#1  
قديم 02-13-2012, 06:40 PM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,392
افتراضي دراسة عن التنمية المستدامة من منظور القيم الإسلامية وخصوصيات العالم الإسلامي



_ منظمة الإيسيسكو
مقدمة
منذ أن تطور الإنسان واكتشف أهمية بعض الموارد الطبيعية كالمعادن وتعلم كيف يربي الحيوانات ويستغلها لأغراضه الشخصية، ومنذ أن اكتشف النار والزراعة، تطور كذلك تعامله مع البيئة. وكلما تقدم في التطور، كلما تعقد ذلك التعامل. فمن طور الإنسان المستعمل للموارد الطبيعية البسيطة وفي شكلها الخام، انتقل إلى طور الإنسان الذي أصبح يفكر في تحويلها من مادتها الخاصة إلى شكل قابل للاستعمال.
وحينما دخل الإنسان عصر الصناعة، ازداد ضغطه على البيئة وأصبح يستغل مواردها الطبيعية بشراسة وخصوصا منها الموارد الطاقية.
إذن، فالإنسان أصبح له تأثير كبير على البيئة التي كانت فيما مضى بيئة طبيعية وأصبحت الآن بيئة محدثة من طرفه. إنه يستغلها من أجل الموارد ومن أجل الطاقة والسكن ويطرح فيها فضلاته المنزلية والصناعية، وبعبارة أخرى، فإنه يلوثها.
إن الإنسان أصبح يمارس ضغوطاً كبيرة على البيئة أدت إلى ظهور مشكلات بيئية تختلف حجماً وخطورة حسب درجات النمو والتطور التي وصلت إليها الأمم.
ومما لاشك فيه أن جلّ هذه المشكلات ناتج عن سوء تدبير الإنسان للبيئة بحيث لم تعد تكتسي صبغة محلية محدودة ولكنها تفاقمت لتصبح انشغالاً جهوياً ودولياً. ومن هنا، أصبحت مشاكل البيئة تهم لا دولاً محدودة، ولكن المجتمع البشري كله، نظراً لما لها من تأثير على الحياة بجميع أشكالها. فإذا كانت للدول حدود، فالمشكلات الناتجة عن استغلال الإنسان للبيئة تخترق هذه الحدود وقد تنتشر في أرجاء المعمور بعدة طرق. وهنا تجدر الإشارة على سبيل المثال إلى المشكلات المترتبة عن تلوث الأنهار المشتركة بين الدول، حيث أن كل ما يصيبها من ضرر قد تكون له آثار على جميع هذه الدول أو على بعضها.
فإذا كانت للدول حدود، فالجو يعلو فوق جميع القارات بحيث إذا اختل توازنه فقد ينتشر هذا الاختلال ويتعدى نطاق هذه الحدود. فالإنسان إذن أدخل تغييرات ضخمة وسريعة على النظم البيئية حيث اقتحمها بمدنه وصناعاته بجميع أنواعها، الشيء الذي أدى إلى نهب الموارد الطبيعية وتخريب بعض الأوساط الملائمة للحياة.
وباختصار، إن العالم اليوم يعيش تحت وطأة مشكلات بيئية ضخمة تكتسي صبغة كونية وعلى رأسها التغيرات المناخية المترتبة عن ظاهرة الانحباس المترتبة بدورها عن تراكم ثاني أكسيد الكاربون في الجو الناتج عن مختلف الأنشطة البشرية الصناعية منها والاجتماعية.
ولا داعي للقول إن المشكلات البيئية لها ثمن وكلما زادت حدة هذه المشكلات كلما كان الثمن باهضا وله انعكاسات سلبية على التنمية الاقتصادية والاجتماعية للبلدان المتضررة. ولعل أكثر البلدان تضرراً من المشكلات البيئية الدول النامية التي ليست لها القدرات والإمكانيات الكافية لا على صعيد الوقاية ولا على صعيد العلاج.
والعالم الإسلامي بحكم انتمائه إلى مجموعة الدول النامية تواجهه حالياً وستواجهه مستقبلاً تحديات كبرى لها علاقة وطيدة بالتوفيق بين البيئة والتنمية.
البيئة والتنمية في العالم الإسلامي، الوضع الراهن والتحديات
1.1. مفهـوم البيئة :
لقد عرف مدلول مفهوم البيئة تطوراً مع تقدم الإنسان ومع تكاثر الأنشطة التي يمارسها على وجه الأرض.
على المستوى التاريخي، عرف مفهوم البيئة في مدلوله تطورا مسايرا للتعقيد الذي اتسمت به العلاقات التي يقيمها الإنسان مع الوسط الذي يعيش فيه. وهكذا، فإن البيئة كما عرفها وأدركها الإنسان الأول الذي عاش على جني الثمار والقنص ليست لها نفس الأهمية ونفس المدلول بالنسبة للإنسان الذي اكتشف النار والفلاحة والفليزات، فبالأحرى بالنسبة للإنسان الذي أصبحت التكنولوجيا هي المحرك الأساس لحياته اليومية. لقد أضحت البيئة مرآة للمستوى الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والعلمي والتكنولوجي الذي وصلت إليه الأمم.
وباختصار، إذا كانت البيئة قبل مؤتمري ستوكهولم(1) وتبيليسي(2) تعرف كمجموعة تتألف من مكونات مادية غير حية، ومكونات حية والعلاقات التي تربط بين هذه المكونات، فإن نفس المفهوم عرف تطوراً واضحاً، نتيجة للتغييرات الضخمة التي أدخلها الإنسان على التوازنات البيئية. وبعبارة أخرى، إن البيئة لا يمكن أن ينظر إليها في معزل عن الضغوط التي تمارس عليها من طرف الإنسان. كما لا يمكن أن تعرف من مجرد ما يجنيه هذا الأخير من فوائد من الموارد الطبيعية.
إن هذه النظرة أقل ما يقال عنها أنها أنانية تضع الإنسان في موقع السيد المسيطر والبيئة في موقع المستعبَد.
بالفعل، إن مفهوم البيئة لا معنى له إذا بتر منه واحد من أهم أبعاده الأساس ألا وهو البعد البشري المتمثل في المعطيات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتكنولوجية والأخلاقية والدينية والجمالية، الخ.
إن الإنسان، بحكم ذكائه وتطلعه المستمر إلى مستويات عيش من حسن إلى أحسن وخصوصاً على الصعيد المادي، كان استغلاله وتغييره للعديد من مظاهر البيئة مجردين من كل نظر يمكنه من التنبؤ بكل ما يخبئه له المستقبل.
إن مفهوم البيئة يجب أن يدرك كمفهوم يتسم بالشمولية وككلٍّ غير قابل للتجزيء، حيث يتفاعل كل بعد بيولوجياً كان، أو مادياً أو بشرياً مع الأبعاد الأخرى ويلعب دوراً حيوياً في توازن هذا الكل وخصوصاً في إدراك المشكلات البيئية. وعندما نتحدث عن البعد البشري، فإن الأمر يتعلق بالممارسات والأنشطة التي يقوم بها الإنسان داخل البيئة لأغراض تنموية. ولهذا، فنوعية هذه الممارسات والأنشطة ومدى ملاءمتها مع البيئة أمران أساسان يؤديان إما إلى تخريب هذه الأخيرة وإما إلى حمايتها و***** مواردها. وبعبارة أخرى، إن سلامة البيئة واستمرار توازناتها رهينان بالتوفيق بين هذه الأخيرة والتنمية.
1.2. مفهـوم التنمية :
على المستوى اللغوي المحض، يقصد بـ "تنمية" الازدهار، والتكاثر، والزيادة، والرفاهية، مما يوحي بتغيير إيجابي وبتطور وتقدم. وبعبارة أخرى، إن التنمية بالنسبة لمجموعة من السكان أو لبلد بأكمله تعني الطموح إلى وضع وإلى غد أفضل على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. فعلى المستوى الاجتماعي، "نما" تعني الوصول إلى سد الحاجيات الأساس للجماعات البشرية والسعي إلى الرفع من جودتها باستمرار. فالتنمية الاجتماعية تسعى إلى رفاهية الأشخاص وتحسين جودة حياتهم من خلال سكن لائق وتغذية كافية وملائمة، وتوفير الخدمات في مجالات الطاقة والماء والصحة والتربية والشغل، الخ.
وعلى المستوى الثقافي، تعني التنمية تحسين المستوى الفكري للجماعات البشرية من خلال تعميم التعليم ومحاربة الأمية والنهوض بالفنون ووسائل الإعلام والتواصل.
وبصفة عامة ، تعني "تنمية"، بكل بساطة، التمكن من الوصول باستمرار إلى مستوى عيش جيد من الناحيتين المادية والمعنوية. وإن دل هذا على شيء، فإنما يدل على أن التنمية سياق حركي يؤدي إلى الانتقال من وضع سابق غير مرض إلى وضع لاحق يستجيب بكيفية مُرضية إلى حاجات وطموحات الشخص والجماعة. وإذا كان هذا السياق حركياً، فهو كذلك كمي وكيفي، حيث يعتبر مبدئيا سد الحاجات المادية بمثابة معبر إلى تحقيق الرفاهية على المستوى المعنوي. فالهدف الأخير من التنمية هو تفتح الشخص، الذي يؤدي إلى تقدم المجتمع.
غير أن تحقيق أغراض التنمية رهين بما توفره البيئة من موارد، حيث لا مجال للأولى بدون الثانية. وهذا يعني أن العلاقة بينهما وطيدة واستمرار توازنها يستدعي العقلنة وبعد النظر في الممارسات والتصرفات والسلوكات.
1.3. العلاقة بين البيئة والتنمية :
كما سبقت الإشارة إلى ذلك، فكيفما كانت طبيعة وتوجه وهدف التنمية، وأينما وجدت الجهة التي تتحقق فيها هذه التنمية، فهي في حاجة، لكي تصبح واقعاً، إلى موارد البيئة. وهذا يعني أن الإنسان الذي يطمح إلى النمو يتصرف كعامل معبئ لتلك الموارد ويحدث بذلك نظاماً من العلاقات بين البيئة والتنمية.
ويستنتج من كل هذا أن التنمية بصفة عامة، والتنمية الاقتصادية والاجتماعية بصفة خاصة رهينة بما توفره البيئة من موارد طبيعية. وهكذا، فإن العلاقة بين البيئة والتنمية بديهية، غير أن المشكل يكمن في الاتجاه الذي يرسمه الإنسان لهذه العلاقة من أجل تحقيق طموحاته التنموية.
في هذا الصدد، لسنا في حاجة اليوم إلى أدلة لنقول إن العلاقة التي تربط التنمية بالبيئة تسير في اتجاه واحد، أي من البيئة إلى الإنسان، بحيث "تزود" الأولى و"تضع رهن الإشارة"، بينما الثاني "يأخذ، ويقتطع، ويستغل، ويحول ويحدث الخلل"، إلى حد أن العكس نادراً ما يلاحظ. بل أكثر من هذا، إن البيئة بحكم ما يسود داخلها من نظام وتفاعل بين مختلف مكوناتها قادرة على امتصاص الاختلالات التي يحدثها الإنسان ما لم تتجاوز هذه الاختلالات حداً معيناً. وإذا تجاوزت هذا الحد، وهذا هو ما تتسم به تصرفات الإنسان حالياً، فإن التنمية تصبح، على المدى الطويل، عاملاً هداماً قد تكون له تأثيرات على البيئة يصعب تداركها.
إن الانسجام الذي كان سائداً بين المجتمعات البدائية والنظام البيئي الذي كانت تعيش فيه لم يعد إلا حدثاً تاريخياً يرويه الإنسان كلما أحس بحنين إلى طبيعة كانت فيما مضى حفية وكريمة، ولكنها أضحت في الوقت الراهن نادرة، بل ومعرضة للتقهقر والانقراض.
وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أن هذه المجتمعات البدائية كانت تحقق الاكتفاء الذاتي بسهولة، وذلك باعتمادها فقط على عاملين طبيعيين خارجين عن النظام البيئي والأرضي، وهما الشمس والمطر. إن مثل هذه المجتمعات حالياً اختفت، وإن وجدت منها بقية، فإنها نسيت أو هي بصدد نسيان المعارف والمهارات التي كانت تمكنها من الاستمرار والبقاء. فمنذ دخول الإنسان عصر الصناعة، لم يتوقف عن الإخلال بهذا الانسجام الذي كان مقدساً عند أسلافه. إن التنمية أصبحت بالنسبة له مرادفة للاستهلاك والنمو اللامحدودين، حيث أن الربح الفوري وخصوصا الأنانية جعلاه ينسى أن جزءاً مهماً من هذا النمو ومن هذا الاستهلاك يتم على حساب البيئة، الشيء الذي يعرض للتخريب وللإتلاف القدرة الطبيعية للنظم البيئية على سد حاجاته وحاجات الكائنات الحية الأخرى.
إن العلاقة بين البيئة والتنمية يجب أن تكون متبادلة من أجل الحفاظ على الأولى وضمان استمرار الثانية وذلك للتوفيق بين أهداف التنمية وضرورات حماية البيئة. وهذا يعني أن على الإنسان أن يعيد النظر في أنماط التنمية التي سار عليها إلى حد الآن، والتي لا تنسجم مع التوازنات البيئية. لقد أصبح واضحاً اليوم أن البيئة في مواجهة مستمرة مع التنمية.
1.4. البيئة والتنمية في العالم الإسلامي : الوضع الراهن :
1.4.1. تأثير الفقر و الأمية على البيئة والتنمية :
إذا كانت التنمية قد ساهمت بكيفية لا يمكن تجاهلها في تحسين ظروف عيش المجتمعات البشرية، فيجب أن لا يغيب عن الأذهان أنها مع مرور الوقت أصبحت تسيء للبيئة. والأمثلة في هذا الصدد كثيرة ومتنوعة. وهكذا، فإذا كان الإفراط في الاستهلاك عاملاً من العوامل الأساس لتخريب البيئة وتبذير مواردها في الدول المصنعة، فالفقر والأمية يساهمان كذلك في هذا التخريب في الدول النامية.
ودول العالم الإسلامي بحكم انتمائها للعالم النامي، توجد في الخانة الثانية، وبالتالي، فالبيئة فيها معرضة لتأثيرات الفقر والأمية.
إن التنمية في العالم الإسلامي بطيئة ومفعولها محدود في الزمان والمكان، ولا تستطيع سدَّ حتى الحاجات الأولية لشعوبه ولا سيما من الطاقة والغذاء.
أمام هذا الوضع، فإن الجماعات البشرية وخصوصاً في الوسط القروي تتجه إلى البيئة الطبيعية لمحاولة سد هذه الحاجات. غير أن هذا التصرف غالباً ما يكون خاطئاً وغير ملائم لتوازن النظم البيئية الهشة، ويؤدي إلى تخريب الأوساط من جراء :
ـ حرائق الأدغال،
ـ استصلاح الأراضي،
ـ اجتثاث الغابات،
ـ الرعي المفرط،
ـ التعرية،
ـ التصحر،
ـ إنهاك التربة من جراء ممارسة نوع واحد من الزراعة واستغلال الأراضي الهامشية، الخ.
كل هذه المشكلات تزيد حدة وخطورة عندما تتزامن مع ظروف مناخية سيئة ومع كون بعض دول العالم الإسلامي تبنت من أجل تصنيعها نماذج أبانت عن فشلها في بلدان أخرى. حينذاك، تضاف إلى المشكلات التي تعاني منها مشكلات عانت منها دول الشمال نفسها. عندها، تصبح البيئة عرضة ليس فقط لضغوط الجماعات البشرية ولكن كذلك لضغوط وتأثيرات ناتجة عن أنماط تنمية أعادت الأخطاء التي وقعت فيها الدول المصنعة منذ سنوات.
وفضلاً عن ذلك ونظراً لارتباط تدهور البيئة بالنمو الديموغرافي، فإن أكبر نسب لنمو السكان تسجل في العالم الإسلامي.
1.4.2. البيئة والتنمية أمام الاستغلال المفرط للثروات :
أضف إلى هذا أن تخريب البيئة ليس مقتصراً على السكان المحليين في هذه الدول. إن التنمية المفرطة وأنماط العيش المترتبة عنها في الدول المصنعة تسيء هي الأخرى للبيئة في العالم الإسلامي. وعلى سبيل المثال، فإذا كانت الغابات الاستوائية توجد في بعض دول العالم الإسلامي، فإن جزءاً كبيراً من تخريبها تتحمل مسؤوليته الدول المصنعة، حيث أن هذه الأخيرة تكون وراء تحطيم ما لا يقل عن 25 مليون هكتار من هذه الغابات سنوياً، وذلك لسد حاجاتها المترتبة عن أنماط عيشها المبذرة.
إن دول العالم الإسلامي بتصرفها هذا ظنت وتظن أنها تسدي خدمة لاقتصادها الوطني بينما هي في الحقيقة تنهك ثروتها الوطنية الضرورية لعيش وبقاء الأجيال الحاضرة والمقبلة. والدليل على ذلك أن الميزان التجاري لهذه البلدان غالباً ما يشكو من العجز، وعائداتها من العملة الصعبة الآتية من التصدير تبقى عديمة الجدوى أمام ديونها الخيالية.
إن البيئة في العالم الإسلامي ليست في نهاية المطاف ضحية للتصرف المحتوم للجماعات البشرية المحلية بل إنها في نفس الوقت تعاني بصفة غير مباشرة من التأثير الناتج عن تنمية غير مراقبة تبنتها الدول الغنية المتعطشة للموارد الأولية التي تنتجها دون غيرها الدول النامية بما فيها دول العالم الإسلامي.
وبعبارة أخرى، إن البيئة في الدول الإسلامية تعاني من ويلات التأخر في عين المكان ومن تأثيرات التنمية في العالم المتقدم. في عين المكان، يعد الفقر والأمية والجهل والأحوال الاقتصادية والبيئية والنمو الديمغرافي من أهم أعداء البيئة، بينما عن بعد تأتي الهيمنة الاقتصادية للدول الغنية التي غالباً ما تملي على الدول الفقيرة بكيفية غير معلنة طريقة استغلال بيئتها.
1.4.3. تهميش البيئة :
إن سكان الدول الإسلامية غالباً ما يذهبون ضحية معلومات خاطئة حول البيئة، مفادها أن هذه البيئة ليست لها مشكلات أو تكاد، وأنه لا داعي للانشغال بها في الوقت الراهن. إن هذه المعلومات والإشاعات التي هي بالطبع غير مبنية على أساس، تعد من الخطورة بمكان بحكم التصديق الذي تحاط به، وبالتالي، تحدث عند الأشخاص الذين يصدقونها حالة لامبالاة تسيء للبيئة وتهمشها إن عاجلاً أو آجلاً. وإذا تمكنت هذه المعلومات الخاطئة من التأثير على جزء لا يستهان به من السكان، فذلك ليس راجعاً لمجرد الصدفة. فتأثيرها على الأشخاص يمكن تفسيره ولو جزئياً من خلال العوامل التالية :
ـ مستوى التثقيف في الدول الإسلامية، حيث نسبة السكان الأميين تتعدى في بعض الحالات 50%،
ـ وحتى عند الجزء الآخر من السكان المثقفين، فإن مفهوم البيئة غالباً ما يبقى غامضاً وفي الكثير من الحالات، يتم خلطه بالتلوث والنظافة وغرس الأشجار،
ـ إن المشكلات البيئية غالباً ما تسند أسبابها إلى مجرد التطور الاقتصادي والصناعي مع العلم أن التخلف، كما سبق الذكر، له كذلك تأثير على البيئة في العالم الإسلامي،
ـ بالنسبة للعديد من السكان الأميين، إن مفهوم "المشكلة البيئية" لا يعني أي شيء على الإطلاق. واعتباراً لهذا الاعتقاد، فإن أي شيء يصيبهم في حياتهم اليومية، بدلاً من أن يدرك كانعكاس سلبي لسوء تدبير البيئة، فإنه يعزى للقدر المحتوم،
ـ إن بعض المشكلات البيئية رغم وجودها لا تكشف عن آثارها السلبية إلا بعد مرور وقت طويل، الشيء الذي يجعل بعض الأشخاص يرفضون كل النداءات الهادفة إلى حماية البيئة بل أكثر من هذا، يعدون هذه النداءات ناتجة عن مجرد تهويل وتضخيم للأحداث.
ـ إن انعدام معايير بيئية في العديد من البلدان الإسلامية وعدم مراقبتها باستمرار في حالة وجودها، يكون بمثابة حافز يزيد من اللامبالاة التي يكنها كثير من الأشخاص للبيئة،
ـ كما أن انعدام تشريع بيئي شمولي يساهم هو الآخر في الحفاظ على هذه اللامبالاة وحتى لو وجد هذا التشريع، فإنه غالباً ما يكون متجاوزاً ولا يستجيب للأوضاع الراهنة والتطور الذي عرفته دول العالم الإسلامي على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي.
1.5. البيئة والتنمية في العالم الإسلامي : التحديات :
إذا كانت البيئة في دول العالم الإسلامي تعاني من تحديات داخلية كبرى متمثلة في مواجهة الفقر والأمية، فإن أمامها تحديات أخرى لاتقل أهمية تتمثل أولاً في ضرورة الرفع من مستوى التنمية البشرية لتحسين جودة حياة السكان، وثانياً في مواجهة المشكلات البيئية الكبرى ذات الطابع الكوني، كالتغيرات المناخية وتراجع التنوع البيولوجي إلى غير ذلك، وثالثاً في مواجهة العولمة التي تتطلب تحرير الاقتصاد وإزالة الحواجز الجمركية.
1.5.1. التنمية البشرية :
إن التنمية الاقتصادية والاجتماعية في دول العالم الإسلامي لم تبلغ بعد المستوى المطلوب التي من شأنها أن تضمن لسكان هذه البلدان ظروف عيش لائقة تجعل منهم مواطنين مساهمين بكيفية فعالة في تحقيق هذه التنمية.
فعلى هذه الدول بذل المزيد من الجهود في مجال الخدمات الاجتماعية من توفير للغذاء والسكن وتزويد بالماء والطاقة وتوفير للخدمات الصحية والتربوية ولفرص الشغل والتخلص من الفضلات إلى غير ذلك. كما على هذه الدول أن تقوي بنياتها التحتية ومؤسساتها الاقتصادية لتستجيب لطموحات السكان ولتعزز مكانتها بين مصاف الدول النامية والمتقدمة.
إن تلبية هذه الحاجات كيفما كان نوعها لا يمكن أن تتحقق إلا من خلال استغلال ما تختزنه البيئة من موارد طبيعية، الشيء الذي سيزيد من حدة الضغوط الممارسة على البيئة، وبالتالي الزيادة في حدة المشكلات البيئية.
1.5.2. المشكلات البيئية الكبرى :
كما سبقت الإشارة إلى ذلك، إن المشكلات البيئية ليست لها حدود، الشيء الذي يعني أن البعض من هذه الأخيرة لها انعكاسات مباشرة أو غير مباشرة على جميع الدول بدون استثناء. ولعل أعظم هذه المشكلات انعكاساً على البيئة والتنمية، التغييرات المناخية وتراجع التنوع البيولوجي والتصحر. والدليل على ذلك، مبادرة الأمم المتحدة إلى إعداد اتفاقيات دولية حول هذه المشكلات ودعوة الدول الأعضاء إلى المصادقة عليها والالتزام بتطبيق بنودها.
وإذا أخذنا كمثال التغييرات المناخية، فإن الدول المصنعة هي التي تتحمل أكبر قسط من المسؤولية في حدوث هذه التغييرات من جراء صناعاتها الضخمة التي بإفرازاتها المختلفة تحدث خللاً في توازن الجو الشيء الذي يؤدي إلى ارتفاع في معدل حرارة الكرة الأرضية. غير أن الدول النامية ومن ضمنها دول العالم الإسلامي وخصوصاً منها الإفريقية هي التي ستكون أكثر عرضة لعواقب التغييرات المناخية لعدم توفرها على الإمكانات والوسائل على المستوى الوقائي والمستوى العلاجي معاً. ولعل أكبر ضرر ناتج عن التغييرات المناخية ذلك الذي له علاقة باختلال الدورات المائية، مما نتج عنه وينتج عنه في العالم الإسلامي على الخصوص شح في توفير المياه للشرب والصناعة والفلاحة، وللأنشطة الاقتصادية بصفة عامة.
ومن جهة أخرى، إن الدول الإسلامية تعد من أكبر الدول تضرراً من التراجع البيولوجي والتصحر حيث تنعكس هذه الظواهر سلباً على السكان وعلى البيئة والاقتصاد. فالتنوع البيولوجي، إضافة إلى كونه عاملاً أساساً وحاسماً في استمرار التوازنات البيئية، يعد كذلك من أهم مصادر إنعاش التنمية الاقتصادية والاجتماعية. وخير مثال يمكن سوقه في هذا الصدد، التراجع الذي تعرفه الثروات السمكية والغابوية. أما التصحر، فهو كذلك عامل من عوامل التأثير السلبي على الاقتصاد، حيث يقصي من الاستغلال مساحات شاسعة من الأراضي كان من الممكن استعمالها لأغراض تنموية في مجال الزراعة والسياحة والبنيات التحتية.
ورغم كل هذه السلبيات، فإن دول العالم الإسلامي، بحكم ضعف اقتصادها، وبحكم انتمائها إلى النظام الدولي، ليس لها مناص من الانخراط في هذه الاتفاقيات رافعة بذلك مستوى التحديات التي تواجهها فيما يتعلق بحسن تدبير البيئة وبالتوفيق بين هذه الأخيرة والتنمية.
1.5.3. عولمة الاقتصاد :
بالإضافة إلى تحرير الاقتصاد ورفع الحواجز الجمركية، فإن العولمة سيكون لها انعكاس على المستوى البيئي بالنسبة لجميع دول العالم. ويتمثل هذا الانعكاس أساساً في احترام مقاييس ومعايير جودة المنتوجات الصناعية التي سيتم تصديرها من بلد لآخر.
ولعل أبرز المقاييس التي يجب حتماً أن تحترم في المبادلات التجارية بين الدول تلك التي لها علاقة بالبيئة. وهذا يعني أن أي منتوج قابل للتصدير يجب أن تتوفر فيه شروط تبين أنه صنع حسب أساليب تأخذ بعين الاعتبار جودة المنتوج نفسه وجودة البيئة.
ولن يتأتى هذا إلا إذا توفرت لدى الدول الإسلامية تكنولوجيات حديثة تحترم البيئة. وهو ما أصبح يتعارف عليه حاليا بالتكنولوجيات النظيفة التي تستلزم استثمارات هائلة.
العالم الإسلامي وتطلعات المستقبل، التنمية المستدامة
أمام هذه التحديات الكبرى التي يواجهها أو سيواجهها العالم الإسلامي في مجال التوفيق بين البيئة والتنمية، من المرغوب فيه أن ينخرط هذا الأخير في التيار الدولي الذي بدأت بوادره في الظهور سنة 1987 مباشرة بعد صدور التقرير(1) الذي أنجزته اللجنة العالمية حول البيئة والتنمية وتكرس بعد مؤتمر ريو سنة 1992 حيث أوصى المنتظم الدولي بتبني ما اصطلح عليه بالتنمية المستدامة التي تقضي بإعادة النظر في أساليب التنمية اللامحدودة التي يعتمد عليها الاقتصاد المعاصر والتي تنهك البيئة وتؤثر سلباً على مصادر الحياة فيها.
وحينما نتحدث عن التنمية المستدامة، فالأمر يتعلق بالتعامل مع البيئة من زاوية تضمن في آن واحد حاجات الأجيال الحاضرة والأجيال القادمة من خلال المحافظة على مصادر الحياة والموارد الطبيعية.
وبعبارة أخرى، إن التنمية المستديمة تسعى إلى ضمان جودة الحياة بصفة عامة للأفراد والجماعات من خلال التنمية الاقتصادية، ولكن دون إلحاق أضرار بالبيئة الطبيعية والمشيدة.
انطلاقاً من هذه الاعتبارات، فإن التنمية المستدامة تستدعي إعادة النظر ليس فقط في مفهوم التنمية ولكن كذلك في مفهوم البيئة التي يجب أن تعتبر، كما سبقت الإشارة إلى ذلك، ككل غير قابل للتجزيء تترتب عنه تغييرات في نوعية العلاقات التي يقيمها الإنسان مع البيئة ومع مواردها.
إن هذه التغييرات تعتبر تحدياً في حد ذاتها لأنها قبل أن تكون تغييرات على مستوى الممارسات والتصرفات، فهي أولاً وقبل كل شيء تغييرات على مستوى الفكر والمواقف والقيم.
إن العالم الإسلامي مطالب بأن يرفع هذا التحدي لأن الأمر يتعلق بإعادة النظر في نظام القيم الذي بنت عليه العديد من المجتمعات نمط تنميتها وإنتاجها واستهلاكها وعيشها. وبعبارة أخرى إن الأمر يتعلق بإصلاح النظام الاجتماعي والثقافي بأكمله، حيث أن هذا الإصلاح لا يمكن أن يتحقق إلا إذا بادر الإنسان المسلم بإعادة النظر في العلاقات التي يقيمها مع البيئة.
إن مفهوم التنمية المستدامة يحمل في طياته فلسفة هدفها الأساس هو ملء الهوة التي ما فتئت تتسع بين الإنسان والبيئة، الشيء الذي يقود هذا الإنسان إلى التعايش مع هذه البيئة قلباً وقالباً.
إن هذه الثورة الفكرية والأخلاقية والسلوكية ليست عزيزة على دول العالم الإسلامي مادامت هذه البلدان لها من المؤهلات والمبادئ ما يجعلها قادرة على القيام بهذه المهمة.
بالفعل، إن الدين الإسلامي أعطى للبيئة ولمواردها ولاستعمال هذه الموارد واستغلالها وللتوازنات البيئية وللتنوع البيولوجي، إلخ، أهمية كبيرة وخصوصاً من خلال العديد من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية.
ومما تجدر الإشارة إليه في هذا الصدد هو أن جل المفاهيم البيئية المعاصرة الكبرى تم التطرق لها بكيفية أو بأخرى من خلال الآيات القرآنية، نذكر منها على سبيل المثال :
ـ مفهوم شمولية البيئة
ـ مفهوم التوازن
ـ مفهوم محدودية الموارد
ـ مفهوم تنوع الحياة
ـ مفهوم الغائية
ـ مفهوم حماية البيئة
التعاليم الإسلاميـة والقضايـا البيئية المعاصرة
3.1. مفهوم شمولية البيئة :
لقد ظهر هذا المفهوم إلى الوجود في الستينات متزامناً مع ظهور مفهوم البيئة نفسه. ويعد مفهوم الشمولية إفرازاً للأزمة البيئية التي يعاني منها العالم المعاصر الذي اعتبرت فيه البيئة ولا تزال مجموعة من المكونات القابلة للاستغلال إرضاء لرغبات الإنسان المحضة.
حينما نتحدث عن الشمولية، فالأمر يتعلق بتصور يجعل من البيئة وحدة متكاملة أو كلاً تكون مكوناته مرتبطة فيما بينها ارتباطاً وثيقاً حسب نظام من العلاقات المتبادلة يكون فيها بقاء كل كائن حياً كان أم غير حي، مرتبطاً بباقي المكونات الأخرى. وبعبارة أخرى، فإن الشمولية تعني أن الكل يستمد بقاءه من الجزء وهذا الأخير يستمد بقاءه من الكل.
لقد أصبح اليوم مفهوم الشمولية من الناحية النظرية مفهوماً متداولاً في الأوساط العلمية والبيئية. وللتذكير، فإن الاقتراحات التي تقدم بها المفكرون والفلاسفة لصياغة نظرة جديدة للبيئة مبنية كلها على مفهوم الشمولية.
وإذا كان هذا الأخير يعد جديداً بالنسبة للإنسان، فإن هذه الجدة تنطبق على الإنسان فقط.
إن القرآن الكريم أشار إلى هذا المفهوم من خلال آيات كثيرة تتحدث عن وحدة الكون. فحينما يتحدث الحق سبحانه وتعالى عن هذا الكون، فإن ذلك يتم من خلال الإشارة إلى المكونات الكبرى، أي الأرض والسماء والماء التي تعتبر حسب علم البيئة الحديث نظماً بيئية ضخمة يتألف منها ما يسمى بالمحيط الحيوي. وفضلاً عن ذلك، فإن العديد من الآيات القرآنية تربط دائما الأرض بالسماء بينما أخرى تشير إلى ما بينهما. فإن دل هذا على شيء، فإنما يدل على أن مفهوم الشمولية وارد في القرآن الكريم وهو الشيء الذي توصل إليه العلم في السنين الأخيرة حينما اعتبر الكوكب الأرضي وما يحيط به من أجواء بمثابة نظام بيئي متكامل غير قابل للتجزيء. وفي هذا الصدد، تجدر الإشارة إلى أن بعض العلماء ذهبوا إلى حد تشبيه الكرة الأرضية مع محيطها الجوي بكائن حي لإبراز أهمية الترابط و التفاعل القائمين بين مكونات البيئة.
إن الآيات القرآنية التي تشير بكيفية أو بأخرى لمفهوم شمولية البيئة كثيرة، منها على سبيل المثال تلك التي يتم فيها الربط بين الأرض والسماء، وأحياناً بين هذين العنصرين والماء.
يقول الحق سبحانه وتعالى :
{ الذي جعل لكم الأرضَ فِراشاً والسماءَ بناءًً وأنزل من السماء ماءًً فأخرج به من الثمراتِ رزقاًً لكم } (سورة البقرة : الآية 22).
{ هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً ثم استوى إلى السماء فسواهُنَّ سبعَ سمواتٍ وهو بكل شيء عليم } (سورة البقرة : الآية 29).
{ بَديع السماواتِ والأرضِ وإذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون } (سورة البقرة : الآية 117).
{ إن في خلق السمواتِ والأرضِ واختلافِ الليلِ والنهارِ والفلكِ التي تجري في البحر بما ينفعُ الناسَ وما أنزل الله من السماء من ماءٍٍ فأحْيا به الأرضَ بعد موتِها وبثَّ فيها من كل دابةٍٍ وتصريفِ الرياحِ والسحابِ المسخَّر بين السماءِ والأرضِ لآيات لقومٍٍ يعقِلون } (سورة البقرة: الآية 164).
{ وَسِعَ كُرسِيُهُ السمواتِ والأرضَ ولا يؤُدُه حِفْظُهما وهو العلِيُّ العظيم } (سورة البقرة : الآية 255).
{ وللـه مُلْـكُ السمـاواتِ والأرضِ والله على كل شيء قدير } (سورة آل عمران : الآية 189)
{ ولله مُلك السماواتِ والأرضِ وما بينهما يخلُقُ ما يشاء والله على كل شيء قدير } (سورة المائدة : الآية 17).
{ الله الذي خَلَقَ السمواتِ والأرضَ وأنزل من السماءِ ماءًً فأخرجَ به من الثمرات رزقاً لكم } (سورة إبراهيم : الآية 32).
{ تُسبِِِِِِِِّحُ له السمواتُ السَّبعُ والأرضُ ومن فيهنَّ وإن من شيء إلا يسبح بحَمدِه ولكن لا تَفْقَهونَ تَسبيحَهم إنه كان حَليماً غفوراً } (سورة الإسراء : الآية 44).
{ لهُ ما في السمواتِ وما في الأرضِ وما بينهما وما تحت الثرى } (سورة طه : الآية 6).
{ وما خلقنا السماءَ والأرضَ وما بينهما لاعبِِِين } (سورة الأنبياء : الآية 16).
{ ألمْ تَرَ أن الله يُسبِّحُ له من في السمواتِ والأرضِ والطيرُ صافاتٍٍ كلٌّ قد عَلِمَ صلاتَه وتسبيحَه والله علِيمٌٌ بما يفعَلون } (سورة النور : الآية 41).
{ ألم تروا أن الله سخَّرَ لكم ما في السمواتِ وما في الأرضِ وأسْبَغَ عليكم نِعَمَهُ ظاهرةً وباطنة } (سورة لقمان : الآية 20).
{عالم الغيب لايَعْزُبُ عنه مِثْقَالُ ذَرَّةٍ في السمواتِ ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك و لا أكبر إلا في كتاب مبين} (سورة سبإ : الآية 3).
إن مفهوم شمولية البيئة لا يمكن أن يدرك إلا إذا شكلت هذه البيئة وحدة أو كلاً متكاملاً. وهذه الوحدة لا يمكن أن تتحقق إلا إذا ساد بين مختلف مكوناتها ترابط وتناسق. هذا هو ما يشير إليه القرآن الكريم من خلال الآيات التي تظهر السماء والأرض والماء كعناصر مترابطة فيما بينها.
ويكفي أن نتمعن في بعض الآيات سالفة الذكر لندرك أن مفهوم الشمولية وارد في القرآن الكريم حينما يقول الحق سبحانه وتعالى في الآية 117 من سورة البقرة :
{ بديع السموات والأرض }، أي خالق السموات والأرض غير أن هذا الخلق ليس عشوائياً بل يتم حسب نظام معين.
ونفس الشيء يمكن إدراكه من خلال الآية 44 من سورة الإسراء حين يقول الله سبحانه وتعالى :
{ تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن }. والمقصود بالتسبيح هنا هو السجود والخضوع والانحناء أمام الخالق، الشيء الذي يمكن تفسيره من الناحية البيئية بنظام الترابط الذي يجمع بين جميع الكائنات من أجل استمرار الحياة التي هي من خلق الله.
ونـفس الـشيء يمـكن إدراكـه كـذلك مـن خـلال الآيـة 16 مـن سورة الأنبياء حيـن يقـول سبحانه وتعالى : { وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين }. والمقصود في هذه الآية هو أن الخلق له غايات معينة وهو الشيء الذي تشير إليه الآية 27 من سـورة ص حيـن قـال الحـق سبـحانه وتـعالى : { و ما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا } أو حين يقول في الآية 5 من سورة الزمر { خلق السموات والأرض بالحق }. ومن الآيات التي تشير إلى شمولية البيئة الآية التي يقول فيها سبحانه عز وجل :
{ والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولائك لهم اللَّعنة ولهم سوءُ الدار } (سورة الرعد : الآية 25).
إن هذه الآية تنطبق على الفكر البيئي المعاصر الذي جزأ البيئة، وبالتالي، قطع الأوصال التي تربط بين مكوناتها، الشيء الذي أدى إلى ظهور اختلالات في نظام الترابط الذي يشكل أساساً لاستمرار وبقاء الحياة. وخير مثال يمكن سوقه في هذا الصدد يتعلق بالاختلالات التي يحدثها التلوث في الأوساط الطبيعية. إن التلوث إذا تجاوز حداً معيناً، يكسر التوازن القائم بين مكونات هذه الأوساط ويؤدي على طول المدى إلى موت هذه الأوساط وانقراض الحياة منها. وهذا هو ما يحدث في الأنهار والبحار التي تلقى فيها النفايات المنزلية والصناعية وكذلك في المساحات الخضراء المعرضة للأمطار الحمضية.
ألم يقل سبحانه وتعالى :
{ ظَهَرَ الفسادُ في البرِّ والبحرِ بما كَسَبَتْ أيدي الناسِ ليُذيقَهم بعض الذي عمِلوا لعلهم يرجعون } (سورة الروم : الآية 41).
وكيفما كان الحال، إن مفهوم شمولية البيئة الذي جاء به المفكرون في مقترحاتهم لتغيير نظرة الإنسان المعاصر للبيئة ليس في الحقيقة مفهوماً جديداً. كل ما يمكن قوله هو أن الإنسان يسعى من جديد للعودة إلى الصواب الذي نص عليه القرآن الكريم منذ عدة قرون والذي يقتضي أن تنطلق كل تصرفات البشر من مفهوم شمولية البيئة حفاظاً على وحدة هذه الأخيرة وبقاء الحياة فيها.
3.2. مفهوم التوازن :
إن مفهوم التوازن يشكل واحدة من الركائز التي بني عليها علم البيئة الحديث. والتوازن لا يجب أن يدرك كوضع سكوني قار ومستقر يسود داخل النظم البيئية. فحينما يتم الحديث عن التوازن البيئي، فالأمر يتعلق بوضع حركي مستمر ناتج عن ما يقوم من علاقات وتفاعلات بين مكونات النظام البيئي. فلا سبيل إذن للحديث عن النظام البيئي بدون توازن. فالنظام البيئي المتوازن هو ذلك الجزء من البيئة الذي تسود بين مكوناته علاقات متبادلة متناسقة ومتكافئة تتجدد باستمرار وتؤدي في نهاية المطاف إلى استمرار الحياة وبقائها. وهكذا، فحينما يكون النظام البيئي متوازناً، فهذا يعني أن لديه قدرة ذاتية على التنظيم تكون ناتجة عن الحركة الذاتية التي تشترك فيها كل مكوناته من تربة وهواء وماء وحيوانات ونباتات بمختلف أشكالها وأنواعها. وبعبارة أخرى، فإن كل كائن حياً كان أم غير حي يقوم بعمل لصالحه ولكنه في نفس الوقت يكون عنصراً أو حلقة في سلسلة الأعمال التي تقوم بها الكائنات الأخرى.
فإذا كان بإمكاننا الحديث عن عدة أنواع من النظم البيئية البرية منها والبحرية والجوية والمائية والغابوية والقطبية والصحراوية والجبلية، الخ، فإن هذه النظم في الحقيقة ليست لها حدود، وبالتالي، فهي مرتبطة فيما بينها لتشكل نظاماً بيئياً واحداً يتشكل من الكرة الأرضية بأكملها بما يحيط بها من أجواء وما يو جد فيها وفوقها من ماء وما يبرز منها من قارات وما يترعرع فيها جواً وبراً وماء من حياة نباتاً كانت أم حيواناً بما في ذلك الإنسان.
ولهذا، فالتوازن البيئي الشامل هو الذي أدخل عليه الإنسان، من جراء فصل نفسه عن البيئة وطموحه للسيطرة عليها، تغييرات كبرى أدت إلى ظهور مشكلات بيئية واسعة النطاق طالت تأثيراتها جميع المحيطات والقارات وأسافل وأعالي الأجواء. إن الإنسان من جراء نظرته الأنانية للبيئة أساء لخاصيات التوازن والتناسق والتناغم التي أسس عليها الله سبحانه وتعالى خلق هذا الكون. بالفعل، لقد أشار الحق سبحانه وتعالى للتوازن في العديد من آيات القرآن الكريم نذكر منها على سبيل المثال :
{ كُلُـوا واشـرَبوا مـن رزق اللـه و لا تَعْثَوا في الأرض مُفسِدين } (سورة البقرة : الآية 60).
{ ويَسْعَون في الأرضِ فساداً والله لا يحب المفسدين } (سورة المائدة : الآية 64).
{ ولا تُفْسِدوا في الأرضِ بعد إصْلاحِها وادْعوهُ خَوفا وطَمَعاً إن رحمتَ الله قريبٌ من المحْسنِين } (سورة الأعراف : الآية 56).
{ قد جاءتْكُم بَيِّنَةٌ من رَبِّكُم فأوفوا الكَيْلَ والميزانَ ولا تَبْخَسوا الناسَ أشْيَاءَهم ولا تُفسِدوا في الأرضِ بعد إصْلاحها ذلكم خيرٌ لكم إِن كنتم مِؤمنين } (سورة الأعراف : الآية 85).
{ ويا قومِ أوْفوا المِيكال والميزانَ بالقِسط ولا تَبْخَسوا الناسَ أشياءَهم ولاتَعْثَوا في الأرض مُفْسِدين } ( سورة هود : الآية 85).
{ الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار } (سورة الرعد : الآية 8).
{ والأرضَ مدَدْنَاها وأَلْقَيْنَا فيها َرَواسِي وأنْبَتْنَا فيها من كلِّ شيءٍ موزونٍ } (سورة الحجر : الآية 19).
{ الذي له ملك السمواتِ والأرضِ ولم َيتَّخِذْ وَلَدا ولم يَكُنْ له شَريك في الملك وخَلَقَ كل شيءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْديراً } (سورة الفرقان : الآية 2).
{ الشمسُ والقمرُ بحُسْبان والنجمُ والشجرُ يَسْجُدان والسَّمَاَء رَفَعَها وَوضَعَ الميزَانَ ألاَّ تَطـْغَوْا فـي الميـزانِ وأقيمـوا الوَزْنَ بالقِسْطِ ولا تُخْسِروا الميزانَ } (سورة الرحمن : الآيات 8-5).
{ سَبِّح اسم رَبِّكَ الأعْلى الذي خَلَقَ فَسَوَّى والذي قدَّرَ فَهَدَى } (سورة الأعلى : الآيات 3-1).
إن الآيات سالفة الذكر تشير كلها بطريقة أو بأخرى إلى مفهوم التوازن الذي كما أسلفنا تأسس عليه علم البيئة الحديث. وهكذا تمت الإشارة لهذا التوازن في القرآن الكريم عن طريق مفاهيم :
ـ الفساد
ـ الإصلاح
ـ الميزان
ـ المقدار
ـ التقدير
ـ الحسبان
ـ التسوية
إن الله لا يحب الفساد في كل شيء. والفساد بمعناه البيئي، أي الاضطراب والاختلال والتخريب وعدم التناسق، يمكن أن يكون ناتجاً عن التلوث والاستغلال المفرط وغير العقلاني للموارد واقتحام وغزو الأوساط الطبيعية. وبعبارة أخرى، إن الفساد ينتج عن التغييرات التي يدخلها الإنسان بدون حسبان على نظام الترابط الذي يضمن الحياة داخل المحيط البيئي. أما الإصلاح، فيمكن ربطه بمفهوم التنظيم الذاتي الذي يضمن استمرار التوازن داخل النظم البيئية. وهذا يعني أن الله سبحانه وتعالى وفر للبيئة كل الظروف التي تمكنها من إصلاح نفسها كلما أدخلت عليها تغييرات ولكن في حدود معينة. ولهذا، فإن الله يوصي عباده بأن لا يفسدوا في الأرض خصوصاً وأن بث الفساد أسهل بكثير من القيام بالإصلاح.
أما مفاهيم الميزان والمقدار والتقدير والحسبان والتسوية فإنها تشير إلى أن الله سبحانه وتعالى نظم الأمور ونسقها عند خلق هذا الكون. وعندما يتعلق الأمر بالتنظيم والتنسيق والترتيب. فهذا معناه أن كل شيء يحسب له حسابه. وبعبارة أخرى، فإن الأشياء لا يمكن أن تكون منظمة ومتناسقة إلا إذا قامت بينها عـلاقات مـتوازنة تكون ضامناً للنظام والتناسق. فحينما يقول الحق سبحانه وتعالى : { وأنبتنا فيها من كل شيء موزون } (سورة الحجر : الآية 19)، فهذا يعني أن الله وفر في الأرض الظروف الملائمة لنمو العديد من أنواع النباتات المختلفة.
ومن المعروف حالياً في علم البيئة النباتي أن النباتات لا يمكن أن تتعايش في الوسط الواحد إلا إذا قام من جهة توازن فيما بينها، ومن جهة أخرى بينها وبين الظروف المادية للوسط الذي تنبت فيه. فعندما يختل هذا التوازن، فقد يطغى نوع من هذه النباتات على الأنواع الأخرى، الشيء الذي يؤدي إلى تقليص عدد هذه الأخيرة وأحياناً إلى اختفائها. وهذا هو ما يحدث عندما يتدخل الإنسان في الأوساط الطبيعية ويستغل مواردها بكيفية غير عقلانية. والنتيجة هي اختلال التوازنات الذي يؤدي إلى طغيان مكونات بيئية وتراجع واندثار مكونات أخرى.
وخير مثال يمكن سياقه في هذا الصدد هو استعمال مختلف المبيدات الكيميائية من أجل تحسين الإنتاجية الزراعية. ولا سبيل هنا لذكر الأضرار التي ألحقتها هذه المبيدات بالتوازنات الطبيعية. ولا سبيل للذكر أنه بذلت محاولات ولا تزال تبذل من أجل تجاوز هذا الوضع الذي يشكل تهديداً للتوازنات البيئية. من بين هذه المحاولات، اللجوء إلى ما يسمى بالمكافحة البيولوجية التي تستعمل فيها وسائل طبيعية لخلق توازن بين ما يسمى بالنباتات والحشرات المضرة وبين النباتات المزروعة. وجدير بالذكر أن اللجوء إلى المكافحة البيولوجية هو محاولة من الإنسان للرجوع إلى الفطرة، أي الوضع الطبيعي الذي وجدت فيه الأرض عندما خـلقها اللـه سـبحانه وتعالى. وهذه هي الفطرة التي أشار إليها عز وجل حينما يقـول : { وخلق كل شيء فقدره تقديـراً } (سورة الفرقان : الآية 2) أو { الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى } (سورة الأعلى : الآيتان 3-2).
وفي هذا الصد، لابد من الإشارة إلى أن العديد من التيارات الفكرية والحركات البيئية وبالخصوص في الدول المصنعة حيث الإنسان ألحق أضراراً كبيرة بالطبيعة، تنادي بالرجوع إلى الطبيعة الذي معناه الرجوع إلى الفطرة. وقد عبر الناس عن هذا الرجوع بطرق عديدة منها الزهد في الاستهلاك، وبالخصوص بممارسة ما يسمى بالزراعة البيولوجية التي تعتمد على التربة والشمس والماء والعمل اليدوي.
إن مفهوم التوازن الذي أقره علم البيئة الحديث سواء على مستوى النظم البيئية الصغيرة أو على المستوى البيئي الشمولي واحد من المفاهيم البيئية التي وردت في القرآن الكريم منذ عدة قرون. إن الله سبحانه وتعالى خلق الكون موزوناً ومتوازناً وهو الذي يقول :
{ أَلَمْ تَرَ أنَّ الله يَسْجُدُ له مَنْ في السمواتِ ومَنْ في الأرضِ والشمسُ والقمرُ والنجومُ والجبالُ والشجرُ والدوابُ وكثيرٌٌٌ من الناس } (سورة الحج : الآية 18).
إن سجود الكائنات للحق سبحانه وتعالى إن دل على شيء إنما يدل على وحدة الكون التي يحفظ توازنها خالق مدبر واحد.
3.3. مفهوم محدودية الموارد :
منذ أن دخل العالم عصر الصناعة خلال القرن التاسع عشر الذي اقترن أوله باختراع الآلة البخارية وآخره باكتشاف الكهرباء والنفط ثم باختراع المحرك الانفجاري، بدأ في نفس الوقت التهافت على الموارد الطبيعية وخصوصاً في البلدان الغربية التي كانت تتنافس فيما بينها أولاً للرفع من مستوى إنتاجها واستهلاكها، وثانياً لغزو الأسواق الخارجية بمنتوجاتها الصناعية. وقد أدت هذه الاختراعات والاكتشافات إلى ازدهار العديد من الصناعات وعلى رأسها صناعة الحديد والصناعة الكيميائية. وقد أدت صناعة الحديد على الخصوص إلى اختراع العديد من وسائل النقل والآلات وخاصة تلك التي تستعمل في المجال الفلاحي وفي قطاع استخراج واستغلال المعادن. أما الصناعة الكيميائية فقد ساهمت هي الأخرى بقسط وافر في ازدهار الفلاحة بما وفرته لهذه الأخيرة من أسمدة ومبيدات مكنت المزارعين من الحصول على مردوديات عالية في الإنتاج.
وبصفة عامة، إن القرن التاسع عشر اقترن بظهور مجموعة من الأنشطة الاقتصادية الواسعة النطاق المبنية على استغلال ثروات الأرض ومصادر الطاقة وتحويل المواد الأولية إلى منتوجات مصنعة. ولا سبيل للذكر أن أهم الصناعات التي يرتكز عليها الاقتصاد العالمي اليوم نشأت في تلك الفترة نذكر من بينها على سبيل المثال :
ـ الصناعة الثقيلة التي تحول المواد الأولية المعدنية إلى فليزات تستعمل في عدة أنواع أخرى من الصناعات،
ـ الصناعة الخفيفة التي تحول ما أنتجته الصناعة الثقيلة إلى منتوجات مصنعة،
ـ الصناعة الغذائية التي تصنع وتهيئ الأغذية،
ـ الصناعة الميكانيكية التي تنتج الآلات والمعدات المستعملة في مجالات الصناعة والفلاحة والنقل، الخ.
وجدير بالذكر أن ازدهار الصناعة خلال القرن التاسع عشر في العالم الغربي كان مبنياً على تنافس شديد بين الدول التي كانت ولا تزال تسعى إلى احتلال المراتب الأولى على الصعيد العالمي، الشيء الذي أدى إلى استغلال مفرط للموارد الطبيعية ليس فقط في البلدان المصنعة ولكن كذلك في ما يسمى حالياً بالدول النامية.
بالفعل، إن ازدهار الصناعة وتطورها كانا في حاجة ماسة للموارد الأولية لضمان نشاطها بكيفية مستمرة. فلا غرابة إذن أن يقترن عصر الصناعة بإقبال بعض الدول الغربية على استعمار إفريقيا وجزء كبير من آسيا من أجل استغلال مواردها الطبيعية.
وكيفما كان الحال، فإن عصر الصناعة كان بداية لاستغلال مفرط وجنوني ومطلق العنان للموارد الطبيعية على الصعيد العالمي. وحتى البلدان التي لم يطلها الاستعمار الغربي، فإن مواردها تستغل بثمن بخس من طرف الدول المصنعة.
إن الموارد الطبيعية كانت تستغل وكأنها غير قابلة للنفاد إذ لا فرق بين ما هو متجدد طبيعياً وبين ما هو غير متجدد. لقد كان هاجس الدول المصنعة هو تحقيق مستوى عالمي من النمو ولو على حساب الطبيعة ومواردها.
ولحسن الحظ، فإن هذا الاستغلال المفرط الذي أدى إلى استنزاف الموارد الطبيعية، وبالتالي، إلى ظهور مشكلات بيئية أثار انتباه العديد من الأوساط في الدول المصنعة التي بادرت إلى عقد أول اجتماع استشاري دولي بمدينة بيرن بسويسرا سنة 1913 حول حماية الطبيعة شارك فيه 19 بلداً. ثم تلا هذا الاجتماع سنة 1923 أول مؤتمر عقد بباريس حول حماية الطبيعة وعوامل تخريب مواردها تلاه مؤتمر ثاني سنة 1932 تم تخصيصه لدراسة تأثير التكنولوجيات الملوثة على الطبيعة. وبعد ذلك، عقدت منظمة اليونسكو بفرنسا سنة 1948 اجتماعاً دولياً تمت فيه مناقشة تأثيرات الأنشطة البشرية على الطبيعة تلاه سنة 1968 مؤتمر نظمته نفس المنظمة بإفريقيا حول الاستعمال العقلاني للموارد الطبيعية حيث ركز المشاركون من جهة على هشاشة الأسس التي تضمن تجدد البعض من هذه الموارد، ومن جهة أخرى على محدودية كمية البعض الآخر. غير أن مفهوم محدودية الموارد لم يبرز إلى الوجود بصفة واضحة إلا بعد نشر تقرير نادي روما سنة 1970 الذي أثار انتباه المجتمع الدولي وخصوصاً في الدول المصنعة إلى ضرورة إدخال تغييرات مهمة على نمط نموها الاقتصادي، الشيء الذي أكدت عليه اللجنة العالمية للبيئة والتنمية بعد صدور تقريرها سنة 1987.
إن مفهوم محدودية الموارد الذي ظهر خلال السبعينات وتأكدت صحته خلال الثمانينات هو الذي أدى إلى ظهور مفهوم التنمية المستدامة التي تقتضي أن يتعامل الإنسان مع البيئة ومع مواردها بكيفية تضمن حاجاته الآنية وحاجات الأجيال المقبلة في نفس الوقت.
وإذا استطاع الإنسان، بفضل ما أتاه الله من علم، أن يقف على هذه الحقيقة، فإن القرآن الكريم أشار غيرما مرة لمفهوم محدودية الموارد من خلال الآيات التالية :
{ وعِنْدَهُ مَفَاِتُح الغَيْبِ لا يعلمُها إلا هو ويعلمُ ما في البَرِّ والبحرِ وما تَسْقُطُ من وَرَقَةٍ إلا يَعْلَمُهَا ولا حَبَّةٍ في ظلمات الأرضِِ َولارطبٍ ولا يابسٍ إلا في كتابٍ مبينٍ } (سورة الأنعام : الآية 59).
{ الله يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كلُّ أنْثى وما تَغِيضُ الأرحامُ وما تَزْدَادُ وكلُّ شيءٍ عنده بمقدار } (سورة الرعد : الآية 8).
{ وإن مـن شـيءٍ إلا عنـدنا خـزائنه وما ننِزله إلا بقدر معلوم } (سورة الحجر : الآية 21).
{ وأنْزَلْنَا من السماءِ ماءً بِقَدَرٍ فأسكناه في الأرض وإنا على ذهابِ به لقادِرون } (سورة المؤمنون : الآية 18).
{ الذي لهُ مُلك السمواتِ والأرضِ ولم يَتَّخِذْ وَلَداً ولم يَكُنْ له شريك في الملك وخَلَقَ كلَّ شيءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً } (سورة الفرقان : الآية 2).
{ وكلَّ شيءٍ أَحْصَيْناهُ في إمامٍ مبينٍ } (سورة يس : الآية 12).
{ وجعل فيها رواسِيَ مِن فَوْقِها وبَاَرك فيها وقَدَّرَ فيها أَقْوَاتَها في أربعةِ أَيَّامٍ سواءً للسائِلين } (سورة فصلت : الآية 10).
{ ولو بَسَطَ الله الرِّزِْقَ لِعباده لَبَغَوْا في الأرضِ ولكن يُنَزِّل بِقَدَرٍ ما يشاء إنه بِعباده خبيرٌ بصيرٌ } (سورة الشورى : الآية 27).
{ إِنَّا كلَّ شيءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَر } (سورة القمر : الآية 49).
{ وأَحْصَى كلَّ شَيءٍ عدَدا } (سورة الجن : الآية 28).
{ قدْ جعل الله لكلِّ شيءٍ قَدراً } (سورة الطلاق : الآية 3).
{ وكلَّ شيءٍ أحْصَيْناه كِتابا } (سورة النبإ : الآية 29).
من خلال الآيات السالفة الذكر، يشير سبحانه وتعالى إلى مفهوم محدودية الموارد من خلال مفهومـي المقدار والقدر. يقـول الحق سبحانه وتعالـى : { إنا كل شيء خلقنـاه بقـدر } (سورة القمر : الآية 49) أي أن كل كائن حي أم غير حي يخضع لقانون أو لقوانين معينة من حيث الكم. والفرق الذي وضعه الإنسان بين الموارد الطبيعية المتجددة والموارد الطبيعية غير المتجددة يرتبط ارتباطاً وثيقاً بمفهوم محدودية الموارد الذي يشير إليه القرآن الكريم.
فبالنسبة للموارد الطبيعية غير المتجددة، لقد أثبت العلم الحديث أنها فعلاً محدودة الكمية كما هو الشأن بالنسبة للمواد الطاقية الأحفورية (فحم، نفط، غاز طبيعي) والانشطارية (أورانيوم، طوريوم، الخ) والمعادن الفلزية كالحديد والنحاس والمعادن غير الفليزية كالفوسفاط والبوتاس الخ. أما بالنسبة للموارد الطبيعية المتجددة، فهي الأخرى توجد في البيئة حسب كميات محدودة لكنها تتميز عن الموارد غير المتجددة، بكونها تتجدد بكيفية طبيعية حسب دورات معينة كما هو الشأن بالنسبة للماء والنباتات والحيوانات البرية والموارد البيولوجية المائية والطاقة. والتجديد لا يعني أن هناك زيادة في الكميات إلى ما لا نهاية. بل التجديد يقصد به أن البيئة تتوفر على كميات محددة من العناصر والمواد الكيميائية التي من جراء تعاقب الحياة والموت تدخل في دورات معينة لتنتج من جديد الحياة وعناصر ومواد كيميائية. وهذا ما يحدث مثلاً بالنسبة للغازات التي يتكون منها الجو كالأكسجين والآزوت وثاني أكسيد الكاربون، الخ.
يقول الحق سبحانه وتعالى :
{ َوأَنْزَلْنَا من السماءِ ماءً بِقَدر فأسْكناه في الأرضِ وإِنَّا على ذهابِ به لقادِرون } (سورة المؤمنون : الآية 18).
لقد أصبح اليوم معروفا أن كمية الماء التي يتكون منها المحيط البيئي محدودة حيث تقدر بـ 1.350 مليون كيلومتر مكعب موزعة كالتالي :
الماء السائل
ـ المحيطات
ـ المياه الجوفية
ـ بحيرات الماء العذب
ـ بحيرات مالحة وبحار داخلية
ـ ماء التربة ( الرطوبة)
ـ مجاري المياه
الماء الصلب
ـ الجليديات القطبية
ـ جليديات المناطق المعتدلة والاستوائية
الماء الغازي
ـ بخار الماء الجوي
ـ ماء المحيط الحيوي
ـ ماء الكائنات الحية
وإذا كانت الموارد الطبيعية محدودة الكميات، فهذا يعني أن كمية العناصر الكيميائية التي تتكون منها هذه الموارد هي الأخرى محدودة.
بالفعل، إن أي مورد كيفما كان نوعه يتألف من جزيئات تتكون هي الأخرى من ذرات. فالماء مثلاً يتكون من جزيئتين من الهيدروجين وجزئية واحدة من الأكسجين. فعندما يتم الحديث عن محدودية كمية الماء على مستوى البيئة بأكملها، فهذا يعني أن هذه الكمية تتكون هي الأخرى من عدد محدود من ذرات الهيدروجين والأكسجين. يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز :
{ وقال الذين كفروا لا تَأْتينا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالمِ الغيبِ لا يَعْزُبُ عنه مِثقال ذَرَّةٍ في السمواتِ ولا في الأرضِ ولا أَصْغَر من ذلك ولا أَكْبَر إلاَّ في كتابٍ مبينٍ } (سورة سبإ : الآية 3).
وهنا تجدر الإشارة إلى أن علماء الكيمياء عندما يتعاملون مع المادة، يعرفون أن كمية هذه المادة لا تزيد ولا تنقص رغم التحولات التي تمر منها. وهذا هو ما توصل إليه عالم الكيمياء الفرنسي لافوازيي (Lavoisier) في القرن الثامن عشر حين قال : >لا شيء يضيع ولاشيء يضاف، الكل يتحول< ليتخذ أشكالاً مختلفة. وهذا هو ما يجري داخل المحيط البيئي حيث المادة في تحولات مستمرة لتتخذ أشكالاً تتكون منها الحياة وأخرى يتألف منها الماء والهواء والتربة. وقد أشار الحق سبحانه وتعالى إلى هذه التحولات بقوله :
{ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ في الأرضِِ وما يَخْرُجُ منها ومَا يَنْزِلُ من السماءِ وما يَعْرُجُ فيها وهو الرحيم الغفور } (سورة سبإ : الآية 2).
إن العلم الحديث أثبت بالفعل أن المادة تتحول باستمرار على مستوى المحيط البيئي بأكمله من خلال ما يسمى بالدورات البيوجيوكيميائية، أي الدورات التي تجدد مكونات البيئة الحية وغير الحية. من بين هذه الدورات، نذكر على سبيل المثال :
ـ دورة الماء
ـ دورة الأكسيجين
ـ دورة الكاربون
ـ دورة اللآزوت
ـ دورة الفوسفور، الخ.
وكما جاء في الآية سالفة الذكر، فإن الدورات تتخذ الأرض والجو نطاقاً لتتحقق. فالماء مثلاً ينزل من الجو إلى الأرض لتستفيد منه الكائنات الحية ثم تحت تأثير عامل الحرارة يتبخر ويصعد إلى الجو ليعود مرة أخرى إلى الأرض. وهكذا، فرغم تعدد الأشكال التي تتخذها المادة من خلال ما هو حي وما هو غير حي، فإن الأجزاء التي تتألف منها المادة محدودة الكمية كما جاء في كتاب الله عز وجل :
{ وأَحْصَى كل شيءٍ عدداً } (سورة الجن : الآية 28).
3.4. مفهوم تنوع الحياة :
إن مفهوم تنوع الحياة أو ما يسمى حالياً بالتنوع البيولوجي مفهوم حديث حيث ظهر إلى الوجود خلال الثمانينات وتم تكريسه في النصف الأول من التسعينات من خلال اتفاقية دولية انبثقت عن مؤتمر ريو سنة 1992.
والمقصود بالتنوع البيولوجي هو الخاصية التي تتميز بها الحياة لتظهر في الطبيعة حسب أنواع وأشكال عديدة ومختلفة. وجدير بالذكر أن هذا التنوع يظهر على جميع مستويات التدرج البيولوجي بدأ من الخلايا والأعضاء ومرورا بالأجسام إلى الأنواع والجماعات.
إن التنوع البيولوجي ضروري لاستمرار الحياة إذ بواسطته تستطيع الكائنات الحية أن تواجه التغييرات التي تحدث في الأوساط التي تعيش فيها بصفة خاصة وفي البيئة بصفة عامة.
وهكذا، فكلما كانت النظم البيئية غنية بأنواع وأشكال الحياة، كلما كانت لها القدرة والوسائل للتصدي لهذه التغييرات. وهنا لابد من الإشارة إلى أن التنوع البيولوجي واحد من العوامل الأساس التي تساهم في التنظيم الذاتي للنظم البيئية لتضمن توازنها واستمرار الحياة بها.
ولعل أكثر الكائنات تنوعاً الحشرات متبوعة بالنباتات ثم الكائنات اللافقرية والمجهرية ثم الأسماك ثم الثدييات والزواحف والضفدعيات وأخيراً الطيور. وقد تم تقدير كمية هذه الكائنات على صعيد المحيط البيئي بما مجموعه 33.500.000 نوع لم يتمكن الإنسان إلى حد الآن إلا من معرفة 1.390.000 نوعاً، أي ما يعادل 4%.
إن هذا التنوع الهائل في أشكال وأنواع الحياة أشار إليه الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز من خلال العديد من الآيات نذكر منها على سبيل المثال ما يلي :
{ ولله ملكُ السمواتِ والأرضِ وما بينهما يَخْلُقُ ما يشاءُ والله على كلِّ شيءٍ قديرٌ } (سورة المائدة : الآية 17).
{ وهو الذي أَنْزَل من السماءِ ماءً فأخْرَجْنا به نباتَ كلِّ شيءٍ فأخْرَجِْنا منه خَضِرا نُخْرجُ منه حبًّا متراكِباً وِمنَ النَّخْلِ من طَلْعِهَا قِنْوانٌ دانية وجناتٍ من أعنابٍ والزيتونَ والرُّمانَ مُشْتَبِهاً وغير متشابِهِ انْظُرُوا إلى ثَمَره إذا أثْمَرَ ويَنْعِهِ إِنَّ في ذلكم لآياتٍ لقوم يؤمنون } (سورة الأنعام : الآية 99).
{ وهو الذي مَدَّ الأرضَ وجعل فيها رواسِيَ وأنهارا ومن كلِّ الثَّمراتِ جعل فيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ } (سورة الرعد : الآية 3).
{ هو الذي أنْزَلَ من السماءِ ماءً لكم منه شرابٌ ومنه شجرٌ فيه تُسِيمُونَ يُنْبِتُ لكم به الزَّرْعَ والزيتونَ والنخيلَ والأعنابَ ومن كل الثَّمَرَاتِ إن في ذلك لآيةً لقومٍ يَتَفَكَّرُونَ } (سورة النحل : الآيتان 11-10).
{ الذي جعل لكم الأرض مَهْداً وسَلَكَ لكم فيها سُبُلاً وأَنْزَل من السماءِ ماءً فَأَخْرَجْنَا به أَزْوَاجاً من نباتٍ شَتَّى } (سورة طه : الآية 53).
{ وترى الأرضَ هامدةً فإذا أَنْزَلْنَا عليها الماءَ اهْتَزَّتْ ورَبَتْ وأنْبَتَتْ من كلِّ زَوْج بَهيج } (سورة الحج : الآية 5).
{ والله خَلَقَ كلَّ دابَّةٍ من ماءٍ فمنهم من يمشي على بَطْنِهِ ومنهم من يمشي على ِرجْلين ومنهم من يمشي على أَرْبَع يَخْلُقُ الله ما يشاءُ إِنَّ الله على كلِّ شيءٍ قدير } ( سورة النور : الآية 45).
{ أوَ لَمْ يَرَوا إلى الأرض كم أنبتنا فيها من كلِّ زوج كريم } ( سورة الشعراء : الآية 7).
{ سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون } (سورة يس : الآية 36).
{ والأرضَ مَدَدْناها وأَلْقَيْنا فيها رواسِيَ وأنْبَتْنَا فيها من كلِّ زوج بهيج } (سورة ق : الآية 7).
إن القرآن الكريم يعطي أهمية كبيرة لتنوع الحياة حيث يشير إلى اختلاف النباتات والحيوانات. ولو أن أكثر الآيات سالفة الذكر خصصت للتنوع النباتي، فهناك الآية 45 من سورة النور التي تشير إلى التنوع الحيواني. وإن اقتصرت هذه الآية على ذكر البعض من الحيوانات، فإن الله سبحانـه وتعالـى ينهـي هذه الآية بقولـه : { يخلق الله ما يشاء إن الله على كل شيء قدير } وهذا معناه أن عدم الإشارة إلى جميع أنواع الحيوانات والنباتات في القرآن الكريم يجب أن لا يفسر باقتصار التنوع البيولوجي على ما جاءت به الآيات الكريمة.
إن الله سبحانه وتعالى يقول : { وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها } (سورة إبراهيم : الآية 34). كما يقول سبحانه وتعالى كذلك : { والخيل والبغال والحمير لتركبـوها وزينة ويخلـق مالا تعلمـون } (سورة النحل : الآية 8). فإن دلت هذه الآيات على شيء، إنما تدل على أن الله نوع الخلق لكن الإنسان لم يستطع أن يتعرف عليه كله. وهذا هو ما أثبته العلم اليوم حيث أن عدد أنواع الحشرات مثلاً يقدر ب 30000000 نوع بينما لا يعرف العلماء إلى حد الآن إلا 750.000 نوع. أما الكائنات اللافقرية والمجهرية فيقدر عددها بـ 3.000000 بينمـا تم إلى حـد الآن التعرف علـى 276.500 نـوع. يقـول سبحـانه وتعالــى : { سبحان الذي خلـق الأزواج كلهـا مما تنبت الأرض ومن أنفسهم وممـا لا يعلمـون } (سورة يس : الآية 36).
إن مفهوم تنوع الحياة أصبح اليوم يحتل الصدارة في الأوساط التي تهتم بشؤون البيئة. ولا سبيل للقول إن هذا الاهتمام أتى بعد أن أدرك الإنسان الدور الحاسم الذي يلعبه التنوع في استمرار دورة الحياة. وهنا لابد من الإشارة إلى أن مفهوم تنوع الحياة لا يمكن فصله عن مفهومي شمولية البيئة والتوازن. إن التنوع البيولوجي واحد من العوامل الأساس الشمولية التي تساهم في استمرار توازن المحيط البيئي الذي يتكون من الجو ومن سطح القارات ومن ماء المحيطات والبحار إضافة إلى ضوء الشمس والمحيط الذي يتألف من جميع الكائنات الحية. يقول سبحانه وتعالى :
{ إِنَّ في خَلْقِ السمواتِ والأرضِ واختلاِف الليلِ والنهارِ والفلكِ التي تجري في البحر بما يَنْفَعُ الناسَ وما أَنْزَلَ الله من السماءِ من ماءٍ فأَحْيا به الأرضَ بعد مَوْتِها وبَثَّ فيها من كل دابَّةٍ وتَصْرِيِفِ الرِّياح والسحابِ المُسَخَّرِ بين السماءِ والأرضِ لآيات لقوم يعقلون } (سورة البقرة : الآية 164).
إن هذه الآية الكريمة تؤكد شمولية البيئة التي سبق الحديث عنها. لقد أشار الحق سبحانه وتعالى في هذه الآية إلى العناصر المادية التي تتكون منها هذه البيئة من جو (سماء) وأرض (سطـح الأرض) ومـاء وكائنـات حية. وحينما يقـول سبحانــه وتعالــى : { لآيـات لقوم يعقلـون }، فإنه يدعـو عباده للتأمـل والتمعن في مكـونات هذا الكـون وفي العلاقـات القائمـة بينـها. وحينمـا يقـول سبحـانه وتعالـى فـي نفس الآيـة :
{ وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة }. فهذه إشارة للتنوع البيولوجي الذي على الإنسان أن يتأمل فيه كواحد من عناصر وحدة الكون وشموليته.
3.5. مفهوم الغائية :
من أهم المفاهيم التي وردت في المقترحات التي تقدم بها المفكرون لتغيير نظرة الإنسان للبيئة، مفهوم الغائية الذي ينص على أن كل كائن حياً كان أم غير حي هو في الحقيقة مركز غائية، أي بمعنى أن هذا الكائن ينزع إلى تحقيق غاية معينة. في هذه الحالة، فإذا اعتبرت الكائنات مراكز غائية، فهذا يعني أنها تتحول من مجرد كائنات مجهولة تتكون منها البيئة إلى كائنات ذات قيمة ذاتية وجودها له مبرر يتمثل في كونها وسائل تتحقق من خلالها غايات معينة.
وإذا وضعنا مفهوم الغائية في إطار بيئي، فقد يصعب على المرء أن يتصور أن كل كائن من ضمن الكائنات التي تتكون منها البيئة والتي تعد بالملايير (عدد البشر وحدهم أكثر من خمسة ملايير) وجد من أجل أن تتحقق من خلاله غاية معينة. فلا سبيل للاستغراب لأن كل كائنات البيئة كيفما كان نوعها تعد وسائل وقنوات تتحقق من خلالها الكثير من الغايات المختلفة. فإذا اعتبرنا مثلاً بعض الأنواع من الحشرات ومن ضمنها الفراشات والنحل، فسنجد أنها عندما تكون منهمكة في الحصول على قوتها بتنقلها بين الأزهار، فإنها في نفس الوقت تلقح هذه الأزهار بواسطة اللقاح الذي تحمله مختلف أجزاء أجسامها. وهكذا، فإن هذه الكائنات بدون أن تشعر تمكن العديد من النباتات من التكاثر، وبالتالي، من استمرار الحياة. وما يقال عن الحشرات والطيور، يقال كذلك عن بعض الثدييات التي يكسو جسمها وبر أو صوف. فعندما تكون هذه الحيوانات بصدد البحث عن قوتها، فإن بعض الأنواع من البذور وخصوصاً منها الشائكة تلتصق بريشها أو بوبرها أو بصوفها، الشيء الذي يساعد على نقل هذه البذور من مكان لآخر، وبالتالي، تمكينها من الإنبات في وسط بعيد عن الوسط الأم. فكما هو الشأن بالنسبة للحشرات، فإن هذه الحيوانات تساعد هي الأخرى على نقل الحياة من مكان إلى آخر وعلى استمرارها.
وما يقال عن الثدييات، يمكن أن يقال عن بعض الأنواع من الديدان ومنها على الخصوص دودة الأرض التي تعيش داخل التربة التي تتوفر فيها نسبة معينة من الرطوبة. لكي تتغذى هذه الدودة، فإنها تبلع حبات دقيقة من التربة لتأخذ منها بعد عملية الهضم ما هي في حاجة إليه من الغذاء ثم تعيد الباقي إلى التربة. وهكذا، فإن هذه الدودة بعملها هذا أولاً تحرك التربة، وبالتالي، تسهل نفوذ الهواء إليها، وثانياً تغنيها بأملاح معدنية بعد خضوع هذه التربة لعملية الهضم داخل جسمها. وجدير بالذكر أن هذا العمل له نتيجة تتمثل في ازدياد خصوبة التربة وتحسين تهويتها، الشيء الذي يسهل إنبات البذور التي تسقط على التربة أو توضع فيها. إن دودة الأرض كما هو الشأن بالنسبة للحيوانات سابقة الذكر، تساهم في استمرار الحياة.
وما يقال عن الحيوانات، يمكن أن يقال عن النباتات. فبالنسبة مثلاً للنباتات الخضراء، من المعروف أنها تلتقط ضوء الشمس وتأخذ ثاني أكسيد الكربون من الهواء لتصنع المادة العضوية التي بدونها لاوجود للحياة. ومن المعروف أن الحيوانات ليست لها القدرة لصنع المادة العضوية بنفس الطريقة التي تسلكها النباتات الخضراء، وبالتالي، فإن هذه الحيوانات تحصل على المادة العضوية إما بأكل النباتات الخضراء مباشرة وإما بأكل الحيوانات التي تتغذى على النباتات الخضراء. وهكذا، فإن النباتات الخضراء تشكل أساساً لاستمرار الحياة الحيوانية بجميع أشكالها وأنواعها.
غير أن هذا لا يعني أن استمرار الحياة النباتية غير مضمون. بالعكس، إن النباتات الخضراء المزهرة لها عدة وسائل لضمان استمرار حياتها. من بين هذه الوسائل، تجدر الإشارة إلى أن العديد من النباتات لها زهور ذات ألوان زاهية تجذب الحشرات إليها لتتغذى على رحيقها أو على لقاحها الذي يلتصق بأجسامها كما سبق الذكر، وبالتالي، ينقل من نبات لآخر، الشيء الذي يؤدي إلى عملية اللقاح التي تؤدي بدورها فيما بعد إلى ظهور ثمار ثم بذور التي هي الوسيلة التي تستمر بواسطتها الحياة النباتية.
وكيفما كان الحال، فإن الكائنات الحية نباتية كانت أم حيوانية هي عبارة عن أماكن تتحقق من خلالها غايات معينة. وإذا كانت أول غاية يسعى إلى تحقيقها الكائن الحي هي ضمان حياته، فإنه عندما يكون منهمكاً في هذا العمل، يؤدي في نفس الوقت خدمة تكون غايتها هي استمرار الحياة بصفة عامة. وإن اختلفت الوسائل والطرق المؤدية إلى هذه الخدمة، فالغاية واحدة تتمثل في استمرار الحياة.
وما يقال بصفة عامة عن الكائنات الحية، يمكن أن يقال عن الكائنات غير الحية أي الجامدة. إن الأمثلة في هذا الباب كثيرة ومتعددة. فإذا تحدثنا مثلاً عن الماء، فسنجد أنه يشكل ليس فقط غذاء بالنسبة لجميع الكائنات الحية ولكن كذلك وسطاً للحياة وعنصراً لتركيب الأجسام ووسيلة نقل داخل هذه الأجسام وعاملاً لتنظيم درجة الحرارة بها، الخ. وما يقال عن الماء، يقال كذلك عن الهواء الذي تشكل غازاته من أكسجين وهيدروجين وأزوت وثاني أكسيد الكربون، إلخ، غذاء للحيوانات والنباتات. غير أن هذه الغازات تدخل كذلك في تركيب المادتين العضوية والمعدنية اللتين هما أساس الحياة. وفضلاً عن هذا، فإن الهواء يحمل الطيور وتعيش به العديد من الكائنات الحية الدقيقة كما يشكل عاملاً أساساً في استقرار الضغط الذي يمارس على الحيوانات والنباتات التي تحيا فوق سطح الأرض.
وهكذا، فإذا كان الماء والهواء كائنين غير حيين، فإن الغايات التي تتحقق من خلالهما تؤدي إلى تحقيق غاية واحدة ألا وهي استمرار الحياة. وبصفة عامة، فإن الغايات التي تتحقق من خلال الكائنات الحية و غير الحية متعددة، ومتنوعة، ومتداخلة ومرتبطة بعضها ببعض. لكنها رغم تعددها وتنوعها وتداخلها وترابطها تسعى في آخر المطاف إلى غاية نهائية واحدة ألا وهي وحدة الكون وتوازنه واستمرار الحياة به لأداء رسالة العبودية الخالصة لله.
وهذا ما أشار إليه القرآن الكريم من خلال العديد من الآيات نذكر منها على سبيل المثال :
{ تُسَبِّحُ له السمواتُ السَّبْعُ والأرضُ ومن فِيهِنَّ وإن من شيءٍ إلا يُسَبِّّحُ بِحَمْدِهِ ولكن لا تفْقَهون تَسْبِيحَهُم إنه كان حليما غَفُورا } (سورة الإسراء : الآية 44).
{ وله مَنْ في السمواتِ والأرضِ ومن عنده لا يَسْتَكْبِرُون عن عِبَادتِه ولا يَسْتَحْسِرُون يُسَبِّحُون الليلَ والنهارَ لا يَفْتَرُون } (سورة الأنبياء : الآيتان 20-19).
{ ألمْ تَرَ أنَّ الله يَسْجُدُ له مَنْ في السمواتِ وَمنْ في الأرضِ والشمسُ والقمرُ والنجومُ والجبالُ والشجرُ والدَّوابُ وكثيرٌ من الناس } (سورة الحج : الآية 18).
{ ألمْ تَرَ أَنَّ الله يُسَبِّحُ له مَنْ في السمواتِ والأرضِ والطيرُ صافاتٍ كُلّ قد عَلِمَ صلاته وَتَسْبِيحَهُ والله عليمٌ بما يفعلون } (سورة النور : الآية 41).
{ يُولِجُ الليل في النهار ويُولِجُ النهارَ في الليلِ وسَخَّرَ الشمسَ والقمرَ كلّ يَجْري لأجلٍ مُسَمَّى } (سورة فاطر : الآية 13).
{ والشمسُ تَجْري لِمُسْتَقَرٍّ لها ذلك تَقْدِيرُ العزيز العليم } (سورة يس : الآية 38).
{ وما خَلَقْنَا السماءَ والأرضَ وما بينهما باطِلا } (سورة ص : الآية 27).
{ والنجمُ والشجرُ يَسْجُدانِ } (سورة الرحمن : الآية 6).
فما هي علاقة هذه الآيات الكريمة بمفهوم الغائية؟ إن هذه العلاقة تشير إليها الآيات التي تتحدث عن التسبيح والسجود. والتسبيح والسجود معناهما هنا طاعة خالق هذا الكون وخضوع كائناته له من خلال ما أنيط بها من مهمات. وقد سبق وأن أشرنا إلى الكائنات الحية عندما تكون منهمكة في البحث والحصول على قوتها، فإنها في نفس الوقت تقوم بمهام تساهم بواسطتها في استمرار الحياة. كما أشرنا كذلك إلى أن هذه المهام رغم تعددها وتنوعها، فإنها تؤدي في نهاية المطاف إلى استمرار وحدة الكون وتوازنه. يقول سبحانه وتعالى :
{ تُسَبِّحُ له السمواتُ السَّبْعُ والأرضُ ومن فيهِن وإنْ من شيء إلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ولكن لا تفْقَهون تَسْبيحَهُم إنه كان حليما غَفورا } (سورة الإسراء : الآية 44).
فعندما يقول سبحانه وتعالى : { وإن من شيء إلا يسبح بحمده }، فهذا معناه أن أي كائن حياً كان أم جماداً قد أناط الله به مهمة تساهم بكيفية أو أخرى في وحدة وتوازن هذا الكون. غير أن الإنسان بنظرته الأنانية للبيئة لم يعط أهمية للمعنى السامي والروحي للتسبيح، بل صب كل اهتمامه على ما يمكنه أن يجنيه من نفع للكائنات ناسياً أن وراء هذا التسبيح غاية سامية تتمثل في احترام ما أناطه الله من مهام بمخلوقاته كافة. يقول سبحانه وتعالى في نفس الآية : { لكن لا تفقهون تسبيحهم } أي أن العباد، عوض أن يتمعنوا في وحدة الكون وفي تناسقه وتناغمه، أعماهم طموحهم للسيطرة على البيئة للاستفادة من جوانبها المادية متجاهلين النهج والنظام اللذين بثهما الله في هذا الكون من خلال كائناته المتنوعة. يقول سبحانه وتعالى :
{ أَلَمْ تَرَ أنَّ الله يَسْجُدُ له مَنْ في السموات ومن في الأرض والشمس والقمرُ والنجومُ والجـبالُ والشـجرُ والـدَّوَابُ وكـثيرٌ من الناسِ وكثيرٌ حقَّ عليه العَذَاُبُ } (سورة الحج : الآية 18).
إن دلت هذه الآية على شيء، فإنما تدل على أن الناس صنفان. صنف يحترم غايات الكون والنظام الذي سنه فيه سبحانه وتعالى من خلال المخلوقات، وصنف يتجاوز النهج الإلهي ويحاول أن يطغى ولو أدى ذلك إلى الخراب والدمار. وفي حق هذا الصنف الثاني من الناس، يقول سبحانه وتعالى : { وكثير حق عليه العذاب }.
وحينما يقول سبحانه وتعالى : { ولا تعثوا في الأرض مفسدين }، فإن الله يوصي عباده بأن يحافظوا على نظام البيئة وذلك باحترامهم لمكونات هذه البيئة لتقوم بالمهام التي أنيطت بها.
يقــول سبحانـه وتعالــى : { وما خلقنـا السمـاء والأرض ومـا بينهمـا باطـلا } (سورة ص : الآية 27) أي أن الله عندما خلق الكون، لم يترك أي شيء للصدفة تتحكم فيه. بل إن الله سن لمخلوقاته نهجاً تسيـر عليه وتعمـل وتؤدي مهامها بموجـبه. هذا هو ما يشيـر إليه سبحـانه وتعالـى بقوله : { كُلٌّ قـد علـم صلاتـه وتسبيحـه والله عليم بمـا يفعلـون } (سورة النور : الآية 41).
إن مفهوم الغائية الذي توصل إليه المفكرون حديثاً لم يأت في الحقيقة بجديد. إنه فقط أكد ما نص عليه القرآن الكريم منذ عدة قرون. فحينما يقول هؤلاء المفكرون أن أي كائن حي له في حد ذاته قيمة، فهذا اعتراف بأن هذا الكائن لم يخلق عبثاً، وبالتالي، فالإنسان مطالب بأن يحترم هذه القيمة من خلال هذا الكائن، الشيء الذي يحتم عليه بصفة عامة أن يغير تعامله مع البيئة.
وما أتى به الفكر المعاصر من مفاهيم أكده ولا يزال يؤكده العلم بواسطة الملاحظة والتجريب. والأمثلة هنا كثيرة ومتعددة تخص الجراد والنحل والنمل والطيور والأسماك والثدييات، الخ.
من المعروف أن العديد من الحيوانات تهاجر من مكان إلى آخر إما من أجل التوالد وإما من أجل البحث عن أماكن يتوفر فيها ما تحتاج إليه من غذاء. فإذا كان سبب الهجرة الواضح هو البحث عن غذاء أو عن أماكن للتوالد، فهناك أسباب أخرى غير واضحة للعيان تدفع هذه المخلوقات إلى الهجرة. وإن لم يكن هناك أسباب أخرى غير الأسباب الواضحة، فكيف يمكن تفسير الرغبة القوية التي تنتاب هذه الحيوانات عندما يحل موعد الهجرة. وكيف يمكن تفسير المشاق التي تتكبدها هذه الحيوانات وهي في طريقها إلى مكان الهجرة ولو كان ذلك على حساب حياة العديد منها.
إن البحث عن القوت وعن أماكن للتوالد أسباب غريزية لا نقاش فيها. لكن يجب أن لا يغيب عن الأذهان أن الطيور عندما تهاجر من قارة إلى أخرى، فإنها تساهم بكيفية أو بأخرى في استمرار دورة الحياة. فإذا تعلق الأمر مثلاً بالطيور، فمن المعروف أن منها من يتغذى على البذور والثمار، ومنها من يتغذى على الحشرات والضفادع والفئران والأسماك، الخ. فإذا عرفنا أن هذا النوع من الأغذية يكون متوفراً بكثرة في الأماكن المهاجر إليها، فإن وجود الطيور المهاجرة في تلك المناطق يمكن تفسيره بدافع البحث عن القوت ولكن كذلك بمساهمتها في الحفاظ على التوازن الطبيعي.
بالفعل، إن الحشرات والضفادع والفئران، الخ، حيوانات تتوالد بكثرة. فإذا لم يوضع حد لتكاثرها، فإنها تغزو الأوساط وتأتي على ما فيها من حياة، الشيء الذي يؤدي إلى اختلالات في التوازنات الطبيعية. ولهذا، فإن هجرة الطيور إلى مناطق معينة في فترات معينة تساهم في استقرار أعداد بعض الأنواع من الحيوانات في مستويات معينة.
و كيفما كـان الحـال وكمـا جـاء في قولـه تعالـى : { كل قد علم صلاته وتسبيحه } (سورة النور : الآية 41)، فإن أي كائن حي وجد في هذا الكون إلا وأنيطت به مهمة أو مهام وحينما يكون منهمكا في أداء هذه المهام، فإنه يخضع للنهج الذي سن عليه الخالق هذا الكون. وهذا هو التسبيح والسجود والصلاة التي أشار إليه الحق سبحانه وتعالى في الآيات الكريمة سالفة الذكر.
غير أنه يبدو أن الإنسان بصفة عامة والإنسان المعاصر بصفة خاصة قد نسي أو تناسى أنه مطالب هو الآخر كباقي المخلوقات أن يسبح ويسجد ويصلي للخالق وذلك بأداء المهام التي أنيطت به ككائن استخلفه الله في الأرض ليؤكد معنى خـلقه وغـاية وجوده في الكون بدليل قوله تعالى : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } (سورة الذاريات : الآية 56). فعوض أن يسير في النهج الذي رسمه الله سبحانه وتعالى، فإنه فصل نفسه عن البيئة وأراد أن يسيطر عليها. إن الإنسان بعمله هذا يسيء لوحدة الكون التي من أجلها سبحت وتسبح لله كل مخلوقات هذا الكون.
وحينما ركز الفلاسفة والعلماء البيئيون على مفهوم الغائية، فإنهم لم يفعلوا شيئاً جديداً سوى أنهم حاولوا أن يعيدوا الإنسان إلى ما بينه الله لعباده البشر منذ عدة قرون.
3.6. مفهوم حماية البيئة :
إن مفهوم حماية البيئة حديث العهد حيث تم إدخاله في قاموس المعرفة البيئية خلال أواخر النصف الأول من القرن العشرين. فلا غرابة إذا اقترن ظهور هذا المفهوم بالفترة التي بدأت فيها المجتمعات المعاصرة وخصوصا في الدول المصنعة تعي ما ألحقته تصرفاتها وأنشطتها الصناعية من أضرار بالبيئة.
بالفعل، إن الإنسان بما أدخله من تغييرات ضخمة على النظم البيئية تجاوز إلى حد كبير الفطرة التي خلق الله عليها هذه الأرض، وبالتالي، لم تعد هذه الأخيرة في أكثر من مكان قادرة على استيعاب هذه التغييرات. فإذا أبدى الإنسان بعض الاستعداد لإصلاح ما أفسده، ففي غالب الأحيان، يبقى هذا الاستعداد على مستوى النوايا وليس على مستوى الأفعال.
فكيف للإنسان أن يصلح ما أفسده في البيئة ونظرته الأنانية لهذه البيئة لم تتغير في شيء؟ فلا يزال الإنسان يطمح إلى السيطرة على البيئة ولا يزال يستغل مواردها استغلالا غير عقلاني ولا يزال يستعمل التكنولوجيات المتناقضة مع نواياه الإصلاحية ولا يزال يطمح إلى تحقيق أعلى المستويات في التقدم الاقتصادي المادي المبني على الإنتاج والاستهلاك اللامحدود ين. بل لا يزال يفصل نفسه عن البيئة طمعاً في إخضاعها بواسطة العلم والتكنولوجيا لرغباته الإنمائية.
إن الإنسان رغم النداءات المتتالية والآتية من جميع أنحاء المعمور، لا يزال يتعامل مع البيئة حسب نظرته الأنانية وتفكيره المخطئ الذي يفرز تصرفات مضرة بالبيئة. وخير دليل على ذلك، عدم تحقق كامل أهداف قمة الأرض الثانية التي انعقدت بنيويورك خلال شهر يونيو سنة 1997 والتقدم البطيء الذي تعرفه الاتفاقيات الثلاث التي انبثقت عن قمة الأرض الأولى التي انعقدت بريو سنة 1992 والتي تتعلق بتغيير المناخ والتنوع البيولوجي والتصحر. إن مفهوم حماية البيئة سوف لن يكتب له النجاح ما دام الإنسان المعاصر متشبثاً بنظرته الأنانية للبيئة وما يترتب عنها من أنماط غير عقلانية لاستغلال الموارد ولبناء الاقتصاد والمستوطنات البشرية والمنشآت الصناعية.
إن خروج مفهوم حماية البيئة إلى حيز التطبيق يقتضي أن يغير الإنسان نظرته للبيئة وأن يعود إلى الصواب الذي رسمه له الله في كتابه العزيز. يقول سبحانه وتعالى :
{ الذي جعل لكم الأرضَ مَهْداً وجعل لكم فيها سُبُلاً لعلكم تهتدون } (سورة الزخرف : الآية 10).
لقد آن الأوان ليسلك الإنسان السبل التي رسمها له الله والمتمثلة في استعمال العلم استعمالاً يليق وما يتطلبه النهج البيئي السليم. في هذه الحالة، يكون الإنسان قد خطا خطوات نحو التطبيق الفعلي لحماية البيئة.
وفضلاً عن كل هذا، فإذا شعر الإنسان المعاصر بضرورة حماية البيئة يجب أن لا يعني هذا أنه في الماضي وفي القرون السابقة لم يكن مطالباً بالقيام بهذه المهمة. بل بالعكس، إن مفهوم حماية البيئة مرتبط بوجود الإنسان على سطح الأرض وذلك لأن الله، من جهة، استخلفه في هذه الأرض، ومن جهة أخرى، لأن الإنسان هو أكثر المخلوقات توغلاً في البيئة واستغلالاً لمواردها. فإذا كان الإنسان المعاصر مطالباً بأن يحمي بيئته أكثر من أي وقت مضي، فإن هذه الحماية واجب ملازم لوجود الإنسان.
إن هذا اللزوم وارد في القرآن الكريـم غير ما مرة. فحينما يقـول سبحانـه وتعـالى : { والله لا يحب المفسدين } (سورة المائدة : الآية 64) أو { ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين } (سورة الأنعام : الآية 141) أو { ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها } (سورة الأعراف : الآية 85)، فإنه يدعو الإنسان إلى أن يتجنب الفساد والإسراف لأنهما عاملان من عوامل تخريب البيئة وتدميرها، وبالتالي، فإن الله يدعو هذا الإنسان بصفة غير مباشرة إلى أن يحمي هذه البيئة ويحافظ عليها.
والآيات التي تشير إلى وجوب حماية البيئة من طرف الإنسان كثيرة نذكر منها على سبيل المثال :
{ يا أيها الذين آمنوا كُلُوا من طَيِّباتِ ما رَزْقناكم واشْكروا لِلَّه إِنْ كُنْتُم إِيَّاهُ تَعْبُدُون } (سورة البقرة : الآية 172).
{ وآتاكم من كلِّ ما سألْتُمُوُه وإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ الله لا تحْصُوها إنَّ الإنسانَ لظلومٌ كَفار } (سورة إبراهيم : الآية 34).
{ هو الذي أنْزَلَ مِنَ السماءِ ماءً لكم منه شرابٌ ومنه شجرٌ فيه تُسِيمون يُنْبِتُ لكم به الزَّرْعَ والزيتونَ والنخيلَ والأعنابَ ومن كلِّ الثمراتِ إِنَّ في ذلك لآيةً لقوم يتفكَّرون } (سورة النحل : الآيتان 11-10)
{ وما ذَرَأَ لكم في الأرضِ مُخْتَلِفاً أَلْواُنهُ إِنَّ في ذلك لآيةً لقوم يَذَّكَّرُون وهو الذي سَخَّرَ البحر لتأكلوا منه لَحْماً طرياً وتَسْتَخْرِجُوا منه حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وتَرى الفُلْكَ مَوَاخِرَ فيه ولِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ ولعلَّكم تَشْكُرون وألْقَى في الأرضِ رَوَاسِي أَنْ تَمِيدَ بِكُم وأَنْهاراً وسُبُلاً لعلَّكم تَهْتَدُون } (سورة النحل : الآيات 15-14-13).
{ ومن ثمراتِ النَّخيلِ والأعنابِ تَتَّخِذونَ منه سَكَراً ورزْقاً حَسَناً إِنَّ في ذلك لآيةً لقوم يعقلون } (سورة النحل : الآية 67).
{ والله جعل لكم مما خَلَقَ ظِلالاً وجعل لكم من الجبالِ أكْنَاناً وجعل لكم سَرَابِيلَ تَقِيكُم الحَرَّ وسَرابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُم كذلك يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عليكم لعلَّكم تُسْلِمُون } (سورة النحل : الآية 81).
{ كُلُوا وارْعَوا أَنْعامَكُم إن في ذلك لآيةً لأولي النُّهى } (سورة طه : الآية 54).
{ وأنْزَلْنَا مِنَ السماءِ ماءً طَهورا لِنُحْيِيَ به بَلْدَةً مَيِْتاً ونُسْقِيَهُ مما خَلَقْنَا أنْعاماً وأناسِيَّ كثيراً ولقد صَرَّفْنَاهُ بينهُم لِيَذَّكَّروا فأبَى أكثرُ الناسِ إلا كُفُوراً } (سورة الفرقان : الآيات 50-49-48)
{ أوَلَمْ يَرَوا إلى الأرضِ كم أَنْبَتْنا فيها من كلِّ زوْج كريم إن في ذلك لآيةًّ وما كان أكثرُهُم مُؤمِنين } (سورة الشعراء : الآيتان 8-7).
{ والأرضَ مَدَدْنَاها وألْقَيْنَا فيها رواسِيَ وأَنْبَتْنَا فيها من كلِّ زوجٍ بهيجٍ تَبْصِرَةً وذِكْرى لكلِّ عَبْدٍ مُنيبٍ } (سورة ق : الآيتان 8-7).
إن هذه الآيات الكريمة تشير كلها إلى ما أنعم الله به من خيرات ومنافع على الإنسان. والملاحظ أنها كلها تنتهي بعدة صيغ تنبه الإنسان من غفلته حيث يقول سبحانه وتعالى :
ـ { إن كنتم إياه تعبدون }
ـ { إن الإنسان لظلوم كفار }
ـ { إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون }
ـ { إن في ذلك لآية لقوم يتذكرون }
ـ { ولعلكم تشكرون }
ـ { لعلكم تهتدون }
ـ { إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون }
ـ { لعلكم تسلمون }
ـ { إن في ذلك لآيات لأولي النهى }
ـ { فأبى أكثر الناس إلا كفورا }
ـ { إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين }
ـ { تبصرة وذكرى لكل عبد منيب }.
دل هذا على أن الله سبحانه وتعالى وهب لعباده كل ما هم في حاجة إليه من خيرات وأنعام ومنافع. وعندما ينهي آياته القرآنية بالتنبيه، فإنه في الحقيقة يدعوهم إلى أن يعترفوا بهذه النعم بتسبيحه وحمده وذلك بالقيام بمهامهم كمستخلفين في الأرض.
ومن ضمن هذه المهام، أمانة المحافظة على البيئة وضمان استمرار ثرواتها.
إن التنبيهات التي ينهي بها الله بها سبحانه وتعالى الآيات سالفة الذكر هي نداء للإنسان بأن يكون في مستوى النعم التي حباه الله إياها. فإذا عبد الناس الله وتفكروا وتذكروا وشكروا واهتدوا وعقلوا وأسلموا وكانوا من أهل النهى وآمنوا وتبصروا وأنابوا، فسيدركون أن عليهم حق ***** وحماية البيئة التي من فضلها يأكلون وينتفعون.
لكن الإنسان المعاصر أراد أن يأكل وينتفع ويستفيد دون أن يؤدي مهامه كمستخلف في الأرض ناسياً أن استخلافه هذا أمانة وليس ترخيصاً للتصرف المطلق وغير العقلاني في الخيرات والأنعام والمنافع.
إن الله حين منح لعباده خيرات الأرض ومنافعها، فقد خول لهم فقط حق الانتفاع، وحق الانتفاع هذا يحتم على المنتفع كلما حصل على نفع أن يصون مصدر الانتفاع ويحافظ عليه ليستفيد منه في الحاضر والمستقبل.
يقول الله سبحانه وتعالى :
{ والأرضَ بعد ذلك دَحاها أَخْرَجَ منها ماءَها ومَرْعاها والجبالَ أرْساها مَتاعاً لكم ولأنْعَامِكُم } (سورة النازعات : الآيات 33-30).
{ فَلْيَنْظُر الإنسانُ إلى طعامِهِ أنَّا صَبَبْنَا الماءَ صبًا ثم شَقَقْنَا الأرضَ شقَّا فَأَنْبَتْنا فيها حباً وعِنَباً وقَضْباً وزيتوناً ونَخْلاً وحدائقَ غُلْباً وفاكهةً وأبًّا مَتاعًا لكم ولأنعامكم } (سورة عبس : الآيات 32-24).
فعندما يقول سبحانه وتعالى : { متاعا لكم ولأنعامكم } فهذا هو حق الانتفاع الذي هو أمانة في عنق الإنسان عليه أن يحافظ عليها ويضمن انتقالها من جيل إلى آخر. فحينما نقول من جيل لآخر، فهذا لا يعني أن هذا الحق يخص فقط أجيال البشر. بل إنه يخص أجيال الكائنات الحية بجميع أنواعها.
يقول سبحانه وتعالى :
{ وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم } (سورة الأنعام : الآية 38).
وهذا يعني أن جميع الكائنات الحية لها حق الانتفاع من خيرات الأرض. غير أن هذا الحق لن يكون ممكناً إلا إذا أدى الإنسان الأمانة المتمثلة في ضمان انتقال الانتفاع عبر العصور والأجيال، الشيء الذي يعني أن على هذا الإنسان بذل المزيد من الجهود لحماية و***** مصادر الانتفاع.
وهكذا، فإذا شعر الإنسان المعاصر بضرورة حماية مصادر انتفاعه من البيئة، فإنه لم يفعل إلا ما أمره الله به منذ أن وجد على سطح الأرض.
نحو مبادئ عامة لتبني تنمية شاملة مستدامة ذات توجه إسلامي
من خلال ما سبق، يتضح أن كل ما جاء به الفكر البيئي المعاصر من مفاهيم لتغيير نظرة الإنسان للبيئة قد أشار إليها القرآن الكريم من خلال العديد من آياته المجيدة، سواء تعلق الأمر بمفاهيم شمولية البيئة والتوازن ومحدودية الموارد وتنوع الحياة والغائية أو حماية البيئة.
إن دل هذا على شيء، فإنما يدل على أن الله عز وجل بين لعباده في كتابه العزيز التوجهات الكبرى والمبادئ الأساسية العامة التي عليهم أن يتبعوها لتنظيم تعاملهم مع البيئة. وهذا يعني أنه سبحانه وتعالى وضع الإطار العام الذي يجب أن تنبثق منه تصرفات الإنسان داخل البيئة وتصب فيه. وحينما نقول إن الله رسم لعباده التوجهات الكبرى والمبادئ الأساس، يجب أن لا يَعُدَّ هذا بمثابة تقييد لأيدي الإنسان. بل العكس، إن الله ترك لعباده حرية التصرف ولكن على أن يبقى هذا التصرف فيما رسمه الله من حدود.
يقول سبحانه وتعالى في كتابه العزيز :
{ وما مِن غَائِبَةٍ في السماءِ والأرضِ إلا في كِتَابٍ مُبِين إنَّ هذا القرآنَ يَقُصُّ على بني إسرائيل أكثرَ الذي هُمْ فيه يَخْتَلِفون وإنه لَهُدىً ورحمةً للمومنين } (سورة النمل : الآيات 77-76-75).
إن القرآن الكريم ليس كتاباً في علم البيئة لكنه يشكل المنبع الأول والأخير الذي يجب أن يبنى عليه هذا العلم. والدليل على ذلك أن كل ما توصل إليه العلماء والمفكرون والفلاسفة البيئيون المعاصرون من أفكار ومفاهيم متضمن بكيفية أو بإخرى في القرآن الكريم. وهذا خير دليل على أن كتاب الله هو أحسن منطلق وسند يمكن الاعتماد عليه لوضع أسس إسلامية لتنمية مستدامة هادفة. من أجل هذا، يكفي التمعن في الآيات الكريمة العديدة سالفة الذكر. لقد تطرقت هذه الآيات لجميع القضايا والمفاهيم البيئية التي تشغل حالياً بال المجتمع البشري والمفكرين المعاصرين. وهكذا، فإن كل مفهوم تم تفسيره من خلال آيات القرآن الكريم يقابله مبدأ أساس عام يمكن استنباطه من نفس الآيات. فمفهوم شمولية البيئة يقابله مبدأ وحدة الكون، ومفهوم التوازن يقابله مبدأ الميزان، ومفهوم محدودية الموارد يقابله مبدأ المقدار، ومفهوم تنوع الحياة يقابله مبدأ تنوع الخلق، ومفهوم الغائية يقابله مبدأ التسبيح، ومفهوم حماية البيئة يقابله مبدأ حراسة الأرض. هذه المبادئ التي تم استنباطها من الذكر الحكيم والتي يمكن أن تكون أساساً لتنمية مستدامة ذات توجه إسلامي. والمقصود هنا بالتنمية المستدامة ذات التوجه الاسلامي لا يعني أن للإسلام تنمية مستدامة خاصة به أو أنه يرفض مفهوم التنمية المستدامة كما هو متعارف عليه اليوم. بل المقصود هو أن الإسلام له رؤية فعالة ومتميزة في هذا المجال.
4.1. المبدأ العام الأول: وحدة الكون :
كما سبق الذكر، إن العديد من آيات القرآن الكريم تشير إلى وحدة الكون الذي هو صنع خالق واحد. وهذا معناه أن هذا الكون من صنع هذا الخالق الواحد، أي أن عناصره متداخلة ومتشابكة. والإنسان الذي هو من خلق الله لا يمكن أن يستثنى من هذه الوحدة. فعندما يشير سبحانه وتعالى للخلق، فإنه يشير إليه من خلال السموات والأرض وما بينهما. وهذا يعني أن الخلق عبارة عن وحدة متكاملة ومتناسقة تعمل حسب نسق متوازن. يقول سبحانه وتعالى :
{ ما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى } (سورة الاحقاف : الآية 3).
إن تبني مفهوم الشمولية أصبح في الوقت الراهن هدفاً رئيساً يسعى إلى تحقيقه الفكر العلمي بصفة عامة والفكر البيئي بصفة خاصة. وفي هذا الصدد، لا بد من الإشارة إلى أن مفهوم التنمية المستدامة لا معنى له إذا لم يكن مقترناً على أرض الواقع بشمولية المعرفة. إن هذه الشمولية أحد المبادئ التي يرتكز عليها مفهوم التنمية المستدامة كما هو متعارف عليه اليوم. والمقصود هنا بشمولية المعرفة هو تكاملها لتبرز من خلالها وحدة البيئة والترابط القائم بين مكوناتها. ولتكون المعرفة البيئية شمولية، أوصى مؤتمر تبيليسي ومن بعده مؤتمرات أخرى على أن تقارب هذه المعرفة حسب ثلاثة اتجاهات :
ـ إما أن تبقى التخصصات العلمية قائمة بذاتها وتستخرج منها المعارف لتكوين نظرة شمولية عن البيئة، وهو ما يسمى بتعدد التخصصات Multidisciplinarité
ـ إما أن تبقى التخصصات العلمية قائمة بذاتها على أن تقام بينها جسور تمكن من تكاملها، وبالتالي، الخروج بنظرة شمولية عن البيئة وهو ما أطلق عليه اسم تكامل المعرفة Interdisciplinarité
ـ إما أن تختفي الحواجز الفاصلة بين التخصصات للوصول إلى وحدة المعرفة، أي إلى ما يسمى بالعلم البيئي (environnementaleScience) وليس إلى العلوم البيئية environnementalesSciences) كما هو الشأن الآن. يسمى هذا التوجه المقاربة الفكرية الشمولية Transdisciplinarité
فإذا كانت المقاربة الأولى سارية المفعول ومعمولاً بها، فإن الثانية صعبة التطبيق نظرًا للحواجز القائمة بين التخصصات العلمية. أما الثالثة، فلا مجال لتطبيقها لأن الفكر العلمي المعاصر مبني أساساً على تجزيء الواقع إلى وحدات مستقلة و حيث تقتضي أن ينظر إلى البيئة ككل متكامل لا يقبل التقسيم.
إن ما يثير الانتباه هنا هو أن وحدة المعرفة التي أشار إليها المفكرون البيئيون المعاصرون وأوصوا بتبنيها مشار إليها في القرآن الكريم وفي الحديث النبوي الشريف. بالفعل، إن كلمة "علم" استعملت دائماً في القرآن الكريم وفي السنة في صيغتها المفردة "علم" ولا أثر فيهما لجمعها "علوم".
وهكذا، فإذا أشار القرآن الكريم إلى وحدة الكون أي إلى شمولية البيئة، فإنه أشار كذلك إلى وحدة المعرفة، وهذا يعني أن المقاربة الفكرية الشمولية Transdisciplinarité التي حث عليها المفكرون البيئيون المعاصرون للتعامل مع البيئة متضمنة في القرآن الكريم.
فعندما تم اختيار مبدأ "وحدة الكون" كأول مبدأ للتنمية المستدامة ذات التوجه الإسلامي، فهذا يعني أن الإنسان عندما يريد أن يتعامل مع البيئة، عليه أن يعتبرها كوحدة مترابطة الأجزاء. وحتى وإن جزأها على مستوى التفكير ليتعرف عليها، فعمله داخلها يجب أن يكون متطابقاً مع الشمولية ومبنياً على احترامها.
4.2. المبدأ العام الثاني: الميزان :
المقصود بالميزان هو ذلك الوضع الوسط الذي يسود بين مكونات الكون والذي بفضله تعمل وتتفاعل هذه المكونات وتقوم بينها علاقات متوازنة. الميزان هو تفادي الإسراف والإفراط والتجاوز في التعامل مع البيئة. لقد بينا كما سبق الذكر، أنه لا سبيل للحياة إذا لم يكن هناك توازن في نظام الترابط البيئي. فإذا تغاضى الإنسان عن وحدة الكون وتجاوز الفطرة وتخلى عن أمانة الاستخلاف، فإنه يخل بالميزان الذي جعله الله كضامن لاستمرار الحياة في هذا الكون. والميزان هنا لا يجب أن يدركه الناس فقط بمعنى وزن الأشياء المادية. فكل نشاط أو فعل يقوم بهما الإنسان للتعامل مع البيئة يجب أن يكونا موزونين ليتلاءما مع هذه البيئة.
يقول سبحانه وتعالى :
{ الله الذي أنْزَلَ الكتابَ بالحَقِّ والمِيزان } (سورة الشورى : الآية 17).
4.3. المبدأ العام الثالث : المقدار :
يقول سبحانه وتعالى :
{ إنَّا كلَّ شيءٍ خَلَقْناه بِقَدَر } (سورة القمر : الآية 49).
أي أن الله عز وجل عندما خلق مكونات الكون، راعى في خلقها الكم والكيف ضماناً للتوازن والتناسق. وهذا يعني أن هذه المكونات تتواجد في البيئة حسب كميات متفاوتة وأشكال مختلفة. فعندما ننزل مثلاً إلى البحر، فإننا نلاحظ وجود عشرات الأشكال من الحياة التي لا ترى بالعين المجردة. ما كان لهذه الأشكال أن تتساكن وتستمر في الحياة لو لم تقم بينها علاقات متناسقة ومتوازنة. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن الكم والكيف يلعبان دوراً حاسماً في استمرار هذا التوازن. فإذا احتوى مثلاً ماء البحر على كميات هائلة وضخمة من العلق النباتي، فذلك راجع لكون هذا العلق من جهة يشكل أول غذاء للعديد من الكائنات الحيوانية مرئية وغير مرئية التي تشكل بدورها مصدراً غذائياً لكائنات أخرى وهكذا. ومن جهة أخرى، فإن العلق البحري النباتي يعتبر كذلك أول مزود للهواء بالأكسجين بعد المساحات الخضراء البرية.
وهكذا، فإن تفاوت الكم بين مكونات البيئة يلعب دوراً في الحفاظ على توازنها، فحينما يقول الحق سبحانه وتعالى : { وكل شيء عنده بمقدار } (سورة الرعد : الآية 8)، فهذه إشارة إلى أن الأشياء لم تخلق عبثاً وأن الكم يلعب دوراً في تماسكها وتناسقها.
4.4. المبدأ العام الرابع: تنوع الخلق :
كما سبقت الإشارة إلى ذلك، كلما تنوعت أشكال الحياة، كلما كانت للنظم البيئية قدرة عالية لمقاومة التغييرات التي تحدث بها طبيعياً أو من جراء تدخل الإنسان. وهذا يعني أن تنوع الخلق وسيلة للحفاظ على وضع هذه النظم البيئية الفطري، أي على توازنها الطبيعي. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن مبدأ المقدار لا يمكن فصله عن مبدأ تنوع الخلق إذ لا توازن بيئي بدونه.
فكلما تنوع الخلق، كلما ازدادت فرص تحقيق توازن بيئي مستمر. لقد وفر الله سبحانه وتعالى هذه الفرص في الكون ظاهرة وباطنة. يقول سبحانه وتعالى :
{ سُبْحانَ الذي خَلَقَ الأزْوَاجَ كُلَّها مما تُنْبِِتُ الأرضُ ومِن أنْفُسِهِم ومما لا يعلمون } (سورة يس : الآية 36).
4.5. المبدأ العام الخامس: حراسة الأرض :
عوض أن ينصب الإنسان نفسه سيداً على الأرض، عليه أن يتذكر أن الله استخلفه عليها ليقوم بحراستها وصيانتها. والدليل على ذلك أنه فضله على الكثير من المخلوقات وزوده بالعقل والذكاء والفطنة ليقوم بهذه المهمة أحسن قيام. عليه كذلك أن يسخر ما أوتي من العلم لأداء مهمة الاستخلاف ولضمان استمرار حق الانتفاع من خيرات الأرض له ولغيره من الأجيال الآتية: غير أن هذا الاستمرار يحتم عليه أن يحرس الأرض ويرعاها كما أمره الله بذلك.
يقول سبحانه وتعالى :
{ ثم جَعلناكم خَلائِفَ في الأرضِ من بعدِهم لِنَنْظُرَ كيف تعملون (سورة يونس : الآية 14).
4.6. المبدأ العام السادس : التسبيح :
لقد سبق وأن وضحنا أن الله سبحانه وتعالى أناط بمخلوقاته مهاماً معينة. فعندما يكون الكائن منهمكاً في أداء هذه المهام، فإنه في نفس الوقت ينفع نفسه وينفع الكائنات الأخرى. وعندما يؤدي الكائن مهامه، فإنه يخضع لخالقه الذي أناطه بهذه المهام. يقول سبحانه وتعالى :
{ وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين } (سورة الأنبياء: الآية 16).
فعلى الإنسان أن يعي هذه الحقيقة وأن ينضم للمسبحين لله، وذلك لأداء مهمة الاستخلاف أحسن أداء. إن التسبيح هو الخضوع لله والخضوع لله لا يمكن أن يكون خضوعاً إلا إذا أدى إلى تطبيق ما أمره الله به. وتطبيق أوامر الله يقتضي أن لا يفصل الإنسان نفسه عن البيئة وأن لا يطغى ويستبد في تعامله معها.
وخلاصة القول، إن هذه المبادئ العامة الستة مترابطة فيما بينها واحترامها من طرف الإنسان عند تعامله مع البيئة يعود إلى التنمية المستدامة التي حث عليها الإسلام وأكدها لعمارة الكون وصلاح الإنسان.
(1) مؤتمر تم تنظيمه من طرف الأمم المتحدة بستوكهولم بالسويد من 5 إلى 16 يونيو 1972 حول "البيئة البشرية". وكان أول منبر عالمي يتم التطرق فيه للبعد البشري كمكون أساس لمفهوم البيئة.
(2) مؤتمر تم عقده بمدينة تبيليسي (جورجيا، الاتحاد السوفياتي سابقاً) من طرف منظمة اليونيسكو وبرنامج الأمم المتحدة للبيئة من 14 إلى 26 أكتوبر 1977 حول التربية البيئية. وهو أول منبر عالمي يعطى فيه لمفهوم البيئة مضمون شمولي يأخذ بعين الاعتبار البعد البشري.
(1) تقرير نشر أولاً باللغة الإنجليزية تحت عنوان "Our CommonFuture" ثم باللغة الفرنسية تحت عنوان "Notreavenir tous" (مستقبلنا المشترك) من طرف اللجنة العالمية للبيئة والتنمية التي تدعى كذلك لجنة برنتلاند (CommissionBruntland) باسم الوزيرة الأولى للنرويج التي كلفت من طرف الأمين العام للأمم المتحدة بالإشراف على أشغال هذه اللجنة. كانت هذه اللجنة هي أول هيئة عالمية توصي بتبني مفهوم التنمية المستدامة.

http://www.isesco.org.ma/pub/ARABIC/Tanmoust/P4.htm
المصدر: ملتقى شذرات

__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية

الكلمات الدلالية (Tags)
دراسات اقتصادية ، تنمية


يتصفح الموضوع حالياً : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
أدوات الموضوع

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


المواضيع المتشابهه للموضوع دراسة عن التنمية المستدامة من منظور القيم الإسلامية وخصوصيات العالم الإسلامي
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
بحوث ومراجع حول التنمية المستدامة من منظور إسلامي Eng.Jordan بحوث ودراسات منوعة 1 10-22-2015 07:03 PM
باحث من البنك الدولي: القيم الإسلامية للصكوك تجعلها مثالية للتمويل.. وأكبر دول العالم تحتاجها Eng.Jordan أخبار اقتصادية 0 11-25-2014 12:24 PM
نحو بناء إستراتيجية متكاملة للحد من البطالة وتحقيق التنمية المستدامة دراسة تحليلية لتجربة تركيا Eng.Jordan بحوث ومراجع في الإدارة والإقتصاد 0 06-25-2013 10:40 AM
ملخص دراسة حول الادخار العائلي وأثره في التنمية الاقتصادية من منظور إسلامي Eng.Jordan دراسات ومراجع و بحوث اسلامية 0 03-17-2013 01:13 PM
عرض تقدمي حول التنمية المستدامة Eng.Jordan عروض تقدمية 0 03-12-2013 09:57 PM

   
|
 
 

  sitemap 

 


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 10:04 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.12 by vBS
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والمشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59