نشأة العقلانية!

العقلانية! , نشأة

نشأة العقلانية!*
ـــــــــ

6 / 10 / 1437 هــ
11 / 7 / 2016 م
ـــــــــــ





لقرون طويلة عاشت أوروبا تحت نير الخرافة والجهل والضلال، والتي تلبست بلباس الدين المسيحي، وحولته من دين رباني يوافق الفطرة والعقل إلى دين بدعي، يمتلئ بالأساطير والأكاذيب ومناقضات الفطرة والعقل والحس والتجربة. ورغم تأثر أوروبا بمحيطها الإسلامي الذي كان يمثل مركز إشعاع علمي وحضاري في ذلك الحين إلا أن احتكار الرجال الذين كانوا يتلقون تعليمهم في الكنيسة الحياة العقلية، خلال عهد ما قبل الحداثة، وقف دون نقل المعرفة والعلم لأوروبا. فالكنيسة كانت تمتلك منصات التعليم، ولكن بما لا يتيح مجالا للخروج على تعاليمها وآراءها التي أقحمت في الدين.
مع مرور الوقت واكتشاف بعض الحقائق الفلكية التي تأكدت بالتجربة والنظر والأدوات فَقَدَ الكثيرون ثقتهم بالكنيسة. وأدى ذلك إلى التشكيك في سلامة معلوماتها، وهزَّ فكرة الثبات المطلق التي كانت مسيطرة على العقلية الأوروبية. ما أعطى الأولوية في الفكر الأوروبي الجديد للتجربة والبحث العقلي في الوصول إلى الحقائق. وشيئا فشيئا، ثار العلماء ودعاة التجديد مطالبين بتقديس العقل واستقلاله بالمعرفة بعيداً عن الوحي. ولم يجرؤوا على إنكار الوحي بالكلية، بل جعلوا لكل من الطرفين دائرة خاصة يعمل فيها مستقلاً عن الآخر.[1]
وكان مذهب "ديكارت" أبرز المذاهب الفلسفية في ذلك العصر. وكان يدعو إلى تطبيق المنهج العقلي في الفكر والحياة، ويستثني من ذلك -لسبب ما- الدين والعقائد الكنسية والنصوص المقدسة؛ وكان يرى "أن ميدان العلم الطبيعة، وموضوعه استغلال القوى الطبيعية، وأدواته الرياضة والتجربة. ويختص الدين بمصائر النفس في العالم الآخر، ويعتمد على الاعتقاد والتسليم، فلا مضايقة بين العلم والدين ولا سلطان لأحدهما على الآخر".
وهذه الازدواجية الديكارتية وجدت لها نظيراً في منهج بيكون التجريبي، الذي قال عنه أندرسن: "إن أعظم مآثر بيكون الفصل بين العلم البشري والوحي الإلهي"، فعند بيكون يمكن أن تكون أي قضية خاطئة تماماً في نظر العقل، ولكنها صحيحة تماماً لأنها نظر الدين. والواقع أن المذهب الازدواجي ليس إلا مرحلة طبيعية في سلم التدرج من الإيمان المطلق بالوحي إلى الإنكار المطلق له".[2]
برغم هذا الموقف المتسامح من الدين تعرضت كتب رواد العقلانية "للحرق والمصادرة، كما تعرضوا شخصياً للإيذاء والمضايقة من قبل الكنيسة. إلا أن تفجر البركان العلمي في كل مكان والخلافات الداخلية بين الطوائف المسيحية شغلتها عن إعطائهم ما يستحقون من الاهتمام"[3].
ومع كثرة الاكتشافات والتوصل إلى قوانين رياضية مطردة تفسر ظواهر الكون والطبيعة انبهرت عقول الفئات المثقفة، وبدأت الثورة على الكنيسة التي عاملت مخالفيها بمزيد من العنف وإخراجهم من الإيمان بالله والدين ومحاكمتهم تحت هذه الدعوى وتعذيبهم أو قتلهم بموجبها!
غير أن المجتمع انتفض بكل مكوناته انتفاضة عارمة على الكنيسة ومبادئها، ليجدوا في العقل حكما ومرجعا يرشدهم الطريق إذ خانتهم الكنيسة وكتبها ورجالها. فأصبح كل ما مخالف العقل وعارضه وناقضه خرافة ووهما وأساطير غير مقبولة.
وهكذا خرجت أوروبا من إله الكنيسة إلى ميدان "الإله الجديد"، الذي يشع إبداعا وابتكارا ونورا!
هذا الواقع فتن كثيرا من الناس وجعل من العقلانية مذهبا قرينا بالإلحاد، معارضا لأي دين سماوي مهما كان صائبا وحقا. فأصبحت العقلانية الغربية قرينة اللا دين، وأصبح معظم علماء الغرب ومخترعوه لا دينيون. وعلى ضوء هذا التحول الفكري عامل علماء الغرب الإسلام وتراثه وتاريخه، وسعوا في مقارنته بالنصرانية بكل وجه، إلا قلة نادرة منهم أقرت للإسلام بالمغايرة والاختلاف.
------------------------------------
[1] العلمانية: 152- 153.
[2] العلمانية: 153. ومع ذلك فقد وجد فلاسفة آخرون معاصرون لهؤلاء لم ترق لهم هذه الفلسفة، بل أغرتهم تفاهة آراء الكنيسة وحقدهم عليها أن يهاجموا التعاليم الدينية هجوماً مباشراً.
[3] العلمانية: 155



-------------------------------
*{مركز التأصيل للدراسات والبحوث}
----------------------------

المصدر: ملتقى شذرات