#1  
قديم 06-21-2013, 03:58 PM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,392
افتراضي الثنائية وَالميزان الصّرفي في اللغات العَربيّة في الجزيرة العَربية


للدكتورة باكزَه رفيق حِلمي

تتفق آراء اللغويين الذين درسوا قواعد لغات الجزيرة العربية، في أن الكلمة مطلقاً لا يمكن أن تتألف من أقل من صوتين صحيحين في هذه اللغات، وأن معظم الكلمات فيها تتألف في الأصل من ثلاثة أصوات صحيحة([2]) وأن الثنائية تنحصر في عدد قليل جداً من الأسماء([3]) لا تزيد على سبع وثلاثين كلمة، على رأي فريق، هي في ذاتها أصولها([4]). وأنها تنحدر في أصولها من الثلاثية على رأي أغلبهم. ولذلك فقد عُدَّت الصيغة الثلاثية للكلمة الصيغةَ القياسية للاشتقاق في جميع هذه اللغات منذ أقدم عصورها التاريخية، ابتداء من البابلية القديمة حتى اللغات الحية الآن.
كما أن هذه الصيغة اعتُبِرت من حيث الشكل الجذَر الدالَّ عل المعنى المطلق للكلمة، وجاءت كلُّ زيادة أو تغيير في هذا الجذر عند الاشتقاق والتصريف لأداء دلالات جديدة تضاف إلى المعنى المطلق. وبضبط هذا الميزان والقياس عليه تَمَكَّن اللغويون العرب من جمع وتصنيف جميع المفردات في اللغة العربية، وتقصّي أصولها، وإبراز الزيادات والتغيرات التي تطرأ عليها، والمعاني التي دلّت عليها الزيادات والتغيرات([5]). وبالقياس على العربية تَمَكَّن علماء اللغة في اللغات العربية الأخرى، كالعبرية والآرامية، من دراسة لغاتهم، كما استعان المستشرقون بهذه القياسات العربية الوضع لدراسة اللغات المندثرة، كالبابلية القديمة والأكدية والأوغاريتية، واكتشاف الصلات اللغوية بينها وبين العربية. وللميزان الصرفي، بالإضافة إلى ما تَقَدَّم من فوائد، فائدة كبرى جليلة تفتقر إليها معظم لغاتِ العالم، هي القدرة على قياس الجديد من المفردات عليها، واشتقاق المزيد من الصيغ منها، للدلالة على المعاني الجديدة التي تتطلبها حاجات الحياة الحضارية الدائمة التطور والنموّ، والتي لم تكن لها دلالات في أصول اللغة. وعلى ذلك فضَبْطُ ميزان الكلمة والقياس عليه، يُعَدّ من أهم العوامل التي ساعدت اللغة العربية على الدوام، والبقاء بأصولها وجذورها الأولى، والنمو الدائم والمتطور بالقياس على تلك الأصول والجذور، دون أن يمتس أصالتها وسلامتها عامل من عوامل الضعف والضمور التي تعتري اللغات عادة عبر التاريخ، وتقضي على سماتها الأصيلة.
ولعل أقدم اللغات العربية التي عَرَفت الميزان الصرفي واستخدمته في الاشتقاق والتصريف، هي المجموعة الشرقية منها، والتي عُرِفت بالأكدية أو البابلية الاشورية. وعلى الرغم من وجود الكثير من المفردات الثنائية في لغات([6]) هذه المجموعة، فإن الغالب على مفرداتها هو الوزن الثلاثي([7])؛ ولذلك فقد عَدَّ علماء اللغة الذين درسوا قواعد هذه اللغات الصيغةَ الثلاثية وحدةَ قياسها لتركيب المفردات فيها، واتخذوا من التصنيف العبري المأخوذ أساساً من التصنيف العربي المبني على اعتبار الصيغة الثلاثية وحدة للقياس أساساً لتصنيف المفردات فيها، الأمر الذي أدى بالتالي إلى اكتشاف العلاقات الوثيقة بين العربية وبين هذه اللغات، من حيث تركيب المفردات وأوزانها ودلالاتها، والذي أدّى بدوره إلى جمعها في أسرة لغوية سُمّيت باللغات السامية تعصُّباً لرأي عِرْقي معيّن. وقد اقتَرَحْتُ تصويب هذا المصطلح، وتسميةَ هذه المجموعة التي تكاد تكون العربية فيها أبرزها وأوسعها وأقدمها تاريخاً باسم "لغات الجزيرة العربية" تأكيداً لدور العربية البارز في نشأتها وأصولها.
ومن المؤسف أن الأكديين أنفسهم لم يتركوا لنا، أو لم نكتشف بعد، دليلاً على قيامهم بدراسة صرفية لمفردات لغاتهم، لضبطها وقياسها، ووضع قواعد الصرف والاشتقاق وفق الموازين التي سارت عليها اللغة في النشوء والتطور. ولكن دراسة الظواهر اللغوية التي لفتت أنظار علماء اللغة والمستشرقين إلى الصلات اللغوية بين نصوص الألواح الطينية التي كُتبت بالخط المسماري منذ نحو أربعة آلاف سنة ق. م ولغات الجزيرة العربية الحيّة، ولا سيما العربية، دَلَّت على وجود تشابه كبير، ليس فقط في المفردات بل في الصيغ الصرفية وأساليب الاشتقاق نفسها؛ حيث تبيَّن أن هذه المجموعة من اللغات العربية تخضع للميزان الصرفي الثلاثي، في الغالب، كالعربية تماماً، وأن الكلمة الأكدية تعتمد على الأصوات الصحيحة في بناء الكلمة، وأن أبنية الكلمة تكون ثنائية وثلاثية ورباعية وخماسية، ولكن الغالب على مفرداتها البناء الثلاثي؛ ولذلك اتخذ علماء اللغة هذه الصيغة وحدة للقياس عند دراستهم قواعد هذه اللغات([8]). وعلى الرغم من أن الثنائية تُعتَبَر الأصل في بناء المفردات الأولى في اللغة، وأن لغات الجزيرة العربية لا تختلف من حيث الأسس التي نشأت عليها، ومن حيث القواعد الصوتية التي بموجبها يتم تشكيل أبنية الكلمة من غيرها من اللغات. وعلى الرغم من وجود طائفة كبيرة جداً من المفردات الفعلية والاسمية الثنائية ذات الصوتين الصحيحين، نحو: (قال) و(مال) و(سعى) و(دعا)([9]) الفعلية، ونحو: (دم) و(عم) و(فم) و(هم) الاسمية؛ ثم وجود طائفة أكبر من بنات الصحيحين المضعَّفة الثاني([10]) نحو: (أب) و(أد) و(مج) و(حج) و(مد) و(هد) و(نم) و(صف) و(كف)([11]) إلخ؛ وهي كلها ثنائية جرى عليها بعض التغيُّر الصوتي عند الإسناد أو الإضافة لأسباب صوتية محضة؛ على الرغم من كل ذلك فإن الجدل حول الأصول الثنائية للكلمة العربية ما زال قائماً، وما زال اللغويون يصرّون على إرجاعها إلى الأصل الثلاثي بكثير من التعسّف والخروج عن منطق اللغة.
واللغة الأكدية([12])، التي تُعْتَبَر أقدم وأول لغة مدوَّنة من هذه اللغات، وأقربها إلى العربية، تَحفل، بل يغلب عليها البناء الثنائي المقطعي للكلمة؛ ويُعَدّ هذا البناء الصورة الأولى لتشكيل الوحدات الدالة على المعاني، والتي تكوّن الجذر أو النواة التي تدلّ على المعنى المطلق في الأصل، ثم تتطور من حيث الشكل بالتغيّر الحركي الداخلي، أو بالإضافة إليها لتدلّ على معانٍ جديدة تشترك مع الوحدة الأولى في المعنى الكلي، وتتميز عنها بمعنى جزئي خاص([13])؛ الأمر الذي يدلّ على أن لغات الجزيرة العربية العربية لا تختلف في شيء، من حيث القواعد العامة التي سارت عليها في تشكيل مفرداتها، عن اللغات الأخرى، إلا في التفاصيل الجزئية التي تحدّد صفاتها المستقلّة. وكثرة وجود الأبنية الثنائية للمفردات ذات العلاقة المباشرة بالحياة الاجتماعية البدائية، والوثيقة الصلة بشؤون الحياة اليومية، دليل أكيد على أن المفردات الأولى للُّغة كانت ببساطة شؤون الحياة ذاتها؛ وتتعلق بالإنسان وأعضاء جسمه: (يد) (فم) (رأس) (سن) (كف) (دم)؛ وذوي قرباه: (أب) (أم) (خال) (عم) (بن- ابن) (بت- بنت) إلخ ... والأحداث التي ترافق هذه الحياة البدائية: قال. قام. نام. كان. راح. جاء. شد. عد. هد. (كل- أكل) (خذ- أخذ)؛ والصيغة الثانية تطور لاحق(12)([14]). ولو استعرضنا الأبنية الثلاثية وما يزيد عليها، لوجدنا أنها تحمل معاني حضارية تدلّ على الاستقرار واتساع الحياة، واطّرادُها والقياسُ عليها وخضوعُها للنظام تمثّل مرحلة الانتقال من مرحلة التواضع الآني والعفوي على المعنى والشكل للحاجة إلى مرحلة التفكير والقصد في الصياغة للانتقاء والتأنق. وقد أحسن العلماء باختيارهم هذا البناء وحدة للقياس؛ فهو كما رأوا الغالب على مفردات اللغة العربية المستحضرة التي درسوها، ويسلم من التغيير والشذوذ، ويسهل القياس عليه لأغراض حضارية يتطلبها التطور المستمر للحياة وحاجاتها. إلا أن ذلك لا يمنعنا من الاعتراف بوجود البناء الثنائي مستقلاً عن الثلاثي، وليس منه(14[15])؛ نشأ في المرحلة البدائية لنشوء اللغة، ثم تطور منه ما تطور بالتغير الداخلي أو الإضافة إلى البناء الثلاثي أو الرباعي، وليس العكس كما قال علماء اللغة القدامى بأن الاسم المتمكن والأفعال المتصرفة يجب ألا تَقِلّ عن ثلاثة أحرف: حرف يُبتدأ به، وحرف يُحشى به، وحرف يوقف عليه(15[16])؛ وكما يظهر من قول ابن مالك(16[17]) من غير الثلاثي يغيَّر ليوافق الثلاثي في الصيغة ويقبل التصريف.
وليس من أدنى من ثلاثي يُرى قابِلَ تصريف سوى ما غُيِّرا

وهذا تعسّف لا مبرر له في إخضاع ما لا يَقْبل القياس للقياس. وقد أدى بهم هذا التعسف إلى اعتبار كل ثنائي ثلاثياً في الأصل، يَسقط ثالثه لعلة. والعلة لا علاقة لها بأصل البناء، بل بالوظيفة النحوية للكلمة داخل العبارة.
يقول الخليل(15[18]): "وقد تجيء أسماء لفظُها على حرفين، وتمامها ومعناها على ثلاثة أحرف، مثل: يد ودم وفم؛ وإنما ذهب الثالث لعلة أنها جاءت سواكن وخلفها السكون، مثل (بأيد) و(يأدم) في آخر الكلمة .. فلما جاء التنوين ساكناً اجتمع ساكنان، فثبت التنوين لأنه إعراب، وذهب الحرف الساكن. فإذا أردت معرفتها فاطلبها في الجمع والتصغير كقولهم: أيديهم في الجمع و(يُدَيَّة) في التصغير.
وكل هذه التعليلات لا علاقة لها مطلقاً بأصل البناء، بل إنها تغيّرات صوتية محضة تطرأ على كل كلمة عند الإضافة والإسناد وتغيير البناء بقصد تغيير الدلالة أو الوضعية النحوية، لا مجال لشرحها هنا فإن ذلك يتطلب بحثاً مستقلاً، آمل أن أقوم به في المستقبل. وآمل أن يقف هنا القارئ والباحث ويدقق ويعيد النظر في تقييم هذه التعليلات، ليجد التعسير واضحاً في تفسير ظواهر اللغة، لا التيسير.
ولا بد هنا من الدعوة إلى ضرورة إعادة النظر في قواعد اللغة العربية وفق نظريات علم اللغة الحديث، لإزالة هذا العسر الذي يجابهنا ونحن نحاول تيسير اللغة. ولست من القائلين بنبذ آراء القدماء كلية، فأنا من المؤمنين بأن الخليل هو أول علماء الأصوات، وواضع أسس هذه الدراسة؛ ولكن ذلك لا يمنع من القول بأن الخليل لم يُصِبْ في كل ما قال، وإن منطق التطور العلمي في تفسير اللغة يتطلب إعادة النظر في كل ما قيل في اللغة، كما تَطَلَّب ذلك في المعرفة الإنسانية بكافّة فروعها. ولا بد من الأخذ بالمنطق العلمي الحديث في تفسير الظواهر اللغوية، معتمدين على التجربة والاختبار والمقارنة للتأكد من صحة تلك التعليلات أو بطلانها، وإلا اقتصرت معرفتنا باللغة على التلقين والحفظ، وكان علمنا بها ينتهي بانتهاء الدراسة المدرسية التقليدية؛ وهذا أسوء وأخطر أساليب التعلّم والحصول على المعرفة.
يكفي أن أشير إلى التغيّرات الصوتية التي تصيب الأبنية الثنائية، اسميةً أو فعليةً، وخروجها بذلك عن القياس الذي أقحمها فيه علماء اللغة إقحاماً لضبطها، لأدلّ على بدائية هذه المفردات، وتعذّر حصرها في القياس، وهذا أمر بديهي، ليس فقط في اللغة العربية، بل في جميع اللغات العربية؛ فإنها من مدخرات النشأة الأولى للغة، أي أنها من عهد ما قبل التنبُّه إلى الأخذ بالقياس. ولنقرّر بأن هذه المفردات يجب أن تعالَج معالجة خاصة وفق منطق الواقع، واعتبارها من التراث اللغوي الدالّ على قِدَم تاريخها، ومدى التطورّ الذي أصابها، والنمو العظيم الذي بلغته. أما الحكم بأنها كلّها كانت قد جاءت وفق صيغة قياسية ثابتة، وأنها أصيبت بعلّة ذهبت بعجزها، فأَمْرٌ أقرب إلى الصناعة منه إلى السليقة والطبيعة. واللغةُ ظاهرة تُرافِق المجتمع في نشوئه ونموّه وتطوره؛ لم تُصْنَع مسبقاً وفق مقاييس موضوعة أصابها الاختلال بحكم التطور، بل العكس هو الصحيح.
ثم إن القصد من الميزان الصرفي والقياس عليه هو بالتأكيد إخضاع جميع مفردات اللغة له، بل إنه وسيلة من وسائل الكشف عن خفايا اللغة وأسرارها، لتمييز أصناف المفردات، وليس لتصنيع الأصول.
وهنا لا بد من الإشارة إلى اختلاف العلماء القدامى عن المحدثين في تقييم الأصوات المعروفة بأصول الحركة الآن(17[19])، والتي تقابل مجموعة الأصوات المعروفة عند القدماء بحروف المدّ والعلة والحركات جميعاً(18[20])، أي ما يسمى في اللغات الأوروبية بـ Vowels.
وإذا كانت الأصوات الصحيحة تقوم بإِعداد الهيكل أو البناء الأساسي للكلمة، وتؤدي المعاني المطلقة لها، فإن أصوات الحركة تقوم بإِعداد الأوجه المتعددة لجزئيات ذلك المعنى ومشتقاته. وعلى ذلك فإن صياغة الأبنية المختلفة للمعاني المتفرعة من المعنى المطلق تعتمد في معظم الأحوال على أصوات الحركة هذه(18[21]). ولذلك فقد عنيت الدراسات الحديثة عناية فائقة بتحديد هذه الأصوات وتصنيفها، وبحث آثارها في التشكيل اللغوي. ولم يهمل اللغويون العرب هذا الجانب، بل أشبعوه بحثاً؛ ولكنّ دراساتهم لهذه الأصوات جاءت ضعيفة مرتبكة، ولم تصل إلى درجة إقناع الباحث الحديث بالاكتفاء بها(19[22]). ولذلك أسباب، قد يكون أهمها، اقتصار العلماء في هذه الأبحاث على الدراسة النظرية، وانعدام وسائل الاختبار الآلية الحديثة التي حَقَّقَت نتائج مذهلة في علم الأصوات اللغوية؛ وهو العلم الذي كَشَف لنا عن أن دراسة اللغة لا يمكن أن تتمّ بصورة صحيحة ودقيقة إلا من خلال دراسة الأصوات اللغوية علميّاً، وبالوسائل المختبرية التي استُنْبِطت لمثل هذه الدراسات؛ فأساس اللغة هو التشكيلات الصوتية. وقد كان الخليل بن أحمد من أوائل علماء العالم في القرن الثاني الهجري(20[23])، بل أول من تنبّه إلى دَور الصوت في نشوء اللغة، ودَرَسَ الأصوات ومخارجها، كما هو معروف، في كتابه العين(17[24]). ولكنها كما قلنا دراسة نظرية اعتمد فيها الخليل على اجتهاده وتعليلاته، وما بين يديه من معرفة سابقة بهذا الشأن، وإذا كنّا نحكم بأن علم الخليل، أو ما في العين والكتب الأخرى التي دونت بعده، كان كاملاً أو متكاملاً، فإننا نحكم على المعرفة البشرية بالجمود والتوقف. والعلمُ باللغة وأسرارها عِلْمٌ نامٍ، واللغة ترافق الإنسان، والإنسان في تغيّر دائم، ووسائل الكشف عن الحقائق تزيد وتدقّ؛ وما كنا نعتقد فيه نهاية المعرفة وغايتها بالأمس، أصبح اليوم من المعرفة السطحية. والخليل لم يكن إلا واحداً من الباحثين العباقرة، ولكنه انتهى إلى جزء من المعرفة ووقف، ولا بد من الاستمرار والتقدم والكشف الجديد، وإلا لأصبحنا نسخاً مكررة بلا حياة لمن مضى.
إن فالبدء من حيث انتهى الخليل وغيره من العلماء، وإعادة النظر فيما قدموه، وتصويب البعض وفق الرؤية الحديثة لعلم اللغة ودراستها، أمر لا بد منه. وأول ما يلفت نظر الباحث الحديث هو الارتباك الذي حصل في تفسير الظواهر لدى العلماء العرب، بسبب ما وقعوا فيه من الوهم في دراساتهم للأصوات اللغوية، ولا سيما أصوات الحركة(21[25]). والأصل في هذه الأصوات أنها حركات تساعد على انطلاق الأصوات الحبيسة من مخارجها، فالصوت الساكن في الحقيقة هو الصوت الحبيس ذو المخرج؛ وحروف المد في مثل الكلمات: عالم وكاتب وعليم وحكيم وخجول وصبور، حركات طويلة تطلق الحبيسات التي قبلها. وإذا وردت أصوات مشابهة لها في بدء الكلمة، نحو: (ولد) و(يد) و(أمل) فإنها أصوات حبيسة، حركتها الفتحة وأطلقتها. ولعل السبب في الارتباك هو الرموز الكتابية نفسها. ولا بد لنا هنا من وقفة قصيرة عندها لنكشف عن بعض هذا الغموض.
دلّت الدراسات الحديثة للّغات العربية وتاريخها، على أن الألفباء العربية مشتقة أصلاً من أبجدية عربية قديمة، هي الأبجدية الكنعانية: أبجد. هَوَّز. حطيّ. كلمن. سعفص. قرشت(21[26])، ولسنا هنا بصدد الإشارة إلى الأصوات الصحيحة، فقد خلت من تعقيدات التقييم والرسم. بل إن ما يعنينا الآن هو الأصوات الحركية فيها الممثلة بـ(أ) أبجد، و(ياء) حطي و(و) هوّز فقط. والباحث المدقّق يجد أن الأصوات اللغوية هنا تذكر داخل تشكيلات قد تساعد على تعيين كل صوت عند النطق: فألف أبجد وواو هوز هنا يرمزان إلى أصوات صحيحة تشترك في بناء الكلمة. فالاهتمام عند نشوء الكتابة الأبجدية كان منصبّاً على الأصوات التي تشكّل البناء، أي الأصوات الصحيحة، أما أصوات الحركة فلم تكن موضع دراسة أو اهتمام أول الأمر مطلقاً. وإذن فالقيمة الصوتية لهذه الرموز هي كقيمة الأصوات الصحيحة الأخرى، ولا تختلف. ولكن عندما بدئ بالتدوين الواسع وقُصِد الضبط الصحيح لشكل الكلمة لحفظ سلامة النطق عند القراءة، شعر الكُتّاب بضرورة إيجاد رموز تحقق هذا القصد؛ وكان أن استُخِدمت أول الأمر هذه الرموز للدلالة على الحركات الطويلة، والنهايات الإعرابية التي قد يؤدي إهمالها إلى الخطأ. وقد سبق أن فعلت البابلية القديمة والأكدية والعربية الجنوبية والأوغاريتية ذلك؛ فالنماذج اللغوية في هذه اللغات تؤكد استعمالها في مواضع الحركات الطويلة والنهايات الإعرابية(22[27])؛ فكل المفردات البابلية والأكدية تنتهي بأصوات حركية لتدل على وظائفها النحوية في العبارة، وهي تشابه الحركات الإعرابية في اللغة العربية تماماً، فالواو للرفع، والألف للفتح، والياء للكسر. والملاحظ أن الإعراب في اللغات الأكدية يَظهر حتى في الضمائر المنفصلة، إذ تتغير نهاياتها الحركية حسب مواقعها في الجملة، فتكون مرفوعة بالواو، ومفتوحة بالألف ومجرورة بالياء(23[28]). ولكنَّ هناك فرقاً واضحاً بين رموز الكتابة المسمارية والأبجدية الكنعانية؛ فالخط المسماري الأكدي مشتقّ من الخط المسماري السومري، الذي يدل الرمز فيه على المقطع المؤلف من صوت صحيح مع الحركة التي ترافقه. فاللغة السومرية اعتمدت الأساس المقطعي في تمثيل الصوت، وهو مقارب للنظرة الحديثة إلى الأصوات اللغوية، إلى حد ما، التي تدعو إلى الكتابة الصوتية. ومعنى ذلك تمثيل كل صوت، سواء أكان صحيحاً أم حركة، برمز، وكما هو حاصل في اللغات الأوروبية بصورة عامة. أما الأبجدية الكنعانية فقد اقتصرت، كما قلنا، على رموز الأصوات الصحيحة؛ وهذا هو سبب الارتباك الذي وقع فيه العلماء العرب عند بدء التدوين، ومحاولة الانتقال بالأبجدية الكنعانية إلى مرحلة من التطور يستطاع فيها كتابة اللغة العربية كتابة صحيحة، تتمثل فيها كل الأصوات الحركية الضرورية لسلامة النطق وحفظ الصيغ من الخطأ. ولكن الأبجدية كانت قد استقرّت بعد محاولات متعددة لتطوير بعض رموز الأصوات الصحيحة، للتعويض عن رموز الأصوات التي كانت تفتقر إليها الأبجدية الكنعانية؛ واستُخِدم التنقيط لهذا الغرض(24[29])، وارتفع بذلك عدد الأصوات الصحيحة إلى ثمانية وعشرين رمزاً بدلاً من اثنين وعشرين، واستُخِدمت الرموز (أ) و(و) و(ى) الصحيحة لرسم الأصوات الحركية الطويلة في نهاية المفردات الفعلية والاسمية، في الحالات التي استقرت عليها فيما بعد قواعد استخدامها للوظائف النحوية، كما كانت تستخدم سابقاً في اللهجات الكنعانية القديمة(25[30]) وفي الصيغ التي تكون حركة فائها صوتاً طويلاً، نحو: (قال) و(مال) و(جيد) و(زير). وقد مرت الكتابة العربية قبل الاستقرار على هذا الوضع بعدد من المراحل، لو رجعنا إلى القرآن الكريم لاكتشفناها: "وقٰتلوا في سبيل الله"(26[31]). "ولٰكنّ أكثر الناس لا يشكرون"(27[32]) "فيضٰعفه له أضعافاً"(28[33]) "وقال لهم نبيهم أن ءاية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك ءال موسى وءال هارون تحمله الملٰئكة"(29[34]) "بل الله مولٰكم وهو خير الناصرين"(30[35]) و"إذ تصعدون ولا تلون على أحد والرسول يدعوكم في أخراىٰكم فأثٰبكم غماً بغم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم"(31[36]) "وءاتوا اليتٰمى أموالهم"(32[37]) و"إن خفتم ألا تقسطوا في اليتٰمى فانحكوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلٰث وربٰع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعدلوا"(33[38]). ولو راجعنا القرآن الكريم كله لوجدنا الرسم القرآني يشير إلى تاريخ الكتابة العربية، وهو فترة محاولة تطوير الأبجدية الكنعانية وفق أصوات اللغة العربية في مرحلتها الثالثة، أي مرحلة استقرارها لغة مستقلة انفردت بخصائص حضارية تقدمت بها على أخواتها وخلفتها وراءها، ثم وصلت إلى ما وصلت إليه من الاتساع والازدهار بفضل العناية بلغة القرآن، ورغبة في صيانتها وحفظها في أوضح صورة وأكمل وجه.
ولما وجد العلماء العرب أن الرموز الثلاثة المذكورة، والتي استُخدِمَت لعملين مزدوجين هما: قيامها بدور أحرف البناء عند وجودها في صدر الكلمة، ودور أصوات الحركة الطويلة التي تقوم بإضفاء المعاني الجديدة على البناء، لا تكفي للدلالة على كل ما لأصوات الحركة من صفات وخواص، فقد تكون هذه الأصوات طويلة أو قصيرة أو منفتحة أو مغلقة، كما تُستَخْدَم لوظائف نحوية (الإعراب) بالإضافة إلى وظائفها الصرفية، عمدوا إلى إيجاد رموز تضاف إلى رسم رموز الأصوات الصحيحة حسب أحوالها الصرفية والنحوية. ولا تغيّر في شكل الرموز أنفسها، لأنها عارضة تتغيّر بتغيُّر الوظيفة الصرفية أو النحوية؛ ووجدوا أن هناك تشابهاً بين الأصوات الصحيحة التي ذكرناها سابقاً وهي: (أ) (أبجد) و(واو) (هوز) و(ياء) (حطي) في الصفات، وهذه الأصوات الحركيّة التي تلاحظ بعد نطق كل صوت صحيح في بناء الكلمة، ووجد أن الصوت الحركي الذي يرافق أصوات الكلمة (كَتَبَ)، مثلاً، وهي الحركة القصيرة على الكاف والتاء والباء، يشبه صوت المد الذي مُثّل له بألف أبجد، فسُمّي بفتحة، واتُّخِذ من رسم مصغر للألف رمز له. وهكذا اتُّخذ من رسم مصغر للواو رمز للضمة ومن رسم مصغر للياء رسم للكسرة. وتم بذلك تمثيل أصوات الحركة الطويلة بالأصل الصحيح، وبرسم مصغّر لهذا الأصل للحركة القصيرة. وبقيت بعض الأصوات الحركية التي لا تَرِدُ إلا قليلاً في الفصحى وتكثر في اللهجات الكلامية دون رموز، كصوت الإمالة والإشمام(34[39]) وبعض الأصوات المركّبة(34[40]).
يبدو واضحاً مما تقدم أن هناك نقصاً في تمثيل أصوات الحركة في الرسم العربي، وأن هذا النقص كان أكبر وأوسع في بدء الدراسات اللغوية العربية؛ فقد تطورت الكتابة العربية، كما يلاحَظ من الرسم القرآني، حتى وصلت إلى الرسم الحديث تطوُّراً ملحوظاً؛ وهنا لا بد من ذكر أمر مهمّ جداً، وهو أن الدراسة اللغوية العربية بدأت بدراسة اللغة المدوّنة، واقتصرت على العربية فقط، دون ملاحظة اللغات العربية الأخرى التي اشتركت في الأصول مع اللغة العربية، واستقلّت عنها، وخضعت لعوامل غير العوامل التي خضعت لها العربية القرآنية، فتغير وتطور فيها ما تغير وتطور، ثم عادت فاشتبكت مع العربية من جديد من حيث الرسم الكتابي والأصول اللغوية بأشكالها المستقلة المتطورة. وإن عملية الانفصال والالتئام هذه غيرت وطورت الكثير من هذه اللغات، وإن الدراسة المقارنة لا بد منها لتقرير حقائق تطور اللغة. كما أن اللغات الكلامية لم تَحْظَ بالدرس إلا بقدر ما أخذ من اللهجات التي عدها علماء اللغة من الفصيحة، بالإضافة إلى نقص في وسائل البحث اللغوي والتجريبي. كل ذلك أدى إلى وقوع العلماء في كثير من اللبس والغموض في تعليلاتهم الصرفية والنحوية(35[41])، فقد كانت التعليلات مستنبطة من الصورة المرسومة لا الأصل المنطوق.
إن هذا النقص في وسائل البحث اللغوي، من نقص في الرسم الكتابي إلى نقص في التجربة والاختبار، أدى كما نرى إلى ارتباك في التحليل؛ فقد ميّز علماء اللغة الأبنية اللغوية وحددوا أسس قيامها، وهي أنها لا تُبْنَى إلا من الأصوات الصحيحة. وهذه حقيقة أكدتها الدراسات الحديثة. ثم عادوا، لمّا وجدوا أبنية لا يشترك فيها إلا صوتان صحيحان، فرفضوا ما قالوا أو رجعوا عنه، فعدّوا الصوت الحركي منقلباً عن أصل صحيح مماثل، وحاولوا تطبيق قواعد تصريف الثلاثي عليه، فوجدوه شاذاً ولا يقبل هذا القياس إلا بعد تعنّت وعناء؛ فحاروا في تعليل ذلك ووقعوا في كثير من التوهم(36[42]).
وسنحاول الكشف عن بعض أسرار الصيغ الثنائية والثلاثية بدراسة مقارنة في اللغات الأكدية والعبرية والعربية، لعلّنا نستطيع إلقاء بعض الضوء على ما غمض منها في الصفحات القادمة.
ولما كانت العربية تمثل أقدم وأوسع لغات الجزيرة العربية العربية، وتظهر فيها كل الصيغ الصرفية التي تحتملها أبنية الكلمة في هذه اللغات مع كافة الاشتقاقات الممكنة، فإننا سنتخذ من صيغ الثنائية والثلاثية، وهما أقدم بنائين للكلمة فيها، أساساً للمقارنة بينهما وبين أبنية الكلمة في اللغات الأخرى من هذه الأسرة.
وإذا استثنينا الثنائية التي ما زالت موضع جدل بين العلماء(37[43])، والتي سنحاول إثبات أصالتها وقدمها، فإن الثلاثية هي الصيغة المشتركة بلا جدل(38)([44]) بين هذه اللغات، والمجردة من الزيادة، على رأي من يقول بأنها أصل الثنائيات(39[45])، أو أصل الصيغ جميعاً على رأي آخر(40[46]). أما الصيغ الرباعية والخماسية فإنها، وفق منطق اللغة، متأخرة جاءت الزيادات فيها نتيجة تطور الثنائيات أو الثلاثيات في أغلب الأحوال(41[47])، ولذلك فإننا لا نستطيع الاعتماد عليها في الدراسات المقارنة إلا قليلاً؛ كما أنها قليلة العدد إذا قورنت بالثنائيات والثلاثيات في جميع لغات هذه الأسرة، وتقتصر على أبنية دون أخرى؛ إذ ليس في العربية فِعلٌ مجرد يُبْنَى على أكثر من أربعة أصوات، ولا اسم مجرد على أكثر من خمسة أصوات. وأمثلة هذه الأبنية قليلة تُعَدّ على الأصابع(42[48]).
ولو أجرينا دراسة دقيقة للمفردات وأبنيتها في اللغة العربية وفي لغات الجزيرة العربية الأخرى، لوجدنا أن بالإمكان إرجاع معظم مفردات هذه اللغات إلى البناء الثنائي؛ وهو أبسط صورة لبناء الكلمة، ليس فقط في لغات الجزيرة العربية، بل في جميع اللغات؛ فالوحدات اللغوية الوحيدة المقطع Monosyllabic ربما كانت هي الأصول الأولى التي نشأت منها وتطورت الوحدات المتعددة المقاطع(43[49])، إمّا بتغير الحركات الداخلية، وإمّا بإضافة مقاطع خارجية إلى صدروها أو أحشائها أو أعجازها، كما في نحو: ضَرَبَ. ضَرْب. وكَتَبَ. كُتِبَ، بالتغيير. ويكتب وتكتب ونكتب، بإضافة صدر، وكتبت وكتبنا، بإضافة عجز، ويَكْتَتِبُ ويُكَتِّبُ، بإضافة حشو. ولم يَفُتْ العلماء العرب ما يجري على الأبنية الأصول من تغيرات شكلية يُقصَد بها تغير الدلالة؛ بل لا أكون مغالية إذ قلت بأن علماء النحو واللغة العربية فاقوا جميع علماء اللغة في استقصاء أصول الكلمة، وما يجري عليها من تغيير، وما يعتريها من تطور بالإعلال والإبدال والقلب والحذف والإدغام(44[50]). ولو أجرينا مقارنة بين ما توصل إليه العرب من نتائج مذهلة في أبواب التصريف والاشتقاق في اللغة العربية، وما تم في اللغات الأخرى من أبحاث مماثلة، لوجدنا الأخيرة هزيلة لا تغني ولا تسمن إلى جانب ما كُتِب وصُنّف وأُلّف من مؤلفات في الاشتقاق والتصريف في العربية. وإذا كان حرص العلماء وجهدهم المضني في البحث والاستقصاء هو السبب الأول لكل هذا الإنتاج الغزير، فإن سعة اللغة نفسها والقواعد الدقيقة المحيرة للعقل التي سارت عليها والتزمت بها، هو السبب المباشر الذي أثار العلماء وحفزهم على التعمق في البحث والغوص وراء أسرارها. ولا ينتقص من هذا العلم وهؤلاء العلماء أن بعض ما توصلوا إليها من نتائج يُعْوِزَها الدقّة المبنية على الاختبار والمقارنة، وبحاجة إلى إعادة النظر فيها وفق أسس علمية ساعدت الوسائل العلمية الحديثة على اكتشافها. فالخليل، وهو أول من درس الأصوات ومخارجها، لم يكن يملك من وسائل الاختبار إلا فكره وتجربته الذاتية في نطق الحروف، ثم تحديد مواقعها في جهاز النطق(45[51])؛ وعلى الرغم من ذلك فقد أصاب في الكثير من النتائج التي توصل إليها. ولو توافرت له وسائل الاختبار الحديثة، وعرف ما بين اللغات من صِلات، وما يجري عليها من تطورات عبر الزمان، إذن لكانت نتائجه أدق بكثير مما هي، بل ربما كانت الغاية في الدقة.
وقد قال الخليل: "كلام العرب مبني على أربعة أصناف: على الثنائي والثلاثي والرباعي والخماسي".
وأصاب في ذكر الثنائي بأنه البناء الذي يتألف من صوتين صحيحين؛ وذكر لذلك الأمثلة: "قد. هل. لو. بل". ولكنه لم يُصِبْ إذ حدّد هذه بأنها تكون في حروف المعاني فقط، أما الاسم والفعل فلا يردان على أقل من ثلاثة؛ وفاته أن الكلمات الاسمية: (أب. أم. أخ. غم. فم) لا تختلف من حيث البناء وعدد الأصوات الصحيحة عن بناء الأمثلة التي ذكرها. وأساس البناء كما حدد هو الصوت الصحيح؛ وربما كان السبب في ذلك خضوع المفردات الاسمية والفعلية للإعراب والاشتقاق والتصريف، وجمود أبنية حروف المعاني في حالة لا تقبل التغيير. فالتغيّرات الداخلية للحركات، وزيادة اللواحق والسوابق، تؤدي بالضرورة إلى تغيير الحركات النهائية للكلمة وفق نُظُم لا يتسع المجال هنا لشرحها. يكفي أن نشير إلى أنَّ اللغة الأكدية كانت، وهي أقدم صور لغات الجزيرة العربية، تتميز بأنها أكثر وأقوى صلة باللغة العربية من أخواتها، فهي من دون أخواتها العبرية والآرامية تلتزم بالإعراب في جميع الحالات، ونهايات الاسم تحمل علامات الإعراب، ليس بالحركات كما في العربية، وإنما بأصوات المد أو حروف العلة (و)(46) و(ى)، وأن الصيغ الثنائية نحو:
طيب-
tabe
وبعيد-
Ruku
ومنير-
ellu
ورب-
Rabu
وواطئ-
Nadu
وخالد-
Daru
وناس-
Nišu
و اله-
Ilu
وسماء-
Šama
كل هذه الصيغ ثنائية، والنهاية الحركية هي علامة الإعراب في حالة الرفع، كالعربية تماماً، ولكن الحركات، كما قلت سابقاً، لم تضف إلى الكتابة إلا بعد عصر التدوين القرآني أو في حينه؛ ولذلك فقد رَسَم العرب جميعاً الحركات بهذه الحروف. ولعل هذه النهاية الحركية التي كانت ترسم في الكتابات الإسلامية الأولى بأصوات المدّ، جرياً على المألوف في ذلك الوقت في الكتابات العبرية والآرامية والنبطية، هي التي أوقعت العلماء في اعتبارها جزءاً من أصل البناء سقط عندما أُهمِل فيما بعد الإعراب في اللغات العبرية والآرامية، كما هو معروف، وبقي في العربية(47)([52]). أشير هنا إلى مسألة إعراب الأسماء الخمسة، أو الستة، واختلاف العرب في إعرابها بالحركات أو بالحروف، وجدل النحاة حولها، وصلة ذلك بالاشتباه بين الحركات والحروف.
وإذا عدنا إلى لغات الجزيرة العربية جميعاً - والعربية تمثل الأوسع مادة والأدق ضبطاً والأقدم تاريخاً- واستعرضنا الثنائيات فيها، لوجدنا أنها تتفق جميعاً في أن الصيغة الثنائية فيها، الاسمية والفعلية، تشمل طائفة كبيرة جداً من المفردات تكاد تفوق الثُلاثيّات عدداً. وأنها تنتظم الفئات الآتية:
1- [IMG]file:///C:\Users\user\AppData\Local\Temp\msohtmlclip1\01\c lip_image002.jpg[/IMG]الأفعال الناقصة من حيث التصريف والوظيفة النحوية، وعددها كما ذكرها النحاة سبعة عشر، منها أحد عشر فعلاً ثنائياً، وهي: كان. صار. ظل. بات. آض. عاد. غدا. راح. ما (برح). ما (دام). ما (زال). وليس(48)([53]).
[IMG]file:///C:\Users\user\AppData\Local\Temp\msohtmlclip1\01\c lip_image004.jpg[/IMG]عن الأفعال الأخرى، وإن كانت موجودة بصيغها ودلالاتها فكان في الأكدية- kanu وفي العبريةכּוּזּ تعني استقام أو تمكن. "وصار" في العبرية าฉ تحجر أو تصلّب من حجر. ويتم تصريف هذه الأفعال كالعربية وفق الأحكام الصوتية المعروفة في قوانين علم الصوت؛ وسنأتي إلى تفاصيلها في بحث مستقل لاحق([54]).
2- الأسماء المعروفة الستّة عند النحويين القدامى، وهي الأسماء التي اختَلَف في إعرابها النحاة. فمنهم من قال بأنها تعرب بالحركات ، ومنهم من قال بالحروف ([55])؛ وهي في الحقيقة لا تخضع لأحكام الإعراب المعروفة لأنها من ذوات المقطع الواحد القصير، ويتطلب إلصاق اللواحق بها مدّ حركاتها النهائية، كما في نحو: أبوك وأخوك وفوك؛ وعند الإفراد تُعرَب كما تُعرَب الأسماء الأخرى: جاء الأبُ، ورأيت الأخَ ([56]).
وقد ذكر منها النحاة ستة فقط هي: أب. أخ. حم. فو. ذو. وهن، في العربية؛ وفي الأكدية والعبرية ما يقابلها، ولكنها تنتهي في الأكدية والآشورية، كما ذكرنا سابقاً، بالحركات الإعرابية التي كانت تُرْسَم آنذاك بحروف المدّ، أي بالواو والألف والياء بدلاً من الحركات، على النحو الآتي:
أب= abu .أخ= ahu حم= Hamu.
فم= pu. أما في العبرية فانها تُرسَم بصوتي البناء الصحيحين فقط، بغير النهاية الحركية لزوال الإعراب في هذه اللغة إلا في حالة الإضافة، وتُحَرَّك عند ذاك بالياء؛ وتكتب على النحو الآتي في حالتي الرفع النصب: أب= אב. أخ= בא. ذو= ךן . فاه= פה.
ويُلاحَظ هنا أن بعض هذه الأسماء أحادية البناء في اللغات الثلاث، أي أنها تتألف من صوت صحيح واحد وحركة مدّ طويلة. والواقع أن كل الأُحديات في جميع اللغات تنتهي بحركات مد طويلة ([57]). ولا تقتصر الكلمات الأحادية على هاتين الكلمتين في لغات الجزيرة العربية، فهناك طائفة كبيرة منها في كل لغة من هذه اللغات، نذكر منها في الأكدية:
[IMG]file:///C:\Users\user\AppData\Local\Temp\msohtmlclip1\01\c lip_image006.jpg[/IMG]لو=Lu ثور وحشي. مو=Mu ماء.
قا= Qa قياس. وتو= Tu سحر. ومثلها الضمائر المنفصلة للمفرد والمؤنث الغائب Şu= شو، وŞi = شي للمذكر.
وفي العبرية Я א كا (بالكاف الفارسية) وكذلك = Я  كي بمعني فخور. Я א = كا بمعنى سهل. פ = كي بمعني علامة. ה =مي بمعنى من. כא = نا بمعنى (ني- غير مطبوخ). כ = ني بمعنى نحيب.Р_א= ها بمعنى استفرغ. ך = ري بمعنى ري. Wא= شا بمعنى هدم. פא = تا بمعنى غرفة([58]).
3- الأسماء الثنائية، عدا الأسماء الستة الوحيدة المقطع، وهي كثيرة في جميع اللغات العربية.
وهي إمّا أن تكون وحيدة المقطع قصيرة الحركة، وتكون على أصناف، فمنها ما:
1- يكون مفتوح الأول، وهو الغالب، نحو:
قَد. يَد. يَم. دَم. غَم. هَم. كَف. دَف. رَف. خَد. جَد. صَف.بَط. رَب. حَج. ضَب.
2- يكون مضموم الأول، نحو:
أُم. دُب. جُب. خُف. دُر. مُر. حُق. بُر.
3- يكون مكسور الأول، نحو:
[IMG]file:///C:\Users\user\AppData\Local\Temp\msohtmlclip1\01\c lip_image008.jpg[/IMG]قِط. هِر. زِق. رِق. شِص. دِن. كِن
وفي اللغات الأكدية والعبرية ما يقابلها تماماً.
4- الأسماء الثنائية ذات النهايات الحركية الممدوة نحو:
فتى. صبا. هوى. نوى. جوى. عصا. قفا. مها. قطا. رُلى. عُلا. سُها. رِبا.
5- الأفعال المعتلة؛ وذكر النحاة ثلاثة أصناف منها:
المثال، وهو ما كان فاؤه حرف علّة، نحو: وعد. وهب؛ والأجوف، ما كان عينه حرف علّة، نحو: قال ومال؛ والناقص، ما كان لامه حرف علة.
ولو أمعنا النظر لوجدنا أن المثال الأول سالم وليس معتلاّ، فالواو في (وعد) ليس صوتاً حركياً أو حرف علة بل هو صوت صحيح، مخرجه من بين الشفتين كالياء والميم، واختفاؤها عند تغيير البناء ليس واجباً وإنما هو ظاهرة حضارية، ثبتت في اللغة الكتابية فقط وبقيت في لهجات الكلام فنحنُ نقول (يوعد) و(يوهب)؛ وهو بذلك ثلاثي صحيح.
أما المثالان الثانيان وهما الأجوف في نحو (قال)، والناقص في نحو (سعي)، فثنائيان و(ا) المد وياؤه حركتان طويلتان لفاء الكلمة. وإذا تذكرنا أن (ا) المد تُلفَظ غالباً في اللهجة الكلامية أقرب إلى الواو المفتوحة منها إلى الألف، وأنها تلفظ (واواً) مفتوحة في العبرية، وتكتب بالواو، لعرفنا لماذا تصبح (واواً) في المضارع فإنها في العبرية تُكتب קדλ= قول.
ومعنى ذلك أن المفردات الثنائية تفوق في العدد الثلاثيات، وأن معظم الثلاثيات تطوّرت من أصول ثنائية.

[IMG]file:///C:\Users\user\AppData\Local\Temp\msohtmlclip1\01\c lip_image010.jpg[/IMG]






[IMG]file:///C:\Users\user\AppData\Local\Temp\msohtmlclip1\01\c lip_image012.jpg[/IMG]

[1])) انظر البحث الذي نشر في مجلة المجمع العلمي العراقي، المجلد الرابع والعشرون، سنة 1974، حول لغات الجزيرة العربية العربية.

([2]) الخليل: العين، (100- 175هـ) تحقيق الدكتور عبدالله درويش "كلام العرب مبني على أربعة أصناف. على الثنائي والثلاثي والرباعي والخماسي".

[3])) سيبويه. الكتاب. تحقيق هرتويغ درنبرج. الجزء الثاني ص 196.
وبنات الحرفين في الكلام قليل.

[4])) الأب هنري فلايش. تعريب الدكتور عبدالصبور شاهين. ص 35.

[5])) المعاجم العربية.

[6])) نقصد باللغة اللهجة التي دوّن بها؛ فاللغة لهجة حتى تُكتَب وتدوَّن وتعمَّم قواعدها في التعليم والكتابة.

([7] )L. A. Lipin. The Akkadian ********, p. 72.

([8] )L. W. King First Steps in Assyrian, p. L. III.

[9]) ) صوت اللين لا يُعَدّ جزءاً من بناء الكلمة، فهو حركة طويلة؛ وصوت العلة في أول الكلمة يُعَدّ صوتاً صحيحاً، ولا تعتبر لذلك الأفعال أو الأسماء المبدوءة بأصوات العلة معتلة الأول، نحو: ولد. يد, وعى. وقى.

(10) أبو الحسن أحمد بن فارس بن زكريا: مقاييس اللغة. المعجم كله يبدأ بالأبنية الثنائية في كل حرف من حروف الأبجدية ثم ينتقل إلى الأبنية الثلاثية؛ وهكذا بدأ الخليل بالعين، وفعل غيره من علماء المعاجم.

[11]) ) الألفاظ ثنائية، يشدد فيها الثاني عند الإسناد إلى بعض الضمائر فقط.

[12]- L. A. Lipin. The Akkadin ********, p. 72.

[13]) ) الأب هنري فليش اليسوعي. تحقيق عبدالصبور شاهين، سنة 1966. ص53.

(14) سيبويه: الكتاب الجزء الثاني، تحقيق هونبرج. ص 196.

[15]) ) الخليل بن أحمد: العين، تحقيق الدكتور عبدالله درويش، ص 55.

[16]) ) الخليل: العين، ص 56.

[17]) ) الأب هنري فليش اليسوعي، ترجمة عبدالصبور شاهين. ص52.

[18]) ) جان كانتينو، تعريب صالح القرمادي. ص137 وما بعدها.

[19])) ابن جني: سر صناعة الإعراب؛ تحقيق لجنة: مصطفى السقا، إبراهيم مصطفى ... إلخ. ص19 وما بعدها.

[20]) ) إن الشكوك التي تحوم حول نسبة كتاب العين إلى الخليل لا قيمة لها من وجهة النظر العلمية، فما هو مدوّن في هذا الكتاب إن لم يكن من علم الخليل وتدوينه فهو من علم القرن الثاني الهجري وهو أقدم تاريخ صُنِّف فيه شيء في دراسة الأصوات اللغوية بعد كتاب يانين الهندي في القرن الرابع ق. م.

[21])) جلال الدين السيوطي، المتوفى 911هـ. طبعة 1327هـ. الخانجي، الجزء الثاني. ص211.

([22])L. W. King. First stpes in Assy. p.XXXVII

([23])L. A. Lipin. The Akkadian Lang. p. 109.

[24]) ) محمد الأنطاكي: الوجيز في فقه اللغة. ص 89.

([25])Gesenius Hebrew Gram. P. 37.

[26]) ، 27، 28، 29) الآيات من سورة البقرة.

30)، 31) من سورة آل عمران.
(32، 33) من سورة النساء.

(34) جان كانتينو: دروس في علم الأصوات العربية. ص171.

ظهرت الإمالة والإشمام في بعض القراءات القرآنية، ولا شك أنها تمثل أصواتاً قديمة في اللغة العربية، لوجودها في اللغات العربية الأخرى، كالأكدية القديمة والعبرية الكنعانية والآرامية، وما زالت في العبرية الحديثة واللهجات السريانية، وكذلك الأصوات المركبة. وهما صوتان للفتحة المركبة والواو المركبة كما في كلمة "بيت ويوم" وتمثلان في اللغات الأوروبية بـ ai و au.

35) ) ابن جني: سر صناعة الإعراب. أحيل هنا القارئ إلى تعليل وتحليل ابن جني لعلاقة الحرف (الصوت الصحيح) بالحركة، هل هي قبله أو معه أم بعده – والحديث طويل لا مجال لنقله- ليرى مقدار الفوضى والفارق الكبير بين الرؤية المبنية على الوهم، والرؤية الحديثة المبنية على الاختبار والتجربة والواقع. ص 30 وما بعدها.

36)) ابن الحاجب: الشافية، شرح الرضى. ج1، ص6.

37) ) السيوطي، المتوفى 911هـ. همع الهوامع. ج2 ص213.

(38) L. A. Lipin. The Akkadain ********. p. 71.

39) ) ابن الحاجب، المتوفى 646هـ: الشافية، شرح البغدادي. ج1 ص60.

40)) ابن مالك: الألفية وشرحها أوضح المسالك لابن هشام. ج3 ص 304.

(41) L. A. Lipin. The Akk. Lang. p. 72- 73.
(42) L. W. King. First steps in Assy. p. LXXXVII.
(43) Leonard Bloomfield ********. p. 244.


(44) ليس في استطاعتنا هنا ذكر المراجع والمصادر التي صُنِّفت في العربية وعلومها، فإنها على الألوف؛ يكفي أن نقول إن أهم هذه المراجع وضعت في القرن الثاني للهجرة، ولم يكتب شيء مماثل لها أو مقارب في اللغات الأخرى إلا في القرن الثامن عشر للميلاد.
45)) الخليل: العين، تحقيق د. عبدالله درويش "وإنما كان ذواقه إياها (ويقصد الأصوات) أنه كان يفتح فاه بالألف ثم يظهر الحرف نحو أب. أت. أح ... إلخ".
(46) L. King. First steps in Assy. P. LVII.
(47) L. A. Lipin. The Akk. ********. P. 157.
48) ) ابن الحاجب: الكافية، شرح الاسترابادي. ج2 ص290.
)49) Langenscheidt. Heb. Diction.
50) ) السيوطي: همع الهوامع. ج1 ص38.
51)) أدعو القارئ إلى ملاحظة الأحاديات في الإنكليزية:
Zoo, see, do, bee, Sea, too, you, we, he, she, tea, key.
وفي الفارسية: دو- اثنان. قا= لقب الإمبراطور أو الشاه للتعظيم. شا= الملك العظيم. مو= شعر. سي= ثلاثون. سي= اثم. رو= وجه. دو= غاية. خو= عادة. جا= مكان. تا= صفحة أو واحد من عدد. يا= قدم.
وفي اللغة الكردية: دو= اثنان. مو= شعر. رو= وجه. شو= زوج. جو= شعير. خو= عادة. رى= طريق. دى= قرية.
)52) Gesenius- Heb. gram.







































المصدر: ملتقى شذرات

__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية

الكلمات الدلالية (Tags)
اللغات, الثنائية, الجزيرة, الصّرفي, العَربية, العَربيّة, وَالميزان


يتصفح الموضوع حالياً : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
أدوات الموضوع

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


المواضيع المتشابهه للموضوع الثنائية وَالميزان الصّرفي في اللغات العَربيّة في الجزيرة العَربية
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
شاهد فيلم وثائقى بثته الجزيرة قبل قليل // مقتل عرفات ...الجزيرة تكشف سر موته ابو الطيب أخبار عربية وعالمية 0 11-10-2013 11:59 PM
أثر استخدام بعض استراتيجيات النظرية البنائية في تنمية التفكير Eng.Jordan بحوث و مراجع و دراسات تربوية واجتماعية 0 05-05-2013 10:08 PM
اللغات القفقاسية Eng.Jordan رواق الثقافة 0 02-17-2013 07:45 PM
أثر استخدام بعض استراتيجيات النظرية البنائية في تنمية التفكير المنظومي في الهندسة Eng.Jordan بحوث و مراجع و دراسات تربوية واجتماعية 0 11-07-2012 10:58 PM
سوريا مطيّة روسيا لاستعادة الثنائية الدولية Eng.Jordan مقالات وتحليلات مختارة 1 02-11-2012 11:38 PM

   
|
 
 

  sitemap 

 


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 02:45 AM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.12 by vBS
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والمشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59