#8  
قديم 10-09-2014, 07:58 AM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود غير متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 56,139
ورقة علم الاجتماع: نزعة علمية مزيفة

علم الاجتماع: نزعة علمية مزيفة
ــــــــــــــــ


اعترافات علماء الاجتماع
------------------

الحلقة الثامنة
------------

علم الاجتماع: نزعة علمية مزيفة
------------------------------

كان أكبر وهْم غرقنا فيه منذُ اللحظات الأولى التي درسنا فيها علمَ الاجتماع وحتى الآن هو: (النظرة إلى علم الاجتماع على أنَّه علم)، ولو كان أساتذتنا حدَّدُوا لنا أنهم يقصدون بعِلميَّة (علم الاجتماع) أنَّه علمٌ بالمعنى الواسع للكلمة؛ أي: (المعرفة) - لخفَّت حدَّة المشكلة نوعًا ما، لكنَّهم أكَّدوا لنا أنَّه علمٌ بمعنى أنَّه منهج متخصِّص ووجهة نظر مشابهة لتلك التي للعلوم الطبيعيَّة، وأنَّه وإنْ نشأ في أحضان الفلسفة فإنَّه الآن قد تحرَّر منها.

والآن بعد مُضِيِّ أكثر من قرن ونصف القرن من الزمان على نشأة علم الاجتماع، ما زالت دراسة الظواهر الاجتماعيَّة تتخبَّط بين الفلسفة ومحاولة إخضاع هذه الظواهر لنفس مناهج العلوم الطبيعيَّة، تطبيق مناهج العلوم الطبيعيَّة على دراسة الظواهر الاجتماعيَّة يتعثَّر بشدَّة، وانحسرت النظرة إلى علم الاجتماع كعلمٍ طبيعي، وفي نفس الوقت لم تسقط النظرة الفلسفية في تفسير ظواهر الاجتماع، ويتعايَشُ الاتجاهان مع بعضهما، والذي خرجنا به بعد أنْ أدركنا هذا التخبُّط هو أنَّ النزعة العلميَّة (لعلم الاجتماع) إنما هي نزعةٌ مُزيَّفة على حدِّ قول المؤرِّخ الشهير (ديلثي)، الشروط التي حدَّدَها العلماء لاعتبار أيِّ معرفة علمًا لم تتحقَّق في علم الاجتماع، ما زالت مادَّة علم الاجتماع كما يقول (إيوبانك) مرتبطةً بأسماء أشخاص معيَّنين، هم الذين اخترعوا نظريَّاته ومدارسه الفكريَّة المختلفة، ليس لدَيْنا هذا الكيان الكبير من الحقائق المقبولة بصفةٍ عامَّة التي يمكن النظر إليها على أنها أحكامٌ نهائيَّة، نحن نرجع إلى رجال مُعيَّنين وليس إلى علمٍ محدَّد، هؤلاء الرجال هم الذين يتحدَّثون باسم علم الاجتماع أو علماء الاجتماع ككل، إنَّ علم الاجتماع كما يقول (كوليمان) ليس بعلمٍ دولي وليس بعلم لا بالمعنى القديم ولا الدقيق للكلمة.

ولا يزال هناك في جامعاتنا حتى الآن مَن ينكر إمكانيَّة وجود علم لدراسة المجتمع.

وتُعتَبر دراسة المجتمع في كثيرٍ من جامعات العالم من الدراسات الأدبيَّة أو الفنيَّة، وليست من الدراسات العلميَّة، أقسام علم الاجتماع مُلحَقة بكليَّات الآداب والفنون، وهناك من الكليات مَن لا يفرد قسمًا خاصًّا لدراسة المجتمع، بل يضمُّها داخل أقسام الفلسفة أو غيرها من فروع المعرفة، وحين يُذكَر العلم فنادرًا ما يَطرَأ على أذهان الناس، حتى أكثرهم معرفة وعلمًا، ومَن هم على مستوى المسؤولية - أنَّ دراسة المجتمع تدخُل في نِطاقه، وحينما تنشأ مجالس مُتخصِّصة لرعاية ضروب المعرفة المختلفة، تستبعد معرفة المجتمع من قائمة المعرفة العلميَّة بطريقة آليَّة، وتُضاف إلى المعرفة الفنيَّة والأدبيَّة، وما زال هناك من المثقَّفين من يرى أنَّ فهم المجتمع مسألة لا تتطلَّب أكثر من مجرَّد عمليَّة تأمُّل لما يدور حولهم، وقراءة لما يكتب في الصحف والمجلات، وأنَّ الأمر لا يحتاج تخصُّصًا وتأهُّلاً كالذي يتطلَّبه فهم التفاعُلات الكيميائيَّة أو الظواهر البيولوجيَّة.

الذي لا جِدال فيه هو أنَّ نشأة علم الاجتماع لم تكن نشأةً علميَّة، وأنَّ علماء الاجتماع الأوائل كانوا يلبسون ثوب الفلاسفة الأخلاقيين، وما كُتِبَ لأفكارهم البَقاء إلا لأنَّه نُظِرَ إليها على أنها فكر يحلُّ المشاكل.

لم تكن الأفكار والمفاهيم التي صاغَها كبار علماء الاجتماع الأوائل نتيجةَ تحليلٍ علمي كما نفهمه هذه الأيَّام، كان هؤلاء الكبار يعتمدون على الحدس والتخمين العميقين، كانوا يستجيبون لما يدورُ حولهم كما يستجيب الفنان.

إنَّ الكثير من الأفكار التي كتبوا عنها كانت تدورُ في وجدانهم وعقولهم قبل أنْ يكتبوا عنها، وربما استمدُّوها من مُفكِّرين سابقين، أو كانت محصلة خِبرة شخصيَّة أو مشاعر تملَّكتهم كالإحساس بالوحدة والهامشية.

والذي لا جِدال فيه أيضًا هو أنَّ العلماء الاجتماعيين لا يَشعُرون في أعماقهم بأنهم علماء، أو أنهم ينتمون إلى فئة العلماء بالمعنى الدقيق للكلمة، لكنَّهم يصرُّون مع ذلك على أنهم علماء وخبراء في شُؤون المجتمع، يكتبون ويتحدَّثون عنه بلا تردُّد، ومنذ أن وُجِدَ علم الاجتماع كنسقٍ معرفي جديد ومحاولات المشتغِلين به لم تتوقَّف في السعي نحو إثبات أنَّه علم وأنهم علماء؛ ولهذا يبذلون جُهُودًا مستميتة في أنْ يكونوا أكثر صوريَّة وأكثر رياضيَّة، يستخدمون الأدوات ويُحسِنون في أدائها لوظيفتها، يحرصون على استِبدال الكيفيَّات (أي: الصفات التي لا تُقاس بكميَّات عدديَّة) بكميَّات وأرقام؛ لأنَّ الرياضة هي لغة العلم الآن؛ ومن ثَمَّ يُؤكِّدون أهميَّة المنهج العلمي في دراستهم.

شبحان دائمان كانا ماثِلَيْن أمامَ العلماء الاجتماعيين؛ أولهما: الشك الذي يُساوِر الناس في العلوم الاجتماعية وحظها القليل في خدمة البشرية، والثاني: هذه الهيبة العالية التي يتمتَّع بها علماء الطبيعة ودورهم في تدعيم الحضارة الصناعيَّة وخِدمة البشريَّة، وما يرتَبِط بها من ارتفاع مُستويات المعيشة، هذان الشبحان كانا وراء حمَّى اعتقاد العلماء الاجتماعيين بأنَّ الدراسة لا تُعتَبر علميَّة إلا إذا استُخدِمت فيها المناهج التجريبيَّة، وأنه لا بُدَّ من تحويل الموضوعات الاجتماعيَّة إلى كميَّات عدديَّة وعلاقات رياضيَّة.

كان نموذج العلم الطبيعي أمَلاً عزيزَ المنال يُحاوِل علماء الاجتماع الاقترابَ منه، النتائج الباهرة التي وصَلتْ إليها العلوم الطبيعيَّة في القُرون الثلاثة الأولى أوهمَتْهم بأنَّه من الممكن إعادة بناء الفكر وصِياغته على أساسٍ من العلم التجريبي، وأنَّ طريقة هذا العلم يمكن أنْ تمتدَّ إلى الناس والمجتمع، اعتَقَد العلماء الاجتماعيُّون أنَّ المناهج التي أثبتَتْ نجاحها في العلوم الطبيعيَّة هي المناهج التي تُناسِبُ دراسة الظواهر الاجتماعيَّة، فأصبح همُّهم الأوَّل هو التحكُّم التجريبي في شؤون المجتمع، ومنْح علم الاجتماع معايير العلم الطبيعي من ملاحظات موضوعيَّة، وأدوات منهجيَّة دقيقة، وفروض تُوجِّه البحث... إلخ.

أقنع العلماء الاجتماعيون أنفسهم بوحدة العلوم ووحدة مناهجها، وانطلاقًا من هذه المسلَّمة المخادعة اعتبروا أنَّ النظرية الطبيعية هي المثال الذي يجب أنْ يحتَذِيَه العالم الاجتماعي عند بِنائه لنظريَّاته الاجتماعيَّة، ومن ثَمَّ فإنَّ منهج العلم الطبيعي هو المنهج الوحيد الذي يتعيَّن عليه أنْ يتبعه، وهو المثل الأعلى لعلم الاجتماع، صدَّق الببغائيُّون في بلادنا هذه الخديعة، فهلوسوا قائلين: إنَّ منهج العلوم الطبيعيَّة هو أعظم مكتسبات الحضارة الأوربيَّة منذ عصر النهضة على الإطلاق، وأنَّه نموذجٌ لكلِّ فكر يريد أنْ يصبح علمًا؛ لأنَّه بفضل هذا المنهج استطاعت العقلية الأوروبية القضاءَ على الكثير من النظريات الذاتية الأسطورية الميتافيزيقية اللاهوتية، وأنَّه شرط اليقين والضامن للموضوعيَّة والكفيل بتقدُّم العلم، ظنَّ العلماء الاجتماعيون أنَّ دراسة الظواهر الاجتماعية يمكن أنْ تقوم على الملاحظة والاستنتاج واستقراء الحقائق مع صِياغة النتائج في كميَّات عدديَّة، أو رموز رياضيَّة، ورسوم بيانيَّة، وقوانين إحصائيَّة.

غالَى العلماء الاجتماعيون فيما اعتقدوا به؛ فعلَّمونا أنَّ أيَّ فهْم حقيقي للمجتمع الإنساني لا بُدَّ أنْ يتمَّ باتِّباع المنهج العلمي، وأن أيَّ محاولة للتحكُّم في ظواهر المجتمع وحل مشكلاته لا بُدَّ أنْ تقوم على منهج مبنيٍّ على الأسس العلميَّة لطبيعة هذه الظواهر، وأنَّ كلَّ فعل أو فكرة لا تخضع لمنهج التجريب هي غير علميَّة على الإطلاق.

كانت أوَّل كارثة أصابَتْنا من وراء هذه المسلَّمة الخادعة هو اعتِقادنا في صحَّة قولهم: إنَّ المعرفة في علم الاجتماع يجب أنْ تكون نتيجةً للانطِباعات الحسيَّة وما يترتَّب عليها، وإنَّ حقيقة الشيء تتوقَّف على إمكان حدوثه كليًّا أو جزئيًّا على هيئة مجموعةٍ من الانطباعات الحسيَّة، وإذا استطعنا - كما يقول كارل بيرسون - أنْ نقيم نظامًا على أساس هذه الانطباعات أمكننا أن نسنَّ قانونًا.

كنَّا نُصدِّق هذا الزيف ولم نكن نعلم وقتَها أنَّ الهدف من كلِّ هذه (العلميَّة) المُغالَى فيها هو ألا نحاول التفكير في رد حركة الظواهر والعلاقات والتفاعلات الاجتماعية إلى إلهٍ أو دين أو عقيدة، فالدِّين والعلم عند علماء الغرب ورجال الاجتماع في بلادنا منفصلان، والاستناد إلى الدِّين - كما علَّمَنا أحمد الخشاب - استنادٌ إلى عقليَّة غيبيَّة، رجعيَّة تسلطيَّة، والوصول إلى نظرية اجتماعية عربية يتطلَّب أوَّل ما يتطلب الإطاحة بهذه العقلية وهذه العقيدة.

اكتشفنا أنَّ إصرار العلوم الاجتماعيَّة وعلم الاجتماع على أنْ تُطلِق على نفسها صفة العلم، وأن تتشبَّه بالعلم، ليس القصد منه دراسة الظواهر الاجتماعية دراسة موضوعية منزَّهة عن الميول والأهواء والتحيِّزات، وإنما المقصود به التمسَّك الشديد بتطبيق أساليب وطرق البحث المتَّبَعة في العلوم الرياضيَّة.

• غابَ عنَّا أنَّ الجماعة الاجتماعيَّة ليست كالمجموعة الشمسيَّة، وأنَّ الناس ليسوا كالمواد الأرضية والأجرام السماوية من حيث: تكويناتها، وحركاتها، والتغيُّرات التي تطرأ عليها.

• غابَ عنَّا أنَّ الإنسان ليس وحدةً مُتكرِّرةً، وليس كقطعةٍ من الحديد لا عقل له ولا إرادة، محكوم بقوانين ونظريَّات واحدة، لا تتبدَّل ولا تتغيَّر، ولا يختلف ظاهره عن باطنه، ونسينا أنَّه كائن حي، له إرادة، وخواطر، وظاهر، وباطن، ورغبات متجدِّدة، دائمة التغيير والتأثير والتأثُّر بالعلاقات مع الآخَرين.

• غابَ عنَّا أنَّ التعامُل مع الظواهر الاجتماعية كأشياء هو عين طريقة تعامُل اليهود مع الأُمَميِّين، ومبدعها يهودي معروف، سليل أسرةٍ من الأحبار اليهود الذين يتعامَلُون مع غير اليهود كأنهم ذرَّات أو ذباب فاكهة، ونسينا أنَّنا نتعامَل مع بشرٍ نتحاور معهم ونتعاطَف، ونُشارِكهم، ويشاركوننا وجدانيًّا، وأنَّنا نتعامَل مع: حياة، وسلوك، وأفكار، وقِيَم.

• غابَ عنَّا أنَّ هناك فارقًا بين ظواهر يمكن تفسيرها من خارجها، وبشرًا لا يمكن فهْم قَضاياهم إلا من داخِلهم، وأنَّ هناك فارقًا بين ظواهر تربطها علاقات علميَّة آليَّة وبشرًا يخضعون لقيم ويرتبطون بأهداف.

• غابَ عنَّا أنَّ هناك فارقًا بين ظواهر يمكننا التحكُّم فيها من الألف إلى الياء، ونضعها تحت تصرفنا في أيِّ وقت نريد، وفي أيِّ مكان نريد، ووفق أيِّ هدف نسعى إليه، نُعدِّل فيها ونُبدِّل كما نرى، وبين بشرٍ لا نستطيع التعامُل معهم كما نتعامَل مع قطرات الماء، أو قطع الأحجار، أو ثاني أكسيد الكربون.

تصرَّفنا مع الناس والمجتمع كعلماء فيزياء أو كيمياء - بغضِّ النظر عن رأي هؤلاء العلماء فينا - واقتنعنا أنَّ الفارق بين علومهم وعلمنا هو فارقٌ في الدرجة، وانطلقنا نُفسِّر العلاقات بين البشر تفسيرًا كميًّا مُصاغًا في لغةٍ رياضيَّة لا يفهمها إلا نحن، على أمَل أنْ نخدع الآخَرين بأننا علماء، نتعامل مع الناس بلا هوى، وبلا تحيُّزات، وبلا ميول، وبلا مصالح، وأنَّه لا شيء يمكن أنْ يتلف نِزاعاتنا ويحملنا على التأثُّر بعوامل ذاتيَّة.

أخضعنا الناس للتجربة، وتجاهَلْنا أنَّ في ذلك انتهاكًا لحرماتهم، واعتداءً على حريَّتهم باسم العلم والمنهج العلمي، تعلَّمنا من أساتذتنا وعلَّمنا طلابنا خُرافة المجموعة التجريبيَّة والمجموعة الضابطة، وأنَّه بإمكانهم عزْل الظواهر الاجتماعيَّة صناعيًّا والتحكُّم فيها؛ حتى يتوصَّلوا إلى تحقيق الظروف المتماثلة، علَّمنا طلابَنا أنْ يقسموا مبحوثيهم إلى مجموعتين؛ إحداهما تجريبية والأخرى ضابطة، متشابهتان في كلِّ الظروف، يعرضون إحداهما لإجراءات التجريب والأخرى لا يعرضونها، ثم يقارنون ويلاحظون ويحاولون الوصول إلى حُكمٍ استقرائي بأنَّ الأثَر الواضح الحدوث بعد التجريب يُعزَى إلى العامل المستدخَل في عمليَّة التجريب، لم نكن نعرف أنَّ هذا المنهج عديم النفع بين البشر؛ لأنَّه ما دامت الظروف المتماثلة لا تتحقَّق إلا في حُدود مدَّة تاريخيَّة واحدة، فإنَّ عزل الظواهر الاجتماعيَّة صناعيًّا من شأنه أنْ يستبعد عوامل قد تكون لها أهميَّة كبيرة، وأنَّ مرور زمن معيَّن يُعَدُّ كافيًا لإدخال عوامل لا تجعل من السبب التجريبي العامل الأساس في التغيُّر الحادث في الظاهرة المدروسة، وباسم التجريب والمنهج العلمي راح العلماء الاجتماعيون يعبَثُون بالقِيَم، وأقاموا في الغرب تجارب جريئة قاسوا فيها الاستجابات في أثناء العملية الجنسيَّة على أشخاصٍ متطوعين من كلا الجنسَيْن، يقومون من تلقاء أنفسهم بممارسة العمليَّة الجنسيَّة تحت عيون الملاحظين وعدسات التصوير، واعتبروا أنَّ ذلك فتحًا جديدًا في الدراسات التجريبيَّة بين البشر، ولَمَّا ثار المحافظون على هذا العبث أجرى العلماء الاجتماعيُّون تجاربهم سرًّا، وراحت مراكز البحوث في بلادنا تحذو حذوَهم وتحاول خوض هذه التجارب على رجالنا ونسائنا.

كان جون ستيوارت مل من أشدِّ العلماء تعصُّبًا للمنهج التجريبي، ولكنَّه اضطرَّ بعد إعمال فكر واجتهاد كبير إلى الاعتراف بالإخفاق في البحث عن الحقيقة الاجتماعيَّة، وإلى الاعتراف بأنَّه من غير الممكن في الميادين الاجتماعيَّة حدوث ظرفين متعادلين تمامًا ومتكافئين من جميع النواحي إلا ناحية واحدة، وأنَّ ذلك لا يحدث ألبتَّة: لا طبيعيًّا، ولا تلقائيًّا، ولا افتعالاً، يُدبِّره ويصطنعه أيُّ باحث مهما كانت قدرته.

أمَّا الادِّعاء بأنَّ تطبيق مناهج العلوم الطبيعيَّة على الإنسان والمجتمع سوف يُحقِّق الموضوعيَّة، فهذا من قَبِيل التضليل.

الموضوعيَّة في العلوم الطبيعيَّة تُعالَج في ضوء هويَّتها الخاصَّة كمادَّةٍ للبحث وطرق أو مناهج للدراسة، أمَّا الموضوعيَّة في شُؤون الإنسان والمجتمع فهي موضوعيَّة نسبيَّة ناتجة عن نسبيَّة الرُّؤَى المختلفة للمُشتَغِلين بالعلوم الاجتماعيَّة.

ورغم اعتراف علماء الغرب بأنَّ العيوب التي يعاني منها علم الاجتماع حتى اليوم إنما ترجع إلى تقليده الأعمى للعلم الطبيعي، بحيث أصبحت النتيجة مُحزِنة، وأصبح حال علم الاجتماع يُرثَى له بسبب الإصرار على هذا التقليد، فما زال في بلادنا مَن يصرُّ على إخضاع ما هو غير علمي لشروط الفرض العلمي الذي يَقبَل التحقُّق من صحَّته، وما زال يطمع في الوصول إلى نموذجٍ اجتماعي علمي على غِرار الصورة الفيزيائيَّة للعالم، وبعضهم يستشهد بنجاح الغرب في الوصول إلى وحدات تحليليَّة وتركيبيَّة لصور اجتماعيَّة مختلفة كمصطلح (الكارزما) أو (الصفوة) أو (الطبقة)، ونسي هؤلاء أنَّ البشريَّة تعرف هذه الحقائق منذ زمن بعيد، وأنَّ ما قام به علماء الغرب لا يتعدَّى مرحلة الوصف العام، ولم ينجحوا حتى الآن في إقامة نماذج اجتماعية تُشبِه في دلالتها وانتظامها نماذج العلوم الطبيعيَّة.

أمَّا استخدام علم الاجتماع للإحصاء والرياضيَّات، واستعانته بالآلات الضابطة والتجارب المعمليَّة، فلم يُحقِّق له خصائص العلم؛ لأنَّه وإنْ كان بالإمكان التثبُّت من وُجود الظواهر التي يدرسها بالرجوع إلى الواقع، فإنَّ هذه الظواهر لا يطَّرد وقوعُها بغير استثناء؛ لأنها لا تجري على غِرار واحد دومًا، ويتدخَّل في سير مجراها عقل أو ضمير أو إرادة، فإذا تغيَّر مجرى الظاهرة استحالَ إخضاعُها لقانون علمي دقيق.

لقد اعترف علماء الاجتماع بأنَّ استِخدام الإحصاء في علم الاجتماع كان السبب في ضَحالة أغلب النتائج التي توصَّلوا إليها، وسطحيَّتها، وتفاهتها، وزيفها، وجدبها، أدَّى استخدام الإحصاء - كما يقول علماء الغرب - إلى تَتْفيه البشر والمجتمع، وتَتْفيه عقول علماء الاجتماع أيضًا، وفوق هذا كله لم يمكنهم من فهم الظواهر الاجتماعيَّة أو فهم علاقاتها السببيَّة، يقول (زيمرمان): "إنَّ لدينا عددًا كبيرًا من الأشخاص الذين يستَطِيعون القيامَ بحِساب معاملات الارتباط، لكنَّه لم يخبرنا أحدٌ ماذا تعني هذه المعاملات بالنسبة للتحليل السببي، إنَّه ما دامت العلوم الاجتماعيَّة قد أغرقت نفسها في مجرَّد جمع الحقائق وعلاجها الإحصائي، فإنها تتَّجِه إلى أنْ تكون مذهبًا تؤمن به طائفة مختارة من العلماء الاجتماعيين، هم الذين يستَطِيعون قراءة البحوث وفهمها؛ ومن ثَمَّ لا تصبح لهذه البحوث قيمةٌ في التوجُّه الاجتماعي".

هاجَم (سوروكن) الأسلوب الإحصائي، وقال: إنَّ هذا الأسلوب يجعل بإمكان أيِّ شخص أنْ يصبح باحثًا اجتماعيًّا؛ فهذا لن يكلفه سوى أنْ يأخذ عددًا من الأوراق ويملؤها بكلِّ أنواع الأسئلة، ثم يرسلها بالبريد ويتسلَّم الإجابات فيُصنِّفها ويُبوِّبها بآلة تبويب في عدَّة جداول، ثم يحسب آليًّا: النسب المئوية، ومعاملات الارتباط، والانحرافات المعيارية، والأخطاء الاحتمالية، ثم يقوم بكتابة تقريرٍ يملؤه بهذه الأعداد الضخمة والمؤثِّرة من الجداول والصيغ والمؤثرات وما إلى ذلك، حتى يتأكَّد القرَّاء أنَّه بحث موضوعي وكامل ودقيق، لأنَّ صاحبه اتَّبع طقوس البحث الكمي المعاصر في علم الاجتماع.

النظريَّات التي استعانَتْ بالرياضيات كانت عرضًا من الأعراض البارزة لما يسمَّى بهوس الاستخدام الكمي في العلوم الاجتماعية، وفي جملتها - كما يقول علماء الاجتماع - لم تضفْ إلى معلوماتنا أي جديد، ولم تفعل سوى أنها أعادت صياغة جهلنا.

النظريات الاجتماعية ذاتها مُعقَّدة وغامضة، ولا يمكن استخدام الرياضيَّات إلا إذا أصبحت النظرية ذاتها أكثر تعقيدًا بحيث يَصعُب رؤية كلِّ ضمنيَّاتها، فما الذي نتوقَّعه إذًا إلا المزيد من الغموض واللبس والإبهام!

إنَّ استخدام الرياضيات في العلوم الاجتماعيَّة إمَّا أنْ ينتهي إلى عبارات رياضية لا تمسُّ إلا قدرًا يسيرًا من المشكلات الحقيقيَّة التي كان عليها أنْ تعالجها، أو أنْ تتمخَّض عن صِيَغٍ تافهة لا تُؤدِّي إلى أكثر ممَّا يمكن أنْ تؤدِّيه العبارات اللفظيَّة.

هذا، وقد اعترف العلماء الاجتماعيُّون بأنَّ استخدام الرياضيات في العلوم الاجتماعية قد كانت نتيجته: فقرًا في المنطق، وغُموضًا في الأفكار، وادِّعاء كاذبًا بالأصالة، يحاول صاحبه أنْ يخفيه ويخفي هذه العُيوب جميعًا بكساءٍ من أرقام، وعبارات غامضة تَعكِس خواءً في العلم أكثر ممَّا تعكس ثراءً فيه.

ومنذ نشأة علم الاجتماع وإلى اليوم وعُلَماؤه يتحدثون عن إمكانيَّة التوصُّل إلى القوانين التي تحكُم المجتمع البشري، أين هذه القوانين؟ ثلاثون عامًا ونحن نبحث عنها بلا جَدوَى، كلُّ ما دَرْسناه وندرسه لطلابنا ليس إلا مجرَّد أحكام عامَّة جاءتْ بعد جهود ضائعة وغير مثمرة، أحكامًا لا تخلو من العيوب والنقص، ليس في جملتها إلا أقوالاً بدهيَّة صِيغَتْ في كلمات طنَّانة غامضة جوفاء.

كنَّا نعتقد أنَّ هناك هدفًا نبيلاً من السعي المُتَواصِل لعلماء الاجتماع وإصرارهم على التوصُّل لهذه القوانين، ثم اكتشفنا أنَّ الهدف ليس السعي لاكتشاف سنن الله الاجتماعيَّة، وإنما هو تحويل المجتمع إلى آلةٍ كبيرة محكومة الحركة مضبوطة الأزرار، ثم فرض قواعد وقوالب مُعيَّنة على حركته الاجتماعيَّة، إنها قواعد اللعبة الاجتماعيَّة في منطقة محدَّدة وزمان محدَّد، لكنَّهم على أيَّة حال فشلوا في التوصُّل إلى هذه القوانين، وفشلوا في التنبُّؤ والتحكُّم في حركة المجتمع.

أحكامهم التي توصَّلوا إليها ليست دقيقةً ولا مضبوطة، احتماليَّة ترجيحيَّة تَعكِس أصحابها وتحيُّزاتهم وميولهم ومصالحهم، أحكامهم مرهونةٌ بالمدارس الفكريَّة التي ينتَمُون إليها، تفتقد إلى أوَّل شرطٍ من شُروط القانون، وهو العموميَّة التي لا تجعل صِدقَه مرهونًا بزمان أو مكان أو ظروف معيَّنة، أحكامهم لا دقَّة فيها ولا ضبط، تَكثُر فيها الحالات الاستثنائيَّة، والاستثناء ممتنعٌ في القانون العلمي، والشاهد السلبي الواحد يُرجِّح مِئات الشواهد الإيجابيَّة، الاستثناءات في العلوم الاجتماعيَّة أكثر من أنْ تُحصَى، ومن الضلال أنْ يُقال أنَّ الشاذ في علم الاجتماع لا يهدم القانون، فالحياة الاجتماعية مليئةٌ بالتعقيدات الهائلة التي تتدخَّل فيها الإرادة البشريَّة وتُغيِّرها وتُعدِّلها؛ ممَّا يتعذَّر معه إخضاعُها لقانونٍ علمي ثابت.

إنَّ واقع العلوم الاجتماعيَّة لَيَشهدُ أنَّ فكرة القانون لا يمكن أنْ تكون مساويةً لمعناها في العلوم الطبيعيَّة، إنَّ استقراء الماضي ليس أساسًا كافيًا لاستخلاص قانونٍ إذا أُرِيد الاحتفاظ بكلمة (القانون) بمعناها العلمي المعروف، وما اكتشفته العلوم الاجتماعيَّة ليس بقوانين؟ لأنَّنا عاجزون دومًا عن معرفة ما إذا كانت هذه القوانين صادقةً في الماضي، فليس لدينا من الوثائق ما يُثبِت ذلك، ولا نعرف أيضًا ما إذا كانت ستَصدُق في المستقبل أو لا.

إنَّ أهمَّ ما يُميِّز القانون العلمي هو استقلاله عن الإرادة الإنسانية وحدوثه سواء شاء الإنسان أو لم يشأ، فهل هناك حقًّا إلى جانب إرادة الإنسان عاملٌ خفيٌّ يوجه الحوادث في اتجاه معيَّن، أم أنَّ الإرادة الإنسانيَّة هي التي تقوم بذلك فعلاً؟ إذا صحَّ أنَّ إرادة الإنسان هي التي تقوم بذلك، وهي العامل الوحيد المتحكِّم في توجيه دفَّة الأمور، فما قيمة الإشارة إلى القانون؟ أليس في وسع إرادة الإنسان أنْ تكسر هذا القانون وتُوجِّهه متى شاءت وجهةً أخرى؟

إنَّ تعقيد الحياة الاجتماعيَّة الهائل لا يسمح لنا باكتشاف القوانين التي تحكمها، طالما أنَّ مُنطَلقاتنا لا تعترف بغير إرادة الإنسان في حركة المجتمع، فإذا كنَّا لم نستَطِع اكتشافها فمن العبث أنْ ندَّعي بأنها موجودةٌ ما لم نُغيِّر هذه المنطلقات.

أمَّا الادِّعاء بأنَّ علم الاجتماع ما زال في مهده، وأنَّه سيُحقِّق إمكانيَّة الوصول إلى هذه القوانين بعد أنْ ينضج، فإنَّه ادِّعاء ساذج؛ لأنَّ الزعم بعدم النُّضج هذا قد استمرَّ لفترةٍ طويلة من الزمان دون أنْ تظهر على العلم أيُّ علامة من علامات النمو.

وهناك من علماء الاجتماع مَن يقرُّ بأنَّ علم الاجتماع لم يتوصَّل إلى قوانين، وإنما توصَّل إلى ما أسموه (بالتعميمات الأمبريقيَّة) التي يتمُّ التوصُّل إليها عند فحص العلاقة بين متغيِّرين، هذه التعميمات لا يمكن الأخْذ بها، وهي غير ذات نفْع في علم الاجتماع؛ لأنَّه لا يوجد في المجتمع اطِّراد طويل الأمَد يَصلُح أنْ يكون أساسًا للتعميمات بعيدة المدى - بغضِّ النظر عن الاضطرار في الأمور التافهة - إنَّ افتراض صدق التعميمات في علم الاجتماع أمرٌ كاذب ومُضلِّل إلى حدٍّ كبير؛ لأنَّه ينكر أنْ يطرأ على المجتمع أيُّ تغيُّر أو تطوُّر، ويُنكِر أيضًا أنْ يكون للتطوُّرات الاجتماعيَّة - إنْ وُجِدت - أيُّ أثَر في الأمور المنتظِمة الأساسيَّة في الحياة الاجتماعيَّة.

إنَّ كثيرًا من التعميمات التي أطلقها علماء الاجتماع ليست إلا أقوالاً بدهيَّة لا تَرقَى إلى مستوى القوانين، ولا تلبثْ عموميَّتها أنْ تنهار أمام الفحص الدقيق، كما أنَّ كلَّ التعميمات التي توصَّلَ إليها علماء الاجتماع مبهمة غامضة فضفاضة، وعلى فرض صِدقها فإنها ليست سوى مجرَّد تكرار لمعانٍ جزئيَّة، وإبرازٍ لأشياء عادية مألوفة في صورة أخرى، تأخُذ شكلاً استدلاليًّا تافهًا وساذجًا.

وإذا اعتقد علماء الاجتماع أنَّه باستِطاعتهم الوصول عن طريق تحليلهم للحياة الاجتماعيَّة إلى اكتشاف السبب في وقوع حادثٍ معيَّن على نحوٍ معيَّن، وإلى إدراك هذا السبب وكيفيَّة وُقوعِه، بحيث يقولون: إنهم توصَّلوا إلى فَهْمٍ واضح لعِلَلِه ونتائجه؛ أي: القُوَى التي سبَّبَتْه، وآثاره التي لحقَتْ بغيره من الحَوادِث، فإنهم رغم ذلك لا يستطيعون الادِّعاء بأنهم توصَّلوا إلى قانونٍ يصلح لوصف مثل هذه العلاقات بوجْه عام؛ لأنَّه قد لا يوجد من المواقف الاجتماعيَّة ما يصحُّ تفسيره بتلك القوى المعيَّنة التي اكتشفوها غير الموقف الوحيد المعيَّن الذي وُفِّقوا إلى تفسيره، وقد تكون هذه القوى فريدةً في نوعها؛ بمعنى: أنها لا تظهر إلا مرَّة واحدة، ولن تعود إلى الظهور مرَّة أخرى.

وباختصار: إنَّه لا يمكن التوصُّل في علم الاجتماع والعلوم الاجتماعيَّة إلى نسقٍ نظري متَّسق ونهائي، كذلك القائم في العلوم الطبيعيَّة، رغم اهتزاز هذه القاعدة فيها الآن.

تعلَّمنا وعلَّمنا طلابنا أنَّ علم الاجتماع نسق نظري؛ بمعنى: أنَّ غايته تفسير الحوادث والتنبُّؤ بها بواسطة النظريَّات أو القوانين الكليَّة التي يُحاوِل اكتشافها، لكنَّنا تيقنَّا الآن أنَّ علم الاجتماع لن يصل مطلقًا إلى دقَّة التنبُّؤات الفلكيَّة مثلاً؛ لاستِحالة فكرة التقويم الدقيق للأحداث الاجتماعيَّة.

إنَّ فكرة التقويم الدقيق المفصَّل للأحداث الاجتماعيَّة فكرةٌ متناقضة، والتنبُّؤات الاجتماعيَّة الدقيقة مستحيلةٌ بسبب تعقُّد الأبنية الاجتماعيَّة، وتبادُل التأثير والتأثُّر بين التنبُّؤات والأحداث المتنبَّأ بها، ويمكن بالمنطق وحدَه إثباتُ ذلك، لو أمكن عملُ تقييمٍ للحوادث الاجتماعيَّة واطَّلَع الناس على هذا التقييم؛ لأنَّه لن يكون سِرًّا مكتومًا لمدَّة طويلة، وبقدرة أيِّ إنسان أنْ يكتشفه، لكان في ذلك - بدون شك - مَن يحاولون القيامَ بأعمالٍ من شأنها أنْ تفسد التنبُّؤات، فإذا تنبَّأ أحدٌ بأنَّ سعر الأسهُم سيرتفع على مَدَى ثلاثة أيَّام ثم يهبط بعدَها، فمن الواضح أنَّ كلَّ مَن له صلةٌ بالسوق سوف يبيع أسهمه في اليوم الثالث، ويتسبَّب ذلك في هبوط الأسعار ويكذب التنبُّؤ.

التنبُّؤ حادثٌ اجتماعي قد يتأثَّر بغيره من الحوادث ويُؤثِّر فيها، ومن بين هذه الحوادث الحادث المتنبَّأ به، قد يُساعِد التنبُّؤ بالإسراع في وُقوع هذا الحادث، وقد يُؤثِّر فيه على نحوٍ آخَر، بل قد يُؤدِّي إلى إحداث الحادث الذي تَمَّ التنبُّؤ به؛ بمعنى: أنَّ الحادث ما كان ليقع أصلاً لو لم يحدث التنبُّؤ، إنَّ العالم الاجتماعي قد يتنبأ مثلاً بأمرٍ ما وهو مدركٌ في الوقت نفسه أنَّ تنبُّؤه هذه سوف يكون سببًا في وقوعه، وقد ينفي وقوع حادثٍ ما في المستقبل فيمنع ذلك من حُدوثه، وإذا كان العالم الاجتماعي قد قال الحقَّ في الحالتين فلا يعني هذا أنَّه لم يخرج عن الموضوعيَّة؛ لأنَّه حين تنبَّأ (وجاء المستقبل مؤيِّدًا له) قد يكون عمل على الاتجاه بالحوادث في الوجهة التي يُفضِّلها شخصيًّا.

هذا، وقد اصطُلِح على تسمية الاتجاه الذي يقوم على: التجربة، أو الملاحظة، أو التجريب والاعتماد على: الخبرة الحسيَّة، والرياضيات، والإحصاء، واستِنتاج العلاقة بين مُتغيِّر وآخَر عند دراسة أجزاء من الواقع الاجتماعي (بالاتجاه الأمبريقي)، يجمع الباحثون المعلومات عنه من خلال إجراء مُقابَلات مع عددٍ من الأفراد يُختارون عبر عيِّنةٍ ما، ثم تُصنَّف إجاباتهم وتُنسَّق وتُرتَّب وتُحوَّل إلى بطاقاتٍ مثقوبة، ثم تُترجَم النتائج ترجمةً إحصائيَّة يُعبَّر عنها بنسب مئويَّة بهدف الوصول إلى نظريَّة تُركِّز على تَراكُم النتائج المُستَنبَطة من الدراسة الواقعيَّة لموضوعاتٍ مختارة.

دخَلَ هذا الاتجاه إلى بلادنا مع غُروب دور أساتذة الاجتماع التابِعين للمدرسة الإنجليزية والفرنسية، وظهور هذا الجيل التابع للمدرسة الأمريكيَّة ونزعتها الأمبريقية، وهكذا سارَت الدراسات العُليَا في بلادنا على نفس المنوال الذي تسير عليه في الولايات المتحدة؛ حيث يُسَيطِر الأساتذة سَيْطرةً كاملة على الطلاب الذين يُلقِّنونهم بأنَّ الأصالة هي صياغة مشكلة أو القدرة على اكتشاف جانبٍ منها، وأنَّ الكفاءة هي جمْع أكبر قدرٍ من المعلومات الجديدة والموثَّقة حول هذه المشكلة، ويُنبِّه على الباحث بأنْ يبذل مجهودًا مرضيًا في فحص الأدلَّة واستكمال البحث، والحصول على معرفة منظَّمة بالمشكلة والقضايا والمناقشات التي تدورُ حولها.

خُدِعنا بهذه الاتِّجاه الأمبريقي، وقالوا لنا: إنَّه أفضل الطرق الموافقة لرُوح العصر التي يمكن الحصول بها على نتائج واقعيَّة مستقلَّة عن أيِّ اتجاه مُعارِض لدِينٍ أو عقيدة، ثم اكتشفنا أنَّ هذه الأمبريقيَّة تستَنِد إلى ما يَسُود العلوم الاجتماعيَّة بوجْهٍ عام من اتِّجاه علماني، ومن اهتِمام بمسائل علمانيَّة، ولأنَّ الأمبريقيَّة تعتمد فقط على الأساليب الفنيَّة، فإنها ترفُض أيِّ فكر، وتبدأ من الواقع وتنتهي إلى الواقع، وترى بصراحةٍ (أنَّ كلَّ ما لا يخضع للتجريب فهو باطل).

سدَّ (لندبرج) - عالم الاجتماع المعروف الذي لُقِّب بنبيِّ العهد الجديد - الطريقَ أمام إنقاذ البشريَّة إلا من طريق تطبيق العلم الطبيعي ومناهجه على محاولات فهْم المجتمع، وكان من أشدِّ المتطرِّفين في هذا الاتجاه، وكان يخاطب الشاكِّين وغير المتحمِّسين لوُعُود العلوم الاجتماعية بقوله: "إنَّنا إذا لم نؤمن بالعلوم الاجتماعية فبمَن نؤمن؟".

إلا أنَّ علماء الغرب أنفسهم هاجموه وقالوا: إنَّه ترك الإنسان بلا أمل، وحوَّل قيمه وغاياته إلى نوعٍ من التوتُّرات التي تحتاج إلى تخفيفٍ... إنَّ الإنسان والمجتمع لا يمكن أنْ نُماثِلهما بجزئيَّات أو ذرَّات، ولا يمكن تمثيل سلوك الإنسان بحركة هذه الأجزاء، وإلاَّ فإنَّنا نُجرِّد الحياة الاجتماعيَّة من حيويَّتها وقيمتها.

ونستعرض هنا بعضًا من أقوال علماء الغرب الرافضة تطبيقَ مناهج العلوم الطبيعيَّة على الإنسان والمجتمع.

• قال (إلوود): "إنَّ مناهج العلوم الطبيعيَّة بما في ذلك الإحصاء لا تُمكِّننا من فهْم الظواهر الاجتماعيَّة".

• قال (وليم توماس): "إنَّ السلوك الإنساني يتَّصِف بالتعقيد والتنوُّع بحيث تُصبِح مقارنته بالظواهر الطبيعيَّة نوعًا من العبث".

• وأرجَعَ (باسي) فشَلَ العلوم الاجتماعيَّة الحديثة في دراسة الإنسان دراسةً كليَّة شاملة إلى حِرصها الشديد على تبنِّي الأساليب الوضعيَّة.

• أمَّا (فيلبسون) فقد قال: "إنَّ الظواهر الطبيعية تختلف عن الظواهر الاجتماعية اختلافًا بيِّنًا، وعالم الطبيعة يدرس أصلاً ظواهر لا تتَّخذ بناء معرفيًّا مسبقًا، فهي ظواهر لا تعرف القصد والإرادة، وعلاقته بهذه الظواهر علاقة خارجيَّة تختلف تمامًا عن علاقة العالم الاجتماعي بالظواهر التي يدرسها".

• ويقول (رد فيلد): "إنَّ هناك فارقًا بين ما هو إنساني وما هو غير إنساني، إنَّ دراسة الثقافة في ضوء مفاهيم الفيزياء تعني: تفتيت الإنسانية إلى أجزاء ليست هي الأفراد والجماعات، إنَّ تبنِّي نظريَّات ونماذج العلوم الطبيعيَّة وتطبيقها في المجال الاجتماعي يُصاحِبه تقدُّم في معرفتنا بالمجتمعات".

• وقال المؤرِّخ الشهير (ديلثي): "إنَّ علم الاجتماع لن يكون علمًا على الإطلاق، وإنَّ مناهج العلوم الطبيعيَّة التي تعتمد أساسًا على التفسير ليستْ كافيةً لفهم الظواهر الاجتماعيَّة فهمًا عميقًا"، وقال في موضع آخَر: "إنَّ هناك فارقًا كبيرًا بين العلوم الطبيعية التي تفسر ظواهرها من الخارج، والعلوم الاجتماعية التي تحاول فهم قَضاياها من الداخل؛ لهذا يبدو علم الاجتماع وكأنَّه بحث مصطنع يحاول دراسة المجتمع بالاعتماد على مناهج لا تصلح إلا لدراسة الطبيعة".

• وهاجم (هوسرل) سَيْطرة هذه النزعة المتطرِّفة التي أدَّت في نظره إلى تحوُّل العالم الحقيقي المتمثِّل في الحياة اليوميَّة إلى مجموعة من المقولات الرياضيَّة المجرَّدة.

• أمَّا (رايت ميلز): الذي قال عنه علماء الاجتماع: "إنَّه إذا كان القرن التاسع عشر قد أنجب ماركس وفيبر، فإنَّ القرن العشرين لم ينجب سوى ميلز"، فقد وجه انتقادات حادَّة للنزعة الأمبريقية السائدة في العلوم الاجتماعية وقال: "إنَّ علم الاجتماع بتبنِّيه لهذه النزعة الضيِّقة إنما يحكُم على نفسه بافتقاد تصوُّر حقيقي للإنسان والمجتمع، فبدلاً من محاولة الوصول إلى مثل هذا التصوُّر، يحاول الأمبريقيون تحويل علم الاجتماع إلى علم طبيعي يستخدم نفس المعادلات الرياضية الشائعة في الفيزياء... إنَّ الاتجاه الأمبريقي يحاول إخضاع الحقيقة الاجتماعيَّة للمعالجة الإحصائية والمعملية، وبجرْد المشاكل الاجتماعية من صِفتها السوسيولوجية ويفسرها بعوامل سيكولوجية".

هذا، وقد هُوجِمت الأمبريقية من زوايا أخرى مختلفة نذكر منها ما يلي:
أولاً: أنها تخلو من أيِّ قضايا لها قوَّة التوجيه، فتفتَقِد بذلك الرؤية الواضحة والفهم الجيِّد لطبيعة الإنسان والمجتمع، ولا تُقدِّم عنهما أيَّ حقائق، بل فشلتْ بصفةٍ عامَّة في إقامة علاقة قويَّة بين المعرفة والعمليَّات الاجتماعيَّة، وفصلت فصلاً شديدًا بين الواقع والقِيَم.

ثانيًا: تعمد الأمبريقية إلى التجزئة، فتدرس ظواهر معيَّنة منفصلة ومنزوعة من سياق المجتمع.

ثالثًا: تبسط الأمبريقية قوانين المجتمع لتصبح أقوالاً وقضايا تكراريَّة ليست على درجةٍ عالية من التعميم، فيتعذَّر تطبيقها على المشاكل الكبرى.

رابعًا: أنَّ الأمبريقية تُعبِّر عن موقفٍ إداري أكثر منه موقف عملي، فما تتمتَّع به من قوَّة إدارية تُخفِي ما تُعانِيه من نقصٍ عقلي، وقد انتقل البحث بالأمبريقية من الوحدات الكبرى إلى بحث الوحدات الصُّغرى، وهذا الاتجاه من شأنه أنْ يُؤدِّي إلى تصفيةٍ تدريجيَّة لعلم الاجتماع.

خامسًا: أنَّ محاولات إجراء دراسة أمبريقيَّة عن الواقع الاجتماعي تُشِير إلى أنَّ أصحابها لديهم تصوُّرات معيَّنة عنه؛ ومن ثَمَّ فإنَّ هذه الافتراضات السابقة سوف تُؤثِّر على طابع الدراسة التي يجرونها على الواقع، وأنَّه إذا كان الهدف الأسمى من علم الاجتماع هو اكتشاف طبيعة العالم الاجتماعي، فكيف يقوم ذلك على افتراضات مسبقة عن هذا الواقع؟!

إنَّ علماء الاجتماع سينظمون أبحاثهم في ضوء هذه الافتراضات المسبقة، وسوف يعتمد طابع علم الاجتماع عليها، وسوف يتغيَّر إذا تغيَّرت.

سادسًا: أنَّ النَّزعة الأمبريقية أغرقَتْنا في التفصيلات الوصفيَّة الجزئيَّة عندما اهتمَّت بمشكلات الإدارة والانحِراف والحراك الاجتماعي، لقد عجزتْ أنْ تُقدِّم - باستثناءاتٍ محدودة - إسهامًا حقيقيًّا في فهم البناء الاجتماعي.

سابعًا: عن الادِّعاء بإمكانيَّة الاستفادة من نتائج بحوث الدراسات الأمبريقيَّة في مشروعات رجال الأعمال وغيرهم، يقول علماء الاجتماع: "إنَّ علم الاجتماع عندما يُقدِّم خدماته لرجال الأعمال لا يستطيع أنْ يستخلص لهم نتائج على درجةٍ عالية من التخصُّص أو النوعيَّة ذات القدر من الثَّبات أو العموميَّة، بل يعجز عن تقديم نظرية مجرَّدة يمكن تطبيقها على نطاق المشروع".

ورغم فشل وسُقوط الأمبريقية في بلادها ومسقط رأسها، فإنَّ طلابنا وباحثينا لا يزال البعض منهم غارقًا حتى أذنيه في هذه الأمبريقية، ولا نجد بحثًا ولا رسالة إلا محشوة باستمارة استبيان وفُروض بحث، ومتغيرات مستقلَّة وأخرى معتمدة، وجماعة تجريبية وأخرى ضابطة، وجداول ورسوم بيانية ونسب مئوية، ومعاملات ارتباط.. إلى آخِر هذا المسلسل الذي لا يخرج البحث والرسالة منه إلا بنتيجة حقيقية واحدة وهي: (أنَّ النزعة العلمية في علم الاجتماع نزعة مزيَّفة).
ــــــــــــــــــــــ
المصدر:
حلقات من كتاب (اعترافات علماء الاجتماع، عقم النظرية وقصور المنهج في علم الاجتماع).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رد مع اقتباس
  #9  
قديم 10-09-2014, 08:01 AM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود غير متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 56,139
ورقة علم الاجتماع: بحوث سطحية وأخرى استعمارية

علم الاجتماع: بحوث سطحية وأخرى استعمارية
ــــــــــــــــــــــــ


اعترافات علماء الاجتماع
------------------

الحلقة التاسعة
----------

علم الاجتماع: بحوث سطحية وأخرى استعمارية
-----------------------------


تنقسم البحوث الاجتماعية التي تُجرَى في بلادنا إلى نوعين: بحوث عاديَّة محليَّة تُجرَى بجهدٍ وتمويلٍ محلي، وبحوث تُموَّل من الخارج تمَّت بعد الاتِّصال بين الجامعات والمؤسَّسات؛ مثل: هيئة المعونة الأمريكية، ومؤسسة فورد، وبين الجامعات المصرية والعربية.

وعن النوع الأول من هذه البحوث يعتَرِف رجال الاجتماع في بلادنا بما يلي:
أولاً: أنَّ مؤسَّسات البحث الاجتماعي تنشَأ دون هدفٍ واضحٍ، وتُنظَّم بأساليب بدائيَّة قاصرة، وتستغلُّ جُهد العامِلين بطريقةٍ عاجزة معيبة، وأنها لم تنجحْ في تناوُل القضايا الحيويَّة في المجتمع العربي بالتحليل، ولم تُوفَّق في دراسة ما عرضَتْ له من موضوعات.

ثانيًا: أنَّ البحوث الاجتماعيَّة ممسوخة ومُشوَّهة، تستخدم تقنيَّات البحث دُون تدقيقٍ أو إتقان، وتخرُج بنتائج لا تُسهِم في بَلوَرة أيِّ إطارٍ، ولا تُقدِّم أيَّ إضافة لبناء العلم، وتحطُّ من قُدرة علم الاجتماع وأهله.

ثالثًا: أنَّ البحوث الاجتماعية مُبَعثَرة وغير هادفة، وغير متكاملة مع قِطاعات المجتمع المختلفة، ولا تستمدُّ المشكلات الاجتماعيَّة من هذه القطاعات؛ ومن ثَمَّ لا تفيد في ترشيد أيِّ قرارات، ولا تلعب دورًا في تكوين وَعْيٍ اجتماعي على أساسٍ علمي، وليست مُوجَّهة أصلاً إلى مشكلات الجماهير، ولا تهدف إلى مُخاطَبتها بما تتضمَّنه من مفهومات ومصطلحات غامضة.

رابعًا: أنَّ البُحوث الاجتماعيَّة إمَّا جزئية، أو تدرس الأحداث بعد حُدوثها، أو تتناول القضايا ذات الطابع السلبي؛ كالجريمة، والطلاق، والمرض النفسي.

خامسًا: أنَّ الباحثين الاجتماعيين العرب قد أخَذُوا مفهوم المشكلات الاجتماعيَّة كما تجمَّد في الغرب الصناعي، وأوجَدُوا له تطبيقاتٍ عربيَّةً، وأنَّ الذي يُسَيطِر علي دِراسة المشكلات الاجتماعيَّة العربيَّة إشكاليَّات سطحيَّة في التراث الأدبي لعلم الاجتماع، وأنَّ الإشكاليَّات العربيَّة لم تخرُج عن أنماط سلوكيَّة وأفعال انحرافيَّة وقِيَم مرضيَّة.

سادسًا: قلَّما يكون لنتائج هذه البحوث دورٌ فعَّال في التخطيط للتنمية الاقتصادية والاجتماعية.

والآتي بعدُ هو تفاصيل هذه الاعترافات:
1- عن مؤسَّسات البحث الاجتماعي يقول عزت حجازي: "أمَّا مؤسَّسات البحث الاجتماعي فمُعظَمها ينشَأُ بدون هدفٍ عام واضح، ويُنظَّم بأساليب بدائيَّة قاصرة ولا تستقطب غير القليل جدًّا من العناصر القادرة على العَطاء، الواعِدة، ويستغلُّ جُهد العاملين بطريقةٍ عاجزةٍ معيبة؛ ولهذا فهي لم تنجَحْ في تناوُل القَضايا الحيويَّة في المجتمع العربي بالتحليل، بل ولم تُوفَّق في دِراسة ما عرَضتْ له من موضوعات".

2- عن المسْخ والتشويه في البحوث الاجتماعيَّة وإسهامها في الحطِّ من قدْر علم الاجتماع والمشتغِلين به يقول محمد الجوهري: "أمَّا البحوث الميدانيَّة فظلَّت أمَدًا بعيدًا على تخلُّفها، بل وتعرَّضت في بعض الأحيان للمسخ والتشويه؛ حيث اندفعَتْ بعضُ رسائل الماجستير والدكتوراه إلى استخدام تقنيَّات البحث دُون تدقيقٍ أو إتقان، وعجزت في أغلب الأحوال عن الرَّبط الناجح بين النظرية والبحث؛ إذ كان الباحث ينطلق إلى موضوعه دون رؤيةٍ نظريةٍ مسبقة، ثم ينغَمِس خِلال البحث في مفردات موضوعه وجزئيَّاته، ولا يرى الغابة التي يمشي وسطها من كثْرة الأشجار حولَه، فيخرج في النهاية بنتائج جزئيَّة لا تُسهِم في بَلوَرة أيِّ إطار، ولا تُقدِّم أيَّ إضافةٍ لبناء العلم، ولا ترفع علم الاجتماع وأهله درجةً إلى أعلى".

3- عن غُموض وبَعثَرةِ البُحوث الاجتماعيَّة، وعدم تكامُلها مع قِطاعات المجتمع، وعدم فائدتها في ترشيد أيِّ قَرارات، يقول عبدالباسط عبدالمعطي: "ويكاد يُلخِّص أحد الباحثين العرب علاقة علم الاجتماع في الوطن العربي بواقعه بأنَّها تُشِير إلى اغتراب البحث في علم الاجتماع عن مجتمعه كاغتراب عددٍ من القائمين به عن هذا المجتمع، وأنَّ الصفات الغالبة عليه تُشِير إلى أنَّ معظم البحوث مُبَعثَرٌ غير هادف، وغير مُتَكامِل مع قِطاعات الإنتاج والخدمات والسياسة والثقافة والتعليم... إلخ، فهو لا يستمدُّ مشكلاته البحثيَّة من هذه القطاعات، ولا يفيد في ترشيد أيِّ قَرارات فيها، غالبيَّة البحوث لا تلعَبُ دورًا في تكوين وعْي اجتماعي لدَى الجماهير على أساس علمي... عددٌ غير قليل منها ليس مُوجَّهًا أصلاً إلى مشكلات هذه الجماهير، ولا يهدف إلى مخاطبتها؛ لأنَّه يَكتُب بلغة الخاصَّة، لغة المفهومات والمصطلحات الغامضة التي لا تمتُّ بصلةٍ إلى واقع هذه الجماهير وخصائصها".

4- وعن جُزئيَّة البحوث الاجتماعيَّة ودِراستها للأحداث بعد حُدوثها وتركيزها على الموضوعات ذات الجانب السلبي، يقول سعد الدين إبراهيم: "أنْ تصفَ المُحاوَلات التي قامتْ في البلاد العربية في نِطاق البحث العلمي الاجتماعي لها إمَّا جزئية أو دراسة الأحداث بعد حُصولها، أو تناول القَضايا ذات الطابع السلبي من وجهة نظَر البنية الاجتماعيَّة؛ مثل: الجريمة والطلاق والمرض النفسي والتفكُّك والهجرة الريفيَّة الحضريَّة...".

5- وعن تناوُل الباحِثين الاجتماعيِّين العرب مفهوم المشكلات الاجتماعيَّة كما هو سائدٌ في الغرب الصناعي، وعن الإشكاليات السلبية السطحية المتكرِّرة التي يتناوَلونها، يقول سالم ساري: "تُسَيطِر على دِراسة المشكلات الاجتماعية العربية رغم حيويَّتها إشكاليَّات بحثيَّة سطحيَّة متكرِّرة تأخُذ شكل موضوعات مترسِّبة في التراث الأدبي لعلم الاجتماع، وقد أخَذ الاجتماعيون العرب مفهوم المشكلات الاجتماعيَّة كما تجمَّد في المجتمعات الغربية الصناعية... ووجَدُوا له تطبيقات عربيَّة، فلم تخرُج إشكاليات البحوث العربية بذلك عن أنماط سلوكيَّة وأفعال انحِرافيَّة وقيم باثُولوجيَّة، أو ظواهر مشكلة قابلة للملاحظة والقياس كاخْتلالات فردية واختلافات ثقافية أو وصمات اجتماعية".

6- وعن عدم فعاليَّة نتائج هذه البحوث في التخطيط للتنمية الاقتصادية والاجتماعية يقول سالم ساري: "إنَّ نتائج البحوث الاجتماعيَّة في البلاد العربية قلَّما يكونُ لها دور فعَّال في التخطيط للتنمية الاقتصادية والاجتماعية".

وتكشف اعتِرافات رجال الاجتماع في بلادنا بصفةٍ عامَّة عن أنَّ البحوث الميدانية سطحيَّة مبعثرة غير هادفة، زاخرة بالبيانات، تصدُر تباعًا، تُكتَب بلغة لا يفهمها إلا الخاصَّة، بالإضافة إلى أنها قُطريَّة تجزيئيَّة لا ترتبط بالسِّياق المجتمعي العام، تحتوي على مصطلحات غامضة لا يفهمها إلا أصحابها، لا تَمُتُّ بصلةٍ إلى واقع الناس أو حَياتهم، تقومُ على فكرةٍ من هنا وأخرى من هناك، ثم اختيار عيِّنة عَشوائيَّة عَمديَّة في مُعظَم الأحيان، ثم تصميم استمارة بغَضِّ النظَر عن مُلاءَمتها أو عدم مُلاءَمتها لموضوع البحث، ثم استِطراد في عرض جداول طوليَّة وعرضيَّة ونِسَب مئويَّة للبيانات.

بيانات هذه الاستمارة من صُنع صاحبها يصوغها ليُحاصِر بها المبحوث، وليُجِيب إجابات يريدها هو إمَّا بنعم أو لا.

يخرُج الباحثون بعد انتهاء بُحُوثهم بنتائج جزئيَّة لا تُسهِم في بَلوَرة أيِّ إطار، ولا تُقدِّم إضافة لبناء العلم، ولا تَرفَع علم الاجتماع وأهله درجةً أعلى، وهي في جُملتها تحصيل حاصل؛ لأنَّ الباحثين يلهَثُون لإثبات بدهيَّات ثابتة منذ زمنٍ بعيد.

يُجرِي الباحثون في بلادنا دِراساتهم إمَّا بعد فكرٍ مسبق مُستَنِدين إلى الأدوات البحثيَّة الشائعة في علم الاجتماع، أو يذهبون إلى المجتمع لدِراسته في ضوء نظريَّة أو نتائج بعض الدراسات التي تجمع أفكار العديد من الاتجاهات، أو يستخدمون نظريَّات سائدة في الغرب، أو نظريات لعلماء اجتماع بارزين.

الماركسيون منهم يدرسون المجتمع في ضوء الفكر المادي التاريخي، إمَّا بصُورته القديمة المرتكِزة على نصوص هذا الفكر مباشرة، ثم يُحاوِلون الإتيان من الواقع ما يثبت صدقها، وإمَّا يدرسونه في ضوء مقولات ونظريَّات وقَضايا الماركسيَّة المعدلة.

باحِثون آخَرون يدرسون مجتمعاتنا مُستَنِدين إلى خليطٍ من النظريَّات الغربية والمادية والتاريخية، وهناك مَن يُحاوِل دراستها مسترشدًا بالتقاليع الجديدة التي تُدعَى بالظاهراتية والإثنوميثودولوجيَّة.

تحت شعار شموليَّة المعرفة يدرس الباحثون في بلادنا قَضايانا ومَشاكلنا انطلاقًا من مفاهيم تولَّدت أصلاً في مجتمعات مُغايِرة لنا، فيصلون إلى نفْس الاستنتاجات التي تحقَّقت فعلاً في هذه المجتمعات.

ورغم هذا كلِّه فإنَّ البحوث التي أُجرِيتْ في بلادنا قد أثبتَتْ أنَّ النظريَّات التي اعتمدتْ عليها تحمل خَلَلاً، بدليل أنَّ النتائج التي توصَّلت إليها لم تُحقِّق مصلحةً، ولم تُعْنَ باتِّخاذ قَرارات ملائمة.

أمَّا بالنسبة لطُرُق وأدوات البحث التي استُخدِمتْ في هذه الدراسات، فإنَّ باحثينا قد توقَّفوا عن العَدْوِ الذي مارَسُوه فيها لسنين طويلة، وباتوا يتساءَلون: ماذا قطعنا من الطريق؟ وماذا حقَّقنا من نتائج؟ وما قيمة هذه النتائج؟ وإلى أيِّ مدًى أسهمتْ في تطوير المجتمع؟ وهل تسيرُ البحوث الاجتماعية في طريقٍ مستقيم، أم إنها تسير في مَتاهات لا أوَّل لها ولا آخِر؟ وهل استطاعوا صِياغةَ نظريات محكمة على أساس الرُّكام الضخم من البيانات التي جمعوها في السنين الماضية؟

اعتَرَف رجال الاجتماع في بلادنا بأنَّ المؤلَّفات العربيَّة في المنهج تعتَمِد على النقل الكامل من التراث الغربي؛ ولهذا نلاحظ خلطًا كبيرًا في المنهج في المؤلَّفات العربيَّة وتلك الغربية التي اعتمدتْ عليها واقتبستْ منها أفكارها وقواعدها وحتى أمثلتها.

سَلَّمَ رجال الاجتماع في بلادنا بأنَّ المداخل المنهجيَّة التي استخدَمُوها قاصرة، وأنَّ أدوات البحث معيبة وغير محايدة، تنتَمِي إلى سياقٍ حضاري مختلف عنَّا ولا تصلح للتطبيق في بلادنا، انتهت فقط إلى كمٍّ هائل من الحالات والجداول التي تتوزَّع عليها المعلومات، وكان ناتج الجهود التي بُذِلتْ قدرًا هزيلاً من المعلومات التي لا تُضِيف كثيرًا، وقد لا تُضِيف شيئًا إلى ما يعرفه الإنسان المُثقَّف، بل والعادي عن موضوع البحث.

الذي تحدثنا عنه هو النوع الأول من البحوث، أمَّا النوع الثاني فيشهد على صدق ما قاله (جاك بيرك) من أنَّ علم الاجتماع علمٌ استعماري منذ اللحظات الأولى التي استُخدِم فيها في بلادنا وحتى الآن، البحوث الأولى في علم الاجتماع كانت تُجرَى لخدمة مخططات الغرب وأجهزة مخابراته، سَواء لتسهيل دخول الاستعمار إلى بلادنا، أو جمع المعلومات المختلفة عنها لإعادة تركيب نظمها وحَياتها، والتأكيد على الفُروق العرقيَّة بين أبنائها، والعمل على إبراز الحضارة ما قبل الإسلاميَّة فيها، وتاريخ علم الاجتماع في المغرب العربي مثالٌ صارخٌ على ما نقول.

أمَّا اليوم فإنَّ عقول رجال الاجتماع في بلادنا تابعةٌ لعقول عُلَماء الاجتماع في الغرب، إنهم يفخَرُون بِمَن ذهب واستقرَّ منهم هناك واحتلَّ مكانه في خدمة الأهداف الغربية، وينظُرون إليه على أنَّه عالم فذٌّ قدَّرَه الغرب ويتمنَّون لو كانوا مكانه، ويندبون حُظوظهم وعدم تقدير بلادهم لهم ويُردِّدون دائمًا: "لا كرامة لنبيٍّ في وطنه"، وهم يسعدون لو تكرَّم عليهم الغربيون بنشر مقالاتهم في مجلاتهم، ويُقدِّمون المعلومات عن بلادهم طواعيةً واختيارًا وطمعًا أنْ يَرضَى الغرب عنهم.

نجح الغربيون إلى حَدٍّ كبير في توظيف الخبراء الاجتماعيين من بلادنا في هيئاتهم ومُؤسَّساتهم الدوليَّة منها بصفةٍ خاصَّة، ويُغدِقون عليهم بالدولارات لتقديم المزيد من المعلومات عن مجتمعاتهم.

يُجرِي الغربيون العديدَ من الدراسات عن بلادنا لخدمة أهدافهم السياسية والتي لا صلةَ لها بعلاج مَشاكِلنا، وإذا عُولِجت ففي ضوء مَصالِحهم السياسيَّة والاقتصاديَّة والغربيَّة.

البحوث الأجنبيَّة والمشتركة زادَ عددُها وتعدَّدت موضوعاتها، تبدأ عادة باتِّصال الجامعات الغربية بعددٍ من الباحثين في بلادنا، أو بتشكيل روابط بينها وبين جامعاتنا، وتنشط المؤسَّسات الغربيَّة هنا بصفةٍ خاصَّة وعلى رأسها هيئة المعونة الأمريكيَّة ومؤسسة فورد.

يشترك باحثونا في هذه الدراسات التي تُجرِيها هذه الجامعات أو هذه الهيئات، ويسيل لعابهم أمام العائد الدولاري الكبير، حتى الماركسيون منهم يشتركون فيها أيضًا ويرمون مبادئهم وَراء ظهورهم مُؤقَّتًا، ومنهم مَن يدَّعي أنَّه صاحب مبدأ يرفُض الاشتراك في هذه البحوث المموَّلة ذات العلاقة القويَّة بالمصالح والاحتياجات اليهوديَّة، والمرتبطة ارتباطًا قويًّا بأجهزة المخابرات الغربية، ولكن في قلبه حَسرة على الخلل الذي ترتَّب على اشتراك غيره فيها وإحجامه هو عنها.

لم يستَوعِب باحثونا أنَّ هذه البحوث ما هي إلا شكل آخَر من أشكال خدمة الأهداف الغربيَّة بعد أنْ افتُضِح أمر مشروع كاميلوت، الذي كان يقومُ بنفس هذا الدور في الماضي، والذين استوعبوا ذلك يهاجمونه لا لشيءٍ إلا لأنهم لم يشتركوا فيها، المهم هنا هو أنَّ باحثينا قد دافعوا عن اشتراكهم في هذه البحوث، وكانت حجَّتهم أنَّ الأمريكيين واليهود يحصلون على ما يريدونه من معلومات لأنَّ أعمالهم منشورة، ولأنَّ البحوث في بلادنا بحاجةٍ إلى تمويل وميزانيَّات حكوماتنا لا تكفي، وأنه لا بأسَ من تطوير عِلمنا بأموالهم.

المخطَّطات الغربيَّة تَمضِي قُدُمًا في تحقيق أهْدافها، وكان قد أُشِير في اجتماعات لجنة الشؤون الخارجيَّة بالكونجرس الأمريكي التي ناقَشتْ ما يُسمَّى بـ"الأصولية الإسلامية والتطرُّف الإسلامي" في عام 1985 إلى أهميَّة الدور الذي يجب أنْ تقوم به وكالة الإعلام الأمريكيَّة في الدعوة إلى التعرُّف على الثقافة والمجتمع الأمريكيَّين كأحد وسائل التحكُّم في مَسار الصحوة الإسلاميَّة، وقد عثرنا في عام 1991 على برقيَّة خطيَّة (سريَّة) من وزير التعليم العالي إلى مدير إحدى الجامعات في دولةٍ عربيةٍ تتعلَّق بدور هذه الوكالة، نصها فيما يلي:
"أشير إلى برقية... رقم... بتاريخ... نسخة من برقيَّة وزير الخارجية رقم... وتاريخ... بشأن مذكرة سفارة الولايات المتحدة الأمريكيَّة لدى... والمتضمِّنة الإفادة بأنَّ مجلس تبادُل العلماء الدولي الذي تَرعاه وكالة إعلام الولايات المتحدة الأمريكيَّة سيُقدِّم... منحًا للبحث العلمي خِلال العام الجامعي... وأوضحت السفارة أنَّ هذه المِنَحَ مُموَّلة بالكامل من قِبَلِ وكالة الإعلام، وأنها سوف تُقدَّم ضمن البرنامج الأمريكي لمنح البحوث، وتُوضَع بتصرُّف أساتذة الجامعات في بلدان الشرقَيْن: الأدنى والأوسط، وشمال إفريقيا، وجنوب آسيا؛ لإجراء بحوث في مواضيع متعلِّقة بدِراسة الثقافة والمجتمع الأمريكيَّين، ورغبَت السفارة الأمريكيَّة في توجيه الدعوة إلى أساتذة وباحثي الجامعات للاشتراك في هذا البرنامج".

هذا عن دِراسة الثقافة والمجتمع الأمريكيَّين، أمَّا عن برنامج بحوث الشرق الأوسط التابع لمؤسَّسة فورد، فنُورِد فيما يلي قائمةً بالأبحاث المطلوبة والتي يُموِّلها الأمريكيون كاملة، والتي حددتْ بوضوحٍ اعتبارًا من عام 1986:
برنامج بحوث الشرق الأوسط (merc)
قائمة بالأبحاث الممولة
الدورة الأولى (يونيو 1986):
"تأثير التغيرات في آراء الصفوة السياسيَّة على تحوُّلات السياسة الخارجيَّة المصريَّة: 1970-1977" مصر.

"العرب واليونسكو: دراسة للسياسة الإقليمية في منظمة دولية" مصر.

الدورة الثانية (ديسمبر 1986):
"الرايخ الثالث وفلسطين: 1933-1945" الضفة الغربية.

"الدولة في الشرق الأوسط" تركيا.

"تنظيم جماعات أصحاب العمل والعمَّال في تركيا" تركيا.

"تدخُّل القُوَى العظمى في القرن الأفريقي" السودان.

"التشريعات والتنمية في مصر: 1971-1986" مصر.

"نظام الحزب الواحد في إفريقيا: بين النظرية والتطبيق" مصر.

"دور المعتقدات والإدراك الذاتي: دراسة حالة عبدالناصر والسادات" مصر.

"دور ومستقبل حزب الوفد الجديد في إطار الحياة السياسية المصرية" مصر.

"أثر الهجرة للعمل بالدول العربية على البناء الاجتماعي للقرية: دراسة إنثروبولوجية لبعض قرى مصر والسودان" مصر.

"الاتِّفاقيَّات الدوليَّة التي تكون الدول العربية طرفًا بها" تونس.

الدورة الثالثة (يونيو 1987):
"دور الإسلام في السياسة التركية منذ عام 1980" تركيا.

"الإسلام الأصولي في تركيا" تركيا.

"ما قبل وما بعد الكساد البترولي: تأثير انخفاض اقتصاديات البترول على الهجرة والتحول الاجتماعي في قرية مصرية" مصر.

"أزمة النظام الإقليمي العربي في الثمانينيَّات" مصر.

"دراسة مقارنة للمعارضة السياسة في تونس والمغرب: 1975-1985" مصر.

"السياسية التعليمية ودور المدارس المصرية في التنشئة السياسية" مصر.

"الأبعاد الجديدة لمشكلة الجنوب والقضية الوطنية في السودان" السودان.

الدورة الرابعة (ديسمبر 1987):
"الأيديولوجية والسياسة خلال التحول في السياسات الاقتصادية في تركيا: 1980-1987" تركيا.

"التطوُّر الاقتصادي في تركيا ومصر بين 1970-1985: دراسة مقارنة" تركيا.

"تنظيم العلاقة بين الدِّين والسياسة في الأنظمة العربية المعاصرة - بحث مقارن في مفهوم عربي للعلمنة وفي سبل احتواء النزاعات" لبنان.

"تعظيم المكاسب: الإدارة الأمريكية للنزاع العربي الإسرائيلي: 1973-1988" مصر.

"سياسة العُنف في محتوى إفريقي: دراسة لحركة جيش التحرير الشعبي السوداني" السودان.

الدورة الخامسة (سبتمبر 1988):
"الدولة والشبكات السياسية والإستراتيجية الاقتصادية الجديدة في تركيا" تركيا.

"التحوُّل الاجتماعي الاقتصادي والدولة والنُّظم السياسية في مصر وتركيا" مصر/تركيا.

"سياسة التعاون وإدارة الصراع في البحر الأحمر: دراسة حالة السودان والمملكة العربية السعودية" السودان.

الدورة السادسة (ديسمبر 1988):
"العلاقة بين القُوَى العُظمَى والنُّظم الإقليمية العربية 1955-1970" لبنان.

"التحوُّل الريفي في تركيا: بين المكاسب والخسائر" تركيا.

"العمل الجماعي والتجمُّعات الشعبية: عشرون عامًا من التغيُّر في الضفة الغربية" الضفة الغربية.

"دراسة في دور نادي باريس في مصر في ضوء وظائفه التاريخية والعالمية" مصر.

"حصار بيروت في 1982: دراسة حالة لحرب محدودة كما عاصَرها شاهد عيان عاش في لبنان ما بين 1973-1988" مصر.

"الهجرة الدولية والاستفادة من الرقعة الحضرية في المغرب - حالة ناضور" المغرب.

الدورة السابعة (يونيو 1989):
"جدلية الحرية والقهر: النزاع العربي حول فلسفة السلطة" لبنان.

"أزمة الحوار السياسي الحديث: قراءة في تجربة مصر الليبرالية: 1920- 1935" المغرب.

"الإسهام المرتقب للأشغال اليدوية والصناعات الصغيرة في الإصلاح البنائي في السودان" السودان.

"الانقلابات العسكرية في تركيا في فترة ما بعد الحرب، من وجهة نظَر الأحزاب اليمينية" تركيا.

"صحوة الحركة النسائية في مصر في السبعينيات والثمانينيات" مصر.

"النظرة الإسلامية للغرب في الفكر العربي المعاصر" لبنان.

"عودة مصر إلى التكامل في الاقتصاد السياسي الدولي، السياسة التصديريَّة والأداء التصديري خلال سياسة الانفتاح منذ عام 1973" لبنان.

"التعدُّدية الحزبية والتنمية السياسية في مصر 1976-1990" مصر.

الدورة الثامنة (يناير 1990):
"القدوة: دليل السلوك والوعي السياسي: الصراع حول مكانة المرأة في مصر" مصر.

"تنمية جنوب السودان" السودان.

"دراسة حول الديمقراطية في تركيا: المؤسَّسات السياسية" تركيا.

"الاستمرار والتغيير في السياسة الخارجية التركية تجاه الاتحاد السوفيتي" تركيا.

"العلاقات التجارية بين مصر والسوق الأوروبية المشتركة: تقييم الواقع واستقراء المستقبل" مصر.

"تأثير السياسات التحرُّرية على القطاع الصناعي الحضري: دراسة حالة أنقرة" تركيا.

--------------------------------------------------
رد مع اقتباس
  #10  
قديم 10-09-2014, 08:04 AM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود غير متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 56,139
ورقة الأساس الإلحادي للنظريات المعاصرة في علم الاجتماع

الأساس الإلحادي للنظريات المعاصرة في علم الاجتماع
ــــــــــــــــــــــــــــــ


اعترافات علماء الاجتماع
---------------

الحلقة العاشرة
----------

الأساس الإلحادي للنظريات المعاصرة في علم الاجتماع
-----------------------------------------

ما من دراسةٍ أو مقولة يكتُبُها رجال الاجتماع في بلادنا عن الدِّين إلا وبين أعيُنهم (كارل ماركس) و(إميل دوركايم) و(ماكس فيبر)، وما من محاولةٍ يريد أنْ يُظهِر فيها رجال الاجتماع في بلادنا سعةَ اطِّلاعهم وثقافتهم في قَضايا الدِّين، إلا ونجد بين أيديهم (روبرت بيلا) و(بيتر بيرجر) و(تورين) و(بكبرنغ) و(غريتر) و(لكمان) و(يار سونز) و(كنجزلي دافيز) و(جلوك).

نصوص القُرآن والسنَّة عندهم - كما أوضحنا من قبلُ - نصوصٌ مجرَّدة في كتبٍ صَفراء قديمة عفا عليها الزمن، لا تَرقَى إلى مستوى نصوص هؤلاء العلماء، قُرآننا وسُنَّتنا، عقيدتنا وشعائرنا أخضَعَها رجال الاجتماع في بلادنا للتحليل وفقًا لكلِّ ما يصدر من أفواه هؤلاء العُلَماء وأقلامهم دون فَحصٍ ولا نقدٍ ولا حذر[1].

ويمكن هنا إجمالُ خمس حَقائِقَ في هذا الصدد:
أولاً: أنَّ هذه الآراء والنظريَّات التي اعتَمَدَ عليها رجال الاجتماع في بلادنا في فهْم الدِّين والإسلام آراء ونظريَّات إلحاديَّة باعتراف عُلَماء الغرب أنفسهم.

ثانيًا: تقوم آراء عُلَماء الغرب ونظريَّاتهم على القاعدة العامَّة التي تَسُود الحياة الغربيَّة وهي: فصْل الدِّين عن العِلم، وهذه القاعدة - كما أوضَحْنا مِرارًا - لا أساسَ لها في الإسلام؛ ومن ثَمَّ يكون أيُّ نقل أو تطبيق لهذه الآراء الغربيَّة على الإسلام إنما يُعبِّر عن جَهالةٍ تَفُوقُ الحدَّ في فهْم حقيقة هذا الدِّين، وتقديس أعمى لكلِّ ما يَصدُر من أعداء هذا الدِّين.

ثالثًا: أنَّ محاولات عُلَماء الاجتماع سدَّ الفجوة القائمة عندهم في الغرب بين الدِّين والعلم بالتأكيد على أهميَّة الدِّين تارةً، وبعزْله عن بعض مَيادِين العلوم الاجتماعيَّة تارةً أخرى، وبرفْض الهجوم عليه تارةً ثالثة، إلى غير ذلك من المحاولات التوفيقيَّة - لم تنجحْ، وقد أقرُّوا بأنَّ الصراع بين الدِّين والعلم عندهم لم ولن ينتهي؛ لأنَّ كلَّ هذه المحاولات تصرُّ على أنْ تنكر أنَّ (الدين وحي من الله)؛ ولهذا فإنَّ محاولات بعض رجال الاجتماع في بلادنا الذين يستَنِدون إلى بعض المقولات الغربيَّة التعاطفيَّة مع الدين لنفي الإلحاد عن عُلَماء الغرب، لا تكشفُ إلا إمَّا عن جهلٍ مُطبِق بحقيقة النظريَّات الغربيَّة، أو محاولة لخديعة طلابهم وقُرَّائهم حِفاظًا على أوضاعهم ومكانتهم.

رابعًا: قامَ عُلَماء اجتماع الغرب بالتطبيق الفعلي لآرائهم وأفكارهم وعرَضُوها على جماعاتٍ نصرانية مُتَديِّنة، فأدَّى الأمر إلى انهِيار هذه الجماعات انهِيارًا كاملاً.

خامسًا: لا يستطيع رجال الاجتماع في بلادنا الادِّعاء بأنهم مؤمنون، وأنهم يَفصِلون بين رأيهم الشخصي في الدِّين ورأيهم المهني كما جاء في نظريَّات علم الاجتماع، وأنَّه بإمكانهم الحِفاظُ على الفصل بين الرأيَيْن؛ لأنَّ الذي يؤمن بالدِّين عليه أنْ يدافع عنه وأنْ يُوثِّق حقيقةَ أفكاره ويُجابِه إلحادَ هذه النظريَّات، ولسنا نحن الذين نقول ذلك فقط، إنهم أيضًا علماء الغرب.

من هذه المُنطَلقات الخمْس أردْنا أنْ نكشِف للقارئ حقيقةَ اهتزاز الأساس الفكري في العلاقة بين الدِّين وعلم الاجتماع في الغرب، وأنَّ رجال الاجتماع في بلادنا لا ينقلون لنا إلا النظريَّات الإلحاديَّة، والتأكيد على الصراع بين الدِّين والعلم، مع إصرارهم المُستَمِيت على تفكيك الدِّين حتى يتسنَّى لهم السَّيْطرة على تنظير الحياة والعلاقات الاجتماعيَّة وتفسيرهما، وأنَّ على رجال الاجتماع الذين يُحاوِلون التوفيقَ بين الإسلام ونظريَّات علم الاجتماع، أو الذين يُحاوِلون نفي الإلحاد عن هذه النظريَّات، أو التخفيف من حِدَّته حتى يكفُّوا عن محاولاتهم؛ لأنَّ علماءَ الغرب أنفسَهم قد أقرُّوا بإلحاد هذه النظريَّات.

يُلخِّص عُلَماء الاجتماع الغرب موقف النظريَّة الاجتماعيَّة من الدِّين بقولهم: "فيما يتعلَّق بالحقيقة الدينيَّة نفسها تقرُّ النظريَّة العامَّة في علم الاجتماع ضمنيًّا بالإلحاد".

يقرُّ علماء الاجتماع بأنَّ نظريَّاتهم التقليديَّة عن الدين إلحاديَّة، وتُجاهِر بالعداء للدِّين، كما يقرُّون أيضًا بأنَّ نظريَّاتهم الحديثة وإنْ كانت غير معادية للدِّين فإنها إلحاديَّة أيضًا.

عكست النظريَّات الأولى في علم الاجتماع آراء مُفكِّري عصر التنوير الثائرين على الدِّين، وبالرغم من اختلاف محتوى هذه النظريَّات، فإنها اتَّفقت في توجيه اتهامين (للدِّين) بصفةٍ عامَّةٍ (وللنصرانيَّة بصفة خاصَّة):
أوَّل الاتِّهامَيْن: أنَّ التعاليم الدينيَّة ليست صحيحةً.

والثاني: أنَّ الدِّين شجَّع على القِيام بالعديد من الشعائر التي تَحُول دون رفاهية البشر، وخُلاصة ما انتهَتْ إليه تلك النظريَّات هو أنَّ الدِّين ليس بالشيء الحسَن ولا بالشيء الحقيقي وفقًا لمستويات عصر التنوير.

وفي الوقت الذي تَدَّعِي فيه تلك النظريَّات التقليديَّة أنَّ الأفكار الدينيَّة زيف ووهْم، فإنَّ النظريَّات الحديثة تُحاوِل تجنُّب مسألة حقيقة الدِّين، لكنَّها تُغذِّي في الواقع هذه التحليلات التي تُحقِّر من أيِّ رؤيةٍ جدِّية للأفكار الدينيَّة، وتنظُر إليها على أنها غير حقيقيَّة، وأقرَّتْ هذه النظريَّات بأنَّ الاتِّهامَيْن اللذَيْن وجَّهتْهما النظريَّات التقليديَّة للدِّين غير مقبولين كافتراضَيْن علميَّين، فردَّت على الاتِّهام الأوَّل بأنَّ منهج العلم الحديث لا يقدم أحكامًا قيميَّة، وأنَّه يجب أنْ يكون خاليًا؛ أي: محايدًا.

وردَّت على الاتِّهام الثاني بالقول بأنَّ الأفكار الدينيَّة تنتَمِي إلى مجالٍ من الواقع ليس في مُتناوَل البحث العلمي.

اعترف علماء الاجتماع الغرب باهتزاز الأساس الفكري للعلاقة بين الدِّين وعلم الاجتماع منذ لحظة تأسيس العلم، يقول (بنتون جونسون): "كيف يمكن أنْ نقول: إنَّ هناك التقاءً بين الدين وعلم الاجتماع على أساس ادِّعاء عُلَماء الاجتماع بأنَّ عِلمَهم محايد، لا يقول شيئًا من الدِّين أو ضده، في حين أنَّ نظريَّاتهم تتضمَّن أحكامًا غير حياديَّة عن الدِّين...

إنَّ النظريَّات العامَّة لعلم الاجتماع وإنْ كانت تقرُّ ضِمنيًّا بالدِّين أو ببعض مَظاهِره على الأقلِّ، فإنها تقرُّ ضِمنيًّا بالإلحاد أيضًا؛ لهذا لا نعجب إذا وجدنا أنَّ هذه النظريَّات تُلزِم العُلَماء بالقول بأنَّ كثيرًا من الأمور الدينيَّة طيِّبة بالرغم من أنَّ أفكاره الأساسيَّة ليست حقيقيَّة".

هذا هو موقف نظريَّات علم الاجتماع من الدِّين، ولكنْ هل يمكن لرجال الاجتماع في بلادنا أنْ يَدَّعوا بأنهم مؤمنون في الوقت الذي يعترفون فيه بإلحاد نظريَّات علم الاجتماع؛ أي: أن يقولوا بأنَّ لهم رأيًا شخصيًّا في الدِّين يختلف عن رأي علم الاجتماع، وأنهم يستطيعون الاحتفاظ بالفصل بين الرأيَيْن؟

إنَّ عُلَماءَ الغرب أنفُسَهم يَرفُضون ذلك؛ يقول (جونسون): "من الصعب أنْ يقرَّ الإنسان بطريقة حياةٍ بينما يعتقد أنَّه ليست هناك أسباب معقولة لعَيْشها، فإذا رأى أحدهم أنَّ الدِّين أمرٌ حقيقي، فإنَّ ذلك مُبرِّرٌ كافٍ للتمسُّك به، وعليه أنْ يُقنِع الآخَرين به، وإذا ادَّعى بأنَّ الدِّين غير حقيقي، فلن يكون هناك مُبرِّرٌ للتمسُّك به، وعليه أنْ يبحث عن تبريرٍ جديدٍ لطريقة الحياة التي كان يُؤيِّدها المعتقد الديني، أو عليه أنْ يبحث عن طريقةٍ أخرى للحياة غير قائمة على الدِّين ولكنْ على أسبابٍ يَرى أنها مقبولة، فإذا كان قلب الإنسان ينبض بالإيمان، فإنَّه يجب أنْ يبحث عن الكيفيَّة التي يُدافع بها حقيقة أفكاره".

هذا، وقد كُنَّا أشرْنا من قبلُ إلى ما يُعرَف بالمنظور الوظيفي للدِّين، الذي يعترف بوظيفة الدِّين في المجتمع، لكنَّه يُنكِر حقيقته في الوقت نفسِه.

وهناك من عُلَماء الغرب مَن حاوَل سدَّ الفجوة بين الدِّين والعلوم الاجتماعيَّة، فدافَعُوا عن الدِّين، ولكنْ على أساس أنَّ العلم فوق الدِّين، ومنهم مَن اقترَحَ عزل الدِّين عن بعض الميادِين في العلوم الاجتماعيَّة.

وواضحٌ هنا أنَّ كلَّ هذه الدفاعات عن الدِّين تقوم على المسلَّمة السائدة في الغرب بصِراع الدِّين مع العلم، وبأنَّ الدِّين أدنى؛ ومن ثَمَّ يكونُ لُجوء رِجال الاجتماع في بلادنا إلى الدِّفاع عن الإسلام في ضوء هذه الاتِّجاهات الغربيَّة ليس في محلِّه؛ لأنَّ العلم لم يستَطِع أنْ يُقدِّم لنا إلى اليوم أيَّ حقيقة علميَّة تُخالِف أيَّ جزئيَّة من جزئيَّات العقيدة الإسلاميَّة، يُضاف إلى ذلك أنَّ هؤلاء العلماء لم يكونوا يُدافِعون عن (حقيقة الدِّين)، فهم لا يؤمنون بها، بل أكَّدوا أنَّه من الضروري تجنُّب هذه القضيَّة وتركها بلا حلٍّ، وأنْ يتركَّز الدفاع عمَّا يُسمُّونه (بصورة الدِّين الإنسانيَّة وغير الحتميَّة)؛ بمعنى: أنَّ الدِّين ضروري؛ لأنَّه يُعطِي أملاً لهؤلاء الذين يُواجِهون مشكلات ومَصائِب في حَياتهم، كما يُعطِي شرعيَّةً لهذه القِيَم المشتركة بين أفراد جماعةٍ ما، ويُساعِد على استِقرار مَجرَى التغيُّر الاجتماعي والنموِّ النفسي.

تصدَّى (وليام كولب) وهو أحد عُلَماء الاجتماع النصارى لنقْد النظرية المعاصِرة عن الدِّين، ورفَضَ ادِّعاءاتها بأنَّ القِيَم ليس لها وجود حقيقي، وبيَّن أنَّ عُلَماء الاجتماع يُناقِضون أنفُسَهم بقولهم ذلك، ثم قولهم: إنَّ القِيَم أمرٌ جوهري للحياة الاجتماعيَّة، وإنَّ القِيَم لكي تكون مُلزِمةً فلا بُدَّ أنْ يعتقد الناس أنها صحيحة، وقال (كولب): إنَّ علماء النظريَّة المعاصرة لا يمدُّوننا بأيِّ أساس نعرف منه نوع القِيَمِ التي يُؤيِّدونها، وهم يرَوْن في الوقت نفسِه أنَّه ليس للقِيَم أيُّ صدقٍ في الحقيقة.

يؤمن (كولب) بأنَّ الدِّين أساس القِيَم؛ لذلك هاجَم موقف النظريَّة المعاصِرة وادِّعاءاتها بأنَّه يكون للإنسان أسطورة (أي: معتقد ديني)، ولكنَّ هذه الأسطورة (وهم)، ورأى أنَّ موقف هذه النظريَّة قد أوقعَتْها في مشكلة أخلاقيَّة؛ فهي من ناحية قد خربت الالتزام القيمي الذي يحتاجُه المجتمع، ومن ناحيةٍ أخرى حكَمتْ على القيمة الدينيَّة بأنها وهمٌ من جانبها هي وليس كما يَراها الناس.

انتَقَد (كولب) رأي (دافيز)، وهو أحدُ عُلَماء الاجتماع الذين قالوا بأنَّ "العالم الغيبي عالم زائف، لكنَّه يجب أنْ يكون حقيقيًّا بالنسبة لِمَن يؤمن به".

قال (كولب) في ذلك: "إنَّ مثل هذا القول لدافيز مثالٌ صارِخٌ للاعتراف الواضح الصريح بالأساس الإلحادي للنظريَّة المعاصرة عن الدِّين".

ورغم وَجاهة وانتقادات (كولب) وتوجيهه نظَرَ عُلَماء الاجتماع بأنَّ مجال العلم محدود، وأنَّ هناك أنماطًا أخرى من المعرفة وَراء هذا العالم، فإنَّ النصرانيَّة لم تُسعِفه أكثر من ذلك.

استَطاع (كولب) أنْ يُحلِّل التناقُضات داخل النظريَّة المعاصرة، لكنَّ غِياب الإسلام عنه وعن علماء الاجتماع أفقدَهُم القُدرة على رؤية البديل أو الأرضيَّة الجديدة لحلِّ القضيَّة.

يُضاف إلى ذلك أنَّ دِفاع (كولب) عن الدِّين لم يكنْ ناجمًا عن اعتقاده القاطع بحقيقته؛ إذ تبيَّن لنا أنَّه صرَّح في مقابلةٍ له مع (مارلين ماني) في يونيو 1968 ما نصُّه: "دَعِيني أقول أولاً بأني لم أقلْ بأنَّ الدِّين شيء طيِّب"[2].

وهناك عُلَماء اجتماع آخَرون امتدَحُوا الدِّين والجهود التي تُبذَل لتفسيره، ولكن ليس كوحيٍ من الله، وإنما في حُدود أنَّه انعكاسٌ لعوامل نفسيَّة واجتماعيَّة، إلى درجةٍ وصلتْ بتأييد البعض منهم نجاحَ عالِم الاجتماع (بارسونز) في ترقية الدِّين من درجة (الوهم) إلى درجة (الانحراف الضروري).

هذا، ويُعطِي علماء الاجتماع لأنفُسهم الحقَّ في تقدير مَدَى الصدق الممكن في الأفكار الدينيَّة، بل يدَّعون أنهم على كَفاءةٍ تامَّة في ذلك، وخاصَّة في الأمور التي تتعلَّق بعلاقة الله مع الناس، أمَّا (شبرد) فقد رفض محاولات علماء الاجتماع المعاصِرين عَقْدَ مصالحة مع الدِّين، وهاجَمَها بقوله: "إنَّ هذه المحاولات التوفيقيَّة ليست وهميَّة فقط ولكنَّها مُخادِعة أيضًا، وإنها لم تستَطِع تَحدِّي مُعارِضي الدِّين ولا مواجهة قَضايا الحقيقة الدينيَّة... إنَّه ليس من المنطقي أنْ يمتدح علماء الاجتماع الاتِّجاهات الدينيَّة بينما يرفضون أيَّ مفهوم عن العالَم العلوي والغيبي، وإنَّه لكي نقول: إنَّ الصراع القديم بين العلم والدِّين قد انتهى فإنَّنا نكون مُفرِطين في التفاؤل".

أردنا من عرضنا السابق بيان ما يلي:
1- أنَّ النظريات القديمة والحديثة في علم الاجتماع عن الدِّين نظريات إلحاد.

2- أنَّ رجال الاجتماع في بلادنا لا يكتبون عن الدِّين وعن الإسلام إلا في ضوء هذا المنظور الإلحادي.

3- أنَّ الإسلام كما هو غائبٌ عند رجال اجتماع الغرب، غائب أيضًا عند رجالنا، وكلا الفريقين لا يستثني الإسلام عن هذا المنظور الإلحادي.

4- أنَّ محاولات الدفاع عن الدِّين عند علماء الاجتماع في الغرب والتي تبعهم فيها رجالنا، لا ترفع الدين أبدًا على أنَّه وحي من الله، بل تتَّفق جميعها على إنكار العالم العلوي والغيبي، وتنظُر إلى الدِّين على أنه ضرورة نفسية اجتماعية ووهم لا بُدَّ منه.

هناك عالِمان غربيَّان بارزان مُعاصِران لا تكاد تخلو مقالة أو مقولة لرجال الاجتماع في بلادنا عن الدِّين إلا وأفكار هذين العالمين تسيطر عليهما وتصبغ بهما الإسلام، هذان العالمان هما (بيتر بيرجر) و(وروبرت بيلا)؛ لهذا أردنا أنْ نُبيِّن للقارئ مَن هما، وما هي حقيقة أفكارهما:
أولاً: بيتر بيرجر:
هو واحدٌ من أبرز علماء الاجتماع الأمريكيين المعاصِرين الذين كتبوا عن الدِّين، كتب عنه (جريجوري بوم) مقالةً صدَّرها بعنوان: "عالم الدِّين المثير للغز، بيتر بيرجر السيمفونية التي لم تنتهِ بعد".

وصفه (بوم) بأنَّه مفكِّر إنساني أصيل، وأنَّه ليس بعالم اجتماع فقط، وإنما رجل أخلاق أيضًا، يكتب كمفكرٍ نصراني يقبض على المسلَّمات النصرانية، لكنه رجل لدين أيضًا يعكس معتقده النصراني على مستخلصاته السوسيولوجية[3].

دعا (بيرجر) النصارى الأمريكيين في عام 1975 إلى العودة إلى الله وإلى الكتاب المقدَّس، وقال في كتابه "الظل المقدس": "إنَّ الجنس البشري لن يتقدَّم بلا دين".

وكان بالإضافة إلى ذلك مُناصِرًا للدِّين على عكس غيره من العلماء، وكان يقبل النظرة القائلة بأنَّ العلم لا يستطيع تطبيقَ طرقه التجريبية على المجال الروحي.

يظنُّ القارئ أنَّه بعد هذه المقدمة أنَّه سيقرأ شيئًا ذا قيمة قاله هذا العالم عن الدِّين، وأنَّ اعتماد رجال الاجتماع في بلادنا على كتاباته قد يكون لها ما يُبرِّره، إلا أنَّ القارئ سوف يفاجأ بعكس ذلك تمامًا، وأنَّ هذا العالِم لم يقلْ إلا الإلحاد بعينه، وهذا الإلحاد هو الذي نقَلَه رجال الاجتماع إلينا في بلادنا، ويمكن توضيح ذلك على النحو التالي:
1- أصدر كتابه "الظل المقدس" الذي يعتبره العلماء من أكثر كتبه احتقارًا للدِّين رغم قوله فيه: "إنَّ الجنس البشري لن يتقدَّم بلا دِين".

2- رأى أنَّ فهم الدِّين يجب أنْ يقوم على افتراضاتٍ إلحاديَّة واضحة.

3- الدِّين عنده اختراعٌ إنساني؛ لأنَّ الناس - في رأيه - هم الذين ينتجون الدِّين، وهم الذين يُعِيدون إنتاجه.

4- الدِّين عنده يحطم تصوُّرات الناس عن أنفُسهم، وهو زيف وعيهم الثقافي والاجتماعي.

5- اختلف مع العلماء الذين يقولون: إنَّ الدِّين والأفكار الدينيَّة أشياء حقيقيَّة، وتمسَّك برأيه أنها كلها زيف ووهم.

6- نظَر إلى الدِّين على أنَّه تجربة من أقدم تجارب الدِّين الإنساني، وقال: إنَّ من شأن هذه التجربة أنْ تجعل الحياة تافهة ونسبيَّة.

7- رأى أنَّ الخبرات الدِّينيَّة ذات نمطٍ واحد نسبي عبر التاريخ، لكنَّها ذات صور مُتعدِّدة، وقال: إنَّ فكرة ما فوق الطبيعي (الله.. الملائكة.. الجن.. إلخ) فكرةٌ لم يعدْ لها وجدان الآن في الفكر الديني الحديث، وأنَّ التجربة الدينيَّة أصبحت مواجهة مع الله أو تحدٍّ له (تعالى الله عمَّا يقول).

8- أكَّد على العلمانيَّة، وقال: إنَّه إذا كان هناك آخَر يتحدَّانا (أي: الله)، فإنَّه يجب أنْ يتحدَّانا باستمرارٍ كما كان يفعل من قبل، ورأى أنَّ الروح العلمانية هذه قد سرَتْ وجعلت من الصعب على كثيرٍ من الناس الاعتراف والإقرار بحقيقة الدِّين.

9- الشعائر الدينيَّة عنده (كالصلاة والصوم والحج) ما هي إلا ردُّ فعل ناتج عن الخوف المتولد من المواجهة مع الله.

10- نادَى بضرورة انتهاج المؤسَّسات الدينيَّة نهجًا صوفيًّا وروحيًّا خالصًا، وعليها أنْ تُحوِّل أنشطتها إلى شيءٍ مفيد اجتماعيًّا مثلما فعلت من قبلُ؛ ويعني بذلك: أنْ تصبغ الواقع (أيًّا كان) بصبغة دينيَّة.

بعد أنْ دمَّر (بيرجر) الدِّين واعتبره إسقاطًا نفسيًّا اجتماعيًّا، وأنَّ الناس يدينون به بسبب حاجات نفسية واجتماعية، اتَّجه إلى علم الاجتماع وإلى علماء الأديان، وأصرَّ على أنَّ على علم الاجتماع أنْ يثبت على ما يسميه (بالإلحاد المنهجي)، وقدَّم اقتراحًا لعلماء الأديان رأى أنَّه سيساعده في اكتشاف أرضيَّة جديدة للحقيقة الدينيَّة، وخُلاصته: أنْ يبدأ العُلَماء عملَهم مع (الإنسان) لا مع (الله)، وأنَّ عليهم ألا يتجاهلوا النتائج (الإلحاديَّة) التي توصَّلتْ إليها العلوم الاجتماعيَّة، وعليهم أيضًا أنْ يُكيِّفوا أديانهم مع الفكر الحديث، وطالَبَه بالدراسة الجادَّة لتاريخ الدِّيانات، ومحاولة اكتشاف العموميَّات المشتركة التي تعبِّر عن الإسقاطات الإنسانيَّة في الدِّين.

هذا، وقد حاوَل بعض علماء الاجتماع الآخَرين المقارنة بين نظريَّة (بيرجر) عن الدِّين ونظريَّة عالِمين آخَرين لهما الاتجاه نفسه وهما: (أنتوني) و(روبنز)، فانتهوا إلى أنَّ العلماء الثلاثة قد اعترفوا بدعوتهم إلى حتميَّة الانتقاص من قدْر الدِّين، وأنَّ (بيرجر) لم يستبعد مطلقًا افتراض علماء الاجتماع بأنَّ الدِّين إسقاط إنساني؛ بمعنى: أنَّه ليس وحيًا من الله.

كلُّ ما قام به (بيرجر) في نظر علماء الاجتماع محاولةٌ توفيقيَّة بين الدِّين وعلم الاجتماع، إلاَّ أنَّ تقويمهم لهذه المحاولة أسفر عن الآتي:
1- أنَّ النتائج التي توصَّل إليها (بيرجر) تُزعِج المتديِّنين بشدَّة.

2- لن يروق للمتديِّنين الذين يرَوْن أنَّ الدِّين من عند الله هذه العموميَّات التي يتوصَّل إليها الباحثون ويطبِّقونها على الأديان كلها، والتي يُطالب (بيرجر) بالبحث عنها؛ لأنَّ هذا من شأنه أنْ يُدمِّر تدميرًا كاملاً ما تبقَّى من الدِّين لهؤلاء الذين انهارَتْ بعض جوانب تديُّنهم بالفعل.

3- لن يتبقَّى بعد تدمير الدِّين ما يمكن أنْ تُبنَى عليه الحياة الأخلاقيَّة، والغريب في الأمر أنَّه على الرغم من الإلحاد في نظريَّة (بيرجر) فإنَّه يُطالب بألاَّ تُفسَّر على أنها إلحاد.

ثانيًا: روبرت بيلا:
هو المصدر الثاني الأساس الذي يعتمد عليه رِجال الاجتماع الشبَّان في بلادنا وهم يكتُبون عن الدِّين، حاوَل (بيلا) وصْل هذا الجِسر بين علماء الاجتماع والدِّين، فصاغ نظريَّةً أسماها (الواقعيَّة الرمزيَّة).

كان (بيلا) قد أعلن صراحةً وقوفَه إلى جانب الدِّين، مُعارِضًا الحيادَ الزائف في علم الاجتماع، وأصرَّ على أنَّ رموز الدِّين يجب ألاَّ تُحلَّل وفقًا لافتِراضات العلوم الاجتماعيَّة التي تَحُطُّ من قدرها، بل يجب أنْ تُفهَم في إطارها الخاص، وأكَّد (بيلا) أنَّ الدِّين حقيقي وليس انعكاسًا لعوامل نفسيَّة اجتماعيَّة.

يتوقَّع القارئ أيضًا - كما توقَّع من قبل مع (بيرجر) - أنْ يقول بيلا شيئًا إيجابيًّا يُبرِّر استدلالَ رجال الاجتماع في بلادنا بآرائه، ولكنَّ العكس هو الصحيح تمامًا.

يقول (بيلا) هذا الذي يُناصِر الدِّين: "إنَّ ادِّعاء الدِّين بالحقيقة ادِّعاء باطل، وإذا كان الدِّين جوهريًّا وحقيقيًّا في جانب، فإنَّه خيالي على الجانب الآخَر؛ بمعنى: أنَّنا ونحن نُشبِع حاجاتنا الدينيَّة فإنَّنا يجب أن نُدرِك أنَّ ادِّعاءات الدِّين عمَّا فوق الطبعِيِّ (الله - الملائكة - الجن... إلخ) غير حقيقيَّة".

ويتبنَّى (بيلا) في خِطابه أمام جمعيَّة الدِّراسات العلميَّة للدِّين منظورًا يَحُطُّ من قدر الدِّين، ويُثنِي فيه على إسهامات (دوركايم) و(ماكس ويبر) في تحليل الدِّين بالرغم من أنَّ الأوَّل يحطُّ من قيمة رموز الدِّين، والثاني يُواجِه دارسي الدِّين ويُطالِبهم بألاَّ يأخذوا أمور الدِّين بجديَّة.

يعودُ (بيلا) فيقول: إنَّه يخالف هذه النظريَّات التي ترى أنَّ الدِّين خِداع عظيم، ثم يقول في الوقت نفسه: إنَّ معارضته هذه تقوم على أساس أنَّ الدِّين يحتوي على حقيقةٍ ما، ولكنَّ هذه الحقيقة تختفي في الأساطير والطقوس الوهميَّة للدِّين؛ ولهذا فإنَّنا لا نعجب من اعتِرافات بيلا بأنَّ محاضراته الأولى عن الدِّين أدَّت إلى أزماتٍ حادَّة في الإيمان بين طلابه.

يعترف بيلا بأنَّ المنظور الذي تبنَّاه من أستاذه (بارسونز) منظور إلحادي، كما يقرُّ بأنَّه قد تحقَّق من أنَّ علم الاجتماع يحمل متضمنات دينيَّة، ثم يُؤكِّد في محاضراته بأنَّ العلماء الاجتماعيين يفهَمُون الدِّين بطريقةٍ أعمق من فهْم المتديِّنين لدِينهم، ويقول عن نفسه: "إنَّ مفاهيم العِلم الخاصَّة لها عندي مكانةٌ أعلى من المجال الدِّيني الذي أدرسه".

أمَّا عمَّا يُسمِّيه (بيلا) بنظريَّته عن (الواقعيَّة الرمزيَّة) فإنها تعني أنَّه يجب معاملة الدِّين على أنَّه حقيقي، وليس بإسقاطٍ نفسي أو اجتماعي، ويعني بالواقعيَّة الرمزيَّة الطُّرق التي يُعبِّر من خلالها الناس والمجتمعات عن إحساسهم بالواقع، رأى (بيلا) أنَّ نظريَّته هذه لن تسمح للعلماء الاجتماعيين باحتقار الدِّين، وأنها بارقة أمَل في المصالحة بين العلوم الاجتماعية والدِّين، وسوف تسمح بالاختلاف بينها، لكنَّه غير عدائي.

طالَبَ (بيلا) هؤلاء الذين يقومون بتطبيق نظريَّته أنْ يقبلوا دعاوى المتديِّنين عن دِينهم، وأنْ يفصلوا مؤقتًا حُكمَ العلم على الدِّين.

قام (أنتوني وزملاؤه) - وهم جماعةٌ من الباحثين - بتطبيق نظريَّة (بيلا) على جماعةٍ نصرانية مُتديِّنة نجحوا في كسب ثقتها وجذبها نحوهم.

يقول الباحثون: إنَّ هذه الجماعة تعتقد في صحَّة ما تؤمن به من مسائل دينيَّة؛ مثل: (الروح القدس) على أنها حقيقة، إلى درجة أنها كانت مندهشة من أنَّ بصيرة الباحثين لم تصلْ إلى درجة إدراك هذه الحقيقة، كما كانت ترى أيضًا أنَّ الإنسان لكي يفهم فلا بُدَّ أنْ يعتقد.

وحينما طرح (أنتوني وزملاؤه) تفاصيل أفكارهم على هذه الجماعة شعروا بأنَّ الجماعة قد تهدَّدت وانهارت، هذا، ويمكن حصر الأسباب التي أدَّت إلى انهيار هذه الجماعة بعد أنْ طرحت عليها نظريَّة (بيلا) في الآتي:
1- صوَّر لهم الباحثون أنَّ اعتقاداتهم هم روايات خياليَّة:
استخدم (بيلا) في أصل نظريَّته مصطلح (Fiction)؛ أي: (رواية خيالية)؛ للإشارة إلى الرموز الدينيَّة التي يَراها أصحابها أنها معتقدات ثم يستحسنونها، يقول (بيلا) في ذلك: "إنَّ الحقيقة الدقيقة هي أنَّ تعرف أنَّ مُعتَقدك رواية خياليَّة، لكنَّك تعتقد فيها إراديًّا، وأنَّ الرموز الدينيَّة هي حقيقته وتامَّة وسامية حينما تعبِّر عن خِبرة الإنسان فقط، ولكنَّها حينما تُؤخَذ كمعتقدٍ حول شيءٍ ما فإنها تكون رواية خياليَّة".

2- صوَّر لهم الباحثون أنَّ الدِّين من صُنع الإنسان:
الدِّين في نظريَّة (بيلا) من صُنع الإنسان، ويجب أنْ تُفهَم ادِّعاءات الدِّين بالطريقة التي تُفهَم بها القصص المكتوبة في عملٍ عظيمٍ؛ ولذلك فإنَّه لا يريد أنْ ينسب الدِّين مطلقًا إلى أساسٍ قبل إنساني (أي: إلى الله).

3- صوَّر لهم الباحثون أنَّ معتقداتهم غير حقيقيَّة:
اتَّفق (بيلا) مع أستاذه (بارسونز) في قضيَّة المعتقدات الدينيَّة، وفي حين رأى الثاني أنَّ المعتقدات الدينيَّة غير صحيحة، رأى (بيلا) - هذا الذي بذل جُهدَه في مُناصَرة الدِّين - أنَّ بعض مُعتَقدات الدِّين زائفة.

4- صوَّر لهم الباحثون أنَّ رموز الدِّين ليست حقيقيَّة:
ترى نظريَّة (بيلا) أنَّ رموز الدِّين التي يعتقد فيها الناس ليست صادقةً؛ لأنها لا تُعبِّر عن موضوعات، ولكنَّها تُشِير فقط إلى محاولة الإنسان فهمَ الهدف النهائي من وُجودِه.

5- صوَّر لهم الباحثون أنَّ الدِّين عندهم يُشبِه الفن:
يقول (بيلا): إنَّه من الصعب التفرقة بين الدِّين وهذه الأشكال العُليَا من الفن، وقد لُوحِظ أنَّ تشبيه (بيلا) الدِّين بالفن لم يظهرْ في بعض أعماله الحديثة، لكنَّ علماء الاجتماع يقولون: إنَّه ليس هناك ما يشير إلى أنَّ (بيلا) قد غيَّر رأيَه فيها.

انتهى (أنتوني وزملاؤه) إلى أنَّ نظريَّة (بيلا) لا بُدَّ وأنْ تنظُر إلى الدِّين نظرةً دُنيَا، وأنها لا يمكنها أنْ تهرب من هذه النظرة؛ لأنَّها تختلف عن نظرة الناس إلى عقيدتهم، وأنها تُحاوِل أنْ تشرح معتقدات الناس في إطارٍ تصوُّري بديلٍ لكنَّه أعلى منها، وخُلاصة ما توصَّل إليه الباحثون هو: أنَّ نظرية (بيلا) لا تُحقِّق تكاملاً بين العلوم الاجتماعية والدِّين.

انتهى (بيلا) بعد هذه الجهود إلى مهاجمة النصرانية، وهاجَم محاولاتها التأكيدَ على معتقدها الأرثوذكسي، وأعلَنَ أنَّه لا يتذوَّق هذه الدِّيانات التسلُّطيَّة التي لا تخضع تعاليمها للنقد، وأعلن بوضوحٍ في ردِّه على ما كتَبَه (روبنسون) في كتابه "لنكن أُمَناء مع الله": "إنَّ المعنى الأكبر في تعاليم النصرانية ذاتها هي أنها تتحدَّث عن الله في الداخل أكثر ممَّا تتحدَّث عنه في الخارج، إنَّ المسيح ليس نافذةً على الكون، ولكنَّه نافذة إلى أعماق الإنسان نفسه فقط، إنَّ الرموز الدينيَّة لا تقول لنا شيئًا بالمرَّة حول الكون".

ويقول علماء الاجتماع تعليقًا على نظرية (بيلا): إنَّه استخدم مصطلحًا قويًّا وهو: "أن الدين حقيقي" في معنى ضعيف جدًّا.

يكفينا ردًّا - ممَّا ذكرناه - على إلحاد نظريَّات علم الاجتماع ما أشارتْ إليه نفس هذه النظريَّات على النحو التالي:
1- دفع النظريَّات المعاصرة للاتِّهامات التي وجَّهَتْها النظريَّات الكلاسيكيَّة إلى الدِّين والتعاليم الدينيَّة، هذا الدفع ذاته يسقط كلَّ اتهامات رجال الاجتماع في الغرب وأتْباعهم في بلادنا بأنَّ العالم الغيبي عالَمٌ زائفٌ وليس بحقيقة، أو أنَّ الحقيقة الدينيَّة ادِّعاء باطل، وأنَّ الدِّين والأفكار الدينيَّة غير حقيقيَّة، أو أنَّ الرموز غير صادقة؛ لأنَّ كلَّ هذه الاتهامات - بإقرار النظريَّات المعاصرة - غير صادقةٍ علميًّا طالما أنَّ منهج العلم الحديث لا يُقدِّم أحكامًا قيميَّة، وأنَّه محايد، وطالما أنَّ الأفكار الدينيَّة تنتَمِي إلى مجالٍ من الواقع ليس في مُتَناول البحث العلمي.

2- إقرار علماء الغرب بأنَّ الموقف الإلحادي للنظريَّات المعاصرة في علم الاجتماع قد خرب الالتزام القيمي الذي يَحتاجُه المجتمع، وأنَّه لن يتبقَّى للمجتمع بعد تدمير الدِّين ما يمكن أنْ يَبنِي عليه حياته الأخلاقيَّة، ولم يلتفتْ علماء الاجتماع إلى قول مشاهير فلاسفة الغرب نفسه عن التلازُم بين الدِّين والأخلاق؛ مثل (فيخته) الذي قال: "إنَّ الدِّين من غير أخلاقٍ خرافةٌ، والأخلاق من غير دِينٍ عبثٌ"، و(كانت) الذي لم يرَ للأخلاق من ضَمان غير الدِّين.

كما نضيف إلى ما سبق الحقائق التالية:
أولاً: ادِّعاء علماء الاجتماع بأنَّ الدِّين يجب أنْ يقوم على افتراضاتٍ إلحادية، أو أنَّه اختراعٌ إنساني، أو تجربة إنسانيَّة، أو إسقاطٌ نفسي اجتماعي، أو أنَّه خِداع عظيم، أو رواية خياليَّة، أو فن، كلُّ هذا مردودٌ عليه بحقيقة بسيطة وهو: أنَّ رأس الدِّين ورُكنه الأعظم هو إثبات وجود الله، فإذا ثبت وجودُ الله سقطتْ كلُّ هذه الادِّعاءات التي ليس لها سندٌ من العقل أو العلم، ويعني إثبات وجود الله إثبات وجود مَن (يجب وجوده)، وليس في الموجودات (العالم) كله ما لا يثبت وجوده عن طريق (وجوبه) إلا (الله)، فكلُّ ما سوى (الله) لا ضرورة لوجوده ولا استحالة لعدمه، ويسمَّى هنا (بالممكن الوجود)، وليس هناك سندٌ لِمَن يشكون أو ينفون وجودَ الله؛ لأنَّ كلَّ شيء في هذا العالم يمكن أنْ يُشَكَّ في وجوده أو يُنفَى وجودُه؛ لأنه (ممكن)، ويقبل الوجود ويقبل العدم، ولا ضرورة لوجوده أو عدم وجوده إلا (الله) الذي لا يمكن إلا أنْ يكون موجودًا، وإذا افترضنا عدمَ وجود الله افترضنا عدمَ وجود مَن يجب وجوده، وهنا نقَع في التناقُض.

الموجودات إذًا لا بُدَّ لها من موجودٍ واجب الوجود ليس من جنسها مُستغنٍ عن إيجاد موجودٍ له، ويُستَدَلُّ على وُجوده من وجود الموجودات الممكِنة التي نَراها ونُشاهِدها، والتي لا يمكن أنْ توجد لولا وجودُ ذلك الموجود (الواجب الوجود) الذي هو (الله - عزَّ وجلَّ)، إنَّ هذا العالم كلَّه بجميع أجزائه موجودٌ ليس (بواجب) الوجود، ولكنَّه (ممكن) الوجود، وكان يمكن أنْ يكون معدوم الوجود، ولأنَّ هذا العالم (ممكن الوجود) فإنَّه يحتاج إلى موجودٍ آخَر يتقدَّمه في الوجود ليستندَ وجوده إليه، ومن هنا كان وجود العالم يدلُّ دلالةً قطعيَّة على وجود موجودٍ آخَر وراءه؛ لأنَّه لا يتسنَّى له هذا الوجود دون هذا الموجود (الواجب) وجوده الذي لم يسبقْه العدم وهو (الله) - عزَّ وجلَّ.

إذا ثبَت وُجود (الله) أمكن إثبات ما عدا (الله) من أمور الغيب، تلك التي يستنكرها علماء الاجتماع لعدم إيمانهم بالله أصلاً، والمراد بالغيب: "ما غاب عن الحواس"، وهذا لا ينفي أنَّه (حق) و(واقع)، ومن الخطأ الاعتقاد بأنَّ ما يغيبُ عن الحواس يغيبُ عن العقل أيضًا، وكون الشيء غير محسوس لا يعني أنَّه غير معقول، خاصَّة وأنَّ العقل والحس ليسا بشيءٍ واحد.

ثانيًا: توضح الفقرة السابقة سندَنا من العقل في إثبات الدِّين، أمَّا سندنا من العلم فهو على النحو التالي:
1- أنَّ العلم لا يفترق عن العقل، وإذا تصادَما فإنَّ الكلمة الأخيرة تكون للعقل، ونحن قد أثبَتْنا أنَّ العقل مع الدِّين؛ ولهذا يلزم أنْ يكون العلم مع الدِّين أيضًا؛ لأنَّ العقل معه أصلاً.

2- العلم في أوسع تعريفٍ له: معرفة مضمون قضيَّة من القضايا، وعلى هذا تكون علاقة العلم مع الدِّين على النحو التالي:
أ- إذا قصدوا بالعلم المعرفة المبنيَّة على البداهة أو المشاهدة أو العلم بالحواس أو بالدليل العقلي، فكلُّها تُؤيِّد الدِّين؛ أي: تثبت وجود الله.

ب- إذا قصدوا بالعلم العلوم المدوَّنة؛ كالهندسة والطبيعة وغيرها - فهذه العلوم مشغولةٌ بموضوعاتها، وتحكم فقط في المسائل المتعلِّقة بها، وتقف فيما وراء ذلك على الحِياد.

ج- إذا احتكروا اسم العلم لهذه العلوم القائمة على التجربة، وقالوا: إنَّ العالم لم يتكوَّن بخلق الله بل تكوَّن بنفسه، فهذا راجعٌ لهم ولا يرجع إلى العلم ذاته؛ لأنَّ العلم ليس اسمًا ينزع صلة الكون بالإله الخالق وإسناد التكوين إلى الأشياء نفسها، إنما هو اسمٌ للعلم الذي يبحث في الكائنات وما جُبِلت وطُبِعت عليه، ويقتصر حُكم العلم والتجربة على القول بأنَّ العالم يُدار وفقًا لقوانين، ولا يَتجاوَزان ذلك إلى تعيين مُنشِئ لهذه القوانين، أو تحديد هذه القوانين في صفة الأشياء نفسها، وليس بما هو خارجٌ عنها، وإنما كان ذلك من استنتاج العلماء، وليس هذا الاستنتاج استنتاجًا صحيحًا مُضافًا إليه مدلول التجربة، وإنما هو استنتاجٌ فاسدٌ أُضِيفَ إلى حكم التجربة ظنًّا منهم أنه من تمام مدلولها، يُضاف إلى ذلك أنَّ التجربة لا تثبت الضرورة والوجوب، ولو كان الله - تعالى - ثابتًا بالتجربة لما كان موجودًا واجب الوجود ومستحيل العدم، بل كان موجودًا عاديًّا كغيره من الموجودات غير ضروري الوجود، كما أنَّ الله - عزَّ وجلَّ - ليس ماديًّا ولا داخلاً في الطبيعة.

ونخلص من هذا إلى أنَّ العلوم منها ما يُؤيِّد الدين بتأييد مسألة وجود الله، ومنها ما يُحايِده لعدم دُخوله في موضوعه، ولا شيء من العلوم يمانع أساس الدِّين وينكر وجود الله، وقد جاء على لسان أكبر علماء الإنجليز ما نصُّه: "إنَّ الإلحاد ليس نتيجة للأصول العلميَّة".

وقال (هنري هوكسلي) - وهو عالم إنجليزي شهير -: "إنَّ الإلحاد على الأسس العلميَّة غير قابلٍ للتحمُّل".

ثالثًا: يُوضِّح ما سبق أنَّه لا سند لعلماء الاجتماع في الغرب وأتْباعهم في بلادنا من العقل والعلم في ربطهما بالإلحاد ورفض حقيقة الدِّين، فمن أين إذًا جاء هذا الإلحاد الذي عبَّر عنه (بيرجر) و(بيلا) وهما يدافعان عن الدِّين؟

إنَّ النصرانية التي يعتنقانها هما و(كولب) هي التي أدَّت بهم جميعًا إلى هذا المصير، لقد أضرَّت النصرانية بالمسلمين خاصَّة وبالناس عامَّة.

فالغرب الذي له الآن القوَّة والغلبة على العالم كان قد اعتنق النصرانيَّة في قديم الزمان، وكان مجلس الرهبان معقدًا في (أزنيك) رفض بأكثر الأصوات عقيدة التوحيد، وقرَّر قبول عقيدة التثليث المركَّبة من الإشراك والتوحيد؛ فأدَّى ذلك إلى خِلافٍ دائمٍ بين العلم والعقل والدِّين، ومع رُقِيِّ الغرب في الصناعات والتكنولوجيا وسائر العلوم، أدرَكَ علماؤه أنَّ دِينهم لا يتَّفق مع العقل والعلم، لكنَّهم لم يبحثوا لهم عن دِينٍ آخَر، ولم ينظُروا إلى الإسلام (الذي مَدار التكليف فيه هو العقل)؛ بسبب العداء الذي يُضمِره الغرب له منذ الحروب الصليبيَّة؛ لهذا خرج بعض علماء الغرب عن الأديان كليَّةً فألحد ودعا الناس إلى الإلحاد، وبقي البعض الآخَر يُفَلسِف أمور الدِّين وفق ما يُصوِّره له عقله وهواه[4].

هذا الصراع بين الدِّين والعلم نشَأ أصلاً من خصوصيَّة دِين الغرب الذي لا ائتلاف بينه وبين العقل والعلم، والذي لا وُجودَ له مطلقًا في الإسلام، لكنَّ رجال الاجتماع في بلادنا لا يعرفون من الإسلام إلا اسمه، ولم يدرسوه، وإنما كانت معرفتهم بنظريَّات الغرب أكثر من معرفتهم بالإسلام، فدرسوها من غير فحْص ولا تثبُّت ولا نظر ولا تعمُّق، فأحدَثوا في بلادنا الصراع بين الدِّين والعلم، خاصَّة وأنَّ هذه النظريَّات التي نقلوها إلينا تقليدًا لموقف الغرب مشوبة ومعلولة بالعقليَّة النصرانية لا العقليَّة الباحثة عن الحق، فكانت النتيجة ليس نقل هذا الصراع فقط، وإنما نقلوا إلينا كلَّ كلمة تكلَّمَها عالِمٌ غربي ضدَّ الدِّين أو النصرانية وألصقوها بعينها بالإسلام، كما لم يلتَفتْ رجال الاجتماع إلى مغزى قول (بيلا): "إنَّ النصرانية تتحدَّث عن الداخل وعن أعماق الإنسان، وإنَّ تعاليم المسيح لا تقول لنا شيئًا بالمرَّة حول الكون".

تجاهَلَ (بيلا) ووراءَه أتباعُه من رجال الاجتماع عندنا أنَّ الإسلام ليس بمفهوم كهنوتي أو لاهوتي، إنما هو طِرازٌ خاص في الحياة يتميَّز عن غيره كلَّ التميُّز، جاء بمجموعة مفاهيم عن الحياة تُشكِّل خُطوطًا عريضة، لا تُنظِّم علاقة الإنسان بالله فحسب، أو بنفسه فقط، ولكن تنظم علاقته مع الناس ومع الكون، إنَّه نظام ينبثق من معالجات لجميع مشاكل الإنسان في الحياة، مستندًا إلى قاعدةٍ فكريَّة تندرج تحتها كلُّ الأفكار عن الحياة، وتتَّخذ مِقياسًا يُبنَى عليه كلُّ فكرٍ فرعي.

وهذا هو الذي كان يسعى إليه (بيلا) على وجْه التحديد لكنَّه ضلَّ الطريق، ألَّفَ رجال الاجتماع في بلادنا وترجموا لـ(بيلا) وغيره من علماء الغرب، وسلَّموا بما جاء به، فصدق عليهم وصْف (دي لا فالت)، الذي كان أستاذًا في الجامعة المصرية في تقريره الذي كتَبَه إلى وزارة المعارف المصريَّة في 1932، ويقول فيه: "وقد دلَّت المشاهدة على أنَّ التلميذ المصري، وإن امتاز بالذكاء، إلا أنَّه لا يميل في الغالب إلى بذل مجهودٍ كبير لفهْم درسه؛ ولذا فهو يعتمد على الذاكرة في حِفظ الدروس أكثر من اعتماده على إجْهاد فكره لإدراكها"[5].

ويبدو أنَّه لم يحدث أيُّ تغيُّر على عقليَّة تلامذتنا منذ الثلاثينيَّات، والذين أصبحوا أساتذةً في التسعينيَّات، حالهم كما هو في قراءاتهم وفي نقولاتهم وفي ترجماتهم وفي مُؤلَّفاتهم، ليس عندهم القُدرة على التمييز بين الحق والباطل، والإيمان والإلحاد، وبين الإسلام وغيره من الديانات والفلسفات.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] انظر كيف فهم رجال الاجتماع في بلادنا الإسلامَ في ضوء آراء ونظريَّات عُلَماء اجتماع الغرب تفصيلاً في المجلد الكامل الذي خُصِّص لدراسات "الدين في المجتمع العربي" مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1990.
[2] عن إلحاد النظريات التقليدية والمعاصرة في علم الاجتماع المشار إليها جميعها في هذه المقالة يمكن الرجوع تفصيلاً إلى ما يلي:
Benton Johnson Sociological Theory And Relegious truth sociological Analysis 1977 v.38.4.pp.368-388.
William C. shepherd, religion And the social Sciences Conflict Or Reconciliation, The Scientific Study Of Religion 11,1972,pp230-239.
[3] Marlynn May. An Interview With William kol.
ًWisconson, sociologist,1986,32-4(Fall)
Gregory Baum,Peter L.Bergers unfinis
Symphony, Commonweal,9 May1980.p263
[4] انظر: علاقة الدين بالعقل والعلم تفصيلًا في: مصطفى صبري، "موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين"، الجزء الثاني، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الثانية، 1981 صفحات 3-4، 7-8، 18، 2-43، 39-40، 46، 70، 275-279، 335.
ويدخل في هذه الصفحات موقف الشيخ مصطفى صبري من الجدل الذي كان دائرًا بين محمد عبده وفرح أنطون بعنوان "المقارنة بين الإسلام والنصرانية".
كما يمكن الرجوع تفصيلاً في بيان فساد عقيدة النصارى إلى رحمة الله خليل الرحمن الهندي، "إظهار الحق"، مكتبة الثقافة الدينية، ج1، 2.
[5] مصطفى صبري، المرجع السابق ص91.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رد مع اقتباس
  #11  
قديم 10-09-2014, 08:06 AM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود غير متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 56,139
ورقة فهم الإسلام عبر المكتبة الغربية

فهم الإسلام عبر المكتبة الغربية
ــــــــــــــــ


اعترافات علماء الاجتماع
-------------------

الحلقة الحادية عشر
------------

يقول عبدالباسط عبدالمعطي - أستاذ ورئيس قسم الاجتماع بجامعتي: قطر وعين شمس، ورئيس الجمعية العربية لعلم الاجتماع، وأحد كِبار قادة حِزب التجمُّع المصري (الشيوعي) - بأنَّ اهتمام علم الاجتماع في الوطن العربي بالدِّين اعتَمَد على التركيز على النقل من المكتبة الغربيَّة، وبخاصَّة أعمال إميل دوركايم، وماكس فيبر، وليفي بريل[1]، ولا يعترف رجال الاجتماع في بلادنا بأنَّ فهْم الدِّين عامَّة والإسلام خاصَّة لا يكون إلا عبْر مصدرين أساسَيْن هما: القُرآن والسنَّة، بل كان الطعن فيهما والتطاوُل عليهما وعلى رُموز الدِّين وعُلمائه وقادة الصحوة الإسلامية سمةً من سماتهم[2]، ومع إبعاد القُرآن والسنَّة كمصدرَيْن أساسَيْن لفهْم الإسلام أصبح الطريق مفتوحًا لكلِّ صاحب تصوُّر، ولكلِّ صاحب مدرسة أو صاحب نظرية، ولكلِّ صاحب تحليل - أنْ يقول في الدِّين والإسلام ما يَشاء؛ ولهذا كان منطقيًّا أنْ تتعدَّد الطروحات وتتَراكَم التناولات، كلٌّ يفهم الدِّين انطلاقًا من سِياقه النظري أو ما يُسمُّونه بالأدوات المنهجية؛ هذا يرى بجدوى الدِّين، وذاك يرى بأنَّه لا جدوى من الدِّين - حسب المدرسة التي ينتمي إليها - وبإقصاء القُرآن والسنَّة دخَل رِجال الاجتماع في بلادنا فيما أطلقوا عليه (الفضاء المعرفي الأشمل) و(البحث العلمي الأوسع لفهْم الدِّين)، أو بمعنًى أصح (لتدمير الدِّين).

يقول عبدالقادر الهرماسي - أستاذ الاجتماع بالجامعة التونسية -: "فالدراسات الاجتماعيَّة لكلِّ ما هو دِيني تُمثِّل حلقةً من حلقات البحث العلمي بمعناه الأوسع، وهي بالتالي تنجز في فَضاءٍ معرفي أشمل، وبالطبع فكلُّ فَضاء معرفي يُملِي جملةً من التصوُّرات العامَّة كما يملي جملةً من أدوات التحليل الخاصَّة، وما من شكٍّ في أنَّ التاريخ الحديث قد شَهِدَ أكثر من مدرسةٍ نظرية حاوَلتْ كلٌّ منها أنْ تفهم الدين انطلاقًا من سِياقاتها النظريَّة وأدواتها المنهجيَّة أولاً، وانطلاقًا من خُصوصيَّات الظاهرة الدينيَّة في تلك الفترة التاريخيَّة المحدَّدة ثانيًا؛ لذلك نلمَسُ بوضوحٍ تعدُّد الطروحات وتراكُم التناولات؛ ممَّا جعَلَ التراث العلمي في خُصوص الدِّراسات الاجتماعيَّة للظاهرة الدينيَّة تراثًا متنوِّعًا تختلف نظرته إلى الدِّين وجَدواه من مدرسةٍ إلى أخرى"[3].

كان أوَّل درس استنبَطَه رجال الاجتماع في بلادنا من المكتبة الغربية هو ألاَّ يطرح العداء للدِّين بطريقةٍ مكشوفة وسافرة؛ حتى لا يثيروا غضب الناس، وإنما يُهاجَم الدِّين ويُعادَى عبر مظلَّةٍ اسمها: "تحليل التديُّن والسلوك الدِّيني أو الوعي الديني"؛ أي: فهْم الأفراد وتأويلاتهم وممارساتهم وتعامُلهم مع الدِّين"، وأنَّ علم الاجتماع ليس له شأنٌ بالدِّين كعقيدةٍ وإيمان؛ ولهذا يُسارِع رجال الاجتماع بوضْع هذا (الخاتم) في بداية أيِّ دِراسة أو تحليلٍ لهم للدِّين لتحييد مشاعر القرَّاء الذين لا يَزال للدِّين مكانةٌ في قلوبهم، ثم يطعنون في الدِّين في أثناء هذه الدراسة وهذا التحليل، هذا هو ما فعلَتْه اللجنة التحضيريَّة التي خطَّطت لندوة الدِّين في المجتمع العربي التي عُقِدت بالقاهرة في الفترة من 4-7 أبريل 1988.

يقول رئيس الندوة: "وحرصت اللجنة التحضيريَّة للتخطيط لندوة الدِّين في المجتمع العربي منذُ اجتماعاتها الأولى على إبْراز الفرْق البيِّن بين الدِّين كعقيدةٍ وإيمانٍ يسمو إلى مستوى القداسة والمطلق، وبين الوعي الدِّيني بمستوياته الوجدانيَّة والمعرفيَّة والأيدلوجيَّة؛ أي: فهْم الأفراد والجماعات للدِّين، و(تديُّنهم) الذي يُعبِّر بتجلِّيات وممارسات وتأويلات نسبيَّة تتَفاعَل مع الأماكن والأزمنة ومراحل التطوُّر الاجتماعي الاقتصادي في المجتمع العربي وفي أقطاره، وهي تفاعُلات تتشابَك وتتداخَل بشأنها مجموعةٌ من العوامل الاجتماعيَّة (الفردية والطبقية)، والسياسية (السلطة الحاكمة والمعارضة)، والحضارية (الأصيلة والدخيلة) التاريخية والمعاصرة، وبهذا تحدَّدَ موضوع الندوة وفي ضوء الفهم السوسيولوجي للدِّين، بكلِّ ما هو ذو علاقةٍ بفهْم البشر ووعيِهم وممارستهم وتعامُلهم مع الدِّين، وليس بما هو مطلق وثابت ومقدَّس في الدِّين"[4].

إنَّ هذا الادِّعاء بالاهتمام بالسلوك الديني مع عدم المساس بالعقيدة يسمَح لرجال الاجتماع بالطعن في كليهما وفْق منظوراتهم الخاصَّة، وكما حدَّد (عبدالمعطي) موضوعَ الندوة بأنَّه دراسة التديُّن كتعبيرٍ عن تجليات وممارسات وتأويلات نسبيَّة، تتفاعَل مع الأماكن والأزمنة ومراحل التطوُّر الاجتماعي الاقتصادي (وهي نظرة ماركسية مكرَّرة).

سار رجال الاجتماع الآخَرون على نفْس نهج عبدالمعطي، هذا (حيدر إبراهيم) يُقصِي القُرآن والسنَّة بعيدًا ليُحلِّل الممارسات التاريخية والاجتماعية للإسلام وفْق منظوره الصراعي الماركسي، يقول (حيدر إبراهيم): إنَّ دارس الدِّين من منظور اجتماعي "ليس مطالبًا بالتركيز على النصوص المجرَّدة، أو على التعاليم الدينيَّة بحدِّ ذاتها، بل على السلوك الدِّيني في الحياة اليوميَّة، وفي محتواه الاجتماعي التاريخي ضِمن إطار الصِّراعات القائمة في المجتمع؛ لذلك فإنَّه إذا كان الإسلام يظهر واحدًا كما تبرزه نصوص القرآن والسنَّة، فإنَّ الممارسات التاريخية والاجتماعية لهذا الإسلام تتعدَّد وتختلف معتمدةً على تفسيرها الخاص للنصوص، لتسند موقفها وتعطيه مشروعيَّة خاصَّة"[5].

وهذا (فرحان الديك) يسيرُ على نفس المِنوال فيقول في بحثه عن الأساس الدِّيني في الشخصيَّة العربيَّة: "إذ ليس الغرض من هذا البحث هو الدُّخول في الدِّين وما فيه من عقائد دينيَّة... وإنما الهدف من هذا الموضوع هو دِراسة التديُّن الذي هو سُلوك الأفراد وتخلُّقهم..."[6].

إنَّ إقصاء النصوص الدِّينية التي من المفروض أنْ تكون حكمًا فاصلاً ونهائيًّا في أيِّ قضيَّة تتعلَّق بالدِّين؛ لأنها صادرةٌ عن الله - عزَّ وجلَّ - وعن نبيِّه محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى - عن محاور التحليل، لا بُدَّ له من تبريرٍ أو تعليلٍ، وهذا ما فعَلَه رجال الاجتماع حينما وصَفُوا هذه النصوص بأنها نصوصٌ مجرَّدة وأحكام معياريَّة لا تدخُل في اختِصاصهم، وإنما في اختِصاص ما يُسمُّونهم بأصحاب التفسيرات اللاهوتية والفلسفية، لكنَّ رجال الاجتماع في بلادنا لا يستطيعون التخلِّي عن التعرُّض للنصوص؛ لأنها هي الأصل الذي يُرِيدون الطعنَ فيه؛ ولهذا فإنهم تعلَّلوا بمظلَّةٍ أخرى تقول: إنَّه "لا يهمهم تحليل النصوص في ذاتها أو في معناها النظري أو الفلسفي أو الديني، وإنما يهمُّهم انعكاس هذه النصوص على السلوك الفردي والواقع الاجتماعي".

يقول (عضيبات) - أستاذ الاجتماع بجامعة اليرموك بالأردن -: "والمنهج السوسيولوجي الذي نستخدمه يستَدعِي ألاَّ نكتفي بتحليل النصوص الدينيَّة بحدِّ ذاتها، وبمعزلٍ عمَّا تعني للمؤمنين، وفي الحالات التي نستَخدِم فيها النصوص فإنَّه لا يهمُّنا معناها النظري أو الفلسفي أو الثيولوجي، بمقدار ما يهمُّنا انعكاس هذه النصوص على السلوك الفردي والواقع الاجتماعي الذي يعيشُه الفرد، فمعرفة أيِّ دِينٍ كالدِّين الإسلامي مثلاً تقتضي دِراسة مُؤسَّساته وتاريخه وتوجُّهاته، كما تقتضي فهم المغزى لأولئك الذين يؤمنون به"[7].

ومن المهمِّ أنْ نشير هنا إلى أنَّ تحليلَ رجال الاجتماع في بلادنا للنصوص الدينيَّة لم يكن أمرًا إبداعيًّا وذاتيًّا من جانبهم، وإنما مرَّ - أيضًا - بمصفاة التحليل الغربي قبل أنْ يعرضوه على القارئ العربي.

صاغَ عبدالباسط عبدالمعطي هذه الحقيقة على النحو التالي: "وحتى مَن حاوَل الاقتراب من التراث الإسلامي عُنِي أكثر بتأويل بعض النصوص، وهو تأويلٌ (مرَّ) على العموم بمصفاة الفكر الغربي"[8].

هذه (المصفاة الغربية) التي مرَّ الإسلام بها - عقيدةً ونصوصًا وسلوكًا - أوصلَتْ باحِثينا العرب إلى النظر إلى قُرآننا وسنَّتنا، بل دِيننا في جملته، على أنَّه نموذجٌ مثالي كلامي مُتحجِّر كليةً، فقَدَ تأثيرَه ولم يعدْ له دورٌ يُمارِسه بحجَّة واهية، وهي أنهم نظَرُوا إلى سلوكيَّات الأفراد المحيطين بهم، فوجدوا أنها تنحَرِف عن السلوكيَّات المرتبطة بالدِّين، أين إذًا حِرص اللجنة التحضيريَّة الذي أشَرْنا إليه من قبلُ والذي قالوا عنه: "وحرصت اللجنة التحضيريَّة للتخطيط لندوة (الدِّين في المجتمع العربي) منذ اجتماعاتها الأولى على إبراز الفرْق البيِّن بين الدِّين كعقيدةٍ وإيمانٍ يسمو إلى مستوى القداسة والمطلق، وبين الوعي الدِّيني بمستوياته الوجدانيَّة...".

أَمِنَ القَداسة أنْ تكون العقيدة كلامًا مُتحجِّرًا كليةً، فَقَدَ تأثيره ولم يعدْ له دورٌ يمارسه؟ هل هذه موضوعية علمية أو عداء سافر؟

يقول (فرحان الديك) عن هذه العقيدة التي رآها كلاميَّةً متحجِّرة بعد أنْ مرَّ تحليله بمصفاة العالِم الغربي (رالف لينتون): "إنَّ الملاحظة العفويَّة أو الملاحظة العلميَّة البسيطة لسلوك الأفراد المحيطين بنا، تُبيِّن أنَّ النماذج المثاليَّة للسلوك التي تكوَّنت بالارتباط في مبادئ الدِّين وقيمه وتُراثه، لا تتَّفق مع النماذج التي يستَطِيع الباحث بناءَها استِنادًا إلى ملاحظاته للسلوك الفعلي للأفراد... وهذا يعني - تبعًا لـ(رالف لينتون) -: أنَّ النماذج المثالية لا تتمكَّن من المحافظة على الاتِّصال بواقع حضارة في أوْج التغيُّر، وبكلام آخَر نستطيع أنْ نقول: إنَّ النماذج المثاليَّة في الحضارة العربية التقليدية لم تعدْ تمارس دورًا مِعياريًّا يشجع - أو لا يشجع - ضروبًا من السلوك؛ لاقترابها أو لابتعادها عن أو من المعايير التي بحوزتها... الأمر الذي يعني أنَّ هذه النماذج المثالية هي في طريقها إلى أنْ تغدو كلاميَّة ومتحجِّرة كليًّا، وتتَّجه إلى فقْد تأثيرها وتكسب وُجودًا مستقلاًّ... وعِوَضًا عن أنْ تقدم الاستجابة المناسبة لوضع معطى، تتحوَّل إلى جواب مناسب عن سؤال معطى"[9].

حاوَل (عضيبات) أنْ يدرس العلاقة بين الدِّين والتغيُّر الاجتماعي مستخدِمًا ما يُسمَّى بالمنهج السوسيولوجي، بحث عضيبات في التحليلات السوسيولوجية للدِّين عند مَن يُسمِّيهم بعُلَماء الاجتماع العرب عن شيءٍ يفيد، فوجد أنَّ دراسة هذه العلاقة عندهم تَكاد تكون معدومة، وأنَّ مناقشتهم لم تتعدَّ بعضًا من النصوص المجرَّدة التي رأى "أنها لا تمتُّ إلى الواقع بصلةٍ"، فذهب إلى المكتبة الغربيَّة وإلى كتابات الروَّاد الأوائل في ميدان العلاقة بين الدِّين والمجتمع؛ من أمثال ماركس، وسبنسر، وفيبر، وفرويد، ودوركايم وغيرهم، ثم عرج على كتابات علماء الاجتماع الغربيين المعاصرين الذين لا زالوا يحافظون - في رأيه - على الأهمية المركزية لدراسة الدِّين بشكلٍ عام، وعلى العلاقة بينه وبين التغيُّر الاجتماعي بوجه خاص، وراح يُطبِّقها بحذافيرها على الإسلام والمجتمع العربي الإسلامي، ولم يفكِّر في نصوص (القُرآن والسنَّة)؛ لأنها في نظره نصوص مجرَّدة لا تمتُّ إلى الواقع بصلةٍ، ولا ترقى إلى نصوص ماركس وسبنسر وفيبر وفرويد ودوركايم وغيرهم من علماء الاجتماع الغربيين المعاصرين[10].

ولم يخرجْ (عبدالقادر الهرماسي) - أستاذ الاجتماع بالجامعة التونسية - عن الخطِّ الذي سارَ فيه (عاطف عضيبات) - أستاذ الاجتماع بجامعة اليرموك بالأردن.

لم يستطع الهرماسي أنْ يفهم ما أسماه رجال الاجتماع بـ(الظاهرة الدينية) إلا عبر كِتابات عُلَماء الغرب، أمثال: (ترولتش) و(روبرت بيلا)، مستخدمًا نفس مصطلحاتهم؛ كالكنيسة والطائفة والحركة الدينيَّة.

تحت عنوان (تنوع الظاهرة الدينية وعلاقتها بالمنزلة الإنسانية) يقول (الهرماسي): "بناءً على كتابات أرنست ترولتش وروبرت بيلا، يمكن التمييز بين ثلاثة أنماط من الدين: الكنيسة والطائفة والحركة الدينية"[11].

ترك الهرماسي (القُرآن والسنَّة)، ونظَر إلى مشروعات علماء الغرب وبرامجهم في البُحوث الدينية على أنها هي هذا الميدان الخصب الذي يُثرِي المعرفة الإنسانية عامَّة، وعلم الاجتماع خاصَّة، مقتديًا بما شرَعَه (مارسيل موسن) حفيد (دوركايم) منذ أوائل هذا القَرن في رسْم مشروع أو برنامج البحوث الدينيَّة، ومعروفٌ أنَّ دوركايم وحفيده يهوديَّان ينتميان إلى عائلةٍ من الأحبار اليهود.

وحتى ممارسة الشعائر الدينيَّة في الإسلام لم يفهمها رجال الاجتماع في بلادنا إلا عبر دِراسات علماء اجتماع الغرب، مثل: دراسات (لوبرا) عن الكاثوليكية في فرنسا، ودِراسات (لوسيان فابر) و(مارك بلوك).

رأى رجال الاجتماع في بلادنا أنَّ المعلومات التي وفَّرتها لهم الدراسات الغربيَّة مكَّنتهم من القول بأنَّ علم الاجتماع يمتلك من المناهج والتقنيات وأدوات التحليل وما يُسمُّونه بالإجراءات الموضوعيَّة التي تُتِيح لهم أساسيَّات الاقتراب العلمي من الحياة الدينية ومستلزَماتها[12]، ويدخُل الإسلام تحتها بالطبع.

لم يكن (الهرماسي) هو الذي فهم وحدَه أداء الشعائر الدينيَّة في الإسلام عبْر دراسات علماء الغرب أمثال (لوبرا)، هناك (فرحان الديك) الذي سارَ على المِنوال نفسه في فهْمه للدِّين في المجتمع العربي دُون أنْ يحاول حتى مجرَّد التخلُّص من المصطلحات دائمة الاستخدام في الغرب، وطبَّقَها على الإسلام (كالطقوس الدينية وغيرها).

وتُبيِّن الفِقرتان الآتيتان كيف طبَّق (الديك) فهمَه لما يُسمِّيه بالطقوس والشعائر الدينيَّة حسب مفهوم (لوبرا) على الدِّين في المجتمع العربي:
1- يقول (لوبرا): "إنَّ ممارسة الطقوس وأداء الشعائر الدينيَّة هما أكثر من ظاهرة أو فعل فردي، فهما ظاهرة أو فعل جماعي.

ويُضِيف (لوبرا): إنَّ تأدِيَة الشعائر الدينيَّة لا تعني الارتباط من خِلالها بالقُوَى السماويَّة فقط، بل أكثر من ذلك تعني: الانتماء إلى نسقٍ من الأخلاق...".

2- "وللدِّين في المجتمع العربي وظائف اجتماعية لا يمكن تجاهُلها، على الرغم من وُجود بعض مظاهر التديُّن السلبيَّة، وأهم هذه الوظائف أنَّ الدِّين وسيلةٌ لتَضامُن المجتمع؛ إذ يجمع سوية أيَّام الحج والصوم وبعض المواسم والأعياد وفي أوقات الصلاة، كما أنَّ الدِّين أداة ضبط اجتماعي؛ حيث له الأثر الفعَّال في نشْر الأمن والطمأنينة... وله أثَر كبير في كثيرٍ من النُّظُمِ الاجتماعية الموجودة في المجتمع، حيث تتكيَّف هذه الوظائف بتكيُّف الأحوال والظُّروف"[13].

وقد يتصوَّر البعض أنَّ عِبارات (لوبرا) عن الارتباط بالقُوَى السماويَّة، والتضامُن الاجتماعي، والضبط الاجتماعي، ودور الدِّين في نشْر الأمن والطمأنينة... لا تتعارض مع الإسلام، وقد ينطَلِي ذلك بالفعل على مَن لا يفهمون حقيقةَ نظريَّات علم الاجتماع وحقيقة موقفها من الدِّين.

إنَّ ما تحدَّث عنه (لوبرا) وتَبِعَه فيه (فرحان الديك) و(عبدالقادر الهرماسي)، يدخُل تحت إطار ما يسمَّى في علم الاجتماع (بالنظرية الوظيفية في الدِّين)، تقوم هذه النظرية على فكرة الاعتراف بوظيفة الدِّين في المجتمع، وما تقوم به هذه الوظيفة من تحقيق التضامُن الاجتماعي والضبط الاجتماعي، وما يترتَّب على ذلك من أمن وطمأنينة، لكنَّها "تنكر في الوقت نفسه حقيقةَ الدِّين"؛ أي: تقوم على (الإلحاد) كما تقرُّ التعريفات الوظيفيَّة للدِّين بأنَّ الدِّين يَفِي بحاجات الناس الفرديَّة والاجتماعيَّة، لكنَّها تُنكِر - كما يقول (شبرد) - وجودَ ما يُسمُّونه بالقُوَى والكائنات الرُّوحية وغير المرئية كـ(الله والملائكة والجن والشياطين)، ويرى (لكمان) أنَّ الدِّين ليس فطريًّا وإنما هو عمليَّات متعلَّمة[14].

وفي مقابلةٍ لعالم الاجتماع النصراني (ويليام كولب) مع (مارلين ماي) قال معلقًا على النظرية الوظيفية في الدِّين: "لقد كنت كتبت في مقالة سابقة عن تَعاظُم المشكلة الأخلاقية، بأنَّه كيف يمكن لعلماء الاجتماع أنْ يعتقدوا في جانبٍ أنَّ الدِّين وهمٌ، ثم يقولون على الجانب الآخَر: إنه ضرورة وظيفية؟ إنَّني لا أستسيغ ذلك"[15].

هذا، ولا تقلُّ النظرية الوظيفية في الدِّين (إلحادًا) عن النظرية الماركسية، وهذا ما اعترف به عالمان من كبار علماء اجتماع الغرب وهما (كنجزلي دافيز) و(روبرت ميرتون).

ويقول الأوَّل على لسان الثاني: "إنَّ الوظيفيين بتأكيدهم على أنَّ الدين يعمل كآليَّةٍ اجتماعيَّةٍ، لا يختلفون ماديًّا في إطارهم التحليلي عن الماركسيين في قولهم: إنَّ الدين أفيون الشعوب، إنَّ هذا المجاز تحوَّل إلى حقيقةٍ اجتماعيَّة محايدة مقبولة بصفة عامَّة"[16].

وقد يقول البعض: أين الخطأ في قول أصحاب النظرية الوظيفية بـ(أن الإنسان متديِّن) أو (أنه يجب أن يكون متدينًا).

إنَّ المعنى الحقيقي لهاتين المقولتين - كما يرى علماء الغرب أنفسهم - هو أنْ تكون (الماوية) في الصين - نسبةً إلى (ماوتسي تونغ) - مُحقِّقة لنفس الوَظائف التي تُحقِّقها ما يسمُّونها بـ(الكائنات العلويَّة)، وأنْ تكون الثقافة المضادَّة عند شَباب الغرب كـ(الهيبز) مثلاً بطقوسها ورموزها وقيمها (دينًا) كذلك[17].

هذه هي النتيجة المباشرة لفهْم رجال الاجتماع في بلادنا للإسلام عبر المكتبة الغربية والفكر الماركسي دون القُرآن والسنَّة، سُقوطٌ في متاهات لا خُروج منها أطلقوا عليها بحثًا علميًّا، وهي لا تعدو أكثر من رُدود فعلٍ ثائرة على الدِّين وحاقدة عليه، وطعْن في الدين تحت سِتار دراسة السُّلوك الدِّيني، وإقصاء للنُّصوص الدينيَّة بحجَّة أنهم رجال علم وليسوا برجال لاهوت، مع حكمٍ على هذه النصوص بأنها كلامٌ متحجِّر فَقَدَ تأثيره ولم يعدْ له دورٌ يمارسه، حتى الشعائر الدينية كالصلاة والصيام والحج أطلقوا عليها طقوسًا، وفهِمُوها كما فهمَها الغرب، تصوَّروا أنهم يقولون كلمة طيبة في الإسلام بقولهم: إنَّ الدين أداة ضبط اجتماعي، ووسيلة لتحقيق الأمن والطمأنينة، وهم في الحقيقة ينزلون به إلى درك تُرَّهات (ماوتسي تونغ) ومعتقدات (الهيبز).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] الدين في المجتمع العربي، مقدمة الكتاب، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1990 ص10.
[2] انظر: مختلف مقالات المرجع السابق.
[3] عبدالقادر الهرماسي، علم الاجتماع الديني: المجال والمكاسب والتساؤلات، المرجع السابق ص15.
[4] انظر: مقدمة عبدالباسط عبدالمعطي، المرجع السابق ص10.
[5] حيدر إبراهيم علي، الأسس الاجتماعية للظاهرة الدينية، ملاحظات في علم اجتماع الدين، المرجع السابق ص56.
[6] فرحان الديك، الأساس الديني في الشخصية العربية، المرجع السابق، ص112.
[7] عاطف العقلة عضيبات، الدين والتغير الاجتماعي في المجتمع العربي الإسلامي، المرجع السابق، ص141.
[8] تابع: عبدالباسط عبدالمعطي، المرجع السابق، ص10.
[9] تابع: فرحان الديك، المرجع السابق، ص125.
[10] تابع: عضيبات، المرجع السابق، ص139.
[11] تابع: الهرماسي، المرجع السابق ص 20.
[12] تابع: الهرماسي، المرجع السابق ص 23-24.
[13] تابع: فرحان الديك، المرجع السابق ص 119.
[14] انظر تفصيلاً:
William C.shepherd, Religion And Thesocial sciences, conflict or reconciliation J. For Scientific study of religion, II, 1972, PP.230-239.
[15] Marlunn May, An Intervied With William L.kolb,Wisconson sociologists,1986,23-4(fall)P.153.
[16] Kingsly davis,The Myth Of Functional Analysis As Aspecial Method in Sociology And Anthropology, American Sociological Review, V.24,N.6,Dec.,1959 P.766.
[17] انظر: المرجع السابق رقم 14 ص 233 وما بعدها.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رد مع اقتباس
  #12  
قديم 10-09-2014, 08:09 AM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود غير متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 56,139
ورقة رجال الاجتماع ومهمة تفكيك الدين

رجال الاجتماع ومهمة تفكيك الدين
ـــــــــــــــــ


اعترافات علماء الاجتماع
----------------

الحلقة الثانية عشر
-------------

رجال الاجتماع ومهمة تفكيك الدين
-------------------------

يُدرِك رِجال الاجتماع في بلادنا أنَّ الإسلام يقدِّم تصورًا معرفيًّا لتفسير العالم الاجتماعي، وأنَّه لا يمكن تصوُّر استقلاليَّةٍ لهذا العالم إلا في حُدود (المشروع الرباني) الذي يمنحه إيَّاها - هكذا قالوا بنصِّ عباراتهم - كما يُدرِكون أيضًا أنَّ هذا الإسلام يُشكِّل نمطًا للبناء الاجتماعي، وإطارًا مرجعيًّا يلجأ إليه الناس بطريقةٍ تلقائيَّة للتفكُّر في هذا العالم الذي يعيشون فيه.

ويرفُض عِلم الاجتماع ذلك لأنَّه يريدُ أنْ يقدِّم معطيات الحياة الاجتماعيَّة من عنده تحت غِطاء تعرية هذه المُعطَيات؛ ولهذا السبب كان انتقاد علم الاجتماع للدِّين جزءًا لا يتجزَّأ من طبيعة تكوينه، وكان صِدامه مع الدِّين أمرًا لا مفرَّ منه، وإذا التقيا فإنَّ التقاءهما لا يمكن أن يتمَّ إلا عبر صِراعات.

يقول محمد شقرون أستاذ الاجتماع في جامعة محمد الخامس بالمغرب: "تدخُل السوسيولوجيا في هذا المجال في صِدامٍ مع الدِّين، إنها تصطدم به من جهة؛ لأنَّ الدين يُشكِّل نمطًا للبناء الاجتماعي للواقع، ونسقًا مرجعيًّا يلجأ إليه الفاعلون الاجتماعيُّون بكيفيَّة تلقائيَّة لتفكُّر العالم الذي يَعِيشون فيه، ويُشكِّل هنا انتقاد الدِّين جزءًا لا يتجزَّأ من تعرية المعطيات التلقائيَّة للتجربة الاجتماعيَّة؛ حيث تكون الوقائع السوسيولوجية ملتصقةً، وتُشكِّل هذه التعرية نقطةَ عبورٍ لا مفرَّ منها في عمليَّة مَوْضَعة هذه المعطيات.

وتلتَقِي السوسيولوجيا بالدِّين كذلك في الوقت الذي يُعتَبر الدِّين تصورًا عِرفانيًّا لتفسير العالم الاجتماعي، والذي لا يمكن أنْ يتصوَّر استقلاليَّة لهذا العالم إلا في حُدود المشروع الرباني الذي يمنَحُه إيَّاها؛ لهذا فإنَّ التِقاء السوسيولوجيا بعِلم اللاهوت لا يمكن أنْ يتمَّ إلا عبر صِراعات"[1].

يريدُ رِجال الاجتماع في بلادنا إخْضاعَ الدِّين لتحليلاتهم وتفسيراتهم وتصوُّراتهم.

وفي أذهانهم اعتقادٌ خاطئ بأنَّ الدِّين كان ولا يزال يُنافِس العلم في العالم العربي، وغابَ عنهم تمامًا أنَّ الدِّين والعلم في الإسلام مُتَساندان وليسا في تَصارُع وصِدامٍ كالحال في بلاد الغرب.

ويُعبِّر محمد شقرون عن هذا الاعتقاد الخاطئ فيقول: "إلاَّ أنَّه لا يمكن أنْ نتجاهَلَ الإشارة إلى هذا الصراع الأوَّلي عندما نتكلَّم عن الشروط التي جعل العلم فيها الدِّين موضوعًا له؛ لأنَّه قبل أنْ يصبح الدِّين موضوعًا من بين مواضيع السوسيولوجيا فإنَّه كان المنافس لها وما زال يُنافسها في مجتمعاتنا العربيَّة الحديثة العهد بالعلم الحديث"[2].

انبِثاقًا من هذا التصوُّر الخاطِئ بتَصادُم الدِّين والعلم في بلادنا قِياسًا على ما تعلَّمَه هؤلاء من الغرب، فإنهم قد أعلنوا ثورتَهم على عقيدة الإسلام صَراحةً، ووقوفَهم إلى جانب العلم تمامًا، وقالوا: إنهم إذا خُيِّروا بين عقيدة تحدِّد لهم أصل الإنسان ومصيره وعلة وجوده، وبين علمٍ يقدم لهم ما يتصوَّرونه أنَّه معارف وحقائق متاحة أمامهم - فإنهم سيَختارُون طريق العلم، بالرغم من اعترافهم بأنَّ إسهام الأخير إسهامٌ محدود.

يقول محمد الجوهري أستاذ علم الاجتماع بجامعة القاهرة[3]: "... ومن الممكن أنْ نجيب على هذا السؤال: ... الأشياء التي يقدر الإنسان على تحقيقها، وما هو مَدَى قُدرتها على التكيُّف بطريقتين مختلفتين الأول (كذا): على أساس عقيدة دينية أو دنيوية تحدِّد لنا المسائل المطلقة والنهائية في حياة البشر، عقيدة تحدِّد لنا أصل الإنسان ومصيره وعلة وجوده... إلخ.

والطريقة الثانية: أنْ نجيب على أساس المعارف والحقائق العلمية المتاحة لنا، وفي الحالة الثانية يتحتَّم علينا الإقلاعُ تمامًا منذ البداية عن محاولة الوصول إلى أيِّ إجابةٍ عن مثل هذه التساؤلات النهائيَّة والمطلقة، ونقصر أنفسنا على كلِّ ما هو مُتاح (إمبيريقيًّا)[4]؛ أي: ما يمكن أنْ نتوصل إلى إدراكه من الواقع، ونستطيع تحليله تحليلاً مفهومًا مقبولاً، ومن الواضح أنَّنا - المشتغِلين بالعلم - لا نفكر سوى في هذا الطريق الثاني، طريق العلم والتأسيس على العلم.

كما أنَّنا لا نستطيع كمُتخصِّصين اجتماعيين أنْ نقدِّم في هذا الطريق سوى إسهامًا محدودًا، وهذا قيد نعرفه ونُسلِّم به منذ البداية".

لم يكتفِ رجال الاجتماع في بلادنا بناءً على هذا التصوُّر الخاطئ بتصادُم الدِّين بالعلم بإعلان ثورتهم على عقيدة الإسلام، ولكنَّهم اتَّجهوا أيضًا إلى مُهمَّة أخرى؛ وهي: تفكيك الدِّين سعيًا وراء وهْمٍ اسمه (استقلاليَّة العلم)، أو بمعنى آخَر: الانفراد بتفسير شؤون الحياة الاجتماعيَّة وفصلها تمامًا عن الدِّين.

تصوَّر رجال الاجتماع أنَّ ممارستهم لهذا العلم لن تتحقَّق، ولن تتمَّ إلا إذا طرحوا قضيَّة تفكيك الدِّين بِجُرأة وصَراحة كضرورةٍ واضحةٍ لهذه الممارسة المزعومة.

يقول محمد شقرون: "إنَّ ضرورةَ تفكيك الدِّين من أجل التحرير الضروري لمجال الفكر؛ وذلك لإنتاج تأويلٍ علمي عن الاجتماعي لم تُطرَح بصراحةٍ وجُرأة في الوطن العربي كضرورةٍ واضحة لِمُمارسة العِلم بصفةٍ عامَّة وممارسة العلوم الإنسانيَّة بصفةٍ خاصَّة،، ويرجع هذا بالطبع إلى غِياب حقلٍ علمي يتمتَّع بكامل الاستقلاليَّة عن السياسي وعن الدِّين نفسه"[5].

وربَط رجال الاجتماع بين شرعيَّة ممارستهم للعِلم واستِمرار صِدامهم مع الدِّين لتحقيق هذه الاستقلاليَّة التي يطمَحُون فيها، إلا أنهم رأوا أنَّه يمكن أنْ يقبلوا بين صُفوفهم - تواضعًا - أي عالم مؤمن شريطة ألا يتحدث عن إيمانه، وبهذا كان إقصاء الدِّين شرطًا ضروريًّا لممارسة العلم.

يقول محمد شقرون: "وما زالتْ شرعيَّة العمل العلمي مضمونة بالإحالة إلى هذا الصِّراع من أجل استقلاليَّة المعرفة العلميَّة، يقبل عالم مؤمن في مجموعة العلماء شريطة ألاَّ يتحدَّث عن إيمانه.

إنَّ كبر سنِّه وشهرته هما اللذان يَسمَحان له بـ(اعترافات) ذاتية بعيدة عن الممارسة العلمية"[6].

ولو توقَّف طُموح رجال الاجتماع في بلادنا عند حدِّ السعي لاستقلاليَّة العلم لهانَ الأمر، لكنَّهم لا يكتَفُون بذلك، بل جعلوا مهمَّة تفكيك الدِّين - كما أوضحنا - ضرورةً لتأويل وتفسير الحياة الاجتماعية وفقًا لترَّهاتهم التي يُطلِقون عليها (علمًا)، إنهم لا يُكنُّون أيَّ احترامٍ للدِّين الذي يريدون التعامُل معه مثلما يتعامَلون مع أيِّ وقائع أخرى، وما زالوا يصرُّون على التمسُّك بأسطورة (العقلانية) رغم اعترافهم - كما أوضحنا سابقًا - بسقوطها وإشارتهم هنا على استِحياء بأنَّ هذه العقلانيَّة عليها مَآخِذ.

يقول محمد شقرون: "وطموح السوسيولوجيا الدينية يمكن تعريفُه في هذا الإطار مهما تكن المآخِذ على العقلانية العلمية.

ويمكن تلخيصُ هذا الطموح بكيفيَّةٍ بسيطةٍ: إنَّ الأمر يتعلَّق فقط بمعاملة الوقائع الدينيَّة كما تعامل الوقائع الاجتماعية الأخرى من الناحية السوسيولوجية؛ أي: بِناءً هذه الوقائع وتصنيفها ومقابلتها ومعالجتها بمفهومي العلاقات والصراعات"[7].

ينتظر رجال الاجتماع في بلادنا ما يُسمُّونه بـ(تراجع الدِّين)، يأمُلون أنْ تأتي العقلانية - رغم اعترافهم بفشلها - بثِمارها مثلما حدَث في الغرب.

يتوقَّعون مواجهةً منسجمة بين الدولة والإسلام مثلما حدث بين الدولة والكنيسة في الغرب.

يطمحون أنْ تسجل بحوثهم شَهادةً على تَراجُع الدين، ممثَّلة في قلَّة الممارسة الدينيَّة وتطبيق الفروض الدينيَّة، وتفكُّك الشعائر الدينية تحت ضغط التمدُّن والتصنيع مثلما حدث في الغرب.

يُشكِّل هذا التراجُع الذي يَطمَحون إليه بالنسبة إليهم أفقًا فكريًّا وثقافيًّا يسمَحُ لهم بالعبث في النسيج العقَدِيِّ لبلادنا وتخريبه.

لا يُرِيد رجال الاجتماع في بلادنا أيَّ مقاومة من علماء الدِّين لِمُواجَهة هذا التخريب، ويسعَوْن إلى الانفِلات من قبضتهم مثلما أفلت الغربيون من ضغوط الكنيسة، إنَّ نجاحهم في الإفلات من قَبضة علماء الدِّين سيَسمَح لهم بعملٍ مميَّز في علم الاجتماع؛ ألا وهو (نقْد الدين) الذي يُمثِّل أوَّل خطوة في تفكيك الدِّين.

يقول محمد شقرون: "وإذا كان الإرث الفلسفي للعقلانية قد أثَّر في تطوُّر السوسيولوجيا الدينيَّة في المجتمعات المتقدِّمة الغربيَّة، فإنَّ ذلك يَرجِع إلى التجانُس الخاص بتاريخ المواجهة بين الكنيسة والدولة في هذه المجتمعات من جهةٍ، ويرجع ذلك من جهةٍ أخرى إلى كَوْنِ البحوث المقامة حول الوضعية الدينية في هذه المجتمعات قد قدَّمت إثباتًا أساسًا لِمُسلَّمة تراجُع الدِّين في العالم الحديث: قلة الممارسات الدينية، وتطبيق الفروض الدينية، تفكك الشعائر التقليدية تحت ضغط التمدُّن والتصنيع، تقلُّص نسبة الرجال والنساء الذين ينخَرِطون في الرهبانيَّة... إلخ وعمليَّة تراجُع الدِّين الذي هو الأفق الفكري والثقافي الذي تفترضه الحداثة[8] كانت تُشكِّل في هذه البحوث ظاهرة ملاحظة ومقاسة.

من هنا جاءتْ ضرورة إفلات الممارسة السوسيولوجية من تأثير رجال الدِّين، إنَّ هذه الإرادة في الإفلات أو الانعتاق من ضُغوط الهرمية الكنسية ومن احتواء رجال الدِّين، كانت تُمثِّل الشكل الأول لمتطلبات النقد التي تميِّز كلَّ عمل سوسيولوجي"[9].

جاءت الصحوة الإسلامية لتُصِيب أماني وطُموحات رجال الاجتماع في بلادنا في تراجُع الدِّين وأحلام نقده وتفكيكه ثم اختفائه في الصميم، وبيَّنت لهم المآل الحقيقي للحداثة، وأثبتت لهم أنَّ الطريق الذي سلَكُوه ليس طريقًا سهلاً، وفُوجِئ رجال الاجتماع بأنَّ الدِّين بدلاً من أنْ يختفي فإنَّه يُقاوِم ويتحوَّل ويمتدُّ إلى قِطاعات كانوا يُسَيطِرون هم عليها.

أصبح رجال الاجتماع أمامَ هذا الموقف الجديد في موقف الدِّفاع مع المقاومة الشديدة التي واجهَتْهم في ظروفٍ غير مواتية لهم، لكنهم لا زالوا يُصمِّمون على الكفاح من أجل الحِفاظ على ما يُسمُّونه: (الطموح في نقد الدِّين).

يقول محمد شقرون: "إنَّ الأهميَّة القُصوَى التي أصبح يَحظَى بها الحدث الدِّيني في المجتمعات الحديثة في أوساط المهتمِّين بالسياسة وفي أوساط المثقَّفين الذين يتحدَّد دورهم في فهْم مَآلِ الحداثة لا تسهل الوضع الفكري لعُلَماء اجتماع الدِّين تجاه موضوعهم.

فقد بيَّن هؤلاء منذ زمنٍ بعيد أنَّ الدِّين عوض أنْ يختفي يُقاوِم ويتحوَّل ويستولي على موضوعاتٍ جديدة لا صلة لها بالدِّين، وأنَّه بإمكانه أنْ يخلق ما هو جديد، ولكنَّه يبدو أنَّ مجموع هذه الظواهر (المقاومة، التحويل، التعويض، التجديد... إلخ) تأخُذ قيمة جديدة في النظرة السوسيولوجية، فقد أصبحت السوسيولوجيا اليوم وخاصَّة في المجتمعات العربيَّة أمام وضعيَّة الكفاح من أجل الحِفاظ على طُموحها النقدي في ظرفيَّةٍ تتميَّز بتبنِّي كلِّ أشكال المقاومات الدينيَّة واستخدامها لمصلحة اللاعقلانية"[10].

يدرك رجال الاجتماع في بلادنا أنَّ طموحاتهم في نقْد الدِّين وتفكيكه لا تَزال قائمةً ما دامت الدولة تُقاسِمهم هذه المهمَّة وتشترك معهم في التآمُر ضد الدِّين.

تعطي الدولة وزنًا كبيرًا للعلوم الإنسانية لا يُماثِل هذا الوزن الذي تُعطِيه للعلوم الطبيعيَّة، حيث تظهر العلوم الإنسانيَّة أنَّ سلوك الإنسان بما فيه (السلوك الدِّيني) يخضع لتأثير مُعطَيات نفسية واجتماعية، كما تُبَرهن العلوم الاجتماعية وخاصَّة علم الاجتماع وعلم النفس والتحليل النفسي أنَّ القوى والدوافع التي تتحكَّم بالآراء والمعتقدات والإرادات هي قوى ودوافع ذات طبيعة متغيرة تبعًا لدرجة تطوُّر المجتمعات؛ أي: (لا تأثير للدِّين والعقيدة فيها)، وتبين هذه العلوم (للدين) كما يقول فرحان الديك أنَّ الإنسان تابعٌ لنظامٍ اجتماعي يرتبط فيه التفريق بين الدِّيني والدنيوي؛ أي: فصل الشؤون الدنيوية عن الدِّين.

ومن هنا لا نستغرب أن نجد أنَّ عَداء رجال الاجتماع في بلادنا مرتبط ومحتمٍ بعداء الدولة للدِّين التي اتَّخذت منذ زمن بعيد خطوات محدَّدة مهَّدت الطريق لرجال الاجتماع لأداء مهمَّتهم في تفكيك الدِّين، وقد كان أبرز هذه الخطوات الآتي:
أولاً: التركيز على القوميَّة كهدفٍ أعلى وغاية أسمى، والعمل على ترويض الإنسان، ومحاولة الاستِئثار به كليًّا وإبعاده عن الدِّين، مع تشديد الدولة على رَعاياها بالتأكيد على عدم الخلْط بين الدِّين والدُّنيا، وتحرير السلطة السياسية من وصاية الدِّين، وتطوير أخلاقٍ سياسيَّةٍ لا تمتُّ بصلةٍ إلى أيِّ مِعيارٍ سماوي، ولا تترك الدولة للأفراد فرصة اختيار موقف محايد في الصِّراعات الاجتماعية والسياسية القائمة بتطبيقها، بل تصرُّ على مبدأ (مَن ليس معنا فهو ضدنا).

يقول فرحان الديك: "في الماضي غير البعيد بالنسبة إلى المجتمع العربي كان الدِّين الإسلامي يتغلغل كليَّة أو في محمل حياة الفرد وفكره.

وعلى هذا الأساس كانت سِيادته كأفق ثقافي للفرد، لكن عندما حلَّت الدولة بمفهومها الحديث محلَّ الدِّين في مناخٍ صراعي حدَث تنافُس بين الدِّين والمجتمع، فالأمَّة عندما تكفُّ عن الخضوع للدِّين ومنذ أنْ تصبح القوميَّة الهدف الأعلى وتعدَّ الغاية الأسمى تصبح بالضرورة عدوًّا للدِّين، فهي تتطلَّع إلى تَروِيض الإنسان لتجعل منه غرضها وشأنها وإبعاده عن الأجواء التقليديَّة لتستأثر به كليًّا[11].

ثانيًا: تطبيق سياسة العَلمَنَة كتحدٍّ شامل وعام للدِّين خاصَّة؛ لأنَّ الدِّين في الإسلام ليس قضيَّة خاصَّة أو مجالاً أو حيِّزًا محددًا بدقة مستقلاًّ ومفصولاً عن المجالات الأخرى، وإنما يُغطِّي بشمول كبير المحيط العائلي والاجتماعي، والسياسي والقانوني، لا يترك حيِّزًا من الحياة الفردية والجماعية دُون أحكامٍ وقواعد، وتمتدُّ فروعه إلى كلِّ مجال، وتأثيره حاضر باستمرار.

ولتحقيق هذا الاستقلال والانفصال بين شؤون الدُّنيا والدِّين قامت الدولة بما يلي[12]:
1- توطيد المؤسسات العلمانية التي تُؤسِّسها، والتي تأخُذ الطفل والشاب إلى جوٍّ يختلف كليَّة عن جوِّ الأوساط الدينية، وإدخال الفرد في عدَّة جماعات ذات أهداف مستقلَّة لا تفكِّر مطلقًا في الدِّين أو اليوم الآخِر.

وتفرض الدولة على الفرد الانتقال باستمرارٍ من المحيط الديني إلى محيطٍ يجهل كلَّ شيء عن الدِّين، أو يكنُّ له عداءً مكشوفًا، ويتمَركَز أصلاً حول المصالح الدنيوية المادية، إلى أنْ ينتهي الأمر بالفرد إلى اعتبار الدِّين مؤسسة شبيهة بالمؤسسات الاجتماعية الأخرى، لا يكرس له من وقته ونفسه إلا حيِّزًا محدودًا.

2- العمل على تحقيق العَلمَنة الفعليَّة للمجتمع بتأسيس منظمات وجمعيات ثقافية ونقابية وحزبية وتنظيمية (كالنادي الرياضي، أو التنظيم المهني، أو الجماهيري، أو السكني)، تتوسَّط بين الفرد والمجتمع دون ضرورةٍ للمرور على المؤسسات الدينية كما كان الحال في الماضي.

وبتأسيس هذه المنظمات يضعف اعتماد الفرد في تفسير أمور حياته على القِيَم الدينيَّة.

وتتَّسِع هذه المنظمات إلى لا تُقِيم اعتبارًا لقيم الفرد الدينيَّة، ولا تهتمُّ إلا بمصلحة الفرد في ضوء هدفها الذي تسعى إلى تحقيقه، ومن ثَمَّ يتحوَّل الدِّين إلى مسألة خيار شخصي لا يَعنِيها ولا يهمُّها.

3- فصل المجالات الاقتصادية عن الدِّين، بإعادة بناء المجتمع وفقًا لمقتضيات ومتطلَّبات الإنتاج والاستهلاك، بحيث تكون الكلمة العُليا للربح والدعاية والتنافس وتقنيات الإنتاج والتسويق والإدارة، ولا يكون هناك تأثيرٌ مطلقًا للأخلاق الدينيَّة، ويكون القَرار في يد أولئك الذين يملكون سلطة سياسية واقتصادية وسيطرة لا حدَّ لها.

ومن هنا تختلف خيارات الإنسان المرتبطة بتصوُّره وحاجاته عن التصوُّر الذي ينبثق من مبادئ الدِّين وقيمه، بحيث يشتدُّ التركيز على الجانب المادي من الحياة وعلى السعادة الدنيويَّة، دون وضْع اعتبارٍ لقِيَم الدِّين؛ كالقناعة والابتعاد عن الغش والاحتكار... إلخ.

4- التركيز على سياسة تحديد النسل وتدخُّل السلطات الرسمية فيها، وهي تعلم أنَّه مجال يَلقَى معارضة شديدة من الدِّين وعلمائه.

تؤكِّد الدولة للإنسان بأنَّ له حقَّ التصرُّف في جسده، كما تقوم بإدخال معطيات ديموغرافية وفيزيولوجية ونفسية وطبية وسياسية في مسألة الإنجاب، وهي معطيات من شأنها أن تُقوِّض المرتكزات الدينية التي تقوم عليها هذه المسألة.

ثالثًا: تصوير الحضارة الصناعية على أنها حَضارة منافسة للدِّين متحدِّية له بما تُقدِّمه من إمكانيَّات العلم والتقنية، وبتصويرها للإنسان على أنَّه سيِّد للطبيعة، وأنَّ على الإنسان أنْ يتكيَّف لهذه الحضارة بسبلها المادية والفكرية معًا، وهذا يستلزم منه أنْ يُعِيد النظر في أفكاره الدينية التي تكوَّنت عبر مراحل تنشئته الاجتماعية.

وتُؤدِّي هذه العملية إلى أنْ يصبح العالم الفكري للإنسان (عقلانيًّا) فلا يحتاج بالتالي إلى الدين الذي ينظر إلى هذه الحضارة - كما يتصوَّر فرحان الديك - نظرة ترقُّب وتجاهُل.

رابعًا: الاستفادة من انتشار العمران والحراك الجغرافي والاجتماعي بالتأكيد على التجديد والابتكار، وبتعدُّدية المواقف ونسبيَّة الخيارات، كلُّ ذلك بقصْد ألاَّ تنطَلِق المواقف والخِيارات من الدِّين وحده، مع تأكيد النظرة إلى المسجد على أنَّه أحد القِطاعات التي تضمُّها المدينة أو القرية الريفيَّة، والعمل على ألاَّ يختلط المسجد بالحي أو بالوسط الريفي مثلما كان سائدًا في الماضي مع تحجيم دوره بالصورة التي تمنع هذا الخلط.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] محمد شقرون، شروط إمكانية قيام سوسيولوجيا دينية في المجتمعات العربية، الدين والمجتمع العربي، مركز الدراسات العربية بيروت 1990 ص 128.
[2] تابع ص 128.
[3] بوتومور، تمهيد في علم الاجتماع، محمد الجوهري وآخرون دار المعارف، سلسلة علم الاجتماع، الكتاب الرابع، 1987 ص 16.
[4] الإمبيريقية Empricism مصطلح مشتق من الكلمة اليونانية Empeira، وترجمتها إلى اللاتينية Experientia بمعنى: التجربة، والإمبيريقية على عكس العقلانية، هي: النظرية التي تقول أنَّ التجربة - وليس العقل - هي مصدر المعرفة؛ بمعنى: أنَّ كل ما نعرفه إنما يرتبط مباشرةً بالخبرة الحسية أو يشتقُّ منها بوسائل تجريبيَّة تعتمد على الإدراك الحسي، انظر: D w Hamlyn Empricism the Encyclopedia of Philosophy، Paul Edwards، Macmillan Publishing، New York، London P 499.
وحسبُنا في بيان تعارُض الإمبيريقية مع العقيدة شهادةُ رجال الاجتماع في بلادنا في قولهم "أنَّ الإمبيريقية تستند إلى ما يَسُود العلوم الاجتماعية بوجْه عام؛ من اتجاه علماني، ومن اهتمام بمسائل علمانية".
ولأن الإمبيريقية تعتمد فقط على الأساليب الفنية فإنها ترفض أي فكر، وتبدأ بالواقع، وترى بصراحة "أنَّ كل ما لا يخضع للتجريب فهو باطل".
انظر: محمد عاطف غيث، دراسات في تاريخ التفكير واتجاهات النظرية في علم الاجتماع، دار النهضة العربية بيروت 1975 ص 284.
وعن الإمبيريقية يقول رجال الاجتماع في بلادنا: إنها تلفيقية تلقيطية جزئية عديمة اللون والطعم، تعتمد على الموقف الخبري المبسط الذي يلاحق الظاهرات مبعثرة، مسقطة من حِسابها الإطار النظري الشامل الذي يحتويها، وتعتمد البحوث الإمبيريقية على جمْع فكرة من هنا وأخرى من هناك، ثم اختيار عيِّنةٍ عشوائية عمديَّة في معظم الأحيان، ثم تصميم استمارة بحثٍ يعرض الباحث نتائجها في صورة جداول إجابة المبحوث فيها هي التي يريدها الباحث، موقفها مفتعلٌ ونتائجها مفتعلةٌ أيضًا.
انظر عبدالباسط عبدالمعطي، اتجاهات نظرية في علم الاجتماع، عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 1981 ص 273-278.
[5] محمد شقرون، تابع ص 129.
[6] تابع ص 128.
[7] تابع ص 128-129.
[8] الحداثة كمفهوم وكحركة نقلها الببغائيون العرب إلى مجتمعاتنا العربية من الغرب؛ ولهذا لا يمكن فصل الحداثة العربية عن الحداثة الغربية باعتراف الحداثيين العرب أنفسهم، يقول محمد براده: "إنَّ الحديث عن حداثة عربية مشروط تاريخيًّا بوجودٍ سابق للحداثة الغربية، وبامتِداد قنواتٍ للتواصُل بين الثقافتين".
انظر: محمد برادة في اعتبارات نظرية لتحديد مفهوم الحداثة، فصول مجلد 4 عدد 1983 ص 11.
أشار برادة إلى ذلك أيضًا في الفقرة التي اقتبسها من جون بودريان في قوله: "تَفرِض الحداثة نفسَها وكأنها وحدة متجانسة مشعَّة عالميًّا من الغرب"، نفس المصدر ص 12.
والحداثة كما تعرفها الموسوعات الغربية هي أيُّ نظرةٍ تقوم على الاقتناع بأنَّ العلم والتقدُّم العلمي الحديث تتطلَّب إعادة تقييمٍ أساسي للعقائد التقليدية؛ ومن ثَمَّ لا تنظر إلى الدِّين على أنه صياغة دقيقة لسلطة جديرة باعتماد وقبول للحقائق المنزلة من الله، وإنما تنظر إليه على أنَّه مقولات لمشاعر وخبرات دِينية عاشها بعض الرجال عبر حقبة تاريخية معيَّنة؛ ولهذا تكون الحقائق الدينية عرضةً لعمليَّة تطوير مستمر كجزء من الخبرة المتقدمة للجنس البشري.
وتستلزم هذه العملية إدخال مفاهيم عديدة وجديدة كشيء متطلب للتغيير عن الفكر والتقدُّم الحديث، وليس الوحي في مفهوم الحداثة إلا مجرَّد خبرة شخصية حسية لمجموعة حقائق (عن) الله أكثر منه موضع اتصال لحقيقة شاملة (من) الله انظر: Modernism: in the Encyclopedia، Americana، American Corporation، N Y، 1967، P2891.
وترجع جذور الحداثة كحركة عامة إلى أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، اتجهت هذه الحركة إلى تطبيق المناهج النقدية على التوراة والإنجيل وتاريخ العقائد ممَّا أدَّى إلى الحطِّ من قدرها والنظر إلى الله - تعالى - على أنه ليس فوق الوجود المادي انظر: Modernism: in the new Columbia Encyclopedia، Columbia University Press، U S A، 1970، P1801.
ويشير جون بوتي في الموسوعة الأكاديمية الأمريكية إلى أن هذا المصطلح قد استخدم في العصر الحديث لنقد الدين بصفة عامة انظر: John Booty، Modernism in Academia American Encyclopedia، Arete Publishing Comp Inc، Princeton، Newjersey، 1980، P 498.
بهذه المفاهيم التي نقلها الببغائيون العرب من الغرب شنوا هجومهم الضاري على الإسلام، مُفترِضين - عن جهلٍ - تصادُم الإسلام مع العلم كالحال في بلاد الغرب، فراحوا يُقيِّمون ويعدِّلون في الإسلام والوحي والرسالة وفْق أهوائهم، ومن أبرز المعاصرين الذين حملوا على عاتقهم هده المهمَّة (حسن حنفي) أستاذ الفلسفة الإسلامية بجامعة القاهرة، دعا حسن حنفي إلى إخضاع القرآن للنقد وللمنهج النقدي مثلما فعل (سبينوزا) مع التوراة والإنجيل، رافضًا تفسير قوله - تعالى -: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9]؛ بمعنى: أنَّه حفظ للنص، متهمًا النظرة القائلة بأنَّ معنى الآية حفظ للنص الحرفي المدوَّن بأنها نظرةٌ (لاهوتية صرفة تهرب من (النقد) وتلجأ للسلطة الإلهية).
انظر: أحمد إبراهيم خضر، وقفات مع اليسار الإسلامي، مجلة المجتمع عدد 901 وما بعده، 17 جمادى الآخرة، ص 1406/ 24 يناير 1989.
وعن رفض الحداثيين العرب (لله) و(للدين) وتشبُّثهم بالفكر العلماني والنظر إلى الإنسان على أنَّه محور الوجود وليس الله، يقول كمال أبو ديب: "الحداثة انقطاع معرفي؛ ذلك أنَّ مصادرها المعرفية لا تكمن في المصادر المعرفية للتراث في كتب ابن خلدون الأربعة، أو في اللغة المؤسساتية والفكر الديني وكون الله مركز الوجود... الحداثة انقطاع؛ لأنَّ مصادرها المعرفية هي اللغة البكر والفكر العلماني وكون الإنسان مركز الوجود".
انظر: كمال أبو ديب، الحداثة، السلطة، النص، مجلة فصول، مجلد 4 عدد 3 عام 1984، ص 37.
[9] محمد شقرون تابع ص 129-130.
[10] تابع ص 131-132.
[11] فرحان الديك، الأساس الديني في الشخصية العربية، الدين في المجتمع العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت ص 117.
[12] انظر: فرحان الديك، تحت (تحديات حضارة المجتمع الصناعي للدين وتراجع الدين في الحياة الاجتماعية) المرجع السابق ص 111-125.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رد مع اقتباس
  #13  
قديم 10-09-2014, 08:11 AM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود غير متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 56,139
ورقة المسلمون الفيبريون: نموذج آخر لمعاداة الإسلام

المسلمون الفيبريون: نموذج آخر لمعاداة الإسلام
ـــــــــــــــــــــــــ



اعترافات علماء الاجتماع
------------------

الحلقة الثالثة عشر
-----------

المسلمون الفيبريون: نموذج آخر لمعاداة الإسلام
---------------------------------

(المسلمون الفيبريون) نسبةً إلى العالم الألماني (ماكس فيبر)، هم جماعةٌ محدودةٌ من رِجال الاجتماع في بلادنا، تبنَّوا فِكرَ هذا العالِم، وأخَذُوا على عاتقهم مهمَّة نشر هذا الفكر، وإعداد ما يُسمَّى بالمكتبة الفيبرية التي تُتَرجِم أعمالَه إلى اللغة العربية.

كان ماكس فيبر يكنُّ عَداءً عميقًا وكراهية شديدة للإسلام، ولم يكن يتعامَل مع الإسلام بصورة علمية أو نزيهة، إنما كان عنصريًّا ينتقد الإسلام بطريقةٍ تعكس كلَّ صُوَرِ الحقد والتحيُّز الأوربي ضدَّ هذا الدِّين في القرن التاسع عشر، كان الأوربيُّون ينظرون إلى الإسلام على أنَّه الخطر الرئيس العسكري والخلقي على المسيحيَّة، وكانوا يُرجِعون نجاحَه وقوَّته وعظمته غلى عنف وهمجية ودَهاء المسلمين.

كانوا يعتبرون الإسلام دِين: تزمُّت، وشهوانية جنسية، وحريم، وشَعوَذة، وفَوضَى، وقد عكسَتْ كِتابات (ماكس فيبر) عن الإسلام مختلف أبعاد هذه الصورة القاتمة.

ولا يقلُّ المسلمون الفيبريون عَداءً للإسلام وكراهية له عن عداء وكراهية أستاذهم الألماني، لكنَّهم لا يُصرِّحون بهذا العداء مباشرةً، وإنما يستنبطونه ثم يُعبِّرون عنه على لسان أستاذهم هذا، أو على لسان عُلَماء الغرب، وهم لا ينبسون بكلمةٍ واحدةٍ دِفاعًا عن الإسلام، وإنما تركوا هذه المهمَّة لعلماء الغرب أيضًا ذرًّا للرَّماد في العيون.

المسلمون الفيبريون متغربون ماركسيون في آنٍ واحد، وعقلانيون علمانيون في آنٍ واحد أيضًا، تدرَّبوا في أوربا والولايات المتحدة، الغرب هو مركزهم الفكري، وهو إطارهم المرجعي الذي يفهمون من خِلاله إسلامهم ومجتمعهم وعالمهم، إنهم مؤمنون بأنَّ ما يُسمَّى (بعلم اجتماع الفهم) عند فيبر، وأطروحته عن (الأخلاق البروتستانتية ونشأة الرأسمالية)، إنما جاءتا لتُناسِب المجتمع الإسلامي الذي يمكن تحليله وفهمه في ضوئهما.

الإسلام (التقليدي) لا يتَّفق عندهم مع النظرة العلميَّة؛ ولهذا يرَوْن أنَّ عليهم واجبَ تقديم المفاهيم الأوربيَّة لإعادة تفسير الإسلام على نحوٍ يُحاوِل التوفيقَ بينه وبين الثقافة الغربيَّة، بحيث يتساوى مع الأسس الإرشاديَّة للفكر الغربي، يخبرون تلاميذهم أنَّ الإسلام النقي متوافقٌ مع العلوم والمجتمع الحديث، وإذا خلَوْا إلى أساتذتهم الغربيين يقولون لهم: إنَّ الدِّين الإسلامي يُعطِّل العلم ويقف في وجه التقدُّم.

يؤمنون كالمستشرقين بأنَّ الإسلام مثل المسيحيَّة ينتمي إلى مرحلةٍ أدنى من التطوُّر الإنساني، وسيُستَبدل نهائيًّا بالعقلانيَّة، إنهم يُسلِّمون بأنَّ الجماهير لا تقبَل فكرَهم، لكنَّهم يُطَمئِنون أنفسَهم بأنَّ العامَّة تحتاج إلى دينٍ عاطفي رمزي، وأنَّه من الصعب للفكر الحرِّ الذي يُمثِّلونه أنْ ينتصر؛ لأنَّ الجماهير لا تحبُّ العقل، ولهذا يعيشون محصورين مع قلةٍ من المثقَّفين والحداثيِّين الذين يُشارِكونهم نفسَ هذه الأفكار، يخدعون الناس بقولهم: إنَّ الدِّين عاملٌ مهم لتماسُك المجتمع، وهم في حقيقة أمرهم - كأستاذهم - لا يعبَؤُون بالدِّين، وينظُرون إليه من زاوية مَدَى مَنفَعته للمجتمع.

لا يجرؤ (المسلمون الفيبريون) على الجهر بالعلمانية إلا وسط خاصَّتهم، لكنَّهم يتحدَّثون بملْء أفواههم عن العقلانيَّة، تظنُّ الناس أنَّ العقلانيَّة من الإسلام؛ لأنَّ الدِّين والعقل في الإسلام متساندان، لكنَّ الناس تجهل أنَّ العقلانيَّة هذه تُعلِي من قيمة العقل في مواجهة الإيمان، وأنها حركة ضد الدِّين وضد الكتب المنزلة، وذات نظرة نفعية تُعطِي وزنًا كبيرًا للمناقشات العلمية والتاريخية المضادَّة للإيمان.

تبنَّى (المسلمون الفيبريون) الخطوط الرئيسة التي حدَّدَها لهم مُعلِّمهم الألماني عن العقلانيَّة، فعرَّفوها بأنها: ازدياد الحسابية والسَّيْطرة المنظَّمة على جوانب الحياة الإنسانيَّة، على أساس قواعد ومَنظُورات لا شأنَ لها بدِينٍ أو رسالة، إنها تَعنِي عندهم إحلالَ النُّظم القضائية والقانونية محلَّ شريعة الله؛ لأنَّ شريعة الله - عندهم - تقومُ على التعسُّف في اتِّخاذ القَرارات، وتعني العقلانية عندهم أيضًا: تحرير الإنسان من الإيمان: بالله، وبالدِّين، وبالغيبيَّات... ترجمة لقولهم بتحرير الإنسان من مَخاوِفه ومن العالم الذي لا يمكن التنبُّؤ به، ومن القُوَى *****يَّة الفوقيَّة بحيث لا تصبح هناك قوى غامضة لا يمكن حِسابها، ويمكن أنْ تقوم بدورٍ ما.

العقلانيَّة عندهم تعني أنَّ الموت حَدَثٌ لا معنى له، وأنَّ الإله بلا قوَّة، وأنَّه غير خالد، وهناك فقط آلهةٌ متنافسون لا حولَ لهم ولا قوَّة، الإله القديم أصبح ميتًا أو شبهَ ميت، ولنْ تولد آلهة أخرى بعدُ (تعالى الله عمَّا يقولون علوًّا كبيرًا).

العلم يعجُّ عندهم بقيم جزئيَّة ومتعارضة، واليقين النهائي في الحياة أمرٌ غير ممكن، لكنَّهم يرَوْن أنَّه بمقدورهم تحقيق درجةٍ من التيقُّن من وجودهم من خلال قبول مسؤوليَّات جديدة، لا مكان للدِّين عندهم إلا في دائرة العلاقات الشخصيَّة، ويجب أنْ يترك الدين للاختيار الشخصي الخالص.

القِيَم عندهم ليست هبةً من الله، ولكنَّها قِيَمٌ نفعية تُحقِّق مصالح جزئية وعملية معيَّنة، وأنَّ على الإنسان أنْ يُجرِي اختياراته بين قِيَمٍ جزئيَّة وغير ثابتة، الأخلاق أرضيَّة عندهم وليست من عند الله، في عالم الأخلاق العمليَّة يصبح الناس أكثر إدراكًا بأنَّ الأخلاقيَّات المتاحة فعلاً، أو التي قد تصبح متاحةً ليست بالضرورة طبيعيَّة ولا من عند الله، ويجب أنْ يتحوَّل الدِّين عندهم إلى تديُّن علماني يقبل القِيَم الدنيوية المسيطرة.

يطمح (المسلمون الفيبريون) يومًا أنْ تُفرَض العلمانيَّة بقرارٍ سياسي إذا ما خابت جُهودهم في فرْض نمطٍ غربي علماني على المجتمع الديني الإسلامي، القضاء على الإسلام أمرٌ مستحيلٌ بالنسبة لهم؛ لذا فهم يعمَلُون على إعطاء الإسلام وظيفة اجتماعية؛ بمعنى: أنْ يسمحوا له بأنْ يكون موردًا من موارد الثقافة القوميَّة والتكامل الاجتماعي مع الحَيْلولة دُون دخوله القِطاعات: السياسية، والقانونية، والتعليمية.

إنهم سُعَداء بإحكام الدولة قبضتها على نظام التعليم الابتدائي والثانوي والجامعي، لكنَّهم ينتظرون ضربة قاضية ونهائية للتعليم الدِّيني حتى ينقطع مَدَدُ الخبراء المتخصِّصين في الأمور الدينيَّة، السيطرة العلمانيَّة على التعليم الدِّيني أمرٌ يُثلِج صدورهم؛ لأنَّه سيفصل الدِّين والتعليم الدِّيني عن القِيَم والنُّظم بمضمون حديث وعقلاني، وسيخرج لهم قادةً دينيِّين بعقلية غربية وسياسية.

يأمل (المسلمون الفيبريون) يومًا أنْ تتحقَّق العَلمَنة الكاملة حتى تصل إلى أدقِّ التفاصيل في الملبس والكتابة والسلوك، وحتى في تفاصيل العبادات الإسلاميَّة، وإنَّه لَيومٌ عظيم عندهم أنْ يسكت صوت الأذان، وأنْ تدخُل الأحذية ودورات المياه والمقاعد إلى صحْن كلِّ مسجد، وتمنع الكتب الدينية والشرائط الإسلامية.

يحرق قلوبهم أنْ يحضر المئات لشيخٍ يتحدث في قَضايا الدِّين، بينما تكون القاعة شبهَ خالية إذا حاضر حَداثي أو متغرب؛ ولهذا يُصابون بالإحباط لأنَّ جُهودهم في تغيير مفهوم التديُّن لدى الشباب لم تأتِ بثمارها بعدُ، محاولاتهم لإخراج المرأة من حِصن الشريعة المنيع لم ولن تهدأ.

من أبرز مُؤلَّفات أستاذهم كتاب: "الاقتصاد والمجتمع"، عالَج (فيبر) الإسلام في هذا الكتاب معالجةً محشوَّة بالعداء والكراهية، الإسلام عنده دِين السادة، جُذوره مسيحية يهودية، ما كان أبدًا دينَ تقوى وإخلاص، وإنما هو دين محاربين من طبقة اجتماعية معيَّنة، ويعتمد نجاحُه على الانتصار العسكري على الأرض، الغنائم هي المحرِّك الأول للصحابة الأوائل، احتياجات المسلمين كمُقاتلين هي التي حدَّدت النظرة الإسلاميَّة للعالم، كلُّ المسلمين عند (فيبر) انتهازيون، أخذوا رسالة النبي وطوَّروها لتتطابَقَ مع أحوالهم المعيشيَّة.

الجهاد عند فيبر يعودُ إلى جُذورٍ يهوديَّة طور منها الإسلام فكرة الجهاد المقدَّس، المسلمون كانوا يخضعون الكفار لأغْراض تتعلَّق بالجِزية بدلاً من إدخالهم الإسلام، أخلاق الإسلام أخلاق متعة حسيَّة ورفض للعالم، النساء في الإسلام هم غرض هذه المتعة، الشهوانية تُسَيطِر على الإسلام حتى إنَّ الآخِرة في الإسلام هي جنَّة شهوانيَّة للجندي، لم ينجح المسلمون في اختيار خليفةٍ لرسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - مباشرةً بسبب نظام تعدُّد الزوجات، هذا هو ما علَّمَه لهم (فيبر).

خرج الأستاذ الألماني على العالم بفكرة (الكارزمية) أو (الإلهامية) التي نسَبَها إلى الأنبياء، وراح رجالنا كالبُلَهاء يُطبِّقونها على النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - السلطة الكارزمية عند فيبر سلطةٌ لشخصٍ له نوعٌ من القداسة أو البطولة وبعض الخصال النادرة، وهي سلطة فجائيَّة ابتكاريَّة تحتوي على تناقُضات، وغير ثابتة ولا مستقرَّة، تعتمد على بعض الأعمال *****يَّة أو الخارقة للعادة، يتبع الناس هذه السلطة لأنَّ النبي يستطيع أنْ يُقدِّم الدليل الواقعي على سُلطته في ضوء ***** والعطايا، يتعامَل الناس مع النبي في ضوء معايير نفعيَّة أو ماديَّة، وتجري العلاقة بين النبي وأتْباعه على غِرار علاقة السيد بالعبيد: (الهبات مقابل الخضوع).

لم يكن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - عند فيبر هو النبي الذي نعرفه، إنَّه رجلٌ بَنَى سُلطته على *****، يدَّعى بأنَّه يُوحَى إليه، وأنَّ القُرآن الذي أتى به معجزةٌ، وأنَّه ينتمي لسلسلة الأنبياء: إبراهيم وموسى وعيسى - عليهم السلام - كلُّ ذلك محض ادِّعاء عند فيبر.

اتَّبع الناس النبي سعيًا وراء الهدايا الملموسة والغنائم، كان الأساس الرئيس لدعوته هو حلُّ المشاكل التجارية، ولأنَّه كان تاجرًا ومتعبدًا فإنَّه استطاع في خلوته أنْ يُدرِك بوضوحٍ أهميَّة تنظيم رغبات المقاتلين في الحصول على الغنائم، إنَّه رجل صاغَ رسالته التوحيديَّة في ضوء المصالح العسكريَّة، واستفاد من صِياغة الناس لرسالته في ضوء حياتهم ومصالحهم الاقتصاديَّة، تزوَّج النبي السيدةَ خديجة - رضي الله عنها - لأنَّه استطاع بهذا الزواج أنْ يخلو في غار حراء، ومع هذه الخلوات المتكرِّرة راح يُفكِّر في مشاكل المجتمع، ويتعزَّى في وفاة طفلَيْه، واستطاع بهذا الزواج أنْ يدخل في جماعة الصفوة من رؤوس الأموال والتجار، الشهوة الجنسية عند الرسول كانت هي أساس التعاليم القرآنية عن الأسرة والزواج.

ترجم (المسلمون الفيبريون) كلَّ ذلك إلى العربيَّة، ولم ينبسوا بكلمة دِفاع واحدةٍ حتى ولو في حاشية ترجماتهم، لا عن الإسلام، ولا عن الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - ولم يقفْ بهم الأمر عند هذا الحد، فإنهم - وتحت علم (أمانة النص) و(المحافظة على الروح الأصلية للنص) - طعَنُوا الإسلام في الصَّمِيم، فنقلوا لنا على لسان علماء الغرب أنَّ الله دُمية حيَّة (تعالى الله ما يقولون)، وأنَّ الله إسقاطٌ لطبيعة الإنسان بصورةٍ نقيَّة، وأنَّ الحج طقسٌ شبه وثني، وأنَّ الإسلام دين فقهي جافٌّ لا يشبع إلا القليل من الحاجات العاطفيَّة، وأنَّ الإسماعيليَّة استطاعت أنْ تُقدِّم إطارًا كاملاً من المعتقدات، وأنها بديلٌ فكري للسنَّة، وأنَّ كلَّ الصفات التي يخلَعُها الناس على الله صفات إنسانيَّة، وأنَّ الاعتقاد بأنَّ الله يخلق الإنسان تحوَّل الآن إلى الاعتقاد بأنَّ الإنسان هو الذي يخلق الله، وأنَّ الدِّين انعكاسٌ لعالم خرب سُجِنَ فيه الناس، وأنَّ النضال ضد الدِّين هو نضالٌ مباشر ومستمر.

نقل إلينا (المسلمون الفيبريون) طعنات (رودنسون) للإسلام دون أدنى تعليقٍ من جانبهم، وضمُّوا معها طعنات الكتَّاب الأوربيين أيضًا، محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - إمَّا كان سويًّا من الناحية النفسية ولكنه غير مخلص في (ادِّعاءاته) بالنسبة لرسالة الله تعالى، وإمَّا كان مخبولاً وصدق في رسالته النبويَّة.

المحتوى الديني للقرآن غير صحيح، وهو ليس برسالةٍ منزلة، قد يكون الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - عاقلاً ومخلصًا لكنَّه كان مخطئًا؛ لأنَّه قبل معتقدات فلسفيَّة غير ذي بال، القرآن عند (رودنسون) تولَّد من اللاشعور عند النبي، وتمثَّل في عناصر الكلمات التي توارَدتْ عليه، ومن عناصر تجربته الفعلية ومضمون أفكاره ومناقشاته التي سمعها، ثم ظهرت مرَّة أخرى مجزأة متغيرة في شكل جديد هو القرآن؛ أي: إنَّ النبي خلق القرآن من خلقه اللاواعي عن طريق إعادة خلق تجاربه ومعارفه السابقة التي تحصل عليها بالخطأ.

كلُّ هذه الطعنات في النبي وفي الرسالة وفي القُرآن ترجمها لنا (المسلمون الفيبريون) دون أنْ ينبسوا بكلمة دفاع ولو في حاشية ترجمتهم، قبلوا مفهوم (الإلهامية) أو (الكارزمية) عند فيبر وطبَّقوه على نبيهم، ولأنهم متغربون قالوا: إنَّ الله (فكرة) أي ليس بحقيقة، وأنَّ الإسلام (ظاهرة)؛ لأنَّ الغرب علمهم أنَّ (الدين ظاهرة اجتماعية)، ودخلوا جُحرَ الضب الذي دخَلَه الغرب قبلهم، فاعتقدوا أنَّ الإسلام ظاهرة عميقة ومعقَّدة، في حين أنَّ الظاهرة تعني عند الغرب: أي موضوع أو واقعة يمكن ملاحظتها والتعرُّف عليها عن طريق الحواس، وتعتمد على التجربة والخبرة الحسيَّة، فمنذ متى كان الله - تعالى - والملائكة والشياطين والجنة والنار والبعث والحساب تخضع للخبرة الحسية والتجريب؟

قَبِلَ (المسلمون الفيبريون) مقولات أستاذهم؛ ليس لأنَّه يرى بأنَّ الأخلاق الرأسمالية والعلمانية توافق بلاد المسلمين، ولكن لأنهم تعلَّموا ودرسوا هذه المفاهيم في بلاد الغرب.

قبلوا الفكر العقلاني الغربي برحابة صدر، وإذا راجعتهم قالوا لك: إنَّ العلوم الحديثة كانت في الأصل عربيَّة، وأنَّ التقدُّم الأوربي يعتمد كثيرًا على منجزات الإسلام في إسبانيا، وإنَّنا نستردُّ من الغرب ما كان لنا أصلاً، لقد وصلت بهم البلاهة وانعدام الإدراك إلى قبول المفردات التي حدَّدَها لهم الغرب لفهْم الإسلام وفهْم العالم، ترجموا لنا - دون تعليق - أنَّ الإسلام جافٌّ، وأنَّه ليس دينًا بالمرَّة.

أثَّرت عليهم المفاهيم الدوركايمية والماركسية مثلما أثَّرت على أستاذهم، فعرفوا لنا الدِّين دون الاعتراف بالله أو الغيبيَّات، صوَّروا العلاقة بين الله والإنسان على أنها علاقةٌ بين إنسانٍ وإنسانٍ، ردُّوا العلاقة بين الله والإنسان إلى أساسٍ مادي يسيرُ وفقًا لما يسمُّونه بالعلاقات الإنتاجيَّة، فالله هو السيد والناس هم العبيد (بالمعنى الإقطاعي)، أصوات الجن وآلهة القبائل استُبدِلت عندهم بمتكلِّم رئيس هو (الله)، يتَّصل بالناس على مسافة اجتماعية بعيدة.

نقلوا إلينا عن أستاذهم أنَّ الإسلام يتبنَّى اتجاهًا شهوانيًّا خالصًا، خاصَّة تجاه النساء، والكماليَّات، والملكية، وأنَّ الإسلام اعتبر النساء غرضًا للمتعة الجنسيَّة، وأنَّ النبي رجلٌ شهواني، وأنَّ دينه هو دين العطور والبخور وتهذيب اللِّحَى.

الأمانة مع نصوص فيبر جعلتهم يترجمون لنا كلَّ ذلك؟! ولو كانت لهم أمانةٌ مع العقيدة لأبرزوا بوضوحٍ ما ترجموه بأنفسهم عن أسباب هذا العداء الشخصي من جانب فيبر للإسلام وللنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - هذا العداء الذي ارتبط بموقف فيبر من العلاقة بين الدِّين والجنس، وكيف أنَّ سيرة فيبر الشخصية والجنسية والعائلية والاجتماعية أثَّرت بوضوحٍ على تحليله ونظرته للإسلام.

لم يكن والدَا (الأستاذ) على وفاقٍ، ليس في قَضايا السياسة والدِّين فقط، وإنما أيضًا في علاقتهما الشخصيَّة والجنسيَّة.

كانت أمُّه - كما ترجم المسلمون الفيبريون - باردة جنسيًّا، تزوَّج فيبر من إحدى قريباته، لم يستطع ممارسة الجنس معها لعجزه الجنسي، ولم يستطع النوم بسبب خوفه من حالة القذف الليلي الذي لم يكن بمقدوره التحكُّم فيه، نجح في ممارسة الجنس مرَّة واحدة فقط في حياته مع امرأةٍ زنا بها في أواخر الأربعينات من عمره؛ ولهذا كانت مشكلة فيبر الجنسية هي المفتاح لفهْم نظرته إلى الإسلام.

يقول (ب. تيرنر) في ذلك: "لم يكن فيبر بقادرٍ على أن يتخطَّى العوائق العاطفية التي أوجدتها الظروف الجنسية في حياته الشخصية وهو يتعامل مع الإسلام والرسول، لم يستطع أنْ يكون حياديًّا في تحليلاته بسبب ما ألَمَّ به من ظروف".

شرح فيبر أخلاقَ الإسلام في ضوء نظرته للأخلاق البروتستانتية، عالَجَ القيم في الإسلام كشيء ثانوي، عادَى الإسلام تمشيًا مع الاتجاه الأوربي المعادي، ومع عَداء المستشرِقين للإسلام وعلى رأسهم (كارل بيكر)، درس فيبر نشأة الإسلام في ضوء نظرية الحتمية الاقتصادية، تَرجَم لنا (المسلمون الفيبريون) تفسير ماركس للدِّين بأنَّه ليس له محتوى في ذاته، ولا يستمدُّ حياته من السماء وإنما من الأرض، وأنَّه يفنى بفناء الواقع، (ولم يعقبوا بكلمة).

نقلوا لنا ابتهاج (إنجلز) بهزيمة عبدالقادر الجزائري واحتلال فرنسا للجزائر، وكيف نظَر (إنجلز) إلى المسلمين في الجزائر على أنهم أمَّة من بدو الصحراء ومن اللصوص لا يُؤسَف على ضَياع حريتهم، وأنَّ الفرنسي الحضري الصناعي المتفتِّح فكريًّا أفضل من هؤلاء البرابرة (ولم ينبسوا بكلمة).

أجمع الباحثون الغربيون على أنَّ لغة فيبر لغة علميَّة معقَّدة، وأنَّه يعالج موضوعاته بطريقةٍ فلسفية عميقة جدًّا، وأنَّ كتاباته تتميَّز بالصعوبة والغموض، وأنَّ الدراسة المتعمِّقة لعلوم الاجتماع عنده تجعله أكثر تعقيدًا وتشعُّبًا، قضاياه غير متَّسقة، ومن الصعب إيجادُ تفسيرٍ موثوق به لفِكرِه ونظريَّته، وأنَّ أيَّة محاولة للتعرُّف على ما الذي يَعنِيه فيبر حقًّا هي بالضرورة مخيِّبة للآمال، يقومُ علم الاجتماع عنده على أهميَّة فهْم (ادِّعاءات) الفاعل قبلَ الشُّروع في تفسيرها، وعند دراسته للإسلام وللنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان هو أوَّل مَن تخلَّى عن مبدئه، هاجَم الإسلام والنبي رغم محدوديَّة الدراسات الألمانيَّة عن الإسلام، ورغم عدم توافُر المعلومات الواقعيَّة عنده، وعدم وجود تفسيرات للقُرآن لديه.

تعقيد وغُموض وصُعوبة وعدم اتِّساق في فكر (فيبر)، وتحيُّز وعَداء وتعدٍّ منه على الإسلام ونبيِّه، كلُّ هذا يعترف به الباحثون الغربيون، أمَّا أتباع فيبر في بلادنا فيقولون: إنَّ فكرَه يصلح صلاحية تامَّة لدراسة مجتمعاتنا.

(فيبر) عندهم رجلٌ مبجَّل ومحترم ونشط وذو شخصيَّة ساحرة وقويَّة، وقدرة عقليَّة ثاقبة، مؤلفات فيبر عند رجالنا نصبٌ تذكاري يجب تأمُّله من بعيدٍ، وأنَّ علينا أنْ نجعلها هاديًا لنا، وأنْ نطوِّر بحوثنا بصفةٍ عامَّة في ضوء النظريات الألمانية بزعامة (فيبر)؛ لأنها مليئةٌ بالمنطق والأطر التصوُّرية السليمة، رجالنا يرَوْن (فيبر) رجلاً عبقريًّا ذا فكر منهجي، إنَّه الرجل الذي (تجلَّت عظمته) في قُدرته الفائقة على شمول كافَّة مسائل علم الاجتماع، إنَّه صاحب الإطار النظري الواضح المعالم، المستخدِم لمنهج متميِّز ثاقب الرؤية واسع البصيرة، لقد أعمى الله بصيرتهم حتى عن مجرَّد فهْم واستيعاب ما ترجموه بأيديهم عن أستاذهم الألماني.

أوقع ماكس فيبر أتباعَه في بلادنا في حفرةٍ عميقةٍ حينما علَّمهم ألاَّ يعبَؤُوا بالنص الديني، وإنما يهتمُّون فقط بالآثار الاجتماعية والنفسية لهذا النص على الناس، فراحوا كالبُلَهاء يُطبِّقون هذا المبدأ على الإسلام، فضاعَتْ نصوص العقيدة من بين أيديهم، ولم يبقَ لهم إلا نصوص (فيبر)، فكانوا أُمَناء معها، محافظين على روحها، أمَّا مهمَّة الدِّفاع عن الإسلام فتركوها لغير المسلمين الذين لا يفهَمُون الإسلام إلا كظاهرةٍ، ولا ينطَلِقون في دراسته إلا من نفس مفاهيم فيبر، ونسوا أنهم ترجموا لنا قولهم: إنهم لا يهدفون إلى الحكم على مَدَى صلاحية مقولات فيبر، بل يُحاوِلون توضيح ماهيَّتها.

هؤلاء هم (المسلمون الفيبريون)، وهذه هي حقيقتهم، إنهم من بني جلدتنا ويتحدَّثون بألسنتنا ﴿ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ ﴾ [البقرة: 14].

حادوا عن الطريق المستقيم ﴿ اشْتَرَوُا الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى ﴾ [البقرة: 16].

في طبيعتهم آفةٌ وفي قلوبهم علة ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ﴾ [البقرة: 11].

إنهم نموذج مُتكرِّر على امتِداد الزمن، لا يجدون في أنفسهم الجُرأة والشجاعة ليُواجِهوا الحقَّ بالإيمان الصريح، أو يجدون في أنفُسِهم الجرأة والشجاعة ليواجهوا الحق بالإنكار الصريح.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــ
رد مع اقتباس
  #14  
قديم 10-09-2014, 08:13 AM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود غير متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 56,139
ورقة الصحوة الإسلامية ورجال الاجتماع

الصحوة الإسلامية ورجال الاجتماع
ــــــــــــــــــــ


اعترافات علماء الاجتماع
--------------

الحلقة الرابعة عشر
--------------

الصحوة الإسلامية ورجال الاجتماع
--------------------------

لماذا يُعادِي رجالُ الاجتماع في بلادنا الدِّينَ والصحوةَ الإسلاميَّة وحركاتها؟ إنَّ موقف عُلَماء اجتماع الغرب المعادي للدِّين بصفةٍ عامَّة، وللإسلام وللصحوة الإسلامية وحركاتها بصفةٍ خاصَّة - لا يحتاجُ إلى مزيدِ عَناءٍ للكشْف عن أسبابه ودَوافعه.

أمَّا أنْ يُعادِي رجال الاجتماع في بلادنا دِينَهم والصحوة الإسلاميَّة في بلادهم، فإنَّ هذا الأمر يَحتاج إلى وقفات.

أشادَ رجال الاجتماع في بلادنا بما قامَ به أتاتورك فيما يسمُّونه بعمليَّة تخليص الشؤون الدنيويَّة من الدِّين بمنْع التربية الدينية في المدارس، واعتماد القانون الأوربي بعدَ إلغاء الشريعة الإسلاميَّة، وتَأمِيم الأوقاف، وتقليص قوَّة علماء الإسلام، ومنع أي إشارة إلى الإسلام في الدستور[1]، ورأوا في ذلك إنجازًا كبيرًا رسَم لهم طريقًا رائدًا في تَخرِيب النسيج الاجتماعي في عالمنا العربي[2].

وبينما استمرَّ رجال الاجتماع في المشاركة في عمليَّة تخريب النسيج الاجتماعي في بلادنا، باغتَتْهم الصحوة الإسلاميَّة وحركاتها التي عمَّت كلَّ المجتمعات العربيَّة بلا استثناء، واستهدفَتْ إعادة تركيب النسيج الاجتماعي بصورةٍ مُكثَّفة وفق المقياس الأوحد والمُعتَرف به وهو الإسلام.

يقول علي الكنز أستاذ علم الاجتماع بجامعة الجزائر: "وفي هذا السياق نجدُ أنَّ الموقف يستهدف إعادةَ تركيب البنى الاجتماعية والسياسيَّة في المجتمعات العربيَّة، وكذلك الذهنيَّات الجمعيَّة والفرديَّة وفْق منظورٍ محوري وهو الإسلام، هذه الحركة الجديدة التي تخضَعُ لها المجتمعات العربيَّة دونَ استثناءٍ تُشكِّل في الأساس عملاً داخليًّا مرتبطًا بهذه المجتمعات، ومستهدفة إعادة تركيب نسيجها الاجتماعي بصورةٍ مُكثَّفة، وفْق المقياس الأوحد المُعترَف به وهو الإسلام.

وتتَّسِم هذه الحركة الجديدة في بِنيَتها وفي تطوُّرها مع بعض الاختلافات الطفيفة بالمميزات الأساسيَّة نفسها في مختلف المجتمعات العربيَّة"[3].

وحينما أفاقَ رجال الاجتماع في بلادنا من صدمة مباغتة الصحوة الإسلامية لهم، تساءَلُوا: أين كانوا وقت حُدوثها؟

لم يكن رجال الاجتماع على امتداد عالمنا العربي يتوقَّعون هذه الصحوة، كانوا يعتقدون أنَّ تجارب التنمية في هذا العالم وما يسمُّونه بانتصاراته الوطنيَّة قد شهدت ميلادَ ثقافةٍ جديدة خلفت الدِّين وراءها؛ لتُسايِر ما يسمُّونه بالتطوُّر الاقتصادي والاجتماعي في كلِّ بلد.

يقول علي الكنز متحسرًا: "مَن كان يظنُّ أيَّام ميثاق القاهرة بأنَّ مصر الثمانينات سوف تُواجِه كمجتمعٍ وكدولةٍ تلك المسألة التي أصبحتْ محوريَّة، ألا وهي: طبيعتها الإسلامية، وأنَّ سيد قطب في مواجهته لعبدالناصر سيُصبِح يومًا ما شهيدَ الجماهير، وأنَّ حزب حسن البنا (الإخوان المسلمون) سيَحظَى يومًا ما في أوساط بعض الشبَّان الجزائريين بمعرفةٍ تَفُوق معرفتهم لتاريخ جبهة التحرير الوطني".

ويستمرُّ علي الكنز قائلاً: "والسؤال الذي يَفرِض نفسَه علينا اليومَ هو: أين كان الخيال السوسيولوجي من كلِّ هذا في وقتَ عرف كُبرَيات التجارب التنمويَّة لآمالٍ معقودة عليها؛ مثل: سلسلة الإصلاحات التي تَوالتْ في مختلف البلدان العربية، وكذلك التأميمات الكبرى؛ انطلاقًا من قناة السويس عام 1956 إلى المحروقات في الجزائر عام 1971، والإنجازات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الهائلة؛ مثل: سد أسوان، ومركبات الحديد والصلب، وكبريات الجامعات العلمية والتقنية؟"[4].

وعن عدم توقُّع رجال الاجتماع للصحوة الإسلاميَّة يستَطرِد علي الكنز قائلاً: "نقول بأنَّ هذه الظاهرة غير مُتوقَّعة؛ لأنَّ الانتصارات الوطنية التي شَهِدَها الوطن العربي في الخمسينات، وظهور حكومات وطنيَّة كما كانت الحال في كلٍّ من سوريا والعراق والجزائر شهدت ميلاد ثقافة جديدة كانت مُسايِرةً للتطوُّر الاقتصادي والاجتماعي في كلِّ بلد، على الرغم ممَّا عرفه كلُّ بلد من نِزاعاتٍ عديدة بين مختلف المجموعات المتصارعة؛ مثل: الوطنيين والشيوعيين والليبراليين"[5].

كان رجال الاجتماع في بلادنا يتصوَّرون أنَّ المشاكل الاقتصادية والاجتماعية ومهامَّ التنمية في عالمنا العربي قد قلصت من مكانة الدِّين، وحوَّلَتْه إلى مسألة شخصيَّة، لكنَّهم فُوجِئوا بأنَّ الدِّين يستَعِيد حيويَّته ويفرض هَيْمنته على جميع جوانب الحياة.

يقول علي الكنز: "كنَّا نعتقد ببساطةٍ أنَّ المشاكل الاقتصادية والاجتماعية المعروفة وأنَّ المهامَّ المعقَّدة للتنمية - سوف تُقلِّص تدريجيًّا من مكانة الدِّين في الضمير الجمعي، فيُصبِح في النهاية قضيَّة شخصيَّة بحتة، تمامًا مثلما حدَث في مجتمعاتٍ أخرى، وبخاصَّة الغرب البرجوازي، غير أنَّنا ها نحن اليوم أمامَ هذا النموذج الكلياتي وهو يستعيدُ حيويَّته، ويستهدف فرْض هَيْمنته على جميع جوانب الحياة"[6].

اعترف رجال الاجتماع بأنَّ (القومية) و(الوطنية) ليستا بقادرتَيْن على البَقاء أو جذْب الجماهير للالتفاف حولهما؛ لأنَّ الإسلام أصبَحَ المكافئ الوظيفي لهما.

يقول سعد الدين إبراهيم أستاذ الاجتماع بالجامعة الأمريكية بالقاهرة: "إنَّ الإسلام الثوري للجيل الحالي من أبناء الطبقة الوُسطى والصغيرة في الأمَّة العربيَّة هو المكافئ الوظيفي للقوميَّة العربيَّة منذُ جيلٍ مضى، كما أنَّه مكافئ للوطنية المناهضة للاستعمار منذ جيلين سبَقَا على الطريق"[7].

ويعترف سمير نعيم أستاذ الاجتماع بجامعة عين شمس بذلك في مقالةٍ شديدة العَداء للجماعات الإسلامية في مصر فيقول: "شهدَتْ مصر منذ تشرين الأول/أكتوبر 1972 ما يمكن أنْ نُطلِق عليه تلازمًا بين ما سموه بالصحوة الإسلاميَّة، والتنظيمات الإسلاميَّة؛ العلنيَّة والسريَّة، وبين غِياب القضيَّة العامَّة التي تلتفُّ حولها الجماهير أو المشروع الحضاري أو التنموي"[8].

أسقَطت الصحوة الإسلاميَّة تلك العقلانية[9] التي تعلَّق بها رجال الاجتماع لفهْم الواقع الاجتماعي والسياسي بعد أنْ سقطت تلك الأحزاب والتنظيمات التي حملتها الواحد تلو الآخَر، بالرغم من سيرها وفْق الخطوط التي رُسِمتْ لها لتحلَّ محلَّها التنظيمات الإسلاميَّة التي اعتقد رجال الاجتماع أنها تنظيماتٌ غريبة تجاوزها التاريخ إلى الأبد.

يقول علي الكنز متحسرًا: "مَن كان يظنُّ أنَّ كبريات الأحزاب الوطنية المنجزة كقوى عقلانية لهذه التحوُّلات العميقة لكلٍّ من الطبقة والمجتمع مثل حزب البعث في سوريا والعراق، والاتحاد الاشتراكي في مصر، والدستور في تونس، وجبهة التحرير الوطني في الجزائر - سوف يأتي يومٌ ينهار فيه الواحد تِلوَ الآخَر؟ وما هو ملفت للانتباه حقًّا في هذا الشأن هو أنَّه لم يحلَّ مكان هذه الأحزاب تنظيماتٌ أخرى على يسار أو على يمين النهج المرسوم بالنسبة للكلِّ، وإنما تنظيمات غريبة وثقافة كان يُعتَقد آنذاك أنَّ السير الموضوعي للتاريخ قد تجاوَزَها إلى الأبد"[10].

جاءت الصحوة الإسلامية لتُثبِت لرجال الاجتماع أنَّ هذه (العقلانية) التي علَّقوا عليها آمالهم لفهْم الواقع الاجتماعي والثقافي والسياسي قد أصبحتْ عاجزةً على الصعيدين: النظري والمنهجي، في فهْم هذا الواقع، ولتُصِيب هذا التفكير (العقلاني) بأزمةٍ عميقة وخَيْبة أمل.

يقول علي الكنز: "إنَّ اقتحامَ التفكير الديني للأيديولوجية العربيَّة المعاصرة بهذه الشدَّة لَيَدلُّ - في الحقيقة - على أزمةٍ عميقة تمرُّ بها مجتمعاتنا اليوم، وهذا ما يَراه كثيرٌ من المحلِّلين ويعتَمِدونه في دِراساتهم، غير أنَّ هذا الأمر قد يتعلَّق أيضًا بمؤشِّر أو بمبرِّر لأزمةٍ عميقةٍ أصبح يُعانِي منها التفكير العقلاني، وكذلك عجز هذا التفكير على الصعيدين: النظري والمنهجي، في فهْم واقعٍ اجتماعي وثقافي وسياسي لم يتوقَّع حدوثه من قبل".

وعن خَيْبة الأمل التي أُصِيبَ بها رجال الاجتماع، يقول علي الكنز في إحدى دراساته[11]: "إنِّي أريدُ من خِلال تدخُّلي هذا أنْ أقوم بمساهمةٍ متواضعة في تحديد هذا المجال الجديد للبحث الذي يَفرِضه علينا ما عرفناه من خيبة أملٍ في تاريخنا الفعلي، وفي قدرتنا على معرفته علميًّا".

لم تكن العقلانيَّة فقط هي التي سقَطتْ مع ظهور الصحوة الإسلاميَّة، وإنما سقطتْ معها كلُّ شعارات التحديث والعَلمَنة وبناء المجتمع، وضَمان الرفاهية التي دخَلتْ هي نفسُها في أزمةٍ خانقة عميقة وحادَّة أيضًا.

يعتَرِف (الهرماسي) أستاذ الاجتماع بالجامعة التونسية: "لقد جابهت الإنسانيَّة في أواخر هذا القرن عدَّة أزَمات مختلفة، كأزَمات الغذاء والطاقة والفقر، وما من شكٍّ في أنَّ مثل هذه الأزمات قد حدَّ من قُدرة البشر على إيجاد حلول ناجعة لمجمل المشاكل المطروحة عليهم، حتى عندما تكون هذه المشاكل واضحةً تمامَ الوضوح؛ وبالتالي فإنَّ الأيديولوجية العصريَّة التي ما انفكَّت تحمل شعارات التحديث والعَلمَنة، والتي اضطلعت ببناء الدولة العصريَّة، ونحت معالم المجتمع الحديث، وضَمان الرفاهية، دخلت هي نفسها في أزمةٍ خانقة عميقة وحادَّة"[12].

لقد نجحت الصحوة الإسلاميَّة تلك التي اعتقد رجال الاجتماع أنها لا تتَّفق مع متطلَّبات العصر في إحباط ما أسموه بالمحاولات الجريئة للفكر العربي المعاصر، وأسهمتْ في الأزمة التي آلَ إليها.

يقول علي الكنز: "إنَّ هذا المنظور الجديد للوطن العربي والعالم الإسلامي يبدأ أولاً وقبلَ كلِّ شيء كظاهرةٍ لم نكن نتوقَّعها وغير متَّفقة مع متطلَّبات العصر، ومن حيث هو كذلك فقد أسهَمَ بقسطٍ وافر في الأزمة التي آلَ إليها الفكر العربي المعاصر الذي يشهد اليوم إحباطَ أقلِّ محاولاته جُرأة"[13].

راقَب رجال الاجتماع في بلادنا هذه الصحوة الإسلاميَّة عن كَثَبٍ على أملٍ يُراوِدهم؛ وهو محاولة التحكُّم فيها، وسجَّلوا على أنفسهم بأنهم يقومون بهذه المحاولة مُستَرشِدين بنفْس الإطار الغربي الذي يرصد هذه الصحوة باهتمامٍ بالِغٍ.

يقول محمد شقرون أستاذ الاجتماع بجامعة محمد الخامس بالمغرب: "إنَّ المشكل الأساسي الذي يطرح بالنسبة إلى البحث في هذه الظرفيَّة الجديدة هو التحكُّم في الاتِّجاه الجديد الذي يريدُ أنْ يرى في الدِّين كلَّ شيءٍ، ويمكن أنْ تعتبر المكانة التي أصبحت تَحظَى بها دراسة الحركات الدينيَّة الجديدة في سوسيولوجيا الدِّين الأنجلوسكسونية مادَّة خصبة للتفكير في هذا الإطار"[14].

توصَّل رجال الاجتماع في بلادنا في تحليلاتهم للصحوة الإسلامية وحركاتها إلى ما يلي:
أولاً: أنَّ الحركات الإسلامية تَسعَى إلى تحقيق هدف أساس كان ولا يزال ينحَصِر في محاولة العودة بالمجتمع العربي الإسلامي إلى النموذج الذي وُجِدَ في صدر الإسلام أيَّامَ الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - والخلفاء الراشدين[15].

ثانيًا: أنَّ هذا الهدف الذي تسعى لتحقيقه هذه الحركات كان ولا يزال يستمدُّ شرعيَّته وتبريره من الإيمان الراسخ لدى مُنظِّري وقادة هذه الحركات، وغالبيَّة المسلمين من جهةٍ أخري - بأنَّ الإسلام نظامُ حياةٍ شامل يصلح لكلِّ زمان ومكان؛ ولذلك كانت هذه الحركات تصرُّ على أسلَمَة المجتمع وعلى اعتبار الإسلام دينًا ودولة[16].

يقول (عاطف عضيبات) أستاذ الاجتماع في جامعة اليرموك بالأردن في لهجة تحدٍّ وعَداء: "إنَّ التاريخ العربي-الإسلامي برمَّته يشهَدُ على استحالة الرُّجوع إلى الوضْع الذي كان قبلَ العام الأربعين للهجرة، وجميع المحاولات للعودة إلى بدْء عهد الدعوة الإسلاميَّة أو إلى مزْج الزمني بالروحي مصيرُها الفشل في يومنا هذا، كما كان حالها بالأمس، وكما ستكون غدًا"[17].

ويقول عضيبات في موقعٍ آخر: "وكلَّما تقدَّمت الأزمنة بالعرب المسلمين زادوا من إضْفاء المثاليَّة على تلك الحقبة التاريخيَّة التي لم تَتجاوَز نصفَ قرن، وكلَّما ألهمتْ سِيرتها خَيال ووُجدان الرافضين للواقع المعاش إلى المجتمع الفاضل"[18].

ثالثًا: ترجع الحركات الإسلامية باستمرارٍ إلى الكتاب والسنَّة لفهْم كلِّ المشاكل التي تطرَحُها علاقة الإنسان بالعالم والطبيعة والإنتاج والفكر والثقافة والمجتمع والقانون... إلخ.

فكلُّ تفكيرٍ سواء أكان علميًّا أم غير علمي، جماليًّا أخلاقيًّا سياسيًّا، هو في النهاية مجرَّد عمل تفسيري وتأويلي لما جاء في الكتاب والسنَّة[19].

يقول علي الكنز بلهجةٍ ساخِرة: "في هذا السياق نجدُ حركة الأصوليين تُمجِّد العصر الذهبي الأول؛ حيث يصبح الأسطورة المؤسِّسة للتاريخ الفعلي؛ أي: للإسلام، كما هو موجودٌ فعلاً - إنْ صحَّ التعبير- هذا الإسلام الذي يجب أن يُفرَض بصورةٍ مطلقة وشاملة باعتباره المعيار الأوحد لتصوُّر ما حدث في التاريخ وما سيحدُث في المستقبل"[20].

رابعًا: ترفُض الحركات الإسلامية أنْ ينحَصِر نشاطُها في المجال الديني فقط، وهي لا تُقِرُّ بالفصْل بين الدِّين والحياة الاجتماعيَّة بصورةٍ عامَّة، وتعتبر هذا الفصلَ موقفًا غريبًا لا يَمُتُّ إلى الإسلام بصلة، وإنَّ التمييز بين ما هو ديني ودنيوي غير واردٍ بالنسبة لهذه الحركات التي ترفُض كلَّ عَلمَنة وتعتَبِر نفسها في الوقت ذاته حركةَ دِين ودُنيا ودولة[21].

خامسًا: تقومُ الحركات الإسلاميَّة على أساس الشرعية الإسلامية؛ بمعنى: تطبيق الشريعة الإسلامية، وترفض أنْ تطرح هذه الشرعية على أساسٍ آخَر، ويعني هذا عند رجال الاجتماع: أنَّ هذه الحركات تتجاهَل كلَّ الثقافة العصريَّة التي تعتبرها أجنبية وغريبة، بما فيها مسألة الديمقراطية والصراع الطبقي.

سادسًا: تسعى الحركات الإسلامية إلى إقامة الخلافة الإسلامية، كما أنها تَنظُر إلى العالم على أساس ثنائية دار الإسلام ودار الحرب.

وهي تُهمِل بذلك - كما يرى رجال الاجتماع - الإشكالية العصرية المتمثِّلة في الدولة الوطنية، وتجارب التنمية الوطنية المختلفة التي شَهِدَها الوطن العربي.

وبإسقاط الحركات الإسلامية مسائلَ الديمقراطيَّة والصراع الطبقي والدولة الوطنية وتجارب التنمية من حِساباتها تكونُ قد سحبت من يد رجال الاجتماع مرتكزات أساسيَّة يعتمدون عليها في تبرير وإثبات وُجودهم وأهميَّتهم للجماهير.

سابعًا: يبدأ الإعداد لهذه الحركات في المدارس والجامعات؛ ليمتدَّ بعد ذلك إلى نشاطات تستهدف مراقبة المجتمع، انطِلاقًا من المساجد لينتهي في الأخير إلى المواجهة المُعلَنة مع الدولة والنظام السياسي من خِلال أحزاب سياسيَّة تتَّخذ الإسلام قاعدةً لها.

ثامنًا: انتقلت الحركات الإسلاميَّة من موقفٍ دِفاعي إلى موقفٍ هجومي؛ بفضْل تطوُّر القَضايا التي رسمت علامات حركتها؛ كالإصلاحات التربويَّة، والتنديدات الأخلاقيَّة، والانتقادات السياسيَّة عبْر المساجد والمؤسَّسات والأحزاب السياسيَّة.

تاسعًا: لا تختلف الموضوعات التي تتمَحوَر حولها الحركات الإسلامية من بلدٍ عربي إلى آخَر، وتتَّسم هذه الموضوعات بالبساطة، وتتبلوَر حول مسائل لا تُضِيف في حدِّ ذاتها أيَّ جديدٍ لافت للانتباه، بل تَكمُن أهميَّتها في طريقة عرضها وفي فعاليتها الأيديولوجية.

عاشرًا: تمكَّنت الحركات الإسلاميَّة من التغَلغُل في القِطاعات الاجتماعيَّة المختلفة، وكوَّنتْ قاعدةً اجتماعية واسعة لمواجهة الأنظمة القائمة، ومحاولة العودة بالمجتمع الإسلامي إلى مَنابِعه الأصلية[22].

كما نجحتْ في اختراق التنظيمات الطلابيَّة وسَيْطرتْ على اتِّحاداتها، وامتدَّ تأثيرها إلى أعضاء هيئة التدريس بالجامعات[23]؛ وذلك بسبب مُرونتها وعُموميَّتها التي جعَلَتْها قويَّة وقادرةً على استِيعاب قُوًى اجتماعية متباينة[24].

يعني ذلك - في نظر رجال الاجتماع -: أنَّ الحركات الإسلامية لا تقرُّ التمايُز الطبقي في المجتمع، وأنها تتعدَّى الطبقات وتحتَوِيها كلها في الوقت ذاته، على عكس الأيديولوجيات والأنظمة الفكريَّة التي ظهرت ابتداءً من القرن التاسع عشر، والتي تُصوِّر المجتمع على أنَّه قائمٌ على وجود طبقات ومصالح اجتماعية[25].

وتنظر الحركات الاجتماعية إلى المجتمع على أنَّه كِيان تُوحِّده العقيدة، وليس كيانًا يرتبط بمجرَّد مصالح عمليَّة وعلاقات إنسانيَّة سطحيَّة، وإذا أخذت هذه الحركات هذا التمايُز في اعتبارها فإنها تفعل ذلك من أجل التنديد بآثاره.

حادي عشر: الحركات الإسلاميَّة متعدِّدة الأبعاد تكتسح المجال الاجتماعي عبْر موجات متتالية، تغمر بالتدريج كلَّ جوانب الحياة الاجتماعية من تعليم وآداب واقتصاد وسياسة، ولا ينجو منها أيُّ جانب، حتى الهندام وكيفيَّة الضَّحِك والحب يمكن أنْ يخضَعَ لها في وقتٍ ما، وهذا يعني - في نظر رجال الاجتماع -: أنها حركة شاملة وشمولية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] علي الكنز، الإسلام والهوية، الدين في المجتمع العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1990، ص 95.
[2] جلال أمين، بعض مظاهر التبعية الفكرية في الدراسات الاجتماعية في العالم الثالث.
[3] علي الكنز، الإسلام والهوية، ص 92.
[4] علي الكنز، الإسلام والهوية، ص 95-96.
[5] نفس المصدر.
[6] علي الكنز، الإسلام والهوية، ص 96.
[7] عاطف العقلة عضيبات، الدين والتغير الاجتماعي في المجتمع الإسلامي، الدين في المجتمع العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1990، ص 152.
[8] سمير نعيم، المحددات الاقتصادية والاجتماعية للتطرف الديني، الدين في المجتمع العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1990، ص 231.
[9] تشير العقلانية في أكثر معانيها شيوعًا إلى أسبقية العقل في فهْم الحقائق الجوهرية عن العالم عمَّا سواه، ويرتبط هذا المفهوم عادةً بمفكري عصر التنوير في فرنسا؛ يقول (سمارت) في شرحه لهذا المفهوم: إنه قد أعلى من قيمة العقل ليقف في مواجهة الإيمان والسلطة التقليدية والمسائل الروحية، وأنَّ روح عصر التنوير النقدية العقلانية وجهت ضد الحقائق المنزلة في الكتب المقدسة.
ويقول أيضًا: "إنَّ أفضل استخدامٍ للعقلانية على المستوى الديني سلبي تمامًا، ويُعتَبر بذلك حركة مضادة للدين ذات نظرة نفعيَّة تعطي وزنًا كبيرًا للمناقشات العلمية والتاريخية المضادة للإيمان.
Nilan smart, rationaliom, the Encyclopedia Of philosophy, Macmillan publishing, N.YR.
[10] علي الكنز، الإسلام والهوية، ص 96.
[11] نفس المصدر ص 96-97.
[12] عبد الباقي الهرماسي، علم الاجتماع الديني، المجال والمكاسب والتساؤلات، الدين في المجتمع العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1990، ص 30.
[13] على الكنز، الإسلام والهوية، ص 94.
[14] محمد شقرون، الظاهرة الدينية كموضوع للدراسة، الدين في المجتمع العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1990، ص 132.
[15] عاطف عضيبات، الدين والتغير الاجتماعي، ص 154.
[16] نفس المصدر ص 154.
[17] عاطف عضيبات، الدين والتغير الاجتماعي، ص 161.
[18] نفس المصدر ص 154.
[19] علي الكنز، الإسلام والهوية، ص 93-94.
[20] المصدر السابق ص 93.
[21] علي الكنز، الإسلام والهوية، ص 92.
[22] عاطف عضيبات، الدين والتغير الاجتماعي، ص 154.
[23] سمير نعيم، المحددات الاقتصادية والاجتماعية للتطرف الديني ص 233.
[24] علي الكنز نقلاً عن سمير أمين، الإسلام والهوية، ص 92.
[25] علي الكنز، الإسلام والهوية، ص 92.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية

الكلمات الدلالية (Tags)
الاجتماع, اعترافات, عملاء


يتصفح الموضوع حالياً : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
أدوات الموضوع

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


المواضيع المتشابهه للموضوع اعترافات علماء الاجتماع
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
النظرية والمنهج في علم الاجتماع Eng.Jordan كتب ومراجع إلكترونية 1 10-03-2016 09:49 PM
الشائعة من منظور علم الاجتماع السياسي Eng.Jordan مقالات وتحليلات مختارة 0 01-04-2013 03:54 PM
اعترافات فوق القمر عمر سيف الدين نثار الحرف 1 06-25-2012 06:43 PM
النظريات الحديثة في علم الاجتماع التربوي Eng.Jordan بحوث و مراجع و دراسات تربوية واجتماعية 0 02-18-2012 08:20 PM
علم الاجتماع الرياضي شذى الكتب بحوث و مراجع و دراسات تربوية واجتماعية 0 01-29-2012 01:05 PM

   
|
 
 

  sitemap 

 


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 04:29 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.12 by vBS
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والمشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59