#1  
قديم 05-23-2015, 08:03 AM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 56,039
ورقة الشيخ محمود شاكر وتاريخ ضخم


الشيخ محمود شاكر وتاريخ ضخم
ــــــــــــــــ

(د. محمود محمد الطناحي)
ـــــــــــــ


5 / 8 / 1436 هــ
23 / 5 / 2015 م
ــــــــــــ

1_201226_22873.jpg

الشيخ محمود شاكر
وتاريخ ضخم

إن أقصى ما يعرفه كثير من الناس الآن - وبخاصة الشباب - عن أبي فهر أنه صاحب الخصومة مع الدكتور طه حسين حول قضية الشعر الجاهلي وحول المتنبي، وصاحب الخصومة مع الدكتور لويس عوض حول أبي العلاء المعري والفتن الأخرى المنشورة في «أباطيل وأسمار»، ثم يعرفه المشتغلون بالدراسات الأدبية بقراءته الفذة وشرحه النفيس لـ«طبقات فحول الشعراء» لابن سلَّام، و«دلائل الإعجاز» و«أسرار البلاغة» لعبد القاهر الجرجاني، ثم تحقيقه المعجب لـ«تفسير الطبري» و«تهذيب الآثار»، ويجمل بعضهم معرفته به في هذه العبارة الفضفاضة التي لا تدل على شيء «شيخ المحققين».

والحقيقة أن الرجل وراء ذلك كله، وفوق ذلك كله، إنه تاريخ ضخم لرجل تنبه منذ طراءة الصبا وأوائل الشباب إلى هموم أمته وما يراد بها ويكاد لها، وقد فطن منذ عقل إلى أن الطريق الوحيد للتغيير هو العلم والمعرفة، فانصرف إليهما، ولم يُشغل بغيرهما، ثم أخذ نفسه بأسلوب صارم حازم، فقرأ القرآن صبيًّا، وأقبل على الشعر مبكرًا، يحفظه لا كما يحفظه الناس، مقطوعات للإنشاد والتسلي والمطارحة في المجالس، وإنما الشعر عنده باب العربية كلها، وقد قاده الشعر إلى كتب العربية كلها، فالمكتبة العربية كلها عند أبي فهر كتاب واحد، والعلوم العربية عنده علم واحد، فهو يقرأ «صحيح البخاري» كما يقرأ «الأغاني»، ويقرأ «كتاب سيبويه» قراءته لمواقف عضد الدين الِإيجي، فهو بتعبيرنا المصري «خد البيعة على بعضها»، وهكذا خالط أبو فهر العربية منذ أيامه الأولى، وعرف مناهج الكتب والكُتَّاب في مختلف فنون العربية، وخبر مصطلحات الأقدمين وأعرافهم اللغوية، وهذا فرْقُ ما بينه وبين سواه من الكتاب والنقاد.

فأنت قد تجد ناقدًا ذا ذوق وبصيرة، ولكن محصوله اللغوي على قدر الحاجة، وقد تصادفه جمع بين الذوق والبصيرة واللغة ولكن معارفه التاريخية لا تتجاوز الشائع العام الدائر على الألسنة، وقد تراه فاز من الثلاثة بأوفر الحظ والنصيب، ولكنك لن تجد عنده ما تجد عند أبي فهر من الأنس بالمكتبة العربية كلها في فنونها جميعًا، ودوران هذه الفنون في فكره وقلبه دوران الدم في العروق.

ولقد سارت حياة أبي فهر في طريقين استويا عنده استواء واضحًا عدلًا:
الطريق الأول: طريق العلم والمعرفة، يعب منهما ولا يروى.

والطريق الثاني: التنبه الشديد لما يحاك لأمتنا العربية من كيد ومكر، وما يراد لثقافتها وعلومها من غياب واضمحلال، وظل حياته كلها قائمًا على حراسة العربية والذود عنها، يحب من أجلها ويخاصم من أجلها.

وقد احتمل في حالتيه من العناء والمكابدة ما تنوء بحمله العصبة أولو القوة.

وقد حارب أبو فهر في جهات كثيرة، وخاض معارك كثيرة، حارب الدعوة إلى العامية، وحارب الدعوة إلى كتابة اللغة العربية بحروف اللاتينية، وحارب الدعوة إلى هلهلة اللغة العربية والعبث بها بحجة التطور اللغوي، وحارب الخرافات والبدع والشعوذة، وقد حارب في كل ذلك وحده غير متحيز إلى فئة، أو منتصر بجماعة، وهو صلب عنيد فاتك، ألقى الدنيا خلف ظهره ودبْر أذنيه، فلم يعبأ بإقبالها أو إدبارها، واستوى عنده سوادها وبياضها.

ولقد أقصي كثيرًا عن محافل الأدب ومجالي الشهرة فلم يزده ذلك إلا إصرارًا وثباتًا، ووقف وحده في ساحة الصدق شامخَ الرأس مرفوع الهامة يرقب الزيف ويرصده ويدل عليه، ولم يجد خصومُه في آخر الشوط إلا أن ينفروا الشباب عنه، ويُبَغِّضوه إليهم بما أشاعوه عن حدته وبأسه وتعاليه، ونكص من نكص مسيئًا في نكوصه، وثبت من ثبت محسنًا في ثباته.

ومع كل هذا الحصار الذي ضُرب حول الأستاذ الإمام فقد خلص إليه أهل العلم ومحبو المعرفة، ينهلون من هذا المنهل العذب، فكان بيته جامعة عربية ضخمة: طوائف من الناس من مختلف البلدان والأعمار والانتماءات، وسعهم هذا البيت المفتوح دائمًا، ولم يفتح لهم يومًا دون يوم أو ساعة دون ساعة.

ولأبي فهر في البيان طريق معجب، وأسلوبه في الكتابة أسلوب عالٍ، تحدر من سلالة كريمة، ومداره على التذوق الذي واتاه بعد دُرْبة طويلة متوارثة، انطلقت من الشعر الجاهلي الذي هو أنبل كلام العرب وأشرفه، ثم استقرت عند القرآن العظيم الذي هو البيان الإلهي الملفوظ، وقد أفضى به ذلك إلى الإحساس العميق باللفظ العربي في ترجيعه ونغمته: في الدلالة والألفاظ والتراكيب والصور.

وأسلوب أبي فهر بعد ذلك أسلوب كاتب يحترم قارئه ويحبه ويؤنسه ويمتعه، ولا يتعالى عليه بالإغماض، ولا يعنته بالرمز والإشارة إلى ما لا تطوله يداه، ولا يستخف به بالثرثرة وفضول الكلام، ولو كان هذا الرجل قد خرج من الملالة والثورة المتفجرة في نفسه التي لا تهدأ، لأتى بكل عجيبة وغريبة، ولكن الله يثبط أقوامًا ليرزق آخرين، على أن هذه الملالة التي حجزته عن كثرة التأليف والكتابة جاءت بخير كثير، فقد أخلَتْ وجهه لطلاب المعرفة من الشرق والغرب.

وبعدُ، فيا أبا فهر:
لقد كنت في قوم عليك أشحة *** بنفسك إلا أن ما طاح طائح

يودون لو خاطوا عليك جلودهم *** ولا تدفع الموت النفوس الشحائح


رحمك الله رحمة واسعة سابغة، وجعل كل ما قدمته لأمتك ولعروبتك في موازينك يوم تجد كل نفس ما عملت من خيرٍ مُحْضَرًا...

-------------------------------
المصدر:
• الناشر: «الوطن»، العدد رقم 7724 الصادر في الرابع عشر من شهر ربيع الآخر 1418هـ= أغسطس 1997م.
وهي في «مقالات العلامة الدكتور محمود محمد الطناحي...صفحات في التراث والتراجم واللغة والأدب». (2/517-519).
• الناشر: دار البشائر الإسلامية.
الطبعة الأولى. 1422هـ=2002م.


-----------------------------------------------
المصدر: ملتقى شذرات

رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية

الكلمات الدلالية (Tags)
محمود, الصحي, شاكر, وتاريخ


يتصفح الموضوع حالياً : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
أدوات الموضوع

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


المواضيع المتشابهه للموضوع الشيخ محمود شاكر وتاريخ ضخم
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
محمود شاكر شيخي الذي لم يعلّمني عبدالناصر محمود أخبار ومختارات أدبية 0 08-11-2014 07:21 AM
معارك محمود محمد شاكر الأدبية عبدالناصر محمود أخبار ومختارات أدبية 0 03-26-2013 02:29 PM
أبو فهر.. محمود محمد شاكر Eng.Jordan أخبار ومختارات أدبية 0 04-19-2012 10:55 AM
سهرة خاصة عن العلامة أبي فهر محمود شاكر Eng.Jordan أخبار ومختارات أدبية 0 04-19-2012 10:48 AM
محمود شاكر .. رسالة في الطريق إلى ثقافتنا احمد ادريس كتب ومراجع إلكترونية 2 01-13-2012 05:59 PM

   
|
 
 

  sitemap 

 


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 02:47 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.12 by vBS
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والمشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59