العودة   > >

كتب ومراجع إلكترونية عرض وتحميل الكتب الإلكترونية ebooks

إضافة رد
 
أدوات الموضوع
  #8  
قديم 01-09-2012, 10:32 PM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,413
افتراضي

و من القائلين بنفي اشتراط القرشية القاضي أبو بكر الباقلاني لما أدرك عليهعصبية قريش من التلاشي و الاضمحلال و استبداد ملوك العجم من الخلفاء فأسقط شرطالقرشية و إن كان موافقاً لرأي الخوارج لما رأى عليه حال الخلفاء لعهده و بقيالجمهور على القول باشتراطها و صحة الإمامة للقرشي و لو كان عاجزاً عن القيام بأمورالمسلمين و رد عليهم سقوط شرط الكفاية التي يقوى بها على أمره لأنه إذا ذهبت الشوكةبذهاب العصبية فقد ذهبت الكفاية و إذا وقع الإخلال بشرط الكفاية تطرق ذلك أيضاً إلىالعلم والدين و سقط اعتبار شروط هذا المنصب و هو خلاف الاجتماع.
و لنتكلم الآنفي حكمة اشتراط النسب ليتحقق به الصواب في هذه المذاهب فنقول: أن الأحكام الشرعيةكلها لا بد لها من مقاصد و حكم تشتمل عليها و تشرع لأجلها و نحن إذا بحثنا عنالحكمة في اشتراط النسب القرشي و مقصد الشارع منه لم يقتصر فيه على التبرك بوصلةالنبي صلى الله عليه و سلم كما هو في المشهور و إن كانت تلك الوصلة موجودة و التبركبها حاصلاً لكن التبرك ليس من المقاصد الشرعية كما علمت فلا بد إذن من المصلحة فياشتراط النسب و هي المقصودة من مشروعيتها و إذا سبرنا و قسمنا لم نجدها إلا اعتبارالعصبية التي تكون بها الحماية و المطالبة و يرتفع الخلاف و الفرقة بوجودها لصاحبالمنصب فتسكن إليه الملة و أهلها و ينتظم حبل الإلفة فيها و ذلك أن قريشاً كانواعصبة مضر و أصلهم و أهل الغلب منهم و كان لهم على سائر مضر العزة بالكثرة و العصبيةو الشرف فكان سائر العرب يعترف لهم بذلك و يستكينون لغلبهم فلو جعل الأمر في سواهملتوقع افتراق الكلمة بمخالفتهم و عدم انقيادهم و لا يقدر غيرهم من قبائل مضر أنيردهم عن الخلاف و لا يحملهم على الكرة فتتفرق الجماعة و تختلف الكلمة.
والشارع محذر من ذلك حريص على أتفاقهم و رفع التنازع و الشتات بينهم لتحصل اللحمة والعصبية و تحسن الحماية بخلاف ما إذا كان الأمر في قريش لأنهم قادرون على سوق الناسبعصا الغلب إلى ما يراد منهم فلا يخشى من أحد من خلاف عليهم و لا فرقة لأنهم كفيلونحينئذ بدفعها و منع الناس منها فاشترط نسبهم القرشي في هذا المنصب و هم أهل العصبيةالقوية ليكون أبلغ في انتظام الملة و أتفاق الكلمة و إذا انتظمت كلمتهم انتظمتبانتظامها كلمة مضر أجمع فأذعن لهم سائر العرب و انقادت الأمم سواهم إلى أحكامالملة و وطئت جنودهم قاصية البلاد كما وقع في أيام الفتوحات و استمر بعدها فيالدولتين إلى أن أضمحل أمر الخلافة و تلاشت عصبية العرب و يعلم ما كان لقريش منالكثرة و التغلب على بطون مضر من مارس أخبار العرب و سيرهم و تفطن لذلك في أحوالهم.
و قد ذكر ذلكابن إسحاقفيكتاب السيرو غيره فإذا ثبت أن اشتراط القرشية أنما هو لدفعالتنازع بما كان لهم من العصبية و الغلب و علمنا أن الشارع لا يخص الأحكام بجيل ولا عصر و لا أمة علمنا أن ذلك إنما هو من الكفاية فرددناه إليها و طردنا الملةالمشتملة على المقصود من القرشية و هي وجود العصبية فاشترطنا في القائم بأمورالمسلمين أن يكون من قوم أولي عصبية قوية غالبة على من معها لعصرها ليستتبعوا منسواهم و تجتمع الكلمة على حسن الحماية و لا يعلم ذلك في الأقطار و الآفاق كما كانفي القرشية إذ الدعوة الإسلامية التي كانت لهم كانت عامة و عصبية العرب كانت وافيةبها فغلبوا سائر الأمم و إنما يخص لهذا العهد كل قطر بمن تكون له فيه العصبيةالغالبة و إذا نظرت سر الله في الخلافة لم تعد هذا لأنه سبحانه إنما جعل الخليفةنائباً عنه في القيام بأمور عباده ليحملهم على مصالحهم و يردهم عن مضارهم و هومخاطب بذلك و لا يخاطب بالأمر إلا من له قدرة عليه ألا ترى ما ذكره الإمام ابنالخطيب في شأن النساء و أنهن في كبير من الأحكام الشرعية جعلن تبعاً للرجال و لميدخلن في الخطاب بالوضع. و إنما دخلن عنده بالقياس و ذلك لما لم يكن لهن من الأمرشيء و كان الرجال قوامين عليهن اللهم إلا في العبادات التي كل أحد فيها قائم علىنفسه فخطابهن فيها بالوضع لا بالقياس ثم أن الوجود شاهد بذلك فإنه لا يقوم بأمر أمةأو جيل إلا من غلب عليهم و قل أن يكون الآمر الشرعي مخالفاً للأمر الوجودي و اللهتعالى أعلم.
الفصل السابع و العشرون في مذاهب الشيعة في حكم الأمامة
إعلم أن الشيعة لغة هم الصحب و الأتباع و يطلق في عرف الفقهاء و المتكلمين من الخلفو السلف على اتباع علي و بنيه رضي الله عنهم و مذهبهم جميعاً متفقين عليه أنالإقامة ليست من المصالح العامة التي تفوض إلى نظر الأمة و يتعين القائم بهابتعيينهم بل هي ركن الدين و قاعدة الإسلام و لا يجوز لنبي إغفاله و لا تفويضه إلىالأمة بل يجب عليه تعيين الإمام لهم و يكون معصوماً من الكبائر و الصغائر و أنعلياً رضي الله عنه هو الذي عينه صلوات الله و سلامه عليه بنصوص ينقلونها ويؤولونها على مقتضى مذهبهم لا يعرفها جهابذة السنة و لا نقله الشريعة بل أكثرهاموضوع أو مطعون في طريقه أو بعيد عن تأويلاتهم الفاسدة.
و تنقسم هذه النصوصعندهم إلى جلي و خفي فالجلي مثل قوله:من كنت مولاه فعلي مولاه.قالوا و لم تطرد هذه الولاية إلا في علي و لهذا قال له عمر أصبحت مولى كلمؤمن و مؤمنة و منها قوله:أقضاكم عليو لا معنى للأمامةإلا القضاء بأحكام الله و هو المراد بأولي الأمر الواجبة طاعتهم بقوله:أطيعوا الله و أطيعوا الرسول و أولي الأمر منكم.و المراد الحكمو القضاء و لهذا كان حكماً في قضية الإمامة يوم السقيفة دون غيره و منها قولهمن يبايعني على روحه و هو وصي و ولي هذا الأمر من بعديفلميبايعه إلا علي.
و من الخفي عندهم بعث النبي صلى الله عليه و سلم علياً لقراءةسورة براءة في الموسم حين أنزلت فإنه بعث بها أولاً أبا بكر ثم أوحي إليه ليبلغهرجل منك أو من قومك فبعث علياً ليكون القارىء المبلغ قالوا: و هذا يدل على تقديمعلي. و أيضاً فلم يعرف أنه قدم أحداً على علي. و أما أبو بكر و عمر فقدم عليهمافي غزاتين أسامة بن زيد مرة و عمر بن العاص أخرى و هذه كلها أدلة شاهدة بتعيين عليللخلافة دون غيره فمنها ما هو غير معروف و منها ما هو بعيد عن تأويلهم ثم منهم منيرى أن هذه النصوص تدل على تعيين علي و تشخيصه. و كذلك تنتقل منه إلى من بعده وهؤلاء هم الإمامية و يتبرأون من الشيخين حيث لم يقدموا علياً و يبايعوه بمقتضى هذهالنصوص و يغمصون في إمامتهما و لا يلتفت إلى نقل القدح فيهما من غلاتهم فهو مردودعندنا و عندهم و منهم من يقول أن هذه الأدلة إنما اقتضت تعيين علي بالوصف لا بالشخصو الناس مقصرون حيث لم يصغوا الوصف موضعه و هؤلاء هم الزيدية و لا يتبرأون منالشيخين و لا يغمصون في إمامتهما مع قولهم بأن علياً أفضل منهما لكنهم يجوزون إمامةالمفضول مع وجود الأفضل.
ثم اختلفت نقول هؤلاء الشيعة في مساق الخلافة بعد عليفمنهم من ساقها في ولد فاطمة بالنص عليهم واحداً بعد واحد على ما يذكر بعد و هؤلاءيسمون الإمامية نسبةً إلى مقالتهم باشتراط معرفة الإمام و تعيينه في الإيمان و هيأصل عندهم و منهم من ساقها في ولد فاطمة لكن بالاختيار من الشيوخ و يشترط أن يكونالإمام منهم عالماً زاهداً جواداً شجاعاً و يخرج داعياً إلى إمامته و هؤلاء همالزيدية نسبة إلى صاحب المذهب و هو زيد بن علي بن الحسين السبط و قد كان يناظر أخاهمحمداً الباقر على اشتراط الخروج في الإمام فيلزمه الباقر أن لا يكون أبوهما زينالعابدين إماماً لأنه لم يخرج و لا تعرض للخروج و كان مع ذلك ينعى عليه مذاهبالمعتزلة و أخذه إياها عن واصل بن عطاء و لما ناظر الإمامية زيداً في إمامة الشيخينو رأوه يقول بإمامتهما و لا يتبرأ منهما رفضوه و لم يجعلوه من الأئمة و بذلك سموارافضة و منهم من ساقها بعد علي و ابنيه السبطين على اختلافهم في ذلك إلى أخيهمامحمد بن الحنفية ثم إلى ولده و هم الكيسانية نسبة إلى كيسان مولاه و بين هذهالطوائف اختلافات كثيرة تركناها اختصاراً و منهم طوائف يسمون الغلاة تجاوزوا حدالعقل و الإيمان في القول بألوهية هؤلاء الأئمة. إما على أنهم بشر اتصفوا بصفاتالألوهية أو أن الإله حل في ذاته البشرية و هو قول بالحلول يوافق مذهب النصارى فيعيسى صلوات الله عليه و لقد حرق علي رضي الله عنه بالنار من ذهب فيه إلى ذلك منهم وسخط محمد بن الحنفية المختار بن أبي عبيد لما بلغه مثل ذلك عنه فصرح بلعنته والبراءة منه و كذلك فعل جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه بمن بلغه مثل هذا عنه ومنهم من يقول إن كمال الإمام لا يكون لغيره فإذا مات انتقلت روحه إلى إمام آخرليكون فيه ذلك الكمال و هو قول بالتناسخ و من هؤلاء الغلاة من يقف عند واحد منالأئمة لا يتجاوزه إلى غيره بحسب من يعين لذلك عندهم و هؤلاء هم الواقفية فبعضهميقول هو حي لم يمت إلا أنه غائب عن أعين الناس و يستشهدون لذلك بقصة الخضر قيل مثلذلك في علي رضي الله عنه لم أنه في السحاب و الرعد صوته و البرق في صوته و قالوامثله في محمد بن الحنيفة و إنه في جبل رضوى من أرض الحجاز.
و قال شاعرهم.
ألا أن الأئمة من قريش ولاة الحق أربعة سواء
علي و الثلاثة من بنيه هم الأسباط ليس بهم خفاء
فسبط سبط إيمان و بر و سبط غيبته كربلاء
و سبط لا يذوق الموت حتى يقود الجيش يقدمه اللواء
تغيب لا يرى فيهم زماناً برضوى عنده عسل و ماء
و قال مثله غلاة الإمامية و خصوصاً الاثنا عشرية منهم يزعمون أن الثانيعشر من أئمتهم و هو محمد بن الحسن العسكري و يلقبونه المهدي دخل في سرداب بدارهم فيالحلة و تغيب حين اعتقل مع أمه و غاب هنالك و هو يخرج آخر الزمال فيملأ الأرض عدلاًيشيرون بذلك إلى الحديث الواقع في كتابالترمذيفيالمهدي و هم إلى الآن ينتظرونه و يسمونه المنتظر لذلك، و يقفون في كل ليلة بعدصلاة المغرب بباب هذا السرداب و قد قدموا مركباً فيهتمون باسمه و يدعونه للخروج حتىتشتبك النجوم ثم ينفضون و يرجئون الأمر إلى الليلة الآتية و هم على ذلك لهذا العهدو بعض هؤلاء الواقفية يقول أن الإمام الذي مات يرجع إلى حياته الدنيا و يستشهدونلذلك بما وقع في القرآن الكريم من قصة أهل الكهف و الذي مر على قرية و قتيل بنيإسرائيل حين ضرب بعظام البقرة التي أمروا بذبحها و مثل ذلك من الخوارق التي وقعتعلى طريق المعجزة و لا يصح الاستشهاد بها في غير مواضعها و كان من هؤلاء السيدالحميري و من شعره في ذلك
إذا ما المرء شاب له قذال وعللهالمواشط بالخضاب
فقد ذهبت بشاشته و أودى فقم يا صاحنبك على الشباب
إلى يوم تتوب الناس فيه إلى دنياهمقبل الحساب
فليس بعائد مافات منه إلى أحد إلىيوم الإياب
أدين بأن ذلك دين حق وما أنا فيالنشور بذي ارتياب
كذاك الله أخبر عن أناس حيوامن بعد درس في التراب
و قد كفانا مؤونة هؤلاء الغلاة أئمة الشيعة فإنهملا يقولون بها و يبطلون احتجاجاتهم عليها و أما الكيسانية فساقوا الإمامة من بعدمحمد بن الحنفية إلى ابنه أبي هاشم و هؤلاء هم الهاشمية ثم افترقوا فمنهم من ساقهابعده إلى أخيه علي ثم إلى ابنه الحسن بن علي و آخرون يزعمون أن أبا هاشم لما ماتبأرض السراة منصرفاً من الشام أوصى إلى محمد بن علي بن عبد الله بن عباس و أوصىمحمد إلى ابنه ابراهيم المعروف بالإمام و أوصى هو إلى أخيه عبد الله بن الحارثيةالملقب بالسفاح و أوصى هو إلى أخيه عبد الله أبي جعفر الملقب بالمنصور و انتقلت فيولده بالنص و العهد واحداً بعد واحد إلى آخرهم و هذا مذهب الهاشمية القائمين بدولةبني العباس و كان منهم أبو مسلم و سليمان بن كثير و أبو سلمة الخلال و غيرهم منشيعة العباسية و ربما يعضدون ذلك بأن حقهم في هذا الأمر يصل إليه من العباس لأنهكان حياً وقت الوفاة و هو أولى بالوراثة بعصبية العمومة و أما الزيدية فساقواالإمامة على مذهبهم فيها و إنها باختيار أهل الحل و العقد لا بالنص فقالوا بإمامةعلي ثم ابنه الحسن ثم أخيه الحسين ثم ابنه زيد بن علي و هو صاحب هذا المذهب و خرجبالكوفة داعياً إلى الإمامة فقتل و صلب بالكناسة و قال الزيدية بإمامة ابنه يحيى منبعده فمضى إلى خراسان و قتل بالجوزجان بعد أن أوصى إلى محمد بن عبد الله بن حسن بنالحسن السبط و يقال له النفس الزكية، فخرج بالحجاز و تلقب بالمهدي و جاءته عساكرالمنصور فقتل و عهد إلى أخيه إبراهيم فقام بالبصرة و معه عيسى بن زيد بن علي فوجهإليهم المنصور عساكره فهزم و قتل إبراهيم و عيسى و كان جعفر الصادق أخبرهم بذلك كلهو هي معدودة في كراماته و ذهب آخرون منهم إلى أن الامام بعد محمد ابن عبد اللهالنفس الزكية هو محمد بن القاسم بن علي بن عمر، و عمر هو أخو زيد بن علي فخرج محمدبن القاسم بالطالقان فقبض عليه و سيق إلى المعتصم فحبسه و مات في حبسه و قال آخرونمن الزيدية أن الإمام بعد يحيى بن زيد هو أخوه عيسى الذي حصر مع إبراهيم بن عبدالله في قتاله مع منصور و نقلوا الإمامة في عقبه و إليه انتسب دعي الزنج كما نذكرهفي أخبارهم و قال آخرون من الزيدية أن الإمام بعد محمد بن عبد الله أخوة إدريس الذيفر إلى المغرب و مات هنالك و قام بأمر ابنه إدريس و اختط مدينة فاس و كان من بعدهعقبه ملوكاً بالمغرب إلى أن انقرضوا كما نذكره في أخبارهم. و بقي أمر الزيدية بعدذلك غير منتظم و كان منهم الذاعي الذي ملك طبرستان و هو الحسن بن زيد بن محمد بنإسماعيل بن الحسن بن زيد بن علي بن الحسين السبط و أخوه محمد بن زيد ثم قام بهذهالدعوة في الديلم الناصر الأطروش منهم، و أسلموا على يده و هو الحسن بن علي بنالحسن بن علي بن عمر و عمر أخو زيد بن علي فكانت لبنيه بطبرستان دولة و توصل الديلممن نسبهم إلى الملك و الاستبداد على الخلفاء ببغداد كما نذكر في أخبارهم. و أماالإمامية فساقوا الإمامة من علي الرضى إلى ابنه الحسن بالوصية ثم إلى أخيه الحسينثم إلى ابنه علي زين العابدين ثم إلى ابنه محمد الباقر ثم إلى ابنه جعفر الصادق ومن هنا افترقوا فرقتين فرقة ساقها إلى ولده إسماعيل و يعرفونه بينهم بالإمام و همالاسماعيلية و فرقة ساقوها إلى ابنه موسى الكاظم و هم الاثنا عشرية لوقوفهم عندالثاني عشر من الأئمة و قولهم بغيبته إلى آخر الزمان كما مر فأما الإسماعيليةفقالوا بإمامة اسماعيل الإمام بالنص من أبيه جعفر و فائدة النص عليه عندهم و إن كانقد مات قبل أبيه إنما هو بقاء الإمامة في عقبه كقصة هارون مع موسى صلوات اللهعليهما قالوا انتقلت الإمامة من إسماعيل إلى ابنه محمد المكتوم و هو أول الأئمةالمستورين لأن الإمام عندهم قد لا يكون له شوكة فيستتر و تكون دعاته ظاهرين إقامةللحجة على الخلق و إذا كانت له شوكة ظهر و أظهر دعوته قالوا و بعد محمد المكتومابنه جعفر الصادق و بعده ابنه محمد ****** و هو آخر المستورين و بعده ابنه عبد اللهالمهدي الذي أظهر دعوته أبو عبد الله الشيعي في كتامة و تتابع الناس على دعوته ثمأخرجه من معتقله بسجلماسة و ملك القيروان و المغرب و ملك بنوه من بعده مصر كما هومعروف في أخبارهم و يسمى هؤلاء نسبة إلى القول بإمامة إسماعيل و يسمون أيضاًبالباطنية نسبة إلى قولهم بالإمام الباطن أي المستور و يسمون أيضاً الملحدة لما فيضمن مقالتهم من الإلحاد و لهم مقالات قديمة و مقالات جديدة دعا إليها الحسن بن محمدالصباح في آخر المائة الخامسة و ملك حصوناً بالشام و العراق و لم تزل دعوته فيهاإلى أن توزعها الهلاك بين ملوك الترك بمصر و ملوك التتر بالعراق فانفرضت. و مقالةهذا الصباح في دعوته مذكورة في كتابالملل و النحلللشهرستاني.و أما الاثنا عشرية فربما خصوا باسم الإمامية عندالمتأخرين منهم فقالوا بإمامة موسى الكاظم بن جعفر الصادق لوفاة أخيه الأكبرإسماعيل الإمام في حياة أبيهما جعفر فنص على إمامة موسى هذا ثم ابنه علي الرضا الذيعهد إليه المأمون و مات قبله لم يتم له أمر ثم ابنه محمد التقي ثم ابنه علي الهاديثم ابنه محمد الحسن العسكري ثم ابنه محمد المهدي المنتظر الذي قدمناه قبل و في كلواحدة من هذه المقالات للشيعة اختلاف كثير إلا أن هذه أشهر مذاهبهم و من أراداستيعابها و مطالعتها فعليهبكتاب الملل و النحللابن حزموالشهرستانيو غيرهماففيها بيان ذلك و الله يضل من يشاء و يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم و هو العليالكبير.
الفصل الثامن و العثسرون في انقلاب الخلافةإلى الملك
إعلم أن الملك غاية طبيعية للعصبية ليس وقوعه عنها باختيار إنما هو بضرورة الوجود وترتيبه كما قلناه من قبل و أن الشرائع و الديانات و كل أمر يحل عليه الجمهور فلا بدفيه من العصبية إذ المطالبة لا تتم إلا بها كما قدمناه.
فالعصبية ضرورية للملةو بوجودها يتم أمر الله منها و في الصحيح ما بعث الله نبياً إلا في منعة من قومه ثموجدنا الشارع قد ذم العصبية و ندب إلى إطراحها و تركها فقال: إن الله أذهب عنكمعبية الجاهلية و فخرها بالآباء أنتم بنو آدم و آدم من تراب، و قال تعالىإن أكرمكم عند الله أتقاكمو وجدناه أيضاً قد ذم الملك و أهله ونعى على أهله أحوالهم من الاستمتاع بالخلاق و الإسراف في غير القصد و التنكب عنصراط الله و إنما حض على الإلفة في الدين و حذر من الخلاف و الفرقة، و أعلم أنالدنيا كلها و أحوالها مطية للآخرة و من فقد المطية فقد الوصول، و ليس مراده فيماينهى عنه أو يذمه من أفعال البشر أو يندب إلى تركه إهماله بالكلية أو اقتلاعه منأصله و تعطيل القوى التي ينشأ عليها بالكلية إنما قصده تصريفها في أغراض الحق جهدالاستطاعة حتى تصير المقاصد كلها حقاً و تتحد الوجهة كما قال صلى الله عليه و سلم:من كانت هجرته إلى الله و رسوله فهجرته إلى الله و رسوله و منكانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه.فلميذم الغضب و هو يقصد نزعه من الإنسان فإنه لو زالت منه قوة الغضب لفقد منه الانتصارللحق و بطل الجهاد و إعلاء كلمة الله و إنما يذم الغضب للشيطان و للأغراض الذميمةفإذا كان الغصب لذلك كان مذموماً و إذا كان الغضب في الله و لله كان ممدوحاً و هومن شمائله صلى الله عليه و سلم و كذا ذم الشهوات أيضاً ليس المراد إبطالها بالكليةفإن من بطلت شهوته كان نقصاً في حقه و إنما المراد تصريفها فيما أبيح له باشتمالهعلى المصالح ليكون الإنسان عبداً متصرفاً طوع الأوامر الإلهية و كذا العصبية حيثذمها الشارع و قاللن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم،فإنمامراده حيث تكون العصبية على الباطل و أحواله كما كانت في الجاهلية و أن يكون لأحدفخر بها أو حق على أحد لأن ذلك مجال من أفعال العقلاء و غير نافع في الآخرة التي هيدار القرار فأما إذا كانت العصبية في الحق و إقامة أمر الله فأمر مطلوب و لو بطللبطلت الشرائع إذ لا يتم قوامها إلا بالعصبية كما قلناه من قبل و كذا الملك لما ذمهالشارع لم يذم منه الغلب بالحق و قهر الكافة على الدين و مراعاة المصلح و إنما ذمهلما فيه من التغلب بالباطل و تصريف الآدميين طوع الأغراض و الشهوات كما قلناه، فلوكان الملك مخلصاً في غلبه للناس أنه لله و لحملهم على عبادة الله و جهاد عدوه لميكن ذلك مذموماً و قد قال سليمان صلوات الله عليه: ربي هب لي ملكاً لا ينبغي لأحدمن بعدي.
لما علم من نفسه أنه بمعزل عن الباطل في النبؤة و الملك. و لما لقيمعاوية عمر بن الخطاب رضي الله عنهما عند قدومه إلى الشام في أبهة الملك وزيه منالعديد و العدة استنكر ذلك و قال: أكسروية يا معاوية فقال يا أمير المؤمنين أنا فيثغر تجاه العدو و بنا إلى مباهاتهم بزينة الحرب و الجهاد حاجة فسكت و لم يخطئه لمااحتج عليه بمقصد من مقاصد الحق و الدين فلو كان القصد رفض الملك من أصله لم يقنعهالجواب في تلك الكسروية و انتحالها بل كان يحرض على خروجه عنها بالجملة و إنما أرادعمر بالكسروية ما كان عليه أهل فارس في ملكهم من ارتكاب الباطل و الظلم و البغي وسلوك شبله و الغفلة عن الله و أجابه معاوية بأن القصد بذلك ليس كسروية فارس وباطلهم و إنما قصده بها وجه الله فسكت، و هكذا كان شأن الصحابة في رفض الملك وأحواله و نسيان عوائده حذراً من التباسها بالباطل فلما استحضر رسول الله صلى اللهعليه و سلم استخلف أبا بكر على الصلاة إذ هي أهم أمور الدين و ارتضاه الناس للخلافةو هي حمل الكافة على أحكام الشريعة و لم يجر للملك ذكر لما أنه مظنة للباطل و نخلةيومئذ لأهل الكفر و أعداء الدين فقام بذلك أبو بكر ما شاء الله متبعاً سنن صاحبهوقاتل أهل الردة حتى اجتمع العرب على الإسلام ثم عهد إلى عمر فاقتفى أثره و قاتلالأمم فغلبهم و أذن للعرب بانتزاع ما بأيديهم من الدنيا و الملك فغلبوهم عليه وانتزعوه منهم ثم صارت إلى عثمان بن عفان ثم إلى علي رضى عنهما و الكل متبرئون منالملك منكبون عن طرقه و أكد ذلك لديهم ما كانوا عليه من عضاضة الإسلام و بداوةالعرب فقد كانوا أبعد الأمم عن أحوال الدنيا و ترفها لا من حيث دينهم الذي يدعوهمإلى الزهد في النعيم و لا من حيث بداوتهم و مواطنهم و ما كانوا عليه من خشونة العيشو شظفه الذي ألفوه، فلم تكن أمة من الأمم أسغب عيشاً من مضر لما كانوا بالحجاز فيأرض غير ذات زرع و لا ضرع و كانوا ممنوعين من الأرياف و حبوبها لبعدها و اختصاصهابمن وليها من ربيعة و اليمن فلم يكونوا يتطاولون إلى خصبها و لقد كانوا كثيراً مايأكلون العقارب و الخنافس و يفخرون بأكل العلهز و هو وبر الإبل يمهونه بالحجارة فيالدم و يطبخونه و قريبا من هذا كانت حال قريش في مطاعمهم و مساكنهم حتى إذا اجتمعتعصبية العرب على الدين بما أكرمهم الله من نبوة محمد صلى الله عليه و سلم زحفوا إلىأمم فارس و الروم و طلبوا ما كتب الله لهم من الأرض بوعد الصدق فابتزوا ملكهم واستباحوا دنياهم فزخرت بحار الرفه لديهم حتى كان الفارس الواحد يقسم له في بعضالغزوات ثلاثون ألفاً من الذهب أو نحوها فاستولوا من ذلك على مالا يأخذه الحصر و هممع ذلك على خشونة عيشهم فكان عمر يرقع ثوبه بالجلد و كان علي يقول: يا صفراء و يابيضاء غري غيري و كان أبو موسى يتجافى عن أكل الدجاج لأنه لم يعهدها للعرب لقلتهايومئذ و كانت المناخل مفقودةً عندهم بالجملة و إنما يأكلون الحنطة بنخالها ومكاسبهم مع هذا أتم ما كانت لأحد من أهل العالم قال:المسعوديفي أيام عثمان أفتى الصحابة الضياع و المال فكان له يوم قتل عند خازنه خمسونو مائة ألف دينار و ألف ألف درهم و قيمة ضياعه بوادي القرى و حنين و غيرهما مائتاألف دينار و خلف إبلاً و خيلاً كثيرةً و بلغ الثمن الواحد من متروك الزبير بعدوفاته خمسين ألف دينار و خلف ألف فرس و ألف أمة و كانت غلة طلحة من العراق ألفدينار كل يوم و من ناحية السراة أكثر من ذلك و كان على مربط عبد الرحمن بن عوف ألففرس و له ألف بعير و عشرة آلاف من الغنم و بلغ الربع من متروكه بعد وفاته أربعة وثمانين ألفاً و خلف زيد بن ثابت من الفضة و الذهب ما كان يكسر بالفؤوس غير ما خلفمن الأموال و الضياع بمائة ألف دينار و بنى الزبير داره بالبصرة و كذلك بنى بمصر والكوفة والإسكندرية و كذلك بنى طلحة داره بالكوفة و شيد دارة بالمدينة وبناها بالجصو الآجر و الساج و بنى سعد بن أبي وقاص داره بالعقيق و رفع سمكها و أوسع فضاءها وجعل على أعلاها شرفات و بنى المقداد داره بالمدينة و جعلها مجصصة الظاهر و الباطن وخلف يعلى بن منبه خمسين ألف دينار و عقاراً و غير ذلك ما قيمته ثلاثمائة ألف درهممن كلامالمسعودي.فكانت مكاسب القوم كما تراه و لم يكنذلك منيعاً عليهم في دينهم إذ هي أموال حلال لأنها غنائم و فيوء و لم يكن تصرفهمفيها بإسراف إنما كانوا على قصد في أحوالهم كما قلناه فلم يكن ذلك بقادح فيهم و أنكان الاستكثار من الدنيا مذموماً فإنما يرجع إلى ما أشرنا إليه من الإسراف و الخروجبه عن القصد و إذا كان حالهم قصداً و نفقاتهم في سبيل الحق و مذاهبه كان ذلكالاستكثار عوناً لهم على طرق الحق و اكتساب الدار الآخرة فلما تدرجت البداوة والغضاضة إلى نهايتها و جاءت طبيعة الملك التي هي مقتضى العصبية كما قلناه و حصلالتغلب و القهر كان حكم ذلك الملك عندهم حكم ذلك الرفه و الاستكثار من الأموال فلميصرفوا ذلك التغلب في باطل ولا خرجوا به عن مقاصد الديانة و مذاهب الحق، و لماوقعت الفتنة بين علي و معاوية و هي مقتضى العصبية كان طريقهم فيها الحق و الاجتهادو لم يكونوا في محاربتهم لغرض دنيوي أو لإيثار باطل أو لاستشعار حقد كما قد يتوهمهمتوهم وينزع إليه ملحد و إنما اختلف اجتهادهم في الحق و سفه كل واحد نظر صاحبهباجتهاده في الحق فاقتتلوا عليه و إن كان المصيب عليا فلم يكن معاوية قائماً فيهابقصد الباطل إنما قصد الحق و أخطأ و الكل كانوا في مقاصدهم على حق ثم اقتضت طبيعةالملك الانفراد بالمجد و استئثار الواحد به و لم يكن لمعاوية أن يدفع عن نفسه وقومه فهو أمر طبيعي ساقته العصبية بطبيعتها و استشعرته بنو أمية و من لم يكن علىطريقة معاويه في اقتفاء الحق من أتباعهم فاعصوصبوا عليه و استماتوا دونه و لو حملهممعاوية على غير تلك الطريقة و خالفهم في الانفراد بالأمر لوقوع في افتراق الكلمةالتي كان جمعها و تأليفها أهم عليه من أمر ليس وراءه كبير مخالفة و قد كان عمر بنعبد العزيز رضي الله عنه يقول: إذا رأى القاسم بن محمد بن أبي بكر لو كان لي منالأمر شيء لوليته الخلافة و لو أراد أن يعهد إليه لفعل و لكنة كان يخشى من بنى أميةأهل الحل و العقد لما ذكرناه فلا يقدر أن يحول الأمر عنهم لئلا تقع الفرقة. و هذاكله إنما حمل عليه منازع الملك التي هي مقتضى العصبية فالملك إذا حصل و فرضنا أنالواحد انفرد به و صرفه في مذاهب الحق و وجوهه لم يكن في ذلك نكير عليه و لقد انفردسليمان و أبوه داود صلوات الله عليهما بملك بنى إسرائيل لما اقتضته طبيعة الملك منالانفراد به وكانوا ما علمت من النبؤة و الحق و كذلك عيد معاوية إلى يزيد خوفاً منافتراق الكلمة بما كانت بنو أمية لم يرضوا تسليم الأمر إلى من سواهم. فلو قد عهدإلى غيره اختلفوا عليه مع أن ظنهم كان به صالحاً و لا يرتاب أحد في ذلك و لا يظنبمعاوية غيره فلم يكن ليعهد إليه و هو يعتقد ما كان عليه من الفسق حاشا اللهلمعاوية من ذلك و كذلك كان مروان بن الحكم و ابنه و أن كانوا ملوكاً لم يكن مذهبهمفي الملك مذهب أهل البطالة و البغي إنما كانوا متحرين لمقاصد الحق جهدهم إلا فيضرورة تحملهم على بعضها مثل خشية افتراق الكلمة الذي هو أهم لديهم من كل مقصد يشهدلذلك ما كانوا عليه من الاتباع و الإقتداء و ما علم السلف من أحوالهم و مقاصدهم فقداحتج مالك في الموطأ بعمل عند الملك و أما مروان فكان من الطبقة الأولى من التابعينو عدالتهم معروفة ثم تدرج الأمر في ولد عبد الملك و كانوا من الدين بالمكان الذيكانوا عليه و توسطهم عمر بن عبد العزيز فنزع إلى طريقة الخلفاء الأربعة و الصحابةجهده و لم يهمل. ثم جاء خلفهم و استعملوا طبيعة الملك في أغراضهم الدنيوية ومقاصدهم و نسوا ما كان عليه سلفهم من تحري القصد فيها و اعتماد الحق في مذاهبهافكان ذلك مما دعا الناس إلى أن نعوا عليهم أفعالهم و أدالوا بالدعوة العباسية منهمو ولي رجالها الأمر فكانوا من العدالة بمكان و صرفوا الملك في وجوه الحق و مذاهبهما استطاعوا حتى جاء بنو الرشيد من بعده فكان منهم الصالح و الطالح ثم أفضى الأمرإلى بنيهم فأعطوا الملك و الترف حقه و انغمسوا في الدنيا و باطلها و نبذوا الدينوراءهم ظهرياً فتأذن الله بحربهم و انتزاع الأمر من أيدي العرب جملة و أمكن سواهم والله لا يظلم مثقال ذرة. و من تأمل سير هؤلاء الخلفاء و الملوك و اختلافهم في تحريالحق من الباطل علم صحة ما قلناه و قد حكاهالمسعوديمثله في أحوال بنى أمية عن أبي جعفر المنصور و قد حصر عمومته و ذكروا بنيأمية فقال: أما عبد الملك فكان جباراً لا يبالي بما صنع و أما سليمان فكان همهبطنه و فرجه و أما عمر فكان أعور بين عميان و كان رجل القوم هشام قال و لم يزل بنوأمية ضابطين لما مهد لهم من السلطان يحوطونه و يصونون ما و هب الله لهم منه معتسلمهم معالي الأمور و رفضهم دنياتها حتى أفضى الأمر إلى أبنائهم المترفين فكانتهمتهم قصد الشهوات و ركوب اللذات من معاصي الله جهلاً باستدراجه و أمناً لكره معاطراحهم ***** الخلافة و استخفافهم بحق الرئاسة و ضعفهم عن السياسة فسلبهم اللهالعز و ألبسهم الذل و نفى عنهم النعمة ثم استحضر عبد الله ابن مروان فقص عليه خبرهمع ملك النوبة لما دخل أرضهم فاراً أيام السفاح قال أقمت ملياً ثم أتاني ملكهم فقعدعلى الأرض و قد بسطت لي فرش ذات قيمة فقلت ما منعك عن القعود على ثيابنا فقال إنيملك و حق لكل ملك أن يتواضع لعظمة الله إذ رفعه الله ثم قال لي: لم تشربون الخمر وهي محرمة عليكم في كتابكم ؟ فقلت: اجترأ على ذلك عبيدنا و أتباعنا قال: فلم تطئونالزرع بدوابكم و الفساد محرم عليكم ؟ قلت: فعل ذلك عبيدنا و أتباعنا بجهلهم قال:فلم تلبسون الديباج و الذهب و الحرير و هو محرم عليكم في كتابكم ؟ قلت: ذهب مناالملك و انتصرنا بقوم من العجم دخلوا في ديننا فلبسوا ذلك على الكره منا، فأطرقينكث بيده في الأرض و يقول عبيدنا و أتباعنا و أعاجم دخلوا في ديننا ثم رفع رأسهإلي و قال: ليس كما ذكرت بل أنتم قوم استحللتم ما حرم الله عليكم وأتيتم ما عنهنهيتم و ظلمتم فيما ملكتم فسلبكم الله العز و ألبسكم الذل بذنوبكم و لله نقمة لمتبلغ غايتها فيكم و أنا خائف أن يحل بكم العذاب و أنتم ببلدي فينالني معكم و إنماالضيافة ثلاث فتزود ما احتجت إليه و ارتحل عن أرضي فتعجب المنصور و أطرق فقد تبينلك كيف انقلبت الخلافة إلى الملك و أن الأمر كان في أوله خلافة و وازع كل أحد فيهامن نفسه و هو الدين و كانوا يؤثرونه على أمور دنياهم و أن أفضت إلى هلاكهم وحدهمدون الكافة فهذا عثمان لما حصر في الدار جاءه الحسن و الحسين و عبد الله بن عمر وابن جعفر وأمثالهم يريدون المدافعة عنه فأبى و منع من سل السيوف بين السلمين مخافةالفرقة و حفظاً للإلفة التي بها حفظ الكلمة و لو أدى إلى هلاكه. و هذا علي أشارعليه المغيرة لأول ولايته باستبقاء الزبير ومعاوية و طلحة على أعمالهم حتى يجتمعالناس على بيعته و تتفق الكلمة و له بعد ذلك ما شاء من أمره و كان ذلك من سياسةالملك فأبى فراراً من الغش الذي ينافيه الإسلام و غدا عليه المغيرة من الغداة فقال: لقد أشرت عليك بالأمس بما أشرت ثم عدت إلى نظري فعلمت أنه ليس من الحق و النصيحةوأن الحق فيما رأيته أنت فقال علي: لا و الله بل أعلم أنك نصحتني بالأمس و غششتنياليوم و لكن منعني مما أشرت به زائد الحق و هكذا كانت أحوالهم في إصلاح دينهم بفساددنياهم و نحن:
نرقع دنيانا بتمزيق ديننا فلا ديننا يبقى ولا ما نرقع
فقد رأيت كيف صار الأمر إلى الملك و بقيت معاني الخلافة منتحري الدين ومذاهبه و الجري على منهاج الحق و لم يظهر التغير إلا في الوازع الذيكان ديناً ثم انقلب عصبيةً و سيفاً و هكذا كان الأمر لعهد معاوية و مروان و ابنهعبد الملك و الصدر الأول من خلفاء بني العباس إلى الرشيد و بعض ولده ثم ذهبت معانيالخلافة و لم يبق إلا اسمها و صار الأمر ملكاً بحتاً و جرت طبيعة التغلب إلى غايتهاو استعملت في أغراضها من القهر التقلب في الشهوات و الملاذ و هكذا كان الأمر لولدعبد الملك و لمن جاء بعد الرشيد من بني العباس و اسم الخلافة باقياً فيهم لبقاءعصبية العرب و الخلافة و الملك في الطورين ملتبس بعضهما ببعض ثم ذهب رسم الخلافة وأثرها بذهاب عصبية العرب و فناء جيلهم و تلاشى أحوالهم وبقى الأمر ملكاً بحتاً كماكان الشأن في ملوك العجم بالمشرق يدينون بطاعة الخليفة تبركاً و الملك بجميع ألقابهو مناحيه لهم و ليس للخليفة منه شيء و كذلك فعل ملوك زناتة بالمغرب مثل صنهاجة معالعبيديين و مغراوة و بني يفرن أيضاً مع خلفاء بني أمية بالأندلس و العبيديينبالقيروان فقد تبين أن الخلافة قد وجدت بدون الملك أولا ثم التبست معانيهما واختلطت ثم انفرد الملك حيث افترقت عصبيته من عصبية الخلافة و الله مقدر الليل والنهار و هو الواحد القهار.
الفصل التاسع و العشرون في معنى البيعة
إعلم أن البيعة هي العهد على الطاعة كأن المبايع يعاهد أميره على أنه يسلم لهالنظر في أمر نفسه و أمور المسلمين لا ينازعه في شيء من ذلك و يطيعه فيما يكلفه بهمن الأمر على المنشط و المكره و كانوا إذا بايعوا الأمير و عقدوا عهده جعلوا أيديهمفي يديه تأكيداً للعهد فأشبه ذلك فعل البائع و المشتري فسمي بيعةً مصدر باع و صارتالبيعة مصافحةً بالأيدي هذا مدلولها في عرف اللغة و معهود الشرع و هو المراد فيالحديث في بيعة النبي صلى الله عليه و سلم ليلة العقبة و عند الشجرة وحيثما و ردهذا اللفظ و منه بيعة الخلفاء و منه أيمان البيعة كان الخلفاء يستحلفون على العهد ويستوعبون الأيمان كلها لذلك فسمي هذا الاستيعاب إيمان البيعة و كان الإكراه فيهاأكثر و أغلب و لهذا لما أفتى مالك رضي الله عنه بسقوط يمين الإكراه أنكرها الولاةعليه و رأوها قادحةً في أيمان البيعة، و وقع ما وقع من محنة الإمام رضي الله عنه وأما البيعة المشهورة لهذا العهد فهي تحية الملوك الكسروية من تقبيل الأرض أو اليدأو الرجل أو الذيل أطلق عليها اسم البيعة التي هي العهد على الطاعة مجازاً لما كانهذا الخضوع في التحية و التزام الآداب من لوازم الطاعة و توابعها و غلب فيه حتىصارت حقيقيةً عرفيةً و استغنى بها عن مصافحة أيدي الناس التي هي الحقيقة في الأصللما في المصافحة لكل أحد من التنزل و الابتذال المنافيين للرئاسة و صون المنصبالملوكي إلا في الأقل ممن يقصد التواضع من الملوك فيأخذ به نفسه مع خواصه و مشاهيرأهل الدين من رعيته فافهم معنى البيعة في العزف فإنه أكيد على الإنسان معرفته لمايلزمه من حق سلطانه و إمامه و لا تكون أفعاله عبثاً و مجاناً و اعتبر ذلك من أفعالكمع الملوك و الله القوي العزيز.
الفصل الثلاثون في ولاية العهد
إعلم أنا قدمنا الكلام في الإمامة و مشروعيتهالما فيها من المصلحة و أن حقيقتها للنظر في مصالح الأمة لدينهم و دنياهم فهو وليهمو الأمين عليهم ينظر لهم ذلك في حياته و يتبع ذلك أن ينظر لهم بعد مماته و يقيم لهممن يتولى أمورهم كما كان هو يتولاها ويثقون بنظره لهم في ذلك كما و ثقوا به فيماقبل و قد عرف ذلك من الشرع بإجماع الأمة على جوازه و انعقاده إذ وقع بعهد أبي بكررضي الله عنه لعمر بمحضر من الصحابة و أجازوه و أوجبوا على أنفسهم به طاعة عمر رضيالله عنه و عنهم و كذلك عهد عمر في الشورى إلى الستة بقية العشرة و جعل لهم أنيختاروا للمسلمين ففوض بعضهم إلى بعض حتى أفضى ذلك إلى عبد الرحمن بن عوف فاجتهد وناظر المسلمين فوجدهم متفقين على عثمان و على علي فآثر عثمان بالبيعة على ذلكلموافقته إياه على لزوم الاقتداء بالشيخين في كل ما يعن دون اجتهاده فانعقد أمرعثمان لذلك و أوجبوا طاعته و الملأ من الصحابة حاضرون للأولى و الثانية و لم ينكرهأحد منهم فدل على أنهم متفقون على صحة هذا العهد عارفون بمشروعيته.
و الإجماعحجة كما عرف ولايتهم الإمام في هذا الأمر و أن عهد إلى أبيه أو ابنه لأنه مأمون علىالنظر لهم في حياته فأولى أن لا يحتمل فيها تبعةً بعد مماته خلافاً لمن قال باتهامهفي الولد و الوالد أو لمن خصص التهمة بالولد دون الوالد فإنه بعيد عن الظنة في ذلككله لا سيما إذا كانت هناك داعية تدعو إليه من إيثار مصلحة أو توقع مفسدة فتنتفيالظنة في ذلك رأساً كما وقع في عهد معاوية لابنه يزيد و إن كان فعل معاوية مع وفاقالناس له حجة في الباب و الذي دعا معاوية لإيثار ابنه يزيد بالعهد دون من سواه إنماهو مراعاة المصلحة في اجتماع الناس و اتفاق أهوائهم باتفاق أهل الحل و العقد عليهحينئذ من بني أمية إذ بنو أمية يومئذ لا يرضون سواهم و هم عصابة قريش و أهل الملةأجمع و أهل الغلب منهم فآثره بذلك دون غيره ممن يظن أنه أولى بها و عدل عن الفاضلإلى الفضول حرصاً على الاتفاق و اجتماع الأهواء الذي شأنه أهم عند الشارع.
وإن كان لا يظن بمعاوية غير هذا فعدالته و صحبته مانعة من سوى ذلك وحضور أكابرالصحابة لذلك و سكوتهم عنه دليل على انتفاء الريب فيه فليسوا ممن يأخذهم في الحقهوادة و ليس معاوية ممن تأخذه العزة في قبول الحق فإنهم كلهم أجل من ذلك و عدالتهممانعة منه و فرار عبد الله بن عمر من ذلك إنما هو محمول على تورعه من الدخول في شيءمن الأمور مباحاً كان أو محظوراً كما هو معروف عنه و لم يبق في المخالفة لهذا العهدالذي اتفق عليه الجمهور إلا ابن الزبير و ندور المخالف معروف ثم إنه وقع مثل ذلك منبعد معاوية من الخلفاء الذين كانوا يتحرون الحق و يعملون به مثل عبد الملك و سليمانمن بني أمية و السفاح والمنصور والمهدي و الرشيد من بني العباس و أمثالهم ممن عرفتعدالتهم و حسن رأيهم للمسلمين و النظر لهم و لا يعاب عليهم إيثار أبنائهم و إخوانهمو خروجهم عن سنن الخلفاء الأربعة في ذلك فشأنهم غير شأن أولئك الخلفاء فأنهم كانواعلى حين لم. تحدث طبيعة الملك و كان الوازع دينياً فعند كل أحد وازع من نفسهفعهدوا إلى من يرتضيه الدين فقط و آثروه على غيره و وكلوا كل من يسمو إلى ذلك إلىوازعه. و أما من بعدهم من لدن معاوية فكانت العصبية قد أشرفت على غايتها من الملكو الوازع الديني قد ضعف و احتيج إلى الوازع السلطاني و العصباني فلو عهد إلى غير منترتضيه العصبية لردت ذلك العهد و انتقض أمره سريعاً و صارت الجماعة إلى الفرقة والاختلاف.
سأل رجل علياً رضي الله عنه: ما بال المسلمين اختلفوا عليك و لميختلفوا على أبي بكر و عمر فقال: لأن أبا بكر و عمر كانا واليين على مثلي و أنااليوم وال على مثلك يشير إلى وازع الدين أفلا ترى إلى المأمون لما عهد إلى علي بنموسى بن جعفر الصادق و سماه الرضا كيف أنكرت العباسية ذلك و نقضوا بيعته و بايعوالعمه بن المهدي و ظهر من الهرج و الخلاف وانقطاع السبل و تعدد الثوار و الخوارج ماكاد أن يصطلم الأمر حتى بادر المأمون من خراسان إلى بغداد ورد أمرهم لمعاهده فلا بدمن اعتبار ذلك في العهد فالعصور تختلف باختلاف ما يحدث فيها من الأمور و القبائل والعصبيات و تختلف باختلاف المصالح و لكل واحد منها حكم يخصه لطفاً من الله بعباده وأما أن يكون القصد بالعهد حفظ التراث على الأبناء فليس من المقاصد الدينية إذ هوأمر من الله يخص به من يشاء من عباده ينبغي أن تحسن فيه النية ما أمكن خوفاً منالعبث بالمناصب الدينية و الملك لله يؤتيه من يشاء، و عرض هنا أمور تدعو الضرورةإلى بيان الحق فيها.
فالأول منها ما حدث في يزيد من الفسق أيام خلافته فإياكأن تظن بمعاوية رضي الله عنه أنه علم ذلك من يزيد فإنه أعدل من ذلك و أفضل بل كانيعذله أيام حياته في سماع الغناء و ينهاه عنه و هو أقل من ذلك و كانت مذاهبهم فيهمختلفة و لما حدث في يزيد ما حدث من الفسق اختلف الصحابة حينئذ في شأنه فمنهم منرأى الخروج عليه و نقض بيعته من أجل ذلك كما فعل الحسين و عبد الله بن الزبير رضيالله عنهما و من اتبعهما في ذلك و منهم من أباه لما فيه من إثارة الفتنة و كثرةالقتل مع العجز عن الوفاء به لأن شوكة يزيد يومئذ هي عصابة بنى أمية و جمهور أهلالحل و العقد من قريش و تستتبع عصبية مضر أجمع و هي أعظم من كل شوكة و لا تطاقمقاومتهم فأقصروا عن يزيد بسبب ذلك وأقاموا على الدعاء بهدايته و الراحة منه و هذاكان شأن جمهور المسلمين و الكل مجتهدون و لا ينكر على أحد من الفريقين فمقاصدهم فيالبر و تحري الحق معروفة وفقنا الله للاقتداء بهم.
و الأمر الثاني هو شأنالعهد مع النبي صلى الله عليه و سلم و ما تدعيه الشيعة من وصيته لعلي رضي الله عنهو هو أمر لم يصح و لا نقله أحد من أئمة النقل و الذي وقع في الصحيح من طلب الدواة والقرطاس ليكتب الوصية و أن عمر منع من ذلك فدليل واضح على أنه لم يقع و كذا قول عمررضي الله عنه حين طعن و سئل في العهد فقال: إن أعهد فقد عهد من هو خير مني يعنيأبا بكر و إن أترك فقد ترك من هو خير مني يعني النبي صلى الله عليه و سلم لم يعهد وكذلك قول علي للعباس رضي الله عنهما حين دعاه للدخول إلى النبي صلى الله عليه و سلميسألانه عن شأنهما في العهد فأبى على من ذلك و قال إنه إن منعنا منها فلا نطمع فيهاآخر الدهر و هذا دليل على أن علياً علم أنه لم يوص و لا عهد إلى أحد و شبهةالإمامية في ذلك إنما هي كون الإمامة من أركان الدين كما يزعمون و ليس كذلك و إنماهي من المصالح العامة المفوضة إلى نظر الخلق و لو كانت من أركان الدين لكان شأنهاشأن الصلاة و لكان يستخلف فيها كما استخلف أبا بكر في الصلاة و لكان يشتهر كمااشتهر أمر الصلاة و احتجاج الصحابة على خلافة أبي بكر بقياسها على الصلاة في قولهمارتضاه رسول الله صلى الله عليه و سلم لديننا أفلا نرضاه لدنيانا دليل على أنالوصية لم تقع. و يدل ذلك أيضاً على أن أمر الإمامة و العهد بها لم يكن مهما كماهو اليوم و شأن العصبية المراعاة في الاجتماع و الافتراق في مجاري العادة لم يكنيومئذ بذلك الاعتبار لأن أمر الدين و الإسلام كان كله بخوارق العادة من تأليفالقلوب عليه و استماتة الناس دونه و ذلك من أجل الأحوال التي كانوا يشاهدونها فيحضور الملائكة لنصرهم و تردد خبر السماء بينهم و تجدد خطاب الله في كل حادثة تتلىعليهم فلم يحتج إلى مراعاة العصبية لما شمل الناس من صبغة الانقياد و الإذعان ومايستفزهم من تتابع المعجزات الخارقة و الأحوال الإلهية الواقعة و الملائكة المترددةالتي وجموا منها و دهشوا من تتابعها فكان أمر الخلافة و الملك و العهد والعصبية وسائر هذه الأنواع مندرجاً في ذلك القبيل كما وقع فلما انحصر ذلك المدد بذهاب تلكالمعجزات ثم بفناء القرون الذين شاهدوها فاستحالت تلك الصبغة قليلاً قليلاً و ذهبتالخوارق و صار الحكم للعادة كما كان فاعتبر أمر العصبية و مجاري العوائد فيما ينشأعنها من المصالح و المفاسد و أصبح الملك والخلافة و العهد بهما مهماً من المهماتالأكيدة كما زعموا و لم يكن ذلك من قبل فانظر كيف كانت الخلافة لعهد النبي صلى اللهعليه وسلم غير مهمة فلم يعهد فيها ثم تدرجت الأهمية زمان الخلافة بعض الشيء بما دعتالضرورة إليه في الحماية والجهاد و شأن الردة و الفتوحات فكانوا بالخيار في الفعل والترك كما ذكرناه عن عمر رضي الله عنه ثم صارت اليوم من أهم الأمور للإلفة علىالحماية و القيام بالمصالح فاعتبرت فيها العصبية التي هي سر الوازع عن الفرقة والتخاذل و منشأ الاجتماع و التوافق الكفيل بمقاصد الشريعة و أحكامها.
و الأمرالثالث شأن الحروب الواقعة في الإسلام بين الصحابة و التابعين فاعلم أن اختلافهمإنما يقع في الأمور الدينية و ينشأ عن الاجتهاد في الأدلة الصحيحة و المداركالمعتبرة و المجتهدون إذا اختلفوا فإن قلنا إن الحق في المسائل الاجتهادية واحد منالطرفين و من لم يصادفه فهو مخطئ فإن جهته لا تتعين بإجماع فيبقى الكل على احتمالالإصابة و لا يتعين المخطئ منها و التأثيم مدفوع عن الكل إجماعاً و إن قلنا إن الكلحق و إن كل مجتهد مصيب فأحرى بنفي الخطأ و التأثيم و غاية الخلاف الذي بين الصحابةو التابعين أنه خلاف اجتهادي في مسائل دينية ظنية و هذا حكمه و الذي وقع من ذلك فيالإسلام إنما هو واقعة على مع معاوية و مع الزبير و عائشة و طلحة و واقعة الحسين معيزيد و واقعة ابن الزبير مع عبد الملك فأما و واقعة علي فإن الناس كانوا عند مقتلعثمان مفترقين في الأمصار فلم يشهدوا بيعة علي و الذين شهدوا فمنهم من بايع و منهممن توقف حتى يجتمع الناس و يتفقوا على إمام كسعد و سعيد و ابن عمر و أسامة بن زيد والمغيرة بن شعبة و عبد الله بن سلام و قدامة بن مظعون و أبى سعيد الخدري و كعب بنمالك و النعمان بن بشير و حسان بن ثابت و مسلمة بن مخلد و فضالة بن عبيد و أمثالهممن أكابر الصحابة و الذين كانوا في الأمصار عدلوا عن بيعته أيضاً إلى الطلب بدمعثمان و تركوا الأمر فوضى حتى يكون شورى بين المسلمين لمن يولونه و ظنوا بعلي هوادةفي السكوت عن نصر عثمان من قاتله لا في الممالأة عليه فحاش لله من ذلك.
و لقدكان معاوية إذا صرح بملامته إنما يوجهها عليه في سكوته فقط ثم اختلفوا بعد ذلك فرأىعلي أن بيعته قد انعقدت و لزمت من تأخر عنها باجتماع من اجتمع عليها بالمدينة دارالنبي صلى الله عليه و سلم و موطن الصحابة و أرجأ الأمر في المطالبة بدم عثمان إلىاجتماع الناس و اتفاق الكلمة فيتمكن حينئذ من ذلك و رأى الآخرون أن بيعته لم تنعقدلافتراق الصحابة أهل الحل و العقد بالآفاق و لم يحصر إلا قليل و لا تكون البيعة إلاباتفاق أهل الحل و العقد و لا تلزم بعقد من تولاها من غيرهم أو من القليل منهم و إنالمسلمين حينئذ فوضى فيطالبون أولاً بدم عثمان ثم يجتمعون على إمام وذهب إلى هذامعاوية و عمرو بن العاص و أم المؤمنين عائشة و الزبير و ابنه عبد الله و طلحة وابنه محمد و سعد و سعيد و النعمان بن بشير و معاوية بن خديج و من كان على رأيهم منالصحابة الذين تخلفوا عن بيعة علي بالمدينة كما ذكرنا إلا أن أهل العصر الثاني منبعدهم اتفقوا على انعقاد بيعة علي و لزومها للمسلمين أجمعين و تصويب رأيه فيما ذهبإليه و تعيين الخطأ من جهة معاوية و من كان على رأيه و خصوصاً طلحة و الزبيرلانتقاضهما على علي بعد البيعة له فيما نقل مع دفع التأثيم عن كل من الفريقينكالشأن في المجتهدين و صار ذلك إجماعاً من أهل العصر الثاني على أحد قولي أهل العصرالأول كما هو معروف.
و لقد سئل علي رضي الله عنه عن قتلى الجمل وصفين فقال: والذي نفسي بيده لا يموتن أحد من هؤلاء و قلبه نقي إلا دخل الجنة يشير إلى الفريقيننقلهالطبريو غيره فلا يقعن عندك ريب في عدالة أحد منهمو لا قدح في شيء من ذلك فهم من علمت و أقوالهم و أفعالهم إنما هي عن المستندات وعدالتهم مفروغ منها عند أهل السنة إلا قولاً للمعتزلة فيمن قاتل علياً لم يلتفتإليه أحد من أهل الحق و لا عرج عليه و إذا نظر ت بعين الإنصاف عذرت الناس أجمعين فيشأن الاختلاف في عثمان و اختلاف الصحابة من بعد و علمت أنها كانت فتنةً ابتلى اللهبها الأمة بينما المسلمون قد أذهب الله عدوهم و ملكهم أرضهم و ديارهم و نزلواالأمصار على حدودهم بالبصرة و الكوفة و الشام و مصر و كان أكثر العرب الذين نزلواهذه الأمصار جفاةً لم يستكثروا من صحبة النبي صلى الله عليه و سلم و لا ارتاضوابخلقه مع ما كان فيهم من الجاهلية من الجفاء و العصبية و التفاخر و البعد عن سكينةالإيمان و إذا بهم عند استفحال الدولة قد أصبحوا في ملكة المهاجرين و الأنصار منقريش وكنانة و ثقيف و هذيل و أهل الحجاز و يثرب السابقين الأولين إلى الإيمانفاستنكفوا من ذلك و غضوا به لما يرون لأنفسهم من التقدم بأنسابهم و كثرتهم ومصادمةفارس و الروم مثل قبائل بكر بن وائل و عبد القيس بن ربيعة و قبائل كندة و الأزد مناليمن و تميم و قيس من مضر فصاروا إلى الغض من قريش و الأنفة عليهم، و التمريض فيطاعتهم و التعلل في ذلك بالتظلم منهم و الاستعداء عليهم والطعن فيهم بالعجز عنالسوية و العدل في العدل عن السوية و فشت المقالة بذلك و انتهت إلى المدينة و هم منعلمت فأعظموه و أبلغوه عثمان فبعث إلى الأمصار من يكشف له الخبر.
بعث ابن عمرو محمد بن مسلمة و أسامة بن زيد و أمثالهم فلم ينكروا على الأمراء شيئاً و لا رأواعليهم طعناً و أدوا ذلك كما علموه فلم ينقطع الطعن من أهل الأمصار و مازالتالشناعات تنمو و رمي الوليد بن عقبة و هو على الكوفة بشرب الخمر و شهد عليه جماعةمنهم و حده عثمان و عزلة ثم جاء إلى المدينة من أهل الأمصار يسألون عزل العمال وشكوا إلى عائشة و علي و الزبير و طلحة و عزل لهم عثمان بعض العمال فلم تنقطع بذلكألسنتهم بل وفد سعيد بن العاصي وهو على الكوفة فلما رجع اعترضوه بالطريق و ردوهمعزولاً ثم انتقل الخلاف بين عثمان ومن معه من الصحابة بالمدينة و نقموا عليهامتناعه من العزل فأبى إلا أن يكون على جرحة ثم نقلوا النكير إلى غير ذلك من أفعالهو هو متمسك بالاجتهاد و هم أيضاً كذلك ثم تجمع قوم من الغوغاء وجاءوا إلى المدينةيظهرون طلب النصفة من عثمان و هم يضمرون خلاف ذلك من قتله و فيهم من البصرة والكوفة و مصر وقام معهم في ذلك علي و عائشة و الزبير و طلحة و غيرهم يحاولون تسكينالأمور و رجوع عثمان إلى رأيهم و عزل لهم عامل مصر فانصرفوا قليلاً ثم رجعوا و قدلبسوا بكتاب مدلس يزعمون أنهم لقوة في يد حامله إلى عامل مصر بأن يقتلهم و حلفعثمان على ذلك فقالوا مكنا من مروان فإنه كاتبك فحلف مروان فقال ليس في الحكم أكثرمن هذا فحاصروه بداره ثم بيتوه على حين غفلة من الناس و قتلوه وانفتح باب الفتنةفلكل من هؤلاء عذر فيما وقع و كلهم كانوا مهتمين بأمر الدين ولا يضيعون شيئاً منتعلقاته.
ثم نظروا بعد هذا الواقع و اجتهدوا و الله مطلع على أحوالهم و عالمبهم و نحن لا نظن بهم إلا خيراً لما شهدت به أحوالهم و مقالات الصادق فيهم و أماالحسين فإنه لما ظهر فسق يزيد عند الكافة من أهل عصره بعثت شيعة أهل البيت بالكوفةللحسين أن يأتيهم فيقوموا بأمره فرأى الحسين أن الخروج على يزيد متعين من أجل فسقهلا سيما من له القدرة على ذلك و ظنها من نفسه بأهليته و شوكته فأما الأهلية فكانتكما ظن و زيادة و أما الشوكة فغلط يرحمه الله فيها لأن عصبية مضر كانت في قريش وعصبية عبد مناف إنما كانت في بني أمية تعرف ذلك لهم قريش و سائر الناس و لا ينكرونهو إنما نسي ذلك أول الإسلام لما شغل الناس من الذهول بالخوارق و أمر الوحي و ترددالملائكة لنصرة المسلمين فأغفلوا أمور عوائدهم و ذهبت عصبية الجاهلية و منازعها ونسيت و لم يبق إلا العصبية الطبيعية في الحماية و الدفاع ينتفع بها في إقامة الدينو جهاد المشركين و الدين فيها محكم و العادة معزولة حتى إذا انقطع أمر النبؤة والخوارق المهولة تراجع الحكم بعض الشيء للعوائد فعادت العصبية كما كانت و لمن كانتو أصبحت مصر أطوع لبني أمية من سواهم بما كان لهم من ذلك قبل فقد تبين لك غلطالحسين إلا أنه في أمر دنيوي لا يضره الغلط فيه و أما الحكم الشرعي فلم يغلط فيهلأنه منوط بظنه و كان ظنه القدرة على ذلك و لقد عذله ابن العباس و ابن الزبير و ابنعمر و ابن الحنفية أخوه و غيره في مسيره إلى الكوفة و علموا غلطه في ذلك و لم يرجععما هو بسبيله لما أراده الله.
و أما غير الحسين من الصحابة الذين كانوابالحجاز و مع يزيد بالشام والعراق و من التابعين لهم فرأوا أن الخروج على يزيد و إنكان فاسقاً لا يجوز لما ينشأ عنه من الهرج و الدماء فأقصروا عن ذلك و لم يتابعواالحسين و لا أنكروا عليه و لا أثموه لأنه مجتهد و هو أسوة المجتهدين و لا يذهب بكالغلط أن تقول بتأثيم هؤلاء بمخالفة الحسين و قعودهم عن نصره فإنهم أكثر الصحابة وكانوا مع يزيد و لم يروا الخروج عليه و كان الحسين يستشهد بهم و هو بكربلاء علىفصله و حقه و يقول سلوا جابر بن عبد الله و أبا سعيد الخدري و أنس بن مالك و سهل بنسعيد و زيد بن أرقم و أمثالهم و لم ينكر عليهم قعودهم عن نصره و لا تعرض لذلك لعلمهأنه عن اجتهاد و إن كان هو على اجتهاد و يكون ذلك كما يحدالشافعيوالمالكيوالحنفيعلى شرب النبيذ و اعلم أن الأمر ليس كذلك و قتاله لميكن عن اجتهاد هؤلاء و إن كان خلافه عن اجتهادهم و إنما انفرد بقتاله يزيد و أصحابهو لا تقولن إن يزيد و إن كان فاسقاً و لم يجز هؤلاء الخروج عليه فأفعاله عندهمصحيحة و اعلم أنه إنما ينفذ من أعمال الفاسق ما كان مشروعاً و قتال البغاة عندهم منشرطه أن يكون مع الإمام العادل و هو مفقود في مسئلتنا فلا يجوز قتال الحسين مع يزيدو لا ليزيد بل هي من فعلاته المؤكدة لفسقه و الحسين فيها شهيد مثاب و هو على حق واجتهاد و الصحابة الذين كانوا مع يزيد على حق أيضاً و اجتهاد و قد غلط القاضيأبو بكر بن العربي المالكيفي هذا فقال في كتابه الذي سماهبالعواصم و القواصمما معناه:
إن الحسين قتل بشرعجده و هو غلط حملته عليه الغفلة عن اشتراط الإمام العادل و من أعدل من الحسين فيزمانه في إمامته و عدالته في قتال أهل الآراء و أما ابن الزبير فإنه رأى في منامهما رآه الحسين و ظن كما ظن و غلطه في أمر الشوكة أعظم لأن بني أسد لا يقاومون بنيأمية في جاهلية و لا إسلام. و القول بتعين الخطاء في جهة مخالفة كما كان في جهةمعاوية مع علي لا سبيل إليه. لأن الإجماع هنالك قضى لنا به و لم نجده ها هنا. وأما يزيد فعين خطأه فسقه. و عبد الملك صاحب ابن الزبير أعظم الناس عدالة و ناهيكبعدالته احتجاج مالك بفعله و عدول ابن عباس و ابن عمر إلى بيعته عن ابن الزبير و هممعه بالحجاز مع أن الكثير من الصحابة كانوا يرون أن بيعة ابن الزبير لم تنعقد لأنهلم يحضرها أهل العقد و الحل كبيعة مروان و ابن الزبير على خلاف ذلك و الكل مجتهدونمحمولون على الحق في الظاهر و إن لم يتعين في جهة منهما و القتل الذي نزل به بعدتقرير ما قررناه يجيء على قواعد الفقه و قوانينه مع أنه شهيد مثاب باعتبار قصده وتحريه الحق هذا هو الذي ينبغي أن تحمل عليه أفعال السلف من الصحابة و التابعين فهمخيار الأمة و إذا جعلناهم عرضة للقدح فمن الذي يختص بالعدالة و النبي صلى الله عليهو سلم يقول:خير الناس قرنيثم الذين يلونهم مرتين أوثلاثاً ثم يفشو الكذب فجعل الخيرة و هي العدالة مختصة بالقرن الأول و الذي يليهفإياك أن تعود نفسك أو لسانك التعرض لأحد منهم و لا يشوش قلبك بالريب في شيء مماوقع مهم و التمس لهم مذاهب الحق و طرقه ما استطعت فهم أولى الناس بذلك و ما اختلفواإلا عن بينة و ما قاتلوا أو قتلوا إلا في سبيل جهاد أو إظهار حق واعتقد مع ذلك أناختلافهم رحمة لمن بعدهم من الأمة ليقتدي كل واحد بمن يختاره منهم و يجعله إمامه وهادية و دليله فافهم ذلك و تبين حكمه الله في خلقه و أكوانه و اعلم أنه على كل شيءقدير و إليه الملجأ و المصير و الله تعالى أعلم.
الفصل الحادي و الثلاثون في الخطط الدينية الخلافية
لما تبين أن حقيقة الخلافةنيابة عن صاحب الشرع في حفظ الدين و سياسة الدنيا فصاحب الشرع متصرف في الأمرين أمافي الدين فبمقتضى التكاليف الشرعية الذي هو مأمور بتبليغها و حمل الناس عليها و أماسياسة الدنيا فبمقتضى رعايته لمصالحهم في العمران البشري و قد قدمنا أن هذا العمرانضروري للبشر و أن رعاية مصالحه كذلك لئلا يفسد إن أهملت و قدمنا أن الملك و سطوتهكاف في حصول هذه المصالح.
نعم إنما تكون أكمل إذا كانت بالأحكام الشرعية لأنهأعلم بهذه المصالح فقد صار الملك يندرج تحت الخلافة إذا كان إسلاميا و يكون منتوابعها و قد ينفر إذا كان في غير الملة و له على كل حال مراتب خادمة و وظائف تابعةتتعين خططاً و تتوزع على رجال الدولة وظائف فيقوم كل واحد بوظيفته حسبما يعينهالملك الذي تكون يده عاليةً عليهم فيتم بذلك أمره و يحسن قيامه بسلطانه و أماالمنصب الخلافي و إن كان الملك يندرج تحته بهذا الاعتبار الذي ذكرناه فتصرفه الدينييخص بخطط و مراتب لا تعرف إلا للخلفاء الإسلاميين فلنذكر الآن الخطط الدينيةالمختصة بالخلافة و نرجع إلى الخطط الملوكية السلطانية.
فاعلم أن الخططالدينية الشرعية من الصلاة و الفتيا و لقضاء و الجهاد و الحسبة كلها مندرجة تحتالإمامة الكبرى التي هي الخلافة فكأنها الإمام الكبير و الأصل الجامع و هذه كلهامتفرعة عنها و داخلة فيها لعموم نظر الخلافة وتصرفها في سائر أحوال الملة الدينية والدنيوية و تنفيذ أحكام الشرع فيها على العموم.
فأما إمامة الصلاة فهي أرفعهذه الخطط كلها و أرفع من الملك بخصوصه المندرج معها تحت الخلافة. و لقد يشهد لذلكاستدلال الصحابة في شأن أبي بكر رضي الله عنه باستخلافه في الصلاة على استخلافه فيالسياسة في قولهم ارتضاه رسول الله صلى الله عليه و سلم لديننا أفلا نرضاه لدنيانا؟ فلولا أن الصلاة أرفع من السياسة لما صح القياس و إذا ثبت ذلك فاعلم أن المساجدفي المدينة صنفان مساجد عظيمة كثيرة الغاشية معدة للصلوات المشهودة. و أخرى دونهامختصة بقوم أو محلة وليست للصلوات العامة فأما المساجد العظيمة فأمرها راجع إلىالخليفة أو من يفوض إليه من سلطان أو من وزير أو قاض فينصب لها الإمام في الصلواتالخمس و الجمعة و العيدين و الخسوفين و الاستسقاء و تعين ذلك إنما هو من طريقالأولى و الاستحسان و لئلاً يفتات الرعايا عليه في شيء من النظر في المصالح العامةوقد يقول بالوجوب في ذلك من يقول بوجوب إقامة الجمعة فيكون نصب الإمام لها عندهواجباً و أما المساجد المختصة بقوم أو محلة فأمرها راجع إلى الجيران و لا تحتاج إلىنظر خليفة و لا سلطانا و أحكام هذه الولاية و شروطها و المولى فيها معروفة في كتبالفقه و مبسوطة في كتبالأحكام السلطانيةللماورديو غيره فلا نطول بذكرها و لقد كان الخلفاء الأولون لايقلدونها لغيرهم من الناس. و انظر من طعن من الخلفاء في المسجد عند الأذان بالصلاةو ترصدهم لذلك في أوقاتها. يشهد لك ذلك بمباشرتهم لها و أنهم لم يكونوا مستخلفينفيها. و كذا كان رجال الدولة الأموية من بعدهم استئثاراً بها و استعظاماً لرتبتها.
يحكى عن عبد الملك أنه قال لحاجبه قد جعلت لك حجابهً يأبى إلا عن ثلاثة صاحبالطعام فإنه يفسد بالتأخير و الأذان بالصلاة فإنه داع إلى الله و البريد فال فيتأخيره فساد القاصية فلما جاءت طبيعة الملك و عوارضه من الغلظة و الترفع عن مساواةالناس في دينهم و دنياهم استنابوا في الصلاة فكانوا يستأثرون بها في الأحيان و فيالصلوات العامة كالعيدين و الجمعة إشارةً و تنويهاً فعل ذلك كثير من خلفاء بنيالعباس و العبيديين صدر دولتهم.
و أما الفتيا فللخليفة تصفح أهل العلم والتدريس و رد الفتيا إلى من هو أهل لها وإعانته على ذلك و منع من ليس أهلا لها وزجره لأنها من مصالح المسلمين في أديانهم فتجب عليه مراعاتها لئلا يتعرض لذلك منليس له بأهل فيضل الناس. وللمدرس الانتصاب لتعليم العلم و بثه و الجلوس لذلك فيالمساجد فإن كانت من المساجد العظام التي للسلطان الولاية عليها و النظر في أئمتهاكما مر فلا بد من استئذانه في ذلك و إن كانت من مساجد العامة فلا يتوقف ذلك. علىإذن. على أنه ينبغي أن يكون لكل أحد من المفتين و المدرسين زاجر من نفسه يمنعه عنالتصدي لما ليس له بأهل فيضل به المستهدي و يضل به المسترشد و في الأثر أجراكم علىالفتيا أجراكم على جراثيم جهنم فللسلطان فيهم لذلك من النظر ما توجبه المصلحة منإجازة أو رد.
و أما القضاء فهو من الوظائف الداخلة تحت الخلافة لأنه منصبالفصل بين الناس في الخصومات حسماً للتداعي و قطعاً للتنازع إلا أنه بالأحكامالشرعية المتلقاة من الكتاب و السنة، فكان لذلك من وظائف الخلافة و مندرجاً فيعمومها و كان الخلفاء في صدر الإسلام يباشرونه بأنفسهم و لا يجعلون القضاء إلى منسواهم. و أول من دفعه إلى غيره و فوضه فيه عمر رضي الله عنه فولى أبا الدرداء معهبالمدينة و ولى شريحاً بالبصرة و ولى أبا موسى الأشعري بالكوفة و كتب له في ذلكالكتاب المشهور الذي تدور عليه أحكام القضاة و هي مستوفاة فيه يقول أما بعد: فإنالقضاء فريضة محكمة و سنة متبعة فافهم إذا أدلي إليك فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذله و آس بين الناس في وجهك و مجلسك و عدلك حتى لا يطمع شريف في حيفك و لا ييأس ضعيفمن عدلك البينة على من ادعى و اليمين على من أنكر. و الصلح جائز بين المسلمين إلاصلحاً أحل حراماً أو حرم حلالاً و لا يمنعك قضاء قضيته أمس فراجعت اليوم فيه عقلك وهديت فيه لرشدك أن ترجع إلى الحق فإن الحق قديم و مراجعة الحق خير من التمادي فيالباطل الفهم الفهم فيما يتلجلج في صدرك مما ليس في كتاب و لا سنة ثم اعرف الأمثالو الأشباه و قس الأمور بنظائرها و اجعل لمن ادعى حقاً غائباً أو بينةً أمداً ينتهيإليه فإن أحضر بينته أخذت له بحقه و إلا استحللت القضاء عليه فإن ذلك أنفى للشك وأجلى للعمى. المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلوداً في حد أو مجرى عليه شهادةزور أو ظنيناً في نسب أو ولاء، فإن الله سبحانه عفا عن الإيمان و درأ بالبينات. وإياك و القلق و الضجر و التأفف بالخصوم فإن استقرار الحق في مواطن الحق يعظم اللهبه الأجر و يحسن به الذكر و السلام.
انتهى كتاب عمر و إنما كانوا يقلدونالقضاء لغيرهم و إن كان مما يتعلق بهم لقيامهم بالسياسة العامة و كثرة أشغالها منالجهاد و الفتوحات و سد الثغور وحماية البيضة، و لم يكن ذلك مما يقوم به غيرهملعظم العناية فاستحقوا القضاء في الواقعات بين الناس و استخلفوا فيه من يقوم بهتخفيفاً على أنفسهم و كانوا مع ذلك إنما يقلدونه أهل عصبيتهم بالنسب أو الولاء و لايقلدونه لمن بعد عنهم في ذلك. و أما أحكام هذا المنصب و شروطه فمعروفة في كتبالفقه و خصوصاً كتب الأحكام السلطانية. إلا أن القاضي إنما كان له في عصر الخلفاءالفصل بين الخصوم فقط ثم دفع لهم بعد ذلك أمور أخرى على التدريج بحسب اشتغالالخلفاء و الملوك بالسياسة الكبرى و استقر منصب القضاء آخر الأمر على أنه يجمع معالفصل بين الخصوم استيفاء بعض الحقوق العامة للمسلمين بالنظر في أموال المحجورعليهم من المجانين و اليتامى و المفلسين و أهل السفه و في وصايا المسلمين و أوقافهمو تزويج الأيامى عند فقد الأولياء على رأي من رآه و النظر في مصالح الطرقات والأبنية و تصفح الشهود و الأمناء و النواب و استيفاء العلم و الخبرة فيهم بالعدالةو الجرح ليحصل له الوثوق بهم و صارت هذه كلها من تعلقات وظيفته و توابع ولايته. وقد كان الخلفاء من قبل يجعلون للقاضي النظر في المظالم و هي وظيفة ممتزجة من سطوةالسلطنة و نصفة القضاء و تحتاج إلى علو يد و عظيم رهبة تقمع الظالم من الخصمين وتزجر المتعدي و كأنه يمضي ما عجز القضاة أو غيرهم عن إمضائه و يكون نظره في البيناتو التقرير و اعتماد الأمارات و القرائن و تأخير الحكم إلى استجلاء الحق و حملالخصمين على الصلح و استحلاف الشهود و ذلك أوسع من نظر القاضي.
و كان الخلفاءالأولون يباشرونها بأنفسهم إلى أيام المهتدي من بني العباس و ربما كانوا يجعلونهالقضاتهم كما فعل عمر رضي الله عنه مع قاضيه أبي أدريس الخولاني و كما فعله المأمونليحيى بن أكثم و المعتصم لأحمد بن أبي داود و ربما كانوا يجعلون للقاضي قيادةالجهاد في عساكر الطوائف و كان يحيى بن أكثم يخرج أيام المأمون بالطائفة إلى أرضالروم و كذا منذر بن سعيد قاضي عبد الرحمن الناصر من بني أمية بالأندلس فكانت توليههذه الوظائف إنما تكون للخلفاء أو من يجعلون ذلك له من وزير مفوض أو سلطان متغلب.و كان أيضاً النظر في الجرائم و إقامة الحدود في الدولة العباسية و الأمويةبالأندلس و العبيديين بمصر و المغرب راجعاً إلى صاحب الشرطة و هي وظيفة أخرى دينيةكانت من الوظائف الشرعية في تلك الدول توسع النظر فيها عن أحكام القضاء قليلاًفيجعل للتهمة في الحكم مجالاً و يفرض العقوبات الزاجرة قبل ثبوت الجرائم و يقيمالحدود الثابتة في مالها و يحكم في القود و القصاص و يقيم التعزيز و التأديب في حقمن لم ينته عن الجريمة.
ثم تنوسي شأن هاتين الوظيفتين في الدول التي تنوسيفيها أمر الخلافة فصار أمر المظالم راجعاً إلى السلطان كان له تفويض من الخليفة أولم يكن و انقسمت وظيفة الشرطة قسمين منها وظيفة التهمة على الجرائم و إقامة حدودهاو مباشرة القطع و القصاص حيث يتعين و نصب لذلك في هذه الدول حاكم يحكم فيها بموجبالسياسة دون مراجعة الأحكام الشرعية و يسمى تارةً باسم الوالي و تارةً باسم الشرطةو بقي قسم التعازير و إقامة الحدود في الجرائم الثابتة شرعاً فجمع ذلك للقاضي مع ماتقدم و صار ذلك من توابع وظيفة ولايته و استقر الأمر لهذا العهد على ذلك و خرجت هذهالوظيفة عن أهل عصبية الدولة لأن الأمر لما كان خلافةً دينيةً و هذه الخطة من مراسمالدين فكانوا لا يولون فيها إلا من أهل عصبيتهم من العرب و مواليهم بالحلف أو بالرقأو بالاصطناع ممن يوثق بكفايته أو غنائه فيما يدفع إليه، و لما انقرض شأن الخلافةو طورها و صار الأمر كله ملكاً أو سلطانا صارت هذه الخطط الدينية بعيدة عنه بعضالشيء لأنها ليست من ألقاب الملك و لا مراسمه ثم خرج الأمر جملة من العرب و صارالملك لسواهم من أمم الترك و البربر فازدادت هذه الخطط الخلافية بعداً عنهم بمنحاهاوعصبيتها. و ذلك أن العرب كانوا يرون أن الشريعة دينهم و هل النبي صلى الله عليه وسلم منهم و أحكامه و شرائعه نحلتهم بين الأمم و طريقهم، و غيرهم لا يرون ذلك إنمايولونها جانباً من التعظيم لما دانوا بالملة فقط. فصاروا يقلدونها من غير عصابتهمممن كان تأهل لها في دول الخلفاء السالفة.
و كان أولئك المتأهلون بما أخذهمترف الدول منذ مئتين من السنين قد نسوا عهد البداوة و خشونتها و التبسوا بالحضارةفي عوائد ترفهم و دعتهم، و قلة الممانعة عن أنفسهم، و صارت هذه الخطط في الدولالملوكية من بعد الخلفاء مختصةً بهذا الصنف من المستضعفين في أهل الأمصار و نزلأهلها عن مراتب العز لفقد الأهلية بأنسابهم و ما هم عليه من الحضارة فلحقهم منالاحتقار ما لحق الحضر المنغمسين في الترف و الدعة، البعداء عن عصبية الملك الذينهم عيال على الحامية، و صار اعتبارهم في الدولة من أجل قيامها بالملة و أخذهابأحكام الشريعة، لما أنهم الحاملون للأحكام المقتدون بها. و لم يكن إيثارهم فيالدولة حينئذ إكراماً لذواتهم، و إنما هو لما يتلمح من التجمل بمكانهم في مجالسالملك لتعظيم الرتب الشرعية، و لم يكن لهم فيها من الحل و العقد شيء، و أن حضروهفحضور رسمي لا حقيقة وراءه، إذ حقيقة الحل و العقد إنما هي لأهل القدرة عليه فمنلا قدرة له عليه فلا حل له و لا عقد لديه. اللهم إلا أخذ الأحكام الشرعية عنهم، وتلقي الفتاوى منهم فنعم و الله الموفق. و ربما يظن بعض الناس أن الحق فيما وراءذلك و أن فعل الملوك فيما فعلوه من إخراج الفقهاء و القضاة من الشورى مرجوح و قدقال صلى الله عليه و سلم:العلماء ورثة الأنبياءفاعلم أنذلك ليس كما ظنه و حكم الملك و السلطان إنما يجري على ما تقتضيه طبيعة العمران وإلا كان بعيداً عن السياسة. فطبيعة العمران في هؤلاء لا تقضي لهم شيئاً من ذلك لأنالشورى و الحل و العقد لا تكون إلا لصاحب عصبية يقتدر بها على حل أو عقد أو فعل أوترك، و أما من لا عصبية له و لا يملك من أمر نفسه شيئاً و لا من حمايتها و إنما هوعيال على غيره فأي مدخل له في الشورى أو أي معنى يدعو إلى اعتباره فيها اللهم إلاشوراه فيما يعلمه من الأحكام الشرعية فموجودة في الاستفتاء خاصة. و أما شوراه فيالسياسة فهو بعيد عنها لفقدانه العصبية و القيام على معرفة أحوالها وأحكامها و إنماإكرامهم من تبرعات الملوك و الأمراء الشاهدة لهم بجميل الاعتقاد في الدين و تعظيممن ينتسب إليه بأي جهة انتسب و أما قوله صلى الله عليه و سلمالعلماء ورثة الأنبياءفاعلم أن الفقهاء في الأغلب لهذا العهد وما احتف به إنما حملوا الشريعة أقوالاً في كيفية الأعمال في العبادات و كيفيةالقضاء في المعاملات ينصونها على من يحتاج إلى العمل بها هذه غاية أكابرهم و لايتصفون إلا بالأقل منها و في بعض الأحوال و السلف رضوان الله عليهم و أهل الدين والورع من المسلمين حملوا الشريعة اتصافاً بها و تحققاً بمذاهبها. فمن حملهااتصافاً و تحققاً دون نقل فهو من الوارثين مثل أهل رسالة القشيري و من اجتمع لهالأمران فهو الوارث على الحقيقة مثل فقهاء التابعين و السلف و الأئمة الأربعة و مناقتفى طريقهم و جاء على أثرهم و إذا انفرد واحد من الأمة بأحد الأمرين فالعابد أحقبالوراثة من الفقيه الذي ليس بعابد لأن العابد ورث بصفة و الفقيه الذي ليس بعابد لميرث شيئاً إنما هو صاحب أقوال بنصها علينا في كيفيات العمل و هؤلاء أكثر فقهاءعصرناإلا الذين آمنوا و عملوا الصالحات و قليل ما هم.
العدالة: و هي وظيفة دينية تابعة للقضاء و من مواد تصريفه و حقيقة هذه الوظيفةالقيام عن إذن القاضي بالشهادة بين الناس فيما لهم و عليهم تحملاً عند الإشهاد وأداء عند التنازع و كتباً في السجلات تحفظ به حقوق الناس و أملاكهم و ديونهم و سائرمعاملاتهم و شرط هذه الوظيفة الاتصاف بالعدالة الشرعية و البراءة من الجرح ثمالقيام بكتب السجلات و العقود من جهة عباراتها و انتظام فصولها و من جهة إحكامشروطها الشرعية و عقودها فيحتاج حينئذ إلى ما يتعلق بذلك من الفقه و لأجل هذهالشروط و ما يحتاج إليه من المران على ذلك و الممارسة له اختص ذلك ببعض العدول وصار الصنف القائمون به كأنهم مختصون بالعدالة و ليس كذلك و إنما العدالة من شروطاختصاصهم بالوظيفة و يجب على القاضي تصفح أحوالهم و الكشف عن سيرهم رعاية لشرطالعدالة فيهم و أن لا يهمل ذلك لما يتعين عليه من حفظ حقوق الناس فالعهدة عليه فيذلك كله و هو ضامن دركه و إذا تعين هؤلاء لهذه الوظيفة عمت الفائدة في تعبين منتخفى عدالته على القضاة بسبب اتساع الأمصار و اشتباه الأحوال و اضطرار القضاة إلىالفصل بين المتنازعين بالبينات الموثوقة فيعولون غالباً في الوثوق بها على هذاالصنف و لهم في سائر الأمصار دكاكين و مصاطب يختصون بالجلوس عليها فيتعاهدهم أصحابالمعاملات للإشهاد و تقييده بالكتاب و صار مدلول هذه اللفظة مشتركاً بين هذهالوظيفة التي تبين مدلولها و بين العدالة الشرعية التي هي أخت الجرح و قد يتواردانو يفترقان و الله تعالى أعلم.
رد مع اقتباس
  #9  
قديم 01-09-2012, 10:34 PM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,413
افتراضي

المقصورة للصلاة و الدعاء في الخطبة
و هما من الأمور الخلافية و من شارات الملك الإسلامي و لم يعرف في غير دول الإسلام. فأما البيت المقصورة من المسجد لصلاة السلطان فيتخذ سياجاً على المحراب فيحوزه و ما يليه فأول من اتخذها معاوية بن أبي سفيان حين طعنه الخارجي و القصة معروفة و قيل أول من اتخذها مروان بن الحكم حين طعنه اليماني ثم اتخذها الخلفاء من بعدهما و صارت سنة في تمييز السلطان عن الناس في الصلاة و هي إنما تحدث عند حصول الترف في الدول و الاستفحال شأن أحوال الأبهة كلها و ما زال الشأن ذلك في الدول الإسلامية كلها، و عند افتراق الدولة العباسية و تعدد الدول بالمشرق و كذا بالأندلس عند انقراض الدولة الأموية و تعدد ملوك الطوائف و أما المغرب فكان بنو الأغلب يتخذونها بالقيروان ثم الخلفاء العبيديون ثم ولاتهم على المغرب من صنهاجة بنو باديس بفاس و بنو حماد بالقلعة ثم ملك الموحدين سائر المغرب و الأندلس و محوا ذلك الرسم على طريقة البداوة التي كانت شعارهم و لما استفحلت الدولة و أخذت بحظها من الترف و جاء أبو يعقوب المنصور ثالث ملوكهم فاتخذ هذه المقصورة و بقيت من بعده سنة لملوك المغرب و الأندلس و هكذا كان الشأن في سائر الدول سنة الله في عباده.
و أما الدعاء على المنابر في الخطبة فكان الشأن أولاً عند الخلفاء ولاية الصلاة بأنفسهم فكانوا يدعون لذلك بعد الصلاة على النبي صلى الله عليه و سلم و الرضى عن أصحابه و أول من اتخذ المنبر عمرو بن العاص لما بنى جامعه بمصر و أول من دعا للخليفة على المنبر ابن عباس دعا لعلي رضي الله عنهما في خطبته. و هو بالبصرة عامل له عليها فقال اللهم انصر علياً على الحق و اتصل العمل على ذلك فيما بعد و بعد أخذ عمرو بن العاص المنبر بلغ عمر بن الخطاب ذلك فكتب إليه عمر بن الخطاب أما بعد فقد بلغني أنك اتخذت منبراً ترقى به على رقاب المسلمين أو ما يكفيك أن تكون قائماً و المسلمون تحت عقبيك فعزمت عليك إلا ما كسرته فلما حدثت الأبهة و حدث في الخلفاء المانع من الخطبة و الصلاة استنابوا فيهما فكان الخطيب يشيد بذكر الخليفة على المنبر تنويهاً باسمه و دعاءً له بما جعل الله مصلحة العالم فيه و لأن تلك الساعة مظنة للإجابة و لما ثبت عن السلف في قولهم من كانت له دعوة صالحة فليضعها في السلطان و كان الخليفة يفرد بذلك فلما جاء الحجر و الاستبداد صار المتغلبون على الدول كثيراً ما يشاركون الخليفة في ذلك و يشاد باسمهم عقب اسمه و ذهب ذلك بذهاب تلك الدول و صار الأمر إلى اختصاص السلطان بالدعاء له على المنبر دون من سواه و حظر أن يشاركه فيه أحد أو يسمو إليه و كثيراً ما يغفل المعاهدون من أهل الدول هذا الرسم عندما تكون الدولة في أسلوب الغضاضة و مناحي البداوة في التغافل و الخشونة و يقنعون بالدعاء على الإبهام و الإجمال لمن ولي أمور المسلمين و يسمون مثل هذه الخطبة إذا كانت على هذا المنحى عباسية يعنون بذلك أن الدعاء على الإجمال إنما يتناول العباسي تقليداً في ذلك لما سلف من الأمر و لا يحفلون بما وراء ذلك من تعيينه و التصريح باسمه يحكى أن يغمراسن بن زيان عاهد دولة بني عبد الواد لما غلبه الأمير أبو زكريا يحيى بن أبي حفص على تلمسان ثم بدا له في إعادة الأمر إليه على شروط شرطها كان فيها ذكر اسمه على منابر عمله فقال يغمراسن تلك أعوادهم يذكرون عليها من شاءوا و كذلك يعقوب بن عبد الحق عاهد دولة بني مرين حضره رسول المستنصر الخليفة بتونس من بني أبي حفص و ثالث ملوكهم و تخلف بعض أيامه عن شهود الجمعة فقيل له لم يحضر هذا الرسول كراهية لخلو الخطبة من ذكر سلطانه فأذن في الدعاء له و كان ذلك سبباً لأخذهم بدعوته و هكذا شأن الدول في بدايتها و تمكنها في الغضاضة و البداوة فإذا انتبهت عيون سياستهم و نظروا في أعطاف ملكهم و استتموا شيات الحضارة و مفاني البذخ و الأبهة انتحلوا جميع هذه السمات و تفننوا فيها و تجاروا إلى غايتها و أنفوا من المشاركة فيها و جزعوا من افتقادها و خلو دولتهم من أثارها و العالم بستان و الله على كل شيء رقيب.
الفصل السابع و الثلاثون في الحروب و مذاهب الأمم و ترتيبها
اعلم أن الحروب و أنواع المقاتلة لم تزل واقعة في الخليقة منذ براها الله و أصلها إرادة انتقام بعض البشر من بعض و يتعصب لكل منها أهل عصبيه فإذا تذامروا لذلك و توافقت الطائفتان إحداهما تطلب الانتقام و الأخرى تدافع كانت الحرب و هو أمر طبيعي في البشر لا تخلو عنه أمة و لا جيل و سبب هذا الانتقام في الأكثر إما غيرة و منافسة. و إما عدوان و إما غضب لله ولدينه و أما غضب للملك و سعي في تمهيده فالأول أكثر ما يجري بين القبائل المتجاورة و العشائر المتناظرة و الثاني و هو العدوان أكثر ما يكون من الأمم الوحشية الساكنين بالقفر كالعرب و الترك و التركمان و الأكراد و أشباههم لأنهم جعلوا أرزاقهم في رماحهم و معاشهم فيما بأيدي غيرهم و من دافعهم عن متاعه آذنوه بالحرب و لا بغية لهم فيما وراء ذلك من رتبة و لا ملك و إنما همهم و نصب أعينهم غلب الناس على ما في أيديهم و الثالث هو المسمى في الشريعة بالجهاد و الرابع هو حروب الدول مع الخارجين عليها و المانعين لطاعتها فهذه أربعة أصناف من الحروب الصنفان الأولان منها حروب بغي و فتنة و الصنفان الأخيران حروب جهاد و عدل و صفة الحروب الواقعة بين أهل الخليقة منذ أول وجودهم على نوعين نوع بالزحف صفوفاً و نوع بالكر و الفر أما الذي بالزحف فهو قتال العجم كلهم على تعاقب أجيالهم و أما الذي بالكر و الفر فهو قتال العرب و البربر من أهل المغرب و قتال الزحف أوثق و أشد من قتال الكر و الفر و ذلك لأن قتال الزحف ترتب فيه الصفوف و تسوى كما تسوى القداح أو صفوف الصلاة و يمشون بصفوفهم إلى العدو قدماً، فلذلك تكون أثبت عند المصالح و أصدق في القتال و أرهب للعدو. لأنه كالحائط الممتد و القصر المشيد لا يطمع في إزالته و في التنزيل إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص أي يشد بعضهم بعضاً بالثبات و في الحديث الكريم المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضة بعضاً و من هنا يظهر لك حكمة إيجاب الثبات و تحريم التولي يوم الزحف فإن المقصود من الصف في القتال حفظ النظام كما قلناه فمن ولى العدو ظهره فقد أخل بالمصاف و باء بإثم الهزيمة إن وقعت و صار كأنه جرها على المسلمين و أمكن منهم عدوهم فعظم الذنب لعموم المفسدة و تعديها إلى الدين بخرق سياجه فعد من الكبائر و يظهر من هذه الأدلة أن قتال الزحف أشد عند الشارع و أما قتال الكر و الفر فليس فيه من الشدة و الأمن من الهزيمة ما في قتال الزحف إلا أنهم قد يتخذون وراءهم في القتال مصافاً ثابتاً يلجأون إليه في الكر و الفر و يقوم لهم مقام قتال الزحف كما نذكره بعد. ثم إن الدول القديمة الكثيرة الجنود المتسعة الممالك كانوا يقسمون الجيوش و العساكر أقساماً يسمونها كراديس و يسوون في كل كردوس صفوفه ذلك أنه لما كثرت جنودهم الكثرة البالغة و حشدوا من قاصية النواحي استدعى ذلك أن يجهل بعضهم بعضاً إذا اختلطوا في مجال الحرب و اعتوروا مع عدوهم الطعن و الضرب فيخشى من تدافعهم فيما بينهم لأجل النكراء و جهل بعضهم ببعض فلذلك كانوا يقسمون العساكر جموعاً و يضمون المتعارفين بعضهم لبعض و يرتبونها قريباً من الترتيب الطبيعي في الجهات الأربع و رئيس العساكر كلها من سلطان أو قائد في القلب و يسمون هذا الترتيب التعبئة و هو مذكور في أخبار فارس و الروم و الدولتين و صدر الإسلام فيجعلون بين يدي الملك عسكراً منفرداً بصفوفه متميزاً بقائده و رايته و شعاره و يسمونه المقدمة ثم عسكراً آخر ناحية اليمين عن موقف الملك و على سمته يسمونه الميمنة ثم عسكراً آخر من ناحية الشمال كذلك يسمونه الميسرة ثم عسكراً آخر من وراء العسكر يسمونه الساقة و يقف الملك و أصحابه في الوسط بين هذه الأربع و يسمون موقفه القلب فإذا تم لهم هذا الترتيب المحكم أما في مدى واحد للبصر أو على مسافة بعيدة أكثرها اليوم و اليومان بين كل عسكرين منها أو كيفما أعطاه حال العساكر في القلة و الكثرة فحينئذ يكون الزحف من بعد هذه التعبئة و انظر ذلك في أخبار الفتوحات و أخبار الدولتين بالمشرق و كيف كانت العساكر لعهد عبد الملك تتخلف عن رحيله لبعد المدى في التعبئة فاحتيج لمن يسوقها من خلفه و عين لذلك الحجاج بن يوسف كما أشرنا إليه و كما هو معروف في أخباره و كان في الدولة الأموية بالأندلس أيضاً كثير منه و هو مجهول فيما لدينا لأنا إنما أدركنا دولاً قليلة العساكر لا تنتهي في مجال الحرب إلى التناكر بل أكثر الجيوش من الطائفتين معاً يجمعهم لدينا حلة أو مدينة و يعرف كل واحد منهم قرنة و يناديه في حومة الحرب باسمه و لقبه فاستغنى عن تلك التعبئة.
و من مذاهب أهل الكر و الفر في الحروب ضرب المصاف وراء عسكرهم من الجمادات و الحيوانات العجم فيتخذونها ملجأً للخيالة في كرهم و فرهم يطلبون به ثبات المقاتلة ليكون أدوم للحرب و أقرب إلى الغلب و قد يفعله أهل الزحف أيضاً ليزيدهم ثباتاً و شدة فقد كان الفرس و هم أهل الزحف يتخذون الفيلة في الحروب و يحملون عليها أبراجاً من الخشب أمثال الصروح مشحونة بالمقاتلة و السلاح و الرايات و يصفونها وراءهم في حومة الحرب كأنها حصون فتقوى بذلك نفوسهم و يزداد وثوقهم و انظر ما وقع من ذلك في القادسية و إن فارس في اليوم الثالث اشتدوا بهم على المسلمين حتى اشتدت رجالات من العرب فخالطوهم و بعجوها بالسيوف على خراطيمها فنفرت و نكصت على أعقابها إلى مرابطها بالمدائن فجفا معسكر فارس لذلك و انهزموا في اليوم الرابع. و أما الروم و ملوك القوط بالأندلس و أكثر العجم فكانوا يتخذون لذلك الأسرة ينصبون للملك سريره في حومة الحرب و يحف به من خدمه و حاشيته و جنوده من هو زعيم بالاستماتة دونه و ترفع الرايات في أركان السرير و يحدق به سياج آخر من الرماة و الرجالة فيعظم هيكل السرير و يصير فئة للمقاتلة و ملجأ للكر و الفر و جعل ذلك الفرس أيام القادسية و كان رستم جالساً على سرير نصبه لجلوسه حتى اختلفت صفوف فارس و خالطه العرب في سريره ذلك فتحول عنه إلى الفرات و قتل. و أما أهل الكر و الفر من العرب و أكثر الأمم البدوية الرحالة فيصفون لذلك إبلهم و الظهر الذي يحمل ظعائنهم فيكون فئة لهم و يسمونها المجبوذة و ليس أمة من الأمم إلا و هي تفعل في حروبها و تراه أوثق في الجولة و آمن من الغرة و الهزيمة و هو أمر مشاهد و قد أغفلته الدول لعهدنا بالجملة و اعتاضوا عنه بالظهر الحامل للأثقال و الفساطيط يجعلونها ساقةً من خلفهم و لا تغني غناء الفيلة و الإبل فصارت العساكر بذلك عرضة للهزائم و مستشعرة للفرار في المواقف. و كان الحرب أول الإسلام كله زحفاً و كان العرب إنما يعرفون الكر و الفر لكن حملهم على ذلك أول الإسلام أمران أحدهما أن أعداءهم كانوا يقاتلون زحفاً فيضطرون إلى مقاتلتهم بمثل قتالهم. و الثاني أنهم كانوا مستميتين في جهادهم لما رغبوا فيه من الصبر، و لما رسخ فيهم من الإيمان و الزحف إلى الاستماتة أقرب. و أول من أبطل الصف في الحروب و صار إلى التعبئة كراديس مروان بن الحكم في قتال الضحاك الخارجي و الجبيري بعده قال الطبري لما ذكر قتال الجبيري فولى الخوارج عليهم شيبان بن عبد العزيز اليشكري و يلقب أبا الذلفاء قاتلهم مروان بعد ذلك بالكراديس و أبطل الصف من يومئذ انتهى. فتنوسي قتال الزحف بإبطال الصف ثم تنوسي الصف وراء المقاتلة بما داخل الدول من الترف و ذلك أنها حينما كانت بدوية و سكناهم الخيام كانوا يستكثرون من الإبل و سكنى النساء و الولدان معهم في الأحياء فلما حصلوا على ترف الملك و ألفوا سكنى القصور و الحواضر و تركوا شأن البادية و القفر نسوا لذلك عهد الإبل و الظعائن و صعب عليهم اتخاذها فخلفوا النساء في الأسفار وحملهم الملك و الترف على اتخاذ الفساطيط و الأخبية فاقتصروا على الظهر الحامل للأثقال و الأبنية و كان ذلك صفتهم في الحرب و لا يغني كل الغناء لأنه لا يدعو إلى الاستماتة كما يدعو إليها الأهل و المال فيخف الصبر من أجل ذلك و تصرفهم الهيعات و تخرم صفوفهم. و لما ذكرناه من ضرب المصاف وراء العساكر و تأكده في قتال الكر و الفر صار ملوك المغرب يتخذون طائفة من الإفرنج في جندهم و اختصوا بذلك لأن قتال أهل وطنهم كله بالكر و الفر و السلطان يتأكد في حقه ضرب المصاف ليكون ردءاً للمقاتلة أمامه فلا بد من أن يكون أهل ذلك الصف من قوم متعودين للثبات في الزحف و إلا أجفلوا على طريقة أهل الكر و الفر فانهزم السلطان و العساكر بإجفالهم فاحتاج الملوك بالمغرب أن يتخذوا جنداً من هذه الأمة المتعودة الثبات في الزحف و هم الإفرنج و يرتبون مصافهم المحدق بهم منها هذا على ما فيه من الاستعانة بأهل الكفر. و إنهم استخفوا ذلك للضرورة التي أريناكها من تخوف الإجفال على مصاف السلطان و الإفرنج لا يعرفون غير الثبات في ذلك لأن عادتهم في القتال الزحف فكانوا أقوم بذلك من غيرهم مع أن الملوك في المغرب إنما يفعلون ذلك عند الحرب مع أمم العرب و البربر و قتالهم على الطاعة و أما في الجهاد فلا يستعينون بهم حذراً من ممالاتهم على المسلمين هذا هو الواقع لهذا العهد و قد أ بدينا سببه و الله بكل شيء عليم. و بلغنا أن أمم الترك لهذا العهد قتالهم مناضلة بالسهام و إن تعبئة الحرب عندهم بالمصاف و أنهم يقسمون بثلاثة صفوف يضربون صفاً وراء صف و يترجلون عن خيولهم و يفرغون سهامهم بين أيديهم ثم يتناضلون جلوساً و كل صف ردء للذي أمامه أن يكبسهم العدو إلى أن يتهيأ النصر لإحدى الطائفتين على الأخرى و هي تعبئة محكمة غريبة. و كان من مذاهب الأول في حروبهم حفر الخنادق على معسكرهم عندما يتقاربون للزحف حذراً من معرة البيات و الهجوم على العسكر بالليل لما في ظلمته و وحشته من مضاعفة الخوف فيلوذ الجيش بالفرار و تجد النفوس في الظلمة ستراً من عاره فإذا تساووا في ذلك أرجف العسكر و وقعت الهزيمة فكانوا لذلك يحتفرون الخنادق على معسكرهم إذا نزلوا و ضربوا أبنيتهم و يديرون الحفائر نطاقاً عليهم من جميع جهاتهم حرصاً أن يخالطهم العدو بالبيات فيتخاذلوا. و كانت للدول في أمثال هذا قوة و عليه اقتدار باحتشاد الرجال و جمع الأيدي عليه في كل منزل من منازلهم بما كانوا عليه من وفور العمران و ضخامة الملك فلما خرب العمران و تبعه ضعف الدول و قلة الجنود و عدم الفعلة نسي هذا الشأن جملة كأنه لم يكن و الله خير القادرين. و انظر وصية علي رضي الله عنه و تحريضه لأصحابه يوم صفين تجد كثيراً من علم الحرب و لم يكن أحد أبصر بها منه قال في كلام له: فسووا صفوفكم كالبنيان المرصوص و قدموا الدارع و أخروا الحاسر و عضوا على الأضراس فإنه أنبى للسيوف عن الهام و التووا على أطراف الرماح فإنه أصون للأسنة و غضوا الأبصار فإنه أربط للجأش و أسكن للقلوب و اخفتوا الأصوات فإنه أطرد للفشل و أولى بالوقار و أقيموا راياتكم فلا تميلوها و لا تجعلوها إلا بأيدي شجعانكم و استعينوا بالصدق و الصبر فإنه بقدر الصبر ينزل النصر و قال الأشتر يومئذ يحرص الأزد: عضوا على النواجذ من الأضراس و استقبلوا القوم بهامكم و شدوا شدة قوم موتورين من يثأرون بآبائهم و إخوانهم حناقاً على عدوهم و قد وطنوا على الموت أنفسهم لئلا يسبقوا بوتر و لا يلحقهم في الدنيا عار و قد أشار إلى كثير من ذلك أبو بكر الصيرفي شاعر لمتونة و أهل الأندلس في كلمة يمدح بها تاشفين بن علي بن يوسف و يصف ثباته في حرب شهدها و يذكره بأمور الحرب في وصايا تحذيرات تنبهك على معرفة كثير من سياسة الحرب يقول فيها.
يا أيها الملأ الذي يتقنعمن منكم الملك الهمام الأروع
و من الذي غدر العدو به دجى فانفض كل و هو لا يتزعزع
تمضي الفوارس و الطعان يصدها عنه و يدمرها الوفاء فترجع
و الليل من وضح الترائك إنهصبح على هام الجيوش يلمع
أنى فزعتم يا بني صنهاجةو إليكم في الروع كان المفزع
إنسان عين لم يصبها منكمحضن و قلب أسلمته الأضلع
و صددتم عن تاشفين و إنهلعقابه لو شاء فيكم موضع
ما أنتم إلا أسود خفية كل لكل كريهة مستطلع
يا تاشفين أقم لجيشك عذرهبالليل و العذر الذي لا يدفع
و منها في سياسة الحرب
أهديك من أدب السياسة ما به كانت ملوك الفرس قبلك تولع
لا إنني أدري بها لكنها ذكرى تحض المؤمنين و تنفع
و البس من الحلق المضاعفة التي وصى بها صنع الصنائع تبع
و الهندواني الرقيق فإنهأمضى على حد الدلاص و أقطع
و اركب من الخيل السوابق عدة حصناً حصيناً ليس فيه مدفع
خندق عليك إذا ضربت محلة سيان تتبع ظافراً أو تتبع
و الواد لا تعبره و انزل عنده بين العدو و بين جيشك يقطع
و اجعل مناجزة الجيوش عشية و وراءك الصدق الذي هو أمنع
و إذا تضايقت الجيوش بمعرك ضنك فأطراف الرماح توشع
و اصدمه أول وهلة لا تكترث شيئاً فإظهار النكول يضعضع
و اجعل من الطلاع أهل شهامة للصدق فيهم شيمة لا تخدع
لا تسمع الكذاب جاءك مرجفاً لا رأي للكذاب فيما يصنع
قوله و اصدمه أول وهلة لا تكترث البيت مخالف لما عليه الناس في أمر الحرب فقد قال عمر لأبي عبيد بن مسعود الثقفي لما ولاه حرب فارس و العراق فقال له اسمع و أطع من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم و أشركهم في الأمر و لا تجيبن مسرعاً حتى تتبين فإنها الحرب و لا يصلح لها الرجل المكيث الذي يعرف الفرصة و الكف و قال له في أخرى: إنه لن يمنعني أن أؤمر سليطاً إلا سرعته في الحرب و في التسرع في الحرب إلا عن بيان ضياع و الله لولا ذلك لأمرته لكن الحرب لا يصلحها إلا الرجل المكيث هذا كلام عمر و هو شاهد بأن التثاقل في الحرب أولى من الخفوف حتى يتبين حال تلك الحرب و ذلك عكس ما قاله الصيرفي إلا أن يريد أن الصدم بعد البيان فله وجه و الله تعالى اعلم. و لا وثوق في الحرب بالظفر و إن حصلت أسبابه من العدة و العديد و إنما الظفر فيها و الغلب من قبيل البحث و الإتفاق و بيان ذلك أن أسباب الغلب في الأكثر مجتمعة من أمور ظاهرة و هي الجيوش و وفورها و كمال الأسلحة و استجادتها و كثرة الشجعان و ترتيب المصاف و منه صدق القتال و ما جرى مجرى ذلك و من أمور خفية و هي إما خداع البشر و حيلهم في الإرجاف و التشانيع التي يقع بها التخذيل و في التقدم إلى الأماكن المرتفعة ليكون الحرب من أعلى فيتوههم المنخفض لذلك و في الكمون في الغياض و مطمئن الأرض و التواري بالكدى حول العدو حتى يتداولهم العسكر دفعة و قد تورطوا فيتلفتون إلى النجاة و أمثال ذلك و إما أن تكون تلك الأسباب الخفية أموراً سماوية لا قدرة للبشر على اكتسابها تلقى في القلوب فيستولي الرهب عليهم لأجلها فتختل مراكزهم فتقع الهزيمة و أكثر ما تقع الهزائم عن هذه الأسباب الخفية لكثرة ما يعتمل لكل واحد من الفريقين فيها حرصاً على الغلب فلا بد من وقوع التأثير في ذلك لأحدهما ضرورة و لذلك قال صلى الله عليه و سلم: الحرب خدعة و من أمثال العرب رب حيلة أنفع من قبيلة فقد تبين أن وقوع الغلب في الحروب غالباً عن أسباب خفية غير ظاهرة و وقوع الأشياء عن الأسباب الخفية هو معنى البخت كما تقرر في موضعه فاعتبره و تفهم من وقع الغلب عن الأمور السماوية كما شرحناه معنى قوله صلى الله عليه و سلم: نصرت بالرعب مسيرة شهر و ما وقع من غلبه للمشركين في حياته بالعدد القليل و غلب المسلمين من بعده كذلك في الفتوحات فإن الله سبحانه و تعالى تكفل لنبيه بإلقاء الرعب في قلوب الكافرين حتى يستولي على قلوبهم فينهرموا معجزة لرسوله صلى الله عليه و سلم فكان الرعب في قلوبهم سبباً للهزائم في الفتوحات الإسلامية كلها أنه خفي عن العيون. و قد ذكر الطرطوشي: أن من أسباب الغلب في الحرب أن تفضل عدة الفرسان المشاهير من الشجعان في أحد الجانبين على عدتهم في الجانب الآخر مثل أن يكون أحد الجانبين فيه عشرة أو عشرون من الشجعان المشاهير و في الجالب الآخر ثمانية أو ستة عشر فالجانب الزائد و لو بواحد يكون له الغلب و أعاد في ذلك و أبدى و هو راجع إلى الأسباب الظاهرة التي قدمنا و ليس بصحيح. و إنما الصحيح المعتبر في الغلب حال العصبية أن يكون في أحد الجانبين عصبية واحدة جامعة لكلهم و في الجانب الآخر عصائب متعددة لأن العصائب إذا كانت متعددة يقع بينها من التخاذل ما يقع في الوحدان المتفرقين الفاقدين للعصبية تنزل كل عصابة منهم منزلة الواحد و يكون الجانب الذي عصابته متعددة لا يقاوم الجانب الذي عصبته واحدة لأجل ذلك فتفهمه و اعلم أنه أصح في الاعتبار مما ذهب إليه الطرطوشي و لم يحمله على ذلك إلا نسيان شأن العصبية في حلة و بلدة و أنهم إنما يرون ذلك الدفاع و الحماية و المطالبة إلى الوحدان و الجماعة الناشئة عنهم لا يعتبرون في ذلك عصبية و لا نسباً و قد بينا ذلك أول الكتاب مع أن هذا و أمثاله على تقدير صحته إنما هو من الأسباب الظاهرة مثل اتفاق الجيش في العدة و صدق القتال و كثرة الأسلحة و ما أشبهها فكيف يجعل ذلك كفيلاً بالغلب و نحن قد قررنا لك الآن أن شيئاً منها لا يعارض الأسباب الخفية من الحيل و الخداع و لا الأمور السماوية من الرعب و الخذلان الإلهي فافهمه و تفهم أحوال الكون و الله مقدر الليل و النهار. و يلحق بمعنى الغلب في الحروب و أن أسبابه خفية و غير طبيعية حال الشهرة و الصيت فقل أن تصادف موضعها في أحد من طبقات الناس من الملوك و العلماء و الصالحين و المنتحلين للفصائل على العموم و كثير ممن اشتهر بالشر و هو بخلافه و كثير ممن تجاوزت عنه الشهرة و هو أحق بها و أهلها و قد تصادف موضعها و تكون طبقاً على صاحبها و السبب في ذلك أن الشهرة و الصيت إنما هما بالإخبار و الإخبار يدخلها الذهول عن المقاصد عند التناقل و يدخلها التعصب و التشييع و يدخلها الأوهام و يدخلها الجهل بمطابقة الحكايات للأحوال لخفائها بالتلبيس و التصنع أو لجهل الناقل و يدخلها التقرب لأصحاب التجلة و المراتب الدنيوية بالثناء و المدح و تحسين الأحوال و إشاعة الذكر بذلك و النفوس مولعة بحب الثناء و الناس متطاولون إلى الدنيا و أسبابها من جاه أو ثروة و ليسوا من الأكثر براغبين في الفضائل و لا منافسين في أهلها و أين مطابقة الحق مع هذه كلها فتختل الشهرة عن أسباب خفية من هذه و تكون غير مطابقة و كل ما حصل بسبب خفي فهو الذي يعبر عنه بالبخت كما تقرر و الله سبحانه و تعالى أعلم و به التوفيق.

الفصل الثامن و الثلاثون في الجباية و سبب قلتها و كثرتها
إعلم أن الجباية أول الدولة تكون قليلة الوزائع كثيرة الجملة و آخر الدولة تكون كثيرة الوزائع قليلة الجملة و السبب في ذلك أن الدولة إن كانت على سنن الدين فليست تقتضي إلا المغارم الشرعية من الصدقات و الخراج و الجزية و هي قليلة الوزائع لأن مقدار الزكاة من المال قليل كما علمت و كذا زكاة الحبوب و الماشية و كذا الجزية و الخراج و جميع المغارم الشرعية و هي حدود لا تتعدى و إن كانت على سنن التغلب و العصبية فلا بد من البداوة في أولها كما تقدم و البداوة تقتضي المسامحة و المكارمة و خفض الجناح و التجافي عن أموال الناس و الغفلة عن تحصيل ذلك إلا في النادر فيقل لذلك مقدار الوظيفة الواحدة و الوزيعة التي تجمع الأموال من مجموعها و إذا قلت الوزائع و الوظائف على الرعايا نشطوا للعمل و رغبوا فيه فيكثر الاعتمار و يتزايد لحصول الاغتباط بقلة المغرم و إذا كثر الاعتمار كثرت أعداد تلك الوظائف و الوزائع فكثرت الجباية التي هي جملتها فإذا استمرت الدولة و اتصلت و تعاقب ملوكها واحداً بعد واحد و اتصفوا بالكيس و ذهب سر البداوة و السذاجة و خلقها من الإغضاء و التجافي و جاء الملك العضوض و الحضارة الداعية إلى الكيس و تخلق أهل الدولة حينئذ بخلق التحذلق و تكثرت عوائدهم و حوائجهم بسبب ما انغمسوا فيه من النعيم و الترف فيكثرون الوظائف و الوزائع حينئذ على الرعايا و الأكرة و الفلاحين و سائر أهل المغارم و يزيدون في كل وظيفة و وزيعة مقداراً عظيماً لتكثر لهم الجباية و يضعون المكوس على المبايعات و في الأبواب كما نذكر بعد ثم تتدرج الزيادات فيها بمقدار بعد مقدار لتدرج عوائد الدولة في الترف و كثرة الحاجات و الإنفاق بسببه حتى تثقل المغارم على الرعايا و تهضمهم و تصير عادة مفروضة لأن تلك الزيادة تدرجت قليلاً قليلاً و لم يشعر أحد بمن زادها على التعيين و لا من هو واضعها إنما ثبت على الرعايا في الاعتمار لذهاب الأمل من نفوسهم بقلة النفع إذا قابل بين نفعه و مغارمه و بين ثمرته و فائدته فتنقبض كثير من الأيدي عن الاعتمار جملة فتنقص جملة الجباية حينئذ بنقصان تلك الوزائع منها و ربما يزيدون في مقدار الوظائف إذا رأوا ذلك النقص في الجباية و يحسبونه جبراً لما نقص حتى تنتهي كل وظيفة و وزيعة إلى غاية ليس وراءها نفع و لا فائدة لكثرة الإنفاق حينئذ في الاعتمار و كثرة المغارم و عدم وفاء الفائدة المرجوة به فلا تزال الجملة في نقص و مقدار الوزائع و الوظائف في زيادة لما يفتقدونه من جبر الجملة بها إلى أن ينتقص العمران بذهاب الآمال من الاعتمار و يعود وبال ذلك على الدولة لأن فائدة الاعتمار عائدة إليها و إذا فهمت ذلك علمت إلى أقوى الأسباب في الاعتمار تقليل مقدار الوظائف على المعتمرين ما أمكن فبذلك تنبسط النفوس إليه لثقتها بإدراك المنفعة فيه و الله سبحانه و تعالى مالك الأمور كلها و بيده ملكوت كل شيء.

الفصل التاسع و الثلاثون في ضرب المكوس أواخر الدولة
إعلم أن الدولة تكون في أولها بدوية كما قلنا فتكون لذلك قليلة الحاجات يعدم الترف و عوائده فيكون خرجها و إنفاقها قليلاً فيكون في الجباية حينئذ وفاء بأزيد منها كثير عن حاجاتهم ثم لا تلبث أن تأخذ بدين الحضارة في الترف و عوائدها و تجري على نهج الدول السابقة قبلها فيكثر لذلك خراج أهل الدولة و يكثر خراج السلطان خصوصاً كثرة بالغة بنفقته في خاصته و كثرة عطائه و لا تفي بذلك الجباية فتحتاج الدولة إلى زيادة في الجباية لما تحتاج إليه الحامية من العطاء و السلطان من النفقة فيزيد في مقدار الوظائف و الوزائع أولاً كما قلناه ثم يزيد الخراج و الحاجات و التدريج في عوائد الترف و في العطاء للحامية و يدرك الدولة الهرم و تضعف عصابتها عن جباية الأموال من الأعمال و القاصية فتقل الجباية و تكثر العوائد و يكثر بكثرتها أرزاق الجند و عطاؤهم فيستحدث صاحب الدولة أنواعاً من الجباية يضربها على البياعات و يفرض لها قدراً معلوماً على الأثمان في الأسواق و على أعيان السلع في أموال المدينة و هو مع هذا مضطر لذلك بما دعاه إليه طرق الناس من كثرة العطاء من زيادة الجيوش و الحامية و ربما يزيد ذلك في أواخر الدولة زيادة بالغة فتكسد الأسواق لفساد الآمال و يؤذن ذلك باختلال العمران و يعود على الدولة و لا يزال ذلك يتزايد إلى أن تضمحل. و قد كان وقع منه بأمصار المشرق في أخريات الدولة العباسية و العبيدية كثير و فرضت المغارم حتى على الحاج في الموسم و أسقط صلاح الدين أيوب تلك الرسوم جملة و أعاضها بآثار الخير و كذلك وقع بالأندلس لعهد الطوائف حتى محى رسمه يوسف بن تاشفين أمير المرابطين و كذلك وقع بأمصار الجريد بإفريقية لهذا العهد حين استبد بها رؤساؤها و الله تعالى أعلم.

الفصل الأربعون في أن التجارة من السلطان مضرة بالرعايا و مفسدة للجباية
اعلم أن الدولة إذا ضاقت جبايتها بما قدمناه من الترف و كثرة العوائد و النفقات و قصر الحاصل من جبايتها على الوفاء بحاجاتها و نفقاتها و احتاجت إلى مزيد المال و الجباية فتارة توضع المكوس على بياعات الرعايا و أسواقهم كما قدمنا ذلك في الفصل قبله و تارة بالزيادة في ألقاب المكوس إن كان قد استحدث من قبل و تارة بمقاسمة العمال و الجباة و امتكاك عظامهم لما يرون أنهم قد حصلوا على شيء طائل من أموال الجباية لا يظهره الحسبان و تارة باستحداث التجارة و الفلاحة للسلطان على تسمية الجباية لما يرون التجار و الفلاحين يحصلون على الفوائد و الغلات مع يسارة أموالهم و أن الأرباح تكون على نسبة رؤوس الأموال فيأخذون في اكتساب الحيوان و النبات لاستغلاله في شراء البضائع والتعرض بها لحوالة الأسواق و يحسبون ذلك من إدرار الجباية و تكثير الفوائد و هو غلط عظيم و إدخال الضرر على الرعايا من وجوه متعددة فأولاً مضايقة الفلاحين و التجار في شراء الحيوان و البضائع و تيسير أسباب ذلك فإن الرعايا متكافئون في اليسار متقاربون و مزاحمة بعضهم بعضاً تنتهي إلى غاية موجودهم أو تقرب و إذا رافقهم السلطان في ذلك و ماله أعظم كثيراً منهم فلا يكاد أحد منهم يحصل على غرضه في شيء من حاجاته و يدخل على النفوس من ذلك غم و نكد ثم إن السلطان قد ينتزع الكثير من ذلك إذا تعرض له غضاً أو بأيسر ثمن أو لا يجد من يناقشه في شرائه فيبخس ثمنه على بائعه ثم إذا حصل فوائد الفلاحة و مغلها كله من زرع أو حرير أو عسل أو سكر أو غير ذلك من أنواع الغلات و حصلت بضائع التجارة من سائر الأنواع فلا ينتظرون به حوالة الأسواق و لا نفاق البياعات لما يدعوهم إليه تكاليف الدولة فيكلفون أهل تلك الأصنافى من تاجر أو فلاح بشراء تلك البضائع و لا يرضون في أثمانها إلا القيم و أزيد فيستوعبون في ذلك ناض أموالهم و تبقى تلك البضائع بأيديهم عروضاً جامدة و يمكثون عطلاً من الإدارة التي فيها كسبهم و معاشهم و ربما تدعوهم الضرورة إلى شيء من المال فيبيعون تلك السلع على كساد من الأسواق بأبخس ثمن. و ربما يتكرر ذلك على التاجر و الفلاح منهم بما يذهب رأس ماله فيقعد عن سوقه و يتعدد ذلك و يتكرر و يدخل به على الرعايا من العنت و المضايقة و فساد الأرباح ما يقبض آمالهم عن السعي في ذلك جملة و يؤدي إلى فساد الجباية فإن معظم الجباية إنما هي من الفلاحين و التجار و لا سيما بعد وضع المكوس و نمو الجباية بها فإذا انقبض الفلاحون عن الفلاحة و قعد التجار عن التجارة ذهبت الجباية جملة أو دخلها النقص المتفاحش و إذا قايس السلطان بين ما يحصل له من الجباية و بين هذه الأرباح القليلة وجدها بالنسبة إلى الجباية أقل من القليل ثم إنه و لو كان مفيداً فيذهب له بحظ عظيم من الجباية فيما يعانيه من شراء أو بيع فإنه من البعيد أن يوجد فيه من المكس و لو كان غيره في تلك الصفقات لكال تكسبها كلها حاصلاً من جهة الجباية ثم فيه التعرض لأهل عمرانه و اختلال الدولة بفسادهم و نقصهم فإن الرعايا إذا قعدوا عن تثمير أموالهم بالفلاحة و التجارة نقصت و تلاشت بالنفقات و كان فيها تلاف أحوالهم، فافهم ذلك و كان الفرس لا يملكون عليهم إلا من أهل بيت المملكة ثم يختارونه من أهل الفضل و الدين و الأدب و السخاء و الشجاعة و الكرم ثم يشترطون عليه مع ذلك العدل و أن لا يتخذ صنعة فيضر بجيرانه و لا يتاجر فيحب غلاء الأسعار في البضائع و أن لا يستخدم العبيد فإنهم لا يشيرون بخير و لا مصلحة. و اعلم أن السلطان لا ينمي ماله و لا يدر موجوده إلا الجباية و إدرارها إنما يكون بالعدل في أهل الأموال و النظر لهم بذلك فبذلك تنبسط آمالهم و تنشرح صدورهم للأخذ في تثمير الأموال و تنميتها فتعظم منها جباية السلطان و أما غير ذلك من تجارة أو فلح فإنما هو مضرة عاجلة للرعايا و فساد للجباية و نقص للعمارة و قد ينتهي الحال بهؤلاء المنسلخين للتجارة و الفلاحة من الأمراء و المتغلبين في البلدان أنهم يتعرضون لشراء الغلات و السلع من أربابها الواردين على بلدهم و يفرضون لذلك من الثمن ما يشاءون و يبيعونها في وقتها لمن تحت أيديهم من الرعايا بما يفرضون من الثمن و هذه أشد من الأولى و أقرب إلى فساد الرعية و اختلال أحوالهم و ربما يحمل السلطان على ذلك من يداخله من هذه الأصناف أعني التجار و الفلاحين لما هي صناعته التي نشأ عليها فيحمل السلطان على ذلك و يضرب معه بسهم لنفسه ليحصل على غرضه من جمع المال سريعاً و لا سيما مع ما يحصل له من التجارة بلا مغرم و لا مكس فإنها أجدر بنمو الأموال و أسرع في تثميره و لا يفهم ما يدخل على السلطان من الضرر بنقص جبايته فينبغي للسلطان أن يحذر من هؤلاء و يعرض عن سعايتهم المضرة بجبايته و سلطانه و الله يلهمنا رشد أنفسنا و ينفعنا بصالح الأعمال و الله تعالى أعلم.

الفصل الحادي و الأربعون في أن ثروة السلطان و حاشيته إنما تكون في وسط الدولة
و السبب في ذلك أن الجباية في أول الدولة تتوزع على أهل القبيل و العصبية بمقدار غنائهم و عصبيتهم و لأن الحاجة إليهم في تمهيد الدولة كما قلناه من قبل فرئيسهم في ذلك متجاف لهم عما يسمون إليه من الاستبداد عليهم فله عليهم عزة و له إليهم حاجة فلا يطير في سهمانه من الجباية إلا الأقل من حاجته فتجد حاشيته لذلك و أذياله من الوزراء و الكتاب و الموالي متملقين في الغالب و جاههم متقلص لأنه من جاه مخدومهم و نطاقه قد ضاق بمن يزاحمه فيه من أهل عصبيته فإذا استفحلت طبيعة الملك و حصل لصاحب الدولة الاستبداد على قومه قبض أيديهم عن الجبايات إلا ما يطير لهم بين الناس في سهمانهم و تقل حظوظهم ذاك لقلة غنائهم في الدولة بما انكبح من أعنتهم و صار الموالي و الصنائع مساهمين لهم في القيام بالدولة و تمهيد الأمر فينفرد صاحب الدولة حينئذ بالجباية أو معظمها و يحتوي على الأموال و يحتجنها للنفقات في مهمات الأحوال فتكثر ثروته و تمتلئ خزائنه و يتسع نطاق جاهه و يعتز على سائر قومه فيعظم حال حاشيته و ذويه من وزير و كاتب و حاجب و مولى و شرطي و يتسع جاههم و يقتنون الأموال و يتأثلونها ثم إذا أخذت الدولة في الهرم بتلاشي العصبية و فناء القليل المعاهدين للدولة احتاج صاحب الأمر حينئذ إلى الأعوان و الأنصار لكثرة الخوارج و المنازعين و الثوار و توهم الانتقاض فصار خراجه لظهرائه و أعوانه و هم أرباب السيوف و أهل العصبيات و أنفق خزائنه و حاصله في مهمات الدولة و قلت مع ذلك الجباية لما قدمناه من كثرة العطاء و الإنفاق فيقل الخراج و تشتد حاجة الدولة إلى المال فيتقلص ظل النعمة و الترف عن الخواص و الحجاب و الكتاب بتقلص الجاه عنهم و ضيق نطاقه على صاحب الدولة ثم تشتد حاجة صاحب الدولة إلى المال و تنفق أبناء البطانة و الحاشية ما تأثله آباؤهم من الأموال في غير سبيلها من إعانة صاحب الدولة و يقبلون على غير ما كان عليه آباؤهم و سلفهم من المناصحة و يرى صاحب الدولة أنه أحق بتلك الأموال التي اكتسبت في دولة سلفه و بجاههم فيصطلمها و ينتزعها منهم لنفسه شيئاً فشيئاً و واحداً بعد واحد على نسبة رتبهم و تنكر الدولة لهم و يعود وبال ذلك على الدولة بفناء حاشيتها و رجالاتها و أهل الثروة و النعمة من بطانتها و يتقوض بذلك كثير من مباني المجد بعد أن يدعمه أهله و يرفعوه. و انظر ما وقع من ذلك لوزراء الدولة العباسية في بني قحطبة و بني برمك و بني سهل و بني طاهر و أمثالهم ثم في الدولة الأموية بالأندلس عند انحلالها أيام الطوائف في بنى شهيد و بنى أبي عبدة و بنى حدير و بني برد و أمثالهم و كذا في الدولة التي أدركناها لعهدنا سنة الله التي قد خلت في عباده.
فصل: و لما يتوقعه أهل الدولة من أمثال هذه المعاطب صار الكثير منهم ينزعون إلى الفرار عن الرتب و التخلص من ربقة السلطان بما حصل في أيديهم من مال الدولة إلى قطر آخر و يرون أنه أهنأ لهم و أسلم في إنفاقه و حصول ثمرته و هو من الأغلاط الفاحشة و الأوهام المفسدة لأحوالهم و دنياهم و اعلم أن الخلاص من ذلك بعد الحصول فيه عسير ممتنع فإن صاحب هذا الغرض إذا كان هو الملك نفسه فلا تمكنه الرعية من ذلك طرفة عين و لا أهل العصبية المزاحمون له بل في ظهور ذلك منه هدم لملكه و إتلاف لنفسه بمجاري العادة بذلك لأن ربقة الملك يعسر الخلاص منها و لا سيما عند استفحال الدولة و ضيق نطاقها و ما يعرض فيها من البعد عن المجد و الخلال و التخلق بالشر و أما إذا كان صاحب هذا الغرض من بطانة السلطان و حاشيته و أهل الرتب في دولته فقل أن يخلى بينه و بين ذلك. أما أولا فلما يراه الملوك أن ذويهم و حاشيتهم بل و سائر رعاياهم مماليك لهم مطلعون على ذات صدورهم فلا يسمحون بحل ربقته من الخدمة ضنا بأسرارهم و أحوالهم أن يطلع عليها أحد. و غيره من خدمته لسواهم و لقد كان بنو أمية بالأندلس يمنعون أهل دولتهم من السفر لفريضة الحج لما يتوهمونه من وقوعهم بأيدي بني العباس فلم يحج سائر أيامهم أحد من أهل دولتهم و ما أبيح الحج لأهل الدول من الأندلس إلا بعد فراغ شأن الأموية و رجوعها إلى الطوائف و أما ثانيا فلأنهم و إن سمحوا بحل ربقته فلا يسمحون بالتجافي عن ذلك المال لما يرون أنه جزء من مالهم كما يرون أنه جزء من دولتهم إذ لم يكتسب إلا بها و في ظل جاهها، فتخوم نفوسهم على انتزاع ذلك المال و التقامه كما هو جزء من الدولة ينتفعون به ثم إذا توهمنا أنه خلص بذلك المال إلى قطر آخر و هو في النادر الأقل فتمتد إليه أعين الملوك بذلك القطر و ينتزعونه بالإرهاب و التخويف تعريضا أو بالقهر ظاهرا لما يرون أنه مال الجباية و الدول و أنه مستحق للإنفاق في المصالح و إذا كانت أعينهم تمتد إلى أهل الثروة و اليسار المتكسبين من وجوه المعاش فأحرى بها أن تمتد إلى أموال الجباية و الدول التي تجد السبيل إليه بالشرع و العادة و لقد حاول السلطان أبو يحيى زكريا بن أحمد اللحياني تاسع أو عاشر ملوك الحفصيين بأفريقة الخروج عن عهدة الملك و اللحاق بمصر فرارا من طلب صاحب الثغور الغربية لما استجمع لغزو تونس فاستعمل اللحياني الرحلة إلى ثغر طرابلس يوري بتمهيده و ركب السفين هن هنالك و خلص إلى الإسكندرية بعد أن حمل جميع ما وجده ببيت المال من الصامت و الذخيرة و باع كل ما كان بخزائنهم من المتاع و العقار و الجوهر حتى الكتب و احتمل ذلك كله إلى مصر و نزل على الملك الناصر محمد بن قلاون سنة سبع عشرة من المائة الثامنة فأكرم نزله و رفع مجلسة و لم يزل يستخلص ذخيرته شيئا فشيئا بالتعريض إلى أن حصل عليها و لم يبق معاش ابن اللحياني إلا في جرابته التي فرضت له إلى أن هلك سنة ثمان و عشرين حسبما نذكره في أخباره فهذا و أمثاله من جملة الوسواس الذي يعتري أهل الدول لما يتوقعونه من ملوكهم من المعاطب و إنما يخلصون إن اتفق لهم الخلاص بأنفسهم و ما يتوهمونه من الحاجة فغلط و وهم و الذي حصل لهم من الشهرة بخدمة الدول كاف في وجدان المعاش لهم بالجرايات السلطانية أو بالجاه في انتحال طرق الكسب من التجارة و الفلاحة و الدول أنساب لكن:
النفس راغبة إذا رغبتها و إذا ترد إلى قليل تقنع
و الله سبحانه هو الرزاق و هو الموفق بمنه و فضله و الله أعلم.

الفصل الثاني و الأربعون في أن نقص العطاء من السلطان نقص في الجباية
و السبب في ذلك أن الدولة و السلطان هي السوق الأعظم للعالم و منه مادة العمران فإذا احتجن السلطان الأموال أو الجبايات أو فقدت فلم يصرفها ني مصارفها قل حينئذ ما بأيدي الحاشية و الحامية و انقطع أيضا ما كان يصل منهم لحاشيتهم و ذويهم و قلت نفقاتهم جملة و هم معظم السواد و نفقاتهم أكثر مادة للأسواق ممن سواهم فيقع الكساد حينئذ في الأسواق و تضعف الأرباح في المتاجر فيقل الخراج لذلك لأن الخراج و الجباية إنما تكون من الاعتمار و المعاملات و نفاق الأسواق و طلب الناس للفوائد و الأرباح و وبال ذلك عائد على الدولة بالنقص لقلة أموال السلطان حينئذ بقلة الخراج فإن الدولة كما قلناه هي الشرق الأعظم أم الأسواق كلها و أصلها و مادتها في الدخل و الخرج فإن كسدت و قلت مصارفها فاجدر بما بعدها من الأسواق أن يلحقها مثل ذلك و أشد منه و أيضا فالمال إنما هو متردد بين الرعية و السلطان منهم إليه و منه إليهم فإذا حبسه السلطان عنده فقدته الرعية سنة الله في عباده.

الفصل الثالث و الأربعون في أن الظلم مؤذن بخراب العمران
اعلم أن العدوان على الناس في أموالهم ذاهب بآمالهم في تحصيلها و اكتسابها لما يرونه حينئذ من أن غايتها و مصيرها انتهابها من أيديهم و إذا ذهبت آمالهم في اكتسابها و تحصيلها انقبضت أيديهم عن السعي في ذلك و على قدر الاعتداء و نسبته يكون انقباض الرعايا عن السعي في الاكتساب فإذا كان الاعتداء كثيرا عاما في جميع أبواب المعاش كان القعود عن الكسب كذلك لذهابه بالآمال جملة بدخوله من جميع أبوابها و إن كان الاعتداء يسيرا كان الانقباض عن الكسب على نسبته و العمران و وفوره و نفاق أسواقه إنما هو بالأعمال و سعي الناس في المصالح و المكاسب ذاهبين و جائين فإذا قعد الناس عن المعاش و انقبضت أيديهم في المكاسب كسدت أسواق العمران و انتفضت الأحوال و ابذعر الناس في الآفاق من غير تلك الإيالة في طلب الرزق فيما خرج عن نطاقها فخف ساكن القطر و خلت دياره و خرجت أمصاره و اختل باختلاله حال الدولة و السلطان لما أنها صورة للعمران تفسد بفساد مادتها ضرورة و انظر في ذلك ما حكاه المسعودي في أخبار الفرس عن الموبذان صاحب الدين عندهم أيام بهرام بن بهرام و ما عرض به للملك في إنكار ما كان عليه من الظلم و الغفلة عن عائدته على الدولة بضرب المثال في ذلك على لسان البوم حين سمع الملك أصواتها و سأله عن فهم كلامها فقال له: إن بوما ذكرا يروم نكاح بوم أنثى و إنها شرطت عليه عشرين قرية من الخراب في أيام بهرام فقبل شرطها، و قال لها: إن دامت أيام الملك أقطعتك ألف قرية و هذا أسهل مرام. فتنبه الملك من غفلته و خلا بالموبذان و سأله عن مراده فقال له أيها الملك إن الملك لا يتم عزه إلا بالشريعة و القيام لله بطاعته و التصرف تحت أمره و نهيه و لا قوام للشريعة إلا بالملك و لا عز للملك إلا بالرجال و لا قوام للرجال إلا بالمال و لا سبيل إلى المال إلا بالعمارة و لا سبيل للعمارة إلا بالعدل و العدل الميزان المنصوب بين الخليقة نصبه الرب و جعل له قيما و هو الملك و أنت أيها الملك عمدت إلى الضياع فانتزعتها من أربابها و عمارها و هم أرباب الخراج و من تؤخذ منهم الأموال و أقطعتها الحاشية و الخدم و أهل البطالة فتركوا العمارة و النظر في العواقب و ما يصلح الضياع و سومحوا في الخراج لقربهم من الملك و وقع الحيف على من بقي من أرباب الخراج و عمار الضياع فانجلوا عن ضياعهم و خلوا ديارهم و أووا إلى ما تعذر من الضياع فسكنوها فقلت العمارة و خربت الضياع و قلت الأموال و هلكت الجنود و الرعية و طمع في ملك فارس من جاورهم من الملوك لعلمهم بانقطاع المواد التي لا تستقيم دعائم الملك إلا بها. فلما سمع الملك ذلك أقبل على النظر في ملكه و انتزعت الضياع من أيدي الخاصة و ردت على أربابها و حملوا على رسومهم السالفة و أخذوا في العمارة و قوي من ضعف منهم فعمرت الأرض و أخصبت البلاد و كثرت الأموال عند جباة الخراج و قويت الجنود و قطعت مواد الأعداء و شحنت الثغور و أقبل الملك على مباشرة أموره بنفسه فحسنت أيامه و انتظم ملكه فتفهم من هذه الحكاية أن الظلم مخرب للعمران و أن عائدة الخراب في العمران على الدولة بالفساد و الانتقاض. و لا تنظر في ذلك إلى أن الاعتداء قد يوجد بالأمصار العظيمة من الدول التي بها و لم يقع فيها خراب و اعلم أن ذلك إنما جاء من قبل المناسبة بين الاعتداء و أحوال أهل المصر فلما كان المصر كبيرا و عمرانه كثيرا و أحواله متسعة بما لا ينحصر كان وقوع النقص فيه بالاعتداء و الظلم يسيرا لأن النقص إنما يقع بالتدريج فإذا خفي بكثرة الأحوال و اتساع الأعمال في المصر لم يظهر أثره إلا بعد حين و قد تذهب تلك الدولة المعتدية من أصلها قبل خراب و تجيء الدولة الأخرى فترفعه بجدتها و تجبر النقص الذي كان خفيا فيه فلا يكاد يشعر به إلا أن ذلك في الأقل النادر و المراد من هذا أن حصول النقص في العمران عن الظلم و العدوان أمر و اقع لا بد منه لما قدمناه و وباله عائد على الدول. و لا تحسبن الظلم إنما هو أخذ المال أو الملك من يد مالكه من غير عوض و لا سبب كما هو المشهور بل الظلم أعم من ذلك و كل من أخذ ملك أحد أو غصبه في عمله أو طالبه بغير حق أو فرض عليه حقا لم يفرضه الشرع فقد ظلمه فجباة الأموال بغير حقها ظلمة و المعتدون عليها ظلمة و المنتهبون لها ظلمة و المانعون لحقوق الناس ظلمة و خصاب الأملاك على العموم ظلمة و وبال ذلك كله عائد على الدولة بخراب العمران الذي هو مادتها لإذهابه الآمال من أهله و اعلم أن هذه هي الحكمة المقصودة للشارع في تحريم الظلم و هو ما ينشأ عنه من فساد العمران و خرابه و ذلك مؤذن بانقطاع النوع البشري و هي الحكمة العامة المراعية للشرع في جميع مقاصده الضرورية الخمسة من حفظ الدين و النفس و العقل و النسل و المال. فلما كان الظلم كما رأيت مؤذنا بانقطاع النوع لما أدى إليه من تخريب العمران، كانت حكمة الخطر فيه موجودة، فكان تحريمه مهما، و أدلته من القرآن و السنة كثيرة، أكثر من أن يأخذها قانون الضبط و الحصر. و لو كان كل واحد قادرا على الظلم لوضع بإزائه من العقوبات الزاجرة ما وضع بإزاء غيره من المفسدات للنوع التي يقدر كل أحد على اقترافها من الزنا و القتل و السكر إلا أن الظلم لا يقدر عليه إلا من يقدر عليه لأنه إنما يقع من أهل القدرة و السلطان فبولغ في ذمة و تكرير الوعيد فيه عسى أن يكون الوازع فيه للقادر عليه ني نفسه و ما ربك بظلام للعبيد و لا تقولن إن العقوبة قد وضعت بإزاء الحرابة في الشرع و هي من ظلم القادر لأن المحارب زمن حرابته قادر فإن في الجواب عن ذلك طريقين. أحدهما أن تقول العقوبة على ما يقترفه من الجنايات في نفس أموال على ما ذهب إليه كثير و ذلك إنما يكون بعد القدرة عليه و المطالبة بجنايته و أما نفس الحرابة فهي خلو من العقوبة. الطريق الثاني أن تقول: المحارب لا يوصف بالقدرة لأنا إنما نعني بقدرة الظالم اليد المبسوطة التي لا تعارضها قدرة فهي المؤذنة بالخراب و أما قدرة المحارب فإنما هي إخافة يجعلها ذريعة لأخذ الأموال و المدافعة عنها بيد الكل موجودة شرعا و سياسة فليست من القدر المؤذن بالخراب و الله قادر على ما يشاء.
فصل: و من أشد الظلامات و أعظمها في إفساد العمران تكليف الأعمال و تسخير الرعايا بغير حق و ذلك أن الأعمال من قبيل المتمولات كما سنبين في باب الرزق لأن الرزق و الكسب إنما هو قيم أعمال أهل العمران. فإذا مساعيهم و أعمالهم كلها متمولات و مكاسب لهم بل لا مكاسب لهم سواها فإن الرعية المعتملين في العمارة إنما معاشهم و مكاسبهم من اعتمالهم ذلك فإذا كلفوا العمل في غير شأنهم و اتخذوا سخريا في معاشهم بطل كسبهم و اغتصبوا قيمة عملهم ذلك و هو متمولهم فدخل عليهم الضرر و ذهب لهم حظ كبير من معاشهم بل هو معاشهم بالجملة و إن تكرر ذلك عليهم أفسد آمالهم في العمارة و قعدوا عن السعى فيها جملة فأدى ذلك إلى انتقاض العمران و تخريبه و الله سبحانه و تعالى أعلم و به التوفيق.
الاحتكار: و أعظم من ذلك في الظلم و إفساد العمران و الدولة التسلط على أموال الناس بشراء ما بين أيديهم بأبخس الأثمان ثم فرض البضائع عليهم بأرفع الأثمان على وجه الغصب و الإكراه في الشراء و البيع و ربما تفرض عليهم تلك الأثمان على التواحي و التعجيل فيتعللون في تلك الخسارة التي تلحقهم بما تحدثهم المطامع من جبر ذلك بحوالة الأسواق في تلك البضائع التي فرضت عليهم بالغلاء إلى بيعها بأبخس الأثمان، و تعود خسارة ما بين الصفقتين على رؤوس أموالهم. و قد يعم ذلك أصناف التجار المقيمين بالمدينة و الواردين من الآفاق في البضائع و سائر السوقة و أهل الدكاكين في المآكل و الفواكه و أهل الصنائع فيما يتخذ من الآلات و المواعين فتشمل الخسارة سائر الأصناف و الطبقات و تتوالى على الساعات و تجحف برؤوس الأموال و لا يجدون عنها وليجة إلا القعود عن الأسواق لذهاب رؤوس الأموال في جبرها بالأرباح و يتثاقل الواردون من الآفاق لشراء البضائع و بيعها من أجل ذلك فتكسد الأسواق و يبطل معاق الرعايا لأن عامته من البيع و الشراء و إذا كانت الأسواق عطلا منها بطل معاشهم و تنقص جباية السلطان أو تفسد لأن معظمها من أوسط الدولة و ما بعدها إنما هو من المكوس على البياعات كما قدمناه و يؤول ذلك إلى تلاشى الدولة و فساد عمران المدينة و يتطرق هذا الخلل على التدريج و لا يشعر به. هذا ما كان بأمثال هذه الذرائع و الأسباب إلى أخذ الأموال و أما أخذها مجانا و العدوان على الناس في أموالهم و حرمهم و دمائهم و أسرارهم و أغراضهم فهو يفضي إلى الخلل و الفساد دفعة و تنتقض الدولة سريعا بما ينشأ عنه من الهرج المفضي إلى الانتقاض و من أجل هذه المفاسد حظر الشرع ذلك كله و شرع المكايسة في البيع و الشراء و حظر أكل أموال الناس بالباطل سدا لأبواب المفاسد المفضية إلى انتقاض العمران بالهرج أو بطلان المعاش واعلم أن الداعي لذلك كله إنما هو حاجة الدولة و السلطان إلى الإكثار من المال بما يعرض لهم من الترف في الأحوال فتكثر نفقاتهم و يعظم الخرج و لا يفي به الدخل على القوانين المعتادة يستحدثون ألقاباً و وجوهاً يوسعون بها الجباية ليفي لهم الدخل بالخرج ثم لا يزال الترف يزيد و الخرج بسببه يكثر و الحاجة إلى أموال الناس تشتد و نطاق الدولة بذلك يزيد إلى أن تمحي دائرتها ويذهب برسمها و يغلبها طالبها و الله أعلم.
رد مع اقتباس
  #10  
قديم 01-09-2012, 10:35 PM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,413
افتراضي

الفصل الرابع و الأربعون في أن الحجاب كيف يقع في الدول و في أنه يعظم عند الهرم
اعلم أن الدولة في أول أمرها تكون بعيدة عن منازع الملك كما قدمناه لأته لابد لها من العصبية التي بها يتم أمرها و يحصل استيلاؤها و البداوة هي شعار العصبية و الدولة إن كان قيامها بالدين فإنه بعيد عن منازع الملك و إن كان قيامها بعز الغلب فقط فالبداوة التي بها يحصل الغلب بعيدة أيضا عن منازع الملك و مذاهبه فإذا كانت الدولة في أول أمرها بدوية كان صاحبها على حال الغضاضة و البداوة و القرب من الناس و سهولة الإذن فإذا رسخ عزه و صار إلى الانفراد بنفسه عن الناس للحديث مع أوليائه في خواص شؤونه لما يكثر حينئذ بحاشيته فيطلب الانفراد من العامة ما استطاع و يتخذ الإذن ببابه على من لا يأمنه من أوليائه و أهل دولته و يتخذ حاجبا له عن الناس يقيمه ببابه لهذه الوظيفة ثم إذا استفحل الملك و جاءت مذاهبه و منازعه استحالت أخلاق صاحب الدولة إلى أخلاق الملك و هي أخلاق غريبة مخصوصة يحتاج مباشرها إلى مداراتها و معاملتها بما يجب لها و ربما جهل تلك الأخلاق منهم بعض من يباشرهم فوقع فيما لا يرضيهم فسخطوا و صاروا إلى حالة الانتقام منة فانفرد بمغرفة هذه الآداب الخواص من أوليائهم و حجبوا غير أولئك الخاصة عن لقائهم في كل وقت حفظا على أنفسهم من معاينة ما يسخطهم على الناس من التعرض لعقا بهم فصار حجاب آخر أخص من الحجاب الأول يفضي إليهم منه خواصهم من الأولياء و بحجب دونه من سواهم من العامة. و الحجاب الثاني يفضي إلى مجالس الأولياء و يحجب دونه من سواهم من العامة. و الحجاب الأول يكون في أول الدولة كما ذكرنا كما حدث لأيام معاوية و عبد الملك و خلفاء بني أمية و كان القائم على ذلك الحجاب يسمى عندهم الحاجب جريا عل مذهب الاشتقاق الصحيح. ثم لما جاءت دولة بني العباس وجدت الدولة من الترف و العز ما هو معررف و كملت خلق الملك على ما يجب فيها فدعا ذلك إلى الحجاب الثاني و صار اسم الحاجب أخص به و صار بباب الخلفاء داران للعباسية: دار الخاصة و دار العامة كما هو مسطور في أخبارهم. ثم حدث في الدولة حجاب ثالث أخص من الأولين و هو عند محاولة الحجر على صاحب الدولة و ذلك أن أهل الدولة و خواص الملك إذ نصبوا الأبناء من الأعقاب و حاولوا الاستبداد عليهم فأول ما يبدأ به ذلك المستبد أن يحجب عنة بطانة ابنه و خواص أوليائه يوهمه أن في مباشرتهم إياه خرق حجاب الهيبة و فساد قانون الأدب ليقطع بذلك لقاء الغير و يعوده ملابسة أخلاقه هو حتى لا يتبدل به سواه إلى أن يستحكم الاستيلاء عليه فيكون هذا الحجاب من دواعيه و هذا الحجاب لا يقع في الغالب إلا أواخر الدولة كما قدمناه في الحجر و يكون دليلا على هرم الدولة و نفاد قوتها و هو مما يخشاه أهل الدول على أنفسهم لأن القائمين بالدولة يحاولون على ذلك بطباعهم عند هرم الدولة و ذهاب الاستبداد من أعقاب ملوكهم لما ركب في النفوس من محبة الاستبداد بالملك و خصوصا مع الترشيح لذلك و حصول دواعيه و مباديه.

الفصل الخامس و الأربعون في انقسام الدولة الواحدة بدولتين
اعلم أن أول ما يقع من آثار الهرم في الدولة انقسامها و ذلك أن الملك عندما يستفحل و يبلغ من أحوال الترف و النعيم إلى غايتها و يستبد صاحب الدولة بالمجد و ينفرد به و يأنف حينئذ عن المشاركة يصير إلى قطع أسبابها ما استطاع بإهلاك من استراب به من ذوي قرابته المرشحين لمنصبه فربما ارتاب المساهمون له في ذلك بأنفسهم و نزعوا إلى القاصية إليهم من يلحق بهم مثل حالهم من الاعتزاز و الاسترابة و يكون نطاق الدولة قد أخذ في التضايق و رجع عن القاصية فيستبد ذلك النازع من القرابة فيها و لا يزال أمره يعظم بتراجع نطاق الدولة حتى يقاسم الدولة أو يكاد و انظر ذلك في الدولة الإسلامية العربية حين كان أمرها حريزا مجتمعا و نطاقا ممتدا في الاتساع و عصبية بني عبد مناف واحدة غالبة على سائر مضر ينبض عرق من الخلافة سائر أيامه إلا ما كان من بدعة الخوارج المستميتين في شأن بدعتهم لم يكن ذلك لنزعة ملك و لا رئاسة و لم يتم أمرهم لمزاحمتهم العصبية القوية ثم لما خرج الأمر من بني أمية و استقل بنو العباس بالأمر. و كانت الدولة العربية قد بلغت الغاية من الغلب و الترف و آذنت بالتقلص عن القاصية نزع عبد الرحمن الداخل إلى الأندلس قاصية دولة الإسلام فاستحدث بها ملكا و اقتطعها عن دولتهم و صير الدولة دولتين ثم نرع إدريس إلى المغرب و خرج به و قام بأمره و أمر ابنه من بعده البرابرة من أوربة و مغيلة و زناتة و استولى على ناحية المغربين ثم ازدادت الدولة تقلصا فاضطرب الأغالبة ني الامتناع عليهم ثم خرج الشيعة و قام بأمرهم كتامة و صنهاجة و استولوا على أفريقية و المغرب ثم مصر و الشام و الحجاز و غلبوا على الأدارسة و قسموا الدولة دولتين أخريين و صارت الدولة العربية ثلاث دول: دولة بني العباس مركز العرب و أصلهم و مادتهم الإسلام، و دولة بني أمية المجددين بالأندلس ملكهم القديم و خلافتهم بالمشرق، و دولة العبيديين بأفريقية و مصر و الشام و الحجاز و لم تزل هذه الدولة إلى أن أصبح انقراضها متقاربا أو جميعا و كذلك انقسمت دولة بني العباس بدول أخرى و كان بالقاصية بنو ساسان فيما وراء النهر و خراسان و العلوية في الديلم و طبرستان و آل ذلك إلى استيلاء الديلم على العراقيين و على بغداد و الخلفاء ثم جاء السلجوقية فملكوا جميع ذلك ثم انقسمت دولتهم أيضا بعد الاستفحال كما هو معروف في أخبارهم و كذلك اعتبره في دولة صنهاجة بالمغرب و أفريقية لما بلغت إلى غابتها أيام باديس بن المنصور، خرج عليه عمه حماد و اقتطع ممالك العرب لنفسه ما بين جبل أوراس إلى تلمسان و ملوية و اختط القلعة بجبل كتامة حيال المسيلة و نزلها و استولى على مركزهم أشير بجبل تيطرى و استحدث ملكا آخر قسيما لملك آل باديس و بقى آل باديس بالقيروان و ما إليها و لم يزل ذلك إلى أن انقرض أمرهما جميعا. و كذلك دولة الموحدين، لما تقلص ظلها ثار بأفريقية بنو أبي حفص فاستقلوا بها و استحدثوا ملكا لأعقابهم بنواحيها ثم لما استفحل أمرهم و استولى على الغاية خرج على الممالك الغربية من أعقابهم الأمير أبو زكريا يحيى ابن السلطان أبي إسحاق إبراهيم رابع خلفائهم و استحدث ملكا بجباية و قسنطينة و ما إليها، أورثه بنيه و قسموا به الدولة قسمين ثم استولوا على كرسي الحضرة بتونس ثم انقسم ما بين أعقابهم ثم عاد الاستيلاء فيهم و قد ينتهي الانقسام إلى أكثر من دولتين و ثلاث و في غير أعياص الملك من قومه كما وقع في ملوك الطوائف بالأندلس و ملوك العجم بالمشرق و في ملك صنهاجة بأفريقية فقد كان لآخر دولتهم في كل حصن من حصون أفريقية ثائر مستقل بأمره كما تقدم ذكره و كذا حال الجريد و الزاب من أفريقية قبيل هذا العهد كما نذكره و هكذا شأن كل دولة لابد و أن يعرض فيها عوارض الهرم بالترف و الدعة و تقلص ظل الغلب فينقسم أعياصها أو من يغلب من رجال دولتها الأمر و يتعدد فيها الدول و الله وارث الأرض و من عليها.

الفصل السادس و الأربعون في أن الهرم إذا نزل بالدولة لا يرتفع
قد قدمنا ذكر العوارض المؤذنة بالهرم و أسبابه واحدا بعد واحد و بينا أنها تحدث للدولة بالطبع و أنها كلها أمور طبيعية لها و إذا كان الهرم طبيعيا في الدولة كان حدوثه بمثابة حدوث الأمور الطبيعية كما يحدث الهرم في المزاج الحيواني و الهرم من الأمراض المزمنة التي لا يمكن دواؤها و لا ارتفاعها بما أنه طبيعي و الأمور الطبيعية لا تتبدل و قد يتنبه كثير من أهل الدول ممن له يقظة في السياسة فيرى ما نزل بدولتهم من عوارض الهرم و يظن أنه ممكن الارتفاع فيأخذ نفسه بتلافي الدولة و إصلاح مزاجها عن ذلك الهرم و يحسبه أنه لحقها بتقصير من قبله من أهل الدولة و غفلتهم و ليس كذلك فإنها أمور طبيعية للدولة و العوائد هي المانعة له من تلافيها و العوائد منزلة طبيعية أخرى فإن من أدرك مثلا أباه و أكثر أهل بيته يلبسون الحرير و الديباج و يتحلون بالذهب في السلاح و المراكب و يحتجبون عن الناس في المجالس و الصلوات فلا يمكنه مخالفة سلفه في ذلك إلى الخشونة في اللباس و الزي و الاختلاط بالناس إذ العوائد حينئذ تمنعه و تقبح عليه مرتكبه و لو فعله لرمي بالجنون و الوسواس لا في الخروج عن العوائد دفعة، و خشي عليه عائده ذلك و عاقبته في سلطانه و انظر شأن الأنبياء في إنكار العوائد و فخالفتها لولا التأييد الإلهي و النصر السماوي و ربما تكون العصبية قد ذهبت فتكون الأبهة تعوض عن موقعها من النفوس فإذا أزيلت تلك الأبهة مع ضعف العصبية تجاسرت الرعايا على الدولة بذهاب أوهام الأبهة فتتدرع الدولة بتلك الأبهة ما أمكنها حتى ينقضيي الأمر و ربما يحدث عند آخر الدولة قوة توهم أن الهرم قد ارتفع عنها و يومض ذبالها إيماضة الخمود كما يقع في الذبال المشتعل فإنه عند مقاربة انطفائه يومض إيماضة توهم أنها اشتعال و هي انطفاء فاعتبر ذلك و لا تغفل سر الله تعالى و حكمته في اطراد وجوده على ما قرر فيه و لكل أجل كتاب.

الفصل السابع و الأربعون في كيفية طروق الخلل للدولة
إعلم أن مبنى الملك على أساسين لابد منهما فالأول الشوكة و العصبية و هو المعبر عنه بالجند و الثاني المال الذي هو قوام أولك الجند و إقامة ما يحتاج إليه الملك من الأحوال. و الخلل إذا طرق الدولة طرقها في هذين الأساسين فلنذكر أولا طروق الخلل في الشوكة و العصبية ثم نرجع إلى طروقه في المال و الجباية. و اعلم أن تمهيد الدولة و تأسيسها كما قلناه إنما يكون بالعصبة و أنه لابد من عصبية كبرى جامعة للعصائب مستتبعة لها و هي عصبية صاحب الدولة الخاصة من عشيرة و قبيلة فإذا جاءت الدولة طبيعة الملك من الترف و جدع أنوف أهل العصبية كان أول ما يجدع أنوف عشيرته و ذري قرباه القاسمين له في اسم الملك فيستبد في جدع أنوفهم بما بلغ من سوادهم لمكانهم من الملك و العز و الغلب فيحيط بهم هادمان و هما الترف و القهر ثم يصير القهر آخرا إلى القتل لما يحصل من مرض قلوبهم عند رسوخ الملك لصاحب الأمر فيقلب غيرته منهم إلى الخوف على ملكه فيأخذهم بالقتل و الإهانة و سلب النعمة و الترف الذي تعودوا الكثير منه فيهلكون و يقلون و تفسد عصبيبة صاحب الدولة منهم و هي العصبية الكبرى التي كانت تجمع بها العصائب و تستتبعها فتنحل عروتها و تضعف شكيمتها و تستبدل عنها بالبطانة من موالي النعمة و صنائع الإحسان و تتخذ منهم عصبة إلا أنها ليست مثل تلك الشدة الشكيمية لفقدان الرحم و القرابة منها و قد كنا قدمنا أن شأن العصبية و قوتها إنما هي بالقرابة و الرحم لما جعل الله في ذلك فينفرد صاحب الدولة عن العشير و الأنصار الطبيعية و يحس بذلك أهل العصاب الأخرى فيتجاسرون عليه و على بطانته تجاسرا طبيعيا فيهلكهم صاحب الدولة و يتبعهم بالقتل واحد بعد واحد و يقلد الآخر من أهل الدولة في ذلك، الأول مع ما يكون قد نزل بهم من مهلكة الترف الذي قدمنا فيستولي عليهم الهلاك بالترف و القتل حتى يخرجوا عن صبغة تلك العصبة و يفشوا بعزتها و ثورتها و يصيروا أوجز على الحماية و يقلون لذلك فتقل الحماية التي تنزل بالأطراف و الثغور فتتجاسر الرعايا على بعض الدعوة في الأطراف و يبادر الخوارج على الدولة من الأعياص و غيرهم إلى تلك الأطراف لما يرجون حينئذ من حصول غرضهم بمبايعة أهل القاصية لهم و أمنهم من وصول الحامية إليهم و لا يزال ذلك يتدرج و نطاق الدولة يتضايق حتى تصير الخوارج في أقرب الأماكن إلى مركز الدولة و ربما انقسمت الدولة عند ذلك بدولتين أو ثلاث على قدر قوتها في الأصل كما قلناه و يقوم بأمرها غير أهل عصبيتها لكن إذعانا لأهل عصبتها و لغلبهم المعهود و اعتبر هذا في دولة العرب في الإسلام كيف انتهت أولا إلى الأندلس و الهند و الصين و كان أمر بني أمية نافذا في جميع العرب بعصبة بني عبد مناف حتى لقد أمر سليمان بن عبد الملك بدمشق بقتل عبد العزيز بن موسى بن نصير بقرطبة فقتل و لم يرد أمره. ثم تلاشت عصبة بني أمية بما أصابهم من الترف فانقرضوا. و جاء بنو العباس فنضوا من أعنة بنب هاشم و قتلوا الطالبين و شردوهم فانحلت عصبية عبد مناف و تلاشت و تجاسر العرب عليهم فاستبد عليهم أهل القاصية مثل بني الأغلب بأفريقية و أهل الأندلس و غيرهم و انقسمت الدولة ثم خرج بنو إدريس بالمغرب و قام البربر بأمرهم إذعانا للعصبية التي لهم و أمنا أن تصلهم مقاتلة أو حامية للدولة. فإذا خرج الدعاة آخرا فيتغلبون على الأطراف و القاصية و تحصل لهم هناك دعوة و ملك تنقسم به الدولة و ربما يزيد ذلك متى زادت الدولة تقلصا إلى أن ينتهي إلى المركز و تضعف البطانة بعد ذلك بما أخذ منها الترف فتهلك و تضمحل و تضعف الدولة المنقسمة كلها و ربما طال أمدها بعد ذلك فتستغني عن العصبية بما حصل لها من الصبغة في نفوس أهل إيالتها و هي صبغة الانقياد و التسليم منذ السنين الطويلة التي لا يعقل أحد من الأجيال مبدأها و لا أوليتها فلا يعقلون إلا التسليم لصاحب الدولة فيستغني بذلك عن قوة العصائب و يكفي صاحبها بما حصل لها في تمهيد أمرها الإجراء على الحامية من جندي و مرتزق و يعضد ذلك ما وقع في النفوس عامة من التسليم فلا يكاد أحد يتصور عصيانا أو خروجا إلا و الجمهور منكرون عليه مخالفون له فلا يقدر على التصدي لذلك و لو جهد جهده و ربما كانت الدولة في هذا الحال أسلم من الخوارج و المنازعة لاستحكام صبغة التسليم و الانقياد لهم فلا تكاد النفوس تحدث سرها بمخالفة و لا يختلج في ضميرها انحراف عن الطاعة فيكون أسلم من الهرج و الانتقاض الذي يحدث من العصاب و العشائر ثم لا يزال أمر الدولة كذلك و هي تتلاشى في ذاتها شأن الحرارة الغريزية في البدن العادم للغذاء إلى أن تنتهي إلى وقتها المقدور و لكل أجل كتاب و لكل دولة أمد و الله يقدر الليل و النهار و هو الواحد القهار. و أما الخلل الذي يتطرق من جهة المال فاعلم أن الدولة في أولها تكون بدوية كما مر فيكون خلق الرفق بالرعايا و القصد في النفقات و التعفف عن الأموال فتتجافى عن الإمعان في الجباية و التحذلق و الكيس في جميع الأموال حسبان العمال و لا داعية حينئذ إلى الإسراف في النفقة فلا تحتاج الدولة إلى كثرة المال ثم يحصل الاستيلاء و يعظم و يستفحل الملك فيدعو إلى الترف و يكثر الإنفاق بسببه فتعظهم نفقات السلطان و أهل الدولة على العموم بل يتعدى ذلك إلى أهل المصر و يدعو ذلك إلى الزيادة في أعطيات الجند و أرزاق أهل الدولة ثم يعظم الترف فيكثر الإسراف في النفقات و ينتشر ذلك في الرعية لأن الناس على دين ملوكها و عوائدها و يحتاج السلطان إلى ضرب المكوس على أثمان البياعات في الأسواق لإدرار الجباية لما يراه من ترف المدينة الشاهد عليهم بالرفه و لما يحتاج هو إليه من نفقات سلطانه و أرزاق جنده ثم تزيد عوائد الترف فلا تفي بها المكوس و تكون الدولة قد استفحلت في الاستطالة و القهر لمن تحت يدها من الرعايا فتمتد أيديهم إلى جمع المال من أموال الرعايا من مكس أو تجارة أو نقد في بعض الأحوال بشبهة أو بغير شبهة و يكون الجند في ذلك الطور قد تجاسر على الدولة بما لحقها من الفشل و الهرم في العصبية فتتوقع ذلك منهم و تداوى بسكينة العطايا و كثرة الإنفاق فيهم و لا تجد عن ذلك وليجة و تكون جباة الأموال في الدولة قد عظمت ثروتهم في هذا الطور بكثرة الجباية و كونها بأيديهم و بما اتسع لذلك من جاههم فيتوجه إليهم باحتجان الأموال من الجباية و تفشو السعاية فيهم، بعضهم من بعض للمنافسة و الحقد فتعمهم النكبات و المصادرات واحدا واحدا إلى أن تذهب ثروتهم و تتلاشى أحوالهم و يفقد ما كان للدولة من الأبهة و الجمال بهم و إذا اصطلمت نعمتهم تجاوزتهم الدولة إلى أهل الثروة من الرعايا سواهم و يكون الوهن في هذا الطور قد لحق الشوكة و ضعفت عن الاستطالة و القهر فتنصرف سياسة صاحب الدولة حينئذ إلى مداراة الأمور ببذل المال و يراه أرفع من السيف لقلة غنائه فتعظم حاجته إلى الأموال زيادة على النفقات و أرزاق الجند و لا يغنى فيما يريد و يعظم الهرم بالدولة و يتجاسر عليها أهل النواحي و الدولة تنحل عراها في كل طور من هذه إلى أن تفضي إلى الهلال و تتعوض من الاستيلاء الكلل فإن قصدها طالب انتزعها من أيدي القائمين بها و إلا بقيت و هي تتلاشى إلى أن تضمحل كالذبال في السراج إذا فني زيته و طفئ و الله مالك الأمور و مدبر الأكوان لا إله إلا هو.

الفصل الثامن و الأربعين فصل في اتساع الدولة أولا إلى نهايته ثم تضايقه طورا بعد طور إلى فناء الدولة و اضمحلالها
قد كان تقدم لنا في فصل الخلافة و الملك، و هو الثالث من هذه المقدمة أن كل دولة لها حصة من الممالك و العمالات لا تزيد عليها. و اعتبر ذلك بتوزيع عصابة الدولة على حماية أقطارها و جهاتها. فحيث نفد عددهم فالطرف الذي انتهى عنده هو الثغر، و يحيط بالدولة من سائر جهاتها كالنطاق. و قد تكون النهاية هي نطاق الدولة الأولى. و قد تكون أوسع منه إذا كان عدد العصابة أوفر من الدولة قبلها. و هذا كله عندما تكون الدولة في شعار البداوة و خشونة البأس. فإذا استفحل العز و الغلب و توفرت النعم و الأرزاق بدرور الجبايات، و زخر بحر الترف و الحضارة و نشأت الأجيال على اعتبار ذلك لطفت أخلاق الحامية و رقت حواشيهم، و عاد من ذلك إلى نفوسهم هينات الجبن و الكسل، بما يعانونه من ضنث الحضارة المؤدي إلى الانسلاخ من شعار البأس و الرجولية بمفارقة البداوة و خشونتها، و بأخذهم العز بالتطاول إلى الرياسة و التنازع عليها، فيفضي إلى قتل بعضهم ببغض، و يحبكهم السلطان عن ذلك بما يؤدي إلى قتل أكابرهم و إهلاك رؤسائهم، فتفقد الأمراء و الكبراء، و تكثر التابع و المرؤوس، فيفل ذلك من حد الدولة، و يكسر من شوكتها. و يقع الخلل الأول في الدولة و هو الذي من جهة الجند و الحامية كما تقدم. و يساوق ذلك السرف في النفقات بما يعتريهم من أبهة العز. و تجاوز الحدود بالبذخ. بالمناغاة في المطاعم و الملابس و تشييد القصور و استجادة السلاح و ارتباط الخيول، فيقصر دخل الدولة حينئذ عن خرجها و يطرق الخلل.
الثاني في الدولة و هو الذي من جهة المال و الجباية. و يحصل العجز و الانتقاض بوجود الخللين. و ربما تنافس رؤساؤهم فتنازعوا و عجزوا عن مغالبة المجاورين و المنازعين و مدافعتهم. و ربما اعتز أهل الثغور و الأطراف بما يحسبون من ضعف الدولة وراءهم، فيصيرون إلى الاستغلال و الاستبداد بما في أيديهم من العمالات، و يعجز صاحب الدولة عن حملهم على الجادة فيضيق نطاق الدولة عن كانت انتهت إليه في أولها، و ترجع العناية في تدبيرها بنطاق دونه، إلى أن يحدث في النطاق الثاني ما حدث في الأول بعينه من العجز و الكسل في العصابة و قلة الأموال و الجباية. فيذهب القائم بالدولة إلى تغير القوانين التي كانت عليها سياسة الدولة من قبل الجند و المال و الولايات، ليجري حالها على استقامة بتكافؤ الدخل و الخرج و الحامية و العمالات و توزيع الجباية على الأرزاق، و مقايسة ذلك بأول الدولة في سائر الأحوال.
و المفاسد مع ذلك متوقعة من كل جهة. فيحدث في هذا الطور من بعد ما حدث في الأول من قبل. و يعتبر صاحب الدولة ما اعتبره الأول، و يقايس بالوزان الأول أحوالها الثانية، يروم دفع مفاسد الخلل الذي يتجدد في كل طور و يأخذ من كل طرف حتى يضيق نطاقها الآخر إلى نطاق دونه كذلك، و يقع فيه ما وقع في الأول. فكل واحد من هؤلاء المغيرين للقوانين قبلهم كأنهم منشئون دولة أخرى، و مجددون ملكا. حتى تنقرض الدولة، و تتطاول الأمم حولها إلى التغلب عليها و إنشاء دولة أخرى لهم، فيقع من ذلك ما قدر الله وقوعه.
و اعتبر ذلك في الدولة الإسلامية كيف اتسع نطاقها بالفتوحات و التغلب على الأمم، ثم تزايد الحامية و تكاثر عددهم مما تخولوه من النعم و الأرزاق، إلى أن انقرض أمر بني أمية و غلب بنو العباس. ثم تزايد الترف. و نشأت الحضارة و طرق الخلل، فضاق النطاق من الأندلس و المغرب بحدوث الدولة الأموية المروانية و العلوية، و اقتطعوا ذينك الثغرين عن نطاقها، إلى أن وقع الخلاف بين بنى الرشيد، و ظهر دعاة العلوية من كل جانب، و تمهدت لهم دول، ثم قتل المتوكل، و استبد الحرار على الخلفاء و حجروهم، و استقل الولاة بالعملات في الأطراف. و انقطع الخراج منها، و تزايد الترف. و جاء المعتضد فغير قوانين الدولة إلى قانون آخر من السياسة أقطع فيه ولاة الأطراف ما غلبوا عليه، مثل بني سامان وراء النهر و بني طاهر العراق و خراسان، و بني الصغار السند وفارس، و بني طولون مصر، و بني الأغلب أفريقية، إلى أن افترق أمر العرب وغلب العجم، و استبد بنو بويه و الديلم بدولة الإسلام و حجروا الخلافة، و بقي بنو سامان في استبدادهم وراء النهر و تطاول الفاطميون من المغرب إلى مصر و الشام فملكوه. ثم قامت الدولة السلجوقية من الترك فاستولوا على ممالك الإسلام و أبقوا الخلفاء في حجرهم، إلى أن تلاشت دولهم. و استبد الخلفاء منذ عهد الناصر في نطاق أضيق من هالة القمر و هو عراق العرب إلى أصبهان و فارس و البحرين. و أقامت الدولة كذلك بعض الشيء إلى أن انقرض أمر الخلفاء على يد هولاكو بن طولي بن دوشي خان ملك التتر و المغل حين غلبوا السلجوقية و ملكوا ما كان بأيديهم من ممالك الإسلام. و هكذا يتضايق نطاق كل دولة على نسبة نطاقها الأول. و لا يزال طورا بعد طور إلى أن تنقرض الدولة. و اعتبر ذلك في كل دولة عظمت أو صغرت. فهكذا سنة الله في الدول إلى أن يأتي ما قدر الله من الغناء على خلقه. و كل شيء هالك إلا وجهه.

الفصل التاسع و الأربعون في حدوث الدولة و تجددها كيف يقع
اعلم أن نشأة الدول و بدائتها إذا أخذت الدولة المستقرة في الهرم و الانتقاص تكون على نوعين إما بأن يستبد ولاة الأعمال في الدولة بالقاصية عندما يتقلص ظلها عنهم فيكون لكل واحد منهم دولة يستجدها لقومه و ما يستقر في نصابه يرثه عنه أبناؤه أو مواليه و يستفحل لهم الملك بالتدريج و ربما يزدحمون على ذلك الملك و يتقارعون عليه و يتنازعون في الاستئثار به و يغلب منهم من يكون له فضل قوة على صاحبه و ينتزع ما في يده كما وقع في دولة بني العباس حين أخذت دولتهم في الهرم و تقلص ظلها عن القاصية و استبد بنو ساسان بما وراء النهر و بنو حمدان بالموصل و الشام و بنو طولئون بمصر و كما وقع بالدولة الأموية بالأندلس و افترق ملكها في الطوائف الذين كانوا ولاتها في الأعمال و انقسمت دولا و ملوكا أورثوها من بعدهم من قرابتهم أو مواليهم و هذا النوع لا يكون بينهم و بين الدولة المستقرة حربا لأنهم مستقرون في رئاستهم و لا يطمعون في الاستيلاء على الدولة المستقرة بحرب و إنما الدولة أدركها الهرم و تقلص ظلها عن القاصية و عجزت عن الوصول إليها و النوع الثاني بأن يخرج على الدولة خارج ممن يجاورها من الأمم و القبائل إما بدعوة يحمل الناس عليها كما أشرنا إليه أو يكون صاحب شوكة و عصبية كبيرا في قومه قد استفحل أمره فيسمو بهم إلى الملك و قد حدثوا به أنفسهم بما حصل لهم من الاعتزاز على الدولة المستقرة و ما نزل بها من الهرم فيتعين له و لقومه الاستيلاء عليها و يمارسونها بالمطالبة إلى أن يظفروا بها و يزنون كما تبين و الله سبحانه و تعالى أعلم.

الفصل الخمسون في أن الدولة المستجدة إنما تستولي على الدولة المستقرة بالمطاولة لا بالمناجزة
قد ذكرنا أن الدول الحادثة المتجددة نوعان نوع من ولاية الأطراف إذا تقلص ظل الدولة عنهم و انحسر تيارها و هؤلاء لا يقع منهم مطالبة للدولة في الأكثر كما قدمناه لأن قصاراهم القنوع بما في أيديهم و هو نهاية قوتهم و النوع الثاني نوع الدعاة و الخوارج على الدولة و هؤلاء لابد لهم من المطالبة لأن قوتهم وافية بها فإن ذلك إنما يكون في نصاب يكون له من العصبية و الاعتزاز ما هو كفاء ذلك و واف به فيقع بينهم و بين الدولة المستقرة حروب سجال تتكور و تتصل إلى أن يقع لهم الاستيلاء و الظفر بالمطلوب و لا يحصل لهم في الغالب ظفر بالمناجزة و السبب في ذلك أن الظفر في الحروب إنما يقع كما قدمناه بأمور نفسانية وهمية و إن كان العدد و السلاح و صدق القتال كفيلا به لكنه قاصر مع تلك الأمور الوهمية كما مر و لذلك كان الخداع من أرفع ما يستعمل في الحرب و أكثر ما يقع الظفر به و في الحديث الحرب خدعة و الدولة المستقرة قد صيرت العوائد المألوفة طاعتها ضرورية واجبة كما تقدم في غير موضع فتكثر بذلك العوائق لصاحب الدولة المستجدة و يكثر من همم أتباعه و أهل شوكته و إن كان الأقربون من بطانته على بصيرة في طاعته و مؤازرته إلا أن الآخرين أكثر و قد داخلهم الفشل بتلك العقائد في التسليم للدولة المستقرة فيحصل بعض الفتور منهم و لا يكاد صاحب الدولة المستقرة يرجع إلى الصبر و المطاولة حتى يتضح هرم الدولة المستقرة فتضمحل عقائد التسليم لها من قومه و تنبعث منهم الهمم لصدق المطالبة معه فيقع الظفر و الاستيلاء و أيضا فالدولة المستقرة كثيرة الرزق بما استحكم لهم من الملك و توسع من النعيم و اللذات و اختصوا به دون غيرهم من أموال الجباية فيكثر عندهم ارتباط الخيول و استجادة الأسلحة و تعظم فيهم الأبهة الملكية و يفيض العطاء بينهم من ملوكهم اختيارا و اضطرارا فيرهبون بذلك كله عدوهم و أهل الدولة المستجدة بمعزل عن ذلك لما هم فيه من البداوة و أحوال الفقر و الخصاصة فيسبق إلى قلوبهم أوهام الرعب بما يبلغهم من أحوال الدولة المستقرة و يحرمون عن قتالهم من أجل ذلك فيصير أمرهم إلى المطاولة حتى تأخذ المستقرة مآخذها من الهرم و يستحكم الخلل فيها في العصبية و الجباية فينتهز حينئذ صاحب الدولة المستجدة فرصته في الاستيلاء عليها بعد حين منذ المطالبة سنة الله في عباده و أيضا فأهل الدولة المستجدة كلهم مباينون للدولة المستقرة بأنسابهم و عوائدهم و في سائر مناحيهم ثم هم مفاخرون لهم و منابذون بما وقع من هذه المطالبة و بطمعهم في الاستيلاء عليه فتتمكن المباعدة بين أهل الدولتين سرا و جهرا و لا يصل إلى أهل الدولة المستجدة خبر عن أهل الدولة المستقرة يصيبون منه غرة باطنا و ظاهرا لانقطاع المداخلة بين الدولتين فيقيمون على المطالبة و هم في إحجام و ينكلون عن المناجزة حتى يأذن الله بزوال الدولة المستقرة و فناء عمرها و وفور الخلل في جميع جهاتها و اتضح لأهل الدولة المسنتجدة مع ما كان يخفى من هرمها و تلاشيها و قد عظمت قوتهم بما اقتطعوه من أعمالها و نقصوه من أطرافها فتنبعث هممهم يدا واحدة للمناجزة و يذهب ما كان بث في عزائمهم من التوهمات و تنتهي المطاولة إلى حدها و يقع الاستيلاء آخرا بالمعاجلة و اعتبر ذلك في دولة بني العباس حين ظهورها حين قام الشيعة بخراسان بعد انعقاد الدعوة و اجتماعهم على المطالبة عشر سنين أو تزيد و حينئذ تم لهم الظفر و استولوا على الدولة الأموية و كذا العلوية بطبرستان عند ظهور دعوتهم في الديلم كيف كانت مطاولتهم حتى استولوا على تلك الناحية ثم لما انقضى أمر العلوية و سما الديلم إلى ملك فارس و العراقين فمكثوا سنين كثيرة يطاولون حتى اقتطعوا أصبهان ثم استولوا على الخليفة ببغداد. و كذا العبيديون أقام داعيتهم بالمغرب أبو عبد الله الشيعي ببني كتامة من قبائل البربر عشر سينين و يزيد تطاول بني الأغلب بأفريقية حتى ظفر بهم و استولوا على المغرب كله و سموا إلى ملك مصر فمكثوا ثلاثين سنة أو نحوها في طلبها يجهزون إلها العساكر و الأساطيل في كل وقت و يجيء المدد لمدافعتهم برا و بحرا من بغداد و الشام و ملكوا الإسكندرية و الفيوم و الصعيد و تخطت دعوتهم من هنالك إلى الحجاز و أقيمت بالحرمين ثم نازل قائدهم جوهر الكاتب بعساكره مدينة مصر و استولى عليها و اقتلع دولة بني طغج من أصولها و اختط القاهرة فجاء الخليفة بعد المعز لدين الله فنزلها لستين سنة أو نحوها منذ استيلائهم على الإسكندرية و كذا السلجوقية ملوك النزك لما استولوا على بني ساسان و أجازوا من وراء النهر مكثوا نحوا من ثلاثين سنة يطاولون بني سبكتكين بخراسان حتى استولوا على دولته. ثم زحفوا إلى بغداد فاستولوا عليها و على الخليفة بها بعد أيام من الدهر. و كذا التتر من بعدهم خرجوا من المفازة عام سبعة عشر و ستمائة فلم يتم لهم الاستيلاء إلا بعد أربعين سنة. و كذا أهل المغرب خرج به المرابطون من لمتونة على ملوكه من مغراوة فطاولوهم سنين ثم استولوا عليه. ثم خرج الموحدون بدعوتهم على لمتونة فمكثوا نحوا من ثلاثين سنة يحاربونهم حتى استولوا على كرسيهم بمراكش و كذا بنو مرين من زناتة خرجوا على الموحدين فمكثوا يطاولونهم نحوا من ثلاثين سنة و استولوا على فاس و اقتطعوها و أعمالها من ملوكهم ثم أقاموا في محاربتهم ثلاثين أخرى حتى استولوا على كرسيهم بمراكش حسبما نذكر ذلك كله في تواريخ هذه الدول فهكذا حال الدول المستجدة مع المستقرة في المطالبة و المطاولة سنة الله في عباده و لن تجد لسنة الله تبديلا. و لا يعارض ذلك بما وقع في الفتوحات الإسلامية و كيف كان استيلاؤهم على فارس و الروم لثلاث أو أربع من وفاة النبي صلى الله عليه و سلم و اعلم أن ذلك إنما كان معجزة من معجزات نبينا سرها استماتة المسلمين في جهاد عدوهم استبعادا بالإيمان و ما أوقع الله في قلوب عدوهم من الرعب و التخاذل فكان ذلك كله خارقا للعادة المقررة في مطاولة الدول المستجدة للمستقرة و إذا كان ذلك خارقا فهو من معجزات نبينا صلوات الله عليه المتعارف ظهورها في الملة الإسلامية و المعجزات لا يقاس عليها الأمور العادية و لا يعترض بها و الله سبحانه و تعالى أعلم و به التوفيق.

الفصل الحادي و الخمسون في وفور العمران آخر الدولة و ما يقع فيها من كثر الموتان و المجاعات
اعلم أنه قد تقرر لك فيما سلف أن الدولة في أول أمرها لابد لها من الرفق في ملكتها و الاعتدال في إيالتها إما من الدين إن كانت الدعوة دينية أو من المكارهة و المحاسنة التي تقتضيها البداوة الطبيعية للدول و إذا كانت الملكة رفيقة محسنة انبسطت آمال الرعايا و انتشطوا للعمران و أسبابه فتوفر و يكثر التناسل و إذا كان ذلك كله بالتدريج فإنما يظهر أثره بعد جيل أو جيلين في الأقل و في انقضاء الجيلين تشرف الدولة على نهاية عمرها الطبيعي فيكون حينئذ العمران في غاية الوفور و النماء و لا تقولن إنه قد مر لك أن أواخر الدولة يكون فيها الإجحاف بالرعايا و سوء الملكة فذلك صحيح و لا يعارض ما قلناه لأن الإجحاف و إن حدث حينئذ و قلت الجبايات فإنما يظهر أثره في تناقص العمران بعد حين من أجل التدريج في الأمور الطبيعية ثم إن المجاعات و الموتان تكثر عند ذلك في أواخر الدول و السبب فيه: إما المجاعات فلقبض الناس أيديهم عن الفلح في الأكثر بسبب ما يقع في آخر الدولة من العدوان في الأموال و الجبايات أو الفتن الواقعة في انتقاص الرعايا و كثرة الخوارج لهرم الدولة فيقل احتكار الزرع غالبا و ليس صلاح الزرع و ثمرته بمستمر الوجود و لا على وتيرة واحدة فطبيعة العالم في كثرة الأمطار و قلتها مختلفة و المطر يقوى و يضعف و يقل و يكثر و الزرع و الثمار و الضرع على نسبته إلا أن الناس واثقون في أقواتهم بالاحتكار فإذا فقد الاحتكار عظم توقع الناس للمجاعات فغلا الزرع و عجز عنه أولو الخصاصة فهلكوا و كان بعض السنوات الاحتكار مفقودا فشمل الناس الجوع و أما كثرة الموتان فلها أسباب من كثرة المجاعات كما ذكرناه أو كثرة الفتن لاختلال الدولة فيكثر الهرج و القتل أو وقوع الوباء و سببه في الغالب فساد الهواء بكثرة العمران لكثرة ما يخالطه من العفن و الرطوبات الفاسدة و إذا فسد الهواء و هو غذاء الروح الحيواني و ملابسه دائما فيسري الفساد إلى مزاجه فإن كان الفساد قويا وقع المرض في الرئة و هذه هي الطواعين و أمراضها مخصوصة بالرئة و إن كان الفساد دون القوي و الكثير فيكثر العفن و يتضاعف فتكثر الحميات في الأمزجة و تمرض الأبدان و تهلك سبب كثرة العفن و الرطوبات الفاسدة في هذا كله كثرة العمران و وفوره آخر الدولة لما كان في أوائلها من حسن الملكة و رفقها و قلة المغرم و هو ظاهر و لهذا تبين في موضعه من الحكمة أن تخلل الخلاء و القفر بين العمران ضروري ليكون تموج الهواء يذهب بما يحصل في الهواء من الفساد و العفن بمخالطة الحيوانات و يأتي بالهواء الصحيح و لهذا أيضاً فإن الموتان يكون في المدن الموفورة العمران أكثر من غيرها بكثير كمصر بالمشرق و فاس بالمغرب و الله يقدر ما يشاء.

الفصل الثاني والخمسون في أن العمران البشري لا بد له من سياسة ينتظم بها أمره
اعلم أنه قد تقدم لنا في غير موضع أن الاجتماع للبشر ضروري و هو معنى العمران الذي نتكلم فيه و أنه لا بد لهم في الاجتماع من وازع حاكم يرجعون إليه و حكمه فيهم تارة يكون مستنداً إلى شرع منزل من عند الله يوجب انقيادهم إليه إيمانهم بالثواب و العقاب عليه الذي جاء به مبلغه و تارة إلى سياسة عقلية يوجب انقيادهم إليها ما يتوقعونه من ثواب ذلك الحاكم بعد معرفته بمصالحهم. فالأولى يحصل نفعها في الدنيا و الآخرة لعلم الشارع بالمصالح في العاقبة و لمراعاته نجاة العباد في الآخرة و الثانية إنما يحصل نفعها في الدنيا فقط و ما تسمعه من السياسة المدنية فليس من هذا الباب و إنما معناه عند الحكماء ما يجب أن يكون عليه كل واحد من أهل ذلك المجتمع في نفسه و خلقه حتى يستغنوا عن الحكام رأساً و يسمون المجتمع الذي يحصل فيه ما يسمى من ذلك بالمدينة الفاضلة، و القوانين المراعاة في ذلك بالسياسة المدنية و ليس مرادهم السياسة التي يحمل عليها أهل الاجتماع بالمصالح العامة فإن هذه غير تلك و هذه المدينة الفاضلة عندهم نادرة أو بعيدة الوقوع و إنما يتكلمون علنها على جهة الفرض و التقدير ثم إن السياسة العقلية التي قدمناها تكون على وجهين أحدهما يراعى فيها المصالح على العموم و مصالح السلطان في استقامة ملكه على الخصوص و هذه كانت سياسة الفرس و هي على جهة الحكمة. و قد أغنانا الله تعالى عنها في الملة و لعهد الخلافة لأن الأحكام الشرعية مغنية عنها في المصالح العامة و الخاصة و أحكام الملك مندرجة فيها. الوجه الثاني أن يراعى فيها مصلحة السلطان و كيف يستقيم له الملك مع القهر و الاستطالة و تكون المصالح العامة في هذه تبعاً و هذه السياسة التي يحمل عليها أهل الاجتماع التي لسائر الملوك في العالم من مسلم و غيره إلا أن ملوك المسلمين يجرون منها على ما تقتضيه الشريعة الإسلامية بحسب جهدهم فقوانينها إذا مجتمعة من أحكام شرعية و آداب خلقية و قوانين في الاجتماع طبيعية، و أشياء من مراعاة الشوكة و العصبية ضرورية و الاقتداء فيها بالشرع أولاً ثم الحكماء في آدابهم و الملوك في سيرهم و من أحسن ما كتب في ذلك و أودع كتاباً طاهر بن الحسين لابنه عبد الله بن طاهر لما ولاه المأمون الرقة و مصر و ما بينهما فكتب إليه أبوه طاهر كتابه المشهور عهد إليه فيه و وصاه بجميع ما يحتاج إليه في دولته و سلطانه من الآداب الدينية و الخلقية و السياسة الشرعية و الملوكية، و حثه على مكارم الأخلاق و محاسن الشيم بما لا يستغني عنة ملك و لا سوقة. و نص الكتاب بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فعليك بتقوى الله وحده لا شريك له و خشيته و مراقبته عز و جل و مزايلة سخطه و احفظ رعيتك في الليل و النهار و الزم ما ألبسك الله من العافية بالذكر لمعادك و ما أنت صائر إليه و موقوف عليه و مسئول عنه، و العمل في ذلك كله بما يعصمك الله عز و جل و ينجيك يوم القيامة من عقابه و أليم عذابه فإن الله سبحانه قد أحسن إليك و أوجب الرأفة عليك بمن استرعاك أمرهم من عباده و ألزمك العدل فيهم و القيام بحقه و حدوده عليهم و الذب عنهم و الدفع عن حريمهم و منصبهم و الحقن لدمائهم و الأمن لسربهم و إدخال الراحة عليهم و مؤاخذك بما فرض عليك و موقفك عليه و سائلك عنه و مثيبك عليه بما قدمت و أخرت ففرغ لذلك فهمك و عقلك و بصرك و لا يشغلك عنه شاغل، و أنه رأس أمرك و ملاك شأنك و أول ما يوقعك الله عليه و ليكن أول ما تلزم به نفسك و تنسب إليه فعلك المواظبة على ما فرض الله عز و جل عليك من الصلوات الخمس و الجماعة عليها بالناس قبلك و توابعها على سننها من إسباغ الوضوء لها و افتتاح ذكر الله عز وجل فيها و رتل في قراءتك و تمكن في ركوعك و سجودك و تشهدك و لتصرف فيه رأيك و نيتك و احضض عليه جماعة ممن معك و تحت يدك و ادأب عليها فإنها كما قال الله عز و جل تنهى عن الفحشاء و المنكر ثم اتبع ذلك بالأخذ بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم و المثابرة على خلائقه و اقتفاء أثر السلف الصالح من بعده، و إذا ورد عليك أمر فاستعن عليه باستخارة الله عز و جل و تقواه و بلزوم ما أنزل الله عز و جل في كتابه من أمره و نهيه و حلاله و حرامه و ائتمام ما جاءت به الآثار عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم قم فيه بالحق لله عز وجل و لا تميلن عن العدل فيما أحببت أو كرهت لقريب من الناس أو لبعيد و آثر الفقه و أهله و الدين و حملته و كتاب الله عز و جل و العاملين به فإن أفضل ما يتزين به المرء الفقه في الدين و الطلب له و الحث عليه و المعرفة بما يتقرب به إلى الله عز و جل فإنه الدليل على الخير كله و القائد إليه و الآمر و الناهي عن المعاصي و الموبقات كلها و مع توفيق الله عز و جل يزداد المرء معرفة و إجلالاً له و دركاً للدرجات العلى في المعاد مع ما في ظهوره للناس من التوقير لأمرك و الهيبة لسلطانك و الأنسة بك و الثقة بعدلك و عليك بالاقتصاد في الأمور كلها فليس شيء أبين نفعاً و لا أخص أمناً و لا أجمع فضلاً منه. و القصد داعية إلى الرشد و الرشد دليل على التوفيق و التوفيق قائد إلى السعادة و قوام الدين و السنن الهادية بالاقتصاد و كذا في دنياك كلها. و لا تقصر في طلب الآخرة و الأجر و الأعمال الصالحة و السنن المعروفة و معالم الرشد و الإعانة و الاستكثار من البر و السعي له إذا كان يطلب به وجه الله تعالى و مرضاته و مرافقة أولياء الله في دار كرامته أما تعلم أن القصد في شأن الدنيا يورث العز و يمحص من الذنوب و أنك لن تحوط نفسك من قائل و لا تنصلح أمورك بأفضل منه فأته و افتد به تتم أمورك و تزد مقدرتك و تصلح عامتك و خاصتك و أحسن ظنك بالله عز و جل تستقيم لك رعيتك و التمس الوسيلة إليه في الأمور كلها تستدم به النعمة عليك و لا تتهمن أحداً من الناس فيما توليه من عملك قبل أن تكشف أمره فإن إيقاع التهم بالبراء و الظنون السيئة بهم آثم إثم. فاجعل من شأنك حسن الظن بأصحابك و اطرد عنك سوء الظن بهم، و ارفضه فيهم يعنك ذلك على استطاعتهم و رياضتهم. و لا يجدن عدو الله الشيطان في أمرك مغمزاً فإنه يكتفي بالقليل من وهنك و يدخل عليك من الغم بسوء الظن بهم ما ينقص لذاذة عيشك. و اعلم أنك تجد بحسن الظن قوة و راحة، و تكتفي به ما أحببت كفايته من أمورك و تدعو به الناس إلى محبتك و الاستقامة في الأمور كلها و لا يمنعك حسن الظن بأصحابك و الرأفة برعيتك أن تستعمل المسألة و البحث عن أمورك و المباشرة لأمور الأولياء و حياطة الرعية و النظر في حوائجهم و حمل مؤوناتهم أيسر عندك مما سوى ذلك فإنه أقوم للدين و أحيا للسنة. و أخلص نيتك في جميع هذا و تفرد بتقويم نفسك تفرد من يعلم أنه مسئول عما صنع و مجزي بما أحسن و مؤاخذ بما أساء فإن الله عز و جل جعل الدين حرزاً و عزاً و رفع من اتبعه و عزره و اسلك بمن تسوسه و ترعاه نهج الدين و طريقة الهدى. و أقم حدود الله تعالى في أصحاب الجرائم على قدر منازلهم و ما استحقوه و لا تعطل ذلك و لا تتهاون به و لا تؤخر عقوبة أهل العقوبة فإن في تفريطك في ذلك ما يفسد عليك حسن ظنك و اعتزم على أمرك في ذلك بالسنن المعروفة و جانب البدع و الشبهات يسلم لك دينك و تقم لك مرؤتك. و إذا عاهدت عهداً فأوف به و إذا وعدت خيراً فأنجزه و اقبل الحسنة و ادفع بها، و اغمض عن عيب كل ذي عيب من رعيتك، و اشدد لسانك عن قول الكذب و الزور، و أبغض أهل النميمة، فإن أول فساد أمورك في عاجلها و آجلها، تقريب الكذوب، و الجراءة على الكذب، لأن الكذب رأس المآثم، و الزور و النميمة خاتمتها، لأن النميمة لا يسلم صاحبها و قائلها، لا يسلم له صاحب و لا يستقيم له أمر. و أحبب أهل الصلاح و الصدق، و أعز الأشراف بالحق، و آس الضعفاء، و صل الرحم، و ابتغ بذلك وجه الله تعالى و إعزاز أمره، و التمس فيه ثوابه و الدار الآخرة. و اجتنب سوء الأهواء و الجور، و اصرف عنهما رأيك و أظهر براءتك من ذلك لرعيتك و أنعم بالعدل في سياستهم و قم بالحق فيهم، و بالمعرفة التي تنتهي بك إلى سبيل الهدى. و املك نفسك عند الغضب، و آثر الحلم و الوقار، و إياك و الحدة و الطيش و الغرور فيما أنت بسبيله. و إياك أن تقول أنا مسلط أفعل ما أشاء فإن ذلك سريع إلى نقص الرأي و قلة اليقين بالله عز و جل و أخلص لله وحده النية فيه و اليقين به. و اعلم أن الملك لله سبحانه و تعالى يؤتيه من يشاء و ينزعه ممن يشاء. و لن تجد تغير النعمة و حلول النقمة على أحد أسرع منه إلى حملة النعمة من أصحاب السلطان و المبسوط لهم في الدولة إذا كفروا نعم الله و إحسانه و استطالوا بما أعطاهم الله عز و جل من فضله. و دع عنك شره نفسك و لتكن ذخائرك و كنوزك التي تدخر و تكنز البر و التقوى و استصلاح الرعية و عمارة بلادهم و التفقد لأمورهم و الحفظ لدمائهم و الإغاثة لملهوفهم. و اعلم أن الأموال إذا اكتنزت و ادخرت في الخزائن لا تنمو و إذا كانت في صلاج الرعية و إعطاء حقوقهم و كف الأذية عنهم نمت و زكت و صلحت بها العامة و ترتبت بها الولاية و طاب بها الزمان و اعتقد فيها العز و المنفعة. فليكن كنز خزائنك تفريق الأموال في عمارة الإسلام و أهله. و وفر منه على أولياء أمير المؤمنين قبلك حقوقهم و أوف من ذلك حصصهم و تعهد ما يصلح أمورهم و معاشهم فإنك إذا فعلت ذلك قرت النعمة عليك و استوجبت المزيد من الله تعالى و كنت بذلك على جباية خراجك و جمع أموال رعيتك و عملك أقدر و كان الجميع لما شملهم من عدلك و إحسانك أسلس لطاعتك و أطيب أنفساً بكل ما أردت. و أجهد نفسك فيما حددت لك في هذا الباب و ليعظم حقك فيه و إنما يبقى من المال ما أنفق في سبيل الله و اعرف للشاكرين حقهم و أثبهم عليه و إياك أن تنسيك الدنيا و غرورها هول الآخرة فتتهاون بما يحق عليك فإن التهاون يورث التفريط و التفريط يورث البوار. و ليكن عملك لله عز و جل و ارج الثواب فيه فإن الله سبحانه قد أسبغ عليك فضله. و اعتصم بالشكر و عليه فاعتمد يزدك الله خيراً و إحساناً فإن الله عز و جل يثيب بقدر شكر الشاكرين و إحسان المحسنين. و لا تحقرن ذنباً و لا تمالئن حاسداً و لا ترحمن فاجراً و لا تصلن كفوراً و لا تداهنن عدواً و لا تصدقن نماماً و لا تأمنن غداراً و لا توالين فاسقاً و لا تتبعن غاوياً و لا تحمدن مرائياً و لا تحقرن إنساناً و لا تردن سائلاً فقيراً و لا تحسنن باطلاً و لا تلاحظن مضحكاً و لا تخلفن وعداً و لا تزهون فخراً و لا تظهرن غضباً و لا تباينن رجاءً و لا تمشين مرحاً و لا تفرطن في طلب الآخرة و لا ترفع للنمام عيناً و لا تغمضن عن ظالم رهبة منه أو محاباةً و لا تطلبن ثواب الآخرة في الدنيا. و أكثر مشاورة الفقهاء و استعمل نفسك بالحلم و خذ عن أهل التجارب و ذوي العقل و الرأي و الحكمة. و لا تدخلن في مشورتك أهل الرفه و البخل و لا تسمعن لهم قولاً فإن ضررهم أكثر من نفعهم و ليس شيء أسرع فساداً لما استقبلت فيه أمر رعيتك من الشح. و اعلم أنك إذا كنت حريصاً كنت كثير الأخذ قليل العطية و إذا كنت كذلك لم يستقم لك أمرك إلا قليلاً فإن رعيتك إنما تعقد على محبتك بالكف عن أموالهم و ترك الجور عليهم. و ابتدئ من صافاك من أوليائك بالإفصال عليهم و حسن العطية لهم. و اجتنب الشح و اعلم أنه أول ما عصى الإنسان به ربه و إن العاصي بمنزلة خزي و هو قول الله عز و جل و من يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون فسهل طريق الجود بالحق و اجعل للمسلمين كلهم من فيئك، حظاً و نصيباً و أيقن أن الجود أفضل أعمال العباد فأعده لنفسك خلقاً و ارض به عملاً و مذهباً. و تفقد الجند في دواوينهم و مكانتهم و أدر عليهم أرزاقهم و و وسع عليهم في معايشهم يذهب الله عز و جل بذلك فاقتهم فيقوى لك أمرهم و تزيد قلوبهم في طاعتك و أمرك خلوصاً و انشراحاً. و حسب ذي السلطان من السعادة أن يكون على جنده و رعيته ذا رحمة في عدله و حيطته و إنصافه و عنايته و شفقته و بره و توسعته فزايل مكروه أحد البابين باستشعار فضيلة الباب الآخر و لزوم العمل به تلق إن شاء الله تعالى نجاحاً و صلاحاً و فلاحاً. و اعلم أن القضاء من الله تعالى بالمكان الذي ليس فوقه شيء من الأمور لأنه ميزان الله الذي تعدل عليه أحوال الناس في الأرض. و بإقامة العدل في القضاء و العمل تصلح أحوال الرعية و تأمن السبل و ينتصف المظلوم و تأخذ الناس حقوقهم و تحسن المعيشة و يؤدى حق الطاعة و يرزق الله العافية و السلامة و يقيم الدين و يجري السنن و الشرائع في مجاريها. و اشتد في أمر الله عز و جل و تورع عن النطف و امض لإقامة الحدود. و أقل العجلة و ابعد عن الضجر و القلق و اقنع بالقسم و انتفع بتجربتك و انتبه في صمتك و اسدد في منطقك و أنصف الخصم و قف عند الشبهة و أبلغ في الحجة و لا يأخذك في أحد من رعيتك محاباة و لا مجاملة و لا لومة لائم و تثبت و تأن و راقب و انظر و تنكر و تدبر و اعتبر و تواضع لربك و ارفق بجميع الرعية و سلط الحق على نفسك و لا تسرعن إلى سفك دم فإن الدماء من الله عز و جل بمكان عظيم انتهاكاً لها بغير حقها. و انظر هذا الخراج الذي استقامت عليه الرعية و جعله الله للإسلام عزاً و رفعةً و لأهله توسعة و منعة و لعدوه و عدوهم كبتاً و غيظاً و لأهل الكفرمن معاديهم ذلاً و صغاراً فوزعه بين أصحابه بالحق و العدل و التسوية و العموم و لا تدفعن شيئاً منه عن شريف لشرفه و لا عن غني لغناه و لا عن كاتب لك و لا عن أحد من خاصتك و لا حاشيتك و لا تأخذن منه فوق الاحتمال له. و لا تكلف أمراً فيه شطط. و احمل الناس كلهم على أمر الحق فإن ذلك أجمع لأنفسهم و ألزم لرضاء العامة. و اعلم أنك جعلت بولايتك خازناً و حافظاً و راعياً و إنما سمي أهل عملك رعيتك لأنك راعيهم و قيمهم. فخذ منهم ما أعطوك من عفوهم و نفذه في قوام أمرهم و صلاحهم و تقويم أودهم. و استعمل عليهم أولي الرأي و التدبير و التجربة و الخبرة بالعلم و العمل بالسياسة و العفاف. و وسع عليهم في الرزق فإن ذلك من الحقوق اللازمة لك فيما تقلدت و أسند إليك فلا يشغلك عنه شاغل و لا يصرفك عنه صارف فإنك متى آثرته و قمت فيه بالواجب استدعيت به زيادة النعمة من ربك و حسن الأحدوثة في عملك و اجتررت به المحبة من رعيتك و أعنت على الصلاح فدرت الخيرات ببلدك و فشت العمارة بناحيتك و ظهر الخصب في كورك و كثر خراجك و توفرت أموالك و قويت بذلك على ارتياض جندك و إرضاء العامة بإفاضة العطاء فيهم من نفسك و كنت محمود السياسة مرضي العدل في ذلك عند عدوك و كنت في أمورك كلها ذا عدل و آلة و قوة و عدة. فنافس في ذلك و لا تقدم عليه شيئاً تحمد عاقبة أمرك إن شاء الله تعالى. و اجعل في كل كورة من عملك أميناً يخبرك أخبار عمالك و يكتب إليك بسيرهم و أعمالهم حتى كأنك مع كل عامل في عمله معاين لأموره كلها. فإن أردت أن تأمرهم بأمر فانظر في عواقب ما أردت من ذلك فإن رأيت السلامة فيه و العافية و رجوت فيه حسن الدفاع و الصنع فأمضه و إلا فتوقف عنه و راجع أهل البصر و العلم به ثم خذ فيه عدته فإنه ربما نظر الرجل في أمره و قدره و أتاه على ما يهوى فأغواه ذلك و أعجبه فإن لم ينظر في عواقبه أهلكه و نقص عليه أمره. فاستعمل الحزم في كل ما أردت و باشره بعد عون الله عز و جل بالقوة. و أكثر من استخارة ربك في جميع أمورك. و افرغ من يومك و لا تؤخره لغدك و أكثر مباشرته بنفسك فإن للغد أموراً و حوادث تلهيك عن عمل يومك الذي أخرت. و اعلم أن اليوم إذا مضى ذهب بما فيه و إذا أخرت عمله اجتمع عليك عمل يومين فيثقلك ذلك حتى تمرض منه. و إذا مضيت لكل يوم عمله أرحت بدنك و نفسك و جمعت أمر سلطانك و انظر أحرار الناس و ذوي الفضل منهم ممن بلوت صفاء طويتهم و شهدت مودتهم لك و مظاهرتهم بالنصح و المحافظة على أمرك فاستخلصهم و أحسن إليهم و تعاهد أهل البيوتات ممن قد دخلت عليهم الحاجة و احتمل مؤونتهم و أصلح حالهم حتى لا يجدوا لخلتهم مساً و أفرد نفسك للنظر في أمور الفقراء و المساكين و من لا يقدر على رفع مظلمته إليك و المحتقر الذي لا علم له بطلب حقه فسل عنه أحفى مسألة و وكل بأمثاله أهل الصلاح من رعيتك و مرهم برفع حوائجهم و حالاتهم إليك لتنفر فيما يصلح الله به أمرهم و تعاهد ذوي البأساء و أيتامهم و أراملهم و اجعل لهم أرزاقاً من بيت المال اقتداء بأمير المؤمنين أعزه الله تعالى في العطف عليهم و الصلة لهم ليصلح الله بذلك عيشهم و يرزقك به بركة و زيادة. و أجر للأضراء من بيت المال و قدم حملة القرآن منهم و الحافظين لأكثره في الجراية على غيرهم و انصب لمرضى المسلمين دوراً تأويهم و قواماً يرفقون بهم و أطباء يعالجون أسقامهم و أسعفهم بشهواتهم مالم يؤد ذلك إلى إسراف في بيت المال. و اعلم أن الناس إذا أعطوا حقوقهم و أفضل أمانيهم لم يرضيهم ذلك و لم تطب أنفسهم دون رفع حوائجهم إلى ولاتهم طمعاً في نيل الزيادة و فضل الرفق منهم. و ربما تبرم المتصفح لأمور الناس لكثرة ما يرد عليه و يشغل فكره و ذهنه فيها ما يناله به من مؤونة و مشقة. و ليس من يرغب في العدل و يعرف محاسن أموره في العاجل و فضل ثواب الآجل كالذي يستقبل ما يقرئه إلى الله تعالى و يلتمس رحمته و أكثر الإذن للناس عليك و أبرز لهم وجهك و سكن لهم حواسك و اخفض لهم جناحك و أظهر لهم بشرك و لن لهم في المسألة و النطق و اعطف عليهم بجودك و فضلك. و إذا أعطيت فأعط بسماحة و طيب نفس و التماس للصنيعة و الأجر من غير تكدير و لا امتنان فإن العطية على ذلك تجارة مربحة إن شاء الله تعالى. و اعتبر بما ترى من أمور الدنيا و من مضى قبلك من أهل السلطان و الرئاسة في القرون الخالية و الأمم البائدة. ثم اعتصم في أحوالك كلها بالله سبحانه و تعالى و الوقوف عند محبته و العمل بشريعته و سنته و بإقامة دينه و كتابه و اجتنب ما فارق ذلك و خالفه و دعا إلى سخط الله عز و جل و اعرف ما يجمع عمالك من الأموال و ما ينفقون منها و لا تجمع حراماً و لا تنفق إسرافاً. و أكثر مجالسة العلماء و مشاورتهم و مخالطتهم و ليكن هواك اتباع السنن و إقامتها و إيثار مكارم الأخلاق و معاليها و ليكن أكرم دخلائك و خاصتك عليك من إذا رأى عيبا فيك لم تمنعه هيبتك عن إنهاء ذلك إليك في سرك و إعلانك بما فيه من النقص فإن أولئك أنصح أوليائك و مظاهرون لك. و انظر عمالك الذين بحضرتك و كتابك فوقت لكل رجل منهم في كل يوم وقتاً يدخل فيه عليك بكتبه و مؤامراته و ما عنده من حوائج عمالك و أمور الدولة و رعيتك ثم فرغ لما يورد عليك من ذلك سمعك و بصرك و فهمك و عقلك و كرر النظر فيه و التدبر له فما كان موافقاً للحق و الحزم فأمضه و استخر الله عز و جل فيه و ما كان مخالفاً لذلك فاصرفه إلى المسألة عنه و التثبت منه و لا تمنن على رعيتك و لا غيرهم بمعروف تؤتيه إليهم. و لا تقبل من أحد إلا الوفاء و الاستقامة و العون في أمور أمير المسلمين و لا تضعن المعروف إلا على ذلك. و تفهم كتابي إليك و انعم النظر فيه و العمل به و استعن بالله على جميع أمورك و استخره فإن الله عز و جل مع الصلاح و أهله و ليكن أعظم سيرتك و أفضل رغبتك ما كان لله عز و جل رضى و لدينه نظاماً و لأهله عزاً و تمكيناً و للملة و الذمة عدلاً و صلاحاً و أنا أسأل الله أن يحسن عونك و توفيقك و رشدك و كلاءتك و السلام. و حدث الإخباريون أن هذا الكتاب لما ظهر و شاع أمره أعجب به الناس و اتصل بالمأمون فلما قرئ عليه قال ما أبقى أبو الطيب يعني طاهراً شيئاً من أمور الدنيا والدين و التدبير و الرأي و السياسة و صلاح الملك و الرعية و حفظ السلطان و طاعة الخلفاء و تقويم الخلافة إلا و قد أحكمه و أوصى به ثم أمر المأمون فكتب به إلى جميع العمال في النواحي ليقتدوا به و يعملوا بما فيه هذا أحسن ما وقفت عليه في هذه السياسة و الله أعلم.

القسم الأول من الفصل الثالث و الخمسون في أمر الفاطمي و ما يذهب إليه الناس في شأنه و كشف الغطاء عن ذلك القسم الأول
اعلم أن في المشهور بين الكافة من أهل الإسلام على ممر الأعصار أنه لا بد في آخر الزمان من ظهور رجل من أهل البيت يؤيد الدين و يظهر العدل و يتبعه المسلمون و يستولي على الممالك الإسلامية و يسمى بالمهدي و يكون خروج الدجال و ما بعده من أشراط الساعة الثابتة في الصحيح على أثره. و أن عيسى ينزل من بعده فيقتل الدجال أو ينزل معه فيساعده على قتله و يأتم بالمهدي في صلاته و يحتجون في الشأن بأحاديث خرجها الأمة و تكلم فيها المنكرون لذلك و ربما عارضوها ببعض الأخبار و للمتصوفة المتأخرين في أمر هذا الفاطمي طريقة أخرى و نوع من الاستدلال و ربما يعتمدون في ذلك على الكشف الذي هو أصل طرائقهم. و نحن الآن نذكر هنا الأحاديث الواردة في هذا الشأن و ما للمنكرين فيها من المطاعن و ما لهم في إنكارهم من المستند ثم نتبعه بذكر كلام المتصوفة و رأيهم ليتبين لك الصحيح من ذلك إن شاء الله تعالى فنقول إن جماعة من الأمة خرجوا أحاديث المهدي منهم الترمذي و أبو داود و البزاز و ابن ماجة و الحاكم و الطبراني و أبو يعلى الموصلي و أسندوها إلى جماعة من الصحابة مثل علي و ابن عباس و ابن عمر و طلحة و ابن مسعود و أبي هريرة و أنس و أبي سعيد الخدري و أم حبيبة و أم سلمة و ثوبان و قرة بن إياس و علي الهلالي و عبد الله بن الحارث بن جزء بأسانيد ربما يعرض لها المنكرون كما نذكره إلا أن المعروف عند أهل الحديث أن الجرح مقدم على التعديل فإذا وجدنا طعناً في بعض رجال الأسانيد بغفلة أو بسوء حفظ أو ضعف أو سوء رأي تطرق ذلك إلى صحة الحديث و أوهن منها و لا تقولن مثل ذلك ربما يتطرق إلى رجال الصحيحين فإن الإجماع قد اتصل في الأمة على تلقيهما بالقول و العمل بما فيهما و في الإجماع أعظم حماية و أحسن دفعاً و ليس غير الصحيحين بمثابتهما في ذلك فقد تجد مجالاً للكلام في أسانيدها بما نقل عن أمة الحديث في ذلك.
و لقد توغل أبو بكر بن أبي خيثمة على ما نقل السهيلي عنه في جمعه للأحاديث الواردة في المهدي فقال و من أغربها إسناداً ما ذكره أبو بكر الإسكاف في فوائد الأخبار مستنداً إلى مالك بن أنس عن محمد بن المنكدر عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: من كذب بالمهدي فقد كفر و من كذب بالدجال فقد كذب و قال في طلوع الشمس من مغربها مثل ذلك فيما أحسب و حسبك هذا غلواً. و الله أعلم بصحة طريقه إلى مالك بن أنس على أن أبا بكر الإسكاف عندهم متهم وضاع.
و أما الترمذي فخرج هو و أبو داود بسند هما إلى ابن عباس. من طريق عاصم بن أبي النجود أحد القراء السبعة إلى زر بن حبيش عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه و سلم: لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطول الله ذلك اليوم حتى يبعث الله فيه رجلاً مني أو من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي و اسم أبيه اسم أبي. هذا لفظ أبي داود و سكت عليه و قال في رسالته المشهورة إن ما سكت عليه في كتابه فهو صالح و لفظ الترمذي لا تذهب الدنيا حتى يملك العرب رجل من أهل بيتي يواطىء اسمه اسمي و في لفظ آخر حتى يلي رجل من أهل بيتي و كلاهما حديثاً حسن صحيح و رواه أيضاً من طريق موقوفاً على أبي هريرة و قال الحاكم رواه الثوري و شعبة و زائدة و غيرهم من أئمة المسلمين عن عاصم قال: و طرق عاصم عن زر عن عبد الله كلها صحيحة على ما أصلته من الاحتجاج بأخبار عاصم إذ هو إمام من أئمة المسلمين انتهى إلا أن عاصماً قال فيه أحمد بن حنبل: كان رجلاً صالحاً قارئاً للقرآن خيراً ثقة و الأعمش أحفظ منه و كان شعبة يختار الأعمش عليه في تثبيت الحديث و قال العجلي كان يختلف عليه في زر و أبي وائل يشير بذلك إلى ضعف روايته عنهما و قال محمد بن سعد كان ثقة إلا أنه كثير الخطأ في حديثه و قال يعقوب بن سفيان في حديثه اضطراب و قال عبد الرحمن بن أبي حاتم قلت لأبي أن أبا زرعة يقول عاصم ثقة فقال ليس محله هذا و قد تكلم فيه ابن علية فقال كل من اسمه عاصم سيء الحفظ و قال أبو حاتم محله عندي محل الصدق صالح الحديث و لم يكن بذلك الحافظ و اختلف فيه قول النسائي و قال ا بن حراش في حديثه نكرة و قال أبو جعفر العقيلي لم يكن فيه إلا سوء الحفظ و قال الدارقطني في حفظه شيء و قال يحيى القطان ما وجدت رجلاً اسمه عاصم إلا وجدته سيء الحفظ و قال أيضاً سمعت شعبة يقول حدثنا عاصم بن أبي النجود و في الناس ما فيها و قال الذهبي ثبت في القراءة و هو حسن الحديث. و إن حتج أحد بأن الشيخين أخرجا له منقول أخرجا له مقروناً بغيره لا أصلاً و الله أعلم.
و خرج أبو داود في الباب عن علي رضي الله عنه من رواية قطن بن خليفة عن لقاسم بن أبي مرة عن أبي الطفيل عن علي عن النبي صلى الله عليه و سلم قال: لو لم يبق من الدهر إلا يوم لبعث الله رجلاً من أهل بيتي يملأها عدلاً كما ملئت جوراً و قطن بن خليفة و إن وثقه أحمد و يحيى بن القطان و ابن معين و النسائي و غيرهم إلا أن العجلي قال: حسن الحديث و فيه تشيع قليل و قال ابن معين مرة: ثقة شيعي. و قال أحمد بن عبد الله بن يونس: كنا نمر على قطن و هو مطروح لا نكتب عنه. و قال مرة: كنت أمر به و أدعه مثل الكلب. و قال الدارقطني: لا يحتج به. و قال أبو بكر بن عياش: ما تركت الرواية عنه إلا لسوء مذهبه. و قال الجرجاني: زائغ غير ثقة انتهى. و خرج أبو داود أيضاً بسنده إلى علي رضي الله عنه عن مروان بن المغيرة عن عمر بن أبي قيس عن شعيب بن أبي خالد عن أبي إسحاق النسفي قال: قال علي و نظر إلى ابنه الحسن إن ابني هذا سيد كما سماه رسول الله صلى الله عليه و سلم. سيخرج من صلبه رجل يسمى باسم نبيكم يشبهه في الخلق و لا يشبهه في الخلق يملأ الأرض عدلاً و قال هارون حدثنا عمر بن أبي قيس عن مطرف بن طريف عن أبي الحسن عن هلال بن عمر سمعت علياً يقول: قال النبي صلى الله عليه و سلم: يخرج رجل من وراء النهر يقال له الحارث على مقدمته رجل يقال له منصور يوطىء أو يمكن لآل محمد كما مكنت قريش لرسول الله صلى الله عليه و سلم وجب على كل مؤمن نصره أو قال إجابته. سكت أبو داود عليه. و قال في موضع آخر في هارون: هو من ولد الشيعة. و قال السليماني: فيه نظر. و قال أبو داود في عمر بن أبي قيس: لا بأس في حديثه خطأ. و قال الذهبي: صدق له أوهام. و أما أبو إسحاق الشيعي و إن خرج عنه في الصحيحين فقد ثبت أنه اختلط آخر عمره و روايته عن علي، منقطعة، و كذلك رواية أبي داود عن هارون بن المغيرة. و أما السند الثاني فأبو الحسن فيه و هلال بن عمر مجهولان و لم يعرف أبو الحسن إلا من رواية مطرف بن طريف عنه انتهى. و خرج أبو داود أيضاً عن أم سلمة قالت سمعت في المستدرك من طريق علي بن نفيل عن سعيد بن المسيب عن أم سلمة قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول: المهدي من ولد فاطمة و لفظ الحاكم: سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يذكر المهدي فقال: نعم هو حق و هو من بني فاطمة و لم يتكلم عليه بالصحيح و لا غيره و قد ضعفه أبو جعفر العقيلي و قال: لا يتابع علي بن نفيل عليه و لا عرف إلا به. و خرج أبو داود أيضاً عن أم سلمة من رواية صالح أبي الخليل عن صاحب له عن أم سلمة قال: يكون اختلاف عند موت خليفة فيخرج رجل من أهل المدينة هارباً إلى مكة فيأتيه ناس من أهل مكة فيخرجونه و هو كاره فيبايعونه بين الركن و المقام فيبعث إليه بعث من الشام فيخسف بهم بالبيداء بين مكة و المدينة فإذا رأى الناس ذلك أتاه أبدال أهل الشام و عصائب أهل العراق فيبايعونه ثم ينشأ رجل من قريش أخواله كلب فيبعث إليهم بعثاً فيظهرون عليهم و ذلك بعث كلب و الخيبة لمن لم يشهد غنيمة كلب فيقسم المال و يعمل في الناس بسنة نبيهم صلى الله عليه و سلم و يلقي الإسلام بجرانه على الأرض فيلبث سبع سنين و قال بعضهم تسع سنين ثم رواه أبو داود من رواية أبي الخليل عن عبد الله بن الحارث عن أم سلمة فتبين بذلك المبهم في الإسناد الأول و رجاله رجال الصحيحين لا مطعن فيهم و لا مغمز و قد يقال إنه من رواية قتادة عن أبي الخليل و قتادة مدلس و قد عنعنه و المدلس لا يقبل من حديثه إلا ما صرح فيه بالسماع. مع أن الحديث ليس فيه تصريح بذكر المهدي نعم ذكره أبو داود في أبوابه و خرج أبو داود أيضاً و تابعه الحاكم عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: المهدي مني أجلى الجبهة اقنى الأنف يملأ الأرض قسطاً و عدلاً كما ملئت ظلماً و جوراً يملك سبع سنين هذا لفظ أبي داود و سكت عليه و لفظ الحاكم: المهدي منا أهل البيت أشم الأنف أقنى أجلى يملأ الأرض قسطاً و عدلاً كما ملئت جوراً و ظلماً يعيش هكذا و يبسط يساره و إصبعين من يمينه السبابة و الإبهام و عقد ثلاث قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم و لم يخرجاه. و عمران القطان مختلف في الاحتجاج يه إنما أخرج له البخاري استشهاداً لا أصلاً و كان يحيى القطان لا يحدث عنه و قال يحيى بن معين: ليس بالقوي و قال مرة: ليس بشيء. و قال أحمد بن حنبل أرجو أن يكون صالح الحديث و قال يزيد بن زريع كان حرورياً و كان يرى السيف على أهل القبلة و قال النسائي ضعيف و قال أبو عبيد الآجري: سألت أبا داود عنه. فقال: من أصحاب الحسن و ما سمعت إلا خيراً. و سمعته مرة أخرى ذكره فقال: ضعيف أفتى في إبراهيم بن عبد الله بن حسن بفتوى شديدة فيها سفك الدماء. و خرج الترمذي و ابن ماجة و الحاكم عن أبي سعيد الخدري من طريق زيد العمي عن أبي صديق الناجي عن أبي سعيد الخدري قال: خشينا أن يكون بعض شيء حدث فسألنا نبي الله صلى الله عليه و سلم فقال: إن في أمتي المهدي يخرج و يعيش خمساً أو سبعاً أو تسعاً زيد الشاك قال قلنا: و ما ذاك ؟ قال سنين ! قال: فيجيء إليه الرجل فيقول: يا مهدي أعطني قال: فيحثو له في ثوبه ما استطاع أن يحمله لفظ الترمذي و قال: هذا حديث حسن و قد روى من غير وجه عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه و سلم و لفظ ابن ماجة و الحاكم: يكون في أمتي المهدي إن قصر فسبع و إلا فتسع فتنعم أمتي فيه نعمة لم يسمعوا بمثلها قط تؤتى الأرض أكلها و لا يدخر منه شيء و المال يومئذ كدوس فيقوم الرجل فيقول: يا مهدي أعطني فيقول خذ. انتهى. و زيد العمي و إن قال فيه الدارقطني و أحمد بن حنبل و يحيى بن معين إنه صالح و زاد أحمد إنه فوق يزيد الرقاش و فضل بن عيسى إلا أنه قال فيه أبو حاتم: ضعيف يكتب حديثه و لا يحتج به. و قال يحيى بن معين في رواية أخرى: لا شيء. و قال مرة يكتب حديثه و هو ضعيف. و قال الجرجاني: متماسك و قال أبو زرعة ليس بقوي واهي الحديث ضعيفاً و قال أبو حاتم ليس بذاك و قد حدث عنه شعبة. و قال النسائي: ضعيف و قال ابن عدي: عامة ما يرويه و من يروى عنهم ضعفاء على أن شعبة قد روى عنه و لعل شعبة لم يرو عن أضعف منه.
و قد يقال إن حديث الترمذي وقع تفسيراً لما رواه مسلم في صحيحه من حديث جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: يكون في آخر أمتي، خليفة يحثو المال حثواً لا يعده عداً و من حديث أبي سعيد قال: من خلفائكم خليفة يحثو المال حثواً و من طريق أخرى عنهما قال: يكون في آخر الزمان خليفة يقسم المال و لا يعده انتهى. و أحاديث مسلم يقع فيها ذكر المهدي و لا دليل يقوم على أنه المراد منها. و رواة الحاكم أيضاً من طريق عوف الأعرابي عن أبي الصديق الناجي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: لا تقوم الساعة حتى تملأ الأرض جوراً و ظلماً و عدواناً ثم يخرج من أهل بيتي رجل يملأها قسطاً و عدلاً كما ملئت ظلماً و عدواناً و قال فيه الحاكم: هذا صحيح على شرط الشيخين و لم يخرجاه. و رواه الحاكم أيضاً عن طريق سليمان بن عبيد عن أبي الصديق الناجي عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: يخرج في آخر أمتي المهدي يسقيه الله الغيث و تخرج الأرض نباتها و يعطي المال صحاحاً و تكثر الماشية و تعظم الأمة يعيش سبعاً أو ثمانياً يعني حججاً و قال فيه حديث صحيح الإسناد و لم يخرجاه. مع أن سليمان بن عبيد لم يخرج له أحد من الستة لكن ذكره ابن حبان في الثقات و لم يرد أن أحداً تكلم فيه ثم رواه الحاكم أيضاً من طريق أسد بن موسى عن حماد بن سلمة عن مطر الوراق و أبي هارون العبدي عن أبي الصديق الناجي عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: تملأ الأرض جوراً و ظلماً فيخرج رجل من عترتي فيملك سبعاً أو تسعاً فيملأ الأرض عدلاً و قسطاً كما ملئت جوراً و ظلماً و قال الحاكم فيه: هذا حديث صحيح على شرط مسلم لأنه أخرج عن حماد بن سلمة و عن
شيخه مطر الوراق. و أما شيخه الآخر و هو أبو هارون العبدي فلم يخرج له. و هو ضعيف جداً متهم بالكذب و لا حاجة إلى بسط أقوال الأئمة في تضعيفه. و أما الراوي له عن حماد بن سلمة فهو أسد بن موسى يلقب أسد السنة و إن قال البخاري: مشهور الحديث و استشهد به في صحيحه. و احتج به أبو داود و النسائي إلا إنه قال مرة أخرى: ثقة لو لم يصنف كان خيراً له. و قال فيه محمد بن حزم: منكر الحديث. و رواه الطبراني في معجمه الأوسط من رواية أبي الواصل عبد الحميد بن واصل عن أبي الصديق الناجي عن الحسن بن يزيد السعدي أحد بني بهذلة عن أبي سعيد الخدري قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول: يخرج رجل من أمتي يقول بسنتي ينزل الله عز و جل له القطر من السماء و تخرج الأرض بركتها و تملأ الأرض منه قسطاً و عدلاً كما ملئت جوراً و ظلماً يعمل على هذه الأمة سبع سنين و ينزل على بيت المقدس و قال الطبراني: فيه رواة جماعة عن أبي الصديق و لم يدخل أحد منهم بينه و بين أبي سعيد أحداً إلا أبا الواصل فإنه رواه عن الحسن بن يزيد عن أبي سعيد انتهى. و هذا الحسن بن يزيد ذكره ابن أبي حاتم و لم يعرفه بأكثر مما في هذا الإسناد من روايته عن أبي سعيد و رواية أبي الصديق عنه و قال الذهبي في الميزان: إنه مجهول. لكن ذكره ابن حبان في الثقات و أما أبو الواصل الذي رواه عن أبي الصديق فلم يخرج له أحد من الستة. و ذكره ابن حبان في الثقات في الطبقة الثانية و قال فيه: يروى عن أنس روى عنه شعبة و عتاب بن بشر و خرج ابن ماجة في كتاب السنن عن عبد الله بن مسعود من طريق يزيد بن أبي زياد عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه و سلم إذ أقبل فتية من بني هاشم فلما رآهم رسول الله صلى الله عليه و سلم ذرفت عيناه و تغير لونه قال فقلت ما نزال نرى في وجهك شيئاً نكرهه فقال: إنا أهل البيت اختار الله لنا الآخرة على الدنيا و إن أهل بيتي سيلقون بعدي بلاء و تشريداً و تطريداً حتى يأتي قوم من قبل المشرق معهم رايات سود فيسألون الخبر فلا يعطونه فيقاتلون و ينصرون فيعطون ما سألوا فلا يقبلونه حتى يدفعوها إلى رجل من أهل بيتي فيملأها قسطاً كما ملأوها جوراً فمن أدرك ذلك منكم فليأتهم و لو حبواً على الثلج انتهى.
و هذا الحديث يعرف عند المحدثين بحديث الرايات. و يزيد بن أبي زياد راويه قال فيه شعبة: كان رفاعاً يعني يرفع الأحاديث التي لا تعرف مرفوعة. و قال محمد بن الفضيل: من كبار أئمة الشيعة. و قال أحمد بن حنبل: لم يكن بالحافظ و قال مرة: حديثة ليس بذلك. و قال يحيى بن معين: ضعيف. و قال العجلي: جائز الحديث، و كان بآخره يلقن. و قال أبو زرعة: لين يكتب حديثه و لا يحتج به. و قال أبو حاتم: ليس بالقوي. و قال الجرجاني: سمعتهم يضعفون حديثه. و قال أبو داود: لا أعلم أحداً ترك حديثه و غيره أحب إلي منه. و قال ابن عدي هو من شيعة أهل الكوفة و مع ضعفه يكتب حديثه. و روى له مسلم لكن مقروناً بغيره. و بالجملة فالأكثرون على ضعفه. و قد صرح الأئمة بتضعيف هذا الحديث الذي رواه عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله و هو حديث الرايات. و قال وكيع بن الجراح فيه: ليس بشيء. و كذلك قال أحمد بن حنبل و قال أبو قدامة سمعت أبا أسامة يقول في حديث يزيد عن إبراهيم في الرايات لو حلف عندي خمسين يميناً أسامة ما صدقته أهذا مذهب إبراهيم ؟ أهذا مذهب علقمة ؟ أهذا مذهب عبد الله ؟ و أورد العقيلي هذا الحديث في الضعفاء و قال الذهبي ليس بصحيح. و خرج ابن ماجة عن علي رضي الله عنه من رواية ياسين العجلي عن إبراهيم بن محمد بن الحنفية عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: المهدي منا أهل البيت يصلح الله به في ليلة.
و ياسين العجلي و إن قال فيه ابن معين ليس به بأس فقد قال البخاري فيه نظر. و هذه اللفظة من اصطلاحه قوية في التضعيف جداً. و أورد له ابن عدي في الكامل و الذهبي في الميزان هذا الحديث على وجه الاستنكار له و قال هو معروف به. و خرج الطبراني في معجمه الأوسط عن علي رضي الله عنه إنه قال للنبي صلى الله عليه و سلم أمنا المهدي أم من غيرنا يا رسول الله ؟ فقال: بل منا بنا يختم الله كما بنا فتح و بنا يستنقذون من الشرك و بنا يؤلف الله قلوبهم بعد عداوة بينة كما بنا ألف بين قلوبهم بعد عداوة الشرك. قال علي أمؤمنون أم كافرون ؟، قال: مفتون و كافر انتهى. و فيه عبد الله بن لهيعة و هو ضعيف معروف الحال. و فيه عمر بن جابر و الحضرمي و هو أضعف منه. قال أحمد بن حنبل: روي عن جابر مناكيز و بلغني أنه كان يكذب و قال النسائي ليس بثقة و قال كان ابن لهيعة شيخاً أحمق ضعيف العقل و كان يقول: علي في السحاب، و كان يجلس معنا فيبصر سحابة فيقول، هذا علي قد مر في السحاب، و خرج الطبراني عن علي رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: يكون في آخر الزمان فتنة يحصل الناس فيها كما يحصل الذهب في المعدن فلا تسبوا أهل الشام و لكن سبوا أشرارهم فإن فيهم الأبدال يوشك أن يرسل على أهل الشام صيب من السماء فيفرق جماعتهم حتى لو قاتلتهم الثعالب غلبتهم فعند ذلك يخرج خارج من أهل بيتي في ثلاث رايات المكثر يقول بهم خمسة عشر ألفاً و المقل يقول بهم اثنا عشر ألفاً و أمارتهم امت امت يلقون سبع رايات تحت كل راية منها رجل يطلب الملك فيقتلهم الله جميعاً و يرد الله إلى المسلمين إلفتهم و نعمتهم و قاصيتهم و رأيهم.
و فيه عبد الله بن لهيعة و هو ضعيف معروف الحال و رواه الحاكم في المستدرك و قال صحيح الإسناد و لم يخرجاه في روايته ثم يظهر الهاشمي فيرد الله الناس إلى إلفتهم الخ و ليس في طريقه ابن لهيعة و هو إسناد صحيح كما ذكر.
و خرج الحاكم في المستدرك عن علي رضي الله عنه من رواية أبي الطفيل عن محمد بن الحنفية قال: كنا عند علي رضي الله عنه فسأله رجل عن المهدي فقال له: هيهات ثم عقد بيده سبعاً فقال ذلك يخرج في آخر الزمان إذا قال الرجل الله الله قتل و يجمع الله له قوماً قزعاً، كقزع السحاب يؤلف الله بين قلوبهم فلا يستوحشون إلى أحد و لا يفرحون بأحد دخل فيهم عدتهم على عدة أهل بدر لم يسبقهم الأولون و لا يدركهم الآخرون و على عدد أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر. قال أبو الطفيل قال ابن الحنفية: أتريده ؟ قلت: نعم. قال: فإنه يخرج من بين هذين الأخشبين قلت لا جرم و الله و لا أدعها حتى أموت. و مات بها يعني مكة قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين.
و إنما هو على شرط مسلم فقط فإن فيه عماراً الذهبي و يونس بن أبي إسحاق و لم يخرج لهما البخاري و فيه عمرو بن محمد العبقري و لم يخرج له البخاري احتجاجاً بل استشهاداً مع ما ينضم إلى ذلك من تشيع عمار الذهبي و هو و إن وثقه أحمد و ابن معين و أبو حاتم النسائي و غيرهم فقد قال علي بن المدني عن سفيان أن بشر بن مروان قطع عرقوبيه قلت في أي شيء ؟ قال: في التشيع. و خرج ابن ماجة عن أنس بن مالك رضي الله عنه في رواية سعد بن عبد الحميد بن جعفر عن علي بن زياد اليمامي عن عكرمة بن عمار عن إسحاق بن عبد الله عن أنس قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول: نحن ولد عبد المطلب سادات أهل الجنة أنا و حمزة و علي و جعفر و الحسن و الحسين و المهدي. انتهى.
و عكرمة بن عمار و إن أخرج له مسلم فإنما أخرج له متابعة. و قد ضعفه بعض و وثقه آخرون و قال أبو حاتم الرازي: هو مدلس فلا يقبل إلى أن يصرح بالسماع علي بن زياد. قال الذهبي في الميزان: لا ندري من هو، ثم قال الصواب فيه: عبد الله بن زياد و سعد بن عبد الحميد و إن وثقه يعقوب بن أبي شيبة و قال فيه يحيى بن معين ليس به بأس فقد تكلم فيه الثوري قالوا لأنه رآه يفتي في مسائل و يخطئ فيها. و قال ابن حبان: كان ممن فحش عطاؤه فلا يحتج فيه. و قال أحمد بن حنبل: سعيد بن عبد الحميد يدعي أنه سمع عرض كتب مالك و الناس ينكرون عليه ذلك و هو ههنا ببغداد لم يحتج فكيف سمعها ؟ و جعله الذهبي ممن لم يقدح فيه كلام من تكلم فيه و خرج الحاكم في مستدركه من رواية مجاهد عن ابن عباس موقوفاً عليه قال مجاهد قال لي ابن عباس: لو لم أسمع أنك مثل أهل البيت ما حدثتك بهذا الحديث قال فقال مجاهد: فإنه في ستر لا أذكره لمن يكره قال فقال ابن عباس: منا أهل البيت أربعة منا السفاح و منا المنذر و منا المنصور و منا المهدي قال فقال مجاهد: بين لي هؤلاء الأربعة. فقال ابن عباس: أما السفاح فربما قتل أنصاره و عفا عن عدوه، و أما المنذر أراه قال فإنه يعطي المال الكثير و لا يتعاظم في نفسه و يمسك القليل من حقه و أما المنصور فإنه يعطى النصر على عدوه الشطر مما كان يعطي رسول الله صلى الله عليه و سلم و يرهب منه عدوه على مسيرة شهرين و المنصور يرهب منه عدوه على مسيرة شهر و أما المهدي الذي يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً و تأمن البهائم السباع و تلقي الأرض أفلاذ كبدها. قال: قلت و ما أفلاذ كبدها ؟ قال: أمثال الاسطوانة من الذهب و الفضة. و قال الحاكم هذا حديث صحيح الإسناد و لم يخرجاه و هو من رواية إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر عن أبيه و إسماعيل ضعيف و إبراهيم أبوه و إن خرج له مسلم فالأكثرون على تضعيفه. و خرج ابن ماجة عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: يقتتل عند كبركم ثلاثة كلهم ابن خليفة ثم لا يصير إلى واحد منهم ثم تطلع الرايات السود من قبل المشرق فيقتلونهم قتلاً لم يقتله قوم ثم ذكر شيئاً لا أحفظه قال: فإذا رأيتموه فبايعوه و لو حبواً على الثلج فإنه خليفة الله المهدي.
و رجاله رجال الصحيحين إلا أن فيه أبا قلابة الجرمي و ذكر الذهبي و غيره أنه مدلس و فيه سفيان الثوري و هو مشهور بالتدليس و كل واحد منهما عنعن و لم يصرح بالسماع فلا يقبل و فبه عبد الرزاق بن همام و كان مشهوراً بالتشيع و عمي في آخر وقته فخلط قال ابن عدي: حدث بأحاديث في الفضائل لم يوافقه عليها أحد، و نسبوه إلى التشيع. انتهى. و خرج ابن ماجة عن عبد الله بن الحارث بن جزء الزيدي من طريق ابن لهيعة عن أبي زرعة عن عمر بن جابر الحضرمي عن عبد الله بن الحارث بن جزء قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: يخرج ناس من المشرق فيوطئون للمهدي. يعني سلطانه. قال الطبراني: تفرد به ابن لهيعة و قد تقدم لنا في حديث علي الذي خرجه الطبراني في معجمه الأوسط أن ابن لهيعة ضعيف و أن شيخه عمر بن جابر أضعف منه و خرج البزاز في مسنده و الطبراني في معجمه الأوسط و اللفظ للطبراني عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال: يكون في أمتي المهدي إن قصر فسبع و إلا فثمان و إلا فتسع تنعم فيها أمتي نعمة لم ينعموا بمثلها ترسل السماء عليهم مدراراً و لا تدخر الأرض شيئاً من النبات و المال كدوس يقوم الرجل يقول يا مهدي أعطني فيقول خذ.
قال الطبراني و البزار تفرد به محمد بن مروان العجلي زاد البزار: و لا نعلم أنه تابعه عليه أحد و هو و إن وثقه أبو داود و ابن حبان أيضاً بما ذكره في الثقات و قال فيه يحيى بن معين صالح و قال مرة ليس به بأس فقد اختلفوا فيه و قال أبو زرعة: ليس عندي بذلك و قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: رأيت محمد بن مروان العجلي حدث بأحاديث و أنا شاهد لم نكتبها تركتها على عمد و كتب بعض أصحابنا عنه كأنه ضعفه. و خرجه أبو يعلى الموصلي في مسنده عن أبي هريرة و قال: حدثني خليلي أبو القاسم صلى الله عليه و سلم قال: لا تقوم الساعة حتى يخرج عليهم رجل من أهل بيتي فيضربهم حتى يرجعوا إلى الحق قال قلت و كم يملك ؟ قال: خمساً و اثنتين قال قلت و ما خمساً و اثنتين قال لا أدري.
و هذا السند غير محتج به و إن قال فيه بشير بن نهيك و قال فيه أبو حاتم لا يحتج به فقلت احتج به الشيخان و وثقه الناس و لم يلتفتوا إلى قول أبي حاتم لا يحتج به إلا أنه قال فيه رجاء ابن أبي رجاء اليشكري و هو مختلف فيه قال أبو زرعة ثقة و قال يحيى بن معين: ضعيف. و قال أبو داود: ضعيف. و قال مرة، صالح. و علق له البخاري في صحيحه حديثاً واحداً. و خرج أبو بكر البراز في مسنده و الطبراني في معجمه الكبير و الأوسط عن قرة بن إياس قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: لتملأن الأرض جوراً و ظلماً فإذا ملئت جوراً و ظلماً بعث الله رجلاً من أمتي اسمه اسمي و اسم أبيه اسم أبي يملاها عدلاً و قسطاً كما ملئت جوراً و ظلماً فلا تمنع السماء من قطرها شيئًا و لا تدخر الأرض من نباتها يلبث فيكم سبعاً أو ثمانياً أو تسعاً يعنى سنين. ا هـ. و فيه داود بن المحبي بن المحرم عن أبيه و هما ضعيفان جداً. و خرج الطبراني في معجمه الأوسط عن ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه و سلم في نفر من المهاجرين و الأنصار و علي بن أ بي طالب عن يساره و العباس عن يمينه إذ تلاحى العباس و رجل من الأنصار فأغلظ الأنصاري للعباس فأخذ النبي صلى الله عليه و سلم بيد العباس و بيد علي و قال: سيخرج من صلب هذا فتى يملأ الأرض جوراً و ظلماً و سيخرج من صلب هذا فتىً يملأ الأرض قسطاً و عدلاً فإذا رأيتم ذلك فعليكم بالفتى التميمي فإنه يقبل من قبل المشرق و هو صاحب راية المهدي انتهى. و فيه عبد الله بن عمر و عبد الله بن لهيعة و هما ضعيفان.

القسم الثاني من الفصل الثالث و الخمسون في أمر الفاطمي و ما يذهب إليه الناس في شأنه و كشف الغطاء عن ذلك القسم الثاني
و خرج الطبراني في معجمه الأوسط عن طلحة بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه و سلم قال: ستكون فتنة لا يسكن منها جانب إلا تشاجر جانب حتى ينادي مناد من السماء أن أميركم فلان. 1 هـ. و فيه المثنى بن الصباح و هو ضعيف جداً. و ليس في الحديث تصريح بذكر المهدي و إنما ذكروه في أبوابه و ترجمته استئناساً. فهذه جملة الأحاديث التي خرجها الأئمة في شأن المهدي و خروجه آخر الزمان. و هي كما رأيت لم يخلص منها من النقد إلا القليل و الأقل منه. و ربما تمسك المنكرون لشأنه بما رواه محمد بن خالد الجندي عن أبان بن صالح بن أبي عياش عن الحسن البصري عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه و سلم قال: لا مهدي إلا عيسى بن مريم و قال يحيى بن معين في محمد بن خالد الجندي: إنه ثقة. و قال البيهقي: تفرد به محمد بن خالد. و قال الحاكم فيه: أنه رجل مجهول و اختلف عليه في إسناده فمرة يروونه كما تقدم و ينسب ذلك لمحمد بن إدريس الشافعي و مرة يروونه عن محمد بن خالد عن أباب عن الحسن عن النبي صلى الله عليه و سلم مرسلاً. قال البيهقي: فرجع إلى رواية محمد بن خالد و هو مجهول عن أبان بن أبي عياش و هو متروك عن الحسن عن النبي صلى الله عليه و سلم و هو منقطع و بالجملة فالحديث ضعيف مضطرب. و قد قيل أن لا مهدي إلا عيسى أي لا يتكلم في المهد إلا عيسى يحاولون بهذا التأويل رد الاحتجاج به أو الجمع بينه و بين الأحاديث و هو مدفوع بحديث جريج و مثله من الخوارق. و أما المتصوفة فلم يكن المتقدمون منهم يخوضون في شيء من هذا لم إنما كان كلامهم في المجاهدة بالأعمال و ما يحصل عنها من نتائج المواجد و الأحوال و كان كلام الإمامية و الرافضة من الشيعة في تفصيل علي رضي الله عنه و القول بإمامته و ادعاء الوصية له بذلك من النبي صلى الله عليه و سلم و التبرىء من الشيخين كما ذكرناه في مذاهبهم ثم حدث فيهم بعد القول بالإمام المعصوم و كثرت التأليف في مذاهبهم. و جاء الإسماعيلية منهم يدعون الوهية الإمام بنوع من الحلول و آخرون يدعون رجعة من مات من الأئمة بنوع التناسخ، و آخرون منتظرون مجيء من يقطع بموته منكم و آخرون منتظرون عود الأمر في أهل البيت مستدلين على ذلك بما قدمناه من الأحاديث في المهدي و غيرها. ثم حدث أيضاً عند المتأخرين من الصوفية الكلام في الكشف و فيما وراء الحس و ظهر من كثير منهم القول على الإطلاق بالحلول و الوحدة فشاركوا فيها الإمامية و الرافضة لقولهم بألوهية الأئمة و حلول الإله فيهم.
و ظهر منهم أيضاً القول بالقطب و الإبدال و كأنه يحاكي مذهب الرافضة في الإمام و النقباء. و أشربوا أقوال الشيعة و توغلوا في الديانة بمذاهبهم، حتى جعلوا مستند طريقهم في لبس الخرقة أن علياً رضي الله عنه ألبسها الحسن البصري و أخذ عليه العهد بالتزام الطريقة. و اتصل ذلك عنهم بالجنيد من شيوخهم. و لا يعلم هذا عن علي من وجه صحيح. و لم تكن هذه الطريقة خاصة بعلي كرم الله وجهه بل الصحابة كلهم أسوة في طريق الهدى و في تخصيص هذا بعلي دونهم رائحة من التشيع قوية يفهم منها و من غيرها من القوم دخلهم في التشيع و انخراطهم في سلكه. و ظهر منهم أيضاً القول بالقطب و امتلأت كتب الإسماعيلية من الرافضة و كتب المتأخرين من المتصوفة بمثل ذلك في الفاطمي المنتظر و كان بعضهم يمليه على بعض و يلقنه بعضهم عن بعض و كانة مبني على أصول واهية من الفريقين و ربما يستدد بعضهم بكلام المنجمين في القرانات و هو من نوع الكلام في الملاحم و يأتي الكلام عليها في الباب الذي يلي هذا. و أكثر من تكلم من هؤلاء المتصوفة المتأخرين في شأن الفاطمي، ابن العربي، الحاتمي في كتاب عنقاء مغرب و ابن قسي في كتاب خلع النعلين و عبد الحق بن سبعين و ابن أبي واصل تلميذه في شرحه لكتاب خلع النعلين. و أكثر كلماتهم في شأنه ألغاز و أمثال و ربما يصرحون في الأقل أو صرح مفسرو كلامهم. و حاصل مذهبهم فيه على ما ذكر ابن أ بي واصل أن النبؤة بها ظهر الحق و الهدى بعد الضلال و العمى و أنها تعقبها الخلافة ثم يعقب الخلافة الملك ثم يعود تجبراً و تكبراً و باطلاً. قالوا: و لما كان في المعهود من سنة الله رجوع الأمور إلى ما كانت وجب أن يحيا أمر النبؤة و الحق بالولاية ثم بخلافتها ثم يعقبها الدجل مكان الملك و التسلط ثم يعود الكفر بحاله يشيرون بهذا لما وقع من شأن النبؤة و الخلافة بعدها و الملك بعد الخلافة. هذه ثلاث مراتب. و كذلك الولاية التي هي لهذا الفاطمي و الدجل بعدها كناية عن خروج الدجل على أثره و الكفر من بعد ذلك فهي ثلاث مراتب على نسبة الثلاث المراتب الأولى. قالوا: و لما كان أمر الخلافة لقريش حكماً شرعياً بالإجماع الذي لا يوهنه إنكار من يزاول علمه وجب أن تكون الإمامة فيمن هو أخص من قريش بالنبي صلى الله عليه و سلم إما ظاهراً كبني عبد المطلب و إما باطناً ممن كان من حقيقة الآل، و الآل من إذا حضر لم يلقب من هو آله.
و ابن العربي الحاتمي سماه في كتابه عنقاء مغرب من تأليفه: خاتم الأولياء و كنى عنه بلبنة الفضة إشارة إلى حديث البخاري في باب خاتم النبيين قال صلى الله عليه و سلم: مثلي فيمن قبلي من الأنبياء كمثل رجل ابتنى بيتاً و أكمله حتى إذا لم يبق منه إلا موضع لبنة فأنا تلك اللبنة فيفسرون خاتم النبيين باللبنة حتى أكملت البنيان و معناه النبي الذي حصلت له النبؤة الكاملة. و يمثلون الولاية في تفاوت مراتبها بالنبؤة و يجعلون صاحب الكمال فيها خاتم الأولياء أي حائز الرتبة التي هي خاتمة الولاية كما كان خاتم الأنبياء حائزاً للمرتبة التي هي خاتمة النبؤة. فكنى الشارح عن تلك المرتبة الخاتمة بلبنة البيت في الحديث المذكور.
و هما على نسبة واحدة فيهما. فهي لبنة واحدة في التمثيل. ففي النبؤة لبنة ذهب و في الولاية لبنة فضة للتفاوت بين الرتبتين كما بين الذهب و الفضة. فيجعلون لبنة الذهب كناية عن النبي صلى الله عليه و سلم و لبنة الفضة كناية عن هذا الولي الفاطمي المنتظر و ذلك خاتم الأنبياء و هذا خاتم الأولياء. و قال ابن العربي فيما نقل ابن أبي واصل عنه و هذا الإمام المنتظر هو من أهل البيت من ولد فاطمة و ظهوره يكون من بعد مضي ( خ ف ج ) من الهجرة و رسم حروفاً ثلاثة يريد عددها بحساب الجمل و هو الخاء المعجمة بواحدة من فوق ستمائة و الفاء أخت القاف بثمانين و الجيم المعجمة بواحدة من أسفل ثلاثة و ذلك ستمائة و ثلاث و ثمانون سنة و هي آخر القرن السابع و لما انصرم هذا العصر و لم يظهر حمل ذلك بعض المقلدين لهم على أن المراد بتلك المدة مولده و عبر بظهوره عن مولده و أن خروجه يكون بعد العشر السبعمائة فإنه الإمام الناجم من ناجية المغرب. قال: و إذا كان مولده كما زعم ابن العربي سنة ثلاث و ثمانين و ستمائة فيكون عمره عند خروجه ستاً و عشرين سنة قال و زعموا أن خروج الدجال يكون سنة ثلاث و أربعين و سبعمائة من اليوم المحمدي و ابتداء اليوم المحمدي عندهم من يوم وفاة النبي صلى الله عليه و سلم إلى تمام ألف سنة قال ابن أبي واصل في شرحه كتاب خلع النعلين الولي المنتظر القائم بأمر الله المشار إليه بمحمد المهدي و خاتم الأولياء و ليس هو بنبي و إنما هو ولي ابتعثه روحه و حبيبه. قال صلى الله عليه و سلم: العالم في قومه كالنبي في أمته. و قال: علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل و لم تزل البشرى تتابع به من أول اليوم المحمدي إلى قبيل الخمسمائة نصف اليوم و تأكدت و تضاعفت بتباشير المشايخ بتقريب وقته و ازدلاف زمانه منذ انقضت إلى هلم جرا قال و ذكر الكندي: أن هذا الولي هو الذي يصلي بالناس صلاة الظهر و يجدد الإسلام و يظهر العدل و يفتح جزيرة الأندلس و يصل إلى رومية فيفتحها و يسير إلى المشرق فيفتحه و يفتح القسطنطيبية و يصير له ملك الأرض فيتقوى المسلمون و يعلو الإسلام و يطهر دين الحنيفية فإن من صلاة الظهر إلى صلاة العصر وقت صلاة قال عليه الصلاة و السلام: ما بين هذين وقت و قال الكندي أيضاً: الحروف العربية غير المعجمة يعني المفتتح بها سور القرآن جملة عددها سبعمائة و ثلاث و أربعون و سبع دجالية ثم ينزل عيسى في وقت صلاة العصر فيصلح الدنيا وتمشي الشاة مع الذئب ثم مبلغ ملك العجم بعد إسلامهم مع عيسى مائة و سبعون عاماً عدد حروف العجم ( ق ي ن ) دولة العدل منها أربعون عاماً قال ابن أبي واصل و ما ورد من قوله لا مهدي إلا عيسى فمعناه لا مهدي تساوي هدايته ولايته و قيل لا يتكلم في المهد إلا عيسى و هذا مدفوع بحديث جريج و غير. و قد جاء في الصحيح أنه قال: ( لا يزال هذا الأمر قائماً حتى تقوم الساعة أو يكون عليهم اثنا عشر خليفة يعني قرشياً ).
و قد أعطى الوجود أن منهم من كان في أول الإسلام و منهم من سيكون في آخره. و قال: الخلافة بعدي ثلاثون أو إحدى و ثلاثون أو ست و ثلاثون وانقضاؤها في خلافة الحسن و أول أمر معاوية فيكون أول أمر معاوية خلافة أخذاً بأوائل الأسماء فهو سادس الخلفاء و أما سابع الخلفاء فعمر بن عند العزيز. و الباقون خمسة من أهل البيت من ذرية علي يؤيده قوله: ( إنك لذو قرنيها ) يريد الأمة أي إنك لخليفة في أولها و ذريتك في آخبرها. و ربما استدل بهذا الحديث القائلون بالرجعة. فالأول هو المشار إليه عندهم بطلوع الشمس من مغربها. و قد قال صلى الله عليه و سلم إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده و إذا هلك قيصر فلا قيصر بعده و الذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله و قد انفق عمر بن الخطاب كنوز كسرى في سبيل الله و الذي يهلك قيصر و ينفق كنوزه في سبيل الله هو هذا المنتظر حين يفتح القسطنطينية: فنعم الأمير أميرها و نعم الجيش ذلك الجيش.
كذا قال صلى الله عليه و سلم: و مدة حكمه بضع و البضع من ثلاث إلى تسع و قيل إلى عشر و جاء ذكر أربعين و في بعض الروايات سبعين. و أما الأربعون فإنها مدته و مدة الخلفاء الأربعة الباقين من أهله القائمين بأمره من بعده على جميعهم السلام قال و ذكر أصحاب النجوم و القرانات أن مدة بقاء أمر و أهل بيته من بعده مائة و تسعة و خمسون عاماً فيكون الأمر على هذا جارياً على الخلافة و العدل أربعين أو سبعين ثم تختلف الأحوال فتكون ملكاً انتهي كلام ابن أبي واصل. و قال في موضع آخر: ( نزول عيسى يكون في وقت صلاة العصر من اليوم المحمدي حين تمضي ثلاثة أرباعه ) قال و ذكر الكندي يعقوب بن إسحاق في كتاب الجفر الذي ذكر فيه القرانات: ( أنه إذا وصل القرآن إلى الثور على رأس ضح بحرفين الضاد المعجمة و الحاء المهملة ) يريد ثمانية و تسعين و ستمائة من الهجرة ينزل المسيح فيحكم في الأرض ما شاء الله تعالى قال و قد ورد في الحديث أن عيسى ينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق ينزل بين مهرودتين يعني حلتين مزعفرتين صفراوين ممصرتين واضعاً كفيه على أجنحة الملكين له لمة كأنما خرج من ديماس إذا طأطأ رأسه قطر و إذا رفعه تحدر منه جمان كاللؤلؤ كثير خيلان الوجه و في حديث آخر مربوع الخلق و إلى البياض و الحمرة. و في آخر: أنه يتزوج في الغرب. و الغرب دلو البادية يريد اله يتزوج منها و تلد زوجته. و ذكر وفاته بعد أربعين عاماً. و جاء أن عيسى يموت بالمدينة و يدفن إلى جانب عمر بن الخطاب. و جاء أن أبا بكر و عمر يحشران بين نبيين قال ابن أبي واصل: ( و الشيعة تقول إنه هو المسيح مسيح المسائح من آل محمد قلت و عليه حمل بعض المتصوفة حديث لا مهدي إلا عيسى أي لا يكون مهدي إلا المهدي الذي نسبته إلى الشريعة المحمدية نسبة عيسى إلى الشريعة الموسوية في الاتباع و عدم النسخ إلى كلام من أمثال هذا يعينون فيه الوقت و الرجل و المكان بأدلة واهية و تحكمات مختلفة فينقضي الزمان و لا أثر لشيء من ذلك فيرجعون إلى تحديد رأي آخر تنتحل كما تراه من مفهومات لغوية و أشياء تخييلية و أحكام نجومية في هذا انقضت أعمار أن أول منهم و الآخر.
و أما المتصوفة الذين عاصرناهم فأكثرهم يشيرون إلى ظهور رجل مجدد لأحكام الملة و مراسم الحق و يتحينون ظهوره لما قرب من عصرنا فبعضهم يقول من ولد فاطمة و بعضهم يطلق القول فيه سمعناه من جماعة أكبرهم أبو يعقوب البادسي كبير الأولياء بالمغرب كان في أول هذه المائة الثامنة و أخبرني عنه حافده صاحبنا أبو يحيى زكرياء عن أبيه أبي محمد عبد الله عن أبيه الولي أبي يعقوب المذكور هذا آخر ما اطلعنا عليه أو بلغنا من كلام هؤلاء المتصوفة و ما أورده أهل الحديث من أخبار المهدي قد استوفينا جميعه بمبلغ طاقتنا و الحق الذي ينبغي أن يتقرر لديك أنه لا تتم دعوة من الدين و الملك إلا بوجود شوكة عصبية تظهره و تدافع عنه من يدفعه حتى يتم أمر الله فيه. و قد قررنا ذلك من قبل بالبراهين القطعية التي أريناك هناك و عصبية الفاطميين بل و قريش أجمع قد تلاشت من جميع الآفاق و وجد أمم آخرون قد اشتغلت عصبيتهم على عصبية قريش إلا ما بقي بالحجاز في مكة و ينبع بالمدينة من الطالبين من بني حسن و بني حسين و بني جعفر و هم منتشرون في تلك البلاد و غالبون عليها و هم عصائب بدوية متفرقون في مواطنهم و إماراتهم يبلغون آلافاً من الكثرة فإن صح ظهور هذا المهدي فلا وجه لظهور دعوته إلا بأن يكون منهم و يؤلف الله بين قلوبهم في اتباعه حتى تتم له شوكة و عصبة وافية بإظهار كلمته و حمل الناس عليها و أما على غير هذا الوجه مثل أن يدعو فاطمي منهم إلى مثل هذا الأمر في أفق من الأفاق من غير عصبية و لا شوكة إلا مجرد نسبة في أهل البيت فلا يتم ذلك و لا يمكن لما أسلفناه من البراهين الصحيحة. و أما ما تدعيه العامة و الأغمار من الدهماء ممن لا يرجع في ذلك إلى عقل يهديه و لا علم يفيده فيجيبون ذلك على غير نسبة و في غير مكان تقليداً لما اشتهر من ظهور فاطمي و لا يعلمون حقيقة الأمر كما بيناه و أكثر ما يجيبون في ذلك القاصية من الممالك و أطراف العمران مثل الزاب بأفريقية و السوس من المغرب. و نجد الكثير من ضعفاء البصائر يقصدون رباطاً بماسة لما كان ذلك الرباط بالمغرب من الملثمين من كدالة و اعتقادهم أنه منهم أو قائمون بدعوته زعماً لا مستند لهم إلا غرابة تلك الأمم و بعدهم عن يقين المعرفة بأحوالها من كثيرة أو قلة أو ضعف أو قوة و لبعد القاصية عن منال الدولة و خروجها عن نطاقها فتقوى عندهم الأوهام في ظهوره هناك بخروجه عن برقة الدولة و منال الأحكام و القهر و لا محصول لديهم في ذلك إلا هذا. و قد يقصد ذلك الموضع كثير من ضعفاء العقول للتلبيس بدعوة يمييه تمامها وسواساً و حمقاً و قتل كثير منهم. اخبرني شيخناً محمد بن إبراهيم الأبلي قال خرج برباط ماسة لأول المائة الثامنة و عصر السلطان يوسف بن يعقوب رجل من منتحلي التصوف يعرف بالتويرزي نسبة إلى توزر مصغراً و ادعى أنه الفاطمي المنتظر و اتبعه الكثير من أهل السوس من ضالةً و كزولة و عظم أمره و خافه رؤساء المصامدة على أمرهم فدس عليه السكسوي من قتله بياتاً و انحل أمره. و كذلك ظهر في غمارة في آخر المائة السابعة و عشر التسعين منها رجل يعرف بالعباس و ادعى أنه الفاطمي و اتبعه الدهماء من غمارة و دخل مدينة فاس عنوة و حرق أسواقها و ارتحل إلى بلد المزمة فقتل بها غيلة و لم يتم أمره. و كثير من هذا النمط. و أخبرني شيخنا المذكور بغريبة في مثل هذا و هو أنه صحب في حجة في رباط العباد و هو مدفن الشيخ أبي مدين في جبل تلمسان المطل عليها رجلاً من أهل البيت من سكان كربلاء كان متبوعاً معظماً كثير التلميذ و الخادم. قال و كان الرجال من موطنه يتلقونه بالنفقات في أكثر البلدان. قال و تأكدت الصحبة بيننا في ذلك الطريق فانكشف لي أمرهم و أنهم إنما جاءوا من موطنهم بكر بلاء لطلب هذا الأمر و انتحال دعوة الفاطمي بالمغرب. فلما عاين دولة بني مرين و يوسف بن يعقوب يومئذ منازل تلمسان قال لأصحابه ارجعوا فقد أزرى بنا الغلط و ليس هذا الوقت وقتنا. و يدل هذا القول من هذا الرجل على أنه مستبصر في أن الأمر لا يتم إلا بالعصبية المكافئة لأهل الوقت فلما علم أنه غريب في ذلك الوطن و لا شوكة له و أن عصبية بني مرين لذلك العهد لا يقاومها أحد من أهل المغرب استكان و رجع إلى الحق و أقصر عن مطامعه. و بقي عليه أن يستيقن أن عصبية الفواطم و قريش أجمع قد ذهبت لا سيما في المغرب إلا أن التعصب لشأنه لم يتركه لهذا القول و الله يعلم و أنتم لا تعلمون. و قد كانت بالمغرب لهذه العصور القريبة نزعة من الدعاة إلى الحق و القيام بالسنة لا ينتحلون فيها دعوة فاطمي و لا غيره و إنما ينزع منهم في بعض الأحيان الواحد فالواحد إلى إقامة السنة و تغيير المنكر و يعتني بذلك و يكثر تابعه و أكثر ما يعنون بإصلاح السابلة لما أن أكثر فساد الأعراب فيها لما قدمناه من طبيعة معاشهم فيأخذون في تغيير المنكر بما استطاعوا إلا أن الصبغة الدينية فيهم لم تستحكم لما أن توبة العرب و رجوعهم إلى الدين إنما يقصدون بها الإقصار عن الغارة و النهب لا يعقلون في توبتهم و إقبالهم إلى مناحي الديانة غير ذلك لأنها المعصية التي كانوا عليها قبل المقربة و منها توبتهم. فتجد ذلك المنتحل للدعوة و القائم بزعمه بالسنة غير متعمقين في فروع الاقتداء و الاتباع إنما دينهم الإعراض عن النهب و البغي و إفساد السابلة ثم الإقبال على طلب الدنيا و المعاش بأقصى جهدهم. و شتان بين طلب هذا الأجر من إصلاح الخلق و من طلب الدنيا فاتفاقهما ممتنع لا تستحكم له صبغة في الدين و لا يكمل له نزوع عن الباطل على الجملة و لا يكثرون. و يختلف حال صاحب الدعوة معهم في استحكام دينه و ولا يته في نفسه دون تابعه فإذا هلك انحل أمرهم و تلاشت عصبتهم و قد وقع ذلك بأفريقية لرجل من كعب من سليم يسمى قاسم بن مرة بن أحمد في المائة السابعة ثم من بعده لرجل آخر من بادية رياح من بطون منهم يعرفون بمسلم و كان يسمى سعادة و كان أشد ديناً من الأول و أقوم طريقة في نفسه و مع ذلك فلم يستتب أمر تابعه كما ذكرناه حسبما يأتي في ذكر ذلك في موضعه عند ذكر قبائل سليم و رياح و بعد ذلك ظهر ناس بهذه الدعوة يتشبهون بمثل ذلك و يلبسون فيها و ينتحلون اسم السنة و ليسوا عليها إلا الأقل فلا يتيم لهم و لا لمن بعدهم شيء من أمرهم. انتهى.

الفصل الرابع و الخمسون في ابتداء الدول و الأمم و في الكلام على الملاحم و الكشف عن مسمى الجفر
إعلم أن من خواص النفوس البشرية التشوق إلى عواقب أمورهم و علم ما يحدث لهم من حياة و موت و خير و شر سيما الحوادث العامة كمعرفة ما بقي من الدنيا و معرفة مدد الدول أو تفاوتها و التطلع إلى هذا طبيعة مجبولون عليها و لذلك تجد الكثير من الناس يتشوقون إلى الوقوف على ذلك في المنام و الأخبار من الكهان لمن قصدهم بمثل ذلك من الملوك و السوقة معروفة و لقد نجد في المدن صنفاً من الناس ينتحلون المعاش من ذلك لعلمهم بحرص الناس عليه فينتصبون لهم في الطرقات و الدكاكين يتعرضون لمن يسألهم عنه فتغدو عليهم و تروح نسوان المدينة و صبيانها و كثير من ضعفاء العقول يستكشفون عواقب أمرهم في الكسب و الجاه و المعاش و المعاشرة و العداوة و أمثال ذلك ما بين خط في الرمل و يسمونه المنجم و طرفي بالحصى و الحبوب و يسمونه الحاسب و نظر في المرايا و المياه و يسمونه ضارب المندل و هو من المنكرات الفاشية في الأمصار لما تقرر في الشريعة من ذم ذلك و إن البشر محجوبون عن الغيب إلا من أطلعه الله عليه من عنده في نوم أو ولاية. و أكثر ما يعتني بذلك و يتطلع إليه الأمراء و الملوك في آماد دولتهم و لذلك انصرفت العناية من أهل العلم إليه و كل أمة من الأمم يوجد لهم كلام من كاهن أو منجم أو ولي في مثل ذلك من ملك يرتقبونه أو دولة يحدثون أنفسهم بها و ما يحدث لهم من الحرب و الملاحم و مدة بقاء الدولة و عدد الملوك فيها و التعرض لأسمائهم و يسمى مثل ذلك الحدثان و كان في العرب الكهان و العرافون يرجعون إليهم في ذلك و قد أخبروا بما سيكون للعرب من الملك و الدولة كما وقع لشق و سطيح في تأويل رؤيا ربيعة بن نصر من ملوك اليمن أخبرهم بملك الحبشة بلادهم ثم رجوعها إليهم ثم ظهر الملك و الدولة للعرب من بعد ذلك و كذا تأويل سطيح لرؤيا الموبذان حيث بعث إليه كسرى بها مع عند المسيح و أخبرهم بظهور دولة العرب. و كذا كان في جيل البربر كهان من أشهرهم موسى بن صالح من بني يفرن و يقال من غمرة له كلمات حدثانية على طريقة الشر برطانتهم و فيها حدثان كثير و معظمة فيما يكون. لزناتة من الملك و الدولة بالمغرب و هي متداولة بين أهل الجيل و هم يزعمون تارة أنه ولي و تارة أنه كاهن و قد يزعم بعض مزاعمهم أنه كان نبياً لأن تاريخه عندهم قبل الهجرة بكثير و الله أعلم. و قد يستند الجيل إلى خبر الأنبياء أن كان لعهدهم كما وقع لبني إسرائيل فإن أنبياءهم المتعاقبين فيهم كانوا يخبرونهم بمثله عندما يعنونهم في السؤال عنه. و أما في الدولة الإسلامية فوقع منه كثير فيما يرجع إلى بقاء الدنيا و مدتها على العموم و فيما يرجع إلى الدولة و أعمارها على الخصوص و كان المعتمد في ذلك في صدر الإسلام لآثار منقولة عن الصحابة و خصوصاً مسلمة بني إسرائيل مثل كعب الأخبار و وهب بن منبه و أمثالهما و ربما اقتبسوا بعض ذلك من ظواهر مأثورة و تأويلات محتملة. و وقع لجعفر و أمثاله من أهل البيت كثير من ذلك مستندهم فيه و الله أعلم الكشف بما كانوا عليه من الولاية و إذا كان مثله لا ينكر من غيرهم من الأولياء في ذويهم و أعقابهم و قد قال صلى الله عليه و سلم: إن فيكم محدثين فهم أولى الناس بهذه الرتب الشريفة و الكرامات الموهوبة. و أما بعد صدر الملة و حين علق الناس على العلوم و الاصطلاحات و ترجمت كتب الحكماء إلى اللسان العربي. فأكثر معتمدهم في ذلك كلام المنجمين في الملك و الدول و سائر الأمور العامة من القرانات و في المواليد و المسائل و سائر الأمور الخاصة من الطوالع لها و هي شكل الفلك عند حدوثها فلنذكر الآن ما وقع لأهل الأثر في ذلك ثم يرجع إلى كلام المنجمين. أما أهل الأثر فلهم في مدة الملل و بقاء الدنيا على ما وقع في كتاب السهيلي فإنه نقل عن الطبري ما يقتضي أن مدة بقاء الدنيا منذ الملة خمسمائة سنة و نقص ذلك بظهور كذبه و مستند الطبري في ذلك أنه نقل عن ابن عباس أن الدنيا جمعة من جمع الآخرة و لم يذكر لذلك دليلاً. و سره و الله أعلم تقدير الدنيا بأيام خلق السماوات و الأرض و هي سبعة ثم اليوم بألف سنة لقوله: وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون و قد ثبت في الصحيحين: أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: أجلهم في أجل من كان قبلهم من صلاة العصر إلى غروب الشمس و قال: بعثت أنا و الساعة كهاتين و أشار بالسبابة و الوسطى و قدر ما بين صلاة العصر و غروب الشمس و حين صيرورة ظل كل شيء مثليه يكون على التقريب نصف سبع، و كذلك وصل الوسطى على السبابة فتكون هذه المدة نصف سبع الجمعة كلها و هو خمسمائة سنة و يؤيده قوله صلى الله عليه و سلم: لن يعجز الله أن يؤخر هذه الأمة نصف يوم فدل ذلك على أن مدة الدنيا قبل الملة خمسة آلاف و خمسمائة سنة و عن وهب بن منبه أنها خمسة آلاف و ستمائة سنة أعني الماضي و عن كعب أن مدة الدنيا كلها ستة آلاف سنة قال السهيلي: و ليس في الحديثين ما يشهد لشيء مما ذكره مع وقوع الوجود بخلافه فأما قوله: لن يعجز الله أن يؤخر هذه الأمة نصف يوم فلا يقتضي نفي أن الزيادة على النصف و أما قوله: بعثت أنا و الساعة كهاتين فإنما فيه الإشارة إلى القرب و أنه ليس بينه و بين الساعة نبي غيره و لا شرع غير شرعه ثم رجع السهيلي إلى تعيين أمد الملة من مدرك آخر لو ساعده التحقيق و هو أنه جمع الحروف المقطعة في أوائل السور بعد حذف المكرر قال و هي أربعة عشر حرفاً يجمعها قولك ( ألم يسطع نص حق كره ) فأخذ عددها بحساب الجمل فكان سبعمائة و ثلاثة أضافه إلى المنقضي من الألف الآخر قبل بعثته فهذه هي مدة الملة قال و لا يبعد ذلك أن يكون من مقتضيات هذه الحروف و فوائدها قلت: و كونه لا يبعد لا يقتضي ظهوره و لا التعويل عليه. و الذي حمل السهيلي على ذلك إنما هو ما وقع في كتاب السير لابن إسحاق في حديث ابني أخطب من أخبار اليهود و هما أبو ياسر و أخوه حي حين سمعا من الأحرف المقطعة ( ألم ) و تأولاها على بيان المدة بهذا الحساب فبلغت إحدى و سبعين فاستقلا المدة و جاء حي إلى النبي صلى الله عليه و سلم يسأله: هل مع هذا غيره ؟ فقال ( المص ) ثم استزاد ( الرثم ) ثم استزاد ( المر ) فكانت إحدى و سبعين و مائتين فاستطال المدة و قال: قد لبس علينا أمرك يا محمد حتى لا ندري أقليلاً أعطيت أم كثيراً ثم ذهبوا عنه و قال لهم أبو ياسر ما يدريكم لعله أعطى عددها كلها تسعمائة و أربع سنين قال ابن إسحاق فنزل قولة تعالى: منه آيات محكمات هن أم الكتاب و أخر متشابهات. 1 هـ. و لا يقوم من القصة دليل على تقدير الملة بهذا العدد لأن دلالة هذه الحروف على تلك الأعداد ليست طبيعية و لا عقلية و إنما هي بالتواضع و الاصطلاح الذي يسمونه حساب الجمل نعم إنه قديم مشهور و قدم الاصطلاح لا يصير حجة و ليس أبو ياسر و أخوة حي ممن يؤخذ رأيه في ذلك دليلاً و لا من علماء اليهود لأنهم كانوا بادية بالحجاز غفلاً عن الصنائع و العلوم حتى عن علم شريعتهم وفقه كتابهم و ملتهم و إنما يتلقفون مثل هذا الحساب كما تتلقفه العوام في كل ملة فلا ينهض للسهيلي دليل على ما ادعاه من ذلك. و وقع في الملة في حدثان دولتها على الخصوص مسند من الأثر إجمالي في حديث خرجه أبو داود عن حذيفة بن اليمان من طريق شيخه محمد بن يحيى الذهبي عن سعيد بن أبي مريم عن عبد الله بن فروخ عن أسامة بن زيد الليثي عن أبي قبيصة بن ذؤيب عن أبيه قال قال حذيفة بن اليمان: و الله ما أدري أنسي أصحابي أم تناسوه و الله ما ترك رسول الله صلى الله عليه و سلم من قائد فئة إلى أن تنقضي الدنيا لا يبلغ من معه ثلثمائة فصاعداً إلا قد سماه لنا باسمه و اسم أبيه و قبيلته و سكت عليه أبو داود و قد تقدم أنه قال في رسالته ما سكته عليه في كتابه فهو صالح و هذا الحديث إذا كان صحيحاً فهو مجمل و يفتقر في بيان إجماله و تعيين مبهماته إلى آثار أخرى يجود أسانيدها. و قد وقع إسناد هذا الحديث في غير كتاب السنن على غير هذا الوجه فوقع في الصحيحين من حديث حذيفة أيضاً قال: قام رسول الله صلى الله عليه و سلم فينا خطيباً فما ترك شيئاً يكون في مقامه ذاك إلى قيام الساعة إلا حدث عنه حفظه من حفظه و نسيه من نسيه قد علمه أصحابه هؤلاء و لفظ البخاري: ما ترك شيئاً إلى قيام الساعة إلا ذكره و في كتاب الترمذي من حديث أبي سعيد الخدري قال صلى بنا رسول الله صلى الله عليه و سلم يوماً صلاة العصر بنهار ثم قام خطيباً فلم يدع شيئاً يكون إلى قيام الساعة إلا أخبرنا به حفظه من حفظه و نسيه من نسيه و هذه الأحاديث كلها محمولة على ما ثبت في الصحيحين من أحاديث الفتن و الاشتراط لا غير لأنه المعهود من الشارع صلوات الله و سلامه عليه في أمثال هذه العمومات و هذه الزيادة التي تفرد بها أبو داود في هذه الطريق شاذة منكرة مع أن الأئمة اختلفوا في رجاله فقال ابن أبي مريم في ابن فروخ أحاديثه مناكير. و قال البخاري يعرف منه و ينكر و قال ابن عدي أحاديثه غير محفوظة و أسامة بن زيد و أن خرج له في الصحيحين و وثقه ابن معين فإنما خرج له البخاري استشهاداً و ضعفه يحيى بن سعيد و أحمد بن حنبل و قال ابن حاتم يكتب حديثه و لا يحتج به. و أبو قبيضة ابن ذؤيب مجهول. فتضعف هذه الزيادة التي وقعت لأبي داود في هذا الحديث من هذه الجهات مع شذوذها كما مر. و قد يستندون في حدثان الدول على الخصوص إلى كتاب الجفر و يزعمون أن فيه علم ذلك كله من طريق الآثار و النجوم لا يزيدون على ذلك و لا يعرفون أصل ذلك و لا مستنده و اعلم أن كتاب الجفر كان أصله أن هازون بن سعيد العجلي و هو رأس الزيدية كان له كتاب يرويه عن جعفر الصادق و فيه علم ما سيقع لأهل البيت على العموم و لبعض الأشخاص منهم على الخصوص وقع ذلك لجعفر و نظائره من رجالاتهم على طريق الكرامة و الكشف الذي يقع لمثلهم من الأولياء و كان مكتوباً عند جعفر في جند ثور صغير فرواه عنه هارون العجلي و كتبه و سماه الجفر باسم الجلد الذي كتب فيه لأن الجفر في اللغة هو الصغير و صار هذا الاسم علماً على هذا الكتاب عندهم و كان فيه تفسير القرآن و ما في باطنه من غرائب المعاني مروية عن جعفر الصادق. و هذا الكتاب لم تتصل روايته و لا عرف عينه و إنما يظهر منه شواذ من الكلمات لا يصحبها دليل و لو صح السند إلى جعفر الصادق لكان فيه نعم المستند من نفسه أو من رجال قومه فهم أهل الكرامات و قد صح عنه أنه كان يحذر بعض قرابته بوقائع تكون لهم فتصح كما يقول و قد حذر يحيى ابن عمه زيد من مصرعه و عصاه فخرج و قتل بالجوزجان كما هو معروف. و إذا كانت الكرامة تقع لغيرهم فما ظنك بهم علماً و ديناً و آثاراً من النؤة و عناية من الله بالأصل الكريم تشهد لفروعه الطيبة و قد ينقل بين أهل البيت كثير من هذا الكلام غير منسوب إلى أحد و في أخبار دولة العبيديين كثير منه و انظر ما حكاه ابن الرقيق في لقاء أبي عبد الله الشيعي لعبيد الله المهدي مع ابنه محمد ****** و ما حدثاه به و كيف بعثاه إلى ابن حوشب داعيتهم باليمن فأمره بالخروج إلى المغرب و بث الدعوة فيه على علمه لقنه أن دعوته تتم هناك و أن عبيد الله لما بنى المهدية بعد استفحال دولتهم بأفريقية قال: ( بنيتها ليعتصم بها الفواطم ساعة من نهار ) و أراهم موقف صاحب الحمار أبي يزيد بالهدية و كان يسأل عن منتهى موقفه حتى جاءه الخبر ببلوغه إلى المكان الذي عينه جده أبو عبيد الله فأيقن بالظفر و برز من البلد فهزمه و اتبعه إلى ناحية الزاب فظفر به و قتله و مثل هذه الأخبار كثيرة.
و أما المنجمون فيستندون في حدثان الدول إلى الأحكام النجومية أما في الأمور العامة مثل الملك و الدول فمن القرانات و خصوصاً بين العلويين و ذلك أن العلويين زحل و المشتري يقترنان في كل عشرين سنة مرة ثم يعود القرآن إلى برج آخر في تلك المثلثة من التثليث الأيمن ثم بعده إلى آخر كذلك إلى أن يتكرر في المثلثة الواحدة اثنتي عشرة مرة تستوي بروجه الثلاثة في ستين سنة ثم يعود فيستوي بها في ستين سنة ثم يعود ثالثة ثم رابعة فيستوي في المثلثة باثنتي عشرة مرة و أربع عودات في مائتين و أربعين سنة و يكون انتقاله في كل برج على التثليث الأيمن و ينتقل من المثلثة إلى المثلثة التي تليها أعني البرج الذي يلي البرج الأخير من القرآن الذي قبلة في المثلثة و هذا القرآن الذي هو قران العلويين ينقسم إلى كبير و صغير و وسط فالكبير هو اجتماع العلويين في درجة واحدة من الفلك إلى أن يعود إليها بعد تسعمائة و ستين سنة مرة واحدة و الوسط هو اقتران العلويين في كل مثلثة اثنتي عشرة مرة و بعد مائتين و أربعين سنة ينتقل إلى مثلثة أخرى و الصغير هو اقتران العلويين في درجة برج و بعد عشرين سنة يقترنان في برج آخر على تثليثه الأيمن في مثل درجه أو دقائقه مثال ذلك وقع القرآن يكون أول دقيقة من الحمل و بعد عشرين يكون في أول دقيقة من الأسد و هذه كلها نارية و هذا كله قران صغير ثم يعود إلى أول الحمل بعد ستين سنة و يسمى دور القران و عود القران و بعد مائتين و أربعين ينتقل من النارية إلى الترابية لأنها بعدها و هذا قران وسط ثم ينتقل إلى الهوائية ثم المائية ثم يرجع إلى أول الحمل في تسعمائة و ستين سنة و هو الكبير و القران الكبير يدل على عظام الأمور مثل تغيير الملك و الدولة و انتقال الملك من قوم إلى قوم و الوسط على ظهور المتغلبين و الطالبين للملك و الصغير على ظهور الخوارج والدعاة و خراب المدن أو عمرانها و يقع في أثناء هذه القرانات قران النحسين في برج السرطان في كل ثلاثين سنة مرة و يسمى الرابع و برج السرطان هو طالع العالم و فيه و بال زحل و هبوط المريخ فتعظم دلالة هذا القران في الفتن و الحروب و سفك الدماء و ظهور الخوارج و حركة العساكر و عصيان الجند و الوباء و القحط و يدوم ذلك أو ينتهي على قدر السعادة و النحوسة في وقت قرانهما على قدر تيسير الدليل فيه. قال جراس بن أحمد الحاسب في الكتاب الذي ألفه لنظام الملك و رجوع المريخ إلى العرب له أثر عظيم في الملة الإسلامية لأنه كان دليلها فالمولد النبوي كان عند قران العلويين ببرج العقرب فلما رجع هنالك حدث التشويش على الخلفاء و كثر المرض في أهل العلم و الدين و نقصت أحوالهم و ربما انهدم بعض بيوت العبادة و قد يقال أنه كان عند قتل علي رضي الله عنه و مروان من بني أمية و المتوكل من بني العباس فإذا روعيت هذه الأحكام مع أحكام القرانات كانت في غاية الإحكام و ذكر شاذان البلخي: أن الملة تنتهي إلى ثلاثمائة و عشرين. و قد ظهر كذب هذا القول. و قال أبو معشر: يظهر بعد المائة و الخمسين منها اختلاف كثير و لم يصح ذلك. و قال خراشى: رأيت في كتب القدماء أن المنجمين أخبروا كسرى عن ملك العرب و ظهور النبؤة فيهم. و أن دليلهم الزهرة و كانت في شرفها فيبقى الملك فيهم أربعين سنة و قال أبو معشر في كتاب القرانات القسمة إذا انتهت إلى السابعة و العشرين من الحوت فيها شرف الزهرة و وقع القران مع ذلك ببرج العقرب و هو دليل الرب ظهرت حينئذ دولة العرب و كان منهم نبي و يكون قوة ملكه و مدته على ما بقي من درجات شرف الزهرة و هي إحدى عشرة درجة بتقريب من برج الحوت و مدة ذلك ستمائة و عشر سنين و كان ظهور أبي مسلم عند انتقال الزهرة و وقوع القسمة أول الحمل و صاحب الجد المشتري. و قال يعقوب بن إسحاق الكندي أن مدة الملة تنتهي إلى ستمائة و ثلاثاً و تسعين سنة. قال: لأن الزهرة كانت عند قران الملة في ثمان و عشرين درجة و ثلاثين دقيقة من الحوت فالباقي إحدى عشرة درجة و ثمان عشرة دقيقة و دقائقها ستون فيكون ستمائة و ثلاثاً و تسعين سنة. قال: و هذه مدة الملة باتفاق الحكماء و يعضده الحروف الواقعة في أول السور بحذف المكرر و اعتبار بحساب الجمل. قلت و هذا هو الذي ذكره السهيلي و الغالب أن الأول هو مستند السهيلي فيما نقلناه عنه. قال خراش: سأل هرمز إفريد الحكيم عن مدة أردشير و ولده ملوك الساسانية فقال: دليل ملكه المشتري و كان في شرفه فيعطى أطول السنين و أجودها أربعمائة و سبعاً و عشرين سنة ثم تزيد الزهرة و تكون في شرفها و هي دليل العرب فيملكون لأن طالع القران الميزان و صاحبه الزهرة و كانت عند القران في شرفها مدة انهم يملكون ألف سنة و ستين سنة. و سأل كسرى أنوشروان وزيره بزر جمهر الحكيم عن خروج الملك من فارس إلى العرب فأخبره أن القائم منهم يولد لخمس و أربعين من دولته و يملك المشرق و المغرب و المشتري يغوص إلى الزهرة و ينتقل القران من الهوائية إلى العقرب و هو مائي و هو دليل العرب فهذه الأدلة تفضي للملة بمدة دور الزهرة و هي ألف و ستون سنة. و سأل كسرى الوزير أليوس الحكيم عن ذلك فقال مثل قول بزر جمهر. و قال توفيل الرومي المنجم في أيام بني أمية: أن ملة الإسلام تبقى مدة القران الكبير تسعمائة و ستين سنة فإذا عاد القران إلى برج العقرب كما كان في ابتداء الملة و تغير وضع الكواكب عن هيئتها في قران الملة فحينئذ إما أن يفتر العمل به أو يتجدد من الأحكام ما يوجب خلاف الفن. قال خراش: و اتفقوا على أن خراب العالم يكون باستيلاء الماء و النار حتى تهلك سائر المكونات و ذلك عندما يقطع قلب الأسد أربعاً و عشرين درجة و هي حد المريخ، و ذلك بعد مضي تسعمائة و ستين سنة. و ذكر خراش: أن ملك زابلستان بعث إلى المأمون بحكيمه ذوبان أتحفه به في هدية و أنه تصرف للمأمون في الاختيارات بحروب أخيه و بعقد اللواء لطاهر و أن المأمون أعظم حكمته فسأله عن مدة ملكهم فأخبره بانقطاع الملك من عقبه و اتصاله في ولد أخيه و أن العجم يتغلبون على الخلافة من الديلم في دولة سنة خمسين و يكون ما يريده الله ثم يسوء حالهم ثم تظهر الترك من شمالي المشرق فيملكون إلى الشام و الفرات و سيحون و سيملكون بلاد الروم و يكون ما يريده الله فقال له المأمون: من أين لك هذا ؟ فقال: من كتب الحكماء و من أحكام صصة بن داهر الهندي الذي وضع الشطرنج. قلت و الترك الذين أشار إلى ظهورهم بعد الديلم هم السلجوقية و قد انقضت دولتهم أول القرن السابع. قال خراش: و انتقال القران إلى المثلثة المائية من برج الحوت يكون سنة ثلاث و ثلاثين و ثمانمائة ليزدجرد و بعدها إلى برج العقرب حيث كان قران المئة سنة ثلاث و خمسين. قال: و الذي في الحوت هو أول الانتقال و الذي في العقرب يستخرج منه دلائل الملة. قال: و تحويل السنة الأولى من القران الأول في المثلثات المائية في ثاني رجب سنة ثمان و ستين و ثمانمائة و لم يستوف الكلام على ذلك. و أما مستند المنجمين في دولة على الخصوص فمن القران الأوسط و هيئة الفلك عند وقوعه لأن له دلالة عندهم على حدوث الدولة و جهاتها من العمران و القائمين بها من الأمم و عدد ملوكهم و أسمائهم و أعمارهم و نحلهم و أديانهم و عوائدهم و حروبهم كما ذكر أبو معشر في كتابه في القرانات و قد توجد هذه الدلالة من القران الأصغر إذا كان الأوسط دالاً عليه فمن يوجد الكلام في الدول و قد كان يعقوب بن إسحاق الكندي منجم الرشيد و المأمون وضع في القرانات الكائنة في الملة كتاباً سماه الشيعة بالجفر باسم كتابهم المنسوب إلى جعفر الصادق و ذكر فيه فيما يقال حدثان: دولة بني العباس و أنها نهايته و أشار إلى انقراضها و الحادثة على بغداد أنها تقع في انتصاف المائة السابعة و أنه بانقراضها يكون انقراض الملة و لم نقف على شيء من خبر هذا الكتاب و لا رأينا من وقف عليه و لعله غرق في كتبهم التي طرحها هلاكو ملك التتر في دجلة عند استيلائهم على بغداد و قتل المستعصم آخر الخلفاء و قد وقع بالمغرب جزء منسوب إلى هذا الكتاب يسمونه الجفر الصغير و الظاهر أنه وضع لبني عبد المؤمن لذكر الأولين من ملوك الموحدين فيه على التفصيل و مطابقة من تقدم عن ذلك من حدثانه و كذب ما بعده و كان في دولة بني العباس من بعد الكندي منجمون و كتب في الحدثان و انظر ما نقله الطبري في أخبار المهدي عن أبي بديل من أصحاب صنائع الدولة قال بعث إلي الربيع و الحسن في غزاتهما مع الرشيد أيام أبيه فجئتهما جوف الليل فإذا عندهما كتاب من كتب الدولة يعني الحدثان و إذا مدة المهدي فيه عشر سينين فقلت: هذا الكتاب لا يخفى على المهدي و قد مضى من دولته ما مضى فإذا وقف عليه كنتم قد نعيتم إليه نفسه. قالا فما الحيلة فاستدعيت عنبسة الوراق مولى آل بديل و قلت له انسخ هذه الورقة و اكتب مكان عشر أربعين ففعل فو الله لولا أني رأيت العشرة في تلك الورقة و الأربعين في هذه ما كنت أشك أنها هي ثم كتب الناس من بعد ذلك في حدثان الدول منظوماً و منثوراً و رجزاً ما شاء الله أن يكتبوه و بأيدي الناس متفرقة كثير منها و تسمى الملاحم. و بعضها في حدثان الملة على العموم و بعضها في دولة على الخصوص و كلها منسوبة إلى مشاهير من أهل الخليقة و ليس منها أصل يعتمد على روايته عن واضعه المنسوب إليه فمن هذه الملاحم بالمغرب قصيدة ابن مرانة من بحر الطويل على روي الراء و هي متداولة بين الناس و تحسب العامة أنها من الحدثان العام فيطلقون الكثير منها على الحاضر و المستقبل و الذي سمعناه من شيوخنا أنها مخصوصة بدولة لمتونه لأن الرجل كان قبيل دولتهم و ذكر فيها استيلاءهم على سبتة من يد موالي بني حمود و ملكهم لعدوة الأندلس و من الملاحم بيد أهل المغرب أيضاً قصيدة تسمى التبعية أولها:
طربت و ما ذاك مني طرب و قد يطرب الطائر المغتصب
و ما ذاك مني للهو أراه و لكن لتذكار بعض السبب
قريباً من خمسمائة بيت أو ألف فيما يقال ذكر فيها كثيراً من دولة الموحدين و أشار فيها إلى الفاطمي و غيره و الظاهر أنها مصنوعة و من الملاحم بالمغرب أيضاً ملعبة من الشعر الزجلي منسوبة لبعض اليهود ذكر فيها أحكام القرانات لعصره العلويين و النحسين و غيرهما و ذكر ميتته قتيلاً بفاس و كان كذلك فيما زعموه و أوله:
في صبغ ذا الأزرق لشرفه خيارا فافهموا يا قوم هذي الاشارا
نجم زحل اخبر بذي العلاما و بدل الشكلا و هي سلاما
شاشية زرقا بدل العماما و شاش أزرق بدل الغرارا
يقول في آخره
قد تم ذا التجنيس لإنسان يهودي يصلب في بلدة فاس في يوم عيد
حتى يجيه الناس من البوادي و قتله يا قوم على الفراد
و أبياته نحو الخمسمائة و هي في القرانات التي دلت على دولة الموحدين و من ملاحم المغرب أيضاً قصيدة من عروض المتقارب على روي الباء في حدثان دولة بني أبي حفص بتونس من الموحدين منسوبة لابن الأبار. و قال لي قاضي قسنطينية الخطيب الكبير أبو علي بن باديس و كان بصيراً بما يقوله و له قدم في التنجيم فقال لي: أن هذا ابن الأبار ليس هو الحافظ الأندلسي الكاتب مقتول المستنصر و إنما هو رجل خياط من أهلي تونس تواطأت شهرته مع شهرة الحافظ و كان والدي رحمه الله تعالى ينشد هذه الأبيات من هذه الملحمة و بقي بعضها في حفظي مطلعها:
عذيري من زمن قلب يغز ببارقه الأشنب
و منها.
و يبعث من جيشه قائداً و يبقى هناك على مرقب
فتأتي إلى الشيخ أخباره فيقبل كالجمل الأجرب
و يظهر من عدله سيرة و تلك سياسة مست***
و منها في ذكر أحوال تونس على العموم.
فأما رأيت الرسوم امحت و لم يرع حق لذي منصب
فخذ في الترحل عن تونس وودع معالمها و اذهب
فسوف تكون بها فتنة تضيف البريء إلى المذنب
و وقفت بالمغرب على ملحمة أخرى في دولة بني أبي حفص هؤلاء بتونس
فيها بعد السلطات أبي يحيى الشهير عاشر ملوكهم ذكر محمد أخيه من بعده
يقول فيها:
و بعد أبي عبد الإله شقيقه و يعرف بالوثاب في نسخة الأصل
إلا أن هذا الرجل لم يملكها بعد أخيه و كان يمني بذلك نفسه إلى أن هلك
و من الملاحم في المغرب أيضاً الملعبة المنسوبة إلى الهوثني على لغة العامة في عروض البلد:
دعني بدمعي الهتان فترت الأمطار و لم تفتر
و استقت كلها الويدان و انى تملى و تغدر
البلاد كلما تروي فأولى ما ميل ما تدري
ما بين الصيف و الشتوي و العام و الربيع تجري
قال حين صحت الدعوى: دعنى نبكي و من عذر
أنادي من ذي الأزمان ذا القرن اشتد و تمري
و هي طويلة و محفوظة بين عامة المغرب الأقصى و الغالب عليها الوضع
لأنه لم يصح منها قول إلا على تأويل تحرفه العامة أو الحارف فيه من ينتحلها من الخاصة و وقفت بالمشرق على ملحمة منسوبة لأبي العربي الحاتمي في كلام طويل شبه الألغاز لا يعلم تأويله إلا الله لتحلله إلى أوفاق عددية و رموز ملغوزة و أشكال حيوانات تامه و رؤوس مقطعة و تماثيل من حيوانات غريبة. و في آخرها قصيدة على روي اللام و الغالب أنها كلها غير صحيحة لأنها لم تنشأ عن أصل علمي من نجامة و لا غيرها و سمعت أيضاً أن هناك ملاحم أخرى منسوبة لابن سيناء و ابن عقاب و ليس في شيء معها دليل على الصحة لأن ذلك إنما يؤخذ من القرانات و وقفت بالمشرق أيضاً على ملحمة من حدثان دولة الترك منسوبة إلى رجل من الصوفية يسمى الباجر بقي و كلها إلغاز بالحروف أولها.
إن شئت تكسف سر الجفر يا سائلي من علم جفر و صي والد الحسن
فافهم و كن و اعياً حرفاً و جملته و الوصف فافهم كفعل الحاذق الفطن
أما الذي قبل عصري لست أذكره لكنني أذكر الآتي من الزمن
يشهر بيبرس يبقى بعد خمستها بحاء ميم بطيش نام في الكنن
شين له أثر من تحت سرته له القضاء قضى أي ذلك المنن
فمصر و الشام مع أرض العراق له و أذربيجان في ملك إلى اليمن
و منها:
و آل بوران لما نال طاهرهم الفاتك الباتك المعني بالسمن
لخلع سين ضعيف السن سين أتى لا لو فاق و نوت ذي قرن
قوم شجاع له عقل و مشورة يبقى بحاء و أين بعد ذو سمن
و منها:
من بعد باء من الأعوام قتلته يلي المشورة ميم الملك ذو اللسن
و منها:
هذا هو الأعرج الكلبي فاعن به في عصره فتن ناهيك من فتن
يأتي من الشرق في جيش يقدمهم عار عن القاف قاف جد بالفتن
بقتل دال و مثل الشام أجمعها أبدت بشجو على الأهلين و الوطن
إذا أتى زلزلت يا ويح مصر مـ ن الزلزال ما زال حاء غير مقتطن
طاء و ظاء و عين كلهم حبسوا هلكاً و ينفق أموالاً بلا ثمن
يسير القاف قافاً عند جمعهم هون به إن ذاك الحصن في سكن
و ينصبون أخاه و هو صالحهم لا سلم الألف سين لذاك بني
تمت ولايتهم بالحاء لا أحد من السنين يداني الملك في الزمن
و يقال أنه أشار إلى الملك الظاهر و قدوم أبيه عليه بمصر:
يأتي إليه أبوه بعد هجرته و طول غيبته و الشطف و الزرن
و أبياتها كثيرة و الغالب أنها موضوعة و مثل صنعتها كان في القديم كثير و معروف للانتحال.
حكى المؤرخون لأخبار بغداد أنه كان بها أيام المقتدر وراق ذكي يعرف بالدانالي يبل الأوراق و يكتب فيها بخط عتيق يرمز فيه بحروف من أسماء أهل الدولة و يشير بها إلى ما يعرف ميلهم إليه من أحوال الرفعة و الجاه كأنها ملاحم و يحصل على ما يريده منهم من الدنيا و أنه وضع في بعض دفاتره ميماً مكررة ثلاث مرات و جاء به إلى مفلح مولى المقتدر. فقال له هذا كناية عنك و هو مفلح مولى المقتدر و ذكر عنه ما يرضاه و يناله من الدولة و نصب لذلك علامات يموه بها عليه فبدل له ما أغناه به ثم وضعه للوزير ابن القاسم بن وهب على مفلح هذا و كان معزولاً فجاءه بأوراق مثلها و ذكر اسم الوزير بمثل هذه الحروف و بعلامات ذكرها و أنه يلي الوزارة للثاني عشر من الخلفاء و تستقيم الأمور على يديه و يقهر الأعداء و يغير الدنيا في أيامه و أوقف مفلحاً هذا على الأوراق و ذكر فيها كوائن أخرى و ملاحم من هذا النوع مما وقع و مما لم يقع و نسب جميعه إلى دانيال فأعجب به مفلح. و وقف عليه المقتدر و اهتدى من تلك الأمور و العلامات إلى ابن وهب و كان ذلك سبباً لوزارته بمثل هذه الحيلة العريقة في الكذب و الجهل بمثل هذه الألغاز و الظاهر أن هذه الملحمة التي ينسبونها إلى الباجربقي من هذا النوع و لقد سألت أكمل الدين ابن شيخ الحنفية من العجم بالديار المصرية عن هذه الملحمة و عن هذا الرجل الذي تنسب إليه من الصوفية و هو الباجربقي و كان عارفاً بطرائقهم فقال كان من القلندرية المبتدعة في حلق اللحية و كان يتحدث عما يكون بطريق الكشف و يومي إلى رجال معينين عنده و يلغز عليهم بحروف يعينها في ضمنها لمن يراه منهم و ربما يظهر نظم ذلك في أبيات قليلة كان يتعاهدها فتنوقلت عنه و ولع الناس بها و جعلوها ملحمة مرموزة و زاد فيها الخراصون من ذلك الجنس في كل عصر و شغل العامة بفك رموزها و هو أمر ممتنع إذ الرمز إنما يهدي إلى كشفه قانون يعرف قبله و يوضع له و أما مثل هذه الحروف فدلالتها على المراد منها مخصوصة بهذا النظم لا يتجاوزوه فرأيت من كلام هذا الرجل الفاصل شفاء لما كان في النفس من أمر هذه الملحمة و ما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله و الله سبحانه و تعالى أعلم و به التوفيق.
رد مع اقتباس
  #11  
قديم 01-09-2012, 10:46 PM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,413
افتراضي

الباب الرابع من الكتاب الأول في البلدان و الأمصار و سائر العمران و ما يعرض في ذلك من الأحوال و فيه سوابق و لواحق ـ الفصل الأول في أن الدول من المدن و الأمصار و أنها إنما توجد ثانية عن الملك
و بيانه أن البناء و اختطاط المنازل إنما من منازع الحضارة التي يدعو إليها الترف و الدعة كما قدمناه و ذلك متأخر عن البداوة و منازعها و أيضاً فالمدن و الأمصار ذات هياكل و أجرام عظيمة و بناء كبير و هي موضوعة للعموم لا للخصوص فتحتاج إلى اجتماع الأيدي و كثرة التعاون و ليست من الأمور الضرورية للناس التي تعم بها البلوى حتى يكون نزوعهم إليها اضطراراً بل لا بد من إكراههم على ذلك و سوقهم إليه مضطهدين بعصا الملك أو مرغبين في الثواب و الأجر الذي لا يفي بكثرته إلا الملك و الدولة. فلا بد في تمصير الأمصار و اختطاط المدن من الدولة و الملك. ثم إذا بنيت المدينة و كمل تشييدها بحسب نظر من شيدها و بما اقتضته الأحوال السماوية و الأرضية فيها فعمر الدولة حينئذ عمر لها فإن كان عمر الدولة قصيراً وقف الحل فيها عند انتهاء الدولة و تراجع عمرانها و خربت و إن كان أمد الدولة طويلاً و مدتها منفسحة فلاتزال المصانع فيها تشاد و المنازل الرحيبة تكثر و تتعدد و نطاق الأسواق يتباعد و ينفسح إلى أن تسمع الخطة و تبعد المسافة و ينفسح ذرع المساحة كما وقع ببغداد و أمثالها. ذكر الخطيب في تأريخه أن الحمامات بلغ عددها ببغداد لعهد المأمون خمسة و ستين ألف حمام و كانت مشتملة على مدن و أمصار متلاصقة و متقاربة تجاوز الأربعين و لم تكن مدينة وحدها يجمعها سور واحد لإفراط العمران و كذا حال القيروان و قرطبة و المهدية في الملة الإسلامية و حال مصر القاهرة بعدها فيما بلغنا لهذا العهد و أما بعد انقراض الدولة المشيدة للمدينة فإما أن يكون لضواحي تلك المدينة و ما قاربها من الجبال و البسائط بادية يمدها العمران دائماً فيكون ذلك حافظاً لوجودها و يستمر عمرها بعد الدولة كما تراه بفاس و بجاية من المغرب و بعراق العجم من المشرق الموجود لها العمران من الجبال لأن أهل البداوة إذا انتهت أحوالهم إلى غاياتها من الرفه و الكسب تدعو إلى الدعة و السكون الذي في طبيعة البشر فينزلون المدن و الأمصار و يتأهلون و أما إذا لم يكن لتلك المدينة المؤسسة مادة تفيدها العمران بترادف الساكن من بدرها فيكون انقراض الدولة خرقاً لسياجها فيزول حفظها و يتناقص عمرانها شيئاً فشيئاً إلى أن يبذعر ساكنها و تخرب كما و قع بمصر و بغداد و الكوفة بالمشرق و القيروان و المهدية و قلعة بني حماد بالمغرب و أمثالها فتفهمه و ربما ينزل المدينة بعد انقراض مختطيها الأولين ملك آخر و دولة ثانية يتخذها قراراً و كرسياً يستغني بها عن اختطاط مدينة ينزلها فتحفظ تلك الدولة سياجها و تتزايد مبانيها و مصانعها بتزايد أحوال الدولة الثانية و ترفها و تستجد بعمرانها عمراً آخر كما وقع بفاس و القاهرة لهذا العهد و الله سبحانه و تعالى أعلم و به التوفيق.

الفصل الثاني في أن الملك يدعو إلى نزول الأمصار
و ذلك أن القبائل و العصائب إذا حصل لهم الملك اضطروا للإستيلاء على الأمصار لأمرين أحدهما ما يدعو إليه الملك من الدعة و الراحة و حط الأثقال و استكمال ما كان ناقصاً من أمور العمران في البدو و الثاني دفع ما يتوقع على الملك من أمر المنازعين و المشاغبين لأن المصر الذي يكون في نواحيهم ربما يكون ملجأ لمن يروم منازعتهم و الخروج عليهم و انتزاع ذلك الملك الذي سموا إليه من أيديهم فيعتصم بذلك المصر و يغالبهم و مغالبة المصر على نهاية من الصعوبة و المشقة و المصر يقوم مقام العساكر المتعددة لما فيه من الإمتناع و نكاية الحرب من وراء الجدران من غير حاجة إلى كثير عدد و لا عظيم شوكة لأن الشوكة و العصابة إنما احتيج إليهما في الحرب للثبات لما يقع من بعد كرة القوم بعضهم على بعض عند الجولة و ثبات هؤلاء بالجدران فلا يضطرون إلى كبير عصابة و لا عدد فيكون حال هذا الحصن و من يعتصم به من المنازعين مما يفت عضد الأمة التي تروم الاستيلاء و يخضد شوكة استيلائها فإذا كانت بين أجنابهم أمصار انتظموها في استيلائهم للأمن من مثل هذا الانخرام و إن لم يكن هناك مصر استحدثوه ضرورة لتكميل عمرانهم أولاً و حط أثقالهم و ليكون شجاً في حلق من يروم العزة و الامتناع عليهم من طوائفهم و عصائبهم فتعين أن الملك يدعو إلى نزول الأمصار و الاستيلاء عليها و الله سبحانه و تعالى أعلم و به التوفيق لا رب سواه.

الفصل الثالث في أن المدن العظيمة و الهياكل المرتفعة إنما يشيدها الملك الكثير
قد قدمنا ذلك في آثار الدولة من المباني و غيرها و أنها تكون على نسبتها و ذلك أن تشييد المدن إنما يحصل باجتماع الفعلة و كثرتهم و تعاونهم فإذا كانت الدولة عظيمة متسعة الممالك حشر الفعلة من أقطارها و جمعت أيديهم على عملها و ربما استعين في ذلك في أكثر الأمر بالهندام الذي يضاعف القوي و القدر في حمل أثقال البناء لعجز القوة البشرية و ضعفها عن ذلك كالمخال و غيره و ربما يتوهم كثير من الناس إذا نظر إلى آثار الأقدمين و مصانعهم العظيمة مثل إيوان كسرى و أهرام مصر و حنايا المعلقة و شرشال بالمغرب إنما كانت بقدرهم متفرقين أو مجتمعين فيتخيل لهم أجساماً تناسب ذلك أعظم من هذه بكثير في طولها و قدرها لتناسب بينها و بين القدر التي صدرت تلك المباني عنها و يغفل عن شأن الهندام و المخال و ما اقتضته في ذلك الصناعة الهندسية و كثير من المتغلبين في البلاد يعاين في شأن البناء و استعمال الحيل في نقل الأجرام عند أهل الدولة المعتنين بذلك من العجم ما يشهد له بما قلناه عياناً و أكثر آثار الأقدمين لهذا العهد تسميها العامة عاديةً نسبةً إلى قوم عاد لتوهمهم أن مباني عاد و مصانعهم إنما عظمت لعظم أجسامهم و تضاعف قدرهم. و ليس كذلك، فقد نجد آثاراً كثيرة من آثار الذين تعرف مقادير أجسامهم من الأمم و هي في مثل ذلك العظم أو أعظم كإيوان كسرى و مباني العبيديين من الشيعة بأفريقية و الصنهاجيين وأثرهم باد إلى اليوم في صومعة قلعة بني حماد و كذلك بناء الأغالبة في جامع القيروان و بناء الموحدين في رباط الفتح و رباط السلطان أبي سعيد لعهد أربعين سنة في المنصورة بإزاء تلمسان و كذلك الحنايا التي *** إليها أهل قرطاجنة الماء في القناة الراكبة عليها ماثلة لهذا العهد و غير ذلك من المباني و الهياكل التي نقلت إلينا أخبار أهلها قريباً و بعيداً و تيقناً أنهم لم يكونوا بإفراط في مقادير أجسامهم و إنما هذا رأي ولع به القصاص عن قوم عاد و ثمود و العمالقة. و نجد بيوت ثمود في الحجر منحوتة إلى هذا العهد و قد ثبت في الحديث الصحيح أنها بيوتهم يمر بها الركب الحجازي في أكثر السنين و يشاهدونها لا تزيد في جوها و مساحتها و سمكها على المتعاهد و إنهم ليبالغون فيما يعتقدون من ذلك حتى أنهم ليزعمون أن عوج بن عناق من جيل العمالقة كان يتناول السمك من البحر طريئاً فيشويه في الشمس يزعمون بذلك أن الشمس حارة فيما قرب منها و لا يعلمون أن الحر فيما لدينا هو الضوء لانعكاس الشعاع بمقابلة سطح الأرض و الهواء و أما الشمس في نفسها فغير حارة و لا باردة و إنما هي كوكب مضيىء لا مزاج له و قد تقدم شيء من هذا في الفصل الثاني حيث ذكرنا أن آثار الدولة على نسبة كل قوتها في أصلها. و الله يخلق ما يشاء و يحكم ما يريد.

الفصل الرابع في أن الهياكل العظيمة جداً لا تستقل ببنائها الدولة الواحدة
و السبب في ذلك ما ذكرناه من حاجة البناء إلى التعاون و مضاعفة القدر البشرية و قد تكون المباني في عظمها أكثر من القدر مفردة أو مضاعفة بالهندام كما قلناه فيحتاج إلى معاودة قدر أخرى مثلها في أزمنة متعاقبة إلى أن تتم.
فيبتدئ الأول منهم بالبناء، و يعقبه الثاني و الثالث، و كل واحد منهم قد استكمل شأنه في حشر الفعلة و جمع الأيدي حتى يتم القصد من ذلك و يكمل و يكون ماثلاً للعيان يظنه من يراه من الآخرين أنه بناء دولة واحدة. و انظر في ذلك ما نقله المؤرخون في بناء سد مأرب و أن الذي بناه سبأ بن يشخب و ساق إليه سبعين وادياً و عاقه الموت عن إتمامه فأتمه ملوك حمير من بعده و مثل هذا ما نقل في بناء قرطاجنة و قناتها الراكبة على الحنايا العادية و أكثر المباني العظيمة في الغالب هذا شأنها و يشهد لذلك أن المباني العظيمة لعهدنا نجد الملك الواحد يشرع في اختطاطها و تأسيسها فإذا لم يتبع أثره من بعده من الملوك في إتمامها بقيت بحالها و لم يكمل القصد فيها. و يشهد لذلك أيضاً أنا نجد آثاراً كثيرة من المباني العظيمة تعجز الدول عن هدمها و تخريبها مع أن الهدم أيسر من البناء بكثير لأن الهدم رجوع إلى الأصل الذي هو العدم و البناء على خلاف الأصل.
فإذا وجدنا بناء تضعف قوتنا البشرية عن هدمه مع سهولة الهدم علمنا أن القدرة التي أسسته مفرطة القوة و أنها ليست أثر دولة واحدة و هذا مثل ما وقع للعرب في إيوان كسرى لما اعتزم الرشيد على هدمه و بعث إلى يحيى بن خالد و هو في محبسه يستشيره في ذلك فقال يا أمير المؤمنين لا تفعل و اتركه ماثلاً يستدل به على عظم ملك آبائك الذين سلبوا الملك لأهل ذلك الهيكل فاتهمه في النصيحة و قال أخذته النعرة للعجم و الله لأصر عنه و شرع في هدمه و جمع الأيدي عليه و اتخذ له الفؤس و حماه بالنار و صب عليه الخل حتى إذا أدركه العجز بعد ذلك كله وخاف الفضيحة بعث إلى يحيى يستشيره ثانياً في التجافي عن الهدم فقال لا تفعل و استمر على ذلك لئلا يقال عجز أمير المؤمنين و ملك العرب عن هدم مصنع من مصانع العجم فرفعها الرشيد و أقصر عن هدمه و كذلك اتفق للمأمون في هدم الأهرام التي بمصر و جمع الفعلة لهدمها فلم يحل بطائل و شرعوا في نقبه فانتهوا إلى جو بين الحائط و الظاهر و ما بعده من الحيطان و هنالك كان منتهى هدمهم و هو إلى اليوم فيما يقال منفذ ظاهر و يزعم الزاعمون أنه وجد ركازاً بين تلك الحيطان والله أعلم. و كذلك حنايا المعلقة إلى هذا العهد تحتاج أهل مدينة تونس إلى انتخاب الحجارة لبنائهم أو تستجيد الصناع حجارة تلك الحنايا فيحاولون على هدمها الأيام العديدة و لا يسقط الصغير من جدرانها إلا بعد عصب الريق و تجتمع له المحافل المشهورة شهدت منها في أيام صباي كثيراً والله خلقكم وما تعملون.

الفصل الخامس فيما تجب مراعاته في أوضاع المدن و ما يحدث إذا غفل عن المراعاة
إعلم أن المدن قرار يتخذه الأمم عند حصول الغاية المطلوبة من الترف و دواعيه فتؤثر الدعة و السكون و تتوجه إلى اتخاذ المنازل للقرار و لما كان ذلك القرار و المأوى وجب أن يراعى فيه دفع المضار بالحماية من طوارقها و *** المنافع و تسهيل المرافق لها فأما الحماية من المضار فيراعى لها أن يدار على منازلها جميعاً سياج الأسوار و أن يكون وضع ذلك في تمنع من الأمكنة إما على هضبة متوعرة من الجبل و إما باستدارة بحر أو نهر بها حتى لا يوصل إليها إلا بعد العبور على جسر أو قنطرة فيصعب منالها على العدو و يتضاعف امتناعها و حصنها. و مما يراعى في ذلك للحماية من الآفات السماوية طيب الهواء للسلامة من الأمراض. فإن الهواء إذا كان راكداً خبيثاً أو مجاوراً للمياه الفاسدة أو منافع متعفنة أو مروج خبيثة أسرع إليها العفن من مجاورتها فأسرع المرض للحيوان الكائن فيه لا محالة و هذا مشاهد. و المدن التي لم يراع فيها طيب الهواء كثيرة الأمراض في الغالب. و قد اشتهر بذلك في قطر المغرب بلد قابس من بلاد الجريد بأفريقية فلا يكاد ساكنها أو طارقها يخلص من حمى العفن بوجه. و لقد يقال أن ذلك حادث فيها و لم تكن كذلك من قبل و نقل البكري في سبب حدوثه أنه وقع فيها حفر ظهر فيه أناء من نحاس مختوم بالرصاص. فلما فض ختامه صعد منه دخان إلى الجو و انقطع. و كان ذلك مبدأ أمراض الحميات فيه و أراد بذلك أن الإناء كان مشتملاً على بعض أعمال الطلمسات لوبائه و أنه ذهب سره بذهابه فرجع إليها العغن و الوباء و هذه الحكاية من مذاهب العامة و مباحثهم الركيكة و البكري لم يكن من نباهة العلم و استنارة البصيرة بحيث يدفع مثل هذا أو يتبين خرفه فنقله كما سمعه. و الذي يكشف لك الحق في ذلك أن هذه الأهوية العفنة أكثر ما يهيئها لتعفين الأجسام و أمراض الحميات ركودها. فإذا تخللتها الريح و تفشت و ذهبت بها يميناً و شمالاً خف شأن العفن و المرض البادي منها للحيوانات. و البلد إذا كان كثير الساكن و كثرت حركات أهله فيتموج الهواء ضرورة و تحدث الريح المتخللة للهواء الراكد و يكون ذلك معيناً له على الحركة و التموج و إذا خف الساكن لم يجد الهواء معيناً على حركته و تموجه و بقي ساكناً راكداً و عظم عفنه و كثر ضرره. و بلد قابس هذه كانت عندما كانت أفريقية مستجدة العمران كثيرة الساكن تموج بأهلها موجاً فكان ذلك معيناً على تموج الهواء و اضطرابه و تخفيف الأذى منه فلم يكن فيها كثير عفن و لا مرض، وعندما خف ساكنها ركد هواؤها المتعفن بفساد مياهها فكثر العفن و المرض. فهذا و جهه لا غير. و قد رأينا عكس ذلك في بلاد وضعت و لم يراع فيها طيب الهواء و كانت أولاً قليلة الساكن فكانت أمراضها كثيرة فلما كثر سكانها انتقل حالها عن ذلك و هذا مثل دار الملك بفاس لهذا العهد المسمى بالبلد الجديد و كثير من ذلك في العالم فتفهمه تجد ما قلته لك. و أما *** المنافع و المرافق للبلد فيراعى فيه أمور منها الماء بأن يكون البلد على نهر أو بإزائها عيون عذبة ثرة فإن وجود الماء قريباً من البلد يسهل على الساكني حاجة الماء و هي ضرورية فيكون لهم في وجوده مرفقة عظيمة عامة. و مما يراعى من المرافق في المدن طيب المراعي لسائمتهم إذ صاحب كل قرار لا بد له من دوجن الحيوان للنتاج و الضرع و الركوب و لا بد لها من المرعى فإذا كان قريباً طيباً كان ذلك أرفق بحالهم لما يعانون من المشقة في بعده و مما راعى أيضاً المزارع فإن الزروع هي الأقوات. فإذا كانت مزارع البلد بالقرب منها كان ذلك أسهل في اتخاذه و أقرب في تحصيله و من ذلك الشجر للحطب و البناء فإن الحطب مما تعم البلوى في اتخاذه لوقوب النيران للاصطلاء و الطبخ. و الخشب أيضاً ضروري لسقفهم و كثير مما يستعمل فيه الخشب من ضرورياتهم و قد يراعى أيضاً قربها من البحر لتسهيل الحاجات القاصية من البلاد النائية إلا أن ذلك ليس بمثابة الأول و هذه كلها متفاوتة بتفاوت الحاجات و ما تدعو إليه ضرورة الساكن. و قد يكون الواضع غافلاً عن حسن الاختيار الطبيعي أو إنما يراعي ما هو أهم على نفسه و قومه، و لا يذكر حاجة غيرهم كما فعله العرب لأول الإسلام في المدن التي اختطوها بالعراق و أفريقية فإنهم لم يراعوا فيها إلا الأهم عندهم من مراعي الإبل و ما يصلح لها من الشجر و الماء الملح و لم يراعوا الماء و لا المزارع و لا الحطب و لا مراعي السائمة من ذوات الظلف و لا غير ذلك كالقيروان و الكوفة و البصرة و أمثالها و لهذا كانت أقرب إلى الخراب ما لم تراع فيها الأمور الطبيعية.
و مما يراعى في البلاد إلى الساحلية التي على البحر أن تكون في جبل أو تكون بين أمة من الأمم موفورة العدد تكون صريخاً للمدينة متى طرقها. طارق من العدو و السبب في ذلك أن المدينة إذا كانت حاضرة البحر و لم يكن بساحتها عمران للقبائل أهل العصبيات و لا موضعها متوعر من الجبل كانت في غرة للبيات و سهل طروقها في الأساطيل البحرية على عدوها و تحيفه لها لما يأمن من وجود الصريخ لها. و أن الحضر المتعودين للدعة قد صاروا عيالاً و خرجوا عن حكم المقاتلة. و هذه كالإسكندرية من المشرق و طرابلس من المغرب و بونة و سلا.
و متى كانت القبائل و العصائب موطنين بقربها بحيث يبلغهم الصريخ و النعير و كانت متوعرة المسالك على من يرومها باختطاطها في هضاب الجبال و على أسنمتها كان لها بذلك منعة من العدو و يئسوا من طروقها لما يكابدونه من وعرها و ما يتوقعونه من إجابة صريخها كما في سبتة و بجاية و بلد القل على صغرها فافهم ذلك و اعتبره في اختصاص الإسكندرية باسم الثغر من لدن الدولة العباسية مع أن الدعوة من ورائها ببرقة و أفريقية. و إنما اعتبر في ذلك المخافة المتوقعة فيها من البحر لسهولة وضعها و لذلك و الله أعلم كان طروق العدو للاسكندرية و طرابلس في الملة مرات متعددة و الله تعالى أعلم.

الفصل السادس في المساجد و البيوت العظيمة في العالم
إعلم أن الله سبحانه و تعالى فضل من الأرض بقاعاً اختصها بتشريفه و جعلها مواطن لعبادته يضاعف فيها الثواب و ينمو بها الأجور و أخبرنا بذلك على ألسن رسله و أنبيائه لطفاً بعباده و تسهيلاً لطرق السعادة لهم. و كانت المساجد الثلاثة هي أفضل بقاع الأرض حسبما ثبت في الصحيحين و هي مكة و المدينة و بيت المقدس. أما البيت الحرام الذي بمكة فهو بيت إبراهيم صلوات الله و سلامه عليه. أمره الله ببنائه و أن يؤذن في الناس بالحج إليه فبناه هو و ابنه إسماعيل كما نصه القرآن و قام بما أمره الله فيه و سكن إسماعيل به مع هاجر و من نزل معهم من جرهم إلى أن قبضهما الله و دفنا بالحجر منه. و بيت المقدس بناه داوود و سليمان عليهما السلام. أمرهما الله ببناء مسجده و نصب هياكله و دفن كثير من الانبياء من ولد إسحاق عليه السلام حواليه. و المدينة فهاجر نبينا محمد صلوات الله و سلامة عليه أمره الله تعالى بالهجرة إليها و إقامة دين الإسلام بها فبنى مسجده الحرام بها و كان ملحده الشريف في تربتها فبهذه المساجد الثلاثة قرة عين المسلمين و مهوى أفئدتهم و عظمة دينهم و في الآثار من فضلها و مضاعفة الثواب في مجاورتها و الصلاة فيها كثير معروف فلنشر إلى شيء من الخبر عن أولية هذه المساجد الثلاثة و كيف تدرجت أحوالها إلى أن كمل ظهورها في العالم. فأما مكة فأوليتها فيما يقال أن آدم صلوات الله عليه بناها قبالة البيت المعمور ثم هدمها الطوفان بعد ذلك و ليس فيه خبر صحيح يعول عليه. و إنما اقتبسوه من محمل الآية في قوله و إذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت و إسماعيل ثم بعث الله إبراهيم و كان من شأنه و شأن زوجته سارة و غيرتها من هاجر ما هو معروف و أوحى الله إليه أن يترك ابنه اسماعيل و أمه هاجر بالفلاة فوضعهما في مكان البيت و سار عنهما و كيف جعل الله لهما من اللطف في نبع ماء زمزم و مرور الرفقة من جرهم بها حتى احتملوهما و سكنوا إليهم كما و نزلوا معهما حوالي زمزم كما عرف في موضعه فاتخذ إسماعيل بموضع الكعبة بيتاً يأوي إليه و أدار عليه سياجاً من الردم و جعله زرباً لغنمه و جاء إبراهيم صلوات الله عليه مراراً لزيارته من الشام أمر في آخرها ببناء الكعبة مكان ذلك الزرب فبناه و استعان فيه بابنه إسماعيل و دعا الناس إلى حجه و بقي إسماعيل ساكناً به و لما قبضت أمه هاجر و قام بنوه من بعده بأمر البيت مع أخوالهم من جرهم ثم العماليق من بعدهم و استمر الحال على ذلك و الناس يهرعون إليها من كل أفق من جميع أهل الخليقة لا من بني إسماعيل و لا من غيرهم ممن دنا أو نأى فقد نقل أن التبابعة كانت تحج البيت وتعظمه و أن تبعاً كساها الملاء و الوصائل و أمر بتطهيرها و جعل لها مفتاحاً.
و نقل أيضاً أن الفرس كانت تحجه و تقرب إليه و أن غزالي الذهب اللذين وجدهما عبد المطلب حين احتقر زمزم كانا من قرابينهم. و لم يزل لجرهم الولاية عليه من بعد ولد إسماعيل من قبل خؤولتهم حتى إذا خرجت خزاعة و أقاموا بها بعدهم ما شاء الله. ثم كثر ولد إسماعيل و انتشروا و تشعبوا إلى كنانة ثم كنانة إلى قريش و غيرهم و ساءت ولاية خزاعة فغلبتهم قريش على أمره و أخرجوهم من البيت و ملكوا عليهم يومئذ قصي بن كلاب فبنى البيت و سقفه بخشب الدوم و جريد النخل و قال الأعشى:
خلفت بثوبي راهب الدور و التي بناها قصي و المضاض بن جرهم
ثم أصاب البيت سيل و يقال حريق و تهدم و أعادوا بناءه و جمعوا النفقة لذلك من أموالهم و انكسرت سفينة بساحل جدة فاشتروا خشبها للسقف و كانت جدرانه فوق القامة فجعلوها ثماني عشرة ذراعاً و كان الباب لاصقاً بالأرض فجعلوه فوق القامة لئلا تدخله السيول و قصرت بهم النفقة عن إتمامه فقصروا عن قواعده و تركوا منه ست أذرع و شبراً أداروها بجدار قصير يطاف من ورائه و هو الحجر و بقي البيت على هذا البناء إلى أن تحصن ابن الزبير بمكة حين دعا لنفسه و زحفت إليه جيوش يزيد بن معاوية مع الحصين بن نمير السكوني. و رمى البيت سنة أربع و ستين فأصابه حريق، يقال من النفط الذي رموا به على ابن الزبير فتصدعت حيطانه فهدمه ابن الزبير فأعاد بناءه أحسن مما كان بعد أن اختلفت عليه الصحابة في بنائه. و احتج عليهم بقول رسول الله صلى الله عليه و سلم لعائشة رضي الله عنها، لولا قومك حديثو عهد بكفر لرددت البيت على قواعد إبراهيم و لجعلت له بابين شرقياً و غربياً فهدمه و كشف عن أساس إبراهيم عليه السلام و جمع الوجوه و الأكابر حتى عاينوه و أشار عليه ابن عباس بالتحري في حفظ القبلة على الناس فأدار على الأساس الخشب و نصب من فوقها الأستار حفظاً للقبلة و بعث إلى صنعاء في الفضة و الكلس فحملها. وسأل عن مقطع الحجارة الأول فجمع منها ما احتاج إليه ثم شرع في البناء على أساس إبراهيم عليه السلام و رفع في جدرانها سبعاً و عشرين ذراعاً و جعل لها بابين لاصقين بالأرض كما روى في حديثه و جعل فرشها و إزرها بالرخام و صاغ لها المفاتيح و صفائح الأبواب من الذهب. ثم جاء الحجاج لحصاره أيام عبد الملك و رمى على المسجد بالمنجنيقات إلى أن تصدعت حيطانها. ثم لما ظفر بابن الزبير شاور عبد الملك فيما بناه و زاده في البيت فأمره بهدمه و رد البيت على قواعد قريش كما هي اليوم. و يقال: أنه ندم على ذلك حين علم صحة رواية ابن الزبير لحديث عائشة، و قال وددت أني كنت حملت أبا حبيب في أمر البيت و بنائه ما تحمل. فهدم الحجاج منها ست أذرع و شبراً مكان الحجر و بناها على أساس قريش و سد الباب الغربي و ما تحت عتبة بابها اليوم من الباب الشرقي. و ترك سائرها لم يغير منه شيئاً فكل البناء الذي فيه اليوم بناء ابن الزبير و بناء الحجاج في الحائط صلة ظاهرة للعيان لحمة ظاهرة بين البناءين. و البناء متميز عن البناء بمقدار إصبع شبه الصدع و قد لحم.
و يعرض ههنا إشكال قوي لمنافاته لما يقوله الفقهاء في أمر الطواف و يحذر الطائف أن يميل على الشاذروان الدائر على أساس الجدر من أسفلها فيقع طوافه داخل البيت بناء على أن الجدر إنما قامت على بعض الأساس و ترك بعضه و هو مكان الشاذروان و كذا قالوا في تقبيل الحجر السود لا بد من رجوع الطائف من التقبيل حتى يستوي قائماً لئلا يقع بعض طوافه داخل البيت و إذا كانت الجدران كلها من بناء ابن الزبير و هو إنما بني على أساس ابراهيم فكيف يقع هذا الذي قالوه و لا مخلص من هذا إلا بأحد أمرين أحدهما أن يكون الحجاج هدم جميعه و أعاده و قد نقل ذلك جماعة إلا أن العيان في شواهد البناء بالتحام ما بين البناءين و تمييز أحد الشقين من أعلاه على الآخر في الصناعة يرد ذلك و أما أن يكون ابن الزبير لم يرد البيت على أساس إبراهيم مع جميع جهاته و إنما فعل ذلك في الحجر فقط ليدخله فهي الآن مع كونها من بناء ابن الزنير ليست على قواعد إبراهيم و هذا بعيد و لا محيص من هذين و الله تعالى اعلم. ثم أن مساحة البيت و هو المسجد كان فضاء للطائفين و لم يكن عليه جدر أيام النبي صلى الله عليه و سلم و أبي بكر من بعده. ثم كثر الناس فاشترى عمر رضي الله عنه دوراً هدمها و زادها في المسجد و أدار عليها جداراً دون القامة و فعل مثل ذلك عثمان ثم ابن الزبير ثم الوليد بن عبد الملك و بناه بعمد الرخام ثم زاد فيه المنصور و ابنه المهدي من بعده و وقفت الزيادة و استقرت على ذلك لعهدنا.
و تشريف الله لهذا البيت و عنايته به أكثر من أن يحاط به و كفى بذلك أن جعله مهبطاً للوحي و الملائكة و مكاناً للعبادة و فرض شرائع الحج و مناسكه و أوجب لحرمه من سائر نواحيه من حقوق التعظيم و الحق ما لم يوجبه لغير فمنع كل من خالف دين الإسلام من دخول ذلك الحرم و أوجب على دخله أن يتجرد من المحيط إلا أزاراً يستره و حمى العائذ به و الراتع في مسارحه من مواقع الآفات فلا يرام فيه خائف و لا يصاد له وحش و لا يحتطب له شجر. و حد الحرم الذي يختص بهذه الحرمة من طريق المدينة ثلاثة أميال إلى التنعيم و من طريق العراق سبعة أميال إلى الثنية من جبل المنقطع و من طريق الطائف سبعة أميال إلى بطن نمرة و من طريق جدة سبعه أميال إلى منقطع العشائر. هذا شأن مكة و خبرها و تسمى أم القرى و تسمى الكعبة لعلوها من اسم الكعب. و يقال لها أيضاً بكة قال الأصمعي، لأن الناس يبك بعضهم بعضاً إليها أي يدفع و قال مجاهد باء بكة أبدلوها ميماً كما قالوا لازب و لازم لقرب المخرجين. و قال النخعي بالباء و بالميم البلد و قال الزهري بالباء للمسجد كله و بالميم للحرم و قد كانت الأمم منذ عهد الجاهلية تعظمه و الملوك تبعث إليه بالأموال و الذخائر مثل كسرى و غيره و قصة الأسياف و غزالي الذهب اللذين وجدهما عبد المطلب حين احتفر زمزم معروفة و قد وجد رسول الله صلى الله عليه و سلم حين افتتح مكة في الجب الذي كان فيها سبعين ألف أوقية من الذهب مما كان الملوك يهدون للبيت فيها ألف ألف دينار مكررة مرتين بمائتي قنطار، وزناً و قال له علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
يا رسول الله لو استعنت بهذا المال على حربك. فلم يفعل ثم ذكر لأبي بكر فلم يحركه. هكذا قال الأزرقي. و في البخاري يسنده إلى أبي وائل قال:
جلست إلى شيبة بن عثمان و قال جلس إلي عمر بن الخطاب فقال: هممت أن لا أدع فيها صفراء و لا بيضاء إلا قسمتها بين المسلمين، قلت: ما أنت بفاعل، قال: و لم ؟ قلت: فلم يفعله صاحباك فقال هما اللذان يقتدى بهما. و خرجه أبو داود و ابن ماجة و أقام ذلك المال إلى أن كانت فتنة الأفطس و هو الحسن بن الحسين بن علي بن علي زين العابدين سنة تسع و تسعين و مائة حين غلب مكة عمد إلى الكعبة فأخذ مافي خزائنها و قال ما تصنع الكعبة بهذا المال موضوعاً فيها لا ينتفع به نحن أحق به نستعين به على حربنا و أخرجه و تصرف فيه و بطلت الذخيرة من الكعبة من يومئذ. و أما بيت المقدس و هو المسجد الأقصى فكان أول أمره أيام الصابئة موضع الزهرة و كانوا يقربون إليه الزيت فيما يقربونه يصبونه على الصخرة التي هناك ثم دثر ذلك الهيكل و اتخذها بنو إسرائيل حين ملكوها قبلة لصلاتهم. و ذلك أن موسى صلوات الله عليه لما خرج ببني إسرائيل من مصر لتمليكهم بيت المقدس كما وعد الله أباهم إسرائيل و أباه إسحق من قبله و أقاموا بأرض التيه أمره الله باتخاذ قبة من خشب السنط عين بالوحي و مقدارها و صفتها و هياكلها و تماثيلها و أن يكون فيها التابوت و مائدة بصحافها و منارة بقناديلها و أن يصنع مذبحاً للقربان وصف ذلك كأنه في التوراة أكمل وصف فصنع القبة و وضع فيها تابوت العهد و هو التابوت الذي فيه الألواح المصنوعة عوضاً عن الألواح المنزلة بالكلمات العشر لما تكسرت و وضع المذبح عندها. و عهد الله إلى موسى بأن يكون هارون صاحب القربان و نصبوا تلك القبة بين خيامهم في التيه يصلون إليها و يتقربون في المذبح أمامها و يتعرضون للوحي عندها.
و لما ملكوا أرض الشام أنزلوها بكلكال من بلاد الأرض المقدسة ما بين قسم بني يامين و بني أفراييم. و بقيت هنالك أربع عشرة سنة سبعاً مدة الحرب، و سبعاً بعد الفتح أيام قسمة البلاد. و لما توفي يوشع عليه السلام نقلوها إلى بلد شيلو قريباً من كلكال، و أداروا عليها الحيطان. و أقامت على ذلك ثلثمائة سنة، حتى ملكها بنو فلسطين من أيديهم كما مر، و تغلبوا عليهم. ثم ردوا عليهم القبة و نقلوها بعد وفاة عالي الكوهن إلى نوف. ثم نقلت أيام طالوت إلى كنعون في بلاد بني يامين. و لما ملك داوود عليه السلام نقل القبة و التابوت إلى بيت المقدس و جعل عليها خباء خاصاً و وضعها على الصخرة.
و بقيت تلك القبة قبلتهم و وضعوها على الصخرة ببيت المقدس و أراد داود عليه السلام بناء مسجده على الصخرة مكانها فلم يتم له ذلك و عهد به إلى ابنه سليمان فبناه لأربع سنين من ملكه و لخمسمائة سنة من وفاة موسى عليه السلام.
و أتخذ عمده من الصفر و جعل به صرح الزجاج و غشى أبوابه و حيطانه بالذهب و صاغ هياكله و تماثيله و أوعيته و منارته و مفتاحه من الذهب و جعل في ظهره قبراً ليضع فيه تابوت العهد و هو التابوت الذي فيه الألواح و جاء به من صهيون بلد أبيه داوود نقله إليه أيام عمارة المسجد، فجيء به تحمله الأسباط و الكهنوتية حتى وضعه في القبر و وضعت القبة و الأوعية و المذبح كل واحد حيث أعد له من المسجد. و أقام كذلك ما شاء الله. ثم خربه بخت نصر بعد ثمانمائة سنة من بنائه و أحرق التوراة و العصا و صاغ الهياكل و نثر الأحجار. ثم لما أعادهم ملوك الفرس بناه عزيز بني إسرائيل لعهده بإعانة بهمن ملك الفرس الذي كانت الولادة لبنى إسرائيل عليه من سبي بخت نصر و حد لهم في بنيانه حدوداً دون بناء سليمان بن داوود عليهما السلام فلم يتجارزوها.
و أما الأواوين التي تحت المسجد، يركب بعضها بعضاً، عمود الأعلى منها على قوس الأسفل في طبقتين. و يتوهم كثير من الناس أنها إصطبلات سليمان عليه السلام، و ليس كذلك. لو إنما بناها تنزيهاً للبيت المقدس عما يتوهم من النجاسة، لأن النجاسات في شريعتهم و إن كانت في باطن الأرض و كان ما بينها و بين ظاهر الأرض محشواً بالتراب، بحيث يصل ما بينها و بين الظاهر خط مستقيم ينجس ذلك الظاهر بالتوهم. و المتوهم عندهم كالمحقق.
فبنوا هذه الأواوين على هذه الصورة بعمود الأواوين السفلية تنتهي إلى أقواسها و ينقطع خطه، فلا تتصل النجاسة بالأعلى على خط مستقيم. و تنزه البيت عن هذه النجاسة المتوهمة ليكون ذلك أبلغ في الطهارة و التقديس.
ثم تداونتهم ملوك يونان الفرس و الروم و استفحل الملك لبني اسرائيل في هذه المدة ثم لبني حشمناي من كهنتهم ثم لصهرهم هيرودس و لبنيه من بعد.
و بنى هيرودوس بيت المقدس على بناء سليمان عليه السلام و تأنق فيه حتى أكمله في ست سنين فلما جاء طيطش من ملوك الروم و غلبهم و ملك أمرهم خرب بيت المقدس و مسجدها و أمر أن يزرع مكانه ثم أخذ الروم بدين المسيح عليه السلام و دانوا بتعظيمه ثم اختلف حال ملوك الروم في الأخذ بدين النصارى تارةً و تركه أخرى إلى أن جاء قسطنطين و تنصرت أمه هيلانة و ارتحلت إلى القدس في طلب الخشبة التي صلب عليها المسيح بزعمهم فأخبرها القساوسة بأنه رمى بخشبته على الأرض و ألقى عليها القمامات و القاذورات فاستخرجت الخشبة و بنت مكان تلك القمامات كنيسة القمامة كأنها على قبره بزعمهم و هربت ما وجدت من عمارة البيت و أمرت بطرح الزبل و القمامات على الصخرة حتى غطاها و خفي مكانها جزاء بزعمها لما فعلوه بقبر المسيح ثم بنوا بإزاء القمامة بيت لحم و هو البيت الذي ولد فيه عيسى عليه السلام و بقي الأمر كذلك إلى أن جاء الإسلام و حضر عمر لفتح بيت المقدس و سأل عن الصخرة فأري مكانها و قد علاها الزبل و التراب فكشف عنها و بنى عليها مسجداً على طريق البداوة و عظم من شأنه ما أذن الله من تعظيمه و ما سبق من أم الكتاب في فضله حسبما ثبت ثم احتفل الوليد بن عبد الملك في تشييد مسجده على سنن مساجد الإسلام بما شاء الله من الاحتفال كما فعل في المسجد الحرام و في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة و في مسجد دمشق و كانت العرب تسميه بلاط الوليد و ألزم ملك الروم أن يبعث الفعلة و المال لبناء هذه المساجد و أن ينمقوها بالفسيفساء فأطاع لذلك و تم بناؤها على ما اقترحه. ثم لما ضعف أمر الخلافة أعوام الخمسمائة من الهجرة في آخرها وكانت في ملكة العبيديين خلفاء القاهر من الشيعة و اختل أمرهم زحف الفرنجة إلى بيت المقدس فملكوه و ملكوا معه عامة ثغور الشام و بنوا على الصخرة المقدسة منه كنيسة كانوا يعظمونها و يفتخرون ببنائها حتى إذا استقل صلاح الدين بن أيوب الكردي بملك مصر و الشام و محا أثر العبيديين و بدعهم زحف إلى الشام و جاهد من كان به من الفرنجة حتى غلبهم على بيت المقدس و على ما كانوا ملكوه من ثغور الشام و ذلك لنحو ثمانين و خمسمائة من الهجرة و هدم تلك الكنيسة و أظهر الصخرة و بني المسجد على النحو الذي هو عليه اليوم لهذا العهد.
و لا يعرض لك الإشكال المعروف في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه و سلم سئل عن أول بيت وضع فقال: بين مكة و بين بناء بيت المقدس قيل فكم بينهما ؟ قال أربعون سنة فإن المدة بين بناء مكة و بين بناء بيت المقدس بمقدار ما بين إبراهيم و سليمان لأن سليمان بانيه و هو ينيف على الألف بكثير. و أعلم أن المراد بالوضع في الحديث ليس البناء و إنما المراد أول بيت عين للعبادة و لا يبعد أن يكون بيت المقدس عين للعبادة قبل بناء سليمان بمثل هذه المدة و قد نقل أن الصابئه بنوا على الصخرة هيكل الزهرة فلعل ذلك أنها كانت مكاناً للعبادة كما كانت الجاهلية تضع الأصنام و التماثيل حوالي الكعبة و في جوفها و الصابئة الذين بنوا هيكل الزهرة كانوا على عهد إبراهيم عليه السلام فلا تبعد مدة الأربعين سنة بين وضع مكة للعبادة و وضع بيت المقدس و إن لم يكن هناك بناء كما هو المعروف و أن أول من بنى بيت المقدس سليمان عليه السلام فتفهمه ففيه حل هذا الإشكال. و أما المدينة و هي المسماة بيثرب فهي من بناء يثرب بن مهلائيل من العمالقة و ملكها بنو إسرائيل من أيديهم فيما ملكوه من أرض الحجاز ثم جاورهم بنو قيلة من غسان و غلبوهم عليها و على حصونها. ثم أمر النبي صلى الله عليه و سلم بالهجرة إليها لما سبق من عناية الله بها فهاجر إليها و معه أبو بكر و تبعه أصحابه و نزل بها و بنى مسجده و بيوته في الموضع الذي كان الله قد أعده لذلك و شرفه في سابق أزله و أواه أبناء قيلة و نصروه فلذلك سموا الأنصار و تمت كلمة الإسلام من المدينة حتى علت على الكلمات و غلب على قومه و فتح مكة و ملكها و ظن الأنصار أنه يتحول عنهم إلى بلده فأهمهم ذلك فخاطبهم رسول الله صلى الله عليه و سلم و أخبرهم انه غير متحول حتى إذا قبض صلى الله عليه و سلم كان ملحده الشريف بها و جاء في فضلها من الأحاديث الصحيحة مالا خفاء به و وقع الخلاف بين العلماء في تفضيلها على مكة و به قال مالك رحمه الله لما ثبت عنده في ذلك من النص الصريح عن رفيع بن مخدج أن النبي صلى الله عليه و سلم قال المدينة خير من مكة نقل ذلك أبو الوهاب في المعونة إلى أحاديث أخرى تدل بظاهرها على ذلك و خالف أبو حنيفة و الشافعي. و أصبحت على كل حال ثانية المسجد الحرام و جنح إليها الأمم بأفئدتهم من كل أوب فانظر كيف تدرجت الفضيلة في هذه المساجد المعظمة لما سبق من عناية الله لها و تفهم سر الله في الكون و تدريجه على ترتيب محكم في أمور الدين و الدنيا. و أما غير هذه المساجد الثلاثة فلا نعلمه في الأرض إلا ما يقال من شأن مسجد آدم عليه السلام بسرنديب من جزائر الهند لكنه لم يثبت فيه شيء يعول عليه و قد كانت للأمم في القديم مساجد يعظمونها على جهة الديانة بزعمهم منها بيوت النار للفرس و هياكل يونان و بيوت العرب بالحجاز التي أمر النبي صلى الله عليه و سلم بهدمها في غزواته و قد ذكر المسعودي منها بيوتاً لسنا من ذكرها في شيء إذ هي غير مشروعة و لا هي على طريق ديني و لا يلتفت إليها و لا إلى الخبر عنها و يكفي في ذلك ما وقع في التواريخ فمن أراد معرفة الأخبار فعليه بها و الله يهدي من يشاء سبحانه.

الفصل السابع في أن المدن و الأمصار بإفريقية و المغرب قليلة
و السبب في ذلك أن هذه الأقطار كانت للبربر منذ آلاف من السنين قبل الإسلام و كان عمرانها كله بدوياً و لم تستمر فيهم الحضارة حتى تستكمل أحوالها و الدول التي ملكتهم من الإفرنجة و العرب لم يطل أمد ملكهم فيهم حتى ترسخ الحضارة منها فلم تزل عوائد البداوة و شؤونها فكانوا إليها أقرب فلم تكثر مبانيهم و أيضاً فالصنائع بعيدة عن البربر لأنهم أعرق في البدو و الصنائع من توابع الحضارة و إنما تتم المباني بها فلا بد من الحذق في تعلمها فلما لم يكن للبربر انتحال لها لم يكن لهم تشوق إلى المباني فضلاً عن المدن. و أيضاً فهم أهل عصبيات و أنساب لا يخلو عن ذلك جمع منهم و الأنساب و العصبية أجنح إلى البدو و إنما يدعو إلى المدن الدعة و السكون و يصير ساكنها عيالاً على حاميتها فتجد أهل البدو لذلك يستنكفون عن سكنى المدينة أو الإقامة بها فلا يدعو إلى ذلك إلا الترف و الغنى و قليل ما هو في الناس فلذلك كان عمران أفريقية و المغرب كله أو أكثره بدوياً أهل خيام و ظواعن و قياطن و كنن في الجبال و كان عمران بلاد العجم كله أو أكثره قرى و أمصاراً و رساتيق من بلاد الأندلس و الشام و مصر و عراق العجم و أمثالها لأن العجم ليسوا بأهل أنساب يحافظون عليها و يتباهون في صراحتها و التحامها إلا في الأقل و أكثر ما يكون سكنى البدو لأهل الأنساب لأن لحمة النسب أقرب و أشد فتكون عصبيته كذلك و تنزع بصاحبها إلى سكنى البدو و التجافي عن المصر الذي يذهب بالبسالة و يصيره عيالاً على غيره فأفهمه و قسى عليه و الله سبحانه و تعالى أعلم و به التوفيق.

الفصل الثامن في أن المباني و المصانع في الملة الإسلامية قليلة بالنسبة إلى قدرتها و إلى من كان قبلها من الدول
و السبب في ذلك ما ذكرنا مثله في البربر بعينه إذ العرب أيضاً أعرق في البدو و أبعد عن الصنائع و أيضاً فكانوا أجانب من الممالك التي استولوا عليها قبل الإسلام و لما تملكوها لم ينفسح الأمد حتى تستوفي رسوم الحضارة مع أنهم استغنوا بما وجدوا من مباني غيرهم و أيضاً فكان الدين أول الأمر مانعاً من المغالاة أو البنيان و الإسراف فيه في غير القصد كما عهد لهم عمر حين استأذنوه في بناء الكوفة بالحجارة و قد وقع الحريق في القصب الذي كانوا بنوا به من قبل فقال افعلوا و لا يزيدن أحد على ثلاثة أبيات و لا تطاولوا في البنيان و ألزموا السنة تلزمكم الدولة و عهد إلى الوفد و تقدم إلى الناس أن لا يرفعوا بنياناً فوق القدر قالوا: و ما القدر ؟ قال: لا يقربكم من السرف و لا يخرجكم عن القصد فلما بعد العهد بالدين و التخرج في أمثال هذه المقاصد و غلبت طبيعة الملك و الترف و استقدم العرب أمة الفرس و أخذوا عنهم الصنائع و المباني و دعتهم إليها أحوال الدعة و الترف فحينئذ شيدوا المباني و المصانع و كان عهد ذلك قريباً بانقراض الدولة و لم ينفسح الأمد لكثرة البناء و اختطاط المدن و الأمصار إلا قليلاً و ليس كذلك غيرهم من الأمم فالفرس طالت مدتهم آلافاً من السنين و كذلك القبط و النبط و الروم و كذلك العرب الأولى من عاد و ثمود و العمالقة و التبابعة طالت أمادهم و رسخت الصنائع فيهم فكانت مبانيهم و هياكلهم أكثر عدداً و أبقى على الأيام أثراً و استبصر في هذا تجده كما قلت و الله وارث الأرض و من عليها.

الفصل التاسع في أن المباني التي كانت تختطها العرب يسرع إليها الخراب إلا في الأقل
و السبب في ذلك شأن البداوة و البعد عن الصنائع كما قدمناه فلا تكون المباني وثيقة في تشييدها و له و الله أعلم وجه آخر و هو أمس به و ذلك قلة مراعاتهم لحسن الاختيار في اختطاط المدن كما قلناه في المكان و طيب الهواء. و المياه و المزارع و المراعي فإنه بالتفاوت في هذا تتفاوت جودة المصر و رداءته من حيث العمران الطبيعي و العرب بمعزل عن هذا و إنما يراعون مراعي إبلهم خاصة لا يبالون بالماء طاب أو خبث و لا قل أو كثر و لا يسألون عن زكاء المزارع و المنابت و الأهوية لانتقالهم في الأرض و نقلهم الحبوب من البلد البعيد و أما الرياح فالقفر مختلف للمهاب كلها و الظعن كفيل لهم بطيبها لأن الرياح إنما تخبث مع القرار و السكنى و كثرة الفضلات و انظر لما اختطوا الكوفة و البصرة و القيروان كيف لم يراعوا في اختطاها إلا مراعي إبلهم و ما يقرب من القفر و مسالك الظعن فكانت بعيدة عن الوضع الطبيعي، للمدن و لم تكن لها مادة تمد عمرانها من بعدهم كما قدمنا أنه يحتاج إليه في العمران فقد كانت مواطنها غير طبيعية للقرار و لم تكن في وسط الأمم فيعمرها الناس فلأول وهلة من انحلال أمرهم و ذهاب عصبيتهم التي كانت سياجاً لها أتى عليها الخراب و الانحلال كأن لم تكن. و الله يحكم لا معقب لحكمه.

الفصل العاشر في مبادي الخراب في الأمصار
إعلم أن الأمصار إذا اختطت أولاً تكون قليلة المساكن و قليلة آلات البناء من الحجر و الجير و غيرهما مما يعالى على الحيطان عند التأنق كالزلج و الرخام و الربج و الزجاج و الفسيفساء و الصدف فيكون بناؤها يؤمئذ بدوياً و آلاتها فاسدة فإذا عظم عمران المدينة و كثر ساكنها كثرت الآلات بكثرة الأعمال حينئذ و كثرت الصناع إلى أن تبلغ غايتها من ذلك كما سبق بشأنها فإذا تراجع عمرانها و خف ساكنها قلت الصنائع لأجل ذلك و فقدت الإجادة في البناء و الإحكام و المعالاة عليه بالتنميق ثم تقل الأعمال لعدم الساكن فيقل *** الآلات من الحجر و الرخام و غيرهما فتفقد و يصير بناؤهم و تشيدهم من الآلات التي في مبانيهم فينقلونها من مصنع إلى مصنع لأجل خلاء أكثر المصانع و القصور و المنازل بقلة العمران و قصوره عما كان أولاً ثم لا تزال تنقل من قصر إلى قصر و من دار إلى دار إلى أن يفقد الكثير منها جملة فيعودون إلى البداوة في البناء و أتخاذ الطوب عوضاً عن الحجارة و القصور عن التنميق بالكلية فيعود بناء المدينة مثل بناء القرى و المدر و تظهر عليها سيماء البداوة ثم تمر في التناقص إلى غايتها من الخراب إن قدر لها به سنة الله في خلقه.
رد مع اقتباس
  #12  
قديم 01-09-2012, 10:47 PM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,413
افتراضي

الفصل الحادي عشر في أن تفاضل الأمصار والمدن في كثرة الرزق لأهلها و نفاق الأسواق إنما هو في تفاضل عمرانها في الكثرة والقلة
و السبب في ذلك أنه قد عرف و ثبت أن الواحد من البشر غير مستقل بتحصيلحاجاته في معاشه و إنهم متعاونون جميعاً في عمرانهم على ذلك و الحاجة التي تحصلبتعاون طائفة منهم تشتد ضرورة الأكثر من عددهم أضعافاً. فالقوت من الحنطة مثلاً لايستقل الواحد بتحصيل حصته منه. و إذا انتدب لتحصيله الستة أو العشرة من حداد ونجار للآلات و قائم على البقر و إثارة الأرض و حصاد السنبل و سائر مؤن الفلح وتوزعوا على تلك الأعمال أو اجتمعوا و حصل بعملهم ذلك مقدار من القوت فإنه حينئذ قوتلأضعافهم مرات. فالأعمال بعد الاجتماع زائدة على حاجات العاملين و ضروراتهم. فأهلمدين أو مصر إذا وزعت أعمالهم كلها على مقدار ضروراتهم و حاجاتهم اكتفي فيها بالأقلمن تلك الأعمال و بقيت الأعمال كلها زائدة على الضرورات فتصرف في حالات الترف وعوائده و ما يحتاج إليه غيرهم من أهل الأمصار و يست***ونه منهم بأعواضه و قيمهفيكون لهم بذلك حظاً من الغنى و قد تبين لك في الفصل الخامس في باب الكسب و الرزقأن المكاسب إنما هي قيم الأعمال فإذا كثرت الأعمال كثرت قيمها بينهم فكثرت مكاسبهمضرورة و دعتهم أحوال الرفه و الغنى إلى الترف و حاجاته من التأنق في المساكن والملابس و استجادة الآنية و الماعون و اتخاذ الخدم و المراكب و هذه كلها أعمالتستدعى بقيمها و يختار المهرة في صناعتها و القيام عليها فتنفق أسواق الأعمال والصنائع و يكثر دخل المصر و خرجه و يحصل اليسار لمنتحلي ذلك من قبل أعمالهم. و متىزاد العمران زادت الأعمال ثانية ثم زاد الترف تابعاً للكسب و زادت عوائده و حاجاته. و استنبطت الصنائع لتحصيلها فزادت قيمها و تضاعف الكسب في المدينة لذلك ثانية ونفقت سوق الأعمال بها أكثر من الأول. و كذا في الزيادة الثانية و الثالثة لأنالأعمال الزائدة كلها تختص بالترف و الغنى بخلاف الأعمال الأصلية التي تختص بالمعاش. فالمصر إذا فضل بعمران واحد ففضله بزيادة كسب و رفه بعوائد من الترف لا توجد فيالآخر فما كان عمرانه من الأمصار أكثر و أوفر كان حال أهله في الترف أبلغ من حالالمصر الذي دونه على وتيرة واحدة في الأصناف. القاضي مع القاضي و التاجر مع التاجرو الصانع مع الصانع و السوقي مع السوقي و الأمير مع الأمير و الشرطي مع الشرطي. واعتبر ذلك في المغرب مثلاً بحال فاس مع غيرها من أمصاره مثل بجاية و تلمسان و سبتةتجد بينهما بوناً كثيراً على الجملة، ثم على الخصوصيات فحال القاضي بفاس أوسع منحال القاضي بتلمسان و هكذا كل صنف مع صنف أهله. و كذا أيضاً حال تلمسان مع وهرانأو الجزائر و حال وهران و الجزائر مع ما دونهما إلى أن تنتهي إلى المدر الذيناعتمالهم في ضروريات معاشهم فقط و يقصرون عنها. و ما ذلك إلا لتفاوت الأعمال فيهافكأنها كلها أسواق للأعمال. و الخرج في كل سوق على نسبته فالقاضي بفاس دخله كفاءخرجه و كذا القاضي بتلمسان و حيث الدخل و الخرج أكثر تكون الأحوال أعظم و هما بفاسأكثر لنفاق سوق الأعمال بما يدعو إليه الترف فالأحوال أضخم. ثم هكذا حال وهران وقسطنطينية و الجزائر و بسكرة حتى تنتهي كما قلناه إلى الأمصار التي لا توفي أعمالهابضروراتها و لا تعد في الأمصار إذ هي من قبيل القرى و المدر. فلذلك تجد أهل هذهالأمصار الصغيرة ضعفاء الأحوال متقاربين في الفقر و الخصاصة لما أن أعمالهم لا تفيبضروراتهم و لا يفضل ما يتأثلونه كسباً فلا تنمو مكاسبهم. و هم لذلك مساكين محاويجإلا في الأقل النادر. و اعتبر ذلك حتى في أحوال الفقراء و السؤال فإن السائل بفاسأحسن حالاً من السائل بتلمسان أو وهران. و لقد شاهدت بفاس السؤال يسألون أيامالأضاحي أثمان ضحاياهم و رأيتهم يسألون كثيراً من أحوال الترف و اقتراح المآكل مثلسؤال اللحم و السمن و علاج الطبخ و الملابس و الماعون كالغربال و الآنية. و لو سألسائل مثل هذا بتلمسان أو وهران لاستنكر و عنف و زجر. و يبلغنا لهذا العهد عن أحوالالقاهرة و مصر من الترف و الغنى في عوائدهم ما يقضى منه العجب حتى أن كثيراً منالفقراء بالمغرب ينزعون من الثقلة إلى مصر لذلك و لما يبلغهم من شأن الرفه بمصرأعظم من غيرها. و بعتقد العامة من الناس أن ذلك لزيادة إيثار في أهل تلك الآفاقعلى غيرهم أو أموال مختزنة لديهم. و أنهم أكثر صدقة و إيثاراً من جميع أهل الأمصارو ليس كذلك و إنما هو لما تعرفه من أن عمران مصر و القاهرة أكثر من عمران هذهالأمصار التي لديك فعظمت لذلك أحوالهم. و أما حال الدخل و الخرج فمتكافئ في جميعالأمصار أحوال الساكن و وسع المصر. كل شيء يبلغك من مثل هذا فلا تنكره و اعتبرهبكثرة العمران و ما يكون عنه من كثرة المكاسبة التي يسهل بسببها البذل و الإيثارعلى مبتغيه و مثله بشأن الحيوانات العجم مع بيوت المدينة الواحدة و كيف تختلفأحوالها في هجرانها أو غشيانها فإن بيوت أهل النعم و الثروة و الموائد الخصبة منهاتكثر بساحتها و أقنيتها بنثر الحبوب و سواقط الفتات فيزدحم عليها غواشي النمل والخشاش و يلحق فوقها عصائب الطيور حتى تروح بطاناً و تمتلئ شبعاً و رياً و بيوت أهلالخصاصة و الفقراء الكاسدة أرزاقهم لا يسري بساحتها دبيب و لا يحلق بجوها طائر و لاتأوي إلى زوايا بيوتهم فأرة و لا هرة كما قال الشاعر:
تسقطالطير حيث تلتقط الحب و تغشى منازل الكرماء
فتأمل سر الله تعالىفي ذلك و اعتبر غاشية الأناسي بغاشية العجم من الحيوانات و فتات الموائد بفضلاتالرزق و الترف و سهولتها على من يبذلها لاستغنائهم عنها في الأكثر لوجود أمثالهالديهم و اعلم أن اتساع الأحوال و كثرة النعم في العمران تابع لكثرته و الله سبحانهو تعالى أعلم و هو غني عن العالمين.
الفصل الثاني عشر في أسعار المدن
إعلم أن الأسواق كلها تشتمل على حاجات الناسفمنها الضروري و هي الأقوات من الحنطة و ما معناها كالباقلاء و البصل و الثوم وأشباهه و منها الحاجي والكمالي مثل الأدم و الفواكه و الملابس و الماعون و المراكبو سائر المصانع والمباني فإذا استبحر المصر و كثر ساكنة رخصت أسعار الضروري منالقوت و ما في معناه و غلت أ سعار الكمالي من الأديم و الفواكه و ما يتبعها و إذاقل ساكن المصر و ضعف عمرانه كان الأمر بالعكس من ذلك. و السبب في ذلك أن الحبوب منضرورات القوت فتتوفر الدواعي على اتخاذها إذ كل أحد لا يهمل قوت نفسه و لا قوتمنزله لشهر أو سنته فيعم اتخاذها أهل المصر أجمع أو الأكثر منهم في ذلك المصر أوفيما قرب منه لا بد من ذلك. و كل متخذ لقوته فتفضل عنه و عن أهل بيته فضلة كبيرةتسد خلة كثيرين من أهل ذلك المصر فتفضل القتوات عن أهل المصر من غير شك فترخصأسعارها في الغالب إلا ما يصيبها في بعض السنين من الآفات السماوية و لولا احتكارالناس لها لما يتوقع من تلك الآفات لبذلت دون ثمن و لا عوض لكثرتها بكثرة العمران.و أما سائر المرافق من الأدم و الفواكه و ما إليها لا تعم بها البلوى و لا يستغرقاتخاذها أعمال أهل المصر أجمعين و لا الكثير منهم ثم أن المصر إذا كان مستبحراًموفور العمران كثير حاجات الترف توفرت حينئذ الدواعي على طلب تلك المرافق والاستكثار منها كل بحسب حاله فيقصر الموجود منها على الحاجات قصوراً بالغاً و يكثرالمستامون لها و هي قليلة في نفسها فتزدحم أهل الأغراض و يبذل أهل الرفه و الترفأثمانها بإسراف في الغلاء لحاجتهم إليها أكثر من غيرهم فيقع فيها الغلاء كما تراه.و أما الصنائع و الأعمال أيضاً في الأمصار الموفورة العمران فسبب الغلاء فيها أمورثلاثة: الأول كثرة الحاجة لمكان الترف في المصر بكثرة عمرانه، و الثاني اعتزازأهل الأعمال لخدمتهم وامتهان أنفسهم لسهولة المعاش في المدينة بكثرة أقواتها، والثالث كثرة المترفين و كثرة حاجاتهم إلى امتهان غيرهم و إلى استعمال الصناع فيمهنهم فيبذلون في ذلك لأهل الأعمال أكثر من قيمة أعمالهم مزاحمة و منافسة فيالاستئثار بها فيغتر العمال و الصناع و أهل الحرف و تغلو أعمالهم و تكثر نفقات أهلالمصر في ذلك. و أما الأمصار الصغيرة و القليلة الساكن فأقواتهم قليلة لقلة العملفيها و ما يتوقعونه لصغر مصرهم من عدم القوت فيتمسكون بما يحصل منه في أيديهمويحتكرونه في فيعز وجوده لديهم و يغلو ثمنه على مستامه. و أما مرافقهم فلا تدعوإليها أيضاً حاجة بقلة الساكن و ضعف الأحوال فلا تنفق لديهم سوقه فيختص بالرخص فيسعره. و قد يدخل أيضاً في قيمة الأقوات قيمة ما يعرض عليها من المكوس و المغارمللسلطان في الأسواق و باب الحفر و الحياة في منافع وصولها عن البيوعات لما يمسهم.و بذلك كانت الأسعار في الأمصار أغلى من الأسعار في البادية إذ المكوس و المغارم والفرائض قليلة لديهم أو معدومة. و كثرتها قي الأمصار لا سيما في آخر الدولة و قدتدخل أيضاً في قيمة الأقوات قيمة علاجها في الفلح و يحافظ على ذلك في أسعارها كما وقع بالأندلس لهذا العهد. و ذلك أنهم لما ألجأهم النصارى إلى سيف البحر و بلادهالمتوعرة الخبيثة الزارعة النكدة النبات وملكوا عليهم الأرض الزاكية و البلد الطيبفاحتاجوا إلى علاج المزارع و الفدن لإصلاح نباتها و فلحها و كان ذلك العلاج بأعمالذات قيم و مواد من الزبل و غيره لها مؤنة و صارت في فلحهم نفقات لها خطر فاعتبروهافي سعرهم. و اختص قطر الأندلس بالغلاء منذ اضطرهم النصارى إلى هذا المعموربالإسلام مع سواحلها لأجل ذلك. و يحسب الناس إذا سمعوا بغلاء الأسعار في قطرهمأنها لقلة الأقوات و الحبوب في أرضهم و ليس كذلك فهم أكثر أهل المعمور فلحاً فيماعلمناه و أقومهم عليه و قل أن يخلو منهم سلطان أو سوقة عن فدان أو مزرعة أو فلح إلاقليلاً من أهل الصناعات و المهن أو الطراء على الوطن من الغزاة المجاهدين. و لهذايختصهم السلطان في عطائهم بالعولة و أقواتهم و علوفاتهم من الزرع. و إنما السبب فيغلاء سعر الحبوب عندهم ما ذكرناه. و لما كانت بلاد البربر بالعكس من ذلك في زكاءمنابتهم و طيب أرضهم ارتفعت عنهم الهون جملة في الفلح مع كثرته و عمومته فصار ذلكسبباً لرخص الأقوات ببلدهم و الله مقدر الليل والنهار و هو الواحد القهار لا ربسواه.
الفصل الثالث عشر في قصور أهل البادية عن سكنى المصر الكثير العمران
والسبب فيذلك أن المصر الكثير العمران يكثر ترفه كما قدمناه و تكثر حاجات ساكنه من أجل الترف. و تعتاد تلك الحاجات لما يدعو إليها فتنقلب ضرورات و تصير فيه الأعمال كلها معذلك عزيزة و المرافق غالية بازدحام الأعراض عليها من أجل الترف و بالمغارمالسلطانية التي توضع على الأسواق والبياعات و تعتبر في قيم المبيعات و يعظهم فيهاالغلاء في المرافق و أن أوقات والأعمال فتكثر لذلك نفقات ساكنه كثرة بالغة على نسبةعمرانه. و يعظم خرجه فيحتاج حينئذ إلى المال الكثير للنفقة على نفسه و عياله فيضرورات عيشهم و سائر مؤونتهم. والبدوي لم يكن دخله كثيراً ساكناً بمكان كاسدالأسواق في الأعمال التي هي سبب الكسب فلم يتأهل كسباً و لا مالاً فيتعذر عليه منأجل ذلك سكنى المصر الكبير لغلاء مرافقه و عزة حاجاته. و هو في بدوه يسد حاجتهبأقل الأعمال لأنه قليل عوائد الترف في معاشه و سائر مؤونته فلا يضطر إلى المال وكل من يتشوف إلى المصر و سكناه من البادية فسريعاً ما يظهر عجزه و يفتضح فياستيطانه إلا من يقدم منهم تأثل المال و يحصل له منه فوق الحاجة و يجري إلى الغايةالطبيعية لأهل العمران من الدعة و الترف فحينئذ ينتقل إلى المصر و ينتظم حالة معأحوال أهله في عوائدهم و ترفهم. و هكذا شأن بداءة عمران الأمصار. و الله بكل شيءمحيط.
الفصل الرابع عشر في أن الأقطار في اختلاف أحوالها بالرفه و الفقر مثل الأمصار
إعلم أن ما توفر عمرانه من الأقطار و تعددت الأمم في جهاته و كثر ساكنه اتسعتأحوال أهله و كثرت أموالهم و أمصارهم و عظمت دولهم و ممالكهم. و السبب في ذلك كلهما ذكرناه من كثرة الأعمال و ما سيأتي ذكره من أنها سبب للثروة بما يفصل عنها بعدالوفاء بالضروريات في حاجات الساكن من الفضلة البالغة على مقدار العمران و كثرتهفيعود على الناس كسباً يتأثلونة حسبما نذكر ذلك في فصل المعا ش و بيان الرزق والكسب فيتزيد الرفه لذلك و تتسع الأحوال و يجيء الترف والغنى و تكثر الجباية للدولةبنفاق الأسواق فيكثر مالها و يشمخ سلطانها و تتفنن في اتخاذ المعاقل و الحصون واختطاط المدن و تشييد الأمصار. و اعتبر ذلك بأقطار المشرق مثل مصر و الشام و عراقالعجم و الهند و الصين و ناحية الشمال كلها وأقطارها وراء البحر الرومي وعظمت لماكثر عمرانها كيف كثر المال فيهم و عظمت دولتهم و تعددت مدنهم و حواضرهم و عظمتمتاجرهم و أحوالهم. فالذي نشاهده لهذا العهد من أحوال تجار الأمم النصرانيةالواردين على المسلمين بالمغرب في رفههم و اتساع أحوالهم أكثر من أن يحيط به الوصف. و كذا تجار أهل المشرق و ما يبلغنا عن أحوالهم و أبلغ منها أهل المشرق الأقصى منعراق العجم و الهند و الصين فإنه يبلغنا عنهم في باب الغنى و الرفه غرائب تسيرالركبان بحديثها و ربما تتلقى بالإنكار في غالب الأمر. و يحسب من يسمعها من العامةأن ذلك لزيادة في أموالهم أو لأن المعادن الذهبية و الفضية أكثر بأرضهم أو لأن ذهبالأقدمين من الأمم استأثروا به دون غيرهم و ليس كذلك فمعدن الذهب الذي نعرفه في هذهالأقطار إنما هو من بلاد السودان و هي إلى المغرب أقرب. وجميع ما في أرضهم منالبضاعة فإنما ي***ونه إلى غير بلادهم للتجارة. فلو كان المال عتيداً موفوراًلديهم لما ***وا بضائعهم إلى سواهم يبتغون بها الأموال و لا استغنوا عن أموال الناسبالجملة. و لقد ذهب المنجمون لمما رأوا مثل ذلك واستغربوا ما في المشرق من كثرةالأحوال و اتساعها و وفور أموالها فقالوا بأن عطايا الكواكب و السهام في مواليدالمشرق أكثر منها حصصاً في مواليد أهل المغرب و ذلك صحيح من جهة المطابقة بينالأحكام النجومية و الأحوال الأرضية كما قلناه و هم إنما أعطوا في ذلك السببالنجومي و بقي عليهم أن يعطوا السبب الأرضي و هو ما ذكرناه من كثرة العمران واختصاصه بأرض المشرق وأقطاره و كثرة العمران تفيد كثرة الكسب بكثرة قي الأعمال التيهي سببه فلذلك اختص المشرق بالرفه من بين الأفاق لا إن ذلك لمجرد الأثر النجومي.فقد فهمت مما أشرنا لك أولاً أنه لا يستقل بذلك و أن المطابقة بين حكمه و عمرانالأرض و طبيعتها أمر لا بد منه. و اعتبر حال هذا الرفه من العمران في قطر أفريقيةو برقة لما خف سكنها وتناقص عمرانها كيف تلاشت أحوال أهلها وانتهوا إلى الفقروالخصاصه. و ضعفت جباياتها فقلت أموال دولها بعد أن كانت دول الشيعة و صنهاجة بهاعلى ما بلغك من الرفه و كثرة الجبايات و اتساع الأحوال في نفقاتهم و أعطياتهم. حتىلقد كانت الأموال ترفع من القيروان إلى صاحب مصر لحاجاته و مهماته و كانت أموالالدولة بحيث حمل جوهر الكاتب في سفر إلى فتح مصر ألف حمل من المال يستعد بها لأرزاقالجنود و أعطياتهم ونفقات الغزاة. و قطر المغرب و أن كان في القديم دون أفريقيةفلم يكن بالقليل في ذلك و كانت أحواله في دول الموحدين متسعة و جباياته موفورة و هولهذا العهد قد أقصر عن ذلك لقصور العمران فيه و تناقصه فقد ذهب من عمران البربر فيهأكثره و نقص عن معهوده نقصاً ظاهراً محسوسا، و كاد أن يلحق في أحواله بمثل أحوالأفريقية بعد أن كان عمرانه متصلاً من البحر الرومي إلى بلاد السودان في طول ما بينالسوس الأقصى و برقة. و هي اليوم كلها أو أكثرها قفار و خلاء و صحارى إلا ما هومنها بسيف البحر أو ما يقاربه من التلول و الله وارث الأرض ومن عليها و هو خيرالوارثين.
الفصل الخامس عشر في تأثل ا لعقار و الضياعفي الأمصار و حال فوائدها و مستغلاتها
اعلم أن تأثل العقار و الضياع الكثيرةلأهل الأمصار و المدن لا يكون دفعة واحدة و لا في عصر واحد إذ ليس يكون لأحد منهممن الثروة ما يملك به الأملاك التي تخرج قيمتها عن الحد و لو بلغت أحوالهم في الرفهما عسى أن تبلغ. وإنما يكون ملكهم و تأثلهم لها تدريجاً أما بالوراثة من آبائه وذوي رحمه حتى تتأدى أملاك الكثيرين منهم إلى الواحد و أكثر لذلك أو أن يكون بحوالةالأسواق فإن العقار في آخر الدولة و أول الأخرى عند فناء الحامية و خرق السياجوتداعى المصر إلى الخراب تقل الغبطة به لقلة المنفعة فيها بتلاشي الأحوال فترخصقيمتها و تتملك بالأثمان اليسيرة و تتخلى بالميراث إلى ملك آخر و قد استجد المصرشبابه باستفحال الدولة الثانية و انتظمت له أحوال رائقة حسنة تحصل معها الغبطة فيالعقار والضياع لكثرة منافعها حينئذ فتعظم قيمها و يكون لها خطر لم يكن في الأول.و هذا معنى الحوالة فيها و يصبح مالكها من أغنى أهل المصر و ليس ذلك بسعيه واكتسابه إذ قدرته تعجز عن مثل ذلك. و أما فوائد العقار و الضياع فهي غير كافيةلمالكها في حاجات معاشه إذ هي لا تفي بموائد الترف و أسبابه و إنما هي في الغالبلسد الخلة و ضرورة المعاش. و الذي سمعناه من مشيخة البلدان أن القصد باقتناء الملكمن العقار والضياع إنما هو الخشية على من يترك خلفه من الذرية الضعفاء ليكون مرباهمبه و رزقه فيه و نشؤهم بفائدته ما داموا عاجزين عن الاكتساب فإذا اقتدروا على تحصيلالمكاسب سعوا فيها بأنفسهم و ربما يكون من الولد من يعجز عن التكسب لضعف في بدنه أوآفة في عقله المعاشي فيكون ذلك العقار قواماً لحاله. هذا قصد المترفين في اقتنائه. و أما التمول منه وإجراء أحوال المترفين فلا. و قد يحصل ذلك منه للقليل أوالنادر بحوالة الأسواق و حصول الكثرة البالغة منه و العالي في جنسه و قيمته فيالمصر إلا أن ذلك إذا حصل ربما امتدت إليه أعين الأمراء و الولاة و اغتصبوه فيالغالب أو أرادوه على بيعه منهم و نالت أصحابه منه مضار و معاطب و الله غالب علىأمره و هو رب العرش العظيم.
الفصل السادس عشر في حاجات المتمولين منأهل الأمصار إلى الجاه و المدافعة
وذلك أن الحضري إذا عظم تموله و كثر للعقار والضياع تأثله و أصبح أغنى أهل المصر و رمقته العيون بذلك و انفسحت أحواله في الترفو العوائد زاحم عليها الأمراء و الملوك و غصوا به. و لما في طباع البشر من العدوانتمتد أعينهم إلى تملك ما بيده و ينافسونه فيه و يتحيلون على ذلك بكل ممكن حتىيحصلوه في ربقة حكمه سلطاني و سبب من المؤاخذة ظاهر ينتزع به ماله و أكثر الأحكامالسلطانية جائزة في الغالب إذ العدل المحض إنما هو في الخلافة الشرعية و هي قليلةاللبثقال صلى الله عليه وسلم الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم. تعودملكاً عضوضاً.فلا بد حينئذ لصاحب المال و الثروة الشهيرة في العمران منحامية تذود عنه و جاه ينسحب عليه من ذي قرابة للملك أو خالصة له أو عصبية يتحاماهاالسلطان فيستظل هو بظلها و يرتع في أمنها من طوارق التعدي. و أن لم يكن له ذلكأصبح نهباً بوجوه التخيلات و أسباب الحكام. و الله يحكم لا معقب لحكمه.
الفصل السابع عشر في أن الحضارة في الأمصار من قبل ا لدول و أنها ترسخ باتصالالدولة ورسوخها
و السبب في ذلك أن الحضارة هي أحوال عادية زائدة على الضروري منأحوال العمران زيادة تتفاوت بتفاوت الرفه و تفاوت الأمم في القلة و الكثرة تفاوتاًغير منحصر و تقع فيها عند كثرة التفنن في أنواعها و أصنافها فتكون بمنزلة الصنائع ويحتاج كل صنف منها إلى القومة عليه و المهرة فيه و بقدر ما يتزيد من أصنافها تتزيدأهل. صناعتها و يتلون ذلك الجيل بها و متى اتصلت الأيام و تعاقبت تلك الصناعات حذقأولئك الصناع في صناعتهم و مهروا في معرفتها و الأعصار بطولها و انفساح أمدها وتكرير أمثالها تزيدها استحكاماً و رسوخاً و أكثر ما يقع ذلك في الأمصار لاستجارالعمران و كثرة الرفه في أهلها. و ذلك كله إنما يجيء من قبل الدولة لأن الدولةتجمع أموال الرعية و تنفقها في بطانتها و رجالها وتتسع أحوالهم بالجاه أكثر منأتساعها بالمال فيكون دخل تلك الأموال من الرعايا و خرجها في أهل الدولة ثم في منتعلق بهم من أهل المصر و هم الأكثر فتعظم لذلك ثروتهم ويكثر غناهم و تتزيد عوائدالترف و مذاهبه و تستحكم لديهم الصنائع في سائر فنونه و هذه هي الحضارة. و لهذاتجد الأمصار التي في القاصية و لو كانت موفورة العمران تغلب عليها أحوال البداوة وتبعد عن الحضارة في جميع مذاهبها بخلاف المدن المتوسطة في الأقطار التي هي مركزالدولة و مقرها و ما ذاك إلا لمجاورة السلطان لهم و فيض أمواله فيهم كالماء يخضر ماقرب منه فما قرب من الأرض إلى أن ينتهي إلى الجفوف على البعد و قد قدمنا أن السلطانو الدولة سوق للعالم. فالبضائع كلها موجودة في السوق و ما قرب منه و إذا أبعدت عنالسوق افتقدت البضائع جملة ثم أنه إذا اتصلت تلك الدولة و تعاقب ملوكها في ذلكالمصر واحداً بعد واحد استحكمت الحضارة فيهم و زادت رسوخاً و اعتبر ذلك في اليهودلما طال ملكهم بالشام نحواً من ألف و أربعمائة سنين رسخت حضارتهم و حذقوا في أحوالالمعا ش و عوائده و التفنن في صناعاته من المطاعم و الملابس و سائر أحوال المنزلحتى أنها لتؤخذ عنهم في الغالب إلى اليوم. و رسخت الحضارة أيضاً و عوائدها فيالشام منهم و من دولة الروم بعدهم ستمائة سنة فكانوا في غاية الحضارة. و كذلكأيضاً القبط دام ملكهم في الخليقة ثلاثة آلاف من السنين فرسخت عوائد الحضارة فيبلدهم مصر وأعقبهم بها ملك اليونان و الروم ثم ملك الإسلام الناسخ للكل. فلم تزلعوائد الحضارة بها متصلة و كذلك أيضاً رسخت عوائد الحضارة باليمن لاتصال دولة العرببها منذ عهد العمالقة و التبابعة آلافاً من السنين و أعقبهم ملك مصر. و كذلكالحضارة بالعراق لاتصال دولة النبط و الفرس بها من لدن الكلدانيين و الكيانية والكسروية و العرب بعدهم آلافاً من السنين فلم يكن على وجه الأرض لهذا العهد أحضر منأهل الشام و العراق و مصر. و كذا أيضاً رسخت عوائد الحضارة و استحكمت بالأندلسلاتصال الدولة العظيمة فيها للقوط ثم ما أعقبها من ملك بني أمية آلافاً من السنين وكلتا الدولتين عظيمة فاتصلت فيها عوائد الحضارة و استحكمت. و أما أفريقية و المغربفلم يكن بها قبل الإسلام ملك ضخم إنما قطع الإفرنجة إلى أفريقية البحر و ملكواالساحل و كانت طاعة البربر أهل الضاحية لهم طاعة غير مستحكمة فكانوا على قلعة وأوفاز و أهل المغرب لم تجاورهم دولة و إنما كانوا يبعثون بطاعتهم إلى القوط من وراءالبحر ولما جاء الله بالإسلام و ملك العرب أفريقية و المغرب لم يلبث فيهم ملك العربإلا قليلاً أول الإسلام و كانوا لذلك العهد في طور البداوة و من استقر منهمبإفريقية والمغرب لم يجد بهما من الحضارة ما يقلد فيه من سلفة إذ كانوا برابرمنغمسين في البداوة ثم انتقض برابرة المغرب الأقصى لأقرب العهود على ميسرة المطفريأيام هشام بن عبد الملك و لم يراجعوا أمر العرب بعد و استقلوا بأمر أنفسهم و إنبايعوا لإدريس فلا تعد دولته فيهم عربية لأن البراير هم الذين تولوها و لم يكن منالعرب فيها كثير عدد و بقيت أفريقية للأغالبة و من إليهم من العرب فكان لهم منالحضارة بعض الشيء بما حصل لهم من ترف الملك و نعيمه و كثرة عمران القيروان و ورثذلك عنهم كتامة ثم صنهاجة من بعدهم و ذلك كله قليل لم يبلغ أربعمائة سنة و انصرمتدولتهم و استحالت صبغة الحضارة بما كانت غير مستحكمة و تغلب بدو العرب الهلاليينعليها و خربوها و بقي أثر خفي من حضارة العمران فيها و إلى هذا العهد يونس فيمن سلفله بالقلعة أو القيروان أو المهدية سلف فتجد له من الحضارة في شؤن منزله و عوائدأحواله آثاراً ملتبسة بغيرها يميزها الحضري البصير بها و كذا في أكثر أمصار أفريقيةو ليس كذلك في المغرب و أمصاره لرسوخ الدولة بأفريقية أكثر أمداً منذ عند الأغالبةو الشيعة وصنهاجة و أما المغرب فانتقل إليه منذ دولة الموحدين من الأندلس حظ كبيرمن الحضارة و استحكمت به عوائدها بما كان لدولتهم مني الاستيلاء على بلاد الأندلس وانتقل الكثير من أهلها إليهم طوعاً و كرهاً و كانت من اتساع النطاق ما علمت فكانفيها حظ صالح من الحضارة و استحكامها و معظمها من أهل الأندلس ثم انتقل أهل شرفالأندلس عند جالية النصارى إلى أفريقية فأبقوا فيها وبأمصارها من الحضارة آثاراً ومعظمها بتونس امتزجت بحضارة مصر و ما ينقله المسافرون من عوائدها فكان بذلك للمغربو أفريقية حظ صالح من الحضارة عفي عليه الخلاء و رجع إلى أعقابه و عاد البربربالمغرب إلى أديانهم من البداوة و الخشونة و على كل حال فآثار الحضارة بإفريقيةأكثر منها بالمغرب و أمصاره لما تداول فيها من الدول السالفة أكثر من المغرب و لقربعوائدهم من عوائد أهل مصر بكثرة المترددين بينهم. فتفطن لهذا السر فإنه خفي عنالناس. و اعلم أنها أمور متناسبة و هي حال الدولة في القوة و الضعف و كثرة الأمةأو الجيل و عظم المدينة أو المصر و كثرة النعمة و اليسار و ذلك أن الدولة و الملكصورة الخليفة و العمران وكلها مادة لها من الرعايا و الأمصار و سائر الأحوال وأموال الجباية عائدة عليهم ويسارهم في الغالب من أسواقهم و متاجرهم و إذا أفاضالسلطان عطاءه و أمواله في أهلها انبثت فيهم و رجعت إليه ثم إليهم منه فهي ذاهبةعنهم في الجباية و الخراج عائدة عليهم في العطاء فعلى نسبة حال الدولة يكون يسارالرعايا و على يسار الرعايا و كثرتهم يكون مال الدولة و أصله كله العمران و كثرتهفاعتبره و تأمله في الدول تجده و الله يحكم و لا معقب لحكمه.
الفصل الثامن عشر في أن الحضارة غاية العمران و نهاية لعمره و أنها مؤذنة بفساده
قد بينا لك فيما سلف أن الملك و الدولة غاية للعصبية و أن الحضارة غاية للبداوةو أن العمران كله من بداوة و حضارة و ملك و سوقة له عمر محسوس كما أن للشخص الواحدمن أشخاص المكونات عمراً محسوساً و تبين في المعقول والمنقول أن الأربعين للإنسانغاية في تزايد قواه و نموها و أنه إذا بلغ سن الأربعين و قفت الطبيعة عن أثر النشوءو النمو برهة ثم تأخذ بعد ذلك في الانحطاط. فلتعلم أن الحضارة في العمران أيضاًكذلك لأنه غاية لا مزيد وراءها و ذلك أن الترف و النعمة إذا حصلا لأهل العمراندعاهم بطبعه إلى مذاهب الحضارة و التخلق بعوائدها و الحضارة كما علمت هي التفنن فيالترف و استجاده أحواله و الكلف بالصنائع التي تؤنق من أصنافه و سائر فنونه منالصنائع المهيئة للمطابخ أو الملابس أو المباني أو الفرش أو الآنية و لسائر أحوالالمنزل. و للتأنق في كل واحد من هذه صنائع كثيرة لا يحتاج إليها عند البداوة و عدمالتأنق فيها. و إذا بلغ أن التأنق في هذه الأحوال المنزلية الغاية تبعه طاعةالشهوات فتتلون النفس من تلك العوائد بألوان كثيرة لا يستقيم حالها معها في دينها ولا دنياها أما دينها فلاستحكام صبغة العوائد التي يعسر نزعها و أما دنياها فلكثرةالحاجات و المؤنات ائتي تطالب بها العوائد و يعجز و ينكب عن الوفاء بها. و بيانهأن، المصر بالتفنن في الحضارة تعظم نفقات أهله و الحضارة تتفاوت بتفاوت العمرانفمتى كان العمران أكثر كانت الحضارة أكمل. و قد كنا قدمنا أن المصر الكثير العمرانيختص بالغلاء في أسواقه و أشعار حاجته. ثم تزيدها المكوس غلاة لأن الحضارة إنماتكون عند انتهاء الدولة في استفحالها و هو زمن وضع المكوس في الدول لكثرة خرجهاحينئذ كما تقدم. و المكوس تعود إلى البياعات بالغلاء لأن السوقة و التجار كلهميحتسبون على سلعهم و بضائعهم جميع ما ينفقونه حتى في مؤنة أنفسهم فيكون المكس لذلكداخلاً في قيم المبيعات و أثمانها. فتعظم نفقات أهل الحضارة و تخرج عن القصد إلىالإسراف. و لا يجدون و ليجة عن ذلك لما ملكهم من أثر العوائد و طاعتها و تذهبمكاسبهم كلها في النفقات و يتتابعون في الإملاق و الخاصة و يغلب عليهم الفقر و يقلالمستامون للبضائع فتكسد الأسواق و يفسد حال المدينة و داعية ذلك كله إفراط الحضارةو الترف. و هذه مفسدات في المدينة على العموم في الأسواق و العمران. و أما فسادأهلها في ذاتهم واحداً واحداً على الخصوص فمن الكد و التعب في حاجات العوائد والتلون بألوان الشر في تحصيلها و ما يعود على النفس من الضرر بعد تحصيلها بحصول لونآخر من ألوانها. فلذلك يكثر منهم الفسق و الشر و السفسفة و التحيل على تحصيلالمعاش من وجهه و من غير وجهه. و تنصرف النفس إلى الفكر في ذلك و الغوص عليه واستجماع الحيلة له فتجدهم أجرياء على الكذب و المقامرة و الغش و الخلابة و السرقة والفجور في الأيمان و الربا في البياعات ثم تجدهم لكثرة الشهوات و الملاذ الناشئة عنالترف أبصر بطرق الفسق و مذاهبه و المجاهرة به و بداوعيه و اطراح الحشمة في الخوضفيه حتى بين الأقارب و ذوي الأرحام و المحارم الذين تقتضي البداوة الحياء منهم فيالإقذاع بذلك. و تجدهم أيضاً أبصر بالمكر و الخديعة يدفعون بذلك ما عساه أن ينالهممن القهر و ما يتوقعونه من العقاب على تلك القبائح حتى يصير ذلك عادة و خلقاًلأكثرهم إلا من عصمه الله. و يموج بحر المدينة بالسفلة من أهل الأخلاق الذميمة ويجاريهم فيها كثير من ناشئة الدولة وولدانهم ممن أهمل عن التأديب و أهملته الدولةمن عدادها و غلب عليه خلق الجوار و إن كانوا أهل أنساب و بيوتات و ذلك أن الناس بشرمتماثلون و إنما تفاضلوا و تميزوا بالخلق و اكتساب الفضائل و اجتناب الرذائل. فمناستحكمت فيه صبغة الرذيلة بأي وجه كان، و فسد خلق الخير فيه، لم ينفعه زكاء نسبهو لا طيب منبته. و لهذا تجد كثيراً من أعقاب البيوت و ذوي الأحساب و الأصالة و أهلالدول منطرحين في الغمار منتحلين للحرف الدنيئة في معاشهم بما فسد من أخلاقهم و ماتلونوا به من صبغة الشر و السفسفة و إذا كثر ذلك في المدينة أو الأمة تأذن اللهبخرابها و انقراضها و هو معنى قوله تعالى:و إذا أردنا أن نهلكقرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً.و وجههحينئذ إن مكاسبهم حينئذ لا تفي بحاجاتهم لكثرة العوائد و مطالبة النفس بها فلاتستقيم أحوالهم. و إذا فسدت أحوال الأشخاص واحداً واحداً اختل نظام المدينة و خربتوهذا معنى ما يقوله بعض أهل الخواص أن المدينة إذا كثر فيها غرس النارنج تأذنتبالخراب حتى أن كثيراً من العامة يتحامى غرس النارنج بالدور تطيراً به. و ليسالمراد ذلك و لا أنه خاصية في النارنج و إنما معناه أن البساتين وإجراء المياه هومن توابع الحضارة. ثم أن النارنج و اللية و السرو و أمثال ذلك مما لا طعم فيه و لامنفعة هو من غاية الحضارة إذ لا يقصد بها في البساتين إلا أشكالها فقط ولا تغرس إلابعد التفنن في مذاهب الترف. و هذا هو الطور الذي يخشى معه هلاك المصر و خرابه كماقلناه. و لقد قيل مثل ذلك في الدفلى و هو من هذا الباب إذ الدفلى لا يقصد بها إلاتلون البساتين بنورها ما بين أحمر وأبيض و هو من مذاهب الترف. و من مفاسد الحضارةالإنهماك في الشهوات و الاسترسال فيها لكثرة الترف فيقع التفنن في شهوات البطن منالمآكل و الملاذ و المشارب وطيبها. و يتبع ذلك التفنن في شهوات الفرج بأنواعالمناكح من الزنا و اللواط، فيفضي ذلك إلى فساد النوع. إما بواسطة اختلاط الأنسابكما في الزنا، فيجهل كل واحد ابنه، إذ هو لغير رشدة، لأن المياه مختلطة فيالأرحام، فتفقد الشفقة الطبيعية على البنين و القيام عليهم فيهلكون، و يؤدي ذلكإلى انقطاع النوع، أو يكون فساد النوع بغير واسطة، كما في اللواط المؤدي إلى عدمالنسل رأساً و هو أشد في فساد النوع. و الزنا يؤدي إلى عدم ما يوجد منه. و لذلككان مذهب مالك رحمه الله في اللواط أظهر من مذهب غيره، و دل على أنه أبصر بمقاصدالشريعة واعتبارها للمصالح.
فافهم ذلك و اعتبر به أن غاية العمران هي الحضارةو الترف و أنه إذا بلغ غايته انقلب إلى الفساد و أخذ في الهرم كالأعمار الطبيعيةللحيوانات. بل نقول إن الأخلاق الحاصلة من الحضارة و الترف هي عين الفساد لأنالإنسان إنما هو إنسان باقتداره على *** منافعه و دفع مضاره و استقامة خلقه للسعيفي ذلك. و الحضري لا يقدر على مباشرته حاجاته أما عجزاً لما حصل له من الدعة أوترفاً لما حصل من المربي في النعيم و الترف و كلا الأمرين ذميم. و كذلك لا يقدرعلى دفع المضار و استقامة خلقه للسعي في ذلك. و الحضري بما قد فقد من خلق الإنسانبالترف و النعيم في قهر التأديب و التعلم فهو بذلك عيال على الحامية التي تدافع عنه. ثم هو فاسد أيضاً غالباً بما فسدت منه العوائد و طاعتها في ما تلونت به النفس منمكانتها كما قررناه إلا في الأقل النادر. و إذا فسد الإنسان في قدرته على أخلاقه ودينه فقد فسدت إنسانيته و صار مسخاً على الحقيقة. و بهذا الاعتبار كان الذينيتقربون من جند السلطان إلى البداوة و الخشونة أنفع من الذين يتربون على الحضارة وخلقها. موجودون في كل دولة. فقد تبين أن الحضارة هي سن الوقوف لعمر العالم فيالعمران و الدولة و الله سبحانه و تعالى كل يوم هو في شأن لا يشغله شأن عن شأن.
الفصل التاسع عشر في أن الأمصار التي تكونكراسي للملك تخرب بخراب الدولة وانقراضها
قد استقرينا في العمران أن الدولة إذااختلت و انتقصت فإن المصر الذي يكون كرسياً لسلطانها ينتقض عمرانه و ربما ينتهي فيانتقاضه إلى الخراب و لا يكاد ذلك يتخلف. و السبب فيه أمور: الأول أن الدولة لابد في أولها من البداوة المقتضية للتجافي عن أموال الناس و البعد عن التحذلق. ويدغو ذلك إلى تخفيف الجباية و المغارم. التي منها مادة الدولة فتقل النفقات و يقلالترف فإذا صار المصر الذي كان كرسياً للملك في ملكة هذه الدولة المتجددة و نقصتأحوال الترف فيها نقص الترف فيمن تحت أيديها من أهل المصر لأن الرعايا تبع الدولةفيرجعون إلى خلق الدولة أما طوعاً لما في طباع البشر من تقليد متبوعهم أو كرهاً لمايدعو إليه خلق الدولة من الانقباض عن الترف في جميع الأحوال و قلة الفوائد التي هيمادة العوائد فتقصر لذلك حضارة المصر و يذهب معه كثير من عوائد الترف. و هو معنىما نقول في خراب المصر. الأمر الثاني أن الدولة إنما يحصل لها الملك و الاستيلاءبالغلب، و إنما يكون بعد العداوة و الحروب. و العداوة تقتضي منافاة بين أهلالدولتين و تكثر إحداهما على الأخرى في العوائد والأحوال. و غلب أحد المتنافيينيذهب بالمنافي الآخر فتكون أحوال الدولة السابقة منكرة عند أهل الدولة الجديدة ومستبشعة و قبيحة. و خصوصاً أحوال الترف فتفقد في عرفهم بنكير الدولة لها حتى تنشألهم بالتدريج عوائد أخرى من الترف فتكون عنها حضارة مستأنفة. و فيما بين ذلك قصورالحضارة الأولى ونقصها و هو معنى اختلال العمران في المصر. الأمر الثالث أن كل أمةلا بد لهم من وطن و هو منشآهم و منه أولية ملكهم. و إذا ملكوا ملكاً آخر صار تبعاًللأول وأمصاره تابعة لأمصار الأول. و أتسع نطاق الملك عليهم. و لا بد من توسطالكرسي بين تخوم الممالك التي للدولة لأنه شبه المركز للنطاق فيبعد مكانه عن مكانالكرسي الأول و تهوي أفئدة الناس من أجل الدولة و السلطان فينتقل إليه العمران ويخف من مصر الكرسي الأول. و الحضارة إنما هي توفر العمران كما قدمناه فتنقص حضارتهو تمدنه. و هو معنى اختلاله. و هذا كما وقع للسلجوقية في عدولهم بكرسيهم عن بغدادإلى أصبهان و للعرب قبلهم في العدول عن المدائن إلى الكوفة و البصرة، و لبنيالعباس في العدول عن دمشق إلى بغداد و لبني مرين بالمغرب في العدول عن مراكش إلىفاس. و بالجملة فاتخاذ الدولة الكرسي في مصر يخل بعمران الكرسي الأول. الأمرالرابع أن الدولة الثانية لا بد فيها من أهل الدولة السابقة و أشياعها بتحويلهم إلىقطر آخر هو من فيه غائلتهم على الدولة و أكثر أهل المصر الكرسي أتباع الدولة. أمامن الحامية الذين نزلوا به أول الدولة أو أعيان المصر لأن لهم في الغالب مخالطةللدولة على طبقاتهم و تنوع أصنافهم. بل أكثرهم ناشئ في الدولة فهم شيعة لها. و إنلم يكونوا بالشوكة والعصبية فهم بالميل و المحبة و العقيدة. و طبيعة الدولةالمتجددة محو آثار الدولة السابقة فينقلهم من مصر الكرسي إلى و طنها المتمكن فيملكتها. فبعضهم على نوع التغريب و الحبس و بعضهم على نوع الكرامة و التلطف بحيث لايؤدي إلى النفرة حتى لا يبقى في مصر الكرسي إلا الباعة و الهمل من أهل الفلح والعيارة و سواد العامة و ينزل مكانهم حاميتها و أشياعها من يشتد به المصر وإذا ذهبمن المصر أعيانهم على طبقاتهم نقص ساكنه و هو معنى اختلال عمرانه. ثم لا بد من أنيستجد عمران آخر في ظل الدولة الجديدة و تحصل فيه حضارة أخرى على قدر الدولة. وإنما ذلك بمثابة من له بيت على أوصاف مخصوصة فاظهر من قدرته على تغيير تلك الأوصافو إعادة بنائها على ما يختاره و يقترحه فيخري ذلك البيت ثم يعيد بناءه ثانياً. وقد و قع من ذلك كثير في الأمصار التي هي كراسي للملك و شاهدناه. و عرفناهو الله يقدر الليل و النهار.و السبب الطبيعي الأول في ذ لك علىالجملة أن الدولة و الملك للعمران بمثابة الصورة للمادة و هو الشكل الحافظ بنوعهلوجودها. و قد تقرر في علوم الحكمة أنه لا يمكن انفكاك أحدهما عن الآخر. فالدولةدون العمران لا تتصور و العمران دون الدولة و الملك متعذر لما في طباع البشر منالعدوان الداعي إلى الوازع فتتعين السياسة لذلك أما الشريعة أو الملكية و هو معنىالدولة و إذا كانا لا ينفكان فاختلال أحدهما في مؤثر في اختلال الآخر كما أن عدمهمؤثر في عدمه و الخلل العظيم إنما يكون من خلال الدولة الكلية مثل دولة الروم أوالفرس أو العرب على العموم أو بني أمية أو بني العباس كذلك. و أما الدولة الشخصيةمثل دولة أنو شروان أو هرقل أو عبد الملك بن مروان أو الرشيد فأشخاصها متعاقبة علىالعمران حافظة لوجوده و بقائه و قريبة الشبه بعضها من بعض فلا تؤثر كثير اختلال لأنالدولة بالحقيقة الفاعلة في مادة العمران إنما هي العصبية و الشوكة و هي مستمرة علىأشخاص الدولة فإذا ذهبت تلك العصبية و دفعتها عصبية أخرى مؤثرة في العمران ذهبت أهلالشوكة بأجمعهم و عظم الخلل كما قررناه أولاً و الله سبحانه و تعالى أعلم.
الفصل العشرون في اختصاص بعض الأمصار ببعضالصنائع دون بعض
وذلك أنه من البين أن أعمال أهل المصر يستدعي بعضها بعضاً لمافي طبيعة العمران من التعاون و ما يستدعي من الأعمال يختص ببعض أهل المصر فيقومونعليه و يستبصرون في صناعته و يختصون بوظيفته و يجعلون معاشهم فيه و رزقهم منه لعمومالبلوى به في المصر والحاجة إليه. و ما لا تستدعي في المصر يكون غفلاً إذ لا فائدةلمنتحله في الاحتراف به. و ما يستدعي من ذلك لضرورة المعاش فيوجد في كل مصركالخياط و الحداد و النجار وأمثالها و ما يستدعي لعوائد الترف وأحواله فإنما يوجدفي المدن المستبحرة في العمارة الآخذة في عوائد الترف والحضارة مثل الزجاج و الصائغو الدهان و الطباخ و الصفار و السفاج و الفراش والذباح و أمثال هذه و هي متفاوتة.و بقدر ما تزيد الحضارة و تستدعي أحوال الترف تحدث صنائع لذلك النوع فتوجد بذلكالمصر دون غيره و من هذا الباب الحمامات لأنها إنما توجد في الأمصار المستحضرةالمستبحرة العمران لما يدعو إليه الترف و الغنى من التنعم و لذلك لا تكون في المدنالمتوسطة. و أن نزع بعض الملوك و الرؤساء إليها فيختطها و يجري أحوالها. إلا أنهاإذا لم تكن لها داعية من كافة الناس فسرعان ما تهجر و تخرب و تفر عنها القومة لقلةفائدتهم ومعاشهم منها. و الله يقبض و يبسط.
الفصل الحادي و العشرون في و جود العصبية في الأمصار و تغلب بعضهم على بعض
منالبين أن الالتحام أو الاتصال موجود في طباع البشر و أن لم يكونوا أهل نسب واحد إلاأنه كما قدمناه أضعف مما يكون بالنسب و أنه تحصل به العصبية بعضاً مما تحصل بالنسب. و أهل الأمصار كثير منكم ملتحمون بالصهر يجذب بعضهم بعضاً إلى أن يكونوا لحماًلحماً و قرابة قرابة و تجد بينهم من العداوة والصداقة ما يكون بين القبائل والعشائر مثله فيفترقون شيعاً و عصائب فإذا نزل الهرم بالدولة و تقلص ظل الدولة عنالقاصية احتاج أهل أمصارها إلى القيام على أمرهم و النظر في حماية بلدهم و رجعواإلى الشورى و تميز العلية عن السفلة و النفوس بطباعها متطاولة إلى الغلب و الرئاسةفتطمح المشيخة لخلاء الجو من السلطان و الدولة القاهرة إلى الاستبداد و تنازع كلصاحبه و يستوصلون بالأتباع من الموالي و الشيع و الأحلاف و يبذلون ما في أ يديهمللأوغاد و الأوشاب فيعصوصب كل لصاحبه و يتعين الغلب لبعضهم فيعطف على أكفائه ليقصمن أعنتهم و يتتبعهم بالقتل أو التغريب حتى يحضد منهم الشوكات النافذة و يقلمالأظفار الخادشة و يستبد بمصر أجمع و يرى أنه قد استحدث ملكاً يورثه عقبه فيحدث فيذلك الملك الأصغر ما يحدث في الملك الأعظم من عوارض الجدة والهرم و ربما يسمو بعضهؤلاء إلى مناخ الملوك الأعاظم أصحاب القبائل والعشائر و العصبيات و الزحوف والخروب و الأقطار و الممالك فينتحلون بها من الجلوس على السرير و اتخاذ الآلة وإعداد المواكب للسير في أقطار البلد و التختم والتحية و الخطاب بالتهويل ما يسخرمنه من يشاهد أحوالهم لما انتحلوه من شارات الملك التي ليسوا لها بأهل. إنما دفعهمإلى ذلك تقلص الدولة و التحام بعض القرابات حتى صارت عصبية. و قد يتنزه بعضهم عنذلك و يجري على مذهب السذاجة فراراً من التعريض بنفسه للسخرية و العبث. و قد وقعهذا بأفريقية لهذا العهد في آخر الدولة الحفصية لأهل بلاد الجربد من طرابلس وقابس وتؤزر و نفطة و قفصة و بسكرة و الزاب و ما إلى ذلك. سموا إلى مثلها عند تقلص ظلالدولة عنهم منذ عقود من السنين فاستغلبوا على أمصارهم و استبدوا بأمرها على الدولةفي الأحكام و الجباية. و أعطوا طاعة معروفة و صفقة ممرضة و أقطعوها جانباً منالملاينة و الملاطفة و الانقياد و هم بمعزل عنه. و أورثوا ذلك أعقابهم لهذا العهد. و حدث في خلفهم من الغلظة و التجبر ما يحدث لأعقاب الملوك و خلفهم و نظموا أنفسهمفي عداد السلاطين على قرب عهدهم بالسوقة حتى محا ذلك مولانا أمير المؤمنين أبوالعباس و انتزع ما كان بأيديهم من ذلك كما نذكره في أخبار الدولة. و قد كان مثلذلك و قع في آخر الدولة الصنهاجية. و استقل بأمصار الجريد أهلها و استبدوا علىالدولة حتى انتزع ذلك منهم شيخ الموحدين وملكهم عبد المؤمن بن علي و نقلهم منإماراتهم بها إلى المغرب و محا من تلك البلاد آثارهم كما نذكر في أخباره. و كذا وقع بسبتة لآخر دولة بنى عبد المؤمن.
وهذا التغلب يكون غالباً في أهل السروات والبيوتات المرشحين للمشيخة و الرئاسة في المصر، و قد يدذث التغلب لبعض السفلة منالغوغاء والدهماء. و إذا حصلت له العصبية و الالتحام بالأوغاد لأسباب يجرها لهالمقدار فيتغلب على المشيخة والعلية إذا كانوا فاقدين للعصابة و الله سبحانه وتعالى غالب على أمره.
رد مع اقتباس
  #13  
قديم 01-09-2012, 10:48 PM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,413
افتراضي

الفصل الثاني و العشرون في لغات أهل الأمصار
إعلم أن لغات أهل الأمصار إنما تكون بلسان الأمة أو الجيل الغالبين عليها أو المختطين لها و لذلك كانت لغات الأمصار الإسلامية كلها بالمشرق و المغرب لهذا العهد عربية و أن كان اللسان العربي المصري قد فسدت ملكته و تغير إعرابه والسبب في ذلك ما و قع للدولة الإسلامية من الغلب على الأمم و الدين و الملة صورة للوجود و للملك. و كلها مواد له و الصورة مقدمة على المادة و الدين إنما يستفاد من الشريعة و هي بلسان العرب لما أن النبي صلى الله عليه و سلم عربي فوجب هجر ما سوى اللسان العربي من الألسن في جميع ممالكها. و اعتبر ذلك في نهي عمر رضي الله عنه عن بطالة الأعاجم و قال إنها خب. أي مكر و خديعة. فلما هجر الدين اللغات الأعجمية و كان لسان القائمين بالدولة الإسلامية عربياً هجرت كلها في جميع ممالكها لأن الناس تبع للسلطان و على دينه فصار استعمال اللسان العربي من شعائر الإسلام و طاعة العرب. و هجر الأمم لغاتهم و ألسنتهم في جميع الأمصار والممالك. و صار اللسان العربي لسانهم حتى رسخ ذلك لغة في جميع أمصارهم ومدنهم و صارت الألسنة العجمية دخيلة فيها و غريبة. ثم فسد اللسان العربي بمخالطتها في بعض أحكامه و تغير أواخره و إن كان بقي في الدلالات على أصله وسمي لساناً حضرياً في جميع أمصار الإسلام. و أيضاً فأكثر أهل الأمصار في الملة لهذا العهد من أعقاب العرب المالكين لها، الهالكين في ترفها بما كثروا العجم الذين كانوا بها و ورثوا أرضهم و ديارهم. و اللغات متوارثة فبقيت لغة الأعقاب على حيال لغة الآباء و إن فسدت أحكامها بمخالطة الأعجام شيئاً فشيئاً. و سميت لغتهم حضرية منسوبة إلى أهل الحواضر و الأمصار بخلاف لغة البدو من العرب فإنها كانت أعرق في العروبية و لما تملك العجم من الديلم و السلجوقية بعدهم بالمشرق، و زناتة و البربر بالمغرب، و صار لهم الملك و الاستيلاء على جميع الممالك الإسلامية فسد اللسان العربي لذلك و كاد يذهب لولا ما حفظه من عناية المسلمين بالكتاب و السنة اللذين بهما حفظ الدين و سار ذلك مرجحاً لبقاء اللغة العربية المصرية من الشر و الكلام إلا قليلاً بالأمصار فلما ملك التتر والمغول بالمشرق و لم يكونوا على دين الإسلام ذهب ذلك المرجح و فسدت اللغة العربية على الإطلاق و لم يبق لها رسم في الممالك الإسلامية بالعراق و خراسان وبلاد فارس و أرض الهند و السند و ما وراء النهر و بلاد الشمال و بلاد الروم و ذهبت أسابيب اللغة العربية من الشعر و الكلام إلا قليلاً يقع تعليمه صناعياً بالقوانين المتدارسة من كلام العرب و حفظ كلامهم لمن يسره الله تعالى لذلك. و ربما بقيت اللغة العربية المصرية بمصر والشام و الأندلس و بالمغرب لبقاء الدين طلباً لها فانحفظت ببعض الشيء و أما في ممالك العراق و ما وراءه فلم يبق له أثر و لا عين حتى إن كتب العلوم صارت تكتب باللسان العجمي و كذا تدريسه في المجالس و الله أعلم بالصواب. و الله مقدر الليل و النهار. صلى الله على سيدنا محمد و آله و صحبه و سلم تسليماً كثيراً دائماً أبداً إلى يوم الدين و الحمد لله رب العالمين.

الباب الخامس من الكتاب الأول في المعاش و وجوبه من الكسب و الصنائع و ما يعرض في ذلك كله من الأحوال و فيه مسائل

الفصل الأول في حقيقة الرزق و الكسب و شرحهما و أن الكسب هو قيمة الأعمال ا لبشرية
إعلم أن الإنسان مفتقر بالطبع إلى ما يقوته و يمونة في حالاته و أطواره من لدن نشوءه إلى أشده إلى كبره و الله الغني و أنتم الفقراء و الله سبحانه خلق جميع ما في العالم للإنسان و امتن به عليه في غير ما آية من كتابه فقال: خلق لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه و سخر لكم البحر و سخر لكم الفلك و سخر لكم الأنعام. و كثير من شواهده. و يد الإنسان مبسوطة على العالم و ما فيه بما جعل الله له من الاستخلاف. و أيدي البشر منتشرة فهي مشتركة في ذلك. و ما حصل عليه يد هذا امتنع عن الآخر إلا بعوض. فالإنسان متى اقتدر على نفسه و تجاوز طور الضعف سعى في اقتناء المكسب لينفق ما آتاه الله منها في تحصيل حاجاته و ضروراته بدفع الأعواض عنها. قال الله تعالى: فابتغوا عند الله الرزق و قد يحصل له ذلك بغير سعي كالمطر المصلح للزراعة و أمثاله. إلا أنها إنما تكون معينة و لا بد من سعيه معها كما يأتي فتكون له. تلك المكاسب معاشاً إن كانتا بمقدار الضرورة و الحاجة و رياشاً و متمولاً إن زادت على ذلك. ثم إن ذلك الحاصل أو المقتنى إن عادت منفعته على العبد و حصلت له ثمرته من إنفاقه في مصالحه و حاجاته سمي ذلك رزقاً. قال صلى الله عليه و سلم: إنما لك من مالك ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت و إن لم ينتفع به في شيء من مصالحه و لا حاجاته فلا يسمى بالنسبة إلى المالك رزقاً و المتملك منه حينئذ بسعي العبد و قدرته يسمى كسباً. و هذا مثل التراث فإنه يسمى بالنسبة إلى المالك كسباً و لا يسمى رزقاً إذ لم يحصل به منتفع و بالنسبة إلى الوارثين متى انتفعوا به يسمى رزقاً. هذا حقيقة مسمى الرزق عند أهل السنة و قد اشترط المعتزل في تسميته رزقاً إن يكون بحيث يصح تملكه و ما لا يتملك عندهم لا يسمى رزقاً و أخرجوا الغصوبات و الحرام كله عن أن يسمى شيء منها رزقاً و الله تعالى يرزق الغاصب و الظالم و المؤمن و الكافر برحمته و هدايته من يشاء. و لهم في ذلك حجج ليس هذا موضع بسطها. ثم اعلم أن الكسب إنما يكون بالسعي في الاقتناء و القصد إلى التحصيل فلا بد في الرزق من سعي و عمل و لو في تناوله و ابتغائه من وجوهه. قال تعالى: فابتغوا عند الله الرزق و السعي إليه إنما يكون بأقدار الله تعالى و إلهامه، فالكل من عند الله. فلا بد من الأعمال الإنسانية في كل مكسوب و متمول. لأنه إن كان عملاً بنفسه مثل الصنائع فظاهر دال كان مقتنى من الحيوان و النبات و المعدن فلا بد فيه من العمل الإنساني كما تراه و إلا لم يحصل و لم يقع به انتفاع. ثم إن الله تعالى خلق الحجرين المعدنيين من الذهب و الفضة قيمة لكل متمول، و هما الذخيرة و القنية لأهل العالم في الغالب. و إن اقتنى سواهما في بعض الأحيان فإنما هو لقصد تحصيلهما بما يقع في غيرهما من حوالة الأسواق التي هما عنها بمعزل فهما أصل المكاسب و القنية و الذخيرة. و إذا تقرر هذا كله فاعلم أن ما يفيده الإنسان و يقتنيه من المتمولات إن كان من الصنائع فالمفاد المقتنى منه قيمة عمله و هو القصد بالقنية إذ ليس هناك إلا العمل و ليس بمقصود بنفسه للقنية. و قد يكون مع الصنائع في بعضها غيرها مثل التجارة و الحياكة معهما الخشب و الغزل إلا أن العمل فيهما أكثر فقيمته أكثر و إن كان من غير الصنائع فلا بد من قيمة ذلك المفاد و القنية من دخول قيمة العمل الذي حصلت به إذ لولا العمل لم تحصل قنيتها. و قد تكون ملاحظة العمل ظاهرة في الكثير منها فتجعل له حصة من القيمة عظمت أو صغرت. و قد تخفى ملاحظة العمل كما في أسعار الأقوات بين الناس فإن اعتبار الأعمال و النفقات فيها ملاحظ في أسعار الحبوب كما قدمناه لكنه خفي في الأقطار التي علاج الفلح فيها و مؤنته بسيرة فلا يشعر به إلا القليل من أهل الفلح. فقد تبين أن المفادات و المكتسبات كلها أو أكثرها إنما هي قيم الأعمال الإنسانية و تبين مسمى الرزق و أنه المنتفع به. فقد بان معنى الكسب و الرزق و شرح مسماهما. و اعلم أنه إذا فقدت الأعمال أو قلت بانتقاص العمران تأذن الله برفع الكسب أترى ألا الأمصار القليلة الساكن كيف يقل الرزق و الكسب فيها أو يفقد لقلة الأعمال الإنسانية و كذلك الأمصار التي يكون عمرانها أكثر يكون أهلها أوسع أحوالاً و أشد رفاهية كما قدمناه قبل و من هذا الباب تقول العامة في البلاد إذا تناقص عمرانها إنها قد ذهب رزقها حتى إن الأنهار و العيون ينقطع جريها في القفر لما أن فور العيون إنما يكون بالأنباط و الامتراء الذي هو بالعمل الإنساني كالحال في ضروع الأنعام فما لم يكن إنباط و لا امتراء نصبت و غارت بالجملة كما يجف الضرع إذا ترك امتراؤه. و انظره في البلاد التي تعهد فيها العيون لأيام عمرانها ثم يأتي عليها الخراب كيف تغور مياهها جملة كأنها لم تكن و الله مقدر الليل و النهار.

الفصل الثاني في وجوه المعاش و أصنافه و مذاهبه
إعلم أن المعاش هو عبارة عن ابتغاء الرزق و السعي في تحصيله و هو مغفل من العيش. كأنه لما كان العيش الذي هو الحياة لا يحصل إلا بهذه جعلت موضعاً له على طريق المبالغة ثم إن تحصيل الرزق و كسبه، إما أن يكون بأخذه من يد الغير و انتزاعه بالاقتدار عليه على قانون متعارف و يسمى مغرماً و جباية و إما أن يكون من الحيوان الوحشي بافتراسه و أخذه برميه من البر أو البحر و يسمى اصطياداً و إما أن يكون من الحيوان الداجن باستخراج فضوله المنصرفة بين الناس في منافعهم كاللبن من الأنعام و الحرير من دوده و العسل من نحله أو يكون من النبات في الزرع و الشجر بالقيام عليه و إعداده لاستخراج ثمرته و يسمى هذا كله فلحاً و إما أن يكون الكسب من الأعمال الإنسانية إما في مواد معينة و تسمى الصنائع من كتابة و تجارة و خياطة و حياكة و فروسية و أمثال ذلك أو في مواد غير معينة و هي جميع الامتهانات و التصرفات و إما أن يكون الكسب من البضائع و إعدادها للأعواض إما بالتغلب بها في البلاد و احتكارها و ارتقاب حوالة الأسواق فيها. و يسمى هذا تجارة. فهذه وجوه المعاش و أصنافه و هي معنى ما ذكره المحققون من أهل الأدب و الحكمة كالحريري و غيره فإنهم قالوا: المعاش إمارة و تجارة و فلاحة و صناعة. فأما الإمارة فليست بمذهب طبيعي للمعاش فلا حاجة بنا إلى ذكرها و قد تقدم شيء من أحوال الجبايات السلطانية و أهلها في الفصل الثاني. و أما الفلاحة و الصناعة و التجارة فهي وجوه طبيعية للمعاش أما الفلاحة فهي متقدمة عليها كلها بالذات إذ هي بسيطة و طبيعية فطرية لا تحتاج إلى نظر و لا علم و لهذا تنسب في الخليقة إلى آدم أبي البشر و أنه معلمها و القائم عليها إشارة إلى أنها أقدم وجوه المعاش و أنسبها إلى الطبيعة. و أما الصنائع فهي ثانيتها و متأخرة عنها لأنها مركبة و علمية تصرف فيها الأفكار و الأنظار و بهذا لا يوجد غالباً إلا في أهل الحضر الذي هو متأخر عن البدو و ثان عنه. و من هذا المعنى نسبت إلى إدريس الأب الثاني للخليقة فإنه مستنبطها لمن بعده من البشر بالوحي من الله تعالى. و أما التجارة و إن كانت طبيعية في الكسب فالأكثر من طرقها و مذاهبها إنما هي تحيلات في الحصول على ما بين القيمتين في الشراء و البيع لتحصل فائدة الكسب من تلك الفضلة. و لذلك أباح الشرع فيه المكاسبة لما أنه من باب المقامرة إلا أنه ليس أخذ المال الغير مجاناً فلهذا اختص بالمشروعية. و الله أعلم.

الفصل الثالث في أن الخدمة ليست من الطبيعي
إعلم أن السلطان لا بد له من اتخاذ الخدمة في سائر أبواب الإمارة و الملك الذي هو بسبيله من الجندي و الشرطي و الكاتب. و يستكفي في كل باب بمن المضيع و لو كان مأموناً فضرره بالتضييع أكثر من نفعه. فاعلم ذلك و اتخذه قانوناً في الاستكفاء بالخدمة. و أنه سبحانه و تعالى قادر على كل شيء.

الفصل الرابع في ابتغاء الأموال من الدفائن و الكنوز ليس بمعاش طبيعي
اعلم أن كثيراً من ضعفاء العقول في الأمصار يحرصون على استخراج الأموال من تحت الأرض و يبتغون اكسب من ذلك. و يعتقدون أن أموال الأمم السالفة مختزنة كلها تحت الأرض مختوم عليها كلها بطلاسم سحرية. لا يفض ختامها ذلك إلا من عثر على علمه و استحضر ما يحله من البخور و الدعاء و القربان. فأهل الأمصار بإفريقية يرون أن الفرنجة الذين كانوا قبل الإسلام بها دفنوا أموالهم كذلك و أودعوها في الصحف بالكتاب إلى أن يجدوا السبيل إلى استخراجها. و أهل الأمصار بالمشرق يرون مثل ذلك في أمم القبط و الروم و الفرس. و يتناقلون في ذلك أحاديث تشبه حديث خرافة من انتهاء بعض الطالبين لذلك إلى حفر موضع المال ممن لم يعرف طلسمه و لا خبرة فيجدونه خالياً أو معموراً بالديدان. أو يشاهد الأموال و الجواهر موضوعة و الحرس دونها منتضين سيوفهم. أو تميد به الأرض حتى يظنه خسفاً أو مثل ذلك من الهذر. و نجد كثيراً من طلبة البربر بالمغرب العاجزين عن المعاش الطبيعي و أسبابه يتقربون إلى أهل الدنيا بالأوراق المتخرمة الحواشي إما بخطوط عجمية أو بما ترجم بزعمهم منها من خطوط أهل الدفائن بإعطاء الأمارات عليها في أماكنها يبتغون بذلك الرزق منهم بما يبعثونه على الحفر و الطلب و يموهون عليهم بأنهم إنما حملهم على الاستعانة بهم طلب الجاه في مثل هذا من منال الحكام و العقوبات. و ربما تكون عند يعلم غناءه فيه و يتكفل بأرزاقهم من بيت ماله. و هذا كله مندرج في الإمارة و معاشها إذ كلهم ينسحب عليهم حكم الإمارة و الملك الأعظم هو ينبوع جداولهم. و أما ما دون ذلك من الخدمة فسببها أن أكثر المترفين يترفع عن مباشرة حاجاته أو يكون عاجزاً عنها لما ربي عليه من خلق التنعم و الترف فيتخذ من يتولى ذلك له و يقطعه عليه أجراً من ماله. و هذه الحالة غير محمودة بحسب الرجولية الطبيعية للإنسان إذ الثقة بكل أحد عجز، و لأنها تزيد في الوظائف و الخرج و تدل على العجز و الخنث الذي ينبغي في مذاهب الرجولية التنزه عنهما. إلا أن العوائد تقلب طباع الإنسان إلى مألوفها فهو ابن عوائده لا ابن نسبه. و مع ذلك فالخديم الذي يستكفى به و يوثق بغنائه كالمفقود إذ الخديم القائم بذلك لا يعدو أربع حالات: إما مضطلع بأمره و لا موثوق فيما يحصل بيده و إما بالعكس فيهما، و هو أن يكون غير مضطلع بأمر و لا موثوق فيما يحصل بيده و إما بالعكس في إحداهما فقط مثل أن يكون مضطلعاً غير موثوق أو موثوقاً غير مضطلع. فأما الأول و هو المضطلع الموثوق فلا يمكن أحداً استعماله بوجه إذ هو باضطلاعه و ثقته غني عن أهل الرتب الدنيئة و محتقر لمثال الأجر من الخدمة لاقتداره على أكثر من ذلك فلا يستعمله إلا الأمراء أهل الجاه الغريض لعموم الحاجة إلى الجاه. و أما الصنف الثاني و هو ممن ليس بمضطلع و لا موثوق فلا ينبغي لعاقل استعماله لأنه يحجف بمخدومه في الأمرين معاً فيضيع عليه لعدم الاصطناع تارة و يذهب ماله بالخيانة أخرى فهو على كل حال كل على مولاه. فهذان الصنفان لا يطمع أحد في استعمالهما. و لم يبق إلا استعمال الصنفين الآخرين: موثوق غير مضطلع و مضطلع غير موثوق و للناس في الترجيح بينهما مذهبان، و لكل من الترجيحين وجه. إلا أن المضطلع و لو كان غير موثوق أرجح لأنه يؤمن من تضييعه و يحاول على التحرز من خيانته جهد الاستطاعة و أما بعضهم نادرة أو غريبة من الأعمال *****ية يموه بها على تصديق ما بقي من دعواه و هو بمعزل عن ***** و طرقه فتولع كثير من ضعفاء العقول بجمع الأيدي على الاحتفار و التستر فيه بظلمات الليل مخافة الرقباء و عيون أهل الدول، فإذا لم يعثروا على شيء ردوا ذلك إلى الجهل بالطلسم الذي ختم به على ذلك المال يخادعون به أنفسهم عن إخفاق مطامعهم. و الذي يحمل على ذلك في الغالب زيادة على ضعف العقل إنما هو العجز عن طلب المعاش بالوجوه الطبيعية للكسب من التجارة و الفلح و الصناعة فيطلبونه بالوجوه المنحرفة و على غير المجرى الطبيعي من هذا و أمثاله عجزاً عن السعي في المكاسب و ركوناً إلى تناول الرزق من غير تعب و لا نصب في تحصيله و اكتسابه و لا يعلمون أنهم يوقعون أنفسهم بابتغاء ذلك من غير وجهه في نصب و متاعب و جهد شديد أشد من الأول و يعرضون أنفسهم مع ذلك لمنال العقوبات. و ربما يحمل على ذلك في الأكثر زيادة الترف و عوائده و خروجها عن حد النهاية حتى تقصر عنها وجوه الكسب و مذاهبه و لا تفي بمطالبها. فإذا عجز عن الكسب بالمجرى الطبيعي لم يجد وليجة في نفسه إلا التمني لوجود المال العظيم دفعة من غير كلفة ليفي له ذلك بالعوائد التي حصل في أسرها فيحرص على ابتغاء ذلك و يسعى فيه جهده و لهذا فأكثر من تراهم يحرصون على ذلك هم المترفون من أهل الدولة و من سكان الأمصار الكثيرة الترف المتسعة الأحوال مثل مصر و ما في معناها فنجد الكثير منهم مغرمين بابتغاء ذلك و تحصيله و مساءلة الركبان عن شواذه كما يحرصون على الكيمياء. هكذا بلغني عن أهل مصر في مفاوضة من يلقونه من طلبة المغاربة لعلهم يعثرون منه على دفين أو كنز و يزيدون على ذلك البحث عن تغوير المياه لما يرون أن غالب هذه الأموال الدفينة كلها في مجاري النيل و أنه أعظم ما يستر دفيناً أو مختزناً في تلك الآفاق و يموه عليهم أصحاب تلك الدفاتر المفتعلة في الاعتذار عن الوصول إليها بجرية النيل تستراً بذلك من الكذب حتى يحصل على معاشه فيحرص سامع ذلك منهم على نضوب الماء بالأعمال *****ية لتحصيل مبتغاه من هذه كلفاً بشأن ***** متوارثاً في ذلك القطر عن أوليه فعلومهم *****ية و آثارها باقية بأرضهم في البراري و غيرها. و قصة سحرة فرعون شاهدة باختصاصهم بذلك و قد تناقل أهل المغرب قصيدة ينسبونها إلى حكماء المشرق تعطى فيها كيفية العمل بالتغوير بصناعة سحرية حسبما تراه فيها و هي هذه:
يا طالباً للسر في التغوير إسمع كلام الصدق من خبير
دع عنك ما قد صنفوا فيكتبهم من قول بهتان و لفظ غرور
و اسمع لصدق مقالتي و نصيحتي إن كنت ممن لا يرى بالزور
فإذا أردت تغور البئر التي حارت لها الأوهام في التدبير
صور كصورتك التي أوقفتها و الرأس رأس الشبل في التقوير
و يداه ماسكتان للحبل الذي في الدلو ينشل من قرار البير
و بصدره هاء كما عاينتها عدد الطلاق احذر من التكرير
و يطا على الطاءات غير ملامس مشي اللبيب الكيس النحرير
و يكون حول الكل خط دائر تربيعه أولى من التكوير
و اذبح عليه الطير و الطخه به و اقصده عقب الذبح بالتبخير
بالسندروس و باللبان و ميعة و القسط و البسه بثوب حرير
من أحمر أو أصفر لا أزرقلا أخضر فيه و لا تكدير
و يشده خيطان صوف أبيضأو أحمر من خالص التحمير
و الطالع الأسد الذي قد بينوا و يكون بدء الشهر غير منير
و البدر متصل بسعد عطارد في يوم سبت ساعة التدبير
يعني أن تكون الطاءات بين قدميه كأنه يمشي عليها و عندي أن هذه القصيدة من تمويهات المتخرفين فلهم في ذلك أحوال غريبة و اصطلاحات عجيبة و تنتهي التخرفة و الكذب بهم إلى أن يسكنوا المنازل المشهورة و الدور المعروفة لمثل هذه و يحتفرون الحفر و يضعون المطابق فيها و الشواهد التي يكتبونها في صحائف كذبهم ثم يقصدون ضعفاء العقول بأمثال هذه الصحائف و يعثون على كبراء ذلك المنزل و سكناه و يوهمون أن به دفيناً من المال لا يعبر عن كثرته و يطالبون بالمال لاشتراء العقاقير و البخورات لحل الطلاسم و يعدونه بظهور الشواهد التي قد أعدوها هنالك بأنفسهم و من فعلهم فينبعث لما يراه من ذلك و هو قد خدع و لبس عليه من حي لا يشعر و بينهم في ذلك اصطلاح في كلامهم يلبسون به عليهم ليخفى عند محاورتهم فيما يتلونه من حفر و بخور، و ذبح حيوان و أمثال ذلك. و أما الكلام في ذلك على الحقيقة فلا أصل له في علم و لا خبر و اعلم أن الكنوز و إن كانت توجد لكنها في حكم النادر و على وجه الاتفاق لا على وجه القصد إليها. و ليس ذلك بأمر تعم به البلوى حتى يدخر الناس أموالهم تحت الأرض و يختمون عليها بالطلاسم لا في القديم و لا في الحديث. و الركاز الذي ورد في الحديث و فرضه الفقهاء و هو دفين الجاهلية إنما يوجد بالعثور و الاتفاق لا بالقصد و الطلب و أيضاً فمن اختزن ماله و ختم عليه بالأعمال *****ية فقد بالغ في إخفائه فكيف ينصب عليه الأدلة و الأمارات لمن يبتغيه. و يكتب ذلك في الصحائف حتى يطلع على ذخيرته أهل الأمصار و الآفاق ؟ هذا يناقض قصد الإخفاء. و أيضاً فأفعال العقلاء لا بد و أن تكون لغرض مقصود في الانتفاع. و من اختزن المال فإنه يختزنه لولده أو قريبه أو من يؤثره. و أما أن يقصد إخفاءه بالكلية عن كل أحد و إنما هو للبلاء و الهلاك أو لمن لا يعرفه بالكلية ممن سيأتي من الأمم فهذا ليس من مقاصد العقلاء بوجه. و أما قولهم: أين أموال الأمم من قبلنا و ما علم فيها. من الكثرة و الوفور فاعلم أن الأموال من الذهب و الفضة و الجواهر و الأمتعة إنما هي معادن و مكاسب مثل الحديد و النحاس و الرصاص و سائر العقارات و المعادن. و العمران يظهرها بالأعمال الإنسانية و يزيد فيها أو ينقصها و ما يوجد منها بأيدي الناس فهو متناقل متوارث و ربما انتقل من قطر إلى قطر و من دولة إلى أخرى بحسب أغراضه. و العمران الذي يستدعي له فإن نقص المال في المغرب و أفريقية فلم ينقص ببلاد الصقالبة و الإفرنج و إن نقص في مصر و الشام فلم ينقص في الهند و الصين. و إنما هي الآلات و المكاسب و العمران يوفرها أو ينقصها، مع أن المعادن يدركها البلاء كما يدرك سائر الموجودات و يسرع إلى اللؤلؤ و الجوهر أعظم مما يسرع إلى غيره. و كذا الذهب و الفضة و النحاس و الحديد و الرصاص و القصدير ينالها من البلاء و الفناء ما يذهب بأعيانها لأقرب وقت. و أما ما وقع في مصر من أمر المطالب و الكنوز فسببه أن مصر في ملكة القبط منذ آلاف أو يزيد من السنين و كان موتاهم يدفنون بموجودهم من الذهب و الفضة و الجواهر و اللآلئ على مذهب من تقدم من أهل الدول فلما انقضت دولة القبط و ملك الفرس بلادهم نقروا على ذلك في قبورهم فكشفوا عنه فأخذوا من قبورهم ما لا يوصف: كالأهرام من قبور الملوك و غيرها. و كذا فعل اليونانيون من بعدهم و صارت قبورهم مظنة لذلك لهذا العهد. و يعثر على الدفين فيها كثيراً من الأوقات. أما ما يدفنونه من أموالهم أو ما يكرمون به موتاهم في الدفن من أوعية و توابيت من الذهب و الفضة معدة لذلك فصارت قبور القبط منذ آلاف من السنين مظنة لوجود ذلك فيها. فلذلك عني أهل مصر بالبحث عن المطالب لوجود ذلك فيها و استخراجها. حتى أنهم حين ضربت المكوس على الأصناف آخر الدولة ضربت على أهل المطالب. و صدرت ضريبة على من يشتغل بذلك من الحمقى و المهوسين فوجد بذلك المتعاطون من أهل الأطماع الذريعة إلى الكشف عنه و الذرع باستخراجه و ما حصلوا إلا على الخيبة في جميع مساعيهم نعوذ بالله من الخسران فيحتاج من وقع له شيء من هذا الوسواس و ابتلي به أن يتعوذ بالله من العجز و الكسل في طلب معاشه كما تعوذ رسول الله صلى الله عليه و سلم من ذلك و ينصرف عن طرق الشيطان و وسواسه و لا يشغل بالمحالات و المكاذب من الحكايات و الله يرزق من يشاء بغير حساب.

الفصل الخامس في أن الجاه مفيد للمال
و ذلك أنا نجد صاحب المال و الحظوة في جميع أصناف المعاش أكثر يساراً و ثروة من فاقد الجاه. و السبب في ذلك أن صاحب الجاه مخدوم بالأعمال يتقرب بها إليه في سبيل التزلف و الحاجة إلى جاهه فالناس معينون له بأعمالهم في جميع حاجاته من ضروري أو حاجي أو كمالي فتحصل قيم تلك الأعمال كلها من كسبه و جميع معاشاته إن تبذل فيه الأعواض من العمل يستعمل فيها الناس من غير عوض فتتوفر قيم تلك الأعمال عليه. فهو بين قيم للأعمال يكتسبها و قيم أخرى تدعوه الضرورة إلى إخراجها فتتوفر عليه. و الأعمال لصاحب الجاه كثيرة فتفيد الغنى لأقرب وقت و يزداد مع الأيام يساراً و ثروة. و لهذا المعنى كانت الإمارة أحد أسباب المعاش كما قدمناه و فاقد الجاه بالكلية و لو كان صاحب مال فلا يكون يساره إلا بمقدار ماله و على نسبة سعيه و هؤلاء هم أكثر التجار. و لهذا تجد أهل الجاه منهم يكونون أيسر بكثير. و مما يشهد لذلك ألا نجد كثيراً من الفقهاء و أهل الدين و العبادة إذا اشتهروا حسن الظن بهم و اعتقد الجمهور معاملة الله في إرفادهم فأخلص الناس في إعالتهم على أحوال دنياهم و الاعتمال في مصالحهم و أسرعت إليهم الثروة و أصبحوا مياسير من غير مال مقتنى إلا ما يحصل لهم من قيم الأعمال التي وقعت المعونة بها من الناس لهم. رأينا من ذلك أعداداً في الأمصار و المدن. و في البدو يسعى لهم الناس في الفلح و التجر و كل هو قاعد بمنزله لا يبرح من مكانه فينمو ماله و يعظم كسبه و يتأثل الغني من غير سعي و يعجب من لا يفطن لهذا السر في حال ثروته و أسباب غناه و يساره و الله سبحانه و تعالى يرزق من يشاء بغير حساب.

الفصل السادس في أن السعادة و الكسب إنما يحصل غالباً لأهل الخضوع و التملق و أن هذا الخلق من أسباب السعادة
قد سلف لنا فيما سبق أن الكسب الذي يستفيده البشر إنما هو قيم أعمالهم و لو قدر أحد عطل عن العمل جملة لكان فاقد الكسب بالكلية. و على قدر عمله و شرفه بين الأعمال و حاجة الناس إليه يكون قدر قيمته. و على نسبه ذلك نمو كسبه أو نقصانه. و قد بينا آنفاً أن الجاه يفيد المال لما يحصل لصاحبه من تقرب الناس إليه بأعمالهم و أموالهم في دفع المضار و *** المنافع. و كان ما يتقربون به من عمل أو مال عوضاً عما يحصلون عليه بسبب الجاه من الأغراض في صالح أو طالح. و تصير تلك الأعمال في كسبه و قيمها أموال و ثروة له فيستفيد الغنى و اليسار لأقرب وقت. ثم إن الجاه متوزع في الناس و مترتب فيهم طبقة بعد طبقة و ينتهي في العلو إلى الملوك الذين ليس فوقهم يد عالية و في السفل إلى من لا يملك ضراً و لا نفعاً بين أبناء جنسه و بين ذلك طبقات متعددة حكمة الله في خلقه بما ينتظم معاشهم و تتيسر مصالحهم و يتم بقاؤهم لأن النوع الإنساني لا يتم وجوده و بقاؤه إلا بالتعاون بين أبنائه على مصالحهم، لأنه قد تقرر أن الواحد منهم لا يتم وجوده و إنه و إن ندر ذلك في صورة مفروضة لا يصح بقاؤه. ثم إن هذا التعاون لا يحصل إلا بالإكراه عليه لجهلهم في الأكثر بمصالح النوع و لما جعل لهم من الاختيار و أن أفعالهم إنما تصدر بالفكر و الروية لا بالطبع. و قد يمتنع من المعاونة فيتعين حمله عليها فلا بد من حامل يكره أبناء النوع على مصالحهم لتتم الحكمة الإلهية في بقاء هذا النوع. و هذا معنى قوله تعالى و رفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً و رحمة ربك خير مما يجمعون فقد تبين أن الجاه هو القدرة الحاملة للبشر على التصرف في من تحت أيديهم من أبناء جنسهم بالإذن و المنع و التسلط بالقهر و الغلبة ليحملهم على دفع مضارهم و *** منافعهم في العدل بأحكام الشرائع و السياسة و على أغراضه فيما سوى ذلك و لكن الأول مقصود في العناية الربانية بالذات و الثاني داخل فيها بالعرض كسائر الشرور الداخلة في القضاء الإلهي، لأنه قد لا يتم وجود الخير الكثير إلا بوجود شر يسير من أجل المواد فلا يفوت الخير بذلك بل يقع على ما ينطوي عليه من الشر اليسير. و هذا معنى وقوع الظلم في الخليقة فتفهم. ثم إن كل طبقة من طباق أهل العمران من مدينة أو إقليم لها قدرة على من دونها من الطباق و كل واحدة من الطبقة السفلى يستمد بذي الجاه من أهل الطبقة التي فوقه و يزداد كسبه تصرفاً فيمن تحت يده على قدر ما يستفيد منه و الجاه على ذلك داخل على الناس في جميع أبواب المعاش و يتسع و يضيق بحسب الطبقة و الطور الذي فيه صاحبه. فإن كان الجاه متسعاً كان الكسب الناشئ عنه كذلك و إن كان ضيقاً قليلاً فمثله. و فاقد الجاه و إن كان له مال فلا يكون يساره إلا بمقدار عمله أو ماله و نسبة سعيه ذاهباً و آيباً في تنميته كأكثر التجار و أهل الفلاحة في الغالب و أهل الصنائع كذلك إذا فقدوا الجاه و اقتصروا على فوائد صنائعهم فإنهم يصيرون إلى الفقر و الخصاصة في الأكثر و لا تسرع إليهم ثروة و إنما يرمقون العيش ترميقاً و يدافعون ضرورة الفقر مدافعة. و إذا تقرر ذلك و أن الجاه متفرع و أن السعادة و الخير مقترنان بحصوله علمت إن بذله و إفادته من أعظم النعم و أجلها و أن باذلة من أجل المنعمين و إنما يبدله لمن تحت يديه فيكون بذله بيد عالية و عزة فيحتاج طالبه و مبتغيه إلى خضوع و تملق كما يسال أهل العز و الملوك و إلا فيتعذر حصوله. فلذلك قلنا إن الخضوع و التملق من أسباب حصول هذا الجاه المحصل للسعادة و الكسب و إن أكثر أهل الثروة و السعادة بهذا التملق و لهذا نجد الكثير ممن يتخلق بالترفع و الشمم لا يحصل لهم غرض الجاه فيقتصرون في التكسب على أعمالهم و يصيرون إلى الفقر و الخصاصة. و اعلم أن هذا الكبر و الترفع من الأخلاق المذمومة إنما يحصل من توهم الكمال و أن الناس يحتاجون إلى بضاعته من علم أو صناعة كالعالم المتبحر في علمه و الكاتب المجيد في كتابته أو الشاعر البليغ في شعره و كل محسن في صناعته يتوهم أن الناس محتاجون لما بيده فيحدث له ترفع عليهم بذلك و كذا يتوهم أهل الأنساب ممن كان في آبائه ملك أو عالم مشهور أو كامل في طور يعبرون به بما رأوه أو سمعوه من رجال آبائهم في المدينة و يتوهمون أنهم استحقوا مثل ذلك بقرابتهم إليهم و وراثتهم عنهم. فهم متمسكون في الحاضر بالأمر المعدوم و كذلك أهل الحيلة و البصر و التجارب بالأمور قد يتوهم بعضهم كمالاً في نفسه بذلك و احتياجاً إليه. و تجد هؤلاء الأصناف كلهم مترفعين لا يخضعون لصاحب الجاه و لا يتملقون لمن هو أعلى منهم و يستصغرون من سواهم لاعتقادهم الفضل على الناس فيستنكف أحدهم عن الخضوع و لو كان للملك و يعده مذلة و هواناً و سفهاً. و يحاسب الناس في معاملتهم إياه بمقدار ما يتوهم في نفسه و يحقد على من قصر له في شيء مما يتوهمه من ذلك. و ربما يدخل على نفسه الهموم و الأحزان من تقصيرهم فيه و يستمر في عناء عظيم من إيجاب الحق لنفسه أو إباية الناس له من ذلك. و يحصل له المقت من الناس لما في طباع البشر من التأله. و قل أن يسلم أحد منهم لأحد في الكمال و الترفع عليه إلا أن يكون ذلك بنوع من القهر و الغلبة و الاستطالة. و هذا كله في ضمن الجاه. فإذا فقد صاحب هذا الخلق الجاه و هو مفقود له كما تبين لك مقته الناس بهذا الترفع و لم يحصل له حظ من إحسانهم و فقد الجاه لذلك من أهل الطبقة التي هي أعلى منه لأجل المقت و ما يحصل له بذلك من القعود عن تعاهدهم و غشيان منازلهم ففسد معاشه و بقي في خصاصة و فقر أو فوق ذلك بقليل. و أما الثروة فلا تحصل له أصلاً. و من هذا اشتهر بين الناس أن الكامل في المعرفة محروم من الحظ و أنه قد حوسب بما رزق من المعرفة و اقتطع ذلك من الحظ و هذا معناه. و من خلق لشيء يسر له. و الله المقدر لا رب سواه. و لقد يقع في الدول أضراب في المراتب من أهل الخلق و يرتفع فيها كثير من السفلة و ينزل كثير من العلية بسبب ذلك و ذلك أن الدول إذا بلغت نهايتها من التغلب و الاستيلاء انفرد منها منبت الملك بملكهم و سلطانهم و يئس من سواهم من ذلك و إنما صاروا في مراتب دون مرتبة الملك، و تحت يد السلطان و كأنهم خول له. فإذا استمرت الدولة و شمخ الملك تساوى حينئذ في المنزلة عند السلطان كل من انتمى إلى خدمته و تقرب إليه بنصيحة و اصطنعه السلطان لغنائه في كثير من مهماته. فتجد كثيراً من السوقة يسعى في التقرب من السلطان بجده و نصحه و يتزلف إليه بوجوه خدمته و يستعين على ذلك بعظيم من الخضوع و التملق له و لحاشيته و أهل نسبه. حتى يرسخ قدمه معهم و ينظمه السلطان في جملته فيحصل له بذلك حظ عظيم من السعادة و ينتظم في عدد أهل الدولة و ناشئة الدولة حينئذ من أبناء قومها الذين ذللوا أضغانهم و مهدوا أكنافهم مغترين بما كان لآبائهم في ذلك من الآثار لم تسمح به نفوسهم على السلطان و يعتدون بآثاره و يجرون في مضمار الدولة بسببه فيمقتهم السلطان لذلك و يباعدهم. و يميل إلى هؤلاء المصطنعين الذين لا يعتدون بقديم و لا يذهبون إلى دالة و لا ترفع. إنما دأبهم الخضوع له و التملق و الاعتمال في غرضه متى ذهب إليه فيتسع جاههم و تعلو منازلهم و تنصرف إليهم الوجوه و الخواطر بما يحصل لهم من قبل السلطان و المكانة عنده و يبقى ناشئة الدولة فيما هم فيه من الترفع و الاعتداد بالقديم لا يزيدهم ذلك إلا بعداً من السلطان و مقتاً و إيثاراً لهؤلاء المصطنعين عليهم إلى أن تنقرض الدولة. و هذا أمر طبيعي في الدولة و منه جاء شأن المصطنعين في الغالب و الله سبحانه و تعالى أعلم و به التوفيق لا رب سواه.

الفصل السابع في أن القائمين بأمور الدين من القضاء و الفتيا و التدريس و الإمامة و الخطابة و الأذان و نحو ذلك لا تعظم ثروتهم في الغالب
و السبب لذلك أن الكسب كما قدمناه قيمة الأعمال و أنها متفاوتة بحسب الحاجة إليها. فإذا كانت الأعمال ضرورية في العمران عامة البلوى به كانت قيمتها أعظم و كانت الحاجة إليها أشد. و أهل هذه الصنائع الدينية لا تضطر إليهم عامة الخلق و إنما يحتاج إلى ما عندهم الخواص ممن أقبل على دينه. و إن احتيج إلى الفتيا و القضاء في الخصومات فليس على وجه الاضطرار و العموم فيقع الاستغناء عن هؤلاء في الأكثر. و إنما يهتم بإقامة مراسمهم صاحب الدولة بما ناله من النظر في المصالح فيقسم لهم حظاً من الرزق على نسبة الحاجة إليهم على النحو الذي قررناه. لا يساويهم بأهل الشوكة و لا بأهل الصنائع من حيث الدين و المراسم الشرعية لكنه يقسم بحسب عموم الحاجة و ضرورة أهل العمران فلا يصح قسمهم إلا القليل. و هم أيضاً لشرف بضائعهم أعزة على الخلق و عند نفوسهم فلا يخضعون لأهل الجاه حتى ينالوا منه حظاً يستدرون به الرزق بل و لا تفرغ أوقاتهم لذلك لما هم فيه من الشغل بهذه البضائع الشريفة المشتملة على إعمال الفكر و البدن. بل و لا يسعهم ابتذال أنفسهم لأهل الدنيا لشرف بضائعهم فهم بمعزل عن ذلك، فلذلك لا تعظم ثروتهم في الغالب. و لقد باحثت بعض الفضلاء فأنكر ذلك علي فوقع بيدي أوراق مخرقة من حسابات الدواوين بدار المأمون تشتمل على كثير من الدخل و الخرج و كان فيما طالعت فيه أرزاق القضاة و الأئمة و المؤذنين فوقفته عليه و علم منه صحة ما قلته و رجع إليه و قضينا العجب من أسرار الله في خلقه حكمته في عوالمه و الله الخالق القادر لا رب سواه.

الفصل الثامن في أن الفلاحة من معاش المتضعين و أهل العافية من البدو
و ذلك لأنه أصيل في الطبيعة و بسيط في منحاه و لذلك لا تجده ينتحله أحد من أهل الحضر في الغالب و لا من المترفين. و يختص منتحله بالمذلة قال صلى الله عليه و سلم و قد رأى السكة ببعض دور الأنصار: ما دخلت هذه دار قوم إلا دخله الذل، و حمله البخاري على الاستكثار منه. و ترجم عليه باب ما يحذر من عواقب الاشتغال بآلة الزرع أو تجاوز الحد الذي أمر به. و السبب فيه و الله أعلم ما يتبعها من المغرم المفضي إلى التحكم و اليد العالية فيكون الغارم ذليلاً بائساً بما تتناوله أيدي القهر و الاستطالة. قال صلى الله عليه و سلم: لا تقوم الساعة حتى تعود الزكاة مغرماً، إشارة إلى الملك العضوض القاهر للناس الذي معه التسلط و الجور و نسيان حقوق الله تعالى في المتمولات و اعتبار الحقوق كلها مغرم للملوك و الدول. و الله قادر على ما يشاء. و الله سبحانه و تعالى أعلم و به التوفيق.

الفصل التاسع في معنى التجارة و مذاهبها و أصنافها
اعلم أن التجارة محاولة الكسب بتنمية المال بشراء السلع بالرخص و بيعها بالغلاء أيام كانت السلعة من دقيق أو زرع أو حيوان أو قماش. و ذلك القدر النامي يسمى ربحاً. فالمحاول لذلك الربح إما أن يختزن السلعة و يتحين بها حوالة الأسواق من الرخص إلى الغلاء فيعظم ربحه و إما بأن ينقله إلى بلد آخر تنفق فيه تلك السلعة أكثر من بلده الذي اشتراها فيه فيعظم ربحه. و لذلك قال بعض الشيوخ من التجار لطلب الكشف عن حقيقة التجارة أنا أعلمها لك في كلمتين: اشتراء الرخيص و بيع الغالي. فقد حصلت التجارة إشارة منه بذلك إلى المعنى الذي قررناه. و الله سبحانه و تعالى أعلم و به التوفيق لا رب سواه.

الفصل العاشر في أي أصناف الناس يحترف بالتجارة و أيهم ينبغي له اجتناب حرفها
قد قدمنا أن معنى التجارة تنمية المال بشراء البضائع و محاولة بيعها بأغلى من ثمن الشراء إما بانتظار حوالة الأسواق أو نقلها إلى بلد هي فيه أنفق و أغلى أو بيعها بالغلاء على الآجال. و هذا الربح بالنسبة إلى أصل المال يسير إلا أن المال إذا كان كثيراً عظم الربح لأن القليل في الكثير كثير. ثم لا بد في محاولة هذه التنمية الذي هو الربح من حصول هذا المال بأيدي الباعة في شراء البضائع و بيعها. و معاملتهم في تقاضي أثمانها. و أهل النصفة قليل، فلا بد من الغش و التطفيف المجحف بالبضائع و من المطل في الأثمان المجحف بالربح. كتعطيل المحاولة في تلك المدة و بها نماؤه. و من الجحود و الإنكار المسحت لرأس المال إن لم يتقيد بالكتاب و الشهادة، و غنى الحكام في ذلك قليل لأن الحكم إنما هو على الظاهر. فيعاني التاجر من ذلك أحوالاً صعبة. و لا يكاد يحصل على ذلك التافه من الربح إلا بعظم العناء و المشقة، أو لا يحصل أو يتلاشى رأس ماله. فإن كان جريئاً على الخصومة بصيراً بالحسبان شديد المماحكة مقداماً على الحكام كان ذلك أقرب له إلى النصفة بجراءته منهم و مماحكته و إلا فلا بد له من جاه يدرع به، يوقع له الهيبة عند الباعة و يحمل الحكام على إنصافه من معامليه فيحصل له بذلك النصفة في ماله طوعاً في الأول و كرهاً في الثاني و أما من كان فاقداً للجراءة و الإقدام من نفسه فاقد الجاه من الحكام فينبغي له أن يجنب الاحتراف بالتجارة لأنه يعرض ماله للضياع و الذهاب و يصير مأكلة للباعة و لا يكاد ينتصف منهم لأن الغالب في الناس و خصوصاً الرعاع و الباعة شرهون إلى ما في أيدي الناس سواهم متوثبون عليه. و لولا وازع الأحكام لأصبحت أموال الناس نهباً و لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض و لكن الله ذو فضل على العالمين.

الفصل الحادي عشر في أن خلق التجار نازلة عن خلق الأشراف و الملوك
و ذلك أن التجار في غالب أحوالهم إنما يعانون البيع و الشراء و لا بد فيه من المكايسة ضرورة فإن اقتصر عليها اقتصرت به على خلقها و هي أعني خلق المكايسة بعيدة عن المرؤة التي تتخلق بها الملوك و الأشراف. و أما إن استرذل خلقه بما يتبع ذلك في أهل الطبقة السفلى منهم من المماحكة و الغش و الخلابة و تعاهد الأيمان الكاذبة على الأثمان رداً و قبولاً فأجدر بذلك الخلق أن يكون في غاية المذلة لما هو معروف. و لذلك تجد أهل الرئاسة يتحامون الاحتراف بهذه الحرفة لأجل ما يكسب من هذا الخلق. و قد يوجد منهم من يسلم من هذا الخلق و يتحاماه لشرف نفسه و كرم جلاله إلا أنه في النادر بين الوجود و الله يهدي من يشاء بفضله و كرمه و هو رب الأولين و الآخرين.

الفصل الثاني عشر في نقل التاجر للسلع
التاجر البصير بالتجارة لا ينقل من السلع إلا ما تعم الحاجة إليه من الغنى و الفقير و السلطان و السوقة إذ في ذلك نفاق سلعته. و أما إذا اختص نقله بما يحتاج إليه البعض فقط فقد يتعذر نفاق سلعته حينئذ بإعواز الشراء من ذلك البعض لعارض من العوارض فتكسد سوقه و تفسد أرباحه. و كذلك إذا نقل السلعة المحتاج إليها فإنما ينقل الوسط من صنفها فإن العالي من كل صنف من السلع إنما يختص به أهل الثروة و حاشية الدولة و هم الأقل. و إنما يكون الناس أسوة في الحاجة إلى الوسط من كل صنف فليتحر ذلك جهده ففيه نفاق سلعة أو كسادها و كذلك نقل السلع من البلد البعيد المسافة أو في شدة الخطر في الطرقات يكون أكثر فائدة للتجار و أعظم أرباحاً و أكفل بحوالة الأسواق لأن السلعة المنقولة حينئذ تكون قليلة معوزة لبعد مكانها أو شدة الغرر في طريقها فيقل حاملوها و يعز وجودها و إذا قلت و عزت غلت أثمانها. و أما إذا كان البلد قريب المسافة و الطريق سابل بالأمن فإنه حينئذ يكثر ناقلوها فتكثر و ترخص أثمانها و بهذا تجد التجار الذين يولعون بالدخول إلى بلاد السودان أرفه الناس و أكثرهم أموالاً لبعد طريقها و مشقته و اعتراض المفازة الصعبة المخطرة بالخوف و العطش. لا يوجد فيها الماء إلا في أماكن معلومة يهتدي إليها أدلاء الركبان فلا يرتكب خطر هذا الطريق و بعده إلا الأقل من الناس فتجد سلع بلاد السودان قليلة لدينا فتختص بالغلاء و كذلك سلعنا لديهم. فتعظم بضائع التجار من تناقلها و يسرع إليهم الغنى و الثروة من أجل ذلك. و كذلك المسافرون من بلادنا إلى المشرق لبعد الشقة أيضاً. و أما المترددون في أفق واحد ما بين أمصاره و بلدانه ففائدتهم قليلة و أرباحهم تافهة لكثرة السلع و كثرة ناقليها إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين.

الفصل الثالث عشر في الاحتكار
و مما اشتهر عند قوي البصر و التجربة في الأمصار أن احتكار الزرع لتحين أوقات الغلاء مشؤم. و أنه يعود على فائدته بالتلف و الخسران. و سببه و الله أعلم أن الناس لحاجتهم إلى الأقوات مضطرون إلى ما يبذلون فيها من المال اضطراراً فتبقى النفوس متعلقة به و في تعلق النفوس بما لها سر كبير في وباله على من يأخذه مجاناً و فعله الذي اعتبره الشارع في أخذ أموال الناس بالباطل و هذا و إن لم يكن مجاناً فالنفوس متعلقة به لإعطائه ضرورة من غير سمين في العذر فهو كالمكره و ما عدا الأقوات و المأكولات من المبيعات لا اضطرار للناس إليها و إنما يبعثهم عليها التفنن في الشهوات فلا يبذلون أموالهم فيها إلا ياختيار و حرص. و لا يبقى لهم تعلق بما أعطوه فلهذا يكون من عرف بالاحتكار تجتمع القوى النفسانية على متابعته لما يأخذه من أموالهم فيفسد ربحه. و الله تعالى أعلم. و سمعت فيما يناسب هذا حكاية ظريفة عن بعض مشيخة المغرب. أخبرني شيخنا أبو عبد الله الأبلي قال: حضرت عند القاضي بفاس لعهد السلطان أبي سعيد و هو الفقيه أبو الحسن المليلي و قد عرض عليه أن يختار بعض الألقاب المخزنية لجرايته قال فأطرق ملياً ثم قال: من مكس الخمر. فاستضحك الحاضرون من أصحابه و عجبوا و سألوه عن حكمة ذلك. فقال: إذا كانت الجبايات كلها حراماً فأختار منها مالاً تتابعه نفس معطيه و الخمر قل أن يبذل فيها أحد ماله إلا و هو طرب مسرور بوجوداته غير أسف عليه و لا متعلقة به نفسه و هذه ملاحظة غريبة و الله سبحانه و تعالى يعلم ما تكن الصدور.

الفصل الرابع عشر في أن رخص الأسعار مضر بالمحترفين بالرخص
و ذلك أن الكسب و المعاش كما قدمناه إنما هو بالصنائع أو التجارة. و التجارة هي شراء البضائع و السلع و ادخارها. يتحين بها حوالة الأسواق بالزيادة في أثمانها و يسمى ربحاً. و يحصل منه الكسب و المعاش للمحترفين بالتجارة دائماً فإذا استديم الرخص في سلعة أو عرض من مأكول أو ملبوس أو متمول على الجملة و لم يحصل للتاجر حوالة الأسواق فسد الربح و النماء بطول تلك المدة و كسدت سوق ذلك الصنف و لم يحصل التاجر إلا على العناء فقعد التجار عن السعي فيها و فسدت رؤوس أموالهم. و اعتبر ذلك أولاً بالزرع فإنه إذا استديم رخصه يفسد به حال المحترفين بسائر أطواره من الفلح و الزراعة لقلة الربح فيه و ندارته أو فقده. فيفقدون النماء في أموالهم أو يجدونه على قلة و يعودون بالإنفاق على رؤوس أموالهم و تفسد أحوالهم و بصيرون إلى الفقر و الخصاصة. و يتبع ذلك فساد حال المحترفين أيضاً بالطحن و الخبز و سائر ما يتعلق بالزراعة من الحرث إلى صيرورته مأكولاً. و كذا يفسد حال الجند إذا كانت أرزاقهم من السلطان على أهل الفلح زرعاً فإنها تقل جبايتهم من ذلك و يعجزون عن إقامة الجندية التي هي بسببها و مطالبون بها و منقطعون لها فتفسد أحوالهم و كذا إذا استديم الرخص في السكر أو العسل فسد جميع ما يتعلق به و قعد المحترفون عن التجارة فيه و كذا حال الملبوسات إذا استديم فيها الرخص أيضاً فإذا الرخص المفرط يجحف بمعاش المحترفين بذلك الصنف الرخيص و كذا الغلاء المفرط أيضاً. و إنما معاش الناس و كسبهم في التوسط من ذلك و سرعة حوالة الأسواق و علم ذلك يرجع إلى العوائد المتقررة بين أهل العمران. و إنما يحمد الرخص في الزرع من بين المبيعات لعموم الحاجة إليه و اضطرار الناس إلى الأقوات من بين الغني و الفقير. و العالة من الخلق هم الأكثر في العمران فيعم الرفق بذلك و يرجح جانب القوت على جانب التجارة في هذا الصنف الخاص إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين و الله سبحانه و تعالى رب العرش العظيم.

الفصل الخامس عشر في أن خلق التجارة نازلة عن خلق الرؤساء و بعيدة من المروءة
قد قدمنا في الفصل قبله أن التاجر مدفوع إلى معاناة البيع و الشراء و *** الفوائد و الأرباح و لا بد في ذلك من المكايسة و المماحكة و التحذلق و ممارسة الخصومات و اللجاج و هي عوارض هذه الحرفة. و هذه الأوصاف نقص من الذكاء و المروءة و تجرح فيها لأن الأفعال لا بد من عود آثارها على النفس. فأفعال الخير تعود بآثار الخير و الذكاء و أفعال الشر و السفسفة تعود بضد ذلك فتتمكن و ترسخ إن سبقت و تكررت و تنقص خلال الخير إن تأخرت عنها بما ينطبع من آثارها المذمومة في النفس شأن الملكات الناشئة عن الأفعال. و تتفاوت هذه الآثار بتفاوت أصناف التجار في أطوارهم فمن كان منهم سافل الطور محالفاً لأشرار الباعة أهل الغش و الخلابة و الخديعة و الفجور في الأثمان إقراراً و إنكاراً. كانت رداءة تلك الخلق عنه أشد و غلبت عليه السفسفة و بعد عن المروءة و اكتسابها بالجملة. و إلا فلا بد له من تأثير المكايسة و المماحكة في مروءته، و فقدان ذلك منهم في الجملة. و وجود الصنف الثاني منهم الذي قدمناه في الفصل قبلة أنهم يدرعون بالجاه و يعوض لهم من مباشرة ذلك، فهم نادر و أقل من النادر. و ذلك أن يكون المال قد يوجد عنده دفعة بنوع غريب أو ورثه عن أحد من أهل بيته فحصلت له ثروة تعينه على الاتصال بأهل الدولة و تكسبه ظهوراً و شهرة بين أهل عصره فيرتفع عن مباشرة ذلك بنفسه و يدفعه إلى من يقوم له به من وكلائه و حشمه. و يسهل له الحكام النصفة في حقوقهم بما يؤنسونه من بره و إتحافه فيبعدونه عن تلك الخلق بالبعد عن معاناة الأفعال المقتضية لها كما مر. فتكون مروءتهم أرسخ و أبعد عن تلك المحاجاة إلا ما يسري من آثار تلك الأفعال من وراء الحجاب فإنهم يضطرون إلى مشارفة أحوال أولئك الوكلاء و رفاقهم أو خلافهم فيما يأتون أو يدرون من ذلك إلا أنه قليل و لا يكاد يظهر أثره و الله خلقكم و ما تعملون.

الفصل السادس عشر في أن الصنائع لا بد لها من العلم
إعلم أن الصناعة هي ملكة في أمر عملي فكري و بكونه عملياً هو جسماني محسوس. و الأحوال الجسمانية المحسوسة فنقلها بالمباشرة أوعب لها و أكمل، لأن المباشرة في الأحوال الجسمانية المحسوسة أتم فائدة و الملكة صفة راسخة تحصل عن استعمال ذلك الفعل و تكرره مرة بعد أخرى حتى ترسخ صورته. و على نسبة الأصل تكون الملكة. و نقل المعاينة أوعب و أتم من نقل الخبر و العلم. فالملكة الحاصلة عن الخبر. و على قدر جودة التعليم و ملكة المعلم يكون حذق المتعلم في الصناعة و حصول ملكته. ثم أن الصنائع منها البسيط و منها المركب. و البسيط هو الذي يختص بالضروريات و المركب هو الذي يكون للكماليات. و المتقدم منها في التعليم هو البسيط لبساطته أولاً، و لأنه مختص بالضروري الذي تتوفر الدواعي على نقله فيكون سابقاً في التعليم و يكون تعليمه لذلك ناقصاً. و لا يزال الفكر يخرج أصنافها و مركباتها من القوة إلى الفعل بالاستنباط شيئاً فشيئاً على التدريج حتى تكمل. و لا يحصل ذلك دفعة و إنما يحصل في أزمان و أجيال إذ خروج الأشياء من القوة إلى الفعل لا يكون دفعة لا سيما في الأمور الصناعية فلا بد له إذن من زمان. و لهذا تجد الصنائع في الأمصار الصغيرة ناقصة و لا يوجد منها إلا البسيط فإذا تزايدت حضارتها و دعت أمور الترف فيها إلى استعمال الصنائع خرجت من القوة إلى الفعل. و تنقسم الصنائع أيضاً إلى ما يختص بأمر المعاش ضرورياً كان أو غير ضروري و إلى ما يختص بالأفكار التي هي خاصية الإنسان من العلوم و الصنائع و السياسة. و من الأول الحياكة و الجزارة و النجارة و الحدادة و أمثالها. و من الثاني الوراقة و هي معاناة الكتب بالانتساخ و التخليد و الغناء و الشعر و تعليم العلم و أمثال ذلك. و من الثالث الجندية و أمثالها. و الله أعلم.
رد مع اقتباس
  #14  
قديم 01-09-2012, 10:51 PM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,413
افتراضي

الفصل السابع عشر في أن الصنائع إنما تكمل بكمال العمران الحضري و كثرته
و السبب في ذلك أن الناس ما لم يستوف العمران الحضري و تتمدن المدينة إنما همهم في الضروري من المعاش و هو تحصيل الأقوات من الحنطة و غيرها. فإذا تمدنت المدبنة و تزايدت فيها الأعمال و وفت بالضروري و زادت عليه صرف الزائد و إنما إلى الكمالات من المعاش. ثم إن الصنائع و العلوم إنما هي للإنسان من حيث فكره الذي يتميز به عن الحيوانات و القوت له من حيث الحيوانية و الغذائية فهو مقدم لضرورته على العلوم و الصنائع و هي متأخرة عن الضروري. و على مقدار عمران البلد تكون جودة الصنائع للتأنق فيها و إنما و استجادة ما يطلب منها بحيث تتوفر دواعي الترف و الثروة و أما العمران البدوي أو القليل فلا يحتاج من الصنائع إلا البسيط خاصة المستعمل في الضروريات من نجار أو حداد او خياط أو حائك أو جزار. و إذا وجدت هذه بعد فلا توجد فيه كاملة و لا مستجادة و إنما يوجد منها بمقدار الضرورة إذ هي كلها وسائل إلى غيرها و ليست مقصودة لذاتها. و إذا زخر بحر العمران و طلبت فيه الكمالات كان من جملتها التأنق في الصنائع و استجادتها فكملت بجميع متمماتها و تزايدت صنائع أخرى معها مما تدعو إليه عوائد الترف و أحواله من جزار و دباغ و خراز و صائغ و أمثال ذلك. و قد تنتهي هذه الأصناف إذا استبحر العمران إلى أن يوجد فيها كثير من الكمالات و التأنق فيها في الغاية و تكون من وجوه المعاش في المصر لمنتحلها. بل تكون فائدتها من أعظم فوائد الأعمال لما يدعو إليه الترف في المدينة مثل الدهان و الصفار و الحمامي و الطباخ و الشماع و الهراس و معلم الغناء و الرقص و قرع الطبول على الترقيع. و مثل الوراقين الذين يعانون صناعة انتساخ الكتب و تجليدها و تصحيحها فإن هذه الصناعة إنما يدعو إليها الترف في المدينة من الاشتغال بالأمور الفكرية و أمثال ذلك. و قد تخرج عن الحد إذا كان العمران خارجاً عن الحد كما بلغنا عن أهل مصر أن فيهم من يعلم الطيور العجم و الحمر الإنسية و يتخيل أشياء من العجائب بإيهام قلب الأعيان و تعليم الحداء و الرقص و المشي على الخيوط في الهواء و رفع الأثقال من الحيوان و الحجارة و غير ذلك من الصنائع التي لا توجد عندنا بالمغرب. لأن عمران أمصاره لم يبلغ عمران مصر و القاهرة. أدام الله عمرانها بالمسلمين. و الله الحكيم العليم.

الفصل الثامن عشر في أن رسوخ الصنائع في الأمصار إنما هو برسوخ الحضارة و طول أمده
و السبب في ذلك ظاهر و هو أن هذه كلها عوائد للعمران و الأوان. و العوائد إنما ترسخ بكثرة التكرار و طول الأمد فتستحكم صبغة ذلك و ترسخ في الأجيال. و إذا استحكمت الصبغة عسر نزعها. و لهذا نجد في الأمصار التي كانت استبحرت في الحضارة لما تراجع عمرانها و تناقص بقيت فيها آثار من هذه الصنائع ليست في غيرها من الأمصار المستحدثة العمران و لو بلغت مبالغها في الوفور و الكثرة و ما ذاك إلا لأن أحوال تلك القديمة العمران مستحكمة راسخة بطول الأحقاب و تداول الأحوال و تكررها و هذه لم تبلغ الغاية بعد. و هذا كالحال في الأندلس لهذا العهد فإنا نجد فيها رسوم الصنائع قائمة و أحوالها فمن مستحكمة راسخة في جميع ما تدعو إليه عوائد أمصارها كالمباني و الطبخ و أصناف الغناء و اللهو من الآلات و الأوتار و الرقص و تنضيد الفرش في القصور، و حسن الترتيب و الأوضاع في البناء و صوغ الآنية من المعادن و الخزف و جميع المواعين و إقامة الولائم و الأعراس و سائر الصنائع التي يدعو إليها الترف و عوائده. فنجدهم أقوم عليها و أبصر بها. و نجد صنائعها مستحكمة لديهم فهم على حصة موفورة من ذلك و حظ متميز بين جميع الأمصار. و إن كان عمرانها قد تناقص. و الكثير منه لا يساوي عمران غيرها من بلاد العدوة. و ما ذاك إلا لما قدمناه من رسوخ الحضارة فيهم برسوخ الدولة الأموية و ما قبلها من دولة القوط و ما بعدها من دولة الطوائف و هلم جرا. فبلغت الحضارة فيها مبلغاً لم تبلغه في قطر إلا ما ينقل عن العراق و الشام و مصر أيضاً لطول آماد الدول فيها فاستحكمت فيها الصنائع و كملت جميع أصنافها على الاستجادة و التنميق. و بقيت صبغتها ثابتة في ذلك العمران لا تفارقه إلى أن ينتقض بالكلية حال الصبغ إذا رسخ في الثوب. و كذا أيضاً حال تونس فيما حصل فيها بالحضارة من الدول الصنهاجية و الموحدين من بعدهم و ما استكمل لها في ذلك من الصنائع في سائر الأحوال و إن كان ذلك دون الأندلس. إلا أنه متضاعف برسوم منها تنقل إليها من مصر لقرب المسافة بينهما. و تردد المسافرين من قطرها إلى قطر مصر في كل سنة و ربما سكن أهلها هناك عصوراً فينقلون من عوائد ترفهم و محكم صنائعهم ما يقع لديهم موقع الاستحسان. فصارت أحوالها في ذلك متشابهة من أحوال مصر لما ذكرناه و من أحوال الأندلس لما أن أكثر ساكنها من شرق الأندلس حين الجلاء لعهد المائة السابعة. و رسخ فيها من ذلك أحوال و إن كان عمرانها ليس مناسب لذلك لهذا العهد. إلا أن الصبغة إذا استحكمت فقليلاً ما تحول إلا بزوال محلها. و كذا نجد بالقيروان و مراكش و قلعة ابن حماد أثراً باقياً من ذلك و إن كانت هذه كلها اليوم خراباً أو في حكم الخراب. و لا يتفطن لها إلا البصير من الناس فيجد من هذه الصنائع آثاراً تدله على ما كان بها كأثر الخط الممحو في الكتاب و الله الخلاق العليم.

الفصل التاسع عشر في أن الصنائع إنما تستجاد و تكثر إذا كثر طالبها
و السبب في ذلك ظاهر و هو أن الإنسان لا يسمح بعمله أن يقع مجاناً لأنه كسبه و منه معاشه. إذ لا فائدة له في جميع عمره في شيء مما سواه فلا يصرفه إلا فيما له قيمة في مصره ليعود عليه بالنفع. و إن كانت الصناعة مطلوبة و توجه إليها النفاق كانت و إنما الصناعة بمثابة السلعة التي تنفق سوقها و ت*** للبيع. فتجتهد الناس في المدينة لتعلم تلك الصناعة ليكون منها معاشهم. و إذا لم تكن الصناعة مطلوبة لم تنفق سوقها و لا يوجه قصد إلى تعلمها، فاختصت بالترك و فقدت للإهمال. و لهذا يقال عن علي رضي الله عنه، قيمة كل امرئ ما يحسن بمعنى أن صناعته هي قيمته أي قيمة عمله الذي هو معاشه. و أيضاً فهنا سر آخر و هو أن الصنائع و إجادتها إنما تطلبها الدولة فهي التي تنفق سوقها و توجه الطالبات إليها. و ما لم تطلبه الدولة و إنما يطلبها غيرها من أهل المصر فليس على نسبتها لأن الدولة هي السوق الأعظم و فيها نفاق كل شيء و القليل و الكثير فيها على نسبة واحدة. فما نفق منها كان أكثرياً ضرورة. و السوقة و إن طلبوا الصناعة فليس طلبهم بعام و لا شوقهم بنافقة. و الله سبحانه و تعالى قادر على ما يشاء.

الفصل العشرون في أن الأمصار إذا قاربت الخراب انتقصت منها الصنائع
و ذلك لما بينا أن الصنائع إنما تستجاد إذا احتيج إليها و كثر طالبها. و إذا ضعفت أحوال المصر و أخذ في الهرم بانتقاض عمرانه و قلة ساكنه تناقص فيه الترف و رجعوا إلى الاقتصار على الضروري من أحوالهم فتقل الصنائع التي كانت من توابع الترف لأن صاحبها حينئد لا يصح له بها معاشه فيفر إلى غيرها، أو يموت و لا يكون خلف منه. فيذهب رسم تلك الصنائع جملة، كما يذهب النقاشون و الصواغ و الكتاب و النساخ و أمثالهم من الصنائع لحاجات الترف. و لا تزال الصناعات في التناقص إلى أن تضمحل. و الله الخلاق العليم و سبحانه و تعالى.

الفصل الحادي و العشرون في أن العرب أبعد الناس عن الصنائع
و السبب في ذلك أنهم أعرق في البدو و أبعد عن العمران الحضري و ما يدعو إليه من الصنائع و غيرها. و العجم من أهل المشرق و أمم النصرانية عدوة البحر الرومي أقوم الناس عليها لأنهم أعرق في العمران الحضري و أبعد عن البدو و عمرانه. حتى إن الإبل التي أعانت العرب على التوحش و في القفر، و الإعراق في البدو، مفقودة لديهم بالجملة، و مفقودة مراعيها، و الرمال المهيئة لنتاجها. و لهذا نجد أوطان العرب و ما ملكوه في الإسلام قليل الصنائع بالجملة، حتى ت*** إليه من قطر آخر. و انظر بلاد العجم من الصين و الهند و أرض الترك و أمم النصرانية، كيف استكثرث فيهم الصنائع و است***ها الأمم من عندهم. و عجم المغرب من البربر مثل العرب في ذلك لرسوخهم في البداوة منذ أحقاب من السنين. و يشهد لك بذلك قلة الأمصار بقطرهم كما قدمناه.. فالصنائع بالمغرب لذلك قليلة و غير مستحكمة الأماكن من صناعة الصوف من نسجه، و الجلد في خرزه و دبغه. فإنهم لما استحضروا بلغوا فيها المبالغ لعموم البلوى بها و كون هذين أغلب السلع في قطرهم، لما هم عليه من حال البداوة. و أما المشرق فقد رسخت الصنائع فيه منذ ملك الأمم الأقدمين من الفرس و النبط و القبط و بني إسرائيل و يونان و الروم أحقاباً متطاولة، فرسخت فيهم أحوال الحضارة. و من جملتها الصنائع كما قدمناه، فلم يمح رسمها. و أما اليمن و البحرين و عمان و الحزيرة و إن ملكه العرب إلا أنهم تداولوا ملكه آلافاً من السنين في أمم كثيرين منهم. و اختطوا أمصاره و مدنه و بلغوا الغاية من الحضارة و الترف مثل عاد و ثمود و العمالقة و حمير من بعدهم. و التبابعة و الأذواء فطال أمد الملك و الحضارة و استحكمت صبغتها و توفرت الصنائع و رسخت، فلم تبل ببلى الدولة كما قدمناه. فبقيت مستجدة حتى الآن. و اختصت بذلك للوطن، كصناعة الوشي و العصب و ما يستجاد من حول الثياب و الحرير فيها و الله وارث الأرض و من عليها و هو خير الوارثين.

الفصل الثاني و العشرون فيمن حصلت له ملكة في صناعة فقل أن يجيد بعد في ملكة أخرى
و مثال ذلك الخياط إذا أجاد ملكة الخياطة و أحكمها و رسخت في نفسه فلا يجيد من بعدها ملكة النجارة أو البناء إلا أن تكون الأولى لم تستحكم بعد و لم ترسخ صبغتها. و السبب في ذلك أن الملكات صفات للنفس و ألوان فلا تزدحم دفعة. و من كان على الفطرة كان أسهل لقبول الملكات و أحسن استعداداً لحصولها. فإذا تلونت النفس بالملكة الأخرى و خرجت عن الفطرة ضعف فيها الاستعداد باللون الحاصل من هذه الملكة فكان قبولها للملكة الأخرى أضعف. و هذا بين يشهد له الوجود. فقل أن تجد صاحب صناعة يحكمها ثم يحكم من بعدها أخرى و يكون فيهما معاً على رتبة واحدة من الإجادة. حتى أن أهل العلم الذين ملكتهم فكرية فهم بهذه المثابة. و من حصل منهم على ملكة علم من العلوم و أجادها في الغاية فقل أن يجيد ملكة علم آخر على نسبته بل يكون مقصراً فيه إن طلبه إلا في الأقل النادر من الأحوال. و مبني سببه على ما ذكرناه من الاستعداد و تلوينه بلون الملكة الحاصلة في النفس. و الله سبحانه و تعالى أعلم و به التوفيق لا رب سواه.

الفصل الثالث و العشرون في الإشارة إلى أمهات الصنائع
إعلم أن الصنائع في النوع الإنساني كثيرة لكثرة الأعمال المتداولة في العمران. فهي بحيث تشذ عن الحصر و لا يأخذها العد. إلا أن منها ما هو ضروري في العمران أو شريف بالموضع فنخصها بالذكر و نترك ما سواها. فأما الضروري فالفلاحة و البناء و الخياطة و النجارة و الحياكة، و أما الشريفة بالموضع فكالتوليد و الكتابة و الوراقة و الغناء و الطب. فأما التوليد فإنها ضرورية في العمران و عامة البلوى إذ بها تحصل حياة المولود و تتم غالباً. و موضوعها مع ذلك المولودون و أمهاتهم. و أما الطب فهو حفظ الصحة لإنسان و دفع المرض عنه و يتفرع عن علم الطبيعة، و موضوعه مع ذلك بدن الإنسان. و أما الكتابة و ما يتبعها من الوراقة فهي حافظة على الإنسان حاجته و مقيدة لها عن النسيان و مبلغة ضمائر النفس إلى البعيد الغائب و مخلدة نتائج الأفكار و العلوم في الصحف و رافعة رتب الوجود للمعاني. و أما الغناء فهو نسب الأصوات و مظهر جمالها للأسماع. و كل هذه الصنائع الثلاث داع إلى مخالطة الملوك الأعاظم في خلواتهم و مجالس أنسهم فلها بذلك شرف ليس لغيرها. و ما سوى ذلك من الصنائع فتابعة و ممتهنة في الغالب. و قد يختلف ذلك باختلاف الأغراض و الدواعي. و الله أعلم بالصواب.

الفصل الرابع و العشرون في صناعة الفلاحة
هذه الصناعة ثمرتها اتخاذ الأقوات و الحبوب بالقيام على إثارة الأرض لها ازدراعها و علاج نباتها و تعهده بالسقي و التنمية إلى بلوغ غايته ثم حصاد سنبله و استخراج حبه من غلافه و إحكام الأعمال لذلك. و تحصيل أسبابه و دواعيه. و هي أقدم الصنائع لما أنها محصلة للقوت المكمل لحياة الإنسان غالباً إذ يمكن وجوده من دون القوت. و لهذا اختصت هذه الصناعة بالبدو. إذ قدمنا أنه أقدم من الحضر و سابق عليه فكانت هذه الصناعة لذلك بدوية لا يقوم عليها الحضر و لا يعرفونها لأن أحوالهم كلها ثانية على البداوة فصنائعهم ثانية عن صنائعها و تابعة لها. و الله سبحانه و تعالى مقيم العباد فيما أراد.

الفصل الخامس و العشرون في صناعة البناء
هذه الصناعة أول صنائع العمران الحضري و أقدمها و هي معرفة العمل في اتخاذ البيوت و المنازل للكن و المأوى للأبدان في المدن. و ذلك أن الإنسان لما جبل عليها من الفكر في عواقب أحواله، لا بد أن يفكر فيما يدفع عنه الأذى من الحر و البرد كاتخاذ البيوت المكتنفة بالسقف و الحيطان. من سائر جهاتها و البشر مختلف في هذه الجبلة الفكرية فمنهم المعتدلون فيها فيتخذون ذلك باعتدال أهالي الثاني و الثالث و الرابع و الخامس و السادس و أما أهل البدو فيبعدون عن اتخاذ ذلك لقصور أفكارهم عن إدراك الصنائع البشرية فيبادرون للغيران و الكهوف المعدة من غير علاج. ثم المعتدلون و المتخذون البيوت للمأوى قد يتكاثرون في البسيط الواحد بحيث يتناكرون و لا يتعارفون فيخشون طرق بعضهم بعضاً بياتاً فيحتاجون إلى حفظ مجتمعهم بإدارة ماء أو أسوار تحوطهم و يصير جميعاً مدينة واحدة و مصراً واحداً و يحوطهم الحكم من داخل يدفع بعضهم عن بعض و قد يحتاجون إلى الانتصاف و يتخذون المعاقل و الحصون لهم و لمن تحت أيديهم و هؤلاء مثل الملوك و من في معناهم من الأمراء و كبار القبائل. ثم تختلف أحوال البناء في المهن كل مدينة على ما يتعارفون و يصطلحون عليه و يناسب مزاج هوائهم و اختلاف أحوالهم في الغنى و الفقر. و كذا حال أهل المدينة الواحدة فمنهم من يتخذ القصور و البضائع العظيمة الساحة المشتملة على عدة الدور و البيوت و الغرف الكبيرة لكثرة ولده و حشمه و عياله و تابعه و يؤسس جدرانها بالحجارة و يلحم بينها بالكلس و يعالي عليها بالأصبغة و الجص و يبالغ في كل ذلك بالتنجيد و التنميق إظهاراً للبسطة بالعناية في شأن المأوى. و يهيىء مع ذلك الأسراب و المطامير للاختزان لأقواته و الإسطبلات لربط مقرباته إذا كان من أهل الجنود و كثرة التابع و الحاشية كالأمراء و من في معناهم و منهم من يبني الدويرة و البيوت لنفسه و سكنه و ولده لا يبتغي ما وراء ذلك لقصور حاله عنه و اقتصاره عن الكن الطبيعي للبشر و بين ذلك مراتب غير منحصرة و قد يحتاج لهذه الصناعة أيضاً عند تأسيس الملوك و أهل و الدول المدن العظيمة و الهياكل المرتفعة و يبالغون في إتقان الأوضاع و علو الأجرام مع الإحكام بتبلغ الصناعة مبالغها. و هذه الصناعة هي التي تحصل الدواعي لذلك كله و أكثر ما تكون هذه الصناعة في الأقاليم المعتدلة من الرابع و ما حواليه إذ الأقاليم المنحرفة لا بناء فيها. و إنما يتخذون البيوت حظائر من القصب و الطين أو يأوون إلى الكهوف و الغيران. و أهل هذه الصناعة القائلون عليها متفاوتون: فمنهم البصير الماهر و منهم القاصر. ثم هي تتنوع أنواعاً كثيرة فمنها البناء بالحجارة المنجدة أو بالآجر يقام بها الجدران ملصقاً بعضها إلى بعض بالطين و الكلس الذي يعقد معها و يلتحم كأنها جسم واحد و منها البناء بالتراب خاصة تقام منه حيطان يتخذ لها لوحان من الخشب فقدران طولاً و عرضاً باختلاف العادات في التقدير. و أوسطه أربع أذرع في ذراعين فينصبان على أساس و قد يوعد ما بينهما بما يراه صاحب البناء في عرض الأساس و يوصل بينهما بأذرع من الخشب يربط عليها بالحبال و الجدر. و يسد الجهتان الباقيتان من ذلك الخلاء بينهما بلوحين آخرين صغيرين ثم يوضع فيه التراب مخلطاً بالكلس و يركز بالمراكز المعدة حتى ينعم ركزه و يختلط أجزاؤه بالكلس ثم يزاد التراب ثانياً و ثالثاً إلى أن يمتلىء ذلك الخلاء بين اللوحين و قد تداخلت أجزاء الكلس و التراب و صارت جسماً واحداً. ثم يعاد نصب اللوحين على صورة و يركز كذلك إلى أن يتم و ينظم الألواح كلها سطراً من فوق سطر إلى أن ينتظم الحائط كله ملتحماً كأنه قطعة واحدة و يسمى الطابية و صانعه الطواب. و من صنائع البناء أيضاً أن تجلل الحيطان بالكلس بعد أن يحل بالماء و يخمر أسبوعاً أو أسبوعين على قدر ما يعتدل مزاجه عن إفراط النارية المفسدة للإلحام. فإذا تم له ما يرضاه من ذلك علاه من فوق الحائط و ذلك إلى أن يلتحم. و من صنائع البناء عمل السقف بأن يمد الخشب المحكمة النجارة أو الساذجة على حائطي البيت و من فوقها الألواح كذلك موصولة بالدسائر و يصب عليها التراب و الكلس و يبسط بالمراكز حتى تتداخل أجزاؤها و تلتحم و يعالى عليها الكلس كما يعالى على الحائط. و من صناعة البناء ما يرجع إلى التنميق و التزيين كما يصنع من فوق الحيطان الأشكال المجسمة من الجص يخمر بالماء ثم يرجع جسداً و فيه بقية البلل، فيشكل على التناسب تخريماً بمثاقب الحديد إلى أن يبقى له رونق و رؤاء. و ربما عولي على الحيطان أيضاً بقطع الرخام أو الآجر أو الخزف أو بالصدف أو السبج يفصل أجزاء متجانسة أو مختلفة و توضع في الكلس على نسب و أوضاع مقدرة عندهم يبدو به الحائط للعيان، كأنه قطع الرياض المنمنمة. إلى غير ذلك من بناء الجباب و الصهاريج لسفح الماء بعد أن تعد في البيوت قصاع الرخام القوراء المحكمة الخرط بالفوهات في وسطها لنبع الماء الجاري إلى الصهريج ي*** إليه من خارج القنوات المفضية إلى البيوت و أمثال ذلك من أنواع البناء. و تختلف الصناع في جميع ذلك باختلاف الحذق و البصر و يعظم عمران المدينة و يتسع فيكثرون. و ربما يرجع الحكام إلى نظر هؤلاء فيما هم أبصر به من أحوال البناء. و ذلك أن الناس في المدن لكثرة الازدحام و العمران يتشاحون حتى في الفضاء و الهواء الأعلى و الأسفل و من الانتفاع بظاهر البناء مما يتوقع معه حصول الضرر في الحيطان. فيمنع جاره من ذلك إلا ما كان له فيه حق. و يختلفون أيضاً في استحقاق الطرق و المنافذ للمياه الجارية و الفضلات المسربة في القنوات و ربما يدعي بعضهم حق بعض في حائطه أو علوه أو قناته لتضايق الجوار أو يدعي بعضهم على جاره اختلال حائطه خشية سقوطه و يحتاج إلى الحكم عليه بهدمه و دفع ضرر عن جاره عند من يراه أو يحتاج إلى قسمة دار أو عرضة بين شريكين بحيث لا يقع معها فساد في الدار و لا إهمال لمنفعتها. و أمثال ذلك. و يخفى جميع ذلك إلا على أهل البصر العارفين بالبناء و أحواله المستدلين عليها بالمعاقد و القمط و مراكز الخشب و ميل الحيطان و اعتدالها و قسم المساكن على نسبة أوضاعها. و منافعها و تسريب المياه في القنوات مجلوبة و مرفوعة بحيث لا تضر بما مرت عليه من البيوت و الحيطان و غير ذلك. فلهم بهذا كله البصر و الخبرة التي ليست لغيرهم. و هم مع ذلك يختلفون بالجودة و القصور في الأجيال باعتبار الدول و قوتها. فإنا قدمنا أن الصنائع و كمالها، إنما هو بكمال الحضارة و كثرتها بكثرة الطالب لها. فلذلك عندما تكون الدولة بدوية في أول أمرها تفتقر في أمر البناء إلى غير قطرها. كما وقع للوليد بن عبد الملك حين أجمع على بناء مسجد المدينة و القدس و مسجده بالشام. فبعث إلى ملك الروم بالقسطنطينية في الفعلة المهرة في البناء فبعث إليه منهم من حصل له غرضه من تلك المساجد و قد يعرف صاحب هذه الصناعة أشياء من الهندسة مثل تسوية الحيطان بالوزن و إجراء المياه بأخذ الارتفاع و أمثال ذلك فيحتاج إلى البصر بشيء من مسائله. و كذلك في جر الأثقال بالهندام فإن الأجرام العظيمة إذا شيدت بالحجارة الكبيرة يعجز قدر الفعلة عن رقمها إلى مكانها من الحائط فيتحيل لذلك بمضاعفة قوة الحبل بإدخاله في المعالق من أثقاب مقدرة على نسب هندسية تصير الثقيل عند معاناة الرفع خفيفاً فيتم المراد من ذلك بغير كلفة و هذا إنما يتم بأصول هندسية معروفين متداولين بين البشر و بمثلها كان بناء الهياكل الماثلة لهذا العهد التي يحسب أنها من بناء الجاهلية. و أن أبدانهم كانت على نسبتها في العظم الجسماني و ليس كذلك و إنما تم لهم ذلك بالحيل الهندسية كما ذكرناه. فتفهم ذلك. و الله يخلق ما يشاء سبحانه.

الفصل السادس و العشرون في صناعة النجارة
هذه الصناعة من ضروريات العمران و مادتها الخشب و ذلك أن الله سبحانه و تعالى جعل للآدمي في كل مكون من المكونات منافع تكمل بها ضروراته و كان منها الشجر فإن له فيه من المنافع مالا ينحصر مما هو معروف لكل أحد. و من منافعها اتخاذها خشباً إذا يبست و أول منافعه أن يكون وقوداً للنيران في معاشهم و عصياً للاتكاء و الذود و غيرهما من ضرورياتهم و دعائم لما يخشى ميله من أثقالهم. ثم بعد ذلك منافع أخرى لأهل البدو و الحضر فأما أهل البدو فيتخذون منها العمد و الأوتاد لخيامهم و الحدوج لظعائنهم و الرماح و القسي و السهام لسلاحهم و أما أهل الحضر فالسقف لبيوتهم و الأغلاق لأ بوابهم و الكراسي لجلوسهم. و كل واحدة من هذه فالخشبة مادة لها و لا تصير إلى الصورة الخاصة بها إلا بالصناعة. و الصناعة المتكفلة بذلك المحصلة لكل واحد من صورها هي النجارة على اختلاف رتبها. فيحتاج صاحبها إلى تفصيل الخشب أولاً، إما بخشب أصغر منه أو ألواح.
ثم تركب تلك الفضائل بحسب الصور المطلوبة. و هو في كل ذلك يحاول بصنعته إعداد تلك الفصائل بالانتظام إلى أن تصير أعضاء لذلك الشكل المخصوص. و القائم على هذه الصناعة هو النجار و هو ضروري في العمران. ثم إذا عظمت الحضارة و جاء الترف و تأنق الناس فيما يتخذونه من كل صنف من سقف أو باب أو كرسي أو ماعون، حدث التأنق في صناعة ذلك و استجادته بغرائب من الصناعة كمالية ليست من الضروري في شيء مثل التخطيط في الأبواب و الكراسي و مثل تهيئة القطع من الخشب بصناعة الخرط يحكم بريها و تشكيلها ثم تؤلف على نسب مقدرة و تلحم بالدسائر فتبدو لرأي العين ملتحمة و قد أخذ منها اختلاف الأشكال على تناسب. يصنع هذا في كل شيء يتخذ من الخشب فيجيء آنق ما يكون. و كذلك في جميع ما يحتاج إليه من الآلات المتخذة من الخشب من أي نوع كان. و كذلك قد يحتاج إلى هذه الصناعة في إنشاء المراكب البحرية ذات الألواح و الدسر و هي أجرام هندسية صنعت على قالب الحوت و اعتبار سبحه في الماء بقوادمه و كلكله ليكون ذلك الشكل أعون لها في مصادمة الماء و جعل لها عوض الحركة الحيوانية التي للسمك تحريك الرياح. و ربما أعينت بحركة المقاذيف كما في الأساطيل. و هذه الصناعة من أصلها محتاجة إلى أصل كبير من الهندسة في جميع أصنافها لأن إخراج الصور من القوة إلى الفعل على وجه الإحكام محتاج إلى معرفة التناسب في المقادير إما عموماً أو خصوصاً و تناسب المقادير لا بد فيه من الرجوع إلى المهندس. و لهذا كانت أئمة الهندسة اليونانيون كلهم أئمة في هذه الصناعة فكان أوقليدوس صاحب كتاب الأصول في الهندسة نجاراً و بها كان يعرف. و كذلك أبلونيوس صاحب كتاب المخروطات و ميلاوش و غيرهم. و فيما يقال: أن معلم هذه الصناعة في الخليقة هو نوح عليه السلام و بها أنشأ سفينة النجاة التي كانت بها معجزته عند الطوفان. و هذا الخبر و إن كان ممكناً أعني كونه نجاراً إلا أن كونه أول من علمها أو تعلمها لا يقوم دليل من النقل عليه لبعد الآماد. و إنما معناه و الله أعلم الإشارة إلى قدم النجارة لأنه لم يصح حكاية عنها قبل خبر نوع عليه السلام فجعل كأنه أول من تعلمها. فتفهم أسرار الصنائع في الخليقة. و الله سبحانه و تعالى أعلم و به التوفيق.

الفصل السابع و العشرون في صناعة الحياكة و الخياطة
إعلم أن المعتدلين من البشر في معنى الإنسانية لا بد لهم من الفكر في الدفء كالفكر في الكن. و يحصل الدفء باشتمال المنسوج للوقاية من الحر و البرد. و لا بد لذلك من إلحام الغزل حتى يصير ثوباً واحداً، و هو النسج و الحياكة. فإن كانوا بادية اقتصروا عليه، و إن قالوا إلى الحضارة فصلوا تلك المنسوجة قطعاً يقدرون منها ثوباً على البدن بشكله و تعدد أعضائه و اختلاف نواحيها. ثم يلائمون بين تلك القطع بالوصائل حتى تصير ثوباً واحداً على البدن و يلبسونها. و الصناعة المحصلة لهذه الملاءمة هي الخياطة.
هاتان الصناعتان ضروريتان في العمران لما يحتاج إليه البشر من الرفه فالأولى لنسج الغزل من الصوف و الكتان و القطن إسداء في الطول و إلحاماً في العرض و إحكاماً لذلك النسج بالالتحام الشديد، فيتم منها قطع مقدرة فمنها الأكسية من الصوف للاشتمال، و منها الثياب من القطن و الكتان للباس. و الصناعة الثانية لتقدير المنسوجات على اختلاف الأشكال و العوائد، تفصل بالمقراض قطعاً مناسبة للأعضاء البدنية ثم تلحم تلك القطع بالخياطة المحكمة وصلاً أو تنبيتاً أو تفسحاً على حسب نوع الصناعة. و هذه الصناعة مختصة بالعمران الحضري لما أن أهل البدو يستغنون عنها و إنما يشتملون الأثواب اشتمالاً. و إنما تفصيل الثياب و تقديرها و إلحامها بالخياطة للباس من مذاهب الحضارة و فنونها. و تفهم هذه في سر تحريم المخيط في الحج لما أن مشروعية الحج مشتملة على نبذ العلائق الدنيويئة كلها و الرجوع إلى الله تعالى كما خلقنا أول مرة، حتى لا يعلق العبد قلبه بشيء من عوائد ترفه، لا طيباً و لا نساءً لا مخيطاً و لا خفاً، و لا يتعرض لصيد و لا لشيء من عوائده التي تلونت بها نفسه و خلقه، مع أنه يفقدها بالموت ضرورة. و إنما يجيء كأنه وارد إلى المحشر ضارعاً بقلبه مخلصاً لربه. و كان جزاؤه إن تم له إخلاصه في ذلك أن يخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه. سبحانك ما أرفقك بعبادك و أرحمك بهم في طلب هدايتهم إليك. و هاتان الصنعتان قديمتان في الخليقة لما أن الدفء ضروري للبشر في العمران المعتدل. و أما المنحرف إلى الحر فلا يحتاج أهله إلى دفء. و لهذا يبلغنا عن أهل الإقليم الأول من السودان أنهم عراة في الغالب. و لقدم هذه الصنائع ينسبها العامة إلى ادريس عليه السلام و هو أقدم الأنبياء. و ربما ينسبونها إلى هرمس و قد يقال إن هرمس هو إدريس. و الله سبحانه و تعالى هو الخلاق العليم.

الفصل الثامن و العشرون في صناعة التوليد
و هي صناعة يعرف بها العمل في استخراج المولود الآدمي من بطن أمه من الرفق في إخراجه من رحمها و تهيئة أسباب ذلك. ثم ما يصلحه بعد الخروج على ما نذكر. و هي مختصة بالنساء في غالب الأمر لما أنهن الظاهرات بعضهن على عورات بعض. و تسمى القائمة على ذلك منهن القابلة. استعير فيها معنى الإعطاء و القبول كأن النساء تعطيها الجنين و كأنها تقبله. و ذلك أن الجنين إذا استكمل خلقه في الرحم و أطواره و بلغ إلى غايته و المدة التي قدرها الله لمكثه هي تسعة أشهر في الغالب فيطلب الخروج بما جعل الله في المولود من النزوع لذلك و يضيق عليه المنفذ فيعسر. و ربما مزق بعض جوانب الفرج بالضغط و ربما انقطع بعض ما كان من الأغشية من الالتصاق و الالتحام بالرحم. و هذه كلها آلام يشتد لها الوجع و هو معنى الطلق فتكون القابلة معينة في ذلك بعض الشيء بغمز الظهر و الوركين و ما يحاذي الرحم من الأسافل تساوق بذلك فعل الدافعة في إخراج الجنين و تسهيل ما يصعب منه بما يمكنها و على ما تهتدي إلى معرفة عسرة. ثم إن أخرج الجنين بقيت بينه و بين الرحم الوصلة حيث كان يتغذى منها متصلة من سرته بمعاه. و تلك الوصلة عضو فضلي لتغذية المولود خاصة فتقطعها القابلة من حيث لا تتعدى مكان الفضلة و لا تضر بمعاه و لا برحم أمه ثم تدمل مكان الجراحة منه بالكي أو بما تراه من وجوه الاندمال. ثم إن الجنين عند خروجه من ذلك المنفذ الضيق و هو رطب العظام سهل الانعطاف و الانثناء فربما تتغير أشكال أعضائه و أوصافها لقرب التكوين و رطوبة المواد فتتناوله القابلة بالغمز و الإصلاح حتى يرجع كل عضو إلى شكله الطبيعي و وضعه المقدر له و يرتد خلقه سوياً. ثم بعد ذلك تراجع النفساء و تحاذيها بالغمز و الملاينة لخروج أغشية الجنين لأنها ربما تتأخر عن خروجه قليلاً. و يخشى عند ذلك أن تراجع الماسكة حالها الطبيعية قبل استكمال خروج الأغشية و هي فضلات فتتعفن و يسري عفنها إلى الرحم فيقع الهلاك فتحاذر القابلة هذا و تحاول في إعانة الدفع إلى أن تخرج تلك الأغشية التي كانت قد تأخرت ثم ترجع إلى المولود فتمرخ أعضاءه بالأدهان و الذرورات القابضة لتشده و تجفف رطوبات الرحم و تحنكه لرفع لهاته و تسعطه لاستفراغ نطوف دماغه و تغرغره باللعوق لدفع السدد من معاه و تجويفها عن الالتصاق. ثم تداوي النفساء بعد ذلك من الوهن الذي أصابها بالطلق و ما لحق رحمها من ألم الانفصال، إذ المولود إن لم يكن عضواً طبيعياً فحالة التكوين في الرحم صيرته بالالتحام كالعضو المتصل فلذلك كان في انفصاله ألم يقرب من ألم القطع. و تداوي مع ذلك ما يلحق الفرج من ألم من جراحة التمزيق عند الضغط في الخروج. و هذه كلها أدواء نجد هولاء القوابل أبصر بدوائها. و كذلك ما يعرض للمولود مدة الرضاع من أدواء في بدنه إلى حين الفصال نجدهن أبصر بها من الطبيب الماهر. و ما ذاك إلا لأن بدن الإنسان في تلك الحالة إنما هو بدن إنساني بالقوة فقط. فإذا جاوز الفصال صار بدناً إنسانياً بالفعل فكانت حاجته حينئذ إلى الطبيب أشد. فهذه الصناعة كما تراه ضرورية في العمران للنوع الإنساني، لا يتم كون أشخاصه في الغالب دونها. و قد يعرض لبعض أشخاص النوع الاستغناء عن هذه الصناعة، إما بخلق الله ذلك لهم معجزة و خرقاً للعادة كما في حق الأنبياء صلوات الله و سلامه عليهم أو بإلهام و هداية يلهم لها المولود و يفطرعليها فيتم وجودهم من دون هذه الصناعة. فأما شأن المعجزة من ذلك فقد وقع كثيراً. و منه ما روي أن النبي صلى الله عليه و سلم ولد مسروراً مختوناً واضعاً يديه على الأرض شاخصاً ببصره إلى السماء. و كذلك شأن عيسى في المهد و غير ذلك. و أما شأن الإلهام فلا ينكر. و إذا كانت الحيوانات العجم تختص بغرائب الإلهامات كالنحل و غيرها فما ظنك بالإنسان المفضل عليها. و خصوصاً بمن اختص بكرامة الله. ثم الإلهام العام للمولودين في الإقبال على الثدي أوضح شاهد على وجوب الإلهام العام لهم. فشأن العناية الإلهية أعظم من أن يحاط به. و من هنا يفهم بطلان رأي الفارابي و حكماء الأندلس فيما احتجوا به لعدم انقراض الالواح و استحالة انقطاع المكونات. و خصوصاً في النوع الإنساني، و قالوا: لو انقطعت أشخاصه لاستحال وجودها بعد ذلك لتوقفه على وجود هذه الصناعة التي لا يتم كون الإنسان إلا بها. إذ لو قدرنا مولوداً دون هذه الصناعة و كفالتها إلى حين الفصال لم يتم بقاؤه أصلاً. و وجود الصنائع دون الفكر ممتنع لأنها ثمرته و تابعة له. و تكلف ابن سينا في الرد على هذا الرأي لمخالفته إياه و ذهابه إلى إمكان انقطاع الأنواع و خراب عالم التكوين ثم عوده ثانياً لاقتضاءات فلكية و أوضاع غريبة تنذر في الأحقاب بزعمه فتقتضي تخمير طينة مناسبة لمزاجه بحرارة مناسبة فيتم كونه إنساناً ثم يقيض له حيوان يخلق فيه إلهاماً لتربيته و الحنو عليه إلى أن يتم وجوده و فصاله. و أطنب في بيان ذلك في الرسالة التي سماها رسالة حي بن يقظان. و هذا الاستدلال غير صحيح و إن كنا نوافقه على انقطاع الأنواع لكن من غير ما استدل به. فإن دليله مبني على إسناد الأفعال إلى العلة الموجبة. و دليل القول بالفاعل المختار يرد عليه و لا واسطة على القول بالفاعل المختار بين الأفعال و القدرة القديمة و لا حاجة إلى هذا التكلف. ثم لو سلمناه جدلاً فغاية ما ينبني عليه اطراد وجوب هذا الشخص بخلق الإلهام لترتيبه في الحيوان الأعجم. و ما الضرورة الداعية لذلك ؟ و إذا كان الإلهام يخلق في الحيوان الأعجم فما المانع من خلقه للمولود نفسه كما قررناه أولاً. و خلق الإلهام في شخص لمصالح نفسه أقرب من خلقه فيه لمصالح غيره فكلا المذهبين شاهدان على أنفسهما بالبطلان في مناحيهما لما قررته لك و الله تعالى أعلم.

الفصل التاسع و العشرون في صناعة الطب و أنها محتاج إليها في الحواضر و الأمصار دون البادية
هذه الصناعة ضرورية في المدن و الأمصار لما عرف من فائدتها فإن ثمرتها حفظ الصحة للأصحاء و دفع المرض عن المرضى بالمداواة حتى يحصل لهم البرء من أمراضهم. و اعلم أن أصل الأمراض كلها إنما هو من الأغذية كما قال صلى الله عليه و سلم في الحديث الجامع للطب و هو قوله: المعدة بيت الداء و الحمية رأس الدواء و أصل كل داء البردة فأما قوله المعدة بيت الداء فهو ظاهر و أما قوله الحمية رأس الدواء فالحمية الجوع و هو الاحتماء من الطعام. و المعنى أن الجوع هو الدواء العظيم الذي هو أصل الأدوية و أما قوله أصل كل داء البردة فمعنى البردة إدخال الطعام على الطعام في المعدة قبل أن يتم هضم الأول. و شرح هذا أن الله سبحانه خلق الإنسان و حفظ حياته بالغذاء يستعمله بالأكل و ينفذ فيه القوى الهاضمة و الغاذية إلى أن يصير دماً فلا ملائماً لأجزاء البدن من اللحم و العظم، ثم تأخذه النامية فينقلب لحماً و عظماً. و معنى الهضم طبخ الغذاء بالحرارة الغريزية طوراً بعد طور حتى يصيرجزءاً بالفعل من البدن و تفسيره أن الغذاء إذا حصل في الفم و لاكته الأشداق أثرت فيه حرارة الفم طبخاً يسيراً و قلبت مزاجه بعض الشيء، كما تراه في اللقمة إذا تناولتها طعاماً ثم أجدتها مضغاً فترى مزاجها غير مزاج الطعام ثم يحصل في المعدة فتطبخه حرارة المعدة إلى أن يصير كيموساً و هو صفو ذلك المطبوخ و ترسله إلى الكبد و ترسل ما رسب منه في المعى ثقلاً ينفذ إلى المخرجين. ثم تطبخ حرارة الكبد ذلك الكيموس إلى أن يصير دماً عبيطاً و تطفو عليه رغوة من الطبخ هي الصفراء. و ترسب منه أجزاء يابسة هي السوداء و يقصر الحار الغريزي بعض الشيء عن طبخ الغليظ منه فهو البلغم. ثم ترسلها الكبد كلها في العزوق و الجداول، و يأخذها طبخ الحال الغريزي هناك فيكون عن الدم الخالص بخار حار رطب يمد الروح الحيواني و تأخذ النامية مأخذها في الدم فيكون لحماً ثم غليظة عظاماً. ثم يرسل البدن ما يفضل عن حاجاته من ذلك فضلات مختلفة من العرق و اللعاب و المخاط و الدمع. هذه صورة الغذاء و خروجه من القوة إلى الفعل لحماً. ثم إن أصل الأمراض و معظمها هي الحميات. و سببها أن الحار الغريزي قد يضعف عن تمام النضج في طبخه في كل طور من هذه، فيبقى ذلك الغذاء دون نضج، و سببه غالباً كثرة الغذاء في المعدة حتى يكون أغلب على الحار الغزيري أو إدخال الطعام إلى المعدة قبل أن تستوفي طبخ الأول فيستقل به الحار الغريزي و يترك الأول بحالة أو يتوزع عليهما فيقصر عن تمام الطبخ و النضج. و ترسله المعدة كذلك إلى الكبد فلا تقوى حرارة الكبد أيضاً على إنضاجه. و ربما بقي في الكبد من الغذاء الأول فضلة غير ناضجة. و ترسل الكبد جميع ذلك إلى العروق غير ناضج كما هو. فإذا أخذ البدن حاجته الملائمة أرسله مع الفضلات الأخرى من العرق و الدمع و اللعاب إن اقتدر على ذلك. و ربما يعجز عن الكثير منه فيبقى في العروق و الكبد و المعدة و تتزايد مع الأيام. و كل ذي رطوبة من الممتزجات إذا لم يأخذه الطبخ و النضج يعفن فيتعفن ذلك الغذاء غير الناضج و هو المسمى بالخلط. و كل متعفن ففيه حرارة غريبة و تلك هي المسماة في بدن الإنسان بالحمى. و اختبر ذلك بالطعام إذا ترك حتى يتعفن و في الزبل إذا تعفن أيضاً، كيف تنبعث فيه الحرارة و تأخذ مأخذها. فهذا معنى الحميات في الأبدان و هي رأس الأمراض و أصلها كما وقع في الحديث. و هذه الحميات علاجها بقطع الغذاء عن المريض أسابيع معلومة ثم يتناول الأغذية الملائمة حتى يتم برؤه. و ذلك في حال الصحة له علاج في التحفظ من هذا المرض و غيره و أصله كما وقع في الحديث و قد يكون ذلك العفن في عضو مخصوص، فيتولد عنه مرض في ذلك العضو و يحدث جراحات في البدن، إما في الأعضاء الرئيسية أو في غيرها. و قد يمرض العضو و يحدث عنه مرض القوى الموجودة له. هذه كلها جماع الأمراض، و أصلها في الغالب من الأغذية و هذا كله مرفوع إلى الطبيب. و وقوع هذه الأمراض في أهل الحضر و الامصار أكثر. لخصب عيشهم و كثرة مآكلهم و قلة اقتصارهم على نوع واحد من الأغذية و عدم توقيتهم لتناولها. و كثيراً ما يخلطون بالأغذية من التوابل و البقول و الفواكه، رصباً و يابساً في سبيل العلاج بالطبخ و لا يقتصرون في ذلك على نوع أو أنواع. فربما عددنا في اليوم ا الواحد من ألوان الطبخ أربعين نوعاً من النبات و الحيوان فيصير للغذاء مزاج غريب. و ربما يكون غريباً عن ملاءمة البدن و أجزائه. ثم إن الأهوية في الأمصار تفسد بمخالطة الأبخرة العفنة من كثرة الفصلات. و الأهوية فنشطة للأرواح و مقوية بنشاطها الأثر الحار الغريزي في الهضم. ثم الرياضة مفقودة لأهل الأمصار إذ هم في الغالب وادعون ساكنون لا تأخذ منهم الرياضة شيئاً و لا تؤثر فيهم أثراً، فكان وقوع الأمراض كثيراً في المدن و الأمصار و على قدر وقوعه كانت حاجتهم إلى هذه الصناعة. و أما أهل البدو فمأكولهم قليل في الغالب و الجوع أغلب عليهم لقلة الحبوب حتى صار لهم ذلك عادة. و ربما يظن أنها جبلة لاستمرارها. ثم الأدم قليلة لديهم أو مفقودة بالجملة. و علاج الطبخ بالتوابل و الفواكه إنما يدعو إلى ترف الحضارة الذين هم بمعزل عنه فيتناولون أغذيتهم بسيطة بعيدة عما يخالطها و يقرب مزاجها من ملاءمة البدن. و أما أهويتهم فقليلة العفن لقلة الرطوبات و العفونات إن كانوا آهلين، أو لاختلاف الأهوية إن كانوا ظواعن. ثم إن الرياضة موجودة فيهم لكثرة الحركة في ركض الخيل أو الصيد أو طلب الحاجات لمهنة أنفسهم في حاجاتهم فيحسن بذلك كله الهضم و يجود و يفقد إدخال الطعام على الطعام فتكون أمزجتهم أصلح و أبعد من الأمراض فتقل حاجتهم إلى الطب. و لهذا لا يوجد الطبيب في البادية بوجه. و ما ذاك إلا للاستغناء عنه إذ لو احتيج إليه لوجد، لأنه يكون له بذلك في البدو معاش يدعوه إلى سكناه سنة الله في عباده و لن تجد لسنة الله تبديلاً.
رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية

الكلمات الدلالية (Tags)
مقدمة, ابن, خلدون


يتصفح الموضوع حالياً : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


المواضيع المتشابهه للموضوع مقدمة ابن خلدون
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
حمل ادبية الخطاب النثري عند ابن خلدون مهند دراسات و مراجع و بحوث أدبية ولغوية 2 01-25-2014 09:28 PM
منظور ابن خلدون في اكتساب اللغة العربية عبدالناصر محمود مقالات وتحليلات مختارة 0 05-17-2013 06:06 AM
آراء ابن خلدون عن طبائع العرب جدل واختلاف Eng.Jordan مقالات وتحليلات مختارة 0 12-11-2012 08:27 PM
أصول الأدب العربي عند ابن خلدون Eng.Jordan أخبار ومختارات أدبية 0 09-11-2012 11:56 AM
مقدمة مقدمة في علوم القران محمد خطاب شذرات إسلامية 0 01-12-2012 08:54 PM

   
|
 
 

  sitemap 

 


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 06:50 AM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.12 by vBS
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والمشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59