الأزمنة والبلاد، التي تعتمد في أحكامها على ما هو شاملٌ وبسيط في الطبيعة الإنسانية.
3-تقليد القدماء:

رأينا أن الأدباء قبل القرن السابع عشر كانوا ينظرون إلى قدماء اليونان واللاتين نظرة احترام وتقديس، ويعدونهم الأساتذة الشرعيين في الأجناس الأدبية كلها. وقد أكد ذلك ماليرب وبلزاك وكتّاب المأساة الكبار، وبلغ تقديس القدماء أعلى درجاته عند راسين ولافونتين وبوالو. أما موليير فقد بقي أكثر استقلالاً منهم.


ويرى بوالو أن تكوين الملكة العقلية الصائبة لا يكون إلاّ بدراسة القدماء، لأنهم كانوا أقرب منا إلى الطبيعة، ولذلك حللوها بمزيد من البساطة، واستطاعت مؤلفاتهم التي أنجزوها في حضارتهم القديمة المغايرة لحضارتنا أن تصمد أمام الكثير من التغيرات السياسية والدينية والأخلاقية والفنّية، وما ذاك إلا لأنها تحتوي على الكونيّ الحقيقي والإنسانيّ الحقيقي. ففي مدارسهم نتعلم كيف نكتشف الإنسان من خلال الأفراد، وبتقليدهم تستحق مؤلفاتنا بدورها الحياة في الأجيال القادمة ويقول لافونتين: "إنك إذا اخترت طريقاً آخر غير طريق القدماء فسوف تضلّ" وإذا نظرنا إلى موضوعات راسين ألفيناها كلها مستقاة من الإطار القديم باستثناء (بايزيد).
4-التأثير المسيحي:

كان أدباء الكلاسيكية يلتمسون لدى القدماء مساحات مشتركة تاريخية وأخلاقية ليغنوها بما اكتسبته النفس الإنسانية من المسيحية، وأجناساً أدبية ليطوروها بما يوافق العالم المعاصر المهذّب: وإن المسيحية ذاتها تحث الإنسان المخرّب من الداخل إلى تزكية نفسه ومقاومة ميوله السيّئة، ولم يكن لديها مانع من إحياء الآداب القديمة على الرغم من كلّ ما قيل فيها. وقد اندفعت المسيحية إلى الجانسينية([1]) مع باسكال وبوالو وراسين، وكان أدب الخطباء مشبعاً بالمسيحية على نحوٍ من الأنحاء. أما الشعراء فقد بقوا يستخدمون الأساطير كعرفٍ وتقليد مع احترامهم للمسيحية.
5-الإتقان الفني:

لا مجال في الكلاسيكية إلى الجموح والخروج عن القواعد. ولا بدّ للكاتب من أن يتقن فنه ويصقله إلى درجة الكمال، ولكن بشرط المحافظة على البساطة وعدم التكلف والتصنّع. والجمال الفني يعني العمل الدؤوب والإخلاص في المهنة ومعاودة العمل بالتهذيب على أن لا تكبح القواعدُ وثباتِ الروح والموهبة. وأوضحُ مثال لهذه المعادلة فن التراجيديا الكلاسيكية التي تقيّدت بنظرية الأجناس والوحدات الثّلاث إطاراً للإبداع.

6-القيم الأخلاقية:

ينبغي ألاّ يغيب عن البال أن الجمال الفني لا يُبتغى لذاته أو لمجرد الإمتاع، بل لا بد معه من مثالٍ أخلاقي وروحيّ يرمي إلى رفع الإنسان إلى حالة أفضل، إن الجمال والخير صنوان لا يفترقان في المعيار المسيحي، ولذلك يجب أن يلتقي الإنساني والألهي في النص الأدبي، وإن الفصاحة هبة من السماء ينبغي أن تستخدم في حث الإنسان إلى الفضيلة. ولذلك اتجه الكتاب إلى معالجة المشكلات الإنسانية كالحبّ والبغض والهوى والغيرة والعقل والواجب والعاطفة والرياء والبخل.. وهكذا تبلور في الكلاسيكية اتجاه عام يرمي إلى صوغ مثال جماليّ وأخلاقي موحّد، ينطلق من وحدةٍ ذوقية في الشعر والنثر، كانت من أبرز سمات العصر التي عبّر عنها النقاد من بلزاك إلى بوالو.
7-أدب إنساني:

يقول بيير جانيه : "إن أَدبنا الكلاسيكيّ أدب إنسانيّ مطلقاً، نشأ من الإنساني وتوجّه لتلبية حاجات الإنسان" وهذا القول على تعميمه وإطلاقه فيه الكثير من الصحّة. فقد كان الأدباء على اختلاف أنواعهم الأدبية ينطلقون من النفس الإنسانية بعموميتها ويتجهون إلى النفس الإنسانية. ولنأخذ مثالاً على ذلك موضوع الحب الذي عولج بقالب غزلي ممتع، والملهاة التي راحت تصوّر مهازل المجتمع ونقائصه بأسلوبها الممتع بغية حماية المجتمع وإصلاحه. أما الشعر الغنائي فقد تحوّل إلى المحور الاجتماعي مع الحفاظ على تفتيح العواطف الفردّية، وأخذ الشعر التعليميّ والهجائي الصبغة الإنسانية، وحازت الخطابة مستوى عالياً من إقبال الجمهور والتأثير فيه، وغدت الحكاية والرواية أقرب إلى المثالية والمعالجة النفسيّة والمغازي الأخلاقية..
وقد اهتمت هذه الأنواع كلّها بالعواطف المشتركة والأخلاق العامة ونأت عن الحالات الشديدة الخصوصيّة أو الناشزة والنادرة. وكانت تحرص على تلبية الرغائب وإرضاء الأذواق لدى مجتمع مُغْلق صغير يتمتع بالمؤهلات والمستويات العالية إلى جانب المال والسلطة والوجاهة، مع استدراكنا بأن الأنواع التعليمية والخطابية والقصصية والهجائية اتجهت أيضاً إلى فئات أخرى من الشعب.


8-أدب غير شخصيّ:

فالكاتب لا يعبر مباشرة عن آرائه ومشاعره بل يتبع النهج التعليمي أو الدراميّ، وتبدو الذات وكأنها غائبة، ويبقى التعبير من خارج الذات أو بالأحرى، تندغم الذات في الموضوع، فشخوص المسرحية هي التي تتكلم وتعبر عن مقاصد الأديب بطريقة غير مباشرة وبشكل مشابه للواقع، لكن الذات لا تغيب تماماً بل قد تظهر من خلال الأشخاص، وكثيراً ما كانت أعمال موليير وراسين وبوسوييه وكورنيي تشف عن ذواتهم.
9-التعبير الكامل باللغة الوطنية:

رأينا سابقاً كيف أن طلائع الكلاسيكية عزفوا عن الكتابة باللاتينية ونفروا من استخدام مفرداتها ومصطلحاتها وأصروا على الكتابة باللغة المحلية ودأبوا على إغنائها بالمفردات بطرائق صَرْفيةَ متنوعة، حتى أصبحت لغة غنية متحررة قادرة على التعبير عن كل المقاصد. ولكن اللغة الوطنية تتنوع من كاتب إلى آخر، وتبقى لكل كاتب شخصيته اللغوية الخاصة على الرغم من نداءات فوجولا والأكاديمية والصالونات الأدبية.
أما الأسلوب فكانت له صفات عامة مشتركة، فقد تخلّص من النحو اللاتيني وأصبح يتحلى بالوضوح والبساطة مع الصقل والتهذيب لكنه احتفظ في التراجيديا والمراثي والخطابة بأبّهةٍ تتخللها بعض المقاطع البسيطة، وحتى في الأجناس الأخرى بقي الأسلوب حريصاً على الحوار المهذب ولم يتدنّ إلى المستوى العامّي.
ثانياً: فترة الانتقال: ( 1688-1715)

نشأ في نهاية القرن السابع عشر ردّ فعل نتج عنه صراعٌ بين القدماء والمحدثين. فقد انتهى الأمر بالمحدثين إلى تأليفهم أعمالاً لا يمكن أن تضاهى أعمال القدماء، وأصبح القوم في حضرة أدبٍ قوميّ جديد يمكن أن توصف نفائسه بأنها أخصب من مؤلفات الأقدمين، فلماذا يلهجون إذاً دوماً بتقدم الأقدم في الزمن؟ لقد آن الأوان للإقلاع عن هذا التواضع الذي بلغ حدّ الرياء، ولا بد من المجاهرة بأن عصر كورنيي وموليير وراسين يعادل من حيث الكيفية والكمية عصر بريكليس وأوغست وذهب مؤيدو هذه الفكرة الصحيحة في حد ذاتها إلى أبعد من ذلك، حين أعلنوا -دون حق في هذه المرة - تفوق المحدثين على القدماء لا معادلتهم فحسب. وبلغ بهم الأمر إلى ثلب القدماء إذا كانوا في معرض الثناء على المحدثين، وإلى الخلط بين الجيد والرديء من الكتاب المحدثين. وكان لا بدّ لهذا الموقف من أن يثير احتجاجاً متطرفاً أيضاً لدى أنصار القدماء إذ وقفوا متعصبين إلى من كانوا يعدّونهم نماذج عالية لا تضاهى.
وثمة أسباب أخرى عملت في ترجيح تيار الحداثة وهي:
1-تطورُ العلوم، ولا سيما التطبيقية، ممّا سوّغ فكرة ضرورة التطور في الآداب وشرعيتها قياساً على العلوم.
2-كانت الكنيسة والأفكار المسيحية إلى جانب أنصار الجديد من حيث إن التفوق الأخلاقي المسيحي لا بد أن يقتضي تفوقاً أدبياً
3-كان لا بد للفردية التي خنقتها الكلاسيكية من أن تجنح وتتمرد معلنة حقوقها في التخيل والإبداع الخيالي المتوثب والاعتراف بالعواطف الفردية في مقابل هيمنة الفكر والقواعد.
مقارنة بين الطرفين:

في الحقيقة أساء كلا الطرفين طرح قضيته والدفاع عنها. فقد وقفوا جميعاً إلى جانب أشخاص أكثر من وقوفهم إلى جانب قضية، وكثيراً ما أعوزتهم الحجج القوية والبراهين الدامغة، ولم يحالفهم الصواب أو الخطأ إلا في بعض الجزئيات. فقد كان بيرّو Perrault يسفّه الذين يريدون تقليد الأقدمين دون جدوى حسب زعمه، ويثني على المحدثين إطلاقاً ويرى أنهم كانوا ضحية بوالو، أما بوالو فقد كان يدافع عن القدماء مثل هوميروس وبندار دفاعاً أخرق، ولم يأت بنظرية صحيحة في تقليد القدماء إلاّ في القليل النادر

n نتيجة:

كان المعاصرون هم الفائزين في هذه المعركة. فالقرن الثامن عشر لم يعد يعرف القدماء. لقد انتصرت فكرة التقدم في مجتمع واثق بنفسه مؤمن بإمكاناته الإبداعيّة، كارهٍ للتقليد والعودة إلى الوراء. ولكن الروح الموسوعية بانصرافها عن المسيحية فقدت العنصر الأهم في أصالة المعاصرين. وكان يجب أن ننتظر مجيء شاتوبريان لينجز نظرية المعاصرين. فهذا الصراع كانت له في ذاته أهمية حقيقية. وعلى الرغم من احتوائه على بعض الرعونة في كثير من جزئياته كانت فيه كل موارد القرن الثامن عشر: هذا القرن الذي كان من جهة امتداداً للسابع عشر (في فرنسا على الأقل) ومن جهة ثانية استجابة وتحضيراً للثورة الفرنسية وعودة إلى عصور الوثنية اليونانية إنه في آن واحد انتماءٌ إلى الماضي وتجاوزٌ عصريّ له.


([1]) نسبة إلى جانسينيوس اللاهوتي المسيحي في القرن السابع عشر الذي شرح أفكار القديس أوغسطين وجاء بنظرية النعمة الإلهية والقدر الأزلي وحرية الاختيار.
__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
  #3  
قديم 02-19-2012, 10:02 AM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,413
افتراضي


أعلام وملامح ونصوص


مارو Clement Marot - 1497-1544

كليمان مارو من شعراء البلاط. عاش في كنف فرنسوا الأول وأخته مرغريت وكان شعره من النوع السطحّي الخفيف المستوحى من الظروف والمناسبات عاش حياة يسرٍ وهناءة تخللتها منغّصات، فسجن مرات ونفي وفقد أمواله. وكان في كل مرة يلتمس من سادته وأصدقائه العون المادي والمعنويّ.
وقد أرسل القصيدة الآتية من السجن إلى صديق له ليسعى في فكاكه.

إلى ليون جاميه L. Jamet([1])

.. أودّ أن أقُصّ عليك حكاية جميلة،
عن الأسد والجرذ:
كان ذلك الأسد أقوى من خنزير عجوز،
ومرةً وجد جرذاً حبيساً في مَصْيدة، عاجزاً عن الخروج،
لكثرة ما التهم من الشحم واللحم
ولم يكن ذلك الأسد وغداً
فقد وجد وسيلةً وطريقة لإنقاذه
بمخالبه وأنيابه حطّم المصيدة،
فانطلق الجرذ مسرعاً،


وركع أمامه باحترام وحياه برفع قبّعته،
شاكراً ألفَ مرة لذلك الحيوان الكبير،
وأقسمَ بربّ الفئران والجرذان
أن يردّ له الجميل!
ومرةً خرج الأسد من عرينه ليبحث عن فريسة،
ولسوء حظه وقع في مَصيدة
وألفى نفسه مقيداً إلى حجر راسخ
وفي الحال وافى الجرذُ فرحاً ومندهشاً،
لا مقْطعةَ معه ولا سكّين
فلم يسخر منه ولا شمت به،
بل شتم القطط والقطّات والقطيْطات
واثنى على الجرذان والجرذات والجريذات
ووجد الفرصة المناسبة لذلك الأسد المنكوب
قال: صهْ أيها الأسد المقيّد فالآن أنقذك
إنك تستحق مني هذا الجميل، لأني عرفت قلبك الطيب،
حين خلصتني وأنجدتني بشهامتك الأسديّة،
والآن سأنجدك بشهامتي الجرذية..
***
فتح الأسد عينيه وأجالهما نحو الجرذ قائلاً:
يا آكل الحشرات المسكين،
ليس في وسعك حيلة،
ما لديك موسى ولا سكين،
لتقطع أي حبل أو حُبيلة،
فتطلقني من هذا الأسر
خيرٌ لك أن تختبئ
حتى لا يراك الهرّ
***
قال سليل الفئران: سيدي العظيم!
حقاً إني ابتسم من كلامك هذا
لا تقلق لأن لي كثيراً من السكاكين!
إنّ أسناني العظيمة البيضاء الجميلة
أشد قطعاً من المناشير
غمدها لثتي وفمي
وبها أستطيع في الحال،
قَطْعَ ما يكبلك من الحبال!
وبدأ السيد جرذ بالقضم
ولما انتهى انطلق الأسد الأسير،
قائلاً في نفسه: حقاً لا يضيع الجميل،
حيثما صُنِع وأنّى زُرع"
***
هذه هي الحكاية بنظمها البديع
إنها قصة طويلة وقديمة
شهدها إيسوب وأكثر من مليون من الناس
فتعال لتراني وتفعل مثل ذلك الأسد
وسأبذل جهدي في فكري واجتهادي،
لأكون حافظاً للجميل مثل ذلك الجرذ!
وأنا أعلم أن الله أعطاك كثيراً من المزايا
لم يمنحها ذلك الأسد العظيم..
n تعليق:

يلاحظ في هذه القصيدة السهولة والوضوح والإمتاع، والاغتراف من أمثال اليونان والترتيب المنطقي في العرض والنتيجة. كما أن النص الأصلي بلغته الفرنسية يتميز بوجود بعض الكلمات اللاتينية والمدلولات القديمة والزخرفة اللفظية البديعة وجمال الإيقاع الموسيقي.
رونسار Ronsard - 1524-1585

نشأ رونسار في بيئة أرستوقراطية، ولازم البلاط الملكي ثم سافر إلى انجلترا وألمانيا وإيطاليا ودرس اللاتينية واليونانية وكوّن حوله جماعة (الثريا) عام 1540 بدأ بكتابة ملحمة الفرنسياد ولم يكملها، وألهمته الحروب الكثيرة المدمّرة نغمات الألم والحزن التي لقيت القبول والرضا في الأوساط الشعبية الفرنسية.
كاسندرا([2])

هيّا يا عزيزتي، لننظر
إن كانت الوردة التي فتحت ثوبها الأرجواني لشمس الصباح
لم تفقد عند المساء طيات ثوبها
الذي لونه يشبه لونكِ
***
واأسفاه، انظري يا عزيزتي،
كيف أنها في برهة قصيرة
أسقطت جمالها الذاوي في مكانها
واأسفاه، واأسفاه..!
أيتها الطبيعة، حقاً إنك أمٌّ قاسية!
ما دامت هذه الوردة وأمثالها
لا تعيش إلاّ من الصباح إلى المساء!
****
إذن، يا عزيزتي، إنْ كنتِ تصدقينني،
فما دمتِ في زهوة العمر وأوج النضارة
اغتنمي، اغتنمي شبابك،
لأن الشيخوخة ستذهب بجمالك
كما فعلتْ بهذه الوردة..!
n تعليق:

1-كان تشبيه الشباب بعمر الورد مألوفاً في الشعر الكلاسيكيّ ولكن رونسار عقد هذه المقارنة من خلال الحوار والحركة
2-يلاحظ العرض المنطقيّ ذو المقدمة والنتيجة على الرغم من الملامح العاطفية
3-في هذا النص وأمثاله بوادر للرومانسيّة
هروب الشباب([3])

.. أيتها الصخور، على الرغم من أن عمرك
يبلغ ثلاثة آلاف عام،
لم تتغيري حالةً وشكلاً .
أما شبابي فقد انقضى .
وهاهي الشيخوخة التي ما تفتأ تطاردني
قد حولتني من الشباب إلى الشيخوخة..!
***
أيتها الغابات، على الرغم من أنك تخلعين كل شتاء
حُلتك المتموجة،
فإن العام الجديد سيكسو هامتك وشاحاً جديداً
أما هامتي فلن تجد مرةً أخرى شعراً جديداً
***
أيتها الأمواج؟ التي لا ينقضي ترحالها
أنت تقودين، المرة بعد الأخرى، دفقاتك
في حركة لا تعرف التوقف
أما أنا فأمضي، مع مرور الليل والنهار،
دون تريّث ولو لبرهة قصيرة،
إلى حيث لا عودة

n تعليق:

لاحظ مناجاة الطبيعة والمقارنة بينها وبين الإنسان، ونغمة الحزن والمسحة الغنائية التي تشبه غنائية لامارتين.. إنها بوادر للرومانسية.
كورنيّ Corneille- 1606-1684

تعلّم بيير كورنيّ في معاهد اليسوعيين في روان، ثم أصبح محامياً، لكنه آثر المسرح، فاتجه أولاً إلى الكوميديا وكتب في عام 1635 أولى ملاهيه (ميليت Melite) ثم التفت إلى المأساة فكتب ميديا والسّيد التي لقيت نجاحاً باهراً ثم ألّف هوراس وسينّا وبوليوكت وبومبي ورودوغون ونيكوميد وأوديب وغادر المسرح نهائياً في عام 1674

خصائص مسرحه:

1-تقيّد بالوحدات المسرحيّة الثلاث في مسرحيّة السيّد، ثم بدأ يتململ من قيودها دون تمرد أو تصريح، فجعل يخضع لها أحياناً ويتسامح بها أحياناً أخرى، ويوسّع من حدودها لتتيح له بعض الحريّة وكان على يقين أن التقيّد بها إنما هو استجابة لرغبة جمهور مثقف محدود. وحين أصبح جمهوره كبيراً ومكوناً من مختلف الأصناف، ولا سيّما البرجوازية المتعلّمة التي تريد محاكاة الواقع مدّد المساحة الزمنية للمسرحية إلى عدّة أيام.
2-استمد بعض موضوعاته من الأساطير ولكنه اتجّه إلى التاريخ فاخذ يقتبس منه بعض موضوعاته ولكن بعد إغنائها بالحوادث وتعقيدها بالصراع.
3-لغته عالية فخمة ذات أسلوب خطابي بليغ مرهف
4-كان يحرص على الكشف عن المواقف النفسية والصراعات المعقدة التي تحتاج إلى خلق عوائق وصعوبات وإلى نضال عظيم وإرادة قوية مظفّرة، ولكن ضمن حدود الطبيعة البشرية. فعنده لا توجد هزائم.
5-هيمنة الفكر والمنطق على العواطف والغرائز فكل شيء عنده يجري بشكل منطقي ومعقول، ولا مجال للمصادفات والمفاجآت والمعجزات.

6-كان يرسم الأشخاص كما يجب أن يكونوا، أي يبث فيهم الإرادة القوية والشجاعة ومقاومة الأهواء تحقيقاً لهدفه الأخلاقي. ولذلك قال عنه فولتير: "إنه مدرسة لعظمة الروح".

نصّ من مسرحيّة "السيّد"([4])
الفــصــــل الرابــــــع


إضاءة:
دون رودْريغ هو ابن دون دييغو يحب شيمين بنت دون غورما. وحدث أن أهان هذا الأخير دون دييغو بصفعة، فانتقم رودريغ لوالده بقتل والد حبيبته: ثم اعتذر إليها بأنه- على الرغم من حبه إياها- إنما قام بواجبه. فقالت: وأنا أيضاً أريد أن يعاقب قاتل والدي. ورفعت قضيتها إلى فرديناند ملك إشبيلية. ولكنّ رودريغ سارع إلى قتال الأعداء المسلمين الذين حاصروا إشبيلية مفاجأة وانتصر عليهم وجاء إلى الملك ليروي له قصة المعركة ويعتذر لإسراعه إليها دون إذن منه.
المعركة
دون رودريغ : سيدي، لقد علمتَ أَنّهُ حين داهم المدينة
هذا الخطر، ونشر فيها الذعر،
كان عند والدي جماعة من أصدقائه الخُلّص،
الذين طلبوا مني أن أبذل روحي ولمّا تزل مضطربة
فسامحني يا سيدي على جرأتي
حين مضيت دون مشورتكم،
فلقد كان الخطر شديداً، وكانت الكتيبة جاهزة!
وحين خرجتُ إلى ساحة القتال كنتُ أغامر برأسي
ولئن وجب أن أُقتل فأحببْ إليّ بأن أموت
مقاتلاً دونكم!
دون فرديناند : إنني أسامحك لحماستك في الانتقام من ذلك العدو المهاجم؟
وأشعرُ أن الدولة التي دافعت عنها هي التي تخاطبني
من خلال دفاعك
وتأكدْ أنني بعد الآن لن أصغي إلى كلام شيمين
إلاّ لأعزّيها.. فتابع حديثك!
"يتابع وصف المعركة من أولها إلى آخرها، فيعرض قوة الأعداء وكيفية تسللهم، وكيف كمن بجنوده منتظراً اللحظة الحاسمة المناسبة للانقضاض وهي وقت نزولهم من المراكب. ثم يذكر نتيجة المعركة وهي هرب قسم من جنود العدو وقتل قسم آخر وأسر الكثيرين ومن بينهم ملكان.." ويتميز هذا الخطاب بطوله وتصويره المفصّل الدقيق وبالوضوح مع الترتيب المنطقي للحوادث وتحليل نفسية الأعداء بأسلوب تتجلى فيه الأبّهة والخطابة الشعرية.
راســـــين J,Racine - 1639-1699

تعلّم جان راسين في صباه اللاتينية واليونانية ثم قصد باريس ليكمل تعليمه، وهناك مال إلى كتابة المأساة، وحاز نجاحاً باهراً في اندروماك، ثم كتب بريتانيكوس وبيرينيس وبايزيد ومتريدات وايفجينيا وفيدر وأتالي وإستر.
خصائص مسرحه:

1-البحث عن الحقيقة والطبيعة أو ما يشبه الطبيعة أكثر من بحثه عن العظمة والبطولة، ويحلل بنفوذ الفيلسوف بواعث الأعمال والعواطف.
2-كان يستقي موضوعاته من الشعر التراجيدي والأساطير اليونانية أو من التاريخ أو من الكتاب المقدس، ويضيف من عنده المكتسبات النفسية العصرية، وربما وقع في الارتباك من جراء هذا التعارض والمزج.
3-اهتم بتصوير الحب وعرضه بلغة الغزل العصري، وألحّ على قضية الغيرة في الحب حتى جعلها دافعاً رئيساً في مسرحه، بينما كانت الإرادة القوية هي الباعث الأول في مسرح كورنيّ.

4-بدلاً من تمجيد القوة والكبرياء كانت مسرحياته تبدو في حُلَّةٍ حزينة تشعرنا بضعفنا.
5-يتميز أسلوبه بالتناغم والصدق والطبيعية. وهو أكثر اندفاعاً من أسلوب كورنيّ. فيه تتكلم كل شخصية بلسانها ولغتها وبحسب نموذجها ومواقفها ويتألق أسلوبه في مواقف الحب، ويصبح أنيقاً.
نصّ من بريتانيكوس -الفصل الرابع([5])
نرسيس يدفع نيرون إلى الجريمة


إضاءة
تزوجت الأرملة أغريبين والدة نيرون الامبراطور كلود. وزوجت ابنها نيرون بنت زوجها هذا. وكان لكلود ولد يدعى بريتانيكوس. وحين مات كلود عملت أغريبين لتنصيب ابنها مكانه، لتمارس نفوذها وحكمها من خلاله ولما شعرت أن نيرون يريد التحرر من وصايتها ونفوذها هددته بتنصيب الوارث الشرعي بريتانيكوس. وكان نيرون ينافسه على الحكم وعلى حب جونيا.
وهنا يفكر نيرون بالتخلص من بريتانيكوس بالسمّ واقعاً تحت تأثير نرسيس الذي كان يريد الثأر لأخيه وقد قتله بريتانيكوس..
نرسيس : سيدي، لقد أعددتُ كلّ ما يلزم لموتٍ عادل:
السمّ جاهز، لقد ضاعفت لوكوستا المشتهرة
عنايتها المخلصة لي..
وقد قتلتْ به عبداً أمام عينيّ.
إنّ ذلك السمّ الذي وضعته بين يدي
أمضى من السيف في اختطاف الحياة
نيرون : كفى يا نرسيس، إنني معترفٌ بهذه العناية
ولا أريدك أن تمضي أبعد من ذلك
نرسيس : ماذا؟ أرى أن كرهك لبريتانيكوس قد بات ضعيفاً يمنعني من أن..

نيرون : نعم يا نرسيس سنتصالح..
نرسيس : سأحترسُ من تحوّلك يا سيدي
ولكن، ألم يكن منذ مدة قريبة سجيناً؟
إن هجومه سيبقى جديداً في قلبه مدة طويلة
ولا يوجد سرّ لا يكشفه الزمان.
وسيعلم أن يدي سوف تقدم له السمّ،
الذي تمّ تحضيره حسب أوامرك.
ربما تغفله الآلهة عن هذه الخطة،
ولكنه قد يفعل ما لا تجرؤ أنت على فعله.
نيرون : الأمر لا يتجاوز قلبه، وأنا سأكبح جماع قلبي .
نرسيس : وجونيا؟ هل سيحظى بالزواج منها؟
هل ستقدم له أيضاً هذه التضحية يا سيدي؟
نيرون : لا.. هذا كثير، ومهما يكن من أمرٍ يا نرسيس
فأنا لن أعدّه بعد اليوم من أعدائي
نرسيس : وأغربين يا سيدي؟ هل أخذت على عاتقها ذلك
وقد استردت له سلطانه المطلق عليك؟
نيرون : ماذا؟ ماذا قالت؟ ما الذي تعنيه؟
نرسيس : طالما افتخرت بذلك أمام الناس.
نيرون : بأي شيء؟
نرسيس : بأنه لم تبق إلا برهة قصيرة
ويحلّ صمتك المتواضع مكان هذا البهاء العظيم وهذا الغضب المشؤوم .
وأنك كنت أول من اختار المسالمة.
سعيداً بأن قلبه الطيب تفضّل بنسيان كل شيء.
نيرون : ولكن، يا نرسيس، قل لي ماذا يجب أن أفعل؟
إني ضعيف الميل إلى عقابها على هذه الجرأة .
وإذا صدق ظني فإن هذا النصر سيعقبه ندمٌ دائم.
ولكن ماذا سيقول الناس في كل مكان؟

أتريدني أن أمضي على سَنن الطغاة .
وأن تمحو روما كل أسمائي المشرفة؟
وتبقى لي فقط اسم دسّاس السمّ؟
وأن لا يرى الناس في انتقامي إلا جريمة قتل أبويّ؟
نرسيس : وهل تتخذ يا سيدي من طياشتهم موجهاً لك؟
وهل تتوقع أن يبقوا ساكتين إلى الأبد؟
وهل من طبعك أن تصغي إلى أحاديثهم؟
هل يمكنك أن تتناسى رغباتك الخاصة؟
وهل تكون الوحيد الذي لا يجرؤ على تحقيقها؟
ولكنك، يا سيدي، لا تعرف الشعب الروماني،
لا، لا، إنهم مستمرون في كلامهم،
وإن حذرك الشديد هذا سيضعف سلطانك .
وفي الحقيقة إنهم يعتقدون أنهم جديرون بأن يهابهم الحاكم .
لقد ألفوا النير على رقابهم منذ زمن طويل
وهم يقدسون اليد التي تبقيهم في القيد .
وسوف تراهم متحمسين في إرضائك..
***
هل تخاف عاقبة جرعةٍ من السمّ؟
اقتل الأخ واهجر الأخت!
فإن روما حين تجد الضحايا لا بد أن تعثر لهم على جرائم
مهما كانوا أبرياء .
وسترى أنها ستعدّ أشأمَ الأيام،
أيامَ ولد ذانك الأخ والأخت.. الخ

***
"ويمضي الحوار هكذا حتى يقتنع نيرون بقتل برتيا نيكوس"

n تعليق:

1-الاقتباس من التاريخ الروماني مع إدخال كثير من التعديلات والتعقيدات 2-التقيد بالطبيعة البشرية أو محاكاتها
3-التعمق في تحليل النفس البشرية
4-دور العاطفة أقوى من دور العقل.. فحجج نرسيس تبدو شبيهة بالمنطقية ولكنها حجج مزيفة لأنها تنطلق من النوازع والرغبات
5-ليس الأسلوب خطابياً بل هو حديث عادي بين شخصين يتكلم كلٌ منهما باللغة التي تناسب طبعه.
موليير Moliere - 1600-1673

ولد جان بابتيست موليير في باريس لوالد يعمل في صناعة السجاد ويقدّمه للقصر. فعلّم ولده تعليماً حسناً وأراد أن يجعله يعمل معه ثم يخلفه في خدمة القصر، لكن الابن ألّف مع بعض أصدقائه فرقة مسرحية كوميدية قدمت عروضها في باريس ومناطق فرنسا ثم استقرّ بها المقام في باريس ليقدّم مسرحياته في قصر اللوفر والقصر الملكي، وكان يؤلف مسرحياته لهذه الفرقة أحياناً يقدم مسرحيات من تأليف معاصريه. أشهر مؤلفاته المسرحية: المتحذلقات، النساء العالمات، دون جوان، كاره البشر، أمغتريون، البخيل، طرطوف، البورجوازي النبيل، مريض الوهم.
مميزات مسرحه:

1-صور موليير مجتمع القرن السابع عشر بجميع شرائحه تصويراً كاملاً، وأعطى كل نموذج الخصائص والحالات التي تناسبه وتناسب ظروفه.
2-كان همه الوصول إلى الحقيقة العامة للبشر في كل الأزمنة وتشخيص ما تنطوي عليه من مثالب كالحسد والرياء والبخل والكراهية والأنانية والتعاظم..
3-يقوم مسرحه الكوميدي على الذوق السليم والقواعد الاجتماعية الجوهرية، وكل النقائض تعاقب إذا زادت عن حدها، كما كان يشير إلى خطورة بعض النقائص التي تعدّ غير ذات ضرر عام ولكنها تنعكس بصورة سيئة على العائلة كالتعالم والتحذلق وسوء المزاج والإفراط في مداراة الصحة.
4-كان يحرص على أن يعطي شخوصه الحياة والحركة ليمنحها وهم الحقيقة
5-أما أسلوبه، فقد كان يكتب مسرحياته بسرعة، شعراً ونثراً على حد سواء ولا يفكر إلاّ في التأثير المسرحي وليس بتأثُّر القارئ، وفي بعض الأحيان كان يقع في الإهمال والضعف والتشويش ولكن هذا الانطباع سرعان ما يزول على خشبة المسرح. إنه الأول بين كتاب المسرح الفرنسي الذين اهتموا بالتنوع والطبيعي والبارز.
استعمل موليير في مسرحه اللغة الشعبية ونزل إلى مستوى الشعب وبذلك استطاع تطوير لغة المسرح النبيلة فأسلوبه أسلوب أشخاصه.
وإجمالاً كان موليير "شاهد عصره" كتب عن الناس، وكان جمهوره من كل فئات المجتمع من البلاط إلى العامّة. وكان هدفه الإمتاع مع تقويم النفس البشرية عن طريق الإضحاك وفي داخل الإضحاك توجد المأساة، وشر البليّة ما يضحك!
نص من "البورجوازي النبيل"([6])
الخِطْبة


كليونت : سيّدي، لم أشأ أن أرسل أيّ شخص لأطلب منك حاجة طالما فكرت فيها. ولأنها تخصّني كثيراً آثرت أن أقوم بها بنفسي. وبدون أي مواربة، أقول لكم: إن شرف أن أكون صهركم إنعامٌ عظيم أرجو أن تمنحوني إياه.
السيد جوردان : قبل أن أجيبك يا سيدي، أرجو أن تعلمني: هل أنت نبيل؟.
كليونت : يا سيدي، إن معظم الناس لا يترددون كثيراً حول هذه النقطة، إنهم يحذفون هذه الكلمة بسهولة. إنها تسمية لا تستحق أيّ اهتمام. ويبدو أن الاستعمال في هذه الأيام يسمح بانتحالها. أما أنا فأعترف أن لدي حولها بعض الأحاسيس الأكثر رهافة. إني أرى أن الخداع لا يليق برجل شريف. ومن الجبن أن نخفي ما خلقنا الله عليه. وأن نتجمل أمام الناس بلقب مسروق وأن ندّعي ما ليس فينا.
لقد ولدتُ من دون شكٍ من آباء حملوا مسؤولياتٍ مشرّفة وكان لي شرف الخدمة العسكرية مدة ست سنوات. ولدي من المال ما يكفي لأن أحصل على مركز جيد في هذا العالم. ومع هذا كلّه لا أريد أن أنتحل اسماً يعتقد غيري من الناس أنهم يستطيعون الطموح إليه لو كانوا في مكاني. وبصراحة أقول لك: إني لست نبيلاً.
السيد جوردان : هات يدك، لقد اتفقنا يا سيدي. إن ابنتي ليست لك!
كليونت : كيف؟
السيد جوردان : بما أنك لست نبيلاً فلن تحظى بابنتي
السيدة جوردان: ماذا تعني بنبيلك هذا؟ هل نحن الأخريات من ضلع القديس لويس؟([7])
السيد جوردان : إخرسي يا امرأة، أراك جئتِ..
السيدة جوردان: هل أنت وأنا إلاّ من الطبقة البورجوازية الطيبة؟
السيد جوردان : اسمعوا هذا الكلام!
السيدة ج : وأبوك؟ ألم يكن بائعاً مثل والدي؟
السيد ج : يا لهذه المرأة! إنها لاتُغفِلُ شيئاً.. إذا كان أبوك بائعاً فهذا من سوء حظه. أما والدي فلا يقول فيه ذلك إلا الجهلة. كل ما أريد أن أقوله لك أني أريد صهراً نبيلاً.
السيدة ج : إن ابنتك بحاجة إلى زوج يكون خاصاً بها ومن الأفضل لها أن يكون شريفاً وغنياً ومهذباً من أن يكون نبيلاً شحاذاً وسيّء التربية.
نيكول : هذا صحيح. إن أحد النبلاء في ضيعتنا أشد فظاظة وحمقاً من جميع الشبان الذين رأيتهم في حياتي.
السيد ج (لنيكول): اخرسي أيتها الوقحة أنت تقحمين نفسك دوماً في المحادثة إن لديّ من المال ما يكفي ابنتي. ولست بحاجة إلى النبالة. وأريد أن أجعلها ماركيزة.
السيدة ج : ماركيزة؟
السيد ج : نعم ماركيزة...!
السيدة ج : واأسفاه، ليحفظني اللّه من ذلك
السيد ج : إنه أمرٌ عزمت عليه
السيدة ج : هذا أمرٌ لا أقبله. إن الزواج بمن هو أعلى طبقةً معرضٌ دوماً لانتكاسات مفجعة. وأنا لا أريد لابنتي إلا صهراً يقارب أبويها. وأن تنجب منه أطفالاً لا يخجلون من أن ينادونني جدتهم، وإذا جاؤوا لزيارتي يوماً بصحبة السيدة العظيمة وتغافلت هذه عن إلقاء التحية على بعض أهل الحي فإننا سنتعرض لكثير من الأقوال اللاذعة: سيقال مثلاً: "انظروا إلى هذه السيدة المركيزة المتعاظمة، أليست ابنة السيد جوردان التي كانت وهي صغيرة تجد نفسها سعيدة إذا لعبت معنا لعبة السيدة؟ إنها لم تكن قط متعالية كما هي الآن. جدّاها كانا يبيعان الأغطية عند باب المقبرة فجمعا لأولادهما مالاً ربما يلقيان من أجله الآن عقاباً شديداً وهما في ديار الآخرة. إن المرء لا يمكن أن يكون ثرياً وشريفاً في وقت واحد". إنني لا أريد أمثال أولئك الحمقى. أريد صهراً يعتز بابنتي وأستطيع أن أناديه قائلة: اجلس هنا يا صهري وتغدَّ معنا..!
السيد ج : إنها لأفكار تصدر عن نفس صغيرة أن يطلب المرء البقاء في الوضاعة. لا تزيدي على ما قلت شيئاً. إن ابنتي ستكون ماركيزة بالرغم من كل الناس. وإذا مضيتِ في إثارة غضبي فسأجعلها دوقة..!
n تعليق:

1-كتب موليير هذه المسرحية بأسلوب النثر وهو أقرب إلى الكلام الطبيعي.
2-استمد موضوعها من الوسط الاجتماعي الشعبي واختار شخوصه من هذه الطبقة فعبرت من خلال الحوار عما يدور في خلدها ونفسها من الأفكار والمشاعر لتكشف عن نفسها ونفسية الوسط الاجتماعي العام.

3-ينتقد موليير الطباع المنحرفة والأفكار والعادات الخاطئة كالتعاظم والتزييف وعدم إقامة وزن للشرف الحقيقي.
4-يجري الصراع بين طرفين أحدهما مخطئ وهو الأب والثاني مصيب وهو الخاطب والأم والخادم وهم الأكثرية الطيبة.
5-يجمع موليير بين الإمتاع والفائدة الأخلاقية.

([1]) ترجمة المؤلف عن:
Des Granges... La Litterature EXPliquée P46
Librairie Hatier

([2]) ترجمة المؤلف عن: la litterature expliquée دي غرانج وشارّييه ص51

([3]) المصدر السابق ص53 والترجمة للمؤلف

([4]) ترجمة المؤلّف عن المَصْدر السابق ص89

([5]) ترجمة المؤلف عن المصدر السابق ص89

([6]) ترجمة المؤلف عن المصدر السابق ص113

([7]) هذا يشابه قولهم: من ضلع آدم
__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
  #4  
قديم 02-19-2012, 10:04 AM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,413
افتراضي

لافونتين J.de la fontaine- 1621-1695

جان دولافونتين هو كاتب الخرافات الشهير les fables وهو من آصَل كتاب القرن السابع عشر. استمد موضوعاته من الآداب القديمة ومن آداب القرون الوسطى، ولكنه طورها في شكل لم يستطع أحدٌ أن يضاهيه فيه. أعطى كل خرافةٍ شكلها الدرامي، وجعل من مجموعها ملهاةً كبيرة ذات مئةٍ من الفصول المتنوعة. مثّل الحيوانات طبقاً للتقاليد الشعبية، وإن لم يكن ذلك بالدقة العلمّية والطبيعية، وصور كلّ عواطف البشر وأهواءهم وظروفهم الاجتماعية وحِرَفهم، وبرز لديه حسُّ الطبيعة وصور البيئة الفرنسية كإطار لحيواناته.
تقوم أخلاقيته على التجربة وأحياناً على النفعيّة والشكّلية، ولكنها في كل الأحوال تقوم على الحسّ السليم. إننا لا نتعلم الفضيلة من خرافاته، ولكننا نفهم من خلالها، بشكل أفضل، فكرة الاتحاد والتعاون.
أسلوبه متنوع مثل موضوعاته، فهو يتقلب بين قاصّ وشاعرٍ وناقدٍ وشاعر ملحميّ، وشاعر غنائي. ومعجمه اللغوي أغنى من معجم موليير، وأشعاره المرنة والقوية تتبع خُطا تحركاتِ فكره.
1-موت الحطّاب([1])

كان حطّاب فقير، يحمل حُزمة من الأغصان تغطّي كلِ جسْمه.
وكان ينوء بحملها كما ينوء بعبءِ السنين.
يسير منحني الظهر، متثاقل الخطا، ويئن من ثقل ذلك الحِمْل، ليبلغ كوخه الذي تغلفه سحابة من الدخان.


وأخيراً لما وجد نفسه عاجزاً أمام أعبائه وألمه، أنزل الحزمة، وراح يفكّر في شقائه:
أيّةَ مَسَرةٍ ذاقَ منذ وُلد؟
أليسَ أفقر إنسان على هذه الأرض؟
فأحياناً يُعوزه الخبز وأحياناً يفتقر إلى الراحة،
زوجُهُ وأولاده والجنود والضرائب والدائنون والسُّخْرة، كل هؤلاء يجعلون منه الصورة الكاملة لأتعسِ مخلوق.
فياموت أقبِلْ..!
وعلى الفور، أتى ملك الموت قائلاً: "ما تريدني أن أفعل"؟
أجابه: "أظنك لا تتردّد في مساعدتي برفع هذا الحطب"..!
***
إنّ الموتَ يأتي ليشفي كل الآلام
ولكنْ، لنبق حيث نحن،
الألم خيرٌ من الموت؛
هذا هو شعار البشر.
2-العربة والذُّبابة([2])

كانت ستّةُ جياد تجرُّ عربةً،
في طريق صاعدٍ رمليّ عسير السلوك،
كانت أشعة الشمس تحيط بها من كل الجهات،
وقد ترجّل منها كاهنٌ وعددٌ من النساء والشيوخ
وفيما كانت الجياد تسبح في عرقها ويتعالى زفيرها
جاءت ذبابة واقتربت من الجياد
تريد أن تشحذ عزمها بطنينها


أخذت تلسع هذا ثم ذاك معتقدةً أنها هي التي تُسيِّر العربة
تحطّ على العريش، وعلى أنف السائق..
ولما سارت العربة، ورأت الركب يتابع المسير
نسبت إلى نفسها وحدها هذا الفوز
أخذت تذهب وتجيء كالمستعجلة،
كأنها قائد في معركة يذهب في كل اتجاه،
حاثّاً جنوده مستعجلاً النصر
وعلى الرغم من هذا العمل المشترك،
اشتكت الذبابة من أنها كانت وحدها تعمل،
وأنها بجهودها حالت دون أن يساعدَ أحدٌ
الجياد على الانسحاب من العمل!
كان الكاهن يتلو صلواته في كتابه،
إنها أحسن طريقة للاستفادة من الزمن
وكانت إحدى النساء تغنّي عدداً من الأغاني
والسيّدة الذبابة أيضاً أخذت تغني عند آذانهم،
وتقوم بمائةٍ من الحماقات الأخرى
وبعد جهد جهيد وصلت العربة إلى القمّة،
فقالت الذبابة: الآن، لنلتقط أنفاسنا،
لقد عملتُ كثيراً حتى أوصلتُ القومَ إلى السَّهل
فهيّا، يا سادتي الخيول، ادفعوا لي أجور جهودي!
***
هكذا يتظاهر بعض الناس بالاستعجال،
فيتدخلون في شؤون الآخرين
ويفرضون وجودهم في كل مكان
ومن كل مكان يجب أن يطردوا خائبين!


باسكال B.pascale - 1623-1662

عالمٌ وفيلسوف من فلاسفة بور رويال وخطيب مفوّه. ألّفَ كتابه: الرسائل البروفانسية les provinciales في أواسط القرن السابع عشر. وضمّنه ثماني عشرة رسالة في الدفاع عن أستاذه وصديقه أرنولد الذي أقيل من السوربون بسبب اعتناقه أفكار جانسينيوس المخالفة لفكرة الكنيسة الكاثوليكية حول النعمة الإلهيّة والقدر...
وقد بلغ باسكال في هذه الرسائل أقصى درجات البلاغة والحماسة والقوة ووضوح الفكرة مع لباقة الدفاع ولطافة السخرية والحسّ الطبيعيّ ولذا يقول فولتير في هذا الكتاب: "إنه أوّل كتابٍ عبقريّ يُشاهَد في النثر". ويضيف: "يجب أن نربط بين هذا الكتاب وحقبة الترسيخ اللغويّ".
ثم ألفّ باسكال كتابه: "الأفكار les pensèes" الذي يثير الإعجاب بأسلوبه الأدبي، فقد كتبه في الردّ على المتحرّرين من الدين، المجاهرين بالتجديف. ولأجل التأثير فيهم استخدم المنهج العلمي المنطقي. وكان أسلوبه النثري يلامس في بعض مقاطعه الروح الشاعرية من حيث روعة التصوير والحماسة في الخطاب، فكأنما هو شاعر غنائي.

اللاّمتناهيان([3])

"هذا النصّ من (الأفكار) طبع عام 1670. ويريد باسكال من خلاله أن يصوّر الإنسان على نحو أفضل، تلك القضية المرعبة حين يتساءل عن أصوله ومصيره، وأن يبرهن على عظمته وضآلته في وقت واحد"..

« ليتأمّلِ المرء الطبيعة بكاملها في أوج عظمتها، ولينأَ بنظرة عن الأشياء الصغيرة التي تحيط به، ولينظر إلى هذه الشمس الساطعة التي جُعلت مصباحاً أبدياً لإضاءة الكون، حيث تبدو الأرضُ نقطة صغيرة إذا قورنت بالمدار الواسع الذي يرسمه ذلك الكوكب العظيم. وليتعجّب من أنّ هذا المدار نفسه ليس إلاّ حيزاً بالغ الصغر بجانب المدارات التي تسلكها الأجرام الدائرة في قبة السماء. ولكنْ إذا ما توقف نظرنا عند هذه الحدود فليجاوزها الخيال.. إنه سيكلُّ من التخيّل أكثر من كلَلِهِ أمام الطبيعة. إنّ كلّ هذا العالم المرئيّ ليس إلاّ خطّاً يكاد لا يبين ضمن ملكوت الطبيعة الفسيح، وإن أية فكرة لا يمكن أن تحيط به، ولا يجدي أن نضخّم تصورّنا فيما وراء الفراغات التي يمكن تخيلها. إننا إذ ذاك لن نظفر إلا بالنزر إزاء حقيقة الأشياء إنه فراغٌ مركزُه في كل مكان، ولا محيطَ يحدُّه، وفي النهاية إن ضياع خيالنا في هذه الفكرة هو أقصى ما يمكن أن نستشعره عن القدرة الإلهيّة غير المتناهية.
وليعُدِ الإنسان إلى نفسه، فليفكرّ فيما هو عليه بالنسبة إلى الكون. إنه سيجد نفسه ضائعاً في هذه المنطقة المحوّرة من الطبيعة، ويتعلّم من هذا المأوى الصغير الذي يسكنه، وأعنى الكون، أن يقدّر الأرض والممالك والمدن وذاته قدْرَها الحقيقي: ما قدْرُ إنسانٍ في اللامتناهي؟ ولو شاء أن أُقدّم له معجزة أخرى أكثر إدهاشاً فليبحث فيما حوله من الأشياء التي يعرفها عن أصغر حشرة متناهية في الصغر، فإنه - على الرغم من ضآلة جسمها- سيجد لها أعضاء أصغر منها بكثير: أرْجلاً ذات مفاصل، وعروقاً في هذه الأرجل، ودماً في هذه العروق، وسوائل في هذا الدم، وقطراتٍ في هذه السوائل، وأبخرةً في هذه القطرات، فإذا استمرّ في هذا التقسيم فإنه سيُنفد طاقته في تلك التطوّرات!..
والآن، ليكن آخرُ شيءٍ يستطيع التوصل إليه موضوعَ حديثنا، إنه يفكر بأن هذا الشيء ربما كان أصغر شيء في الطبيعة، ولا أريد أن أصوّر له العالم المرئيّ فقط، بل الاتساع الذي يمكن تصوّره في نطاق هذا الجزيء الصغير: إن فيه عوالم لا نهائية، لكل منها سماؤه وسياراته وأرضه.. كما هو الأمر في الكون المرئي.. وفي هذه الأرض توجد حيوانات وحشرات وحشيرات، وسيجد فيها ما وجده في الأولى، دون توقّفٍ ولا نهاية. وسوف يضيع في هذه العجائب المدهشة بصغرها أكثر من ضياعه في السّماوات واتساعها..! ومنذا الذي لا يتعجّب من أن جسمنا الذي رأينا منذ قليل أنه لا يكاد يُلحظ في الكون العظيم، هو الآن عملاقٌ وعالم، بل كلُّ شامل بالنسبة إلى القدم الذي لا يمكن الوصول إليه؟
إن من يفكر في نفسه على هذا النحو سيرتعد خوفاً من ذاته، عندما يرى نفسه قائماً في حجمه الذي منحته إياه الطبيعة، بين هوّتيْ اللامتناهي والعدم. إنه سيرتعد لمشاهدته هذه العجائب. وأعتقد أنّه، وقد تحوّل فضوله تعجّباً، سيكون أكثر استعداداً لتأمّل ذيْنكَ الطرفين صامتاً أكثر من استعداده للبحث فيهما مزهوّاً.
أخيراً، ما الإنسان في الطبيعة؟ إنه عدمٌ في مقابل اللاّنهائي وكلٌّ في مقابل العدم، ووسطٌ بين اللاشيء والكلّ، ولما كان بعيداً جداً عن فهم النهايتين فإن بداية الأشياء ومنتهاها بالنسبة إليه أمران محجوبان حتماً في سرّ لا يمكن هتكه. وهكذا يرى المرء نفسه عاجزاً عن رؤية العدم الذي منه أتى واللانهائي الذي فيه يغيب!
بوسّوييه J. Bossuet - 1627-1704

كان جاك بوسّوييه خطيباً مسيحيّاً، اشتهر بكتابيه: المواعظ والمراثي. وكان أسلوبه في "المواعظ" يتصف بالخطابيّة والبساطة والمرونة مع الشدة وقوة التأثير، يستقي كثيراً من أفكاره وشواهده من الكتاب المقدّس، ويتبع أسلوب الأنبياء وآباء الكنيسة، ويُعدُّ علاوةً على نهجه الديني - أخلاقياً عميقاً ومستقيماً، أما مواعظه فكانت لوحاتٍ آخاذة، بارعة في تصوير مجتمع القرن السابع عشر. وإذا أضيف إلى ما تقدم عمقُ إيمانه وتضلّعه العلمي استطعنا أن نلمح من خلال نثره شاعراً غنائياً حقيقياً.
أما المراثي فهي اثنتا عشرة مَرْثاةً نثريّة تتحدث عن فضائل بعض المتوفَّين العظماء وانجازاتهم. وقد جدّد هذا الفن وأدخل فيه الوعظ والتاريخ. ويبدو أسلوبه فيها أكثر رويَّةً وصنعةً منه في المواعظ، وهو هنا حادّ اللهجة، متسامي العبارة بصورة عامة، إلى جانب البساطة والعبارة العاديّة المألوفة في بعض الأحيان.
رثاء هَنْرييت أميرة بريطانيا([4])

"ماتت هذه الأميرة عام 1676 مفاجأةً وهي في سن الشباب. وكانت تُعدُّ الملكة الحقيقية لما تتميز به من اللطف والذكاء والمكانة"
.... فكِّروا أيها السادة في ذوي السلطان هؤلاء، الذين ننظر إليهم من تحت بينما نرتعد في حضرتهم. إن اللّه ينزل بهم ضرباته ليعلّمنا. وإن ارتفاع شأنهم هو السبب في ذلك. وهو إنما يؤجلهم قليلاً ريثما يضحي بهم ليعلّم بقية أبناء البشر.
أيها المسيحيون، لا يغمغمْ أحدكم متسائلاً: هل حقاً اختيرت هذه الأميرة لتقدّم لنا مثل هذا التعليم؟ ليس في هذا الأمر أيَّةُ صعوبة بالنسبة إليها. مادام الله - كما سترون أخيراً- ينقذها في الوقت الذي يُعلّمنا فيه. إننا يجب أن نكون على ثقةٍ من فنائنا، وإذا كان لا بد من نازلةٍ تفاجئ قلوبنا المولعة بحب الدنيا فإن فاجعتنا هذه عظيمة ورهيبة.
أيها الليل المدّمر! أيّها الليل الرهيب! الذي ذاع فيه مفاجأة ذلك النبأ العجيب وكأنه قصف الرعد: السيّدة تحتضر.. السيدة ماتت. من منا لم يصعقه هذا النبأ حتى كأنما حلَّ في أسرته حادثٌ مروّع أليم؟
وفور وصول النبأ هرع الناس من كل مكان إلى سان كلود([5]). كلّهم ذاهل إلاّ قلب هذه الأميرة. في كل مكانٍ عويل، وعلى كل مكان يخيم الألم واليأس وشبح الموت..! الملكُ والملكةُ وشقيق الملك والبلاط كلّه صرعى يائسون. وإخال أني أرى تحقّق قول النبيّ: "الملك ينوح، والأمير يحزن، وأيدي الشعب تهبط من الألم والدهشة"([6]).
ولكن الأمراء وأبناء الشعب عبثاً يئنّون، وعبثاً يضم الملك وشقيقة الأميرة المحتضرة بين أذرعهما ضماً شديداً، لقد كان ممكناً أن يقول أحدهما للآخر ما قاله القديس أمبرواز: "كنتُ أشُدُّ بذراعيّ ولكنّي فقدتُ على الفور ما كنت أمسكه" لقد أفلتت تلك الأميرة من هذه العناقات الحنونة، واختطفها الموت الأقوى من بين ذراعي الملك!
ماذا؟ هل كان عليها أن تهلك بهذه السرعة؟ إن التغيرات تأتي لدى معظم الناس رويداً رويداً، وكأنما يُعدُّهم الموتُ لاستقبال ضربته الأخيرة، ولكن السيدة لم تلبث إلا من الصباح حتى المساء، وكأنها عشب الحقول: في الصباح ترونه مزهراً ناضراً، وفي المساء يغدو هشيماً. ولا شكّ أن هذه العبارات القويّة التي تعبِّر بها النصوص المقدسة عن هشاشة الإنسان تبدو دقيقةً ومنطبقةً انطباقاً على هذه الأميرة.
هاهي تلك الأميرة المثيرة للإعجاب والعزيزة على كل قلب -على الرغم من قلبها الكبير - كما أبداها لنا الموت.
سيغيب هذا الجثمان، وسيتلاشى ظلّ هذا المجد، وسنراها مجردة حتى من هذه الزينة الحزينة؛ وستنزل إلى هذه الأمكنة المظلمة وتلك المساكن القابعة تحت سطح الأرض، لترقد في الغبار مع عظماء العالم، كما يقول النبيّ أيوب، مع أولئك الملوك والأمراء الراحلين، حيث لا يكادون يجدون لها مكاناً عندهم، لأن صفوفهم هناك مرصوصة والموت العاجل يملأ كل تلك الأمكنة. ولكنّ خيالنا يخدعنا هنا أيضاً، فالموت لا يبقي أجساداً كثيرة لتملأ بعض الأمكنة، وهنالك لا نشاهد إلا هياكل القبور. هناك تتغير طبيعة لحمنا بسرعة، وسيكون لجسدنا اسمٌ آخر غير الجيفة. لأنه يحتفظ ببعض الأشكال البشرية، التي لا تبقى طويلاً، ثم لا يلبث أن يُصبحَ شيئاً آخر، لا أدري ما هو، شيئاً ليست له تسمية في أية لغة. حقاً كل شيء يموت في ذاته، حتى هذه المفردات المأتميّة التي نعبّر بها عن رُفاته البائس.
n تعليق :

يلاحظ الأطناب في تعظيم المتوفاة والمبالغة في وصف تأثير الكارثة على المتحدّث وعامة الشعب. والتقسيم المنطقي والممازجة بين التفكير والخيال والعاطفة وفخامة الأسلوب مع الاستشهاد بالنصوص المقدسة وربط الموضوع بالحكمة الإلهية والقناعة المسيحية.
ويتصف أسلوب بوسوييه إجمالاً بالوضوح ونقاء اللغة وقوة التأثير.
فينيلون Fenelon - 1651-1715

نشأ فينيلون نشأة مسيحية، وكان يود الانخراط في سلك الإرساليات إلى الشرق، ولكن تردّي صحته حال دون ذلك. فعيّن رئيساً لمدرسة تعنى بتربية البنات المنتقلات من البروتستانتية إلى الكاثوليكية. وفي أثناء ذلك كتب "تربية البنات" وضمنه آراءه التربوية. التي ربما سبق فيها روسّو. وفي عام 1693 انضم إلى الاكاديمية. وفي عام 1699 ألف "تيليماك" وله أيضاً كتاب "الخرافات": و"محاورات الموتى" وكلها ذات أهداف تربويّة. ولذلك اختير لتربية نجل لويس الرابع عشر.
تميز أسلوبه بالسهولة والعفوية والبساطة
النّساء وحب التبُّرج([7])

"لا تخشوا على البنات شيئاً أكثر من حب الظهور. فهنّ يُولدن وقد رُكّب فيهن ميل شيديد لإثارة إعجاب الآخرين. ولما كانت قد سدّت في وجوههن السبل التي تفضي بالرجال إلى السلطة والمجد فقد عُوِّضن عن ذلك عذوبةَ الروح وجمال الجسد. ومن هنا تأتي طلاوة حديثهن وجاذبيته، وتطلعهن الشديد إلى الجمال وكل أشكال اللطافة الخارجية، والولع الشديد بالتزيّن: فغطاء رأسٍ، وعقدة شريط، وملقط شعر يكون أعلى قليلاً أو أخفض، واختيار الألوان.. كل ذلك بالنسبة إليهن على جانب كبير من الأهميّة.

وأريد أن أعرِّفَ الشابّات قيمة البساطة المترفعة التي تبدو في التماثيل والأشكال الأخرى التي بقيت لنا عن النساء اليونانيات والرومانيات: لكمْ كنَّ يريْن من الملاحة والأُبهة في شعرٍ عقد من خلف الرأس كيفما اتفق، أو في ثيابٍ يضيق أعلاها ممتلئاً، ثم تنسدل فضفاضة بثنياتها الطويلة. ويحسن أن يستمعن إلى أقوال الرسامين وغيرهم ممن يتمتعون بهذا الذوق الرفيع فيما يخص العصور القديمة.
فإذا ترفعت نفوسُهنَّ قليلاً عن الاهتمام بالمستحدثات فسيشعرن على الفور بكرهٍ شديد لتجعيدات الشعر البعيدة عن الطبيعة وللثياب التي تبدو شديدة التصنّع. إنني أدرك جيداً أننا يجب ألا نطمح إلى أن يظهرن بمظهر النساء القديمات، ومن المستغرب أن نريد ذلك، ولكنهن يستطعن دون أية غرابة أن يتحلّين بذوق البساطة في أزيائهن الجميلة الفاضلة التي تلائم الأخلاق المسيحية...!
فإذا جرين في مظهرهن خلف الأمور المستحدثة فسيعلمن على الأقل ما سيقال عن هذا التصرف: إنهن يستسلمن إلى (المودة) في ضربٍ من العبودية المخزية..! ولا يعطينها إلاّ ما يقدرن على رفضه منها.
فعلموهن دائماً وفي وقت مبكر أن حبَّ الظهور وطياشة الروح هما السبب في تقلّب (المودات). وإنّه لأمرٌ غير مستساغ أن تضخِّم المرأة رأسها بما لا يحصى من الأغطية المكدّسة.
إن الجمال الحقيقي هو الذي يوافق الطبيعة ولا يقاومها أبداً.
n تعليق: تبدو في هذا النص الخصائص الكلاسيكية الآتية:
1- الاهتمام بالتربية والأخلاق والمثل المسيحية
2-محاولة الإقناع العقليّ ومقاومة الانسياق مع النزوة والمزاج.
3- عدم الاحتفاء بالصور الخيالية.
4- الاعجاب بذوق القدماء وتهجين المستحدثات.
5- الميل إلى موافقة الطبيعة والنفور من المصطنع.
6- البساطة والوضوح في الأسلوب.

بوالو N.Boileau - 1636-1711

وُلد نيقولا بوالو في باريس، وعاش حياة حرةً مستقلةً مكتفياً بما ورث من ثروة، وكان يعمل محامياً ثم تفرغ للشعر. وتتألف حياته الأدبية من ثلاث مراحل:
1- المرحلة الأولى، كتب فيها "الأهاجي" Les Satires وتمتد من 1660-1669. وكان يهاجم فيها الشعراء الضعاف الشاعرية والمدعين ويدافع عن الشعراء الذين شهد لهم الأسلاف بالتفوق.
2- المرحلة الثانية: 1669-1677 وفيها كتب "الرسائل" Epitres "والفن الشعري" L’art poétique وقسماً من "المقرأ" Lutrin وكانن يستقبل في بيته أصدقاءه الأدباء الكبار مثل موليير وراسين ولافونتين وكان يحظى بمحبة الملك لويس الرابع عشر وإيثاره. ولكن دون أن ينال منه مُرتباً كغيره من الأدباء إلى أن عيّنة مؤرخاً في القصر بجانب راسين
3- المرحلة الثالثة: 1677-1711 وكتب فيها آخر أعماله الشعرية مكملاً مؤلفاته السابقة. ولم توله الأكاديمية أي اهتمام لأنها كانت تغصّ بالكتاب الذين سخر منهم. ولكن الملك فرض عضويته فيها عام 1684 فانهمك في معاركه النقدية بين القدماء والمحدثين.
ثم قضى آخر أعوامه في المرض فلزم البيت في جو من الكآبة والحزن حتى توفي.
نصّ من "الأهاجي"([8])
حقوق النقد (1667)


"الأهاجي قصائد سخر فيها بوالو من أخلاق البورجوازيين ومن أخلاق أهل عصره ومن مدعي الأدب. وكان بوالو يؤثر العبقرية الخالدة على المواهب الحديثة.
وفي النص التالي يعلن أن أي أديب يعرض أدبه للجمهور يجب أن ينتظر التجريح أكثر من المديح. فإذا كان للمشاهد حق التصفير إذا لم تعجبه المسرحية، وكان لكل إنسان حق الحكم الناقد حسب قناعته فلماذا لا يحق للناقد أن يبدي رأيه في أي عملٍ مطبوع، إذا انصب نقده على المؤلف من حيث هو كاتب؛ أما الشخص فيجب أن يبقى محترماً. وبهذا يكون للنقد دور أخلاقي بقدر ما هو ضروري.."
***
"يوجد في البلاط دوماً ناقدٌ أحمق من الدرجة الأولى،
بإمكانه أن يسفّه الآخرين بوقاحة،
فيفضل تيوفيل([9])على ماليرب أو راكان([10])
ويرجّح زيف تاس على كل ذهب فيرجيل([11])
وراهبٌ يستطيع، دون أن يمنعه أحد
ولقاء خمسة عشر فلساً، أن يقف بين العامّة،
ليهاجم أتيلا([12]
وإذا لم يطرب ملك الهون مسمعيه
ينعت كل أشعار كورنيي بأنها فيزيغوتيّة!
وما من خادمٍ عند أديب أو ناسخ في باريس
إلاّ ويحمل في يده الميزان لينقد الآثار الأدبية.
ومنذ أن تظهر المطابع شاعراً
يصبح، منذ الولادة، عبداً لمن يشتري كتابه.
ويخضع هو بشخصه لنزوات الآخرين.
وكتاباته وحدها يجب أن تدافع عنه.
وذاك كاتبٌ يجثو في مقدمته المتواضعة،
ضارعاً إلى قارئه، ومضجراً إياه باستعطافه

ولكن دون طائل؛ فلن يحظى بأي تأثير على ذلك القاضي المحّنَق،
الذي يفصل في قضيته بسلطانه المطلق...
وأنا وحدي لا أملك حق الكلام..!
وأمام تلك المساخر لا أملك حتى الابتسام...!
إنهم ينقبون في أشعاري عن كل مثلبة،
ليسلحوا بها ضدي كثيراً من الكتاب المغيظين،
الذين لم أتعرض لهم بأية إساءة لما كتبتها.
والذين، في معظم الأحيان، لولا أشعاري التي أشهرتهم
لبقيت مواهبهم مغمورة في طي النسيان..!
من كان سيدري لولاي أن كوتان كان واعظاً؟([13])
إن السخرية الناقدة لا تفعل شيئاً سوى أن تجعل المغمور مشتهراً.
إنها ظلّ يضاف إلى اللوحة فيمنحها البهاء.
وأخيراً، إنما قلتُ، حين انتقدته ما اعتقدته.
ومن يلومني على ذلك يقول مثلي:
أحدهم يقول: "لقد أخطأ، كان يجب ألاَّ يسمّي،
هاجم شابلان وهو رجل طيب جداً،
أثنى عليه بلزاك في كثير من المواطن ،
صحيح أنه لم ينظم شعراً،
ومادام بالشعر ينتحر فلماذا لا يكتب نثراً؟"
هذا ما يقال. وهل قلتُ شيئاً غيره؟
وحين انتقدت كتاباته، هل سكبت بأسلوبٍ لاذع
على حياته سمّاً خطيراً؟
لقد كانت عروس شعري، حين هاجمته متسامحة جداً ومحسنة،
تميّز بين الرجل المحترم والشاعر.
فليُثنِ الناس على إيمانه وشرفه ونزاهته،

وليُطروا طهارته وتهذيبه،
وليكن لطيفاً ومجاملاً وخدوماً ومخلصاً؟
هذا ما يُراد، وأنا موافق عليه، ومستعد لأن ألزم الصمت.
ولكنْ، أن يجعلوا من كتاباته نموذجاً،
وأن يمنح أكثر مما يستحق بين رجال الأدب،
وكأنه ملك المؤلفين الذين أنجبتهم الدنيا،
فهذا ما يثير حنقي ويجعلني أتحرّق للكتابة.
وإذا لم أستطع قوله على الورق،
فسأحفر في الأرض، وكما فعل ذلك الحلاّق،
سأقول لقصب الغاب، بحاسّة جديدة:
"ميداس، الملك ميداس([14])، له أذنا حمار"!
وأخيراً، هل أسأت إليه بما كتبت؟
أتراني أوقفت قلبه أو أزهقت روحه؟
وإذا كان أحد الكتب يباع في القصر وينفُق،
فليحكم كل امرئٍ بعينيه على جدارته...
***
إن الهجاء الغنيّ بالدروس والكشوف الجديدة،
يعرف، وحده، كيف يقدّم الممتع والمفيد،
وبشعره المصفّى في ضوء الحسّ السليم،
يعرف كيف يبرز للفكر أخطاءَ العصر.
إنه وحده حيثما يدين الغرور والظلم
إنما يدين النقائص حتى تحت القبّة المقدسة.
ودون أن يخشى أحداً، وبفضل كلمته الطيبة

ينتقم للحقيقة من عدوان رجل أحمق.
أنه وحده الذي يفتح لي الطريق التي يجب أن تُسلك،
وهو الذي ألهمني منذ خمسة عشر عاماً كره الكتاب الأحمق.
وثبّتَ خُطاي، وعلمني السَّير على هذه القمة الشهيرة([15])
التي تجرأتُ أن أنشده فيها.
وبكلمة واحدة، لأجله وحده نذرت أن أكتب.

([1]) المصدر السابق ص124 والترجمة للمؤلّف

([2]) ترجمة المؤلف عن المصدر السابق ص126

([3]) ترجمة المؤلّف المصدر السابق 151

([4]) ترجمة المؤلف عن المصدر السابق ص 158

([5]) المكان الذي ماتت فيه.

([6]) الكتاب المقدس. حزقيال 7-27.

([7]) ترجمة المؤلف عن المصدر السابق ص 189

([8]) ترجمة المؤلف عن المصدر السابق ص 133.

([9]) تيوفل شاعر غنائي (1626) وهو خصم ماليرب.

([10]) راكان شاعر فرنسي في القرنين السادس عشر والسابع عشر.

([11]) تاس شاعر درامي وملحمي في القرن السادس عشر. وفيرجيل صاحب الإنيادة.

([12]) مسرحية لكورنيي.

([13]) كوتان كاتب ورجل دين في القرن السابع عشر.

([14]) ميداس: ملك أسطوري فضّل صوت (بان) على صوت زيوس في الغناء، فجعل هذا أذنيه أذني حمار، ولم يكن يعرف هذا السرّ إلا حلاقه، الذي لم يستطع أن يبوح به للناس، فحفر حفرة وباح فيها بالسرّ، فنبتت غابة قصبٍ كانت كلما حركتها الريح تقول: ميداس له أذنا حمار.

([15]) قمة البرناس حيث تجتمع الملهمات.
__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
  #5  
قديم 02-19-2012, 10:04 AM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,413
افتراضي

لابرويير La Bruyére - 1645-1696

من أبرز الكتاب الأخلاقيين الذين اهتموا بتحليل طبائع عصرهم، ألَّف كتاب "الطِّباع" Les Caractéres في ستة عشر فصلاً تتحدث عن الفكر والمنزلة الشخصيّة والنساء والقلب والمجتمع وفن المحادثة والمال والعظماء والمدينة والبلاط والإنسان والأحكام والمستحدثات... الخ.
وكان في ذلك مصور نماذج بارعاً من خلال ملاحظته المجتمع. وقد ألف من مجموع ملاحظاته صوراً متكاملة لم يعوزها رسم الملامح ولا الكلام والثياب والحركات والمظاهر المثيرة للسخرية، فجاءت أعمالاً فنيّة من حيث التصوير والتشخيص والمقارنة والمفاجآت.
أما أسلوبه اللغوي فقد حوى اللغة الغنيّة ذات المعجم الواسع والتركيب المرن، وجمع بين النزوع إلى محاكاة القدماء ومسايرة الجديد وبين الجمل الطويلة والجمل القصيرة المكثفة، وحين يغلب عليه الخيال ينقلب إلى فنان، ويكاد يغيب الباحث الأخلاقيّ. ويعدّ لابرويير كاتباً أسلوبياً ترفع في معظم الأحيان عن البساطة والعفوية وعمد إلى إعلاء الشكل لرفع قيمة المضمون.
الـــثـــّروة([1])

"يتحدث لابرويير عن بذخ الملكة زنوبيا معرّضاً ببعض الحكّام الذين يسرفون ويبذرون في بناء القصور الفخمة ملمحاً إلى أنها زائلة وإلى غيرهم آيلة!"
..." يا زنوبيا؛ لن تهزَّ عرشك أو تنال من أُبَّهتك الاضطرابات. ولا الحرب التي خضتها ببسالةٍ ضدّ أمّةٍ قوية بعد رحيل زوجك الملك. لقد آثرت ضفاف الفرات على كل مكان لتشيدي عليها بناءً أخاذا، فالهواء هنالك نقيّ ومعتدل، والطبيعة من حول القصر ضاحكة، وثمَّ غابة مقدسة تظللّه من جهة الغرب، وإن آلهة سورية الذين يسكنون المعمورة غالباً، ليس في استطاعتهم أن يبنوا مسكناً أجمل منه.
الأرض من حوله مكتظّةٌ بالرجال الذين يقطعون الحجر وينحتونه غادين رائحين، يدفعون أو يجرُّون أخشاب لبنان والبرونز والمرمر. وصوت الروافع والآلات يتعالى في الجو، والمسافرون إلى الجزيرة العربية يتمنون أن يشاهدوا في طريق العودة إلى وطنهم، ذلك القصر مكتملاً في البهاء ستختارينه لنفسك ولأبنائك الأمراء قبل أن تحلّي فيه.
أيتها الملكة العظيمة لا تدخري وسعاً، أنفقي الذهب، وأعملي أقصى درجات الفن لدى أمهر العمال، وليبذل نحاتو عصرك ورساموه غاية علمهم في زخرفة السقوف والجدرُ...
أنشئي حدائق فسيحةً بهيجة، إذا رآها المرء سحرته وخيّلت إليه أنها ليست من صنع البشر. استنفدي ثرواتك وصناعاتك في هذا العمل الذي لا مثيل له. وبعد أن تفرغ الأيدي من لمساتها الأخيرة، في يوم من الأيام سيأتي أحد الرعاة الذين يسكنون الرمال المجاورة لتدمر، وقد أصبح واسع الثراء من واردات أنهارك، فيشتري بنقوده هذا الصَّرح الملكي، ليجمِّله ويجعله أكثر جدارة بشخصه وثرائه.."

qq



الرومانســـــــيَّة


1- الاصطلاح والتعريف

الرومانسيّة، أو الرومانتيَّة، Romantisme نسبةٌ إلى كلمة "رومان" Roman التي كانت تعني في العصر الوسيط حكاية المغامرات شعراً ونثراً. وتشير إلى المشاهد الريفيّة بما فيها من الروعة والوحشة، التي تذكرنا العالم الأسطوريّ والخرافيّ والمواقف الشاعرية؛ فيوصف النص أو الكاتب الذي ينحو هذا المنحى بأنه "رومانتيك".
وأول ما ظهر الاصطلاح في ألمانيا في القرن الثاني عشر، ولم يكن ذ1 مفهومٍ واضح الحدود: فأحياناً كان يعني القصص الخيالي، وأحياناً التصوير المثير للانفعال؛ وتارة ما يتّصل بالفروسية والمغامرة والحبّ وتارةً أخرى المنحى العفويّ أو الشعبيّ أو الخروج عن القواعد والمعايير المتعارف عليها، أو الأدب المكتوب بلغاتٍ محليّة غير اللغات القديمة، كالفرنسية والإيطالية والبرتغالية والإسبانية...
وإجمالاً صارت كلمة "رومانتيك" تعني كل ما هو مقابل لكلمة "كلاسيك". ولذلك نعت بالرومانسية شعراء وروائيون ومسرحيّون عاشوا قبل عصر الرومانسية مثل شكسبير وكالديرون وموليير ودانتي وسرفانتس، لأنهم أتوا بأشياء جديدة، ولم يكونوا يحفلون بالحفاظ على الأشكال القديمة.
وكان هذا اللفظ يطلق في القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر مراداً به الإشعار بالذم أو النقص لكلّ بادرة جديدة تتحدّى السائد من القواعد الأدبية المترسخة، أو تحتوي على خلل وتهاون في القافية أو اللغة. ولهذا يقول الشاعر غوته: "الكلاسيكية صحّة، والرومانسية مرض" ولا عجب، فلكلّ جديد غريب خصومٌ وأنصار. ولم يجرؤ أحدٌ من الشعراء الفرنسيين أن يطلق على نفسه نعت رومانسيّ حتى عام 1818 حين أعلن ستندال: "أنا رومانسيّ؛ إنني مع شكسبير ضد راسين، ومع بايرون ضد بوالو"!

وتطلق الآن كلمة الرومانسية على مذهبٍ أدبيٍّ بعينه ذي خصائص معروفة، استخلصت على المستوى النقدي من مجموع ملامح الحركة الأدبية التي انتشرت في أوربا في أعقاب المذهب الكلاسيكي، وكذلك على هذه الفترة وما أعطته من إنتاج على المستوى الإبداعي.
ويعرّف غايتان بيكون (أحد مؤرخي الأدب الفرنسي) الرومانسية بقوله: "إنها مجموعة أذواق متزامنة، وحرّيات خالقة؛ ولا يهمّ أيُّ شيءٍ تخلق، لكنه شخصيّ وأصيل وغير تقليدي يشعرون به في الوقت نفسه. إنَّ الرومانسية فنٌّ شعاره: كل شيءٍ مسموح به".
فالرومانسيّ يرفض التقليد واحتذاء نماذج الأقدمين اليونان والرومان ويريد أن يتحرر منهم. وهو عدو التقاليد والعرف، يريد أن يكون مخلصاً لنفسه، وأصيلاً في التعبير عن مشاعره وقناعاته، قلباً وقالباً، ومن ثمّ فهو يقدّم كيفيةً جديدة في الإحساس والتصور والتفكير والانفعال والتعبير، أي مفهوماً جديداً للواقع وموقفاً جديداً من العالم واعتقاداً بالحركة والحرية والتقدم، وأولويّة للقلب على العقل.

2- المناخ العامّ

1- الجذور وإرادة التغيير:

تحدثنا في الفصل السابق عن مرحلة الانتقال من الكلاسيكيّة إلى الرومانسيّة، وعن المعركة بين أنصار القديم وأنصار الحديث، وكيف تهيأت الأذهان رويداً رويداً منذ نهاية القرن السابع عشر إلى قبول التغيير، وكيف سرى هذا التغيير خلال القرن الثامن في مناخٍ من الوفاق والشقاقِ، إلى أن جاء التغيير الحاسم على يد شاتوبريان. وفي الحقيقة لا يأتي أي تغيُّرٍ طبيعي بغتةً، فقد حملت الكلاسيكية في أحشائها بذور الرومانسية، لأنه لا توجد أبداً في عالم الإنسانيات حدود فاصلة وفروقٌ حاسمة. وقد رأينا كيف كان كتّاب الكلاسيكية يميلون دوماً إلى الوطنية واللغة المحليّة والتغيير في بعض المعايير الأدبية المتشدّدة؛ حتى إن رونسار- وهو جد الكلاسيكية- كان يمهّد في منحاه الشعري لظهور الرومانسية، وكأنه يعلن بزوغها في وقتٍ مبكر. وكان ستندال يؤكد أن موليير كان رومانسياً في أواسط القرن السابع عشر! على أن كتاباً كثيرين، غير فرنسيين سبقوا هؤلاء إلى الرومانسية مثل غوته وشيلر وليسنغ وكان لهم أثر في تحول وجهة الأدب الفرنسيّ.
لقد كانت الرومانسية في أحد جوانبها العميقة رداً على التيّار المتمثّل في إيغال الإنسانيين Humanistes في إعادة الاتصال بالمنابع الثقافية القديمة وعزوف أدباء النهضة عن كل ما هو محلّي أو وسيطيّ.
2- متغيرات العصر:

جاء هذا الرد بدوره نتيجة لتغيراتٍ اقتصادية وسياسيّة واجتماعية هامة في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر (عصر الثورة الفرنسية والامبراطورية) حتمت على أوربا تغيير اتجاه مصادرها الثقافية، وطغت فيها موجات قوية لتقلب رأساً على عقب المجتمع والذوق الأدبي والفنّي، من حيث المضمون وطرق الأداء والتعبير، فالتغيير لا بد أن يشمل كلّ نواحي الحياة. وفي نهاية القرن الثامن عشر كانت المعامل قليلة والإنتاج ضئيلاً وبطيئاً، ولما جاءت الثورة الصناعية والعلمية متصاعدة تدريجياً بدأ التغيير يعمُّ كل شيء، فجاءت الثورة الصناعية وفي أعقابها الثورة التجارية شاملتين كل نواحي أوربا.
3- مبادئ الثورة:

وممّا سهل انتشار الرومانسية الجو السياسي الأوربيّ، فعلى ضوء المصابيح الثورية، وعلى صوت مدافع الثورة الفرنسية ظهرت طبقة جديدة تسلّمت مقاليد الحكم والسلطة الدينية وأعلنت الحرية، وأخذ الشعب يمارسها فعلاً، وظهرت مفاهيم الأمة والشعب والمواطنة والحرية والمساواة والعدالة. وعمّ هذا التيار كلّ أوربا منذ نهاية القرن الثامن عشر إلى أواسط القرن التاسع عشر، وهي الفترة الموازية لتصاعد القوميّات وشعور الأدباء بغنى الألوان المحليّة وضرورة العودة إلى المنابع الحيّة للإلهام. وفي فرنسا بصورة خاصّة، وافقت هذه الحركة المجدّدة تطلّع المثقفين إلى تحرير المضطهدين وإنصاف المظلومين والمحرومين منذ عهود سحيقة.
كما أن انحلال نظام نابليون وعودة النظام القديم ومُثلِه أرهصت للتطلع نحو ظهور البطل الرومانسي المتعطش للحب والشعر والجمال.


4- الحروب المدمّرة:

سببت مجازر الثورة ثم الحروب الطاحنة في أوربا صدمةً لدى الجيل الذي كان مشبعاً بروح الوطنية والمغامرة والأحلام بانتصارات عظيمة ومستقبل زاهر لبني الإنسان. فقد وجد نفسه خائباً ومحروماً من كل مثال وأمل. فساد شعورٌ بالخيبة والإحباط والقلق والعصابيّة والانطواء على الذات، والشكوى من الإجحاف: وها هو ألفريد دو موسيّه يقول: "لقد أتيتُ متأخراً في شيخوخة الزمن"! وكأنما يردّد قول المتنبي:

أتى الزمان بنوه في شبيبته



فَسَرَّهم وأتيناه على الهرم!


5- الديمقراطية:

ظهر في الطبقة البورجوازية والوسطى أدباء وفنانون، ولكنهم، بسبب تأثير المبادئ الثورية الجديدة لم يتجهوا إلى النخبة النبيلة أو المثقفة ولا إلى القصور والحكام بل إلى سواد الشعب. وهجروا اللغة النبيلة المتكلفة ولغة الصالونات الأدبيّة، وبذلك تجددت الأساليب والمفردات والأجناس، وحلّ مفهوم "الفرد" محلَّ المفهوم الكلاسيكي للإنسان.
n والخلاصة:

بسبب العوامل السابقة عمّت أوربا "جائحة" الرومانسيّة التي حرّرت العواطف والأفكار والأذواق وشملت كل النواحي الاجتماعية والإبداعية من اسكاندينافيا إلى أسبانيا وإيطاليا ثم عبرت المحيط إلى أمريكا ودامت مدةً تزيد على القرن، مع الإشارة إلى أن هذه الموجة ليست ذات طابع واحد في كل مكان، بل هنالك ألوان داخل هذا الإطار الكبير، ألوان بعدد الأقطار، بل بعدد الأدباء وشمل التغيير كلَّ شيء حتى الأسرة والأخلاق والأزياء والحدائق والقوانين.


3- تأثير الأُدباء

1- جان جاك روسّو: J. J. Rousseau (1712-1778)

كانت روح الرومانسيّة تسري في مؤلفات روسّو من قبل أن تولد الرومانسية. ويبدو أثر ذلك في كتبه: إيميل: والاعترافات، وأحلام المتجول الوحيد. كان روسّو يؤمن بالعقل والفكر والجدل، ولكنه انعطف نحو الغريزة والإحساس الفردي وحسّ الطبيعة والأحلام والتملّص من القيود الاجتماعية. وكان يرى أن الإنسان طيّبٌ بفطرته، والمجتمع هو الذي يفسده، وأن التقدم يحمل معه شقاء الإنسان، ولا علاج له سوى الإخلاد إلى الطبيعة واللجوء إلى حرم الدين.
2- مدام دوستايل Mme. De Staél ( 1766-1817)

كان لمدام دوستايل إسهامٌ هامٌ ومبكر في الدراسات الأدبية والنقدية التي شجعت الاتجاه نحو الرومانسية.
ففي كتابها (من الأدب) بينت أن الحرية أساس التقدم، ولذلك كانت تبحث في كل عمل أدبي قديم أو حديث عن توهج الحريّة أو خمودها، وتهتم بالبحث عن تأثر الأدب بالفضيلة والخير والمجد والحرية والسعادة والعادات والأمزجة والقوانين والدين، وعن تأثيره بالمقابل في هذه الجوانب وبذلك فتحت الباب للبحث في علاقة الأدب بالمجتمع.
وتضمن كتابها (من ألمانيا) 1800م فصولاً نقدية في الشعر والرومانسية وأخرى في النقد عند ليسنغ وشليغل. وعرّفت القراء الفرنسيين الشعراء الألمان مثل غوته وشيلر والأدباء الروس والإنجليز، وسبقت بأفكارها حول الرومانسية شاتوبريان وأكملت آراءه، ودعت إلى دراسة العمل الأدبي ضمن شروط البيئة والوسط الاجتماعي، وفي علاقته بالظروف التي أنتجته وكيّفته؛ وبذلك أدخلت في النقد مفهومي النسبييّ والتاريخي.
3- شاتوبريان: Chateaubriand (1768-1848)

قال تيوفل غوتييه: "إن شاتوبريان أعاد الاعتبار إلى الكنيسة القوطية، وفتح الطبيعة الكبرى المغلقة وابتدع الكآبة العصريّة" وإذا أضفنا أنه جدّد النقد الأدبي نكون قد لخصنا بهذه العناصر الأربعة كل تأثير شاتوبريان.

ففي كتابه (عبقرية المسيحية) 1802م لم يضف شيئاً على التعاليم الدينية، ولكنه حطم تيار الشك ومعارضةِ الدين الذي نشأ في القرن الثامن عشر، وأثبت جدارة المسيحية من الناحيتين الاجتماعية والجمالية، وشرح الإيمان المسيحي ودافع عنه؛ وبذلك حوّل الأنظار إلى العصر الوسيط بعد أن انصرفت عنه خلال القرون الثلاثة الماضية؛ وأبرز أهمية الفن المعماري القوطي الأصيل في مقابل التقليد لليونان، وبيّن الارتباط الوثيق بينه وبين التديّن الفرنسيّ والطبيعة الفرنسيّة، وبفضله نشأ تيار جديد لفّ الفنانين والأدباء قوامه الإعجاب إلى حد الحماسة بنتاج العصر الوسيط الذي طالما جُحدت قيمته.
ومن ناحية موقفه من الطبيعة لم يأتِ بشيء غريب لأن الالتفات إليها والاهتمام بها تمّ على أيدي أدباء سبقوه مثل روسّو وبرناردن دوسان بيير. الأول في (إيميل) والثاني في (بول وفرجيني). ولكنه وسّع هذا الباب وطوره، ووسَّعه بكثرة ما وصف من المشاهد الطبيعية التي شاهدها في البلدان الكثيرة التي طوّف بها من أمريكا إلى فلسطين بما في ذلك البحار والغابات والجبال والأنهار التي عاشرها آناء الليل والنهار وأحسّ بما توحيه من العظمة والروعة والوحشة، وتعاطف الإنسان معها وامتزاج أحاسيسه بها.
أما الكآبة العصرية فكانت معروفة قبله في مؤلفات روسو في (هيلوييز الجديدة 1760) وغوته في (فيرتر) الذي ترجم إلى الفرنسية عام 1778. ولكنها كانت ترد لديهما في لمحاتٍ قليلة أو استثنائية وشخصية بخلاف ما هي عليه في كتاب شاتوبريان ( رونيه René) الذي شخّص فيه كآبة العصر بكامله، وأبرز مآسيه الشاملة وما انتابه من كوارث الموت والدمار والخيبة في أثناء الثورة الفرنسية وما تلاها من الحروب حيث لم يبق عزاءٌ إلاّ في الطبيعة والدين، مما جعل هذا الاتجاه أساساً للغنائية الجديدة بمعنييها السلبي والإيجابي.
أما تجديده في النقد الأدبي فيبدو في انتقاله من نقد الأغلاط والعيوب إلى النقد الجمالي والربط بين الأثر الأدبي والحالة الحضارية والمزاجية العامّة، لأنه نتاج هذه الحالة والمعبر عنها والمؤثر فيها. وفي الحقيقة كانت مدام دوستايل قد سبقته إلى ذلك كما رأيناه، ولكن خصوصية شاتوبريان تكمن في حسمه الخصومة بين القديم والحديث لصالح الحديث) عندما بنى أحكامه وتقويماته الأدبية والفنّية في (عبقرية المسيحية) على ذوق عصره وعقيدته أكثر من تعويله على النظريات المعرفية السابقة، وبمقارنته بين نماذج الرجل والمرأة والأم والزوجة والزوج والمحارب في الأدب القديم والأدب الجديد، وتبيانه ما تدين به الكلاسيكية إلى المسيحية من حيث المكتسبات النفسية، وتأكيده أن أصالة الكلاسيكية لم تكن لتسطع في بهائها إلا فيما أضافه الكتَّاب من الإغناءات والتغييرات على نماذجهم البشرية من خلال النظرة النسبيّة.
***
وبنتيجة العوامل السابقة كلها انتشر المذهب الرومانسي في ألمانيا وإيطاليا وفرنسا، ولكنه بقي في الأوساط الأكاديمية الرسميّة منظوراً إليه بشيءٍ من الريبة والاستنكار، واشتدت الخصومة بين انصار القديم وأنصار الجديد، وكان من آثارها ظهور مقدمة مسرحية كرومويل (1827) لفيكتور هوغو، والجدل العنيف الذي ثار حول مسرحيته هرناني (1830) ومن ثمَّ تسربت ملامح هذا المذهب الجديد إلى البرتغال وروسيا وإنجلترا. وكان اللورد بايرون (1824) قد دافع بحماسة عن نسبية الذوق الشعري وعلاقته بالتطور الزمني والاجتماعي؛ فأصبح بذلك رومانسياً دون أن يدري...! وأصبح من أعلام الرومانسية فيما بعد كل من سكوت وكولردج ووردزوُرث وشيلّي.
وهكذا عمت الرومانسية جميع أقطار أوربا وأصبحت مذهباً قوياً يناهض الكلاسيكية، ولكنها لم تَسُد فجأة بل تبعت منحى تطورياً بطيئاً مرّ بمراحل عديدة من الإرهاص والتجربة والتحضير والتعايش مع النظام الكلاسيكي في كثيرٍ من الشّقاق والتصادم حتى عمّ الاقتناع به كلَّ أوربا؛ وقد استغرق ذلك قرابة قرنٍ من الزمان.
4- خصائص الأدب الرومانسيّ

أ- في الروح والمجالات:

1- الاحتجاج على سلطان العقل، والاتجاه إلى القلب بما يجيش فيه من المشاعر الملتهبة والأحاسيس المرهفة، والعواطف والأهواء والقلق والاندفاع غير المحدود نحو الجمال، والتغني بالحب الأفلاطوني والبوهيميّ، الحبّ في أحضان الطبيعة والعفوية والتمرّد على القيود والشكليات الاجتماعية، ولدى عودة الرومانسيين إلى الذات أصبح الفرد محور الأدب لا الإنسان الكلّي وتضخمت النرجسيّة ونما أدب البوح والاعتراف.

2- العودة إلى المصادر الوطنية والقوميّة والأجواء الشعبية المحلّية وإعادة الاعتبار إلى العصر الوسيط المسيحيّ، عصر الإقطاع والكنيسة والبطولة وما يتصل به من حكايات وأساطير وملاحم.. يقول موسيّه:
"... لنقلْ لأبطال فرنسا في الأزمنة القديمة
أن يظهروا بسلاحهم الكامل على شرفات بروجهم،
وأن يعيدوا علينا قصصهم الساذجة
التي رواها شعراء التروبادور عن مجدهم المنسيّ.."
إنها التفاتة إلى الماضي القومي فيها الكثير من التأمل والأحلام والحنين وكأنما هي عزاءٌ عما أصاب أوربا من الكوارث.
وقد دعم هذا النزوعَ المؤرخ ميشليه بأسلوبه الخطابي المفعم بالاعتزاز بماضي الأمة الفرنسية في العصر الوسيط وما خلفته من الأوابد والكنائس والمنجزات الحضارية. ونلمس تجسيداً لهذا التيار في كتابات شاتوبريان وهوغو وولتر سكوت وبوشكين..
3- التمرُّد والبناء: فقد تمرد الرومانسيون على جميع الأنظمة والقواعد والقوانين والمواضعات الاجتماعية والاحكام المسبقة وراحوا ينشدون الحريّة الفكرية والأخلاقية والانعتاق اللاّنهائيّ. ومع هذا التمرّد والتحرّر كان يوجد بناءٌ لعالم جديد قوامه الحقّ والخير والعدل والمساواة والحريّة. إنّ رسالتهم -كما يقول لامارتين- الهدم في صالح التقدم البشريّ، ومن أبرز شعراء الثورة والتمرّد بايرون ووردزورث..
فللرومانسية إذن وجهها الإيجابيّ في تجديد الأفكار والمعايير الأخلاقية وتغيير عوالم السياسة والدين والمجتمع والفن.
4- العزوف عن الأساطير اليونانية والرومانية والاغتراف من معين الدين ومصادره كالتوراة والإنجيل وما فيهما من شخصيات ونماذج وسموّ وشاعريّة. وقد وجد الرومانسيون في الدين ملاذاً ترتاح فيه نفوسهم الحائرة المعذَّبة وتسمو فوق الغرائز الماديّة ووصلوا إلى درجة التصوّف والتجلي الإلهي ووحدة الوجود. يقول هوغو: "كلّ الكائنات الحيّة هي الله، وكل الأمواج هي البحر... ولا شيء موجود سوى ذلك النور العميق..". لكن المتديّن عندهم ليس ذلك التقليدي المؤسسيّ بل الشاعري الخاصّ المنطلق من أجواء الخيال والرمز والتوحيد بين الله والإنسان والطبيعة.
5- العودة إلى الطبيعة واتخاذها إطاراً للمشاهد القصصيّة وموضوعاً موحياً أثيراً، فقد اكتشف الرومانسيون ما في الطبيعة من الجمال والعظمة ولا سيما الأجواء العاصفة والبحار الهائجة والجبال الشامخة الجبارة والغابات الغامضة. والليالي المظلمة والأطلال البائدة؛ وأخلدوا إلى ما في الطبيعة من سكون ووحشة وعزلة، ورأوا فيها روحاً وحياةً متجدّدة فناجوها كأم رؤوم وحبيبة معشوقة، يقول لامارتين: "ها هي الطبيعة تدعوك وتحبُّك" وتحدثوا عن عبادة الطبيعة، ومزجوا بينها وبين الألوهة ونشدوا في أحضانها ملاذاً للأشقياء وبلسماً وعزاءً للمعذبين. يقول نوفاليس: "يمكن تشبيه الطبيعة بآلة موسيقية تتطابق كل أصواتها مع أوتارٍ خفيّة توجد فينا". ولكنهم وجدوا فيها من ناحية أخرى، الكائن الجبار الغامض المخيف الذي لا يبالي بالإنسان.
6- الولع بالتغُّرب والغريب: إنه الفرار إلى عوالم جديدة والترحال في البلاد البعيدة، واكتشاف الجديد من الأفاق والغريب من الأقوام والعجيب والطريف من الأمور، سواءً ضمن أوربا أو في الشرق والقارات الأخرى، وقد انعكس ذلك في أدب القصة والرحلات والمغامرات الذي تجلت فيه نزعة الإغراب Exotisme فتيوفل غوتييه يذهب بنا إلى إسبانيا ويصف الفتاة الإسبانية. وألفرد دوموسيه يصف الفتاة الأندلسية والبرشلونية السمراء ذات الشعر الأسود؛ وشاتوبريان يصف عاصفة في صحراء رملية في مصر، ولامارتين يرتحل إلى الشرق ويزور سورية ولبنان وفلسطين، والفرد دوفينيي يستوحي الأجواء التركية في مسرحياته ولغوته ديوانه الشرقيّ وبايرون يرتحل إلى اليونان ويقاتل لأجلها... إنها النفوس التي تأبى أن يحدّها مكان، والتي تودّ أن تنداح في الكون الفسيح وتكشف المجهول وتقتحم عالم الأسرار.
7- البطل الرومانسيّ: حين عزفت الرومانسية عن تصوير خوارق اليونان والرومان كالمردة والعمالقة والآلهة وانصاف الآلهة والأبطال الخارقين للعادة خلقت لنفسها أبطالاً بشريين استمدت شخصياتهم وملامحها من التاريخ الوسيط أو الوطني المعاصر أو الحياة الاجتماعية ولكن ضمن الإطار الشاعريّ المحلّق في جواء المثاليّة والعظمة فهنالك البطل العاشق اليائس البائس والبطل الممثل للعظمة الملحميّة والعبقرية القوميّة، والبطل المعذّب الشديد الحساسية والبطل الفاسد الملحد والبطل الطيبّ الشجاع والبطل الذي تضافرت عليه مظالم المجتمع.. إنها نقلةٌ وسيطة باتجاه الواقعيَّة.
8- المرأة اللُّغز: اتّجه أدباء الرومانسية صوب المرأة فأعطوها منزلتها وأعادوا إليها اعتبارها الاجتماعي، ولكن روحهم الشاعريّة اختلفت في النظر إليها، فبينما وجد فيها بعضهم ******ة المعبودة والملهمة والملاك الذي هبط من السمّاء رأى فيها آخرون تجسيداً للشرور الشيطانية وم***ةً للشقاء والألم، وشاهد فيها آخرون كلا الوجهين المتناقضين، وعلى العموم هي عندهم القدرُ الذي لا فكاك منه. أما الحبّ فقد سما عندهم إلى مرتبة العبادة. إنه عند موسيّه "دين السّعادة" وعند شيلّي "السلطان القاهر". وقد نظروا إليه نظرة شمولية تصوّفية فإذا به شريعة الكائنات كلها والمحرك الأكبر للكون.
9- الفكر الجرئ اللّماح المدرك للمفارقات والتناقضات والميّال إلى الحدس أكثر من الوعي والتفكير الموضوعي، وإلى النظرة الشمولية الموحدة للإنسان والطبيعة وما وراء الطبيعة حيث تتحد الذات بالموضوع ويمتزج الإنسان بالطبيعة، واللَّه بالطبيعة والإنسان، وتنطلق قوى الروح لتلتقي مع مثيلاتها في جميع العصور ولدى جميع أبناء البشر في كلّ مكان. إنه فكرٌ أقربُ إلى التأمل الشاعريّ.
10- إطلاق العنان للمواهب المبدعة خلف التصورات والخيالات التي تصل إلى حدّ أحلام اليقظة والأوهام والفانتازيا (النزوات الخياليّة) والشخصيات الغريبة كملهمات الشعر والجنّ وملاك الحب والعفاريت والأشباح.
11- غلبة الكآبة مشاعر الحزن والصراع النفسيّ الدراميّ وشيوع نغمات البكاء واليأس والانفصام عن المجتمع والشعور بهشاشة الحياة ودنّو شبح الموت؛ لكنه الموت الحنون المخلّص لا الموت المخيف.

ب- في الأساليب:

من المسلمات النقدية أنه لا يمكن الفصل بين المضمون والأسلوب في الأشكال الأدبية لأنهما عنصران متضافران في تكوين النص الأدبي المتكامل، إلاّ أن الأسلوب التعبيري -الذي هو الشكل- يتبع دوماً طبيعة المضمون في كل أوضاعه وتطوراته، والمضمون الجديد لا بد له من أدوات تعبيرية جديدة تناسبه. ولما كانت الحركة الرومانسية ثورة مجدِّدة نهضت من شروط موضوعية، فجاءت برؤية جديدة للكون والإنسان، وتيارٍ نفسيٍّ موحّدٍ إلى حد بعيد، في الرغائب والنزعات والمواقف والتطلعات والأذواق، فلا بدّ أن ترتسم آثار هذه الثورة في الأساليب الأدبية والفنّية لتنال قسطها المكافئ من التجديد.
وقد رأينا أن هذه الثورة انطلقت في أساسها من الاحتجاج على تبعيّة الآداب الأوربية للمصادر القديمة اليونانية واللاتينية مروراً بمعطيات عصور الكلاسيكية والنهضة والتنوير. فقد مضى زمن القدماء إلى غير رجعة وباد الأقدمون بعد أن أعطوا كل ما لديهم، ولا بدّ للعصر الجديد من الكفّ عن محاكاتهم والانصياع لقواعدهم وأذواقهم ومن البحث عن مصادر أخرى وأشكال جديدة أكثر مناسبة لروح هذا العصر وجيله المتمّرد. لقد أصبح المبدأ العام رفض التبعيّة والتقليد، والبحث عن الأصالة والإبداع، فالعبقرية لا تكون إلاّ في التجديد، والتجديد هو الشباب الدائم، وبالفعل تولّد هذا التجديد في رحم الكلاسيكية ونما تدريجياً مجتازاً عواصف من المعارضة والاحتجاج، وثبت في ميدان الصراع إلى أن انتصر نهائياً مع انتصار القيم الجديدة. وهذه سنة الحياة.
ويمكن إجمال السِّمات الأسلوبية للأدب الرومانسي فيما يلي:
(أولاً): على النطاق العام:
1- حرص الأديب الرومانسيّ على حريته الخاصة الكاملة في الإبداع والتعبير، دون سلطانٍ لأي اعتبارٍ فوقيٍ مسبق. ومن هنا جاءت آثار الرومانسيين متنوعة الألوان ضمن إطار الوحدة، وموحّدةً في إطار التنوع الفرديّ، فلكلّ كاتبٍ لونه الخاص المميّز. وكان هوغو لا يفتأ ينادي بالحريّة للفنّ كما ينادي بالحرية للمجتمع. وقد أثارت هذه الحريات الفردية كثيراً من حملات المعارضة بدعوى أنّ الإفراط فيها يؤدي إلى إضاعة المعايير وتهديم الأدب. ولكن الواقع كان خلافاً لذلك مزيداً من الثراء والغنى والتفتح في الحركة الأدبيّة. وقد ظهرت في الرومانسية بادرة البيانات والمقدّمات التي يعمد فيها الأديب إلى عرض معالم منهجه وبسط آرائه وقناعاته الفنيّة، كما فعل لامارتين في مقدمة (التأملات) وهوغو في مقدمة مسرحية (كرومويل)، فكانت هذه المقدمات روافد هامة في بلورة ملامح النظرية الرومانسية.
2- العزوف عن اللغة الكلاسيكية المتعالية النبيلة المتميزة بالجزالة والترفّع والتصنّع والدقة والاختصار والوضوح. والنزول بالأدب إلى اللغة المحليّة الطلقة المأنوسة التي يرتضيها الشعب كله بصرف النظر عن النخبة الحاكمة والأوساط العلميّة والأكاديميّة.
(ثانياً): على النطاق الخاص بالأجناس:
1- المسرح الرومانسيّ

للاتجاه الرومانسيّ في الأدب المسرحيّ جذور؛ فقد نشأ في عهد لويس السادس عشر (1643) لونٌ مسرحيّ مزيج ومشوّش وغريب هو (التراجيكوميديا) أي المزيج بين المأساة والملهاة. وهو نوعٌ تسرّب إلى فرنسا من تأثيرات شكسبير والمسرح الإسباني؛ ولكن الذوق الفرنسيّ العام عزف عن هذا النوع بسبب تعلّقه بالقواعد الكلاسيكية. وفي النصف الأول من القرن التاسع عشر (عهد القنصلية والامبراطورية) كان فاشياً تقليد المسرح الكلاسيكي المزيّف على المسارح الرسميّة، فظهر نوع آخر من المسرحية هو أقل تشويشاً من التراجيكوميديا اجتذب الجمهور إلى الاستمتاع بالغموض والمرح، هو (الميلودرام).
وفي الحقيقة، كانت الثورة الفرنسية قد غيّرت من ذوق الجمهور فبينما كان يكتفي بخشبةٍ ومهرجين أصبح ينشد مزيداً من الانفعالات النبيلة. ولما كانت النفوس قد سئمت القواعد الكلاسيكية وتهيأت للتجديد فقد وجدت ضالّتها في الميلودرام، ذلك الفن المسرحي الذي اجتذب القطاعات الكبيرة من الشعب.
كانت الميلودرام تستمد موضوعاتها من التاريخ ولاسيّما فروسيّات القرون الوسطى الفرنسية والألمانية والإيطالية والإسبانية في عصر النهضة والكاثوليكيّة. وكانت تحتوي على عقدة غامضة وشخصيّة خائنة وتمزج بين المأساوي والمضحك، فإذا تأزّمت الانفعالات المأساوية هدَّأ منها ظهور بعض العناصر الساذجة كالفلاح أو الوصيف أو المضحك بما يلقونه من النكات المضحكة، وكان حلّ العقدة مفرحاً دوماً حين ينجو الأشخاص الطيّبون ويعاقب الخونة. وكان أسلوبها نثرياً سطحياً قريباً من الواقعية يتلاعب بالعواطف لكنه يجتذب الجمهور. وأضيف إلى هذه المميزات كثرة الديكورات الأخاذة والحيل الإخراجية الماهرة والمفاجآت التي تسحر المشاهد البسيط.
ومن الميلودرام ولدتْ المسرحية الرومانسيَّة أو فنّ (الدراما) بعد الثلث الأول من القرن التاسع عشر، بتأثير المسرح الشكسبيريّ الذي وفد في القرن السابع عشر ولم ينل إعجاب الفرنسيين في ذلك الحين، وكانوا ينعتونه بالغرابة والخروج عن القواعد وبالفظاظة والوحشية في بعض الأحيان كما قال فولتير عن مسرحيته (هاملت)، ولكن فولتير نفسه كان قد أثنى على شكسبير لعدم تقيّده بالقواعد (وحدتي الزمان والمكان) واهتمامه بوحدة العمل معتمداً على عبقريته الخصيبة، وبعد أن ترجمت أعمال شكسبير زادت شهرته وانتشرت آراء النقاد الانجليز فيه، وأصبحت مسرحياته تقدم على المسارح الفرنسية مع بعض التعديل المناسب للأذواق الفرنسية. وقد كتب مترجمه (غيزو) في عام 1823: "الشيء المؤكدّ أن عهد النظام الكلاسيكي ولّى، وأن نظاماً جديداً ينبغي أن يسود، هو نظام شكسبير الذي يمكن أن يزوّدنا بالخطط التي يجب أن تنتج العبقرية بمقتضاها".
ثم جاء فيكتور هوغو فألّف مسرحية (كرومويل) ومهّد لها بمقدمة نقدية مطَّولة (1827) أكد فيها رفضه التقيد بوحدتي الزمان والمكان والاحتفاظ بوحدة العمل والانطباع والفكرة والجمع بين الجميل والقبيح والعظيم والمسخرة في نظام منسجم، الأمر الذي نجح فيه شكسبير نجاحاً عظيماً. وأضاف هوغو أنه يمكن الاحتفاظ بالوزن التقليدي الشعري مع بعض المرونة والتلوين، شريطة المحافظة على القافية... ولكنه لم يتقيّد بذلك في مسرحياته.
وهكذا ترسخت الدراما الرومانسية التي اختلفت عن الميلودرام بأنها أصبحت تعالجُ نثراً أو شعراً، فهوغو وألفريد دوفينيي وموسيّه كتبوها بأسلوب النثر، ولكنه نثر فنيّ شاعري نبيل. والاختلاف الثاني هو أن عقدتها تحلُّ عن طريق الشفقة أو الخوف أو الحزن العظيم. والاختلاف الثالث أنها استقت بعض موضوعاتها من التاريخ الجديد.
وبهذه التطورات انتهى الإطار اليوناني واللاتيني الكلاسيكي وسادت الدراما الرومانسية التي كان من أشهر أقطابها هوغو في مسرحياته كرومويل، وهرناني، والملك يتسلّى..، والكسندر دوماس الأب في كريستين وهنري الثالث؛ وألفرد دوفينيي في أوتيلّو وشاترتون..


وفي نهاية القرن التاسع عشر ظهرت ردّة فعل عادت بالمسرحية إلى الإطار الكلاسيكي في فصله بين الأجناس المسرحية وذلك على يد كتابٍ مثل بونسار ودوماس الابن وفرنسوا كوبّيه كاتب (في سبيل التاج).
وقد تميزت الدراما الرومانسية بالإضافة إلى ماسبق بأنها تجمع بين شخصيات كثيرة وتطيل العرض إلى درجة الإملال، وأنها جمعت بين عنصري الدرامي والذاتيّ، وبين المسرح والشعر ومعظم كتابها شعراء. فقد عبرت من ناحية عن الأفكار والفلسفات والعادات ودافعت عن المظلومين ولا سيّما المرأة، وأكدت حق الإنسان والشعوب والكيان القومي والوطني، ولكنها من ناحية ثانية كانت أقل عمقاً من المسرحية الكلاسيكية، وبرزت فيها الغنائية الشاعرية وهذا مناقض للطابع الدرامي. لقد جعلوا من المسرحية قصيدة مطولة تجمع التناقضات كما في الحياة وعبروا عن مقاصدهم بلوحاتٍ بارعة الرسم والتكوين غنية بالعاطفة والألوان والموسيقا والحركة، وأعلوا من شأن الحساسيّة في مقابل الإرادة والفكر. ولذلك يمكن القول إن أبطال المسرحية الرومانسية هم تعبيرٌ عن شخصيّة الكاتب وتمثيل لذاتيته.
2- الشعر الرومانسيّ

اختص الشعر الرومانسي بأنه كان أبرز الأنواع الأدبية وأشدّها مباينةً لمثيله في الكلاسيكية. ويمكن القول إن أهم ما أنتجته الرومانسية هو الشعر، الذي عرف على يد شعرائها الكبار حياة جديدة قوية بقيت ذات تأثير وجاذبيّة إلى القرن العشرين. إنها حياةٌ تقوم على العبقرية الفرديّة وإغراقها في التعبيرعن العواطف الذاتية والانسياق مع شطحات الخيال والحريّة في المضامين والأشكال. وقد عاد الشعراء الرومانسيون إلى حرم الشعر الغنائي الذي كان شائعاً من قبل في مختلف العصور، لأن الغنائية أهمّ مميزات الشعر وخصوصياته. وقد وجد الرومانسيون في النهج الغنائي أفضل ما يناسبهم، على أن الرومانسية الشعرية تختلف عن الشعر الغنائي، إنها تسير في ركابه ولكنها تتميز بطابعها الخاص، والرومانسية إحدى عطاءات الغنائيّة وأشكالها. وقد مهدّ لها شعراء ما قبل الكلاسيكية مثل رونسار وجماعته في فرنسا وبترارك في إيطاليا وغوته بمرحلته الرومانسية في ألمانيا وبايرون في إنجلترا، فظهر في أعقابهم جيلٌ من الشعراء الرومانسيين الكبار مثل لا مارتين وألفرد دوموسيه وألفرد دوفينيي وفيكتور هوغو وشيلي وورذرورث... ولكنّ هوغو اختصّ من بينهم بأنه كتب الشعر السياسيّ والهجائي إضافة إلى وتره الغنائي، متابعاً إيقاع عصره ومعبراً عما يجيش فيه. وفي الحقيقة لا يمكن القول برومانسية غنائية خالصة الذاتيّة، لأنها تعبيرٌ مصوَّر عن عواطف وأحاسيس فرديّة في نطاق المشاعر العامة. وحين كان شعراؤها يغنون ما ينتابهم من أمواج الفرح والألم والأمل واليأس والإيمان والشكّ ومن مشاعر الحرية والتعاطف مع الطبيعة والكآبة والاعتزاز بالمواطنية والإنسانية، إنما يعبرون عن كل المشاعر التي يعيشها معاصروهم بل البشر في كل العصور. وما الآن المعيش عندهم سوى مناسبة لتجديد الانفعالات المعتادة في الحياة.

ويتميز الشعر الرومانسي بالخصائص الآتية:
1- الصدق في التعبير عن العواطف الفردية والمشاعر العميقة التي تعتلج في أعماق النفس، والاستسلام إلى عالمها وتيارها المتدفق في منأى عن عالم الفكر والواقع.
2- الاندياح في عالم الطبيعة الواسع، والركون إلى أحضانها واستشعار حنانها والتسبيح بجمالها وروعتها ومناجاتها كحبيبة وأمّ وملهمة والتماس العزاء لديها من آلام الانكسارات الحادة في عصرهم وتجاربهم الخاصة، والوصول إلى فلسفة طبيعية قوامها ثنائية البشر والطبيعة، ورموز الطبيعة التي تقول لنا بأبجديتها كل شيء وتعبر عن أشياء نحسّها ولا نراها وعن كل علاقات البشر وأحوالهم، والتوحيد بين الطبيعة والإله والإنسان.
3- التمادي في الخيال والتصورات، سواءٌ ما كان منها إبداعياً واعياً أم أحلاماً وهلوسات ونزواتٍ. ومردّ ذلك نفورٌ من الواقع المخيّب وهروب إلى عوالم متخيلة ولو كانت عوالم الجن والخرافات وعرائس الشعر..
4- التعبير بالرمز الجديد الموحي، لأنه يناسب الأجواء الغامضة التي يصعب تحديدها وإيضاحها، إن الرمز يوجز المعاني الكثيرة ويوحي بانطباعات دون حاجة إلى تفصيل وبيان، ويخلق لدى المتلقي جواً من النشاط والفعاليّة والمشاركة مع الشاعر..


ولكن رموزهم كانت شفافة سهلة مستساغة؛ وكان لكلٍ منهم رؤيته الرمزية وعالمه الخاص، فشيلّي كان يكثر من رموز الكهف والبرج والزورق والمعبد والساقية والأفعى والصقر؛ وكيتس كان يرمز بالقمر والعندليب والمعبد والنّوم؛ وهوغو يغوص في الرموز الأسطورية والطبيعية المملوءة بالمهابة والجلال والرهبة؛ وعموماً كان هنالك عودٌ إلى أساطير اليونان لكن بتناولٍ يختلف عن تناول الكلاسيكيّة، إنه عودٌ إلى المنابع الصافية والعفوية والبدائية عند هوميروس.
5- تحرّر الوزن والقافية إلى حدٍ معتدل، لشعورهم بأن الأطر الموسيقية القديمة لم تعد تتسع لتوثباتهم الشعرية الجديدة، ولا بد من أطرٍ جديدة تناسبها وتسعها.
حركة الانتقال:

ظهر منذ عام 1848 على وجه التقريب ردّ فعلٍ مضادٌ للإفراط في الغنائية وذلك على يد تيوفيل غوتييه الذي بدأ حركةً شعرية ستكتمل معالمها في المدرسة البارناسيّة وسيكون أبرز ممثليها الشاعرُ لوكونت دوليل.
وفي حوالي عام 1880 ظهر ردّ فعل آخر من قبل الرمزيين الذين أخذوا على البرناسيين شدة احتفائهم بالشكل الفنّي، فعادوا إلى ما عهدوا لدى الرومانسيين من ميلٍ إلى الغامض والمبهم لكنهم أباحوا لأنفسهم مزيداً من الحرية في الموسيقا الشعرية؛ ومن أبرز ممثلي هذا الاتجاه بودلير.
3- الرواية الرومانسيَّة.

تطوّر فنّ الرواية في القرن الثامن عشر وارتقى واغتنى بفضل عاملين: (الأوّل) تأثير القصّة الإنجليزيّة التي سبقت القصّة الفرنسية إلى التطور ومن ثم أكسبتها الملاحظة الدقيقة لأحوال الطبقة الوسطى، ووصفها والاعتناء بالمشاعر العاديّة لأفراد البشر العادييّن.
(والثاني) تأثير الاتجاهات الاجتماعية والفكرية المستجدّة من حيث روح التفحّص الموضوعي والمناقشة الحرّة والالتفاتُ إلى معالجة المشكلات الأخلاقية والسياسيّة.

وفي القرن التاسع عشر غدت الرواية أوسع الأنواع الأدبية وأكثرها شمولاً إذ احتوت على عنصر المغامرة كما في القرون الوسطى والعنصر النفسي كما في القرن السابع عشر والعنصر الاجتماعي كما في القرن الثامن عشر؛ ثم تمثّلت كُلَّ تطلعات القرن التاسع عشر، واتصفت على التوالي بالغنائية والواقعية والاجتماعية والطبيعيّة والرمزيّة.
وسنقتصر في هذا البحث على استعراض تطور الرواية في الفترة الرومانسية أي في النصف الأول من القرن التاسع عشر، مرجئين النظر في روايّة النصف الثاني من القرن إلى بحث الواقعية والرمزية.
ويمكن أن نقسم النصف الأول من القرن التاسع عشر إلى قسمين:
(الأول) فترة الكتاب الأوائل. (الثاني) فترة القصّة التاريخية.
1- فترة الكتاب الرومانسيين الأوائل: (1800-1825)

من المعلوم أن شاتوبريان ومدام دوستايل كانا أبرز عرّابي المذهب الرومانسيّ تنظيراً وتأليفاً فقد كتب الأول روايتي (آتالا، ورينيه) فيما بين 1801-1802 وكانتا تنهجان نهج رواية (بول وفيرجيني) لبرناردن دوسان بيير من حيث العناية بالوصف الطبيعي. ولكنهما جدّدتا في العناية بالوصف النفسيّ والتحليل العميق للعواطف والبواعث. أما دوستايل فقد كتبت رواية دلفين (1802) وكورين(1807) اللّتين مهدتْ فيها السّبيل لروايات الكاتبة الرومانسية جورج صاند. ومن الكتاب الأوائل المشهورين بنجامان كونستان (المتوفى عام 1830) الذي تحتل رواياته مركزاً مرموقاً في الأدب الفرنسيّ ونذكر منها (أدولف: 1816) التي حلّل فيها بنفوذ ذكيّ مدهش وبأسلوب طلقٍ خالٍ من التكلف قضيّه التلاشي البطيء للحب البائس، مما جعلها تبدو دوماً جديدة وواقعية أكثر من أية رواية أخرى، بما في ذلك روايات ستندال.
ونذكر من الكتاب الأوائل أيضاً شارل نودييه (المتوفى عام 1840) الذي كان يتميز بروح فعالة نشيطة ومعالجات جذابة. وقد برع في عشرينيات القرن التاسع عشر في القصة القصيرة التي تمازج بين الواقعية والغنائية. ويعد بحقّ أحد مؤسّسي الرواية الرومانسية.

2- فترة الرواية التاريخيّة: (1826-1865)

ونعني بالتاريخية تلك التي تتخذ أبطالها من بين الأشخاص التاريخيين وكذلك أحداثها الكبرى، مع الاحتفاظ بحرية الكاتب في الإغناء والتفصيل والتحليل، أو تلك التي تبتكر شخصياتٍ من الخيال ضمن فترة تاريخية معينة.
ومن أبرز كتاب هذه المرحلة:
ولتر سكوت:

وهو كاتب إنجليزي ألّف فيما بين 1814-1826 سلسلة من الروايات لقيت كثيراً من النجاح والإقبال الجماهيري لما تتميز به من الجدّة والحيوية والتشابك والعقدة والحماسة العاطفية، بحيث تبعث على المتابعة والتشويق والتسلية والإمتاع. وكان لرواياته هذه أثرٌ كبير في ازدهار هذا الفن الروائي في أنحاء القارة الأوربية وكان يختار الإطار الطبيعي الجذاب لرواياته كالطبيعة الإيكوسيه والإنجليزية والفرنسيّة ويحسن مؤالفة أشخاصه في ذلك الإطار مع عنايته بالمغزى الأخلاقي. وعلى يديه اكتملت ملامح الرواية الرومانسية، ومثالنا على ذلك روايتاه: (ويفرلي وإيفانهو) وما زالت هذه الرواية ترتقي حتى عام 1840 حين بدأت بالهبوط مع انتشار الاشتراكية العاطفية وظهور المسلسلات القصصية في الصحف اليومية.
الفرد دوفينيي:

أصدر دوفينيي عام 1826 روايته (الخامس من مارس) وبسط في مقدّمتها نظريته في الرواية التاريخية ويرى فيها أن للكاتب الروائي حقّ التصرف الشّعريّ إزاء الوقائع التاريخية. ولهذا كانت رواياته تقوم على اختراع الشخصيات أكثر من قيامها على شخصيات تاريخية معروفة.
كتب في عام 1832 رواية (ستيلّو أو العفاريت الزُّرق) التي يقرر فيها الانفصام ما بين المجتمع والشاعر أو الأديب بصورة عامة؛ تستوى في ذلك جميع البنى السياسية والاجتماعية التي يعيش فيها الأديب. ثم كتب روايات أخرى كان من أنضجها (عُود الخيزران)


فيكتور هوغو:

كتب هوغو عدة روايات ضعيفة قبل أن يبدع رائعته (نوتردام دو باريس) عام 1831. التي تقوم حبكتها وعقدتها على الصراع العنيف بين أشخاص متضادّين. وتدور هذه الرواية حول فتاة بوهيميّة أضاعت أمَّها، ثم وجدتها في النهاية بفضل التعرّف على تميمة وحذاءٍ صغير. هذه الفتاة (أزميرالدا) أحبّها الضابط الشاب فيبوس بينما كان أحد الشمامة يكرهها ويطاردها؛ فلجأت إلى الأحدب كازيمودو قارع أجراس كنيسة نوتردام الذي كان يتمتع بقلب طيب محب للخير...
وتكمن أهمية الرواية في الوصف الدقيق والخياليّ لا في إبداع الشخصيات وتصوير طبائعها ونفسيّاتها. ويؤخذ عليها أنها عسيرة ضعيفة التشويق. ثم أنهى هوغو في عام 1862 رواية الخالدة الثانية (البؤساء) حيث أجاد تصوير لوحاتها الوصفية. أما روايته (عمال البحر) فيبدو فيها شاعراً وصّافاً أكثر منه روائياً. والحقيقة أن هوغو يعالج الرواية بنفسية شاعريّة فتراه يتدفق على سجيّته دون أن يعبأ بأي قيد شعري أو مراعاة لقواعد النوع الروائي. وقد شبهه بعضهم بنهر فائض هائج لا يعرف ضفافه ولا اتّجاهه. ولكنه حين يصادف وادياً ضيّقاً أو حاجزاً يغدو رائع الجريان أو يتدفق في شلالٍ متلألئ..!
الكسندر دوماس الأب:

(1803-1870) رواياته كثيرة جداً ويصعب تعدادها. وأشهرها: الفرسان الثلاثة ومونت كريستو. ولا تجد في رواياته تحليلاً نفسياً بل تقرأ للتسلية فقط وتدهشك مقدرته على خلق الحوادث والمفاجآت والمشاهد الحماسيّة. وقد شارك على نطاقٍ واسع في بدعة المسلسلات القصصية الصحفية التي تتميز بالسطحية من جهة، والسّرد المشّوق والعقدة الغامضة والحوار والسرعة والمماطلة في الحلّ، والتي يتابعها الجمهور البسيط الذي يسعى إلى الاستمتاع والتسلية ويتساءل دوماً: وماذا بعد؟


([1]) ترجمة المؤلف عن المصدر السابق ص 170.
__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
  #6  
قديم 02-19-2012, 10:25 AM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,413
افتراضي

أعلام وملامح ونصوص رومانسية


مدام دوستايل Mme de Staél - 1766-1817

اسمها الحقيقيّ جيرمين نيكر، ثم اشتهرت بنسبتها إلى زوجها. ولدت في باريس لأسرة غنيّة مثقفة جاءت من سويسرا. وكانت، إلى ذكائها، واسعة المطالعة. وفي سن الخامسة عشرة لخّصت كتاب "روح القوانين" ثم أصدرت أول مؤلفاتها في سن العشرين حول روسّو. وكان زوجها دوستايل سفيراً للسّويد في باريس فعاركت السياسية وعرفت المجتمع وأنشأت في بيتها صالوناً أدبياً.
أصدرت عام 1802 كتابها الهامّ "من الأدب" وفي عام 1810 كتابها الهامّ الثاني وهو "من ألمانيا" ولهما دورهما الكبير في التنظير الرومانسي. ارتحلت إلى كثير من بلدان أوربا واجتمعت بغوته وشيلّر وفيخته وشليغل وألّفت روايتين هما: دلفين وكورين. عوقبت بالنفي والإقامة الإجبارية لأسباب سياسيّة مما ساعدها على كتابة مؤلفها "عشر سنوات في المنفى" حول الثورة الفرنسية.
وفيما يلي نصّان من كتابها "من ألمانيا" ذوا علاقةٍ بالمذهب الرومانسي
روح الطبيعة([1])

تعرِّفنا روح الطبيعة نفسها في كل مكان من خلال آلاف الأشكال المختلفة: السهول الخصيبة كالصحارى المقفرة، والبحارُ كالنجوم، كلّها تخضع للنواميس نفسها؛ والإنسان يحمل في نفسه أحاسيس وأفراحاً خبيئة تطابق النهار والليل والعاصفة. إن هذا التحالف الخفيّ بين كياننا ومباهج الكون هو ما يمنح الشعر عظمته الحقيقية. وإن الشاعر ليعرف كيف يُثبْت وحدة العالم الماديّ والعالم المعنوي. وما الصِّلة بينهما إلا خياله.".
الشعور الدينيّ([2])

إن العظمة الحقيقيّة للشعر الغنائيّ تكمنُ في هيام الشاعر موغلاً في أحلامه في المناطق الأثيرية ناسياً ضجيج الأرض ومصغياً إلى أنغام السماء وناظراً إلى الكون كله وكأنه رمز لانفعالات النفس.
إن معظم الناس لا يَعون لغز القَدَر الإنساني، لكن هذا اللغز حاضرٌ دوماً في خيال الشاعر؛ وإن فكرة الموت التي تحبط كثيراً من نفوس العامة، تشحذ العبقرية وتمزجها بجمالات الطبيعة. ومن خوف الفناء يولد ضربٌ من الهذيان في السعادة والخوف، لا يمكنُ معه فهمُ مسرح هذا العالم أو وصفه. إن الشعر الغنائي لا يعطينا شيئاً، ولا يعبأ بتعاقب الأزمنة ولا بحدود الأمكنة، لكنه يحلّق فوق البلاد والعصور ليمنح الديمومة لهذه اللحظة العظيمة التي يتعالى فيها الإنسان فوق آلام الحياة ومسرّاتها، وهو يشعر في غمرة مبهجات العالم وكأنما غدا كائناً آخر، هو الخالق والمخلوق في آنٍ واحد؛ كائناً لا بد أن يموت؛ ولكنه يتشبث بالحياة، إن قلبه المضطرب والقويّ في آنٍ معاً ليشمخ بنفسه ويخضع أمام الإله. من الصعب أن نقول ما هو غير شعريّ؛ ولكنا إذا استطعنا فهم حقيقة الشعر فيجب أن نمدّه بالمشاعر التي يثيرها منظرٌ طبيعي جميل أو قطعة موسيقية متناغمة، أو رؤية شيءٍ عزيز على النفس، وفوق ذلك شعور ديني يجعلنا نحسّ في أعماقنا حضور الإله. إن الشعر هو الكلام الطبيعي في كلّ الديانات".
شاتوبريان Chateaubriand - 1768-1848

ولد فرانسوا أوغست شاتوبريان في جزيرة سان مالو. وكان يستمتع في طفولته بالتجوال في مرفئها، أوتي ذكاءً حاداً وبرزّ في الرياضيات، ولكنه تلقى تنشئة دينية وورث عن والده حب الترحال والمغامرة. انتظم في السلك العسكري ثم انضم إلى القصر حين اكتشف ذلك " العالم الكبير" كما كان يسميه، واتصل بكثير من الأدباء والعلماء وألِف الصالونات والمقاهي الأدبية. قام برحلة إلى أمريكا ووصل إلى منطقة البحيرات وتركت هذه الرحلة آثاراً في تفكيره وأدبه ثم عاد إلى فرنسا وسافر إلى انجلترا وبلجيكا. ولدى وفاة والدته تركت له وصيّة بأن يعود إلى الدين كما كان في طفولته، وبتأثير تأملاته الدينية كتب "عبقرية المسيحية" ثم استلم بعض المناصب الديبلوماسية والوزارية في عهد نابليون ثم استقال ليقوم برحلته الطويلة ( من باريس إلى القدس) ماراً بالبندقية واليونان وتركيا وفلسطين وعائداً عن طريق شمالي افريقيا حيث زار تونس واسبانيا. ثم أصبح عضواً في الأكاديمية وبرزت معارضته السياسية لنظام الامبراطورية وللملكيّة، ثم عين سفيراً في برلين ثم لندن ثم وزيراً للخارجية، ولدى إقالته من مناصبه أصبح مع المعارضة الصحفيّة، وأصدر في أواخر حياته "رحلة إلى أمريكا" و "دراسات تاريخية" و "بحث في الأدب الإنجليزي وغيرها... ومات فقيراً في باريس وأوصى بأن يدفن في مسقط رأسه سان مالو حيث أقيم له مرقد فاخر تكريماً لعبقريته.

نصّ من "عبقرية المسيحيّة"([3])

عظمة الطبيعة

تقديم: بعد أن تحدث شاتوبريان عن الأساطير اليونانية والرومانية التي كانت تملأ الطبيعة بمئات الآلهة وأنصاف الآلهة والحوريات والمخلوقات الغريبة أوضح أن هذا الجو الأسطوري حرم البشر من التعاطف المباشر مع الطبيعة، حتى جاءت المسيحيّة فألغت هذا الحشد من الكائنات الأسطورية، وجعلت الإنسان وجهاً لوجه مع عظمة الطبيعة.

أشدّ حزناً وأكثر غموضاً وعظمة؛ وتشامخت قباب الغابات، وحطّمتِ الأنهار أحواضها الصغيرة ليخلو المجرى للمياه المتدفقة من أجواف القمم، حينما عاد الإله الحقيقي إلى عمله منح الطبيعة سعتها...
ولكنْ، ماذا يخلفُ هذا التصور الجديد في أعماق النفس؟ وبم يشعر القلب؟ وأية ثمرةٍ يجنيها الفكر؟. لقد غدا الشاعر المسيحيّ أفضل حالاً في العزلة، حين وجد الإله يتجوّل معه بمنأى عن ذلك القطيع الأسطوري المضحك... امتلأت الغابات بالألوهيّة الواسعة، حتى لكأنما تسكن في أعماقها المقدسة النبوّة والحكمة وأسرار الديانة!
... توغل في هذه الغابات الأمريكية الأقدم من العالم! ما أعمق الصمت في تلك المعتزلات حينما تسكن الريح! وما أغرب الأصوات التي تضج فيها حينما تعصف!...
ها قد أقبل الليل وتكاثفت الظلمات. استمع إلى أصوات القطعان من الحيوانات المتوحشة وهي تجوب الظلام؛ الأرض تهمس تحت قدميك، وبعض قصفاتٍ من الرعد تفجّر الصحارى وتهزّ الغابة فتخر الأشجار، ويجرى أمامك نهرٌ مجهول... ثم ينهض القمر من الشرق، فإذا مررت بأسافل الأشجار ونظرت إليه ضاع من نظرك بين قممها...
المسافر يجلس على جذع شجرة بلوط منتظراً طلوع النهار، مقلّباً طرفه من حين إلى آخر بين كوكب الليل والظلمات والنهر، فيشعر بالقلق والاضطراب.. وبانتظار حدثٍ مجهول يخفق قلبه بلذةٍ صامته وتوجّسٍ غريب، وكأنما هو على أعتاب الأسرار الإلهية."

ألْفرد دوموسيّه A. De Musset - (1810-1857)

وُلد وتوفي في باريس. وهو سليل أسرة اشتهرت بالآداب. ارتاد في شبابه (ندوة الأرسينال) حيث استقبل كوليدٍ مخيف للرومانسية. وهناك أعطى (بواكير أشعاره 1829-1835).
وفيما بين 1836-1852 نشر في الصحافة أروع أشعاره الجديدة (الليالي، رسائل إلى لامارتين؟ الثقة بالله) إضافةً إلى عددٍ من القصص والمسرحيات الكوميدية ومذكراته الشخصية التي أصدرها بعنوان: (اعترافات فتى العصر). صار عضواً في الأكاديمية وتوفي مبكراً في السابعة والأربعين.
من أبرز أشعاره الغنائية (رولاّ) وهي مجموعة متسامحة في النظم و(الليالي) وهي أربع قصائد مطولة: ليلة مايو، وليلة ديسمبر، وليلة آب وليلة أوكتوبر) وأجملها الأولى والأخيرة.
في (ليلة مايو) حوارٌ بين الشاعر وملهمته الشعر (La Muse) هو عازفٌ عن الشعر بسبب أحزانه العنيفة التي هزته إثر أزمة عاطفية لحب خائب، وهي تعزّيه وتحاول أن تغريه بنظم الشعر وبأن يمسك قيثارته فيعزف عليها أناشيده، وعبثاً تحاول... ثم تقول له: "لاشيء يجعلنا عظماء مثل ألمٍ عظيم" وتقول: "أجمل الأشعار تلك التي تعبّر عن اليأس" ثم تسرد له خرافة طائر البجع الذي سافر طويلاً ليأتي إلى صغاره بالطعام لكنه عاد خائباً صفر اليدين، فما كان منه، إزاء جوع فراخه، إلا أن فجّر صدره وأطعمهم دماء قلبه ومات عظيماً.
وفي (ليلة أوكتوبر) يعود إليه عزاؤه ويسلو أحزانه فيستقبل ملهمته فرحاً نشيطاً ويروي لها قصة حبّه الماضي وهو يظن أنه شفي منه، وسرعان ما يعود مع ذكرياته إلى كآبته وأحزانه؛ فتهدئ من انفعاله وتقول: "إن المرء تلميذ، وأستاذه الألم.." فيعود رويداً رويداً إلى سلواه وينطلق مع ملهمته ليشدو أجمل الأناشيد في يقظة الطبيعة.
1- حُزْن

فقدْتُ قوتي وحياتي؛
فقدتُ خلاّني وأفراحي؛
فقدتُ كبريائي، وهي قوام عبقريتي.
لما عرفتُ الحقيقة، توهمتُ أنّها صديقتي؛
ولكني، لمّا فهمتها وعشتها، صرتُ أتقزّز منها.
لكنّ الحقيقة أبدية،
وكل الذين عبروا في هذه الدنيا جهلوها،
إنّ اللَّه يتكلم، وعلينا أن نجيبه.
إنّ المزيّة الوحيدة التي بقيت لي في هذا العالم
هي أني كنتُ أبكى في بعض الأحيان.([1])
2- الهاجس الدينيّ.([2])

... سألتُ: ما العمل إذن؟
فأجابني الملْحد: استمتع ثم مُتْ!
فالآلهة نائمون.
فقال الإيمان المسيحيّ: ليس لكَ إلاّ الأمل؛
فالسماء يقظة دائماً، وأنت لا تستطيع أنْ تموت.
وبين هذين القطبين تردّدتُ ووقفت:
أريد أن أمضي في أحلاهما.
وهتف بي صوتٌ خفيَّ: هذا لا يوجد؛
أمامَ السماء ليس لك إلاّ الإيمان أو الكفر.
... وغَشِيَ الأرضَ أملٌ فسيح؛
على الرغم منا يجب أن نرفع أبصارنا إلى السماء...!
3- من ليلة مايو([3])

. الشاعر : أصوتُكِ هذا الذي يناديني؟
أهذا أنتِ يا ربَّة شعري،
يا زهرتي وخلودي!
أنتِ أيها الكائن الطاهر المخلص؟
أيها الكائن الوحيد الذي فيه،
مازال حبي يحيا ويعيش؟

أجلْ، ها أنتِ يا شقرائي،
أنتِ يا محبوبتي وأخت روحي؛
أنا أشعر في عمق هذا الليل
بشعاعاتِ ثوبك الذهبيّ تغمرني
تتسلّل وتنساب في قلبي.
- آلهة الشعر: تناولْ قيثارَك يا شاعري
فأنا زهرتك الخالدة،
رأيتك هذه الليلة حزيناً صامتاً،
وكطائرٍ يناديه عشّ فراخه
نزلتُ من علياء سمائي
أبكي معك وأنتحب!

إنك تتألم يا صديقي،
الضجر الموحش يقرض نفسك ويُضنيك
وشيءٌ ما في فؤادك يُعولِ وينوح.
...تعال لنغنيّ أمام الله ونشدو،
في أفكارك وملذاتك الضائعة،
في آلامك وأتعابك الماضية،
ودعنا ننتقل في قبلةٍ إلى عالمٍ مجهول!

لنوقظْ أصداء روحك،
ولنتحدثْ عن السعادة والمجد والجنون،
وليكن هذا حُلُماً وأولَ حلم يأتينا،
لنوجدْ بعض الأماكن لنسلو فيها وننسى
لنرحل... إننا وحيدان، والكون لنا...
ألفرد دوفينيي A. De Vigny - (1797-1863)

شاعرٌ رومانسي وكاتبٌ روائي ومسرحيّ، نشأ في السلك العسكري ولكنه استقال وأخْلد إلى برجه العاجيّ، وانضم إلى الحركة الرومانسيّة وكتب في الصحف. وفي عام 1826نشر مجموعته الشعريّة "أشعار قديمة وحديثة" وتتألف من ثلاثة أقسام:
1- الكتاب الصوفيّ وفيه أشعارٌ من وحي ديني مثل قصائد موسى؛ وبولا (أخت الملئكة) والطوفان.
2- الكتاب القديم وفيه أشعارٌ من وحي التوراة والحقبة الهوميريّة.
3- الكتاب الحديث وفيه إيحاءات معاصرة مثل قصيدة النفير. ثم تفرّغ لكتابةِ الرواية والمسرحيّة ولم ينشر سوى قصيدتين: (جبل الزيتون، وبيت الراعي) وبعد وفاته نشرت له مجموعة بعنوان (الأقدار) وفيها قصيدتاه الآنفتا الذكر وقصائد أخرى مشتهرة مثل (غضب شمشون، وموت الذئب، والزجاجة في البحر، والروح الطاهر...)

ويعدّ فينيي شاعراً مفكراً وفيلسوفاً متشائماً، يقود شعره إلى الرواقية أكثر مما يبعث على الإيمان أو اليأس. ومردّ هذا التشاؤم شعوره بعزلة الإنسان المتفوق وانفراده في الحياة دون نصير؛ فالناس لا يفهمونه ولا يحبونه، ولا عزاء له في الحب أو الطبيعة بل في الموت، وما من حلٍ ينتظر لدى السّماء؛ فالإله لا يعبأ بالبشر، وإذن فلينطو الإنسان على نفسه متحملاً آلامه ومصيره بصبرٍ وثباتٍ، وليمتْ صامتاً (موت الذئب) وإذا كان لا بدّ من الحب فليحبّ أمثاله وليتعاطف معهم، وليعشق الألم الإنساني العظيم، وليناضل الطبيعة علَّه يقهرها فيمهّدَ السبيل لتقدم الأجيال الآتية، دون أن ينتظر من أحدٍ ثناءً أو مكافأة أو يتوقع نجاح جهوده في حياته، إنها إذا كانت مخلصةً وعظيمة فلا بد أن تلقى النجاح في يومٍ من الأيام..
مَوْت الذئب([4])

"يروي الشاعر أنه انطلق ليلاً مع نفرٍ من الصيادين لاقتناص الذئب.. وفي ضوء القمر شاهد جراء الذئب ترقص، ثم ظهرت الذئبة، ثم الذئب الذي وجد نفسه محاصراً فجأة، ولما شعر بالهلاك انقض على أحد الكلاب فصرعه وهو يتلقى الطعنات صامداً صامتاً حتى مات... إنه مثلٌ رمزيّ يعلّم البشر الصمود الرواقيّ!"
"... أَقْبَلَ الذئب وأقعى ناصباً ذراعيه،
وغارساً مخالبه المعقوفة في الرمل،
ولما فوجئ بالحصار أدرك أنه هالكٌ لا محالة؛
فقد سُدّت عليه كل السُّبل ولا منفذ للانسحاب.
عندئذ أطبق بفمه المتلظي على عنق أحد الكلاب،
ولم يفلته من فكه الحديدي،
على الرغم من طلقاتنا النارية التي كانت تثقّب جسده
وطعناتِ مُدانا الحادة تتصالبُ وتنغرس في أحشائه كملاقط الحدّاد.
وظل هكذا حتى اللحظة الأخيرة حين أيقن أن الكلب المختنق
سبقه إلى الموت وخرّ صريعاً تحت قوائمه.

عندئذ خلاّه، وحملق فينا.
ومُدانا ما تزال مغروسةً في جانبيه حتى المقبض،
تسمّره على العشب غارقاً في دمائه.
وبنادقنا تُحدقُ به في هيئة هلالٍ مشؤوم.
وما زال ينظر إلينا حتى ارتمى
وهو يلعق الدماء عن شدقيه.
ودون أن يدري كيف هلك،
أغلق عينيه الواسعتين، ومات دون أن يصرخ.
***
قلت في نفسي: يا للأسف!، فعلى الرغم من هذا الاسم الكبير (الإنسان)
أجدني خجلاً منا، نحن الضعفاء!
كيف يجب أن نغادر الحياة وآلامها؟
أنتِ أيتها الحيوانات المتسامية تعرفين ذلك.
وإزاء رؤيتنا ما يحدثُ على الأرض وما يُترك،
الصمتُ وحده هو العظيم، وما عداه ضعف.
آه..! لقد فهمتُكَ جيداً أيها المتوحش الجوّاب،
وإنّ نظرتك الأخيرة نفذت إلى قلبي لتقول:
إذا كنت تستطيع فاجعل نفسك تصل بكثرة الجدّ والتفكير،
إلى هذه الدرجة العالية من الكبرياء الرواقية.
لقد ارتقيتُ إليها قبلك، أنا الذي وُلدَ في الغابات.
الأنين والبكاء والدعاء ضعفٌ كذلك.
فلتبذل أقصى قدرتك ولتنهض بعبئك الثقيل الطويل
في الطريق الذي دعاك إليه القدر.
ثم... مثلي، تألّم ومتْ دون كلام.!




لامارتين A.De lamartine - (1790-1869)

ألفونس دولامارتين شاعر رومانسيّ كبير وقاصّ ومؤرخ. ولد في ماكون بفرنسا، ونشأ في وسطٍ مثقّف متدّين أتاح له العلم والمطالعة والتأمل والأحلام. كتب الشعر في سنّ مبكرة وقام برحلةٍ إلى إيطاليا أغنت شعره بألوان عذبةٍ جديدة. وفي عام 1814 دخل في خدمة لويس الثامن عشر، إلا أنه سرعان ما استقال ليتفرغ لأشعاره ورحلاته. وبعد تجربة حبٍ عنيفة كتب "التأمّلات" في عام 1820. ثم عُيّن سكرتيراً في السفارة الفرنسية بفلورنسا. وفي عام 1823 أصْدَر "التأملات الجديدة، وموت سقراط" وغير ذلك من الأعمال، وأصبح عضواً في الأكاديمية. واستقال في عام 1833 ليقوم برحلته إلى الشرق. ثم أصبح نائباً في البرلمان عام 1835 مبتدئاً حياته السياسيّة. وطبع "جوسلين، وسقطة الشيطان" وألف كتاباً نثرياً في تاريخ الجيرونديين، ثم شارك في إعداد ثورة عام 1848 وأصبح بعدها وزيراً للخارجية فرئيساً للحكومة المؤقتة. وفي عهد لويس نابليون عاد إلى تفرغه للشؤون الأدبيّة في ظروفٍ من الاضطرابات السياسية وأصدر قصص (المناجيات، وغرازييلا ورفائيل) ثم ألّف (الدروس المعتادة في الأدب، وتاريخ إعادة الملكية).
لامارتين والغنائية الرومانسية

تعود غنائية لامارتين الرومانسيّة إلى ثلاثة عوامل:
1-مطالعاته في فيرجيل وبترارك وبايرون وراسين وروسّو وبرناردن دوسان بيير وشاتوبريان وأمثالهم..
2-انطباعات الطفولة بتأثير تربيته الدينيّة المرهفة
3-حبُّه لألفير
وهكذا دخل لامارتين الحياة مشغوفاً بالمثاليّ والجميل ومعتقداً بالسعادة والفضيلة. فكان يبحث عنهما في المجتمع فلا يجدهما فيلجأ إلى الطبيعة. وهذه تحدثه عن اللّه، فيسمو بشعوره نحوه حتى يغيب فيه بنشوة صوفيّة.
ويمكن إعادة النصوص الرومانسية المتميزة عند لامارتين إلى ثلاثة أنماط:
1-مشاهد أو ذكريات في إطار من الطبيعة
2-الكآبة والإحباط واليأس
3-الأمل بالله والهدوء وهيمنة الطبيعة على هذه الكآبة.
إنّ غنائية الشاعر لامارتين تأتي من تواصلٍ عفوي وبسيط يبدأ بشكوى أو أسف ثم تنتهي بالتفكير والتأمل. وهذا ما كان يلائم نفسيّة المجتمع في عام 1820، تلك النفسية التي أقلقتها الكوارث فتشبعت بالحزن والتديّن متأثرة بشاتوبريان، ثم انتظرت شاعراً يعبّر عنها، فشاتوبريان لم يعد يكفيها، لأن النفوس الحساسة المتألمة تحتاج إلى هدهدة اللحن المتناغم والنشوة الموسيقية الغامضة، الأمر الذي لم يكن باستطاعة أي شاعرٍ غير لامارتين أن يستجيب له. ثم هنالك حاجة عامة أخرى هي تجديد الأسلوب التعبيري. وقد حققها لامارتين أيضاً .
كتبت والدته في عام 1828:

"أرسل إليّ ألفونس أشعاراً نظمها حديثاً، وأثّرت في نفسي تأثيراً بالغاً، قال فيها ما كنت أفكر فيه بالضبط. إنّه صوتي، لأني أشعر بأشياء جميلة وأعجز عن التعبير عنها. إني حين أتأمل الإله أشعر بشعلةٍ شديدة في قلبي، يبقى لهيبها حبيساً لا يستطيع الخروج ولكن الإله يصغي إليّ ويفهمني دون حاجة إلى كلامي. وإني لأشكره لأنه نقل أحاسيسي إلى ابني..!"
ولنستمع إلى ما قاله فيه السيّد كوفييه غداة استقباله في الأكاديمية: ".. عندما تستولي على أقوى الأرواح لحظاتٌ من الحزن والقنوط، أو يَسْمعُ متنزّهٌ منفرد مصادفةً من بعيد صدى أغانٍ حلوة متناغمة تعبّر عن مشاعر تماثل مشاعره، يحسّ بتعاطف كريم، وارتعاشٍ جديد يدب في أعصابه التي أرهقها الصراع. وحين يمتزج هذا الصوت الذي يصوّر آلامه بشيءٍ من الأمل والعزاء تعود الحياة إليه، فيرتبط بذلك الصديق المجهول الذي أعادها إليه ويودُّ لو يعانقه ويبوح إليه بما يكنّه من عرفان للجميل. وهكذا يا سيّدي تأثير تأملاتك الأولى في عددٍ كبير من مرهفي الإحساس الذين يؤرقهم لغز العالم!"
ويقول لامارتين نفسه، في مقدمة تأمّلاته الجديدة التي كتبها عام 1849: "أنا أول من أنزل الشعر من البرناس وأبدل بعرائس الشعر، وبالقيثارة ذات الأوتار السبعة أعصابَ القلب البشري نفسَها وهي تهتز متأثرة بارتعاشات الروح والطبيعة التي لا تحصى.."
ولكن شعر لامارتين الغنائي لم يكن كامل الإحكام، لأنه لم يكن شاعراً محترفاً، وقد دافع هو عن هذه الناحية دفاعاً ضعيفاً وفي الحقيقة إنه لا يُغنيّ إلا لينفث في بعض الساعات ما يعتلج في صدره من التأثر والحماسة ومن هنا كان يقع في عثراتٍ تعبيرية ناشئة عن قلة خبرته المهنية بالشعر تضير أشعاره في عيون النحاة من طرف والبرناسيين من طرفٍ آخر. ولكن ما لديه من صدق النبرة وقوة الإيحاء تجعلنا ننسى الشاعر لينفسح المجال كلّه للشعر. إن قراءة قصائده: الوادي والبحيرة والخلود والسنديانة والفلاحون وغيرها تقفنا على الحقيقة وكأننا خرجنا من حلم أو من دُوار يحدثه التحليق نحو المثالي.
الوِحْدة L,Isolement([5])

"على الجبل، وفي ظل سنديانةٍ عجوز، وقتَ المغيب،
كثيراً ما أجلس كئيباً،
ألقي نظراتي بين الحين والآخر،
على السهل الذي تنبسط لوحته المتغيّرة أدْنَى من قدميّ
هنا يصطخب النهر بأمواجه المّزبدة،
يتلوّى ويغيب في ظلام بعيد،
وهناك تمدُّ البحيرة الساكنة مياهها النائمة،
حيث تبزغ نجمة السماء في زرقة السماء

على هذه القمم المتوَّجة بالغابات السوداء،
يرشق الشفق شعاعه الأخير،
وعلى جناح الأبخرة تنهض مركبة القمر، مليكِ الظّلام،
فتبْيضُّ منها حواشي الأفق

في ذلك الحين، ومن أعلى برج كنيسةٍ غوطيّة،
ينداح في الهواء صوت نداءٍ دينيّ،

فيتوقف المسافر، ويمزُج الجرس الريفيّ
ألحانه المقدّسة بأواخر ضجيج النهار

لكنّ روحي لا تبالي بهذه اللوْحات الجميلة،
ولا تحسّ أمامها أيّ سحرٍ أو نشوة،
فأنا أتأمل الأرض بروحٍ ذاهلة،
وشمسُ الأحياء لا تدفئ الموتى!

من تلّ إلى آخر، ومن الجنوب إلى الشمال،
ومن الفجر إلى المغيب، عبثاً أُنقّل ناظري،
إني لأذرعُ ببصري كل نقطة في ذلك المدى الفسيح،
وأقول: ما من سعادةٍ تنتظرني في أيّ مكان!

ولكني -إذا استطعتُ أن أدعَ جسدي على الأرض،
فخلفَ حدود هذا العالم،
حيث تضيء الشمس الحقيقية سماواتٍ أخرى،
ربما تجلّى لعينيّ ما حَلَمتُ به طويلاً

هناك، سأثمل بالينبوع الذي إليه أَتوق،
وسوف يوافيني الأملُ والحب،
وذلك الخيرُ الأسمى الذي تتمناه كلّ نفس،
وليس له اسمٌ في هذه الحياة الأرضية
يا مَناطَ رغائبي الغامضة!
ألا يمكنني أن أطير إليك على أجنحة الفجر؟
لماذا تستمرّ حياتي في منفاي الأرضيّ؟
حيث لا شيء مشتركاً يجمع بيني وبين التراب!


عندما تسقط على المرج ورقةٌ من الغابة،
تهبّ رياح المساء فتنقلها إلى الوادي،
وأنا غدوتُ مثل الورقة الذابلة،
فاحمليني مثلها يا عواصف الشمال..!"
من ديوان "التأملات الأولى 1820"
فيكتور هوغو Victor Hugo - (1802-1885)

هو كبير أدباء فرنسا في القرن التاسع عشر، ولد في بزانسون وتجوّل في صباه بصحبة والده القائد العسكري في كثير من البلاد خارج فرنسا، ثم عاد إلى باريس في العاشرة من عمره ليتلقى علومه الابتدائية والثانوية، وكان والده يُعدُّه لدخول الكليّة الحربيّة، إلا أنه اتجه صوب الشّعر، فأرسل في السابعة عشرة من عمره مجموعة من أوائل أشعاره إلى الأكاديميّة، ثم عمل في الصحافة ونشر كثيراً من المقالات. وفي عام 1823 نشر مجموعته الشعرية الأولى les odes. وفي 1827 ألفّ كرومويل وقدّم لهذه المسرحية بمقدمته المشتهرة. ثم كتب "الشرقيات وهرناني ونوتردام" وأصدر فيما بين 1831-1840 أربعة مجلدات شعريّة هي: "أوراق الخريف، وأغاني الغَسَق، والأصوات الداخلية، والأشعة والظلال" ثم أصبح عضواً في الأكاديميّة. عمل هوغو في السياسة وانتخب عضواً في المجلس التأسيسيّ عام 1848. وفي هذا العام بدأ كتابه "البؤساء" ثم أصدر في خمسينيات القرن "العقوبات والتأملات والبؤساء وشكسبير. وبعد عام 1870 نشر "السّنة الرهيبة، وفن الجدودة وخرافة العصور" وفي أواخر حياته أصدر "البابا"، والشفقة العليا، والحمار، ورياح الرّوح الأربع".
غنائية هوغو:

هوغو، في أشعاره الرومانسية الغنائية، أقل عفوية وصدقاً من لامارتين ولكنه أكثر تنوّعاً وشمولاً. قال عن نفسه: "إنّه روحٌ من البلّور وصدىً مُرجّع". غنى كل موضوعات عصره وكل عواطف الحبّ المشروع، ومشاعر الأسرة والأولاد والوطن والصراع الفلسفي والدينيّ ولغز الموت والمجهول، والثقة بمستقبل من الحرية والتقدم. إنه باختصار الموسوعة الغنائية لعصره.
وأما من حيث الشكل فإن عبقريته لم تظهر فجأة مثل لامارتين بل ببطء، وعملت في تكوينها الرويّة والإرادة والصنعة أكثر من الإلهام. وكان شعره يغتني ويجود عاماً بعد عام. وقد رُزقَ عيْناً تميّز في الأشياء العاديّة الحواشي الدقيقة واللوينات والأعماق. فإذا تناول خياله محسوساته البصريّة زادها دقّةً وظهوراً وألبسها صوراً رائعة، فإذا به يخلع على الواقع العمق والأسرار، ويمنح الحُلْم والمجرّدات الصلابة وبهاءَ الواقع وربما ضخّم خياله الأشياء ووسّعها وحوّرها، حتى إنه ليُتعِبُ القارئ ويضجره أحياناً بكثرة التفصيلات.
لغته عالية الفصاحة، وأوزانه سليمةٌ وغنيّة بالقيم الموسيقيّة.
نصوصٌ من هوغو
1-رسالة الشاعر الرومانسي
([6])


من مقدمة odes et Ballades "يجب أن يتحمّل شاعر اليوم عبءَ ما أَفْسده السفسطائيون، عليه أن يمشي كالشعلة أمام أفراد الشعب، وأن يهديهم إلى كلّ المبادئ الكبرى للنظام والأخلاق والشرف، وحتى ينفذ إلى ألبابهم بسهولة ويكون محبّباً إليهم يجب أن يعرف كيف يحرّك بأصابعه نُسُج القلب الإنساني وكأنها أوتار قيثارة، وألاّ يكون شعره صدى لأي كلامٍ غير كلام الإله، ويجب أن يتذكر دوماً ما نسيه أسلافه، وأن يذكر دوماً أن له هو أيضاً ديانته الخاصة وحزبه الخاص، ويجب أن يغنّي دوماً أمجاد وطنه ومآسيه، ومناشط عبادته ومعاسروها، حتى يجني سابقوه ومعاصروه شيئاً من عبقريته وروحه ولا تقول عنه الأجيال القادمة والشعوب الأخرى: "هذا الشاعر كان يغنّي في أرض خالية".
2-نشوة الطبيعة([7])

.. النجومُ الذهبيّة في جحافلها اللامتناهية،
بصوت جهير وصوتٍ خفيض وبآلاف التناغمات،
كانت تقول خافقةً بتيجانها الناريّة:
إنه اللّه.. المولى العظيم..!
***
والأمواج الزرقاء التي لا شيء يكبحها أو يحكمها،
تقول وهي تطامن زبد قممها:
إنه اللّه.. المولى العظيم..!
3-مساءٌ في فصل البذار([8])

ها قد حلّ وقت الشّفَق،
وأنا جالسٌ تحت سقف بوابّة،
متعجباً من بقيّة النهار
التي تستضيء بها ساعات العمل الأخيرة

على تلك الأراضي التي غمرها الليل،
أتأمّل متأثراً أَسْمال رجل عجوز،
ينثر في الأَتْلام قبضات من البذار
فيهنّ الموسم المقبل .

شبحه الفارع الأسود،
يهيمن على الحَرْثِ العميق،
ولنتصور مدى إيمانه،
بجدوى هروبِ الزّمن!

يمشي في السّهل الفسيح،
يذهب ويجيء ويلقي البذارَ بعيداً
يفتح يده ويعود من جديد
وأنا أتأمله كشاهدٍ خفيّ

وعندما ينشر الظلام أشرعته،
ممتزجاً ببقايا الضوضاء
يبدو وكأنه يوَسّعُ حتى النجوم
حركة ذلك البذّار الجليلة
4-الوَلَد([9])

من ديوان (أوراق الخريف)
عندما يأتي الوليد يصفّق جمع الأسرة في صرخات عالية،
لأن نظرته الحلوة المضيئة،
تجعل كل العيون تلتمع بالفرح
وإن أكثر الجباه حزناً، وربما أكثرها اتّساخاً،
لتنبسطُ فجأةً لدى مرأى الوليد بريئاً فرحاً،

وسواءٌ أَنَشَر حزيران الخُضْرة على عتبتي،
أو زحم تشرين مقاعد حجرتي حول النار المتراقصة،
فعندما يأتي الوليد توافينا الفرحة وتضيءُ حياتنا
فنضحك، ونهتف، ونناديه،
وتهتز أمّه فرحاً عندما تراه يمشي.

أحياناً، نتحدث، ونحن نؤجّج لهب الموقد
عن الوطن والإله والشعراء والروح المتسامية بالدعاء،
ويظهرُ الوليد! فوداعاً للسماء وللوطن وللشعراء المقدسين،
لقد انتهى الحديث الجادّ وحلّتِ البْسمة

في الليل، عندما ينام المرء وتحلم الروح،
وحين يُسْمع أنين الماء بين القصب وكأنه صوت نشيج،
وحين يسْطع الفجر فجأة وكأنه المنارة،
ويوقظ نورُه في الحقول ضوضاءَ الأجراس والعصافير،
فأنت أيها الوليد الفجر،
وروحي هي السّهل الذي يُعَطّر نفَسَه بأجمل الأزاهير .
حين تستنشقه

روحي غابة، ولأجلك وحدك،
تمتلئ أغصانها المظلمة بالهمسات العذبة
والأشعة الذهبيّة
لأن عينيك تفيضان حلاوة لا تنتهي
ويديك الصغيرتين المرحتين المباركتين،
لم تقترفا إثماً بعد
وخطاك الفتيّة لم تطأ مستنقعنا
أنت أيها الرأس المقدس، أيها الولدُ الأشقر الشّعر،
أيها الملاك الجميل ذو الهالة الذهبيّة!

ما أجمل الطفل بابتسامته العذبة،
وبراءته الصافية،
وصوته الذي يريد أَن يقولَ كل شيء
وبكائه الذي سرعان ما يهدأ..!
مجيلاً نظراته المندهشة المبهورة،
مقدّماً في كل مكان، روحه الشابة للحياة،
وثغره للقُبَل

يا إلهي..! أسألك أن تقيني وجميع من أحب:
إخوتي وأقاربي وأصدقائي، وحتى أعدائي
إذا طغى الشرّ،

من أن تريني، يا إلهي، صيفاً بلا أزاهير قرمزيّة
وقفصاً بلا عصافير،
وخلية بلا نحل،
وبيتاً بلا أولاد..!
نابليون

من قصيدة هوغو "هو" Lui
في ديوانه "الشرقيات"
.."عندما تتجلّى لي تحلّق قصائدي شعلاً نارّية،
مزدحمةً على شفتيّ تمجيداً أو عذلاً،
فكأن نابليون الشمس وأنا عابدها "ممْنون"!([10]).

أنتَ المهيمن على عصرنا، ملاكاً أو شيطاناً، لا يهمّ،
ها، نسركَ اللاهث في الأعالي يخطفنا في تحليقه،
إن العين التي افتقدتك لتراك في كل مكان،
وفي لوحاتنا تلقي دوماً خيالك العظيم،

نابليون، سواءٌ في بهائه أو انطفائه،
واقف دوماً على عتبة القرن..!" ([11])
إيقاع العصر في نظر هوغو
من مقدمة "أوراق الخريف"([12])

.." إن هذه البرهة السياسية خطيرة، لا ينكر ذلك أحدٌ من الناس، ومؤلف هذا الكتاب أقلهم معرفة: ففي الداخل أعيد النظرُ في كلّ القضايا الاجتماعية، وكلّ أعضاء الكيان السياسيّ هُصِروا وصُهروا أو أعيد تشكيلهم في بوتقة الثورة، وعلى سندان الصحافة الصاخب..!
وفي الخارج، نجد هنا وهناك، على حدود أوربا شعوباً تباد بأجمعها، وتهجّر جماعات جماعات، وتكبل. فإيرلندة غدتْ مقبرة وإيطاليا سجناً كبيراً، وسيبريا منفى البولونيين. وفي كل مكان، حتى في أكثر الأمكنة هدوءاً بدأ الذعر والتفكك، فإذا أرهفت السمع، تناهى إليك الضجيج المبهم الصادر عن الثورات التي تغلغلت أنغامها حتى بلغت أساس الممالك الأوربية. وكلها تفرعات من الثورة المركزية الكبرى التي كانت باريس فوّهة بركانها.
وأخيراً، في الخارج كما في الداخل، أصبحت العقائد تصطرع والضمائر تصطخب، وأغربُ ما في الأمر ظهور دياناتٍ جديدة استدعت صيغاً جديدة، حسنة من ناحية، وسيئة من ناحية أخرى وظهرت الديانة بحلّة جديدة، وغدت روما مدينةُ الإيمان تطاول باريس مدينة الفكر، وعُرضت جميع النظريات والتصورات والمذاهب على محكّ الحقائق، وكثر النظر والسّبْر والكشف في قضية المستقبل كما هو الأمر بالنسبة إلى الماضي.."
نوفمبر 1831
شيلّي percy *****ey - 1795-1822

يُعَدَّ الشاعر شيلّي مثالاً للرومانسية الانجليزية. درس الشعر اليوناني وتشبّع بالفلسفة الأفلاطونية، وكتب وهو طالب في أوكسفورد أول كتبه وهو (ضرورة الإلحاد 1811)
كان صاحب فلسفة اجتماعية مثالية، يؤمن بتقدم الإنسان وكماله، وأن الكون تنساب فيه روح الحب، وقد وقف ضد الطغيان والقسوة والعنف ومجدّ العقل والحبّ.

شعره مزيجٌ نادر من الرسالة النبويّة ودقة التصوير وتدفق العاطفة والعذوبة اللفظية والموسيقية يَنزع إلى الأساطير والرموز من مؤلفاته: بروميثيوس حراً، وهي مسرحية شعرية غنائية 1819 وثورة الإسلام 1811، وأغنية للرّيح الغربيّة 1819 وأدونيس 1821، ودفاع عن الشعر 1821، وفيه يقرّر أن الشعراء هم المشرّعون غير المعترف بهم في هذا العالم.
دفاع عن الشّعر([13])

".. لقد دُعي الشعراء منذ القدم مشرّعين أو أنبياء، حسب الظروف الزمنية أو الأمم التي ظهروا فيها. إن الشاعر يجمع بالضرورة بين هاتين الصفتين في آن واحد، لأنه لايكتفي بإدراك حقيقة الحاضر إدراكاً عميقاً واكتشاف القوانين التي يجب بمقتضاها أن ترتب الأشياء الحاضرة، بل يرى المستقبل في الحاضر، وتغدو أفكاره بذوراً لأزاهير المستقبل. لا أريد أن أقول: إن الشعراء أنبياء بالمعنى الشائع للكلمة أو إنهم يستطيعون التنبؤ بأشكال الحوادث المقبلة بكل تأكيد، كما لو كانوا يعرفون روحها سلفاً، وأدعُ هذا للغلاة الذين يريدون أن يجعلوا الشعر تابعاً للنبوة بدلاً من جعلهم النبوّة تابعة للشعر. إن الشاعر يشارك في الأبديّ واللانهائيّ والواحد وبالنسبة إلى تصوراته لا يوجد زمان ولا مكان ولا عدد. إن الشعراء هم كهنة يوافيهم إلهامٌ غريزيّ. إنهم المرايا التي ترتسم على سطحها الظلال الهائلة التي يلقيها المستقبل على الحاضر إنهم الأبواق التي تعزف ألحان المعارك.. إنهم التأثير غير المتأثر، وهم المشرعون غير الرسميين للعالم..".
إلى الريح الغربيّة([14])

أيّتها الريح الغربية الهائلة،
يا نسمةً من كيان الخريف،
أنتِ التي من وجودك غير المرئيّ


تنساق كأشباحٍ هاربة من أمام ساحر
الأوراقُ الميتة مطرودة،
جماعات جماعاتٍ.. صفراء وسوداء وشاحبة
حمراء من حمّى السلّ ومصابة بالطاعون
أنتِ التي تقودين البذور المجنّحة
إلى مضجعها الشتائيّ المظلم
حيث ترقد كل منها هادئةً واهية،
كجثةٍ هامدة في قبرها،
تقودينها حتى تهبّ أختك السماوية
أيام الربيع وتنفخ في بوقها
فوق الأرض الساهية الحالمة،
وتملأ، وهي تسوق البراعم الحلوة،
كقطعان تتغذى من الهواء
تملأ بالألوان والروائح والعطور
التلال والسهول
أنتِ أيتها الروح الهائجة المتنقلّة في كل مكان
والمجتاحة المهدّمة، والواقية الحافظة ،
إسمَعيني.. إسمَعيني..!
***
آهِ لو كنت ورقةً مائتة يمكنك أن تحمليني،
لو كنت غيمة مسرعةً أطير معك،
أو موجة أخفق تحت تأثير قوّتك
وأقاسمكِ قوة عزمك وحركة شدّتك..
..آه لو كنت كذلكَ
إذاً لما أجهدتُ نفسي مبتهلاً
في حاجتي المؤلمة الموجعة،


ارفعيني كموجةٍ.. كورقةٍ.. كغيمة،
فأنا ملقى على أشواك الحياة،
وإني منها لأَدْمى
وحملُ الزمان الفادح
كبّل وحنى
واحداً مثلك
جريئاً نشيطاً.. متجبّراً أَنوفا.."
ج. بايرون George BYron - 1788-1824

شاعر رومانسي وكاتب مسرحيّ من الطبقة النبيلة الإنجليزية، وعلى الرغم من أنه كان يحمل لقب لورد فقد تمرّد على طبقته المحافظة وانساق مع روحه الثائرة المغامرة وشاعريته الجامحة وُمثُله الاجتماعية غير عابئٍ بالسخط والنقد فكان قوةً من قوى التحرّر السياسي والفكري في أوربا في القرن التاسع عشر.
سخر من التقاليد الجامدة وكتب للعمال ودافع عن النساء وعن الشعوب المقهورة، وأحب الناس وكره الظلم، وصدّق بسلوكه مبادئه التي يؤمن بها، فهبّ ليشارك اليونانيين حروبهم ضد الأتراك لأجل أن ينالوا حريتهم.
مزج في أدبه الإنسانَ والأسطورة والبطل والشاعر، وسعى إلى خير الناس، ولكنه كان كثير الصلف والكبرياء، ينظر إلى الناس من علٍ وكأنما يرى لنفسه موضعاً مترفعاً فوق مستواهم، تأثر برحلاته وكتب فيها قصائد عديدة يبدو فيها التأثر بالشرق.
من أبرز مؤلفاته: حجّ الطفل هارولد 1811 وما نفرد 1817 وكايين 1824 وأغنيات عبريّة 1815 ودون جوان وهي رواية شعرية.

النزعة الفرديّة([15])

(من الفصل الثاني من مانفردِ)

".. كانت نفسي منذ الطفولة لا تأتلف ونفوسَ الآخرين. لم أكن أستطيع أن أرى الدنيا بعيونهم، لم أكن أعرف الطموحات التي تفترس ضمائرهم، ولم يكن هدفهم هدفي، لقد جعلتني مسرّاتي وأحزاني وعواطفي وأفكاري غريباً في وسط هذا العالم، وعلى الرغم من أنّ جسدي يشاكل أجساد تلك المخلوقات التي تحيط بي، فلم أكن أشعر نحوهم بأيّ تعاطف، أمرٌ واحدٌ كان يستهويني: أَنْ أهيم في وحدتي، واستنشق هواء الجبال المكلّلة بالجليد، على قمة لم تجرؤ الطيور أن تبني فيها أعشاشاً، حيث الصخور الصّماء العارية من الأعشاب تتحاشاها الحشرات الخفيفة الأجنحة.
كنت أهوى مصارعة الشلال وأمواج البحر المضطرب فخوراً بأن أروّض قواي الفتيّة بمعاكسة تياراته السريعة، وكنت أحب أن أرقب القمر ليلاً في مساره الصامت، وكل نجمةٍ ساطعة في مدارها، كنت أتأمل البرق في أثناء العواصف حتى تكلّ عيناي، أو أصغي إلى صوت سقوط الأوراق عندما تهبّ الرياح فتعرّى أشجار الغابة.. تلك كانت مسرّاتي وحبي العزلة، حتى لو أن أحد الناس -ويُبرمني أن أُعدّ أخاً لهم- سار على نهجي لشعرت بالإهانة والانحطاط، فأنا لا أشبههم إلا في تكويني الطينيّ.."
وُردز وُرث William Wordsworth - 1770-1850

من أعظم الشعراء البريطانيين الإبداعيين في القرن التاسع عشر. كان مولعاً بالطبيعة كثير التجوال في الغابات والتلال والبحيرات، ولذلك كانت أجمل أشعاره في الطبيعة والريف. ويعدُّ زعيم الحركة الرومانسية في إنجلترا، ونشر مع الشاعر كولريدج (قصائد غنائية) فكانت إيذاناً ببدء الرومانسية الأدبية، وكتب لها مقدمة تعبّر عن مبادئ هذه الحركة الجديدة المناهضة للكلاسيكية.
كان له تأثير كبيرٌ على المواقف والأحاسيس المعاصرة. وربما كان لتجواله في أوربا وإطلاعه على آدابها وأفكارها دورٌ في تكوين ثقافته واتجاهه. ومن المؤكد أنه تأثر بروسّو في حب الحرية والطبيعة والحياة الريفية البسيطة والإيمان بقوى الطبيعة الملهمة والاقتناع بسلامة الفطرة البشرية ولا سيما عند الأطفال وبأن الإنسان بطبيعته الأساسية نزّاع إلى الخير ومفطورٌ عليه.
شعره غزير ولكنه مختلف المستوى، وتميل قصائده إلى القصر أو الاعتدال في الطول، وله مسرحية واحدة. ويتميز شعره بالتصوير والعاطفة والعذوبة اللفظية والموسيقية.
من فوق دير تنْتَرْن([16])

"نظم وردزورث هذه القصيدة عام 1798 في أثناء رحلة له مع أخته. وهي من أكثر قصائده حلاوةً، وتمثل شعوره نحو الطبيعة، كما تعبّر في نهايتها عن حبه لأخته. والقصيدة في 150 بيتاً. نجتزئ منها المقاطع الآتية"
"ها قد مضت خمس سنوات؛
خمسةٌ من فصول الصيف
مع خمسة من فصول الشتاء الطويلة
مضتْ
وأعود، فأسمعُ من جديد
هذه المياه المتدفقة المتدحرجة
من ينابيعها في الجبال
بخريرها الحلو الناعم..،
ومرة أخرى أنظر وأشاهد
هذه الصخور الشاهقة المنحدرة،
التي تبعث بمنظرها الرائع المنعزل
تأملات وأفكاراً
من عُزلة أعمق وأصعب سبرا.
وتتصل روعة المنظر الطبيعي
بسُجوّ السماء وهدوئها

***

لقد عاد اليوم الذي فيه أعود،
ومرةً أخرى أستريح
تحت شجرة الجميّز المعتمة،
وأجول بنظري على هذه الفَسَحاتِ
من الأرض المزروعة بالأكواخ،
وعلى هذه البساتين بما فيها من أشجار
مرتديةٍ في هذا الفصل مع ثمارها غير الناضجة
لوناً واحداً من الخضرة،
وضائعة منتشرة في وسط الغابات والآجام..
وأرى هذه المزارع بمراعيها
خضراء حتى الأبواب
وضفائر الدخان متلوّية مسترسلةً في صعودها
بهدوء وصمتٍ بين الأشجار..
بإشارة تُعلن، ولا تكاد تُبين
عن سكانٍ متشرّدين،
في الغابات التي لا سكنَ فيها،
أو عن كهفٍ لناسكٍ جالسٍ وحده قُرْبَ النّار..

***

هذه الأشكال الجميلة الرائعة،
لم تكن لي، بعد غياب- طويل،
كما يكون المنظر الطبيعيّ لعيني رجلٍ أعمى،
فكم من مرة، وأنا في غرفتي المنفردة،
وفي وسط ضجيج المدينة،
كنتُ مديناً لها في وقت تعبي وعيائي
بمشاعر عذبةٍ أشعر بها في دمي
وأحسّ بها تسري في فؤادي
وتعبّرُحتى إلى أنقى حالةٍ من نفسي وتفكيري
بقوة متجددة مطمئنة..
كما كنتُ، حسبما أعتقد، مديناً لها
بمنحة أخرى ذات مظهر أسمى وأسنى:
بذلك المزاج والحالة النفسية المباركة
التي تخفف من فداحة حمل هذا السرّ
سرّ الكون العصيّ الذي لا يُدرَك
ومن عبئه الباهظ المتعب،
تلك النفسية المباركة الصافية
التي تقودنا فيها أقدامُ المحبّة برفق
وتسير بنا حتى ننام..
***
تعلّمتُ أنْ أنظر إلى الطبيعة
لا كما كنت أنظر إليها في زمن الحداثة الخالية اللاّمبالية،
ولكن بأن أسمع مراراً موسيقا الإنسانية المحزنة الهادئة،
غير الخشنة ولا المزعجة المخدّشة،
ومع ذلك لها قوة عظيمة قادرة
على أن تعاقب بالمحن وتقهر وتُخضع .
وكنت أشعر بوجود يقلقني
بمرح أفكارٍ متعالية متسامية ،
وإحساسٍ سامٍ عُلويّ
لشيءٍ أعمق في تداخله وتشابكه
مقره في نور الشمس الغاربة،
والمحيط المتّسع والهواء الحيّ
والسماء الزرقاء، وفي ذهن الإنسان..
وأشعر بالحركة والروح التي تدفع وتحرك كل الأشياء المفكرة

وكل مقاصد ومآرب الفكر وتنداح وتبعث في كل الأشياء.."
البرناسيَّة Le Parnassisme

البارناسّية مذهب شعريّ جاء في أعقاب الرومانسيّة، احتجاجاً على إمعانها في الذاتية التي وصلت حدّ اللامبالاة بأي شيء خارج الذات وعلى تهاون شعرائها في الصياغة الفنيّة. وتعود هذه التسمية إلى "البرناسّ" Parnasse وهو سلسلة جبالٍ في وسط اليونان شاهقة الارتفاع، ذراها مكلّلةٌ بالثلوج وتنتشر فيها الكهوف التي تزعم أساطير اليونان أنها مسكونة بالآلهة الريفية والحوريات. والبرناس هو مأوى الإلهين أبو لون وديونيزوس وربّات الإلهام الشعريّ والموسيقى.
وفي عام 1866 صدرت في باريس مجموعة شعرية باسم "البرناسّ المعاصر" وفيها مختارات لشعراء عديدين منهم مالارميه ولو كنُت دوليل وسولي برودوم وهيريديا وفرانسوا كوبيّه وفيرلين. وكان هذا تجمّعاً موقتاً وغير متجانس، فسرعان ما انفصل عنه فيرلين ومالارميه ليصبحا زعيمي المدرسة الرمزيّة.
وإذا كانت المدرسة البرناسيّة تقوم على العناية بالجمال الشكلي والإيقاع الموسيقيّ وعلى مناهضة الذاتية المفرطة في الفرديّة فإن لقب برناسيّ لا يلائم سوى لو كونت دوليل وهيريديا. أما الآخرون فهم مجرد شعراء عاديين، لكل منهم ميزته الخاصة.
لوكونت دوليل leconte de lisle- 1818-1894

أتيح لهذا الشاعر أن يسافر إلى جزر الهند الشرقيّة فملأ عينيه من مشاهدها وألوانها وأسبغها على شعره، ودرس تاريخ الإغريق واطلع على الديانة البوذية ولما أصدر مجموعته الأولى لم يأبه أحد بأشعاره ولم يذكرها أحد، حتى هو نفسه نسيها ولم يعد يذكرها بعد أن وصل إلى الشهرة. ثم استقر في باريس وعكف على دراسة الشعر القديم، وأصدر ديوانه "أشعار قديمة" عام 1852وقدّم له بمقدّمةٍ تُعدُّ بياناً شعريّاً ومنهجاً للمدرسة الجديدة. ثم أصدر في عام 1862 مجموعة بعنوان "أشعار متوحّشة" فأصبح زعيم البارناسية المعترف به.
يقول دوليل في المقدمة الآنفة الذكر: "إن هذا البوح العام بوساوس القلب ينطوي على غرور دنيوي مجّانيّ. ومن ناحية أخرى مهما كانت المشاعر الاجتماعية قويّة فهي تنتمي إلى عالم الفعل. وإن التأمّل يبقى غريباً عنها، لأنه يعني العمومية والحياد.. ويجب أن نلجأ إلى الحياة التأملية والعلميّة كما نلجأ إلى المعبد حين نلتمس الراحة والتطهّر. ولما كان العلم قد انفصل عن الفنّ منذ مدة طويلة نتيجة لعوامل ذهنية متباينة، فمن الواجب أن يلتقيا إن لم يتماهيا، إن العلم كان الكشفَ البدائي عن المثاليّ الكامن في الطبيعة الخارجيّة، أما الفن فكان هو الدراسة العقلانية والعرض البهيّ، وإذا فقد الفنّ هذه الحدسيّة أو استنفدها فعلى العلم أن يذكره بتقاليده المنسيّة ليبعثها من جديد في أشكاله الخاصة به.."
ونستطيع أن نميّز في أساس هذا المنهج المضاد للرومانسية
-كما يقول برونتير- ثلاثة منابع لإلهام لو كنت دوليل:
1-الثقافة القديمة بشكلها اليوناني الوثني والهندي أوالبوذيّ
2-الولع بالغرابة: ومن خلاله جمع بين تذوقه العلمي للبوذيّة وبين رحلاته التي استمد منها كثيراً من المشاهد البهيجة والمدهشة وأوصاف الحيوانات الغريبة كالفيلة والفهد الأسود والنسر العملاق (الكوندور).
3-التشاؤم الذي تسرّب إليه من خلال الوضعيّة العلميّة والوثنية والبوذيّة، ولكنه يختلف عن دوفينيي بأنه يلتمس العزاء في الطبيعة، وربما تغنّى بالفناء والموت ناشداً الراحة من مكدّرات الحياة.!
أمّا من ناحية أسلوبه الشعري فكان دوليل يسعى دوماً إلى إتقان أشعاره وإحكامها جامعاً فيها بين المتانة والموسيقا وإنك لتلمسُ من خلال لغته جهدَ فنانٍ وفّقَ لتحقيق درجة عالية من الدقة والبهاء الشّكليّ.

([1]) ترجمة المؤلف عن :الكتاب الذهبي للرومانسية ط مارابو 1988 Karl petit

([2]) ترجمة المؤلف عن المصدر السابق.

([3]) الترجمة لتوفيق اليازجي - قصائد من الأدب الأجنبي دار الرائد- حلب.

([4])Les destinées - la mort du loup - Des GranGes et charrier P. 333.
ترجمة المؤلف.

([5]) ترجمة المؤلّف عن: الأدب المشروح لدي غرانج وشارييه ص310 Des Granges et charrier -litteratiere expliqueé p. 310

([6]) ترجمة المؤلف عن الكتاب الذهبي للرومانسية لكارل بتي.

([7]) ترجمة المؤلف عن الكتاب الذهبي للرومانسية لكارل بتي.

([8]) ترجمة المؤلّف عن كتاب دي غرانج وشارييه la litterature expliquée p. 322

([9]) ترجمة المؤلّف عن: دي غرانج وشارييه - الأدب المشروح ص319 la litterature expliquee

([10]) "ممنون" بطل أسطوري مصري -إغريقي ذهب لنجدة طرواه وقتله آخيل وكان يعبد الشمس ويعدها أمّه وتروي الأساطير أن تمثاله كان يصدر أنغاماً شجية حين تطلع الشمس عليه وكأنه يحيّيها (المؤلف)

([11]) ترجمة المؤلف.

([12]) ترجمة المؤلف.

([13]) ترجم المؤلف.

([14]) من "قصائد من الأدب الأجنبيّ" التوفيق اليازجيّ

([15]) ترجمة المؤلف عن النص الفرنسي في الكتاب الذهبي للرومانسية لكارل بتي.

([16]) من كتاب قصائد من الأدب الأجنبي - توفيق اليازجي



***
"... عاد إلى الكهوف صمتها، وإلى الغابات أحلامها؛ وصارت الصحراء
([1]) ترجمة المؤلف عن كتاب
Karl petit- le Livre d’er du romantisme Marabout université 1988.

([2]) ترجم المؤلف عن المصدر السابق.

([3]) ترجمة المؤلف عن المصدر السابق
__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
  #7  
قديم 02-19-2012, 10:27 AM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,413
افتراضي

شعراء بارناسيون آخرون

1-هيريديا J.M.de heredia ( 1842-1905)

بقي هذا الشاعر مخلصاً للبرناسيّة، وأصدر عام 1893 مجموعته الشعرية les tropheés فأودعها كل فنّه، بحيث كانت كلّ مقطوعة تساوي قصيدةً كاملة، لما تتميز به من التكثيف واللغة السليمة العالية، فلا يسأم القارئ من تكرارها لاستيعاب دقائقها والاستمتاع بموسيقاها الحلوة وقوافيها المحكمة، بل يجد فيها متعة الروح والعين والأذن! ولكن قارئه ينبغي أن يكون على مستوى مناسب من الثقافة والذوق والعلم حتى يستطيع فهم شعره المملوء بالمعارف التاريخية والعلمية والاصطلاحات والأحلام والتلميحات والإشارات.. أما القارئ العادي فيحتاج في فهمه إلى الحواشي والشروح.
2-سُولّي برودوم Sully Prudhomme (1839-1908)

درس العلوم أولاً ثم التفت إلى الشعر. ومن هنا تميز شعره المعبّر عن اللوينات العاطفيّة والنفسية بدقّة مدهشة. أما أسلوبه فكان في منتهى الصفاء والشفافية. وكان يرى أن الشعر يجب أن يكون صميميّاً وفلسفياً، وأنّ العالم الخارجي لا يكون ممتعاً وذا أهميّة إلا بمقدار ما يثير أفكارنا للبحث في ألغازه الرفيعة، ولهذا تجد في قصائده طابع التفلسف والرمز.
3-فرانسوا كوبيّه Franاois Coppee (1842-1908)

هو شاعر الذاتية العميقة وشاعر الناس البسطاء والأمور الحياتية المألوفة، الذي استطاع أن يجعل الأشياء العادية تسطع بعطرها النافذ اللطيف، والشعر، في رأيه، ليس بحاجة إلى الأبطال والأمور العظيمة بل إلى الإنسان من حيث هو كائن يحسّ ويتألم ويحزن ويفكر ويحب ويأمل.. وهذا يكفيه لأن يغدو مصدراً واسعاً للإلهام الشعري الحقيقيّ. إلاّ أن هذه الواقعية لا تعني الوقوف عند السطحيّات، بل لا بد من تعديها التماساً لموضع المأساة والجانب الفلسفي، إن ميزة كوبيّه في أنه -مع مجاراته لأمثال موسيّه وبرودوم -فتح المجال للواقعية الشعرية.
4-ألبير سامان Albert Samain(1858-1900)

هو شاعر اللطافة والرقة وبناء اللوحات الوصفية الرائعة وشاعر الواقعية الأخاذة، تميّز بتعبيره المخلص الحميم عن موضوعات الحزن والألم واستفاد من الرمز دون أن يفقد الوضوح




نصوص من الشّعر البرناسيّ

قلب هيالمار([1])

من "أشعار بربرية" للشاعر لوكونت دوليل

"عثر الشاعر على أنشودة شعبية اسكاندنيافية تروى قصة موت المقاتل هيالمار في إحدى المعارك الذي صحا قبل موته وهو مثخنٌ بالجراح لينادي أحد الغربان ويعطيه خاتمه الذهبي ليقدمه إلى محبوبته. فتأثر دوليل بهذه القصة ونظمها في قصيدة.. لكنه يجعل هيالمار يرسل قلبه بدلاً من خاتمه".

الليلة قمراء، والثلج أحمر،
هناك، يرقد ألف بطلٍ دون قبور،
أيديهم على مقابض سيوفهم، وعيونهم مذعورة،
وفوقهم يحوّم وينعق سربٌ من الغربان
القمر يسكب على الأرجاء نوره الشاحب
وينهض هيالمار من بين الموتى مضرّجاً بالدماء،
معتمداً بكلتا يديه على سيفه المبتور،
وأرجوان المعركة يسيل من جانبيه،
يا هؤلاء! أَمَا من أحدٍ فيه رمقٌ من الحياة؟
بينَ كثير من الشبان المرحين الشجعان،
الذين كانوا في الصباح يضحكون ويغنون بملءِ أصواتهم،
مثل الشحارير في غيضةٍ كثيفة؟
لقد ماتوا جميعاً. وهذه خوذتي محطّمة،
ودرعي مخرّقة، نزعت مساميرها ضربات الفؤوس،
عيناي تدميان، لكني أسمع غمغمة واسعة،
تشبه زمجرة البحر وعواء الذئاب
إليّ يا عزيزي الغُراب، يا آكلَ الرجال،
افتح بمنقارك الحديدي صدري،
وغداً ستجدنا كما نحن الآن،
احمل قلبي الحارّ إلى ابنة إلْمر..
ستجدها في أوبسال حيث يكرع النبلاء الجعةَ الفاخرة،
وهم يغنون ويقرعون دنانهم الذهبية على إيقاع النشيد،
اخفق بجناحيك وطرْ يا جواب الضباب،
ابحثْ عن خطيبتي، واحمل إليها قلبي.
وعند أعلى البرج حيث تحوّم العقبان،
ستجدها واقفة، بيضاء ذات شعر أسود مسترسل،
يتدلى من أذنيها قرطان فضيان دقيقان،
وعيناها أصفى ضياءً من البدر في أبهى الأمسيات،
اذهب، وقلْ لها أيها الرسول الأسود،
إني أُحبّها، وهذا قلبي، إنها ستعرفه،
أحمرَ صلباً غير شاحبٍ ولا رعديد،
وسوف تبتسم لكَ ابنة إلمر أيّها الغراب.
ها إني أموت، مهجتي تسيل من عشرات الجراح،
لقد قضيت نحبي، فاشربي أيتها الذئاب دمي القاني
أما أنا فسأمضي شاباً شجاعاً ضاحكاً حرّاً ناضرا،
لأجلسَ في الشمس بين الآلهة!




الفاتحون([2])

هيريديا
"يصف هيريديا في هذه المقطوعة المغامرين الأسبان في القرنين الخامس عشر والسادس عشر الذين كانوا يقطعون الأطلسيّ بحثاً عن الذهب في أمريكا، وكان أحد أجداده منهم"

مثل طيران البزاة بعيداً عن أوكارها،
ينطلقون من بالّوس وموغير مشاةً ورؤساء .
منهكين تحت وطأة عذاباتهم الباذخة.
ونشاوى حُلُمٍ بطوليّ عسير
يمضون للبحث عن المعدن الخرافيّ
التي تنضجه اليابان في مناجمها البعيدة؟
والرياحُ الموسمية تميل بسواريهم،
نحو الشواطئ الغامضة للعالم الغربيّ
وفي كل مساء يحلمون بغدٍ ملحميّ،
ويسحرُ اللازوردُ الفوسفوري في البحار المداريّة،
غفوتهم برؤى سرابٍ ذهبي
أو يشاهدون وهم مُكبّون على مقدمة سفينتهم
نجوماً جديدة تطلع من جوف المحيط
في سماءٍ مجهولة


ماري ستيلاّ "نجمة البحر" ([3])

هــيريديـــا
"انطلق البحارة منذ أيام للصيّد، وذات مساءٍ هاج البحر فتعاورت قلوبَ نسائهم الوساوسُ المقلقة.."

النسوة كلّهن راكعاتٌ على صخرة المرفأ،
وأيديهن متصالبة تحت شال الكتّان،
يرتدين الصوفيّ الثخين أو القطنيّ الصفيق،
ويرقبن المحيط الذي يبيّض بزبده جزيرة "با".
رجالهن هناك: الآباء والأبناء والأزواج والعشاق،
مع آخرين من بينبول وأدريين وكانكال
أبحروا جميعاً نحو الشمال إلى المراسي النائية،
ترى، كم من صيادٍ جريءٍ لن يعود؟
فوق ضجيج البحر والشواطئ،
تتعالى أنشودة باكية،
تضرَعُ بأصوات عالية إلى النجمة المقدّسة
ملاذِ البحارين في الخطر .
كلّ هذه الجباه المسودّة من لفح الشمس،
تنحني خشوعاً مع أصوات النواقيس من روسكوف إلى سيـبيريل،
يتعالى رنينها ثم يتلاشى في السماء الورديّة الشاحبة.
العيون([4])

سولّلي برودوم
"يعبّر هذا المقطع الفلسفيّ بأسلوبه الرمزي الشفاف عن خلود الروح في حياة ثانية. والعين والرؤية هنا رمز الحياة"

سواءٌ أكانت زرقاء أم سوداء، كلُّها محبوبة وكلُّها جميلة
عيونٌ كثيرة، طالما شاهدت الفجر،
ترقد في أعماق القبور،
والشمس لا تزال تشرق..
كم ليلةٍ هي أحلى من النهار!
سحرتْ عيوناً لا تعدّ،
وها هي النجوم تتلألأ دائماً،
أما العيون فسَكنَها الظّلام..
آه، هل فقدتْ المقدرةَ على البصر؟
لا، لا! هذا غير ممكن،
لقد تحولتْ إلى جهة أخرى..
إلى ما يُدعى العالم غير المرئي
وكما أن النجوم الجانحة إلى المغيب
تغادرنا ولكنها تبقى في السماء
كذاك تغيب العيون،
وغير صحيح أنها تموت..
سواءٌ أكانت زرقاء أم سوداء، كلها محبوبة وكلّها جميلة،
إنها تتفتّح على فجر فسيح
في الجهة الأخرى من الضريح
والعيون التي يغلقها الردى ما تزال ترى.
الإناء المصْدوع([5])

سوللّي برودوم
هذا الإناء الذي يرقد فيه الطّيب
انصدعَ من صدمة مروحة،

بالكاد مسّتْه ودون أي ضجيج
فلم يأبه إليه أحد..!
ولكنّ هذا الصّدْعَ الطفيف ،
ما زال يقرض الزجاج
بخطاهُ الوئيدة الثابتة الخفيّة
حتى طوّق الإناء .
تسرّب منه الماء قطرة قطرة ،
وانسفحت منه خلاصة الأزاهير
ولم يَرْتَبْ به أحدٌ بعد..!
لا تمسّوه، إنه مكسور!
وكذا قد تخدشُ القلبَ اليدُ التي يحبُّ فتميتُه
فيتصدّع من تلقاء ذاته
وتموت فيه زهرة الحب..!
يبدو سليماً أمام أعين الناس،
وفي داخله شعورٌ بالفداحة ونحيبٌ خفيّ .
جرحُه عميقٌ دقيق،
إنه محطّم فلا تلمسوه..!

الدّموع([6])

لفرانسوا كوبيّه
ها قد بلغتُ الخمسين،
إني أتفكرُ في حالي:
شكراً يا إلهي..!
لكني أحسّ هذا القلق الخطير:
كلما تقدمت بي السنّ قلّ بكائي!

ومع ذلك فإني لا أزال أتألم،
كما كنت في سابق عهدي،
واعتزّ بأني لا أزال استشعر بعمق
آلامَ الآخرين .
أواه! هل بلغتُ من الشيخوخة
حداً يكاد ينضب فيه
ينبوع دمعي الطيبُ الحنون
الذي كان يصعد من قلبي إلى عينيّ؟
من أجل أصدقائي المتألمين،
ومن أجلي أنا..
ماذا؟ أما من عَبْرة
تهدّئ، تواسي، تسْحر
ولو لحظةً واحدة آلامي وآلامهم؟
أمسِ، في هذا البرد القارس
أمام هذا الفقير شبه العاري
أعطيتُ، دون أن أتأثّر
أعطيتُ، ولكنْ بحكم العادة..!
وذاك رجلٌ أَرْملُ حزين
باح لي ذات مساء بيأسه ،
فلم تذرفْ عيناي لأجله
عبرة عطف.
أصحيح إذن أنّ القلب يتعب
كالجسد وقد انحنى عوده؟
إني لا أنفكّ أفكر وحيداً في أمري:
هل سأغدو هرِماً مطاطئ الهامة؟
لا.. إنّها لأكثرُ من نصف ميتة،
وإني لأطمح، أيتها الطبيعة العاتية،
أنْ أقاوم سنتك القاسية،
فأحتفظ بشفقتي الكاملة
آه، ذا شيبي وذي تجاعيدي .
إني لراضٍ راضخ
ولكني، على الأقل، أرجو ألاّ تقفر عيناي
حتى في سنوات شيخوختي .
لأن الإنسان ليس قبيحاً وفاسداً
إلاّ بنظرته اليابسة الأنانية
وإن ماء العَبْرة هو الموشور الشفاف
الذي يغير الكون .


qqq



الرَّمزيّة Le Symbolisme


نشأت الرمزية في أواخر القرن التاسع عشر نتيجة ردّ فعل على الرومانسية والبرناسيّة، واستمرت حتى أوائل القرن العشرين معايشةً البرناسيّة والواقعية والطبيعيّة، ثم امتدت حتى شملت أمريكا وأوربا.
لم تكن الرمزية واضحة المعالم في البدء، فقد ذكرنا سابقاً أن جماعة (البرناسّ) انقسمت على نفسها وانفصل عنها فيرلين ومالارميه ليكوّنا اتجاهاً سيعرف بالرمزية ولم يعرف اصطلاح (الرمزية ورمزيّ) إلاّ في عام 1885. حتى إن فيرلين كان يكره هذه التسمية بعد ظهورها. وقد ورد هذا الاصطلاح للمرة الأولى في مقالة كتبها الشاعر الفرنسي جان موريس رداً على الذين اتهموه وأمثاله بأنهم شعراء الانحلال أو الانحدار. فقال: "إن الشعراء الذين يُسمّون بالمنحلين إنما يسعَون للمفهوم الصافي والرمز الأبدي في فنهم قبل أي شيء آخر" ثم اقترح استخدام كلمة رمزي بدلاً من كلمة منحدر أو منحل الخاطئة الدلالة. وفي عام 1886 أنشأ جريدة سماها (الرمزيّ) ونشر في العام نفسه، في جريدة الفيغارو، بيان الرمزية وفي عام 1891 أعلن أن الرمزية قد ماتت..! ولكنها خلافاً لما رآه استمرت وقويت وانتشرت وأصبحت ذات شأن عظيم في مجالات الأدب والفن بقيت آثاره خلال القرن العشرين على الرغم من تعرضها لكثير من الهجمات والتقطعات والتداخلات.. وبقيت معايشةً للمدارس الجديدة كالسرياليّة والمستقبلية والدّادائية والوجوديّة وغيرها من الحركات... ولئن مالت إلى التلاشي في فرنسا فقد قويت في غيرها ولقيتْ رواجاً كبيراً، حتى قيل إن الأدب الأمريكي في القرن العشرين كان كلّه رمزياً..!
كان رواد الرمزية الأوائل قد أخذوا على الرومانسية مبالغتها في الذاتية والانطواء على النفس بحيث غدت غير آبهة بما يجري خارج الذات، وإفراطها في التهاون اللغوي والصياغة الشكليّة. ثم أخذوا على البرناسية بالمقابل المبالغة في الاحتفاء بالشكل ولا سيما في الأوزان مما قد يحرم الشاعر من إمكانية التلوين والتنويع ومواءمة التموجات الانفعالية وأخذوا عليها أيضاً شدة الوضوح والدقّة بينما توجد في عالم الشعر مناطق ظليلة واهتزازات خفية يصعب التعبير عنها بدقة ووضوح فالوضوح والدقة والمنطق والوعي والقيود اللغوية والفنية كلّها شروط تخنق الإبداع وتكبح تيار الانفعال.. ولا بدّ من الانطلاق مع العفوية والحرية الكاملة ليجري الإبداع في أجواء خالية من القيود والسدود..! ولا بد من التماس أدوات لغوية جديدة هي الرموز للتعبير عن الحالات النفسية الغائمة بطريقة الإيماء لا بالطريقة المباشرة الواضحة.
فالرمزية إذن مدرسة جديدة عملت على محورين أولهما محاولة التقاط التجربة الشعرية في أقصى نعومتها وارتعاشها ورهافتها، وثانيهما التماس الإطار الفنّي الحرّ المرن الذي يستطيع التعبير عن التجربة الشعرية ونقل أحوالها إلى القارئ بخلق نوع من المغناطيسية التي تسري إليه من الشاعر، تماماً كما هو الأمر في الموسيقا والفنون التشكيلية.
ولئن كان الرمز عماد هذه المدرسة فالرمزية الفنية الجديدة تختلف عن الرمزية التي كانت معروفة في العصور السابقة، فالتعبير بالرمز كان مألوفاً في كثير من المدنيات، تجده في العصور الوسطى وأدب التصوّف وفي روائع الرواية الواقعية، وكان الرومانسيون والبرناسيون يستخدمون الرمز أحياناً ولنذكر مثلاً (بردوم وكوبيه..) فالرمز أداة تعبير عالمية قديمة. واللغة في حدّ ذاتها مجموعة من المنظومات الرمزية وكان الناس، ولا يزالون يعبرون بالرموز عن مقاصدهم سواءٌ بالإشارة أو بالرسم أو بالألفاظ.. وكان مألوفاً التعبير بالنار عن الإحراق وبالطير عن السرعة وبالريح عن القوة مع السرعة وبالصليب عن التخليص وبالبحر عن الإتساع وبالراية عن سيادة الأمة وبالجماعة عن السلام وبالمقصّ عن الرقابة الصحفيّة.. فهذه كلها رموز، لكن المدرسة الرمزية شيء آخر، لقد أصبحتْ منهجاً فنيّاً متكاملاً ذا مواصفات عديدة وأصبح الرمز فيها قيمة فنيّة وعضوية ودخلت في نطاقه الرموز التاريخية والأسطورية والطبيعية والأشياء ذات الدلالة الموحية كما تميّزت بالاستفادة من المقومات الموسيقية واللونيّة والحسيّة والمشابكة بينها في لغةٍ تعبيرية جديدة.
خصائص المدرسة الرمزيّة

1-مجافاة الأسلوب القائم على الوضوح والدقّة والمنطق والتفكير المجرّد والمعالجات الخطابية والمباشرة والشروح والتفصيلات.. لأن هذه الأمور ليست من طبيعة الفنّ بل من طبيعة النثر ولغةِ التواصل العاديّة..
2-بالمقابل يسعى الرمزيون إلى الدخول في عالم اللاّحدود، عالمِ الأطياف والاندياح والارتعاشات الرجراجة والحالات النفسية الغائمة أو الضبابيّة والمشاعر المرهفة الواسعة، والتغلغل إلى خفايا النفس وأسرارها ودقائقها ولُويْناتها.
3-من ناحية الأسلوب التعبيري عن التجارب النفسيّة. نهجت الرمزية منهجاً جديداً يختلف عن نهج الرومانسية والبرناسيّة ويوافق ما ذكرناه آنفاً في التجربة الشعرية فقد وجدَ الرمزيون أن معجم اللّغة بما في ذلك المجازات والتشبيهات قاصرٌ عن استيعاب هذه التجربة والتعبير عنها بشكل مناسب صادق، ولا بد من البحث عن أسلوب جديد ولغةٍ ذات علاقاتٍ جديدة تتيح التعبير عن أرجاء العالم الداخلي ونقلَ حالاته إلى المتلقيّ عن طريق إثارة الأحاسيس الكامنة وتحريك القوى التصوّرية والانفعالية لإحداث ما يشبه السيّالة المغنطيسية التي تشمل المبدع والمتلقي. هذا الأسلوب الجديد يقوم على اللمح والومض ونقل المشاعر جملةً بشكلٍ مكثفٍ غير مباشر..
ولذا لجؤوا إلى الرمز للتعبير عن الأفكار والعواطف والرؤى لأنه أقدر على الكشف عن الانطباعات المرهفة والعالم الكامن خلف الواقع والحقيقة. إن الرموز نوع من المعادل الموضوعي، وهي من طبيعة خارج التراث، أيْ إنها تُشتق من الواقع الخارجي، ولكنها تختلف عن الطرائق التصويرية التقليديّة: فالشاعر يتجنب معها عقد المماثلات والتشبيهات والتوازيات بين طرفي الصورة، ويجعل الرمز وحده يؤدي الدلالة أو الشيء المرموز إليه عن طريق النشاط الذهني للمتلقي. والرمز يوحي بالحالة ولا يصرّح بها، ويثير الصورة ثم يتركها تكتمل من تلقاء ذاتها كما تتسع الدوائر في الماء، وذلك عن طريق الفعّالية الذهنية للمتلقي إنّ وظيفة الرمز الإيحاءُ بالحالة لا التصريح بها والكشف التدريجيّ عن الحالة المزاجيّة لا الإفضاء بها جملة واحدة، وهو وسيلة قادرة على الإشعاع الطيفيّ كالأثار الموسيقية والتشكيليّة، ومنه يصبح القارئ مشاركاً للمبدع في إنجاز عملية الخلق الفنيّ. والرمز أقدر على التعبير عن المشاعر المبهمة والأحلام والنزوعات الخفية العميقة وترجمة السرّ الخفيّ في النفس الإنسانية، وهذه هي المملكة الحقيقية للشعر، ولا تستطيع اللغة العادية التعبير عنها تماماً كما يستطيع الرمز الذي يمكنه الكشف عن أدقّ اللوينات النفسية وفروقها الخفيّة.
4-العناية بالموسيقا الشعرية، موسيقا اللفظة والقصيدة، والاستفادة من الطاقات الصوتية الكامنة في الحروف والكلمات مفردةً ومركبة ومن التناغم الصوتي العام في مقاطع القصيدة، بحيث تصبح هذه الطاقة موظفة في التعبير عن الجو النفسيّ لدى المبدع ونقله إلى القارئ، أي أنها تصبح أداة تعبيرية تضاف إلىالمقدرة اللغوية والتصويرية بما تحدثه من الإيحاء بالجو النفسيّ.. فهي إذن تدخل في عضوية الفنّ ولا تأتي تجميلاً أو دغدغة لحاسة السمع.
لقد أصبح شعار الرمزيين قول فيرلين "مزيداً من الموسيقا والموسيقا قبل كل شيء.." وأرادوا أن يحمّلوا الموسيقا من الدلالات والتأثيرات ما عجزت عنه المدارس السابقة وأن يستعيدوا الخاصيّة الشعرية الحميمة للشعر التي انفصل عنها الشعراء طويلاً. ولذلك تمرّدوا على الأطر الموسيقية الشعرية في الأوزان والقوافي وتكوين المقطع والقصيدة ولم يحفلوا بالقواعد الكلاسيكية والرومانسية والبرناسيّة، وراحوا يبدعون موسيقاهم الشعرية الخاصة بكل منهم بل بكل قصيدةٍ على حدة. وكان رامبو أجرأهم في ذلك. ووصل بهم الأمر إلى الاستهانة بالقوافي وإلى تبني اللغة الشعرية النثرية المموسقة داخلياً، وقرّروا أنها خيرٌ من ذلك النثر الموزون المقفى وتجلى هذا النثر الشعري عند بودلير في (قصائد نثرية صغيرة) ورامبو في (إشراقات) وأوغل في هذا المجال وحرّص عليه الشاعر الرمزي غوستاف كاهن الذي كان يرى أن الرمزية هي مذهب الحريّة في الفنّ. وبهذا فتحت الرمزية باب التمرّد على القيود الذي دخلته فيما بعد حركات فنيّة وأدبية عديدة.
5-لغة الإحساس: تعوّلُ الرمزيّة في صورها على معطيات الحسّ بشتى أنواعها كأدوات تعبيريّة، كالألوان والأصوات والإحساس اللّمسيّ والحركيّ ومعطيات الشمّ والذوق.. وترى في كلّ من هذه المعطيات رمزاً معبراً موحياً. فالحواسّ نوافذ الإنسان على العالم الخارجي. وهذا العالم "غابة من الرموز" كل ما فيها ينطق. والطبيعة عند الرمزيين تختلف عنها لدى الرومانسيين إنهاهنا تتخاطب فيما بينها وتتراسل، وتؤلف لغةً متشابكة لا يفهمها إلاّ الشعراء.
الشاعر الرمزيّ مستوفز الإحساس، متيقظّ الجوارح، يَغْرق في الطبيعة فيصبحُ مصوّراً تلتقطُ عينه الألوان والظلال والأشكال بل اللوينات الدقيقة ثم يترجمها بمختلف صفاتها ودرجاتها ودلالاتها وينتبه لما يعنيه الملمس والشكلُ وما تؤدّيه الحركة من معنى، ولا يهملُ روائع الأشياء.. من هذه النوافذ الطبيعية يدخل، ومنها ينطلق ويسوح. وإنّ مظاهر العالم الطبيعي تشعره بالتماثل مع العالم البشريّ والتخاطب معه. وكلّ معطيات الحواسّ تتشابك وتتخاطب وتتبادلُ وتتراسل.. فالشّعر يُنْثَر والرمادُ يُسكب، وللنجوم حفيف، وللوهم ظل، والخضرة تثقب، والنهرُ يغنّي، والأشعة تزْبد، والأنوار تهطل، والانتحاب طويل، والصوت ناعم أو خشن، والسخرية صافية أو ثقيلة، والثقوب زرقاء، والـرنـين أزْرق، واللاّزورد يُغَنّي.. ولكل شيء محسوسٍ دلالة ومعنى. فالأحمر ثورة، والأسودُ عدم، والرمادي كآبة، والأخضر حياة.. الخ والأصوات لها ألوان، كما في قصيدة الحروف الصوتية لرامبو:
Aأسود، Eأبيض، Uأخضر، Oأزرق..
فهنالك -كما ترى- لغة جديدة تقوم على إسنادات وتركيبات جديدة وغريبة ولكنها ليست عابثة ولا مجانية، إن المعطيات الحسيّة، باجتماعها تغدو كيمياء تصنع دلالات جديدة بالغة البلاغة على ما فيها من إيجازٍ وتكثيف، وما تمنحه من شعورٍ بالجدة والدهشة والمفاجأة.
6-الغموض: إذا كانت المدرسة الرمزية قد فتحت باب الغموض في الشعر فمن الإنصاف القول بأن هذا الحكم ليس مطلقاً ولا عاماً، فالرمزيون الأوائل قاربوه ومارسوه ولكن دون مبالغة أو شطط أو تعمّد، وكانت أشعارهم تتراوح بين الوضوح والشفافية والغموض، وهم في ذلك على درجات. إنهم لم يخرجوا فجأة من الرومانسية والبرناسيّة، بل احتفظوا ببعض ملامح المدرستين، ولذا نجد بودلير وفيرلين أكثر وضوحاً من رامبو، والوضوح هنا يختلف عن المباشرة المرفوضة نهائياً. إنه يعني عدم التعقيد في الفكرة وعدم الأغراب في الصورة، بحيث يلتقط المتلقي المعنى بسهولة ويُسْر. أما الغموض -وهو غير الإبهام المحيّر- فيأتي من أسباب عديدة أبرزها:
1-التصرّف بمفردات اللغة وتراكيبها بشكلٍ غير مألوف
2-الرمز الذي بطبيعته لا يوضح المرموز إليه، بل يترك ذلك لخيال القارئ وتأويله
3-التعبير بمعطيات الحواسّ ومراسلاتها وتقاطعاتها
4-الإشارات والتلميحات والأعلام التي تحتاج إلى معرفة واسعة أو إلى شروح وتعليقات
5-التكثيف وشدة الإيجاز
6-الانطلاق من أفق الدقائق النفسية والحالات المبهمة التي يصعب تصويرها والتعبير عن لويناتها الدقيقة
7-الاقتراب من الموسيقا والفن التشكيلي حيث يكون التواصل من خلال الانطباع.

مراحل الرمزيّة

المرحلة التمهيديّة أومرحلة بودلير (1867)

يعد بودلير من أعلام المدرستين البرناسية والرمزية في آن واحد، سواءٌ في الأوجه الإيجابيّة أو السلبيّة، فهو لا يمعن في عبادة الطبيعة ولا يُفْرط في العاطفة شأن الرومانسيين، وهو يمقت البساطة ويُعنى عناية فائقة بالشكل والإيقاع الموسيقي شأنَ البرناسيين، وهو يتميز بروحٍ شاعرية فذة، وحساسيّة تبلغ أحياناً درجة المرض، وإحساس بالغريب والنادر، ويهتم بالخيال الخلاق الذي يفضي إلى معنى ميتافيزيقي أو علاقة إيجابيّة مع اللانهائي، يغترف من الطبيعية ولكنه يعيد تشكيلها ويضفي عليها الطابع الإنساني، فلا توجد لديه مسافة بين الذات والموضوع وبين الإنسان والطبيعة.. والشعر عنده سحرٌ موحٍ يضمّ بين الذات والموضوع.. إنه الشاعر بكل معنى الكلمة الذي لا تستوعبه مدرسة واحدة، وقد قال فيه هوغو: "منح بودلير الفنّ رعشةً جديدة" وهو الذي بشرّ بقدوم الرمزية وبقي شعره متقناً كأقوى أشعار البرناسيين. برزت شهرة بودلير في ديوانه (أزهار الشرّ) (1857) الذي تطالعك فيه كآبة غير عادية ومعالجات لجوانب مستغربة من الواقع، تصدم القارئ، كما تبهرك فيه موسيقاه وأناقته التعبيرية العذبة.

طائر البطريق([7])

بودلير (أزهار الشر)

"حين يريد البحارة أن يتسلّوا،
غالباً ما يمسكون بعض طيور البطريق البحريّة الضخمة،
التي تتبع المركب المنزلق فوق الأعماق المُرّة،
وكأنها رفاق الرحلةِ المطئنون .
وعندما يضعونها على ألواح السفينة،
تبسط ملوك السماء اللازوردية، خرقاءَ خجولةً،
أجنحتها الكبيرة البيضاء كالأشرعة
لتجرّها على جانبيها في حالٍ تثير الشفقة!

يا لهذا المسافر المجنّح..! ما أَعْسر حركته، وما أشد رخاوته..!
هذا الذي لم يكن طائرٌ أجمل منه، أضحى هُزْأةً قبيحا .
هذا بحارٌ يداعب بغليونه منقاره،
وذاك متعارجاً يقلد العاجز الذي كان يطير .
ما أشبه الشاعر بأمير السحاب!
يعيش مع العواصف ويسخر من الرماة،
لكنه حين يُنفى إلى الأرض
في ضجةٍ من الهزء، يعوقه جناحاه عن المسير"


تناغم المساء([8])

(بودلير - أزهار الشر)
"ها قد أقبلت الأوقات التي تفوح فيها كل زهرة
وهي ترتعش على ساقها وكأنها مجمر بخور .
الأصوات والعطور في هواء المساء تدور:
فالسٌ حزين ودُوار مرهق!
كلَّ زهرة تفوح كمجمر بخور،
الكمان يرتعد كقلبٍ مُرْهَق،
فالسٌ حزين ودُوارٌ مُتْعَب،
السماء كئيبة وجميلة كمذبحٍ كبير،
الكمان يرتعد كقلبٍ مُتْعَب،
قلبٌ حنون يكره العدم الواسعِ المُظلِم
السماء كئيبة وجميلة كمذبحٍ كبير،
الشمس غرقت في دمائها التي تجمَد،
قلبٌ حنون يكره العَدَم الواسع المظلم،
يجني من الماضي المتألق كلّ دُوار
الشمس غرقت في دمائها التي تجمد
وذكراكِ في خاطري تلمعُ كَتْحفةِ القربانِ المقدّسة"([9])



المرحلة الثانية (مرحلة النضج والقمة)

1-ستيفان مالارميه Stephane Mallarme(1842-1898)

كان مالارميه الرأس الحقيقي المنظر للمدرسة الرمزية. وتميّز بالموهبة والتواضع. تضلّع من اللغة الفرنسية وآدابها وعمل مدّرساً للغة الانجليزية. وكان يستقبل في بيته حلقة من الشبان المحبين للشعر. وكان زملاؤه وتلاميذه يحبونه ويعجبون بشعره ويعدونه أمير الشعراء بعد فيرلين. جمع أجمل آثاره في كتابه "شعر ونثر" وكان منها ما يتّسم بالرمزية الشفافة ومنها بالرمزية الغامضة المقبولة. وعلى العموم كان ينفر من السهولة والوضوح ولغة التفاهم العادية وكأنها أسوأ العيوب. علم أتباعه التركيب الغامض وجماليته، وبقي مخلصاً للقواعد الشعرية والإتقان البرناسيّ.
أصبحت اللغة عنده سحراً والكلمات أشياء، والأشياء رموزاً موحية لا تقصد لذاتها، ولذلك نعته بعضهم بالصوفيّة. أراد مالا رميه أن يسعى إلى الكمال وأن يحقق المستحيل وأن يعبّر عن سرّ الكون الغامض ولكنه لم يجد سوى العقم والعدم والخواء والصمت، فراح يبحث عن المطلق لكنه عجز عن الوصول إليه. ورأى الفن وحده الذي يدوم لينقذ شيئاً من حطام العالم..! وبهذه الفلسفة المتشائمة التي تذكرنا الرومانسية، انفصل شعره عن الواقع المجسّد وتغرّب عن الطبيعة والذات.
يصف تيودور وايزيوا شعره فيقول: "التزم أن يضمّن كل بيتٍ عدة معانٍ متراكبة، وتعمّد أن يجعل كل بيت صورة تشكيلية وتعبيراً عن عاطفة، ورمزاً فلسفياً ونغمة موسيقية تنسجم متكاملة مع الموسيقا العامة للقصيدة مع الحفاظ على قواعد النظم المعروفة، بحيث تبدو قصيدته كلاً متكاملاً ومكتملاً يجسّد بالفن حالة نفسية كاملة".
من أشهر قصائده: أمسية أحد الفونات([10]) والنوافذ،
واللازورد، وطائر التمّ..
اللازورد L,azur*

ستيفان مالارميه
"السُّخرية الصافية للاّزورد الأبديّ،
تُثْقِلُ بتراخٍ شديد، كما تثْقِلُ الأزهارَ،
الشاعرَ العاجز الذي يلعن قريحته
عبرْ صحراءَ عقيمةٍ من الآلام..!([11])
أحسُّه هارباً مُغْلق العينين،([12])
وفي ضميره توبيخٌ كثيف مذهل،
ينظر إلى روحي الفارغة، أين المفرّ؟
وأيُّ ليلٍ مذعور تلقيه خرقاً بالية على هذا المُفْجِعِ الكريه؟([13])
انهضْ أيّها الضباب، واسكبْ رمادك الرتيب،
مع قطعٍ من أَسْمال الظلام،
في السماءِ التي ستغرق في سبخةِ الخريف الداكنة([14])
وابنِ سقفاً كبيراً صامتاً..
وأنت أيها الضّجر العزيز، اخرُجْ من مستنقع النسيان،
وحين تأتي، اجمع الوحلَ والقصب الشاحب،
لتسدَّ بيدك التي لا تعرف الونى
الثقوبَ الكبيرة الزرقاء التي تحدِثها الطيور المتخابثة([15])
وفوق ذلك، لتقْذفِ المداخنُ الحزينةُ دخانَها دون إمهال،
ولتجعلْ من سُخامها سجناً هائماً،
تخنق في رهبة ذيوله السّوداء ،

الشمسَ المحتضرة الصفراءَ في الأفق .
إن السماء ميْتَة! ولذا أتوجّهُ إليكِ أيّتها المادة،
راجياً أن تقدّمي نسيانَ الخطيئةِ والمثلِ الأعلى القاسي،
إلى هذا الشهيد، الذي أَتى ليقاسِم قُطعانَ البشر السّعداء،
الحظائرَ التي ترقد فيها([16])
هذا ما أريد، ما دامتْ جمجمتي أَضْحت خاوية،
كإناءِ زينةٍ فارغ قابع عند أسفل جدار،
ليس لديها فنّ تجميل الفكرة الباكية
ولا تفتأ تتثاءب منتظرةً مصيرها المشؤوم في مرقدها المظلم
لا جَدوى! فالّلازورد ينتصر، وإنّي لأسمعه،
يغني في ألحان النواقيس،
إنّه يُصوّت ليزيدنا رعباً بظفره الخبيث،
ومن المعدنِ الحيّ يخرُج لنا في رنّاتٍ زرقاء..([17])
أَزليَّاً يسير بالضّباب
ويخترق احتضارَكَ الولاديّ كسيفٍ مُصمِّم،
فأين المفرّ وما جدوى التمرّد الأخرق،
إني مَسْكون: الّلازورد، الّلازورد، الّلازورد، الّلازورد!
***
2-بول فيرلين: P.Verlaine(1844-1896)

بدأت شهرة فيرلين عام 1881 عندما عمل في الصّحافة وأخذ يرتاد الحيّ اللاتيني والتف حوله جماعة من الشعراء الشبان المعجبين به. وكان أوّل الأمر برناسيّاً ثم تطور شعره تدريجياً وبشكل عفوي نحو فنٍ أكثر تحرّراً، ولكن دون نظريات ومدارس، حتى إنه أصبح رمزياً بل مؤسساً للرمزية دون قصدٍ أو وعي لشيء اسمه الرمزيّة، بل كان يكره هذه التسمية..! وكانت حياته مأساةً غريبة بسبب انسياقه مع نزواته. تنقل بين باريس وبروكسل ولندن، وسجن عامين لإطلاقه النار على صديقه رامبو. وتلقى من هذه التجربة درساً في السلوك العاقل، فعاد إلى زوجته وكاثوليكيته، وكتب أشعار مجموعته (حِكْمة) لكنه سرعان ما عاد بعد وفاة أمه إلى الخمرة والتشرد والبؤس واعتراه المرض فقضى سنواته الأخيرة بين المقاهي والمستشفيات وفي عام 1884 انتخبه الشعراء أميراً لهم. ولكن هذه الإمارة لم تطل إذ اختطفته المنية بعد عامين.
وكانت أشعاره صدى إحساسه وتجاربه. فهو يعيش شعره ويندفع من بواعث شعورية ولا شعوريّة. قال عنه جول لوميتر: إنه شاعر بوهيميّ وبربري وطفل، لكن لهذا الطفل موسيقاه الروحية. وهو يسمع أحياناً أصواتاً لم يسمعها أحدٌ قبله" وكان جرسُ أشعاره وإيقاعها يتطابق مع إلهامه ويمتلك المضمون والشكل معاً في تدفق شعري واحد يصدر دائماً عن الفطرة والعفوية حتى لكأنه الشاعر البدائي أو الطفل إضافة إلى كل الإرهافات العصرية والتقليديّة في الشعر. وكان يتميز دون غيره من شعراء الرمز بالشفافية والسهولة والتناغم الموسيقي العذب.
ويمكن أن نستشف معالم منهجه من قصيدته "فن الشعر" 1874 التي أرسلها إلى صديقه الشاعر شارل موريس، والتي تعدّ دستوراً للرمزية يقابل في الكلاسيكية "الفن الشعري" لبوالو. وهو يوصى فيها قبل كل شيء بمزيد من الموسيقا، لأن بها يمكن التعبير عن الأحاسيس المرهفة الدقيقة التي لا تسعها الكلمات! ولهذا السبب كان يؤثر الأوزان ذات المقاطع الفرديّة خمسة مقاطع أو سبعة أو تسعة أو أحد عشر، ولا يفضل الاثني عشري المزدوج. وهذه الأوزان التي كان يفضلها ليست جديدة بل كانت موجودة في القرن السادس عشر وفي بعض أشعار رونسار.
ثم يوصي باستعمال الكلمات في غير معناها الدقيق وبعدم المبالغة في الاهتمام بالقافية (تلك الحلية الجوفاء) وبليّ عنق الفصاحة وبشيءٍ من الغموض يتزاوج مع الدقة والوضوح، وهذا ما عبّر عنه بالأغنية الرمادية التي هي أصل الأغاني والتي كأنما تنظر من خلف أسداف، وأخيراً بأن تكون القصيدة مغامرة مشتّتة تطوف مع أنسام الفجر الباردة لتشمّ عبق النعنع والسعتر..

أصدر فيرلين مجموعات عديدة منها: أشعارٌ زُحَلية، وأعياد زاهية، وفي هاتين المجموعتين يغلب الطابع البرناسيّ. وله أيضاً: الأغنية الجيدة، وغزلٌ دون كلام، والحكمة، والمدائح، والأناشيد الدينية الحميمة، وبالتوازي، وقديماً وبالأمس القريب، وأغانٍ إليها، وسعادة.. كما أن له بعض الآثار النثريّة.
أغنية الخريف (1866)([18])

فيرلين (أشعار زُحَليّة)
الانتحابات الطويلة،
لكمنجاتِ الخريف،
تجرَحُ قلبي بِوَنىً رتيب،
كل شيءٍ خانقٌ وشاحب
عندما تدقّ الساعة،
أتذكر الأيام السالفة،
وأبكي
وأمضي في ريحٍ سيّئة
تحملني من هنا وهناك
شبيهاً بالورقة الميْتة .
السماء فوق السّطح([19])

فيرلين: "حكمة" 1881
كتبها في السجن
السماء فوق السّطح
شديدة الزرقة والهدوء .
شجرة فوق السطح
تؤرجح بلحَها
الناقوس في السماء التي تُشاهَد،
يدقّ بنعومة
عصفور على الشجرة التي تُشاهد،
يغني أشجانه
آلهي، آلهي، إن الحياة هناك
بسيطة هادئة
وهذه الضوضاء الهادئة
تأتي من المدينة .
ماذا فعلتَ يا من تديم النحيب؟
ماذا فعلت يا هذا في شبابك؟
3-أرتور رامبو Arthur Rimbaud (1854-1891)

وُلِدَ رامبو لأبٍ صارمٍ وأمّ شديدة، وشعر وهو تلميذ برغبة جامحة في الهرب. وشاءت الظروف أن تجمع بينه وبين الشاعر فيرلين إثر أبيات أرسلها إليه، وتوثقت الصلة بينهما، حتى أسكنه فيرلين في بيته وقدّمه إلى المنتديات الأدبيّة، واصطحبه في أسفاره إلى بلجيكا وانجلترا، ولكن الفتى قرّر أن يتحرّر منه، ولما استقل القطار اطلق عليه فيرلين النار فجرحه ونقل إلى المستشفى ودخل الجاني السجن..
ثم تجول رامبو في أنحاء العالم فزار دول أوربا من الشمال إلى الجنوب وسافر إلى جزائر السوند ومصر وعدن والحبشة، وعمل جندياً ومترجماً وعامل سيرك وموظفاً تجارياً.. ولم تطل حياته فقد توفي في أحد مستشفيات مرسيليا في السابعة والثلاثين دون أن يدري أحد أن شاعراً عظيماً قد مات..
دخل رامبو عالم الشعر كعاصفة مفاجئة سريعة بحيث لم تكتشف منزلته إلا بعد وفاته بزمن طويل. بدأ نظم الشعر في الخامسة عشرة وأقلع عنه في العشرين، لكن أشعاره طبعت مرات عديدة وأهمّها: فصلٌ في الجحيم، وأشعار، وإضاءات.
كان رامبو من طليعة الشعراء الرمزيين الذين تركوا أثراً عميقاً في الحركة الشعرية الشابّة، موهبةٌ متوقدة ومخيلةٌ خلاقة ذات صور غريبة وعنيفة وشباب مشردٌ محموم وانطلاق مغامرٌ مبكر.. وإعجابٌ ببودلير وفيرلين.. كل ذلك جعل منه الشاعر المتمرد المبتكر الذي لا يحفل بالقيود التقليدية بل ينساق مع الموهبة العفويّة. تتراوح أشعاره بين الوضوح والغموض وبين البساطة والتعقيد والسهولة والصعوبة. وقد عرف كيف يوفق في بعض الأحيان بين الشعر والواقعيّة، ولكن بعض رموزه عسير على الفهم كقوله في وصف جندي ميْت:
شاحبٌ في سريرهِ الأخضر حيث يهطلُ النور..
وقوله:
نُزُلي في الدبّ الأكبر ونجومي لها في السماء حفيفٌ لطيف..

النائم في الوادي([20])

رامبو
نظمها عام 1870 يصف جنديّاً قتيلا

إنّه ثُقْبٌ في الخضرة حيث يُغَنّي نهرٌ ،
معلّقاً على الأعشاب عشوائياً أسمالاً فضّية .
وتسطع الشمس من الجبل الأرعن،
إنه وادٍ صغير يزبد بالأشعّة .
ثمّ جنديٌ شابٌ، فاغر الفم حاسرُ الرأس،
قذاله يغوص في الجرجير الرطب الأزرق،
ينام مستلقياً على العشب تحت السماء،
شاحباً في سريره الأخضر حيث يهطل النور .
قدماه بين الزنابق، ينامُ مبتسماً ،
مثلَ طفلٍ مريض، أخذَتْه غفوة،
أيتها الطبيعة هدهديه بحرارة، إنه بردان!
لم تُرْعِشْ أنفَه الروائح الزكيّة،
يرقد وادعاً في ضوء الشمس ويده على صدره ،
وثقبانِ أحمران في جنبه الأيمن..



بوهيميّتي*

رامبو، من ديوان (أشعار)
"هذه القصيدة من وحي حياة رامبو بين السادسة عشرة والعشرين من عمره، في أثناء فترة التشرد وفورة العبقرية.. حين كان يعيش مثل البوهيميين أوالغجر، دأبه التنقّل ومزاولة الأعمال العديدة والعيش ليومه فقط.."

كنت أمضي ويداي في جيبيَّ المخروقين،
وقد أضحى معطفي أيضاً مثالياً([21])
كنتُ أمضي تحت السماء ، يا ربَّة إلهامي، مؤمناً بك،
آه، اطمئنّي، فكم عشقٍ رائع حلمتُ به..!
سروالي الوحيد كان فيه خرقٌ واسع،
كعقلة الإصبع الحالم، كنت أنثر أشعاري في أثناء تجوالي([22])
كان مثواي في الدبّ الأكبر، ولنجومي في السماء حفيف لطيف..!
كنت أصغي إليها جالساً على حافة الطُرْق،
في تلك الأماسي الجميلة من سبتمبر،
وأحسُّ قطراتِ الندى على جبيني وكأنها خمرة الروح .
هناك، في ظلال الوهم، كنت أنظم أشعاري
وأشد خيوط حذائي الجريح،
وكانه قيثارة.. قدمٌ على قلبي..!([23])



المرحلة الثالثة، ما بعد العمالقة

منذ نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين بدأت المدرسة الرمزية تتغيّر وتميل إلى الانحدار فأولئك الشعراء الشبان الذين كانوا يلتفون حول مالارميه، لم يكونوا يمتلكون ذكاءه ومعارفه وموهبته، ولذا مضوا في مذهبه إلى حد المبالغة، فبحجة الحرص على المرونة الشعرية والتحرّر من القيود الثقيلة جردوا الشعر من الإيقاع والجرس الموسيقيّ والقافية، فأصبح لديهم شبيهاً بالنثر المصطنع المتقطع في أسطرٍ متفاوتة الطول. وبدعوى الارتفاع عن العاديّة سقطوا في الغموض الذي لا طائل تحته. أما معجمهم اللغوي فكان مملوءاً بالأغلاط التي لا يقع فيها إلا الأجنبي الذي يجهل اللغة وأصبحت تراكيبهم خارجة عن المنطق والحسّ السليم، والواقع أن عدداً منهم كانوا ينتمون إلى أصول أجنبية، وتذكر من هذه الفئة فرديناند غريغ وأفراييم ميخائيل وغوستاف، كاهن..
ولكن يجب أن نميز بين أولئك الرمزيين الذين يمتلكون المهارة والمعرفة والذين يحاولون الإغراب، وبين الفنانين الحقيقيين الذين مرّوا بفترة من المحاولة والتدريب ثم ما لبثوا أن أصبحوا شعراء حقيقيين مفهومين، محتفظين بمزايا الرمزية ومبتعدين عن مثالبها ومزالقها.
ومن الرمزيين الشبان أناسٌ موهوبون لكنهم يحبون الإيغال في الصور الغامضة ويبتعدون عن التناغم الموسيقي.. مما حدا ببعض النقاد لأن يصنفوهم ضمن اللاشعوريين أحياناً وضمن الدجالين المخادعين أحياناً أخرى.
ومنهم من تحاشى المبالغة الرمزية وحافظ على الإيقاع والوضوح وتمتع بقسط من الحريّة وسلمتْ أشعارُه من الإبهام والتنافر والعَرَج واستطاع شق طريقته بقوةٍ وأصالة موازناً بين شتى معطيات المدارس الشعرية، ومن هؤلاء البارزين نذكر:
1-ألبير سامان: Albert Samain (1858-1900)

لم يكن سامان رومانسياً ولا برناسياً ولا رمزياً بل تجمعت لديه تأثيرات شتّى من المدارس القديمة والحديثة بشكل عفوي غير مقصود. وكان ينظم الشعر لنفسه يبثه أحلامه وأحزانه الخاصة. فقد عاش حياةً شاقة ذاق فيها اليتم والحاجة. ولما حلّ باريس انضم إلى بعض المجموعات الأدبية المؤلفة ممن كانوا يدعونهم "الشعراء المنحلين" وأخذ يلقي منظوماته وينثرها، ثم بدأت شهرته حين نال جائزة من الأكاديمية وقدمه الناقد برونتيير إلى جريدة (العالَميْن) يتميز شعره بواقعية ملوّنةٍ خلابة وتعبير عن الألم والحزن بصدق. استفاد من صور الرمزية دون أن يفقد الوضوح. ويعد حقاً من بين أفضل الشعراء الفرنسيين. من مجموعاته (في بستان الوريث، على جوانب الإناء، العربة الذهبية).
2-هنري دو رينييه Henri de Regnier (1864-1936)

شغف رنييه أولاً بالشعر الحرّ الواضح، الذي رأى أنه يوافق موضوعات معينة، ثم مال إلى البرناسية والرمزية متأثراً بسولي برودوم وفيرلين وجماعة الشعر الحرّ، وعبر عن شجونه بالرموز وكان يحب جمال الطبيعة وجمال الأشياء ويجد فيها سحراً أخاذاً، ومن ذلك إعجابه بجمال الخريف، كما أولع بالأساطير القديمة. نال رينييه إعجاب كبار الشعراء مثل سولي برودوم ولو كنت دوليل وهوغو ودفينيي وهيريديا الذي أسكنه عنده وزوجه ابنته من أشهر. مجموعاته الشعرية (الوسام الخزفيّ، ومدينة المياه والحذاء المجنح ومرآة الساعات..) وله مؤلفات قصصية كثيرة
3-فرنسيس جامّ Francis Jammes(1868-1938)

ينتمي إلى الرمزية من حيث الموسيقا الحرة، ويخالفها بوضوحه وبساطته ولغته العفوية القريبة إلى روح الطفولة. وكان لا يصف إلاّ الأشياء العاديّة البسيطة ويعرضها ببساطة وبشكل واقعي صادق. وإن القارئ ليبتسم أمام بعض أوصافه كما يبتسم أمام صورة خرقاء ولكنها قوية التأثير. وقد عرّف نفسه بقوله:
"إلهي، لقد ناديتني من بين البشر، فلبيك! إنني أتألم وأحب، وقد تكلمتُ بالصوت الذي منحتني، وكتبت باللغة التي علمتها أمي وأبي اللّذين نقلاها إليّ. أمشي في الطريق كحمار محمّل، يضحك منه الأطفال فيخفض رأسه. سأمضي حيث تريد، وحين تريد، ها هي النواقيس تقرع..!"
4-بول فاليري: paul Valery (1871-1945)

من الشعراء الشبان الذين تتلمذوا على مالارميه. وكان في شبابه شديد التأثر به والافتتان بموضوعاته والولع بالمناظر الجميلة والأشياء النفيسة وقد جعل أشعار الشباب في مجموعته (الأشعار القديمة) وبعد فترة من الصمت درس خلالها الرياضيات وقويت ملكته اللغوية عاد إلى الشعر بنفسٍ جديد قوامه الإتقان اللغوي والبحث عن الكلمات الدقيقة المعنى والتزام الأطر الموسيقية التقليدية مع قليل من التسامح- والتأمل في العالم الداخليّ وكدّ الذهن والتصوير الرمزي والأداء المكثف المختصر الذي يكثر فيه التلميح والحذف.. ولذا اعترى أشعاره بعض الغموض وعسر الفهم والبرودة العاطفيّة، وأصبح شعره وقفاً على الخاصّة المثقفة، ولكنه نجا مما شاع في القرن العشرين من فساد الصورة وتشويشات اللاشعور في السريالية، وكانت رمزيته نهجاً خاصاً تصالح فيه مع التقاليد الشعرية والواقع المحسوس.
قال في قصيدته "المقبرة البحريّة 1920":

.." كما تذوب الفاكهة معطية لذة،
كما تُمتصّ وتتحول إلى متعة،
في الفم الذي تنتهي فيه حياتها،
هكذا أنا هنا، أشم وأتذوق التراب
والرماد الذي سأصير مستقبلاً..!"
وقال في قصيدته "ربة القدر الصغرى 1912":
"دَعْ جسدي يكسر قيود الفكر،
دعني استنشق الهواء الوليد،
نسيم منعشٌ يهبّ من البحر فينعش روحي،
دعني أقذف بنفسي في وسط الأمواج،
ثم أخرج منها كائناً حياً مرة أخرى.."([24])
ومن أشهر قصائده الأخرى: نرسيس، والأفعى، والغزّالة النائمة.
امتداد الرمزيّة:

لا شكّ أن الشعر كان الجنس الأدبيّ الأَوْلى بالرمزيّة، لأنها مدرسةٌ فنيّة. ولكنّ هذا لم يمنع انتقال آثارها إلى أجناس أدبية أخرى:

فقد جرت محاولاتٌ مبكرة لنقلها إلى المسْرح. ومنها محاولة الشاعر مالارميه في مسرحيته "أمسيّة أحد الفونات"([25])
وفي الرواية انصرف بعض الكتاب الدراميين عن الواقعية لإيجاد نوع من اللغة الرمزية غير الواقعية. ومنهم: فيلارز دي ليزيل آدم وموريس ماتيرلنك وبول كلوديل. ومنهم أيضاً مارسيل بروست في رواية (البحث عن الزمن المفقود (1913-1922)، على الرغم من أنه كان ينكر وجود جمالية رمزيّة. وقد اتضحت آثارها لديه في رواية (الزمن المستعاد 1926)([26])
ولكن الرمزية في المسرح والرواية لم تنل من النقاد ومؤرخي الأدب حظّاً وافراً كما في الشعر.
وفي خارج فرنسا، انتقلت آثار الرمزية إلى بلدان أوربا وأمريكا بسرعة وفي إطار من الإعجاب
ففي انجلترا التي لم تُفهم فيها الرمزية الفرنسية جيداً، ظهر من ممثليها سيمنز الذي زار فرنسا وألمانيا والتقى أعلام الرمزية، كما تأثر و.ب ييتس باعمال فيلارز وتأثر أكسيلي بأعمال بودلير ورامبو.
وفي ألمانيا ظهر في النصف الأول من القرن العشرين ريلك واستيفان جورج متأثرين بكتابات فاليري وطريقة الشعر الحرّ.([27])
وفي أمريكا نحا إزرا باوند (حوالي 1908) منحىً رمزياً يختلف عن المنحى الفرنسيّ. ولكن زعيم الرمزيين كان ت.س إيليوت (في الربع الأول من القرن العشرين) وكان شعره ذا طابع تشاؤمي كئيب (الأرض اليباب) متبعاً في ذلك خطا بودلير ولكن بطريقة جديدة مبالغة في الرمز. وهو الذي نقل أسلوب الشعر المنثور إلى الإنجليزية. وظهر بعده ستيفنز وكرين وفوكتر وأونيل وملفيل، ولكن بطرق مختلفة، حتى لقد قيل: "إن الأدب الأمريكي كله رمزي!"
وفي روسيا ظهرت الرمزية منذ نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين على يد أمثال بريسوف وفولونسكي وبيلي...

وامتدت أثار الرمزية أيضاً إلى إيطاليا واسبانيا وغيرها من الأقطار الأوربية.
أما في الأدب العربي فقد ظهرت في أعقاب الحرب العالمية في شعر بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي وصلاح عبد الصبور وأدونيس وخليل حاوي وشعراء الأرض المحتلة وغيرهم...
ولا تزال أصداء الرمزيّة تتردّد في أزمنة متعاقبة وبلدانٍ كثيرة وفي أشكالٍ مختلفة، وكل هذه الأصداء إنما تعود مباشرة أو بشكل غير مباشر إلى المحور الرمزي الفرنسيّ في القرن التاسع عشر.



qqq






الواقعــــــيَّة Le realisme


1- التعريف:

"الواقعيّة" نسبةٌ إلى "الواقع" Le réel ؛ وهو الموجود حقيقةً في الطبيعة والإنسان، والواقع نوعان: حقيقيّ وفنّيّ؛ و الأوّل ما إذا وصفه الإنسان كان صادقاً وأميناً لموافقته ماهو موجودٌ وكائن؛ إنه بوصفه يأتي بنسخة عن الواقع كالصورة الفوتوغرافية. والثاني- وهو المعوَّل عليه في الأدب - يقوم على خلقٍ إبداعيٍ لواقعٍ لا يشترط أن يكون حقيقياً بحذافيره. صحيحٌ أنه يغترف عناصره من الواقع الحقيقيّ؛ لكنه يحوّر ويزيد وينقص ويختلق ويعيد التكوين ليأتي بواقعٍ ليس نسخة أمينة للواقع الحقيقيّ بل هو محاكٍ له وممكن الوجود والتصوّر، لأنه يجري في نطاقه ويخضعُ لشروطه وآليّاته العاديّة.
إن الكاتب الواقعي يخلق أشخاصه ويرسم ملامحها ويصوّر البيئة كما يشاء، ولكن ضمن الأطر المألوفة التي لا نشعر إزاءها بالغرابة والاستنكار. وبهذا يشبه اللَّوحة الفنيّة التي يرسمها الفنّان مستمداً عناصرها من الواقع الخارجيّ الحقيقيّ ومخيّلاً لك واقعاً آخر هو واقعه الخاصّ الذي يراه من زاويته الإبداعية الحرّة. فنراه يتلاعب بالألوان والظّلال والخطوط والأشكال والتكوين كما يشاء دون الابتعاد عن منطق الواقع وطبائعه في الإنسان والمحيط.
فالواقعية الأدبية إذن هي تصويرٌ مبدعٌ للإنسان والطبيعة في صفاتهما وأحوالهما وتفاعلهما، مع العناية بالجزئيات والتفصيلات المشتركة للأشياء والأشخاص والحياة اليومية ولو كانت تفصيلاتٍ مبتذلة وكل ذلك ضمن الإطار الواقعيّ المألوف. إنه واقعٌ لا يشترط فيه الأمانة والصّدق في النسخ بل كلّ ما يشترط فيه "الصدق الفنيّ" وبهذا يتحوّل الكاتب إلى فنانٍ مبدع لا إلى نسَّاخ، أو كاتب تقرير...

2- أسباب نشأة الواقعيَّة:

1- نشأت الواقعيّة الأوربيّة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ردّاً على المدرسة الرومانسيّة التي أوغلت في الخيال والأوهام والهواجس والأحلام والانطواء على الذات والفرار من الواقع الاجتماعي منزويةً في الأبراج العاجيّة ومبتعدة عن الواقع المعيش، ومنصرفة تماماً عن معالجة شؤون الإنسان وشجونه في صراعه اليوميّ ضمن مجتمعه المصطخب وظروفه الموضوعية وهكذا جاءت الواقعية ردَّ فعلٍ على الرومانسية واحتجاجاً عليها من الناحية الموضوعية؛ بينما جاءت البرناسية والرمزية رداً عليها من الوجهة الشكلية والجمالية.
2- مما دعا إلى نشوء الواقعية التقدم العلميّ والإنجازات والكشوفات الهائلة في مجالات العلوم كالبيولوجيا وعلم الطبيعة والوراثة، وفي الدراسات التجريبية الإنسانية والاجتماعية والمنحى الوضعي في الفلسفة.
3- الاهتمام بالطبقات الاجتماعية المتعدّدة بما فيها الوسطى والفقيرة والمهملة وعدم الاقتصار على شرائح النبلاء والارستوقراطيين وكبار البورجوازيين. إن الواقعية اتجاهٌ نحو الإنسان بشكله المشخص لا الكلي - كما كانت تفعل الكلاسيكية - وهي عودة ديمقراطية باتجاه الشعب العريض، صادقة التصوير والتمثيل للواقع الفردي والاجتماعي.
3- الجــــذور:

ليست الواقعية بدعاً كلُّها، ولم تأتِ طفرةً دون جذور متأصّلة؛ فمعظم أفكارها ومبادئها كانت معروفة خلال العصور السابقة، فاعتبار الإنسان أمرٌ قديم، وطالما اعترف بقدره وقدراته. يقول شكسبير في هاملتْ: "ما هذا المخلوقُ الرفيعُ الصُّنع؛ الإنسان؟! ما أرجح عقله وما أَوْسعَ قُدراتِه..! وما أشبهه بإله...! إنه زينة الدنيا وسيّد كلّ الأحياء..."
وفي الحرية يقول سرفانتس في (دون كيشوت): "الحريّة يا سانشو إحدى أثمن هبات السماء للناس. لا شيء يوازيها، لا الكنوز المخبأة في الأرض، ولا الكنوز التي تنطوي عليها البحار. من أجل الحرية على الإنسان أن يجازف بحياته".
وفي الفكر العلمي يقول شكسبير في (هنري الخامس): "زمن العجائب ولّى، وعلينا أن نبحث عن أسباب لكل ما يجري.." وكل مسرح شكسبير والمسرح الكلاسيكي كان يقوم على البحث في حقيقة النفس الإنسانية ودوافعها الخفيّة، وفضح الشّر وتعزيز الفضيلة. وفي مسايرة الطبيعة والعودة إليها اشتهر روسّو. وهذا غوته يقول: "إن المطلب الأساسي الذي يوضع أمام الفنان هوأن يبقى أميناً للطبيعة..."
وفي البحث عن الحقيقة والموضوعية يقول ديدْرو: "الحقيقة أساس الفلسفة". ويقول لسنغ: " على الكاتب أن يسير وفق منطق الضرورة الموضوعية".
وكانت قضايا المجتمع قد طرحت باستفاضة في القرن الثامن عشر الذي مهدّ للثورة الفرنسية، حين اهتم الأدباء ببيئة المجتمع وحقوق الإنسان كإنسانٍ وكمواطن، والعلاقات بين الأفراد وقضايا الحرية والمساواة. ولا ننسى أنَّ في الرومانسية عَوْداً إلى الشعب واغترافاً من فنونه وآدابه ولغته وتراثه. وإنّ من مهام الأديب في عصري النهضة والكلاسيك خدمة مصالح الإنسان على الأرض والارتقاء بذاته، ومجافاة الكنيسة والعودة إلى المنابع اليونانية التي كان بنو الإنسان يعيشون فيها بشراً حقيقيين، لهم مُتَعهم وأخطاؤهم ولهم صراعهم مع القوى المهيمنة وسعيهم إلى الحريّة وإثبات الإرادة والذات...
فالواقعية إذاً لم تنُبتْ في أرضٍ بكْر، بل وجدت أمامها تراثاً عتيداً هادياً، وطرقاً معبّدة وأفكاراً متداولة... ولكن بشكلٍ متناثر ومشتت لم يبلغ من التكثيف والوعي والإلحاح والمنهجيّة مرتبة التيار المذهبي، ولم يكن الكاتب ينظرُ إلى الإنسان في واقعه المعيش وضمن المسار التاريخي وطبيعة العصر ومنطق الضرورة العلميّة المطبّق على الإنسان والطبيعة معاً... الأمور التي أشهرتها الواقعية وجعلت منها فلسفةً ومنهاجاً، ومذهباً واضح المعالم.
4- نشأة الواقعيّة:

لم تبرز الواقعية مدرسةً مستقلّةً واضحة السّمات إلا بعد منتصف القرن التاسع عشر؛ إلاّ أن معالمها بدأت بالتكوّن والظهور منذ عام 1826 أي في إبّان الفترة الرومانسية ولم يكن اصطلاح (الواقعية) قد ظهر بعدُ. لأن الاصطلاح يأتي متأخراً، إذ يضعه النقاد عادةً بعد أن تظهر بوادر أدبية جديدة وتكثر حتى تلفت النظر والتأمّل وتقتضي الدراسة والوصف والتصنيف وحين ذاع هذا الاصطلاح كان يقصد منه المذهب الذي يستقي عناصره من الطبيعة مباشرةً، لا من النماذج الكلاسيكية، وفهم بعضهم منه التفصيلات المستمدة من البيئة المحليّة التي تشعر القارئ الانطلاق من صميم الواقع وصدق التصوير. وكثيراً ما وضع النقاد تحت عنوان الواقعية ذلك الأدب الذي صدر عن كتّابٍ رومانسيين مثل بلزاك وهوغو... ولكن النقاد ما لبثوا أن لاحظوا بروز مذهب جديد في الأدب قوامه تصوير العالم الحقيقي تصويراً أميناً، ووصفُ الحياة المعاصرة بطريقة الملاحظة والتحليل والعرض الموضوعي، بمنأىً عن الذاتية والانفعال الخاص، وشيئاً فشيئاً تبلور هذا المذهب وانسلخ عن الرومانسية وأصبح له أعلامه الكبار مثل بلزاك وستندال وفلوبير وميريميه والأخوان غونكور ودوماس الصغير وغيرهم... لقد كوَّن هؤلاء مدرسة ذات معالم جديدة دون أن يُعترفَ بها رسميّاً في عالم الأدب والنقد، ودون أن يَعُوها هم؛ حتى إن فلوبير كان يغضب حين يوصف أدبُه بالواقعية. و كان لهذا الاتجاه خصومٌ رفضوا الاعتراف به وأخذوا عليه الإفراط في التفصيلات الماديّة وإهمال المثاليات واختفاء شخصية الكاتب.. وقد برز هذا الصراع جلياً حين ظهرت قصة (أسرار باريس) عام 1843 للكاتب الفرنسي أوجين سو. وهي قصة مأخوذة من الواقع الشعبيّ تصوِّر آلام الطبقة الفقيرة ومخاطر البؤس، والمكائد التي تحصد الشعب وتحرمه من كل رعاية وحماية؛ كما تصوّر الأفكار والعقائد والمشاعر العامة. وقد نزل فيها الكاتب إلى صفوف المسحوقين والأشقياء والمساجين والعاهرات.. ورأى بعضهم في هذه القصة مجموعة ألاعيب بهلوانية تشبه ألاعيب الأراجوز، لا همّ لها سوى الإبهار، أو تشبه أقاصيص ألف ليلة وليلة، خاليةً من التحليل والحلّ الجذريّ. والحلّ فيها هو أن يعطف الأغنياء على الفقراء... ورأى فيها آخرون تبشيراً بقيام عالم جديد.
أما في ألمانيا فكانت الأفكار الاشتراكية الخيالية قد راجت لدى الشعراء الذين لم يجدوا حلاًّ لمشكلات البؤس والفقر سوى التألّم والعطف والإحسان واللجوء إلى اللَّه!. وقد بشّر الشاعر ألفرد مايسنر بالسلام بين الشعوب وتحويل السيوف إلى محاريث ومناجل.. ولكن كيف؟ لا جواب على ذلك.
ولهذا سخِر كتاب الواقعية من تلك الاشتراكية المزعومة. ثم جاءت ثورة عام 1848 لتعصف بها وبأفكارها وحلولها وأحلامها، ممهّدة الطريق للأفكار الاشتراكية التي تبنت الواقعيّة وآزرتها وأكدتْ على منهج بلزاك.
وفي انجلترا نجحت في النصف الأوّل من القرن التاسع عشر جهود الروائيين الكبار مثل ديكنز وثاكري وبرونتي في تعرية البورجوازية والرأسمالية والروح العسكرية الاستعمارية ومادية العصر الفظة والقيم الزائفة، وفضحوا أكاذيب السلطة والطبقات العليا فيما تصدره من قوانين...
أما في إيرلندة فقد ظهر الكاتب توماس كارلايل الذي أصدر كتابه (الماضي والمستقبل) عام 1843 وحكم فيه على المجتمع البورجوازي بالانحلال، وانتقد تكدّس الثروات وبذخ الأغنياء بينما يموت الشعب من الفاقة والبطالة، وشخَّص عيوب النظام الرأسمالي الجشع وتناقضاته والآفات الاجتماعية والأخلاقية... ولكنه أخطأ الحلّ حين ناطه بالكنيسة والسلطة المستبدة. ذلك لأنّه في الأصل أخطأ إدراك الأسباب الحقيقيّة للظواهر الاجتماعية، فقد رأى أن الإلحاد والفوضى الاقتصادية والأفكار الديمقراطية الجديدة هي أساس البلاء! ولم يكتف بذلك بل مجدَّ البورجوازيّ القوي ودعا العمال إلى الانصياع لأوامره وأوامر قادة الصناعة، وطالب باستعمار الشعوب الضعيفة وتسخيرها والتمييز بين العروق الممتازة والعروق المنحطة، وكرّس التفاوت الطبقي... وأخذ يمنّي الناس ويعللّهم بظهور نبيّ مخلّص أو بطلٍ عبقري عظيم...!
ولم تتبلور المدرسة الواقعية الحقيقية في الأدب الانجليزي والأمريكي إلاّ في الربع الأخير من القرن التاسع عشر بتأثير المدرسة الفرنسية.
أما في روسيا فقد بشر غوغول بالواقعية في النصف الأول من القرن التاسع عشر ثم جاء دوستويفكسي ليؤكد هذا الاتجاه. وكانت الواقعية الروسيّة أكثر تعمقاً في النفس الإنسانية. وقد ألحّ تولستوي على عنصري الحقيقة والصّدق دون أن يذكر قطّ مصطلح الواقعية.
خصائص المذهب الواقعي:

أ- الواقعيّة الأمّ:

وتسمى أيضاً الواقعية الأوربيّة أو المتشائمة أو الناقدة. والمقصود بها المذهب الواقعيّ الأصليّ الذي ساد في فرنسا وبلاد أوربا لدى معظم الكتّاب بشكله العام مع الاحتفاظ بالاختلافات المحليّة والفردية وتعدُّد الألوان ضمن التيار الواحد؛ وبشكل أكثر تحديداً الواقعية قبل أن تتفرع منها الواقعية الطبيعية والواقعية الاشتراكية الجديدة.
وللواقعية الأمّ خصائص تميزها عن المدرستين الكلاسيكية والرومانسية وتجعلُ منها نهجاً أدبيّاً ذا معالم خاصة وماهيّة مستقلّة شملت الآداب الأوربية أكثر من نصف قرن. ولا تزال آثارها باقية ومستمرةً في القرن العشرين. ويمكن إجمال هذه الخصائص فيما يلي:
1- النزول إلى الواقع الطبيعي والاجتماعي والانطلاق منه، أي الارتباط بالإنسان في محيطه البيئيّ وتفاعله وصراعه مع المحيط الطبيعي والاجتماعي. من هنا يستمد الكاتب موضوعاته وحوادثه وأشخاصه وكلّ تفصيلاته. إنه ينزل إلى الأرض والبشر، ويصرف نظره عما عدا ذلك من المثاليات والخياليات، وما يهمُّه هو الأمور الواقعة التي يعيشها الناس ويعانونها. وكلمة (الناس) أو (الإنسان) يقصد بها هنا الإنسان المشخّص الحيّ الذي يضطرب في سبل الحياة والمعيشة، والذي له وجود حقيقيّ إنه المحور في الأدب الواقعيّ، وليس الإنسان المثاليّ العام المجردّ الذي كان محور الأدب الكلاسيكي. ولا الإنسان المنعزل المنفرد، الهارب من المجتمع الذي كان محور الأدب الرومانسيّ، إنّ إنسان الواقعية هو الفرد في تعامله وتفاعله ضمن تيار المجتمع والتاريخ المؤثر فيه والمتأثر به، الصانع والمصنوع في آنٍ واحد وقد ألمحنا فيما سبق إلى الدواعي التي سببت هذه النّقلة الجوهرية. وقد يكون الفرد في المذهب الواقعي نموذجاً، لكنه نموذج نوعيّ وليس عامّاً. إنه نموذجٌ يضم كل الأفراد الذين هم على شاكلته، والمجتمع يتكوّن من نماذج كثيرة منها الإقطاعي والرأسمالي والعامل والفلاح والبورجوازي والتاجر والمرابي ورجل السلطة والمرأة الطيّبة... الخ. وقد حرص كتاب الرواية والمسرحية الواقعيون على رسم هذه النماذج وخلقها لا من العدم والخيال بل من خلال الواقع. وقد عزفت الواقعية عن التعامل مع العالم الغيبي كالجنّ والأرواح والأشباح والملائكة والتشخّص والتجسّد الألّيغوريّ والأساطير والأحلام والمصادفات والخوارق... لأن هذه الأمور كلها لا تعنيها في شيء، والذي يعنيها فقط هو الإنسان بلحمه ودمه وأعصابه وغرائزه ومشاعره وحاجاته ومطامحه وآلامه وأفراحه المرتبط بالأرض وما حوله من الناس وما يحيط به من الظروف الموضوعيّة.
ولهذا السبب سمَّى بلزاك مجموعة رواياته المئة (الملهاة البشرية) في مقابل (الملهاة الإلهية) لدانتي.
إن الواقعية تنطلق من جميع طبقات المجتمع وأصنافه، من أدنى الطبقات الفقيرة والمعذبة والمسحوقة إلى أعلى الطبقات النبيلة والثريّة والمسيطرة. هنالك العمال والفلاحون والأجراء والمالكون والتجار والمرابون واللصوص والشحاذون والمحتالون والمجرمون والمنحرفون والسجناء والعواهر والسكّيرون واليائسون ورجال السلطة والحاكمون والعلماء والفنانون والنساء والأطفال وذوو العاهات... هنالك المجتمع بكامله، وبكل أعضائه وأجزائه. إليه ينزل الكاتب وفي أرجائه يتجوّل، ومنه ينطلق، ولأجله يكتب؛ لا لأجل فئة معيّنة يبتغي رضاها ونوالها. إن الشعب أصبح هو السيّد المحترم وليس البلاط أو الحامي النبيل. وقد أسهم في هذا الانقلاب الكوبرنيكيّ التطوّر الديمقراطيّ الذي أسفرت عنه الدراسات الاجتماعية والآداب والثورات وما حمله من مبادئ الحرية والعدالة والأخوة والمساواة والديمقراطية وقيمة الفرد ودوره في المجتمع الذي يناضل للتحرّر من كل سلطان مستبد أو أي متحكم سابق سواءٌ أكان متمثلاً في السلطة الملكية أو الامبراطورية أو الكنيسة أو الإطار الاقطاعي والرأسماليّ... وقد ساعد على الاتجاه نحو الشعب انتشارٌ الطباعة والصحافة على نطاق جماهيري واسع يستطيع الكاتب من خلاله الوصول مباشرة إلى كلّ القراء، ويقيس نجاحه بمقدار إقبالهم على قراءة نتاجه وتعاطفهم مع أطروحاته التي هي أطروحاتهم في الوقت نفسه.
ولا بدّ من الإشارة إلى أمرين هما من لوازم الواقعيّة أوّلهما: العناية بالتفصيلات الدقيقة والثانويَّة حتى التافه منها مما يتعلَّق بوصف الملامح والأصوات والألبسة والألوان والحركات والأشياء... إمعاناً في تصوير الواقع وكأنّه حاضر. والثاني: التركيز على الجوانب السلبيَّة من المجتمع كالأخلاق الفاسدة والاستغلال والظلم والإجرام والإدمان.. حتى لقد دُعيت بالمتشائمة، وفي الحقيقة لم يكن هذا ناشئاً عن التشاؤم بقدر نشوئه عن الرغبة في الرّصد والمعالجة. إن أبرز مخازي ذلك المجتمع المصطخب يصدر عن غاية خفيَّة وظاهرة في آن معاً، فهي خفيَّة لأن الكاتب لا يريد إيجاد الحلّ بنفسه ولكنه يصوّر الأمور تاركاً القارئ يبحث عن الحلّ. وهي ظاهرة لأن من طبيعة المذهب الواقعيّ الاهتمام بمصير الإنسان والأخذ بيده إلى مستقبل أفضل...
2- حياديّة المؤلف: وهي تعني العَرْضَ والتحليل وفق واقع الشخصيّة وطبيعة الأمور وبشكلٍ موضوعيٍ لا وفق معتقدات الكاتب ومواقفه السياسيّة أو الدينية أو المزاجية أو الفكرية أو القيميّة. الكاتب هنا شاهدٌ أمين. يدلي بشهادته حسب منطق الحوادث ومبدأ السببيّة والضرورة الحتميّة وليس كما يهوى ويريد. وهذا لا يعني أنه غير مبالٍ بما يجري حوله، بل يعني أنه لا يريد أن يفرض رأيه وميوله على القارئ. وكما أسلفنا إن الأدب الواقعيّ ليس مجانياً ولا عابثاً بل له غاية نبيلة غير مباشرة إذا تجرّد منها سقط في الفراغ والتفاهة والعبث والخلب الخادع الذي يقصد منه تزجية الوقت والتسلية وهذا النوع من الأدب هو أرخص الآداب وأدناها.
إن الكاتب الواقعيّ يبدو حيادياً، ولكن براعته في أنه يقود القارئ إلى موقف بحسب القوانين السيكولوجية في المؤثرات وردود الفعل. فالقصة تغدو مؤثراً يستثير عفوياً موقفاً من القارئ نفسياً أو سلوكياً. فالكاتب لا يأمر ولا ينهى ولكنه يضع القارئ مثلاً في موقف رفض أو قرف، فينتهي من تلقاء ذاته؛ ويثير إعجابه بأمرٍ إيجابي فيقبل عليه، ويخلق عنده نوعاً من التعاطف مع النموذج البشري فإذا به يحبّه ويقدّر فيه فضائله أو يكرهه ويمقت مخازيه.
إن الكاتب الواقعي لا يخاطب القارئ مباشرة بل من وراء حجاب يثير المشكلة وينسحب تاركاً الحكم للقارئ بعيداً عن الخطابة والوعظ وأسلوب المحاضرة والتربية... وحين يعمد الكاتب إلى التقرير والهيمنة تهبط قيمة أدبه. إن من أهم مزيا الأدب الواقعي تحريض الفكر وشحذ الإرادة وتقوية الشخصيّة وإشعار القارئ بأنه مسؤول عن مصيره ومصير مجتمعه ومشارك للكاتب في البحث عن الأسباب والدوافع وإيجاد الحلول. نعم..., قد يوحي الكاتب ويمهّد ويرهص ولكن من خلال اختياراته ووصفه وسرده.... وهذا لا يتنافى والحياد.
3- التحليل: أي البحث عن العلل والأسباب والدوافع والنتائج فلكل ظاهرة اجتماعية سبب والظاهرة الاجتماعية كالظاهرة الطبيعيّة تخضع لمبدأ السببيّة. وللظواهر المتماثلة أسباب متماثلة، وإذن فهنالك قانون يختفي وراء الظواهر والأسباب. والأديب الواقعيّ لا يعرض الظاهرة أو المشكلة مجرّدة. بل يبحث عن سببها ويوجّه النظر إليه ليصل بالقارئ إلى القوانين المحركة للمجتمع التي تكون من طبيعة اقتصادية أو سياسية أو دينيّة أو سلطويّة... وبهذا يزداد وعي القارئ واستبصاره وقدرته على التحليل والتأمّل والملاحظة والاستقراء ويصبح مؤهّلاً لوعي الواقع وتفسيره وقادراً على تغييره. ولكنْ.. كيف؟ وفي أيّ اتجاه؟ هذا ما لا يقوله الكاتب.
4- الفنيّة الواقعيّة: قال بعض النقاد: "إن الواقعية علميّة وليست جماليّة" ولئن صحّ الشطر الأول من هذه المقولة فعلى الشطر الثاني اعتراض. إن النصّ الواقعيّ ليس كتابة لبحثٍ علمي أو تقرير صحفي، إنه الأدب، والأدب فنّ، وكل فن يبتغي الجمال...! ويتفاوت الكتاب في درجات الفن، كما هو الأمر في بقية الفنون، بين الشعوذة والعبقرية، ولا جدال في أن للواقعية جماليتها التي تتلخص خصائصها فيما يلي:
أولاً- فضّل الواقعيون النثر على الشعر لأنه اللغة الطبيعية للناس أما الشعر فبالرومانسية أشبه ولها أنسب. فاختاروا جنسي الرواية والمسرحيّة، ونالت الرواية النصيب الأوفى من أدبهم لأنها تتيح مجالاً واسعاً ومرناً للوصف والإفاضة والتحليل، وتستوعب أزماناً طويلة وتغطي أمكنة كثيرة وتتضمّن شخصياتٍ غير محدودة. وأتت المسرحية في المقام الثاني ثم جاء الشعر في وقتٍ متأخر مع المدّ الاشتراكيّ. وهذا لا يعني أن النثر الواقعي مجرّد من عنصر الشعريّة بصرف النظر عن الوزن والقافية. لقد استفاد كتاب كثيرون من اللمسات الشعرية المستحبّة ولا سيما في تصوير العواطف والتصوير الخيالي الفنّي. كما فعل بلزاك الذي عرف كيف يستفيد من الرومانسية في إبائها فأكسب أسلوبه الحيوية والحرارة وبراعة الصورة وموسيقا العبارة، فأقبل الناس على كتاباته بشغف بخلاف زميله ستندال الذي جاءت كتاباته خلواً من الشاعريّة فأعرض عنها الناس لعدم إرضائها لديهم هذه الحاجة الفنيّة وإذا قلنا الرواية والمسرحية فإننا نعني كل مقوماتهما وتقنّياتهما الفنيّة. من حيث المداخل والمقدمات والأبواب والفصول والمشاهد وبراعة القصّ والحوار وجمال السردّ والحيوية والحركة والحبكة والتعقيد والمفاجأة والمماطلة بالحلّ والمعالجة غير المباشرة، والإبتعاد عن الثرثرة والحشو وما إلى ذلك مما يطلب توافره في القصّة والمسرح. أمّا الشعر فلا يسمّى شعراً إلاّ بمقوَّماته المعهودة في عالم الأدب والنقد.
ثانياً: اللغة المأنوسة الواضحة البعيدة عن التوعرّ والتكلف من جهة وعن الإسفاف والابتذال من جهة أخرى، المراعية لقواعد اللغة مع شيءٍ من المرونة والتسامح حين يتعلق الأمر بالطبقات الشعبية العادية البعيدة عن جواء العلم والثقافة... فآنذاك يجد الكاتب نفسه مضطراً لاستعمال مفرداتهم وتعبيراتهم الشائعة وأمثالهم وتسمياتهم الشعبية وطرائقهم في الحوار والمجاملة والمخاصمة.. وقد عُدَّ هذا من مقومات الواقع، وكان له تأثيره في إغناء اللغة الفصيحة وتطويرها.
ثالثاً: الإبداع والخلق، أي تركيب عالمٍ شبيهٍ بالواقع وليس نسخة أمينة عنه.. وقد سبق الكلام في هذه الخصيصة الفنيّة.
رابعاً: البعد عن التقرير والمباشرة والخطابة والوعظ.
خامساً: تجنّب الإكثار من التفصيلات والدقائق التافهة المربكة ولا سيما إذا كانت غير موظفة توظيفاً جيداً.
سادساً: التحليل والنفوذ وعدم التسطّح، والوصول إلى خفايا النفس والعلل والأسباب
سابعاً: براعة الوصف والتصوير على المستويين الداخلي والخارجيّ ونقل القارئ إلى عوالم جذابة ممتعة مثيرة للدهشة وحب الاطلاع.
ثامناً: براعة النمذجة؛ أي رسم النماذج الإنسانية المختلفة.
تاسعاً: مسّ الأوتار العاطفية في النفس الإنسانية مع إرضاء الحاجات الفكريّة والخيالية وعدم الاكتفاء بالإثارة الحسيّة...
عاشراً: تلاحم الشكل والمضمون، بأن يكون الشكل الفني تابعاً للمضمون وخادماً له. وبمقدارما تتوافر هذه الخصائص الفنية في النصّ الواقعي يرقى ويرتفع ويشهد لصاحبه بالعبقرية والبراعة. وبها تتفاوت أقدار الأدباء. وشتّان -مثلاً- مابين عباقرة مثل بلزاك وفلوبير ودوستويفسكي وبين كاتب بهلوانيّ مثل والترسكوت أو كاتبٍ مغامراتٍ ومبارزاتٍ مثل دوماس الأب...!

([1]) ترجمة المؤلف عن "الأدب المشروح" لديغرانج وشارّييه ص357

([2]) ترجمة المؤلف عن:
les grands ecrivains de france
Grouzet et leger p 1769

([3]) ترجمة المؤلف عن المصدر السابق ص1759

([4]) ترجمة المؤلف عن "الأدب المشروح" السابق الذكر ص379

([5]) المصدر السابق ص377 ترجمة المؤلف

([6]) ترجمة المؤلف عن المصدر السابق 394

([7]) ترجمة المؤلف: المصدر السابق 405

([8]) ترجمة المؤلف عن المصدر السابق 407

([9]) هي تحفة فنّية مصوغة ومجوهرة،، شديدة البهاء، تشبه شمساً ذات أشعة، توضع على المذبح حيث تقدّم القرابين. وكانت في الأصل حاملة للقنديل أو الشموع.

([10]) الفون Faune كائن خرافيّ عند الرومان يعدّونه إله الحقول

* ترجمة المؤلف عن: les Grands Ecrivains de France
Grouzet leger p 1752

([11]) الصحراء العقيمة رمز لجفاف قريحة الشاعر وعجزه عن الكتابة

([12]) الضمير يعود إلى اللازورد أي زرقة السماء قبيل الغروب.

([13]) الليل المذعور هو الشاعر الكئيب المذعور.

([14]) في الخريف يمتزج الضباب بالظلام وكأنهما مستنقع داكن

([15]) ربما قصد نفوذ الطيور من الضباب إلى صفاء السماء أو رمز بالطيور إلى السماء وهذه الطيور متخابثة لأنها تحدث ثقوباً في الظلام تكشف السماء خلافاً لرغبة الشاعر.

([16]) الشهيد هو الشاعر. وقد شبّه البشر السّعداء بالقطعان لتهالكهم على المادّة

([17]) الرنات الزرقاء فيها تقارض حواسٍ عُرِفَتْ به الرّمزية. والزرقة هنا لازورد السماء

([18]) ترجمة المؤلف عن الأدب المشروح لدى غرانج وشارييه ص409

([19]) ترجمة المؤلف عن المصدر السابق ص414

([20]) ترجمة المؤلف عن المؤلّف السابق ص416

*ترجمة المؤلف عن المصدر السابق ص417

([21]) المثاليّ هنا في مقابل الواقعي. فمعطفه لشدة بلاه لم يعد معطفاً حقيقياً بل فكرة معطف.

([22]) عقلة الإصبع بطل قزم في قصة كتبها للأطفال شارل بيرّو. وكان ينثر في طريقه حصىً بيضاً ليعرف طريق العودة

([23]) حين كان يصلح حذاءه يضمه إلى صدره كقيثارة يشد أوتارها. ولنتصوّر المفارقة المفجعة: حذاءٌ على قلبه!

([24]) الرمزية: تشارلز تشادويك ترجمة نسيم ابراهيم يوسف- الهيئة المصرية للكتاب ص117

([25]) الفون: Faune هو إله أسطوريّ يختصّ بالحقول والحياة الريفية.

([26]) الرمزية لتشاريز تشادويك ترجمة إبراهيم يوسف 131

([27]) المرجع السابق ص137
__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية

الكلمات الدلالية (Tags)
مدى, المذاهب, الليبية, العرب


يتصفح الموضوع حالياً : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


المواضيع المتشابهه للموضوع المذاهب الأدبية لدى الغرب
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
تحميل كتاب المذاهب الادبية و النقدية عند العرب و الغربيين Eng.Jordan كتب ومراجع إلكترونية 1 02-21-2016 01:16 AM
أردوغان يتهم الغرب بمحاربة العرب عبدالناصر محمود أخبار عربية وعالمية 0 06-12-2015 05:52 AM
تعرف على قصص العرب ونوادرهم وطرائفهم وحكمهم مع كتاب قصص العرب Eng.Jordan كتب ومراجع إلكترونية 0 02-23-2013 10:00 PM
الجمهورية الليبية Eng.Jordan الملتقى العام 1 04-05-2012 12:41 PM
دليـل العقول الحائرة في كشف المذاهب المعاصرة Eng.Jordan كتب ومراجع إلكترونية 1 02-07-2012 02:51 PM

   
|
 
 

  sitemap 

 


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 07:28 AM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.12 by vBS
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والمشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59