#15  
قديم 05-06-2015, 07:11 AM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود غير متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 56,139
ورقة كفُّ الأقلامِ عن نقْد الأعلام!

كفُّ الأقلامِ عن نقْد الأعلام!
ـــــــــــــ

(إبراهيم الأزرق)
ــــــــــ


17 / 7 / 1436 هــ
6 / 5 / 2015 م
ـــــــــ



الحمدُ لله وبعدُ؛ فإنَّ نقْدَ الأعلام معتَركٌ زلِق، زلَّت فيه أقلامٌ، تلطَّخ كتَّابها بأعراضِ دعاة الأمَّة وأحبارها!
وأعني بالنقْد هنا حُزمةَ أقوالٍ أو أعمال تشمَلُ التنقُّص، أو الحطَّ من الرُّتبة، أو الوصفَ بما لا يليقُ، أو الجَرح والتوهين، الصَّريحَ أو المفهومَ من التعريض، وقد يدخلُ فيه شيءٌ من التفضيل، قال شيخ الإسلام رحمه الله: "وأمَّا تفضيلُ الأشخاصِ بعضِهم على بعضٍ، ففي كثير من المواضع لا يسلمُ صاحبُه عن قولٍ بلا علمٍ، واتِّباعٍ لهواه؛ فللشيطانِ فيه مجالٌ رَحْب"[1]. إنَّه مقام صعْبٌ لا يُحسِنُه إلَّا عالِمٌ قد استوى رأيُه، ولا يُنْصِف فيه من يُحْسِنه إلَّا مع التحرِّي والتَّقْوى، ومع ذلك فقد يُمْسِك عنه العاقلُ الراسخُ حَذَرَ تفريقِ شمْل أمَّةٍ مُجْتَمعة، أو تغييرِ قلوبٍ مؤتلِفَة. وأيًّا ما كان فهو شأنٌ لا يُحْسِن أن يخوضَ غمارَه في كثير من الأحيان إلَّا حَبْرٌ تَصْدُرُ عن رأيه العامَّةُ، مع تحرِّي المصلحةِ. وإلَّا فالأصلُ المقرَّر الذي ينبغي أن يَعمَل من أجله العقلاءُ هو توفيرُ قلوب الأمَّة على حبِّ علمائها، وتعظيمِهم، والرَّفْعِ من رُتْبَتِهم، ولا سيَّما في هذا العصر الذي تنافَس فيه المتنافِسون في الضَّعَةِ من الأعلامِ في شتَّى وسائل الإعلام! وحَسْبُ العاقلِ أن يحْجُزَه عن كثيرٍ من النَّقْد أن يَعلمَ حدَّ الغِيبة، وهو ذِكْرُك أخاك بما يكره! فكيف بِوَلِيِّ نِعْمَتِك وشيخِك أو مُعلِّمك، أو من له فَضْلٌ على الأمَّة، وقَدَمٌ سابقةٌ، حقُّها أن تُشْكَر!

مِضمارُ الأئمَّة الأعلام!
وقد كان شأنُ التجريحِ والموازَنَة والترجيح بين الأعلام شأنَ كبارِ الأئمَّة، لا يَصْدُر فيه عن رأيِ قِرْنٍ بل يُطَّرَح؛ فكيف بالغُمْر؟! وكان من تصدَّر له قبل أوانِه يجني على نَفْسِه كما فَعَلَتْ بَراقِشُ! وكم نال من متعَدٍّ لقَدْرِه متطاوِلٍ نصيبٌ من قَوْلِ القائل:
تَنِقُّ بلا شيءٍ شُيوخُ مُحاربٍ وما خِلْتُها كانت تَرِيش ولا تَبْري!
ضفادِعُ في ظَلماءِ ليلٍ تجاوَبَتْ فدَلَّ عليها صوتُها حيَّةَ البَحْرِ!!

"قال أبو الحارثِ: سمعْتُ أبا عبدِ الله غيرَ مرَّةٍ يقول: ما تكلَّمَ أحدٌ في النَّاسِ إلا سَقَط وذَهَب حديثُه، قد كان بالبصرةِ رجلٌ يُقال له الأفطسُ، كان يروي عن الأعمَشِ والنَّاس، وكانت له مجالسُ، وكان صحيحَ الحديثِ، إلَّا أنَّه كان لا يَسْلَمُ على لسانه أحدٌ، فذهب حديثُه وذِكْرُه".
وقال في رواية الأَثْرَم: وذَكَرَ الأَفْطَس واسمه عبد الله بن سَلَمة، قال: إنما سقط بِلِسانِه؛ فليس نسمَعُ أحدًا يَذْكُرُه.
وقال أبو زُرْعةَ: عبدُ الله بن سَلَمة الأفطس كان عندي صَدُوقًا، لكنَّه كان يتكلَّمُ في عبد الواحد بن زياد، ويحيى القَطَّان، وذُكِرَ له يونسُ بن أبي إسحاق، فقال: لا ينتهي يونُسُ حتى يقول سمعْتُ البراء. قال أبو زُرْعَة: فانظُرْ كيف يرُدُّ أمرَه، كُلُّ من لم يتكلَّمْ في هذا الشأن على الدِّيانة فإنما يعطب نفسَه، وكان الثوريُّ ومالكٌ يتكلَّمون في الناس على الدِّيانة فينفُذُ قولُهم، وكلُّ من يتكلَّم فيهم على غير الدِّيانة يرجع الأمرُ عليه"[2]، والديانةُ تقتضي أن يكون للمتكلِّم عِلمٌ، وأيُّ عِلم!

"قال حنبل بنُ إسحاقَ: سمعتُ يحيى بنَ مَعِينٍ يقول: رأيتُ عند مروانَ بنِ معاويةَ لوحًا فيه أسماءُ شيوخ: فلانٌ رافضيٌّ، وفلان كذا، ووكيعٌ رافضيٌّ!!
فقلت لمروانَ: وكيعٌ خيرٌ منكَ، قال: منِّي!
قلتُ: نعم!
فسكَتَ، ولو قال لي شيئًا، لوَثَبَ أصحابُ الحديثِ عليه"[3].
وتكلَّم الكرابيسيُّ في أقوامٍ هو دونَهم فشنَّع الأئمَّةُ عليه، وتمادى به الأمرُ حتى قَدَح في أحمد، فلَعَنَه ابنُ مَعينٍ[4]!
ولله!
ما كانَ أغنى رجالًا ضلَّ سعْيُهمُ عن الجِدَالِ وأغناهُم عَنِ الخَطْبِ!
فيا طالِبَ العِلْم! أقْصِرْ، ودَعْ مضمارَ الكبارِ لأهْلِه، وقل: لله درُّ الذَّرَّةِ؛ حيثُ قالت: (يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) [النمل: 18]!

المسلك الوعر!
ولئن كان مضمارُ الحديث في الأعلامِ مِضمارَ الكِبار، فهو مع ذلك صَعْبٌ وَعْر! دخله أعلامٌ فلم يسلموا، ما بين مخدوشٍ ناجٍ، ومُصابٍ بمصابٍ جَلَل! تكلَّم يحيى بنُ مَعين الإمامُ في أبي بدرٍ؛ شجاعِ بن الوليد، فدعا عليه، قال أحمدُ: فأُرَاه استُجِيبَ له[5]!
وانتقد فقهَ إمامِ أهلِ السُّنَّة والجماعة إمامُ أهْلِ التأويل، فقام عليه الناسُ، وما قعدوا حتى مات منكمِشًا في داره، مع ما أُثِرَ من اعتذاره[6]! ثم تلاه قومٌ حطُّوا من مذهبه وفِقْهِه، فما ضرُّوا غيرَ أنفسِهم بتجهيلِ العلماء لهم[7]!

وترمرم أبو جعفرٍ محمَّد بن عمرو بن موسى بن حمَّاد الإمام الحافظ الناقد، على بعض الأئمَّة، فتغشمَر عليه الذهبيُّ؛ حيث قال: "أفما لكَ عَقْلٌ يا عُقيليُّ؟! أتدري فيمن تتكلَّم"[8]! وحطَّ الدَّقَّاق على ابن طاهر، فقيل: "يا ذا الرجل! أقْصِرْ، فابن طاهر أحفظُ منك بكثير"[9]، وهذا القائل مع تحرِّيه للعدل والإنصاف في تراجم الأعلام قام عليه من طلَّابه من اطَّرَح معه من حقِّه نصيبًا، حتى قال: "لا يجوز أن يُعتمَدَ عليه"[10]، يعني في تراجم طائفة القائل، وقوله: (لا يجوز) يريد يَحْرُم! كما قاله في موضع آخَرَ مصرِّحًا: "لا يحِلُّ لمؤمنٍ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يعتمِدَ عليه"[11]، ومن العجائب أنِّي سمعْتُ بعض مشايخنا من محدِّثي هذا الزمان، يصف الإمام عينَه، باللِّين مع أولئك الـمُنْتَقَدِ باطِّرَاح أقدارِهِم! فلك الله يا عَلَم المؤرِّخين الأعلام! حاولْتَ الإنصافَ فاطُّرِحْتَ، وتفضَّلْتَ فما عُذِرْتَ!
ولله درُّ أحمدَ؛ حيث يقول:
ولم تزل قِلَّةُ الإنصافِ قاطعةً بين الرجالِ وإِنْ كانوا ذوي رَحِمِ!
وأمثالُ هذه الأخبار كثيرةٌ، وحَسْبُك من المُنَفِّرات عن نقد الأعلام هذا القَدْرُ! وإنما ذكرْتُه ليعْلَمَ الغُمْرُ أنَّه بانتصابه لهذا الشأن قد ركِبَ الطريقَ الوَعْر، واضعًا رِجْله في غَرْزٍ رَثٍّ، على مركَبٍ صَعْب، ولا غَرَض يُحْمَدُ لرَحْلِه! فلْيتهيَّأْ لتتابُعِ السَّقَطات! وإذا كان من الأئمَّة من رَكِبَ هذه القُحَمَ فما سلِم؛ فكيف بمن تزبَّبَ وهو حِصْرِم! ألا عاقِلٌ يَعتبرُ بأمثالِ مَن ذَكَرنا، أو بمن جَنَوْا على أنفسهم في واقعنا! فمزَّقوا الأمَّة ثم تمزَّقوا ونُبذوا، ولا يزال بعضُ من غَلُظَ حِسُّه يحاوِلُ تمزيقَ المُمَزَّق!

الميدان مطروق ولكِنْ من الطَّارق!
إنَّ العاقِلَ إذا تأمَّلَ ما تقَدَّم ساعَدَه ذلك على حَزْمِ لسانِه، وأمَّا المغرورُ فيسْهُلُ عليه أن يَصُفَّ نفسَه في رُتبة الأئمة، ثم يُمَوِّه فيقول: لم يَزَلْ مؤرِّخو الإسلام ينتَقِدون نُصحًا، ولم يزل دارسو السُّنَّة يُوَثِّقون ويطَّرِحون، ويتتبَّعون المروِيَّات ويَحْكمون.

ولَعَمْرُ اللهِ إنَّها كلمةُ حَقٍّ كثيرًا ما تُرْسَمُ في قِرطاس باطلٍ، ورُبَّ قولٍ حَسَنٍ لم يَحْسُن مِن قائله حين تسبَّب به إلى قبيحٍ! فلا المتحدِّثُ بلغَ رُتبةً تؤهِّلُه أن ينتصبَ ليَجْرَح ويُعَدِّل، أو يرفَعَ ويَضَعَ، لا من حيث العلمُ بالمنتَقَد الذي يُقوِّمُه، فلا هو لازَمَه، ولا وقف على جُلِّ تقريراته، ولا عَرَفَ مَنْزِعَه فيما بلغه منها، فضلًا عن أن يُدْرِك مُناقَشَته. ولا من حيث العلمُ بالشَّرْع، بل في كثيرٍ من الأحيان ما يفوِّتُ عليه هذا الشأنُ الذي أقحم نَفْسَه فيه تحصيلَ ما يليه من العِلْم الشرعيِّ الواجب –لا أقول الأَوْلى به- فتراه في قَدْحِ الأعلام إمامًا! وإذا ما عُرِضَت عليه أبوابُ الشَّريعة ينمَسِخ في عين البصير مُقَلِّدًا مجهولَ الهُوِيَّة! فلا تدري لأيِّ مذهب أو إمامٍ!

ثم هو مع قصور رُتْبَته لا يقتصِرُ فيما لجَّ فيه على التخيُّرِ والموازَنَة بين أقوالِ أهْلِ الشَّأن كما يصنع المشْتَغِلون بنقْد المرويَّات وتخريجها إذا عَرَض لهم بحثٌ في الرجال، بل ينتصب ناطحًا برأْسِه وناقدًا بنفسه ولا يبالي إن كان العُلماء أهلُ الشَّأن يُثْنُون على العَلَم ويرفعون مِن شَأْنه، وهو يحطُّ مِن قَدْره، أو لا! وعنده لكلِّ قولِ عالمٍ لا يُمكِنُه الطَّعْنُ فيه تأويلٌ!

وعادةً ما تجد هذا الناقِدَ مستعينًا في نَقْدِه بآلات مقلَّدة! يضعها في غير مواضِعِها! فالتتبُّع والاستقراء –الضَّيِّق المحدود- حاضِرٌ عنده! يحرث به أرضًا مزروعةً! يخالف به من العلماءِ من عاشر وناظر ولازَمَ وذاكَرَ ورأى من الأصول واستخرجَ من مكنونِ المنتَقَد ما لم يبلُغْ معشارَه هذا الناقِدُ المستقرئُ! وقريبٌ من هذا التهوُّر في استخدام آلةٍ كَلِيلةٍ! ما أحدثه بعضُ المتأخِّرين من أدعياءِ بُحوثِ الرِّواية الأَثَرية! يعارِضُ بدعوى التتبُّع والاستقراء! أقوالَ الأئمَّة الذين عاينوا الأصولَ ووقفوا على عِلَلِها، وبلَغَهم منها ما لم يبلُغْنا، قبل أن يفحش الغلط فيها مع تقادُمِ الزَّمَن!

من أسباب الضلال في هذا الوادي!
ومن أسبابِ العمى عن الهُدى في مسالِك النَّقْد ومجاهِلِ الحديث في أعراض الناس! كونُ الدَّاخِل فيها كثيرًا ما يُزَيَّن له مَسْلكُه فيَحْسَب أنَّه ناصِحٌ مُصْلح، ويصرفه الهوى عن إبصارِ أَثَر ذلك النُّصْح والإصلاح المتوهَّم في واقعه، وكيف أفسَدَ!
ثم يُحجَبُ قلبُه عن مشاهدة النصيحة الموجَّهة إليه، يستُرُه غِشاءٌ رقيقٌ من استطالة بعض المخالفينَ عليه، فيجمَعُ إليه النُّصحَ والإنكارَ الشرعيَّ ويَعُدُّ جميعَ ما توجَّه إليه إقذاعًا وفُحشًا، فيُعْرِض عنه، أو يطلُبُ الانتصارَ منه.

ولا تعجَبْ إنْ رأيتَه يتشبَّثُ بأدنى كلمةٍ قِيلَت فيه، غيرَ عابئٍ بما يُسَوِّده من نقْدٍ وحَطٍّ على أعلام كبار أو مناهجَ برُمَّتها! لا عجب! فعَيْنُ الهوى لا ترى على كلِّ حالٍ نفْسَها! وما أسهلَ أن ترى القَذَى في مُقْلَةِ غيرِها!
ولئن كان الإمامُ ابنُ حزم –رحمه الله- يقول في رَدِّه على الهاتف من بُعْد! "أمَّا استعاذَتُه بالله من سوء ما ابتلانا الله به -فيما زعم- من الطَّعْن على سادَةِ المسلمين، وأعلامِ المؤمنين، وقَذْفنا لهم بالجهل، .. فلْيَعْلمِ الكذَّابُ المستَتِرُ باسمه، استتارَ الهِرَّة بما يخرج منها، أنه استعاذ بالله تعالى من معدومٍ"[12]! فلا تعجَبْ بعدها ممن دونه إنصافًا وعقلًا أو ذكاءً وفَهْمًا!

خلاصة!
عَوْدًا إلى الغرض! أقول: لئن كان شأْنُ الجَرح والتعديلِ عظيمًا، لا ينتصِبُ إليه كلُّ أحدٍ؛ فكذلك شأنُ تقويم الأعلام وُحْدانًا أو زرافاتٍ! ولاسيما إن كانوا أئمَّةَ عَصْرهم، وهُدَاة مِصْرهم.. ولا ينبغي أن يخفى على ذي عقْل هنا أني لا أتحدَّث عن البَحْث العِلْمي في مسألة، أو بيانِ الحَقِّ في نازلةٍ؛ فهذا سبيلُ الرَّشَاد لمن أراد الإصلاحَ، بل قصدي التَّنفيرُ من أصْلِ النَّقْد والتقويم إذا صدر من غُمْرٍ تجاه حَبْر، ما لم يكن تعويلُه في ذلك على أقوالِ الأئمَّة مقلِّدًا بعضَهم ديانةً، أو مرَجِّحًا بينها إن كان ذا نَصَفَة له آلة! ويَحْضُرني في هذا الصَّدَد نقدٌ طرأ بأُخَرَة على بعض أعلامِ السُّنَّة في الغابِرِ والحاضر، من أقوام نبتوا في دَبر الزمان قريبًا من قيام الساعة! بعيدًا عن العُصُور المُشْرِقَة بشمسِ الرسالة، فتصدَّرَ قومٌ لرَدِّه، وكان مما رعى انتباهي تسليمُهم مبدأَ نَقْد من قَصُرَت رتبتُهم عن رتبة العلماء للأئمة! وهو المسلك الوَعْر الذي يجب أن يُمْنَع! وأن يصان الناسُ عنه، ويقال لمرتكبه: يا غلامُ! إيَّاك إيَّاك، وليس لك إمامٌ! فهذا الشأنُ له أهلُه، مردُّه إلى مَنْ أمرَ الله بالرَّدِّ إليهم، وأوجَبَ صدورَ العامَّةِ عنهم، وأمَّا أنت فلست أهلًا أن يُؤخَذَ هذا عنك، وإن قُدِّر أنَّك أهلٌ للتقويمِ عالِمًا مُنصِفًا! فنهايةُ أمْرِكَ تفريقُ شَمْلٍ وإثارةُ ضِغْن، فحقيقٌ زَجْرُك، و"إنَّ سكوتَ العلماءِ على ذلك زيادةٌ في الوَرْطَة، وإفحاشٌ لأهل هذه الغَلْطة.. فحقٌّ على أساطينِ العِلْم تقويمُ اعوجاجِك، وتمييزُ حُلْوِك من أُجاجِك؛ تحذيرًا للمُطالِعِ، وتنزيلًا في البُرْجِ الطَّالع"!

والحمد لله ربِّ العالمينَ.

--------------------------
[1] الرد على الإخنائي ص185.
[2] الآداب الشرعية لابن مفلح 2/142-143، والنقل مثبت في سؤالات البرذعي لأبي زرعة ص329.
[3] تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر 63/97-98.
[4] انظر ميزان الاعتدال 2/300 (2797) ترجمة الحسين بن علي الكرابيسي.
[5] أبو بدر هو شجاع بن الوليد بن قيس السَّكُوني، قال سفيان الثوري: ليس بالكوفة أعبد منه، وكان له مكان عند الإمام أحمد، وانظر جواب الحافظ المنذري عن أسئلة في الجرح والتعديل بتحقيق أبي غدة ص43، وكذلك ترجمة أبي بدر في تهذيب الكمال 12/386.
[6] انظر الكامل 6/171، والبداية والنهاية 11/145، وغيرهما ممن ترجم للإمام ابن جرير.
[7] انظر كلام ابن عقيل والذهبي في السير 11/321 –الأرناؤوط.
[8] لسان الميزان 3/140.
[9] سير أعلام النبلاء 19/364.
[10] انظر طبقات الشافعية الكبرى للسبكي 2/13.
[11] انظر معيد النعم ومبيد النقم ص74، ومن عجيب ما فيه أن اطراح قول التلميذ في شيخه هذا واجب على قاعدته!
[12] رسائل ابن حزم 3/119.
-------------------------------------
رد مع اقتباس
  #16  
قديم 05-20-2015, 08:55 AM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود غير متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 56,139
ورقة تجني كتاب (ما بعد السلفية) على الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب ودعوته

تجني كتاب (ما بعد السلفية) على الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب ودعوته
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(د. شادي النعمان)
ــــــــ

2 / 8 / 1436 هــ
20 / 5 / 2015 م
ــــــــــ



الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

فقد كنت أجبت على بعض الإخوة السائلين عن كتاب (ما بعد السلفية) جوابا مجملا عن رأيي في الكتاب، فطلب مني بعض الإخوة أمثلة تفصيلية لبيان سبب رأيي السلبي في الكتاب، والحق أن ثلة من المشايخ وطلاب العلم ممن هم أعلم وأجدر مني قد بدؤوا في تناول الكتاب عرضا وردا لبعض ما فيه، فهم أولى بالقيام بذلك، وسأكتفي حاليا بتناول فصل واحد من الكتاب ، وهو تناولهم للإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ولدعوته، باختصار شديد، لأن الأمر أوضح من أن يوضَّح في نظري.
وأرجو أن يكون هذا كافيا في بيان سبب رأيي السلبي في الكتاب، فسيلاحظ القاريء أن الفصل الذي تعرض فيه المؤلفان لدعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب لا تكاد تخلو منه فقرة مما يُرد عليهما ويناقشان فيه، بل قد لا تمر على القاريء عبارة إلا ويتوقف فيها، وهذا سبب قولي بأن الكتاب أقرب إلى مقالات الجرائد المرتجلة منه إلى كتاب علمي موثق.
تنبيه: بعض المسائل المذكورة هنا سيجدها القاريء بتوسع في كتابي (الانتصار للدرر السنية وأئمة الدعوة النجدية) وسيصدر قريبا بإذن الله، فيرجى ضم الكتاب المذكور إلى هذا المقال في القراءة لوضوح الصورة أكثر، فهذا المقال المطوّل هو مجرد تعليقات على مواضع من الكتاب.

وسأستخدم أحيانا تعبير (الكاتب) وأقصد به المؤلفَين سددهما الله.

وهذا أوان البدء في المقصود:
أولا: يقف القاريء في أول صفحات الكلام على دعوة الشيخ على مصطلح (الوهابية) ثم يستمر معه هذا المصطلح خلال البحث مرات عديدة، يتناوله الإخوة وكأنه مصطلح مُسَلَّم به لا إشكال فيه، وهذه إحدى إشكاليات أزمة المصطلحات في الكتاب التي ذكرتها في رأيي المجمل في الكتاب.
هذا المصطلح مَن أنشأه ومَن استعمله ومَن أذاعه ونشره؟ الجواب: أعداء دعوة الشيخ ثم تلقفه بعض الباحثين فصنفوا الشيخ ودعوته ككتلة مستقلة ليستطيعوا بعد قطعها عن أصلها توجيه سهامهم وطعوناتهم إليها -وهو عين ما فعله الإخوة كما سيأتي-.
فتقرير هذا المصطلح واستخدامه وكأنه مصطلح مُسَلَّم به، علينا أن نرضى به ونقبله، هذا أمر مرفوض.
وأهم أسباب رفضه بعد كونه لا يُمثل واقعا، هو ما يترتب عليه كما أشرنا إليه وسنبينه.
فإن قيل: مؤرخ الأفكار الذي مهمته عرض الصورة كاملة لهذه المرحلة، كيف يصنع هنا؟
نقول: تؤرخ لنا دعوة الشيخ كالتالي: محمد بن عبد الوهاب ظهر في القرن الفلاني ، دعا الناس إلى كذا وكذا، ارتكزت دعوته على الأصول التالية..، وعادته طوائف رفضته ورفضت دعوته، واتهموهم بالإتيان بمذهب خامس، وأطلقوا عليه وعلى أتباعه مصطلح الوهابية، وهو مصطلح لا يقبله أتباع الإمام أنفسهم.
هذه صورة كاملة واضحة ومختصرة تماما قدمها لنا مؤرخ الأفكار ثم على القاريء أن يتوسع وينظر مع مَن كان الحق، وهل بالفعل جاء محمد بن عبد الوهاب بشيء جديد واستحق هو وأتباعه أن ننشيء لهم مصطلحا جديدا...إلخ.
ثانيا:
(قال الكاتب: تحرص بعض فصائل السلفية المعاصرة على عدم الانتساب للوهابية لأسباب..إلخ.) ص174
بعد تقرير مصطلح (الوهابية) وكأنه أمر واقع ينطبق على طوائف من الناس، يبين لنا الكاتب أن هناك (بعض) السلفيين لا يقبلون هذه النسبة.
وهنا نسأل: ومَن هم البعض الآخر من السلفيين الذين يقولون نحن اسمنا الوهابية، وننتسب إلى الوهابية؟ هذا شيء لم أسمع به، فإذا كان موجودا أرجو أن يُبَيَّن لي.
ثالثا:
(بدأ الكاتب يبين أسباب أن بعض فصائل السلفيين تحرص على عدم الانتساب للوهابية، فقال: أولا: سبب شرعي، يرجع لكونهم يخالفون الدعوة (الوهابية) في بعض القضايا مثل مسألة الإعذار بالجهل..إلخ.)
وهنا نسأل -بغض النظر عن المسائل المذكورة فسيأتي التعليق عليها- : بما أن السلفيين الذين يخالفون الإمام في هذه المسائل يرفضون هذه التسمية، هل السلفيون الذين يوافقون الإمام في هذه المسائل يقبلون أن يُقال عنهم : وهابية؟!
(قال الكاتب: السبب الثاني : سبب سياسي، حيث يريد هؤلاء تفادي الدخول تحت اسم يستعمل في تشويههم والتضييق عليهم..إلخ)
وهنا نسأل السؤال نفسه: والسلفيون الذين لا تسبب لهم هذه التسمية أي مشاكل سياسية هل يقبلونها فيقولون: نحن وهابية؟!
ثم قال الكاتب: (وبعض التيارات السلفية يرفض هذا الانتساب بسبب أن دعوة محمد بن عبد الوهاب –في نظره- هي نفس دعوة الإسلام فلا داعي للتمييز بالانتساب لها).
وهنا أعود لنفس السؤال: ومَن هذه التيارات السلفية التي تقابل هذا التيار المذكور فترى أن دعوة الشيخ ليست هي نفسها دعوة الإسلام فتقبل التمييز بالانتساب لها؟!
ثم قال الكاتب: (ونلاحظ أن حالة من الإنكار يتبناها التيار حين يأتي تصنيفه من شخص خارج)
هنا نسأل: هب أن هذا التصنيف جاء من شخص من داخل السلفية وهذا لا وجود له، لكن إن وجد، هل يقبله السلفيون بما أنه ليس من شخص خارج؟!
ثم تمم الكاتب عبارته فقال: (ونلاحظ أن حالة من الإنكار يتبناها التيار حين يأتي تصنيفه من شخص خارج أو بما يوحي ان أصوله ليست مستمدة من الوحي مباشرة، حيث يبدو ذلك وكأنه تنقيص من حظ هذا التيار من الشرعية أو الصوابية المطلقة التي يسعى إليها..ثم ذكرا أنه لا إشكال في الانتساب للأشخاص إذا كانوا مرجعية فكرية فلماذا السلفيون لا يقبلون ذلك)
هنا نقول:
أ: إذا كانت عقيدتنا مأخوذة من السنة النبوية وهي (وحي معصوم)، فانتسبنا إليها وقلنا: أهل السنة، وإذا كان فهمنا للوحي نستمده من فهم السلف من صحابة ومن تابعهم (وهو-أي فهمهم- أمرنا الوحي بالتقيد به) ، فانتسبنا لطريقتهم، فما حاجتنا بعد ذلك للانتساب لإمام (غير معصوم) عاش في القرن الثاني عشر أو قبله أو بعده!!
ب: الأئمة الذين نعتقد أنهم أئمة هدى عبر القرون بالمئات ، فإلى مَن ننتسب من بين هؤلاء؟ هل نقول نحن بكريون أم عمريون أم عثمانيون أم علويون أم ثوريون أم أوزاعيون أم تيميون أم وهابيون أم ألبانيون أم أم أم ....
لماذا لا ننتسب إلى المنبع الأول الذي يستقي منه كل هؤلاء؟
والتوسع في رد هذا الكلام ليس هذا مقامه، حيث خصصت كلامي للكلام حول الإمام محمد بن عبد الوهاب.
(ثم ذكرا أنه حتى السلفيين إذا قالوا نحن نرجع إلى الكتاب والسنة فيقيدون ذلك بفهم السلف ففي نهاية الأمر يرجع القول إلى وجود مرجعيات وسيطة بين الوحي والسلفيين في كل حال..إلخ)
أقول وهذا الكلام –وأرجو مراجعته في الكتاب - من أخطر وأسقط ما في هذا الكتاب ويحتاج ردا مستقلا، أقصد القول بأن الانتساب لفهم السلف وجعله واسطة بيينا وبين الوحي مثله مثل الانتساب للأشخاص وجعلهم واسطة بيننا وبين الوحي.

كل ما تقدم يبين لك أزمة مصطلح واحد من مصطلحات الكتاب وأن الإخوة يتعاملون مع المصطلح وما يبنونه عليه وكأنه أمر بدهي، وعند أقل نظر تجد أن المصطلح وما بني عليه وما دار حوله من كلام كل هذا ساقط لا معنى له بل لا وجود له.

وقبل أن أغادر هذا المقام، إذا قال قائل أنا كمؤرخ أفكار كيف ترى أن أعرض هذه القضية؟
قلنا له تبين الواقع وهو أن كل السلفيين يُجلون الإمام ويعرفون له قدره، ولكنهم لا ينتسبون للأشخاص، وبعض علماء السلفيين قد يخالف الإمام في مسألة أو اثنين أو عشرة، كما يخالف غيره من الأئمة، فلا إشكال في ذلك ما دامت المسائل المختلف فيها تدور داخل دائرة أهل السنة والجماعة.
أما تصوير المسألة بصورة تيارات ووهابيات والذي يوافقه يقول أنا وهابي والذي يختلف معه لا يقول انا وهابي، هذا كله لا وجود له.

رابعا:
بعد أن انتهينا من أزمة مصطلح الوهابية وكل الكلام الذي دار حوله مما لا وجود له في الواقع، ننتقل إلى القضية الأخطر في تناول دعوة الإمام.
قال الكاتب:
(السؤال الأكثر حضورا عند تحليل الدعوة الوهابية)
قلت لاحظ معي (الوهابية ) مرة أخرى.
قال (السؤال الأكثر حضورا عند تحليل الدعوة الوهابية كتحقق من تحققات السلفية: هو ما مدى صدق تمثيل الدعوة الوهابية للسلفية المنهج الذي كان عليه إجماع الصحابة)؟
قلت: لاحظ معي الآن قطع دعوة الشيخ من الجسد الإسلامي وجعلها دعوة (وهابية) ينبني عليه التعامل معها ككتلة مستقلة لا علاقة لها بما قبل وما بعد، والآن سيجتهد الكاتب في أن يُبين لنا هل لها علاقة أم لا بما قبلها؟

(قال الكاتب:
والإشكال الأساسي الذي يظهر عند محاولة الإجابة على هذا السؤال هو أن محور الدعوة الوهابية أعني: اعتبار بعض الأفعال الشعائرية الموجهة للأولياء والقبور كفرا وتكفير فاعليها وقتالهم=كل هذا ظاهرة لم تحدث زمن صحابة النبي صلى الله عليه وسلم...ولم تبدأ هذه المظاهر في العودة كظاهرة يرتكبها مسلمون ويزعمون شرعيتها إلا بعد أربع قرون كاملة أو يزيد)
وقبل أن نخوض في رد هذا الكلام ننبه على شيء:
الإمام محمد بن عبد الوهاب وجد في وقت امتلأت فيه الدنيا بالاستغاثة بغير الله والتوجه للقبور والصالحين والخضوع والذل والحب التعبدي للأموات ومرت قرون وهم على حالهم هذا ووو..إلخ، ثم بفضل ما أجراه الله على يديه انقلب الحال من حال إلى حال فها هي الديار السعودية رمز من رموز توحيد رب العالمين، وها هي دعوة الشيخ تملأ الآفاق في كل أرجاء الدنيا عادت بقلوب المسلمين إلى خالقها متوجهين خاضعين متذللين خائفين راجين داعين مخلصين في ذلك كله لربهم الذي خلقهم.
هذا هو المدخل الذي نطالب كل من تناول دعوة الشيخ ونقدها أن ينصفه فيه، دعونا الآن من التكفير ودعونا من القتال ، نريد إجابة على هذا السؤال:
رجل أجرى الله على يديه كل هذا الخير وعاد ملايين المسلمين بقلوبهم إلى ربهم وهجروا القبور والأضرحة بفضل دعوته،
ومئات المنتسبين للعلم غيره عبر القرون مروا على ما كانوا يرونه من مخالفات مرور الكرام وتركوا الناس عند الاضرحة والقبور خاضعين متذللين كما نراه إلى اليوم عند القبورية.
أنبؤونا بعلم:
هل الأول لا يكون مجددا من المجددين في الإسلام والثاني هو المجدد؟؟
هل الأول الذي عاد بالمسلمين إلى ما كان عليه القرون الأولى حتى بنص الكاتب، لما ذكر ان مظاهر القبورية لم تظهر إلا في القرن الرابع، وهذا كلام صحيح. هل هذا هو من يُشك في تحقق السلفية فيه، والثاني هو الذي نجزم بثبوت السلفية له؟
الذي أريد أن أقوله هنا أن اختزال الشيخ ودعوته في التكفير القتال ، كما يفعل أعداء الدعوة والمتأثرين بهم هذا لا نقبله، وهو أمر مرفوض لمخالفته للإنصاف.
وهذا ما فعله الإخوة هنا، أول صفحة عن دعوة الشيخ هي في الوهابية في الحديث على المصطلح وقد بينا سقوطه، ثم دخلوا في التكفير والقتال، وكأن الإمام ودعوته هي (وهابية)+(تكفير)+(قتال).
أما هذا الخير العظيم الذي جرى على يديه فهذا لا يخص مؤرخ الأفكار، بل ولا علاقة له بتحقيق القضية التي أثاروهي: هل السلفية متحققة فيه أم لا؟!
بعد هذا المدخل أريد أن نتأمل في عبارة الكاتب:
(قال الكاتب:
والإشكال الأساسي الذي يظهر عند محاولة الإجابة على هذا السؤال هو أن محور الدعوة الوهابية أعني: اعتبار بعض الأفعال الشعائرية الموجهة للأولياء والقبور كفرا)
هنا نقول: نحن عقولنا على قدنا ولا نفهم ما معنى (أفعال شعائرية) فلو بينوا لنا، هل هذه الأفعال الشعائرية (عبادات) يُتوجه بها لغير الله، أم ليست عبادات، فلا ثالث لهذه القسمة.
فإذا كانت عبادات فهل عندهم إشكال في أن التوجه بالعبادة لغير الله كفر.
إذا قالوا: لا، فما هو الإشكال إذن.
إذا قالوا : نعم نحن نخالف في هذا الأصل أن التوجه ببعض أنواع العبادة لغير الله كفر، قلنا: إشكاليتكم إذن لا علاقة لها بالإمام ولا بالدعوة النجدية بل هي أبعد من هذا بكثير.
(قال الكاتب متمما: اعتبار بعض الأفعال الشعائرية الموجهة للأولياء والقبور كفرا وتكفير فاعليها وقتالهم)
نقول: هل عندكم إشكالية في تنزيل حكم الكفر على من وقع في الكفر بعد استيفاء الشروط وانتفاء الموانع وبضوابط عند العلماء؟
فإن قالوا : لا. قلنا: فما الإشكال إذن.
فإن قالوا: نعم. قلنا فمشكلتكم ليست مع الإمام ودعوته بل هي أبعد من ذلك كله.
ونقول: هل عندكم إشكال في قتال الكفار بشروط وضوابط؟
فإن قالوا :لا. فما الإشكال إذن.
وإن قالوا: نعم. قلنا فمشكلتكم ليست مع الإمام ودعوته بل هي أبعد بكثير.
قال الكاتب: (فحتى ميزة إيجاد أقوال وتصرفات للصحابة يمكن ربطها بمحكم الوحي والتي يتم بناء العقائد السلفية بها وربطها بالصحابة عن طريقها لا تبدو متاحة هنا وغاية ما يملكه الوهابية أربعة أمور:
الأول : نصوص الوحي في منع صرف العبادة لغير الله وأنه شرك وتحقيق مناط هذا الصرف وأنه يصدق على الاستغاثة بغير الله.
الثاني: نصوص ابن تيمية في أن الاستغاثة شرك وكفر...)
ولنا على هذا الكلام ملاحظات:
أ: إذا كانت نصوص الوحي كتابا وسنة صريحة في وصف صرف العبادة لغير الله بالشرك، ووصفت صرف بعض أصناف العبادات لغير الله بالشرك، وأمرت بتوحيد الله في الدعاء والاستغاثة والاستعانة والتوكل والنذر والذبح، والتوحيد لا يقابله إلا الشرك، وجاءت أفعال القرون الأولى على هذا الأساس لا أضرحة ولا قباب ولا دعاء لغير الله ولا استغاثة بغير الله ولا ذبح لغير الله لمدة 300 سنة او تزيد، وجاءت أقوالهم في تفسير آيات التوحيد والشرك وهي كثيرة في تفسير عبد الرزاق وتفسير ابن جرير وغيره من التفاسير الأثرية في أن التوحيد هو العبادة وشارحة للآيات على ظاهرها الواضح الذي يفهمه كل عربي، من أن صرف الدعاء لغير الله وغيره من العبادات شرك...
هل يُعقل بعد كل هذا أن يأتي واحد يقول: غاية ما عند الوهابية نصوص الوحي ثم يقفز لنصوص ابن تيمية، أما التحقق السلفي فغير موجود ؟
إذا كانت مثل هذه المسألة (أن صرف العبادة لغير الله شرك) ليس لها تحقق سلفي، فما هي المسألة التي لها تحقق سلفي؟!
كيف يقال لا نجد عند الصحابة أقوال وأفعال نربطها بالوحي في هذا الباب، وحدثاء العهد بالكفر الذي قالوا لنا اجعل لنا ذات أنواط، فقال : لقد قلتم كما قال بنو إسرائيل لموسى (اجعل لنا إلها)، ونهيهم عما هو دون الشرك الأكبر كالحلف بغير الله وقولهم (ما شاء الله وشئت) ووصفه بالتشريك ، ولما مات صلى الله عليه وسلم لم يبرزوا قبره حتى لا يتوجه له الناس، وغير ذلك من أدلة يعرفها كل من درس ألف باء عقيدة، وبتعهد النبي صلى الله عليه وسلم لهم اختفت مظاهر الشرك لقرون بعدهم ، ثم نقول: لا يوجد أقوال وأفعال عند الصحابة نربطها بالوحي في هذا الباب؟
تنبيه آخر:
(قولهم: الأول : نصوص الوحي في منع صرف العبادة لغير الله وأنه شرك وتحقيق مناط هذا الصرف وأنه يصدق على الاستغاثة بغير الله.)
قولهم : وتحقيق مناط هذا الصرف وأنه يصدق على الاستغاثة. هذه العبارة كذلك غير مستقيمة، فالوحي جاء صراحة بأن صرف العبادة لغير الله شرك، وأن صرف الدعاء (ومنه الاستغاثة) لغير الله شرك، وأن الدعاء بكشف الضر (وهو الاستغاثة) لغير الله شرك، فلماذا جعلا الحكم على أن الاستغاثة شرك وكأنه عمل اجتهادي من الإمام خَرَّجه على أصل عام. فيفتحان بابا لمن يريد القول: بل لا يصدق على الاستغاثة.
تنبيه آخر:
تكرارهم وربط كلامهم بالاستغاثة بغير الله لا أدري ما سببه، ويظهر لي أنهما أرادا الهروب من عبارة (صرف العبادة لغير الله) التي هي أصل المسألة ورأسها، لتهوين كلامهم في عين القاريء.
ثم قال الكاتب:
(وبعد إثبات الوهابية أن هذه الأفعال شرك اعتمادا على ابن تيمية بصورة أساسية..)
قلت: لاحظ كيف بدأ الكاتب بأن إثبات أن هذه الأفعال شرك هذا مأخوذ من نصوص الوحي، ثم ابن تيمية، وليس له تحقق سلفي في زمن الصحابة.
والآن حتى نصوص الوحي ضاعت، فهذا الكلام مأخوذ من ابن تيمية بصفة أساسية.
وهنا أسأل أي دارس مبتديء في العقيدة: هل درست كتاب التوحيد، الذي هو أجل مصنفات الشيخ في الباب؟ في كم مسألة اعتمد الشيخ فيها على نصوص ابن تيمية في هذا الكتاب؟
هل يعقل بعد كل الحشد لنصوص الوحيين وآثار الصحابة في كتاب التوحيد، أن يقال أن الوهابية يثبتون أن هذه الأفعال شرك اعتمادا على ابن تيمية بصفة أساسية.

تنبيه آخر:

نقول أن الإمام محمد بن عبد الوهاب تحدى مخالفيه أن يأتوه بنص واحد عن الأئمة المعتبرين في كل عصر ومصر وعن أي مذهب من المذاهب الأربعة المشهورة بقول يخالف ما يقوله من أن هذه الأفعال وصرفها لغير الله شرك وساق في هذا السياق عددا كبيرا من النصوص من جميع كتب المذاهب لجمع من العلماء وهذا أمر مشهور معروف لمن قرأ تراث الشيخ وائمة الدعوة النجدية، ويطالب القاريء بالرجوع للمجلد الأول من الدرر السنية ويمر عليه لينظر بنفسه.
وفي سياق حشد الشيخ لأقوال العلماء لاشك انه احتفى احتفاء خاصا بكلام شيخ الاسلام ابن تيمية لأنه من المجددين في هذا الباب وغيره.
لكن المقصود هنا أن ربط مسائل الشرك والتوحيد بابن عبد الوهاب وبابن تيمية قبله وافتعال هذه القطيعة مع القرون الأولى كلها هذا كله مخالف للحق والواقع.

ثم قال الكاتب:
(وبعد إثبات الوهابية أن هذه الأفعال شرك اعتمادا على ابن تيمية بصورة أساسية انتقل الوهابية إلى مرحلتين تاليتين زمن الشيخ محمد بن عبد الوهاب بعد توحده مع محمد بن سعود أمير الدرعية:
الأولى: التبيين وإقامة الحجة على المرتكبين لهذه الأفعال...
الثانية: قتال أهل البلاد والقرى التي لم تستجب لهم قتال مشركين..
هذا ملخص شديد التركيز لهذا التحقق التاريخي للسلفية يحمل السيف من أجل نشر عقيدته ويعتبر انه ينشر الإسلام وأن مخالفيه مشركون معادون للإسلام)
قلت: بل هذه قصة خيالية من نسج أفكارهم تلقفوها من اعداء الدعوة، وقصة دعوة الشيخ باختصار شديد هي كالتالي:
(ظهر محمد بن عبد الوهاب في نجد يدعو الناس إلى التوحيد ونبذ الشرك، فكفره الناس في زمانه واتهموه بالإتيان بدين جديد ، وسموا مذهبه بالمذهب الخامسي، وطاردوه وقاتلوه واستحلوا دمه وماله ودماء وأموال الموحدين، فقيض الله له من وقف إلى جانبه بالسيف، فبدأ القتال دفاعا عن نفسه وأتباعه، وردا على من أغار عليه لوقف شرهم، وبدأ المستضعفون من الناس في نجد يصرحون بأن ما عليه محمد بن عبد الوهاب هو الحق، وانقسمت نجد إلى حزب الموحدين وحزب المنتصرين لما عليه الآباء والأجداد من الشركيات، وبعد أن كانت القبائل النجدية تتقاتل لأمور الدنيا من أتفه الأسباب ولم تعرف الاستقرار يوما، إذ بها تتقاتل اليوم على إعلاء كلمة الله ونشر التوحيد أو نشر الشرك وإعلاء كلمة أهله، فكتب الله الغلبة لحزب الله الموحدين، وخضعت لهم الديار النجدية، ونشروا التوحيد وعاشت نجد تحت ولايتهم في أمان لم تعرفه لقرون سبقت لازال آثار هذا الأمان مستمرا إلى زمان الناس هذا)
هذه هي قصة هذه الدعوة المباركة التي شوهها أعداؤها وجاء اليوم يشوهها بعض المنتسبين لأهل السنة، وأنا أناشد كل من استقرأ تراث الدعوة النجدية وتاريخها أنه إذا وجد في هذا العرض لدعوة الإمام خللا تاريخيا أن يبينه لي وأنا راجع عنه.
فمن يتحدث عن أن محمد بن عبد الوهاب هذا رجل اعتنق فكرة ثم خرج يقاتل الناس عليها لينشر دعوته على أنه ينشر الإسلام (على حد تعبير الإخوة) فقد عرض قصة الدعوة عرضا مقلوبا فجعل المظلوم ظالما والمجني عليه جانيا.

وبعد هذا العرض نقول لما صارت الغلبة والولاية في الديار النجدية لمحمد بن عبد الوهاب ومن أعانه ودخلت الدعوة في مرحلة الذيوع والانتشار أليس من واجبات أهل الولاية هؤلاء تبيين الحق للناس وبيان التوحيد الصحيح لهم، وإقامة الحجة عليهم، إذا لم يكن هذا من واجبات أهل الولاية فماذا واجبهم إذن؟
فإذا امتنعت طائفة تحت ولايتهم عن التوحيد وأصرت على الشرك وقاتلت عليه بعد إقامة الحجة فهل لمن له الولاية أن يقاتل هذه الطائفة قتال مشركين أم لا؟
تخيل معي في هذا الزمان أهل بلدة في السعودية رفضوا التوحيد وجعلوا الشرك دينهم وأرسل لهم الحاكم بمن يقيم عليهم الحجة ويشرح لهم التوحيد فامتنعوا وقاموا يقاتلون عن ذلك؟
هل يشك عاقل أن هؤلاء يقاتلون لامتناعهم عن التوحيد، يقاتلهم من له الولاية.
فأنا إلى وقت الناس هذا لم أستوعب ما وجه الإشكال في أن يقيم من له ولاية في منطقة ما على الناس الحجة الرسالية على التوحيد فإن امتنعوا قاتلهم على ذلك.
وما وجه الإشكال في أنه إذا أغارت دولة مشركة على دولة مسلمة فإن هذه الدولة المسلمة لها الحق في قتال الدولة الكافرة وغزوها.
قس على الدول الآن القبائل والأسر النجدية فواقعهم هو نفسه واقع الدول، كل قبيلة تفرض بسطها بالقوة والنفوذ على ما تستطيع، فمحمد بن عبد الوهاب ومن معه تم الاعتداء عليهم وغزوهم وقاتلوه لدينه، فرد الغزو بغزو، ولكنه قبل القتال يقيم الحجة فيبدأ بجهاد الحجة والبيان قبل السيف والسنان.
هذا هو واقع الدعوة النجدية، ما هو الإشكال الشرعي في هذا كله ؟ لا أدري.
ما علاقة هذا كله بجماعات التكفير التي تخرج داخل دولة مسلمة فتكفر الناس وتسفك الدماء؟ لا أدري.
ثم قال الكاتب:
(والاعتراضات الشرعية الأساسية الموجهة لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب...ثم ذكر أربعة اعتراضات تدور في فلك أن هذه الأفعال التي حكم عليها الشيخ بأنها شرك ليست شركا وتخطئته في تكفير المعينين ..إلى أن قالا بعد سرد الاعتراضات: وليس موضوع بحثنا تحليل هذه الاعتراضات ومدى صحتها من خطئها...)
وهنا نقول:
سرد الاعتراضات التي هي شبهات حول دعوة الشيخ هذا يدخل في موضوع بحثهم، وسرد ردود أئمة الدعوة على هذه الاعتراضات والتي ملؤوا بها كتبهم ومؤلفاتهم وشبعوا ردا عليها، هذا ليس من موضوع بحثهم فإنما هما مؤرخان للأفكار.
ثم جاء الكاتب بطامة كبرى بعد كل هذا التخليط فقال:
(هل يمكن القطع بإثباته –أي قول الشيخ بأن تلك الأفعال كالاستغاثة بغير الله شرك- للسلف، وبالتالي يكون معتقدا سلفيا ويخرج المخالف من السلفية؟
الجواب: ليست هذه وظيفة مؤرخ الأفكار وإنما هذا بحث الفقيه والكلامي)
بعد كل هذا العرض المشوَّه المجتزأ لدعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب تذكرا أنهما مجرد مؤرخين للأفكار، ومتى تذكرا؟
في الجواب على سؤال بدهي من مسلمات الإسلام وليس من مسلمات السلفية فحسب؟!
رجل يدعي السلفية ويقول بجواز صرف العبادة لغير الله، هل نستطيع أن نقول أنه ليس سلفي؟
لا نحن مؤرخان فلا جواب عندنا لهذا؟!
ثم قال الكاتب: (السؤال الثاني: هل التوسع في تكفير المعين حدث بالفعل من الوهابية وهل فعلهم هذا له نظير في تصرفات التحققات السابقة عليهم؟ لا نريد التورط هنا في تحقيق موقف علماء الدعوة الوهابية من العذر بالجهل، فبينما يمكن القطع بموقف بعض هؤلاء العلمااء من المسألة=يبقى تحقيق موقف بعضهم خاصة ابن عبد الوهاب نفسه عسيرا.)
قلت: إذا كان المؤلف من العسير عليه تحرير موقف الإمام وبعض أئمة دعوته من العذر بالجهل، ما علاقة القراء بذلك؟
فكثير من الباحثين وأنا منهم لم نجد أي عسر في تحرير موقف الدعوة وإمامها وأئمتها من العذر بالجهل، ولا إشكال عندي في أنه يعذر بالجهل وسائر أئمة الدعوة أيضا. ويراجع هذا في كتابي (الانتصار للدرر السنية)
المقصود هنا أنه لا ينبغي للمؤلف عرض أفكار مثل هذه وسوقها مساق المسلمات ظنا منه أن القراء سيقولون له سمعا وطاعا، بل ينبغي الوقوف عند هذه الأفكار الخطيرة ومحاولة إثباتها لنا بالدليل على الأقل، لا المرور عليها مرور الكرام هكذا.
(ثم تكلم الكاتب على ما ملخصه أن بعضهم يرى أن إشكالية الوهابية هي في أنهم جعلوا مجرد تعريفهم حجة فكفروا به.)
وعلى طريقتهم في رمي الكلام على عواهنه لم يناقشوا هذا الكلام الذي ناقشه أئمة الدعوة ، ويطلب كلامهم في هذا المقام وبيانه في كتابي (الانتصار للدرر السنية)
(ثم قال المؤلف: فالمطلوب جواب سؤال : هل التحققات السلفية السابقة كانت تنتقل من تكفير الفعل إلى تكفير المعين بهذا القدر الذي مارسته الدعوة الوهابية كما وكيفا؟)
ثم رد عليه من كلام أحد أئمة الدعوة يبين فيه أن التكفير والقتال موجود من زمن الصحابة والسلف لا إشكال في ذلك.
فأورد المؤلف إشكالا على هذا الكلام وأنه لا يسلم به في موضوع الوهابية، لأن البحث هنا على صورة بعينها، يقول الكاتب:
(إن الصورة محل البحث هي صورة قوم يدينون بدين الإسلام ولهم علماء وفقهاء من المقدمين من أهل العلم والفقه في زمانهم، ومن المنتسبين لمذاهب الفقهاء المعتبرة المشتهرة، وهم يعدون هذه الأفعال طاعات ويبرأون من شرك المشركين ولا يرون هذه الأفعال من نفس الجنس ، ومعظمهم يرونها من جنس الطاعات التي جاء بها محمد، وكان هذا القول مشتهرا عبر أربعمائة عام قبل ذلك..والسؤال إذن هل في تصرفات السلف ما يشبه تكفير هؤلاء وقتالهم؟)
وبعد هذا العرض الرومانسي العاطفي من الكاتب لصورة المجتمع النجدي، وبغض النظر عن أن كل ما ذُكر لا علاقة له بالحكم على الأفعال هل هي كفر أم لا، أعرض للقاريء صورة حقيقية لواقع المجتمع النجدي الذي جابه الشيخ، ومن أراد التوسع يراجع كتابي (الانتصار للدرر السنية):
((فأما بلاد نجد، فقد بالغ الشيطان في كيدهم وجد، وكانوا ينتابون قبر زيد بن الخطاب، ويدعونه رغبا ورهبا بفصيح الخطاب، ويزعمون أنه يقضي لهم الحوائج، ويرونه من أكبر الوسائل والولائج، وكذلك عند قبر يزعمون أنه قبر ضرار بن الأزور، وذلك كذب ظاهر، وبهتان مزور.
وكذلك عندهم: نخل - فحال - ينتابه النساء والرجال، ويفعلون عنده أقبح الفعال. والمرأة إذا تأخر عنها الزواج، ولم ترغب فيها الأزواج، تذهب إليه، فتضمه بيدها، وتدعوه برجاء وابتهال، وتقول: يا فحل الفحول، أريد زوجا قبل الحول. وشجرة عندهم تسمى: الطرفية، أغراهم الشيطان بها، وأوحى إليهم التعلق عليها، وأنها ترجى منها البركة، ويعلقون عليها الخرق، لعل الولد يسلم من السوء.
وفي أسفل بلدة الدرعية مغارة في الجبل، يزعمون أنها انفلقت من الجبل، لامرأة تسمى: بنت الأمير، أراد بعض الناس أن يظلمها ويضير، فانفلق لها الغار، ولم يكن له عليها اقتدار، كانوا يرسلون إلى هذا المكان من اللحم والخبز ما يقتات به جند الشيطان.
وفي بلدتهم رجل يدعي الولاية، يسمى: تاج، يتبركون به، ويرجون منه العون والإفراج، وكانوا يأتون إليه، ويرغبون فيما عنده من المدد - بزعمهم - ولديه، فتخافه الحكام والظلمة، ويزعمون أن له تصرفا، وفتكا بمن عصاه وملحمة، مع أنهم يحكون عنه الحكايات القبيحة الشنيعة، التي تدل على انحلاله عن أحكام الملة والشريعة. وهكذا سائر بلاد نجد، على ما وصفنا من الإعراض عن دين الله، والجحد لأحكام الشريعة والرد.
ومن العجب أن هذه الاعتقادات الباطلة، والمذاهب الضالة، والعوائد الجائرة، والطرائق الخاسرة قد فشت وظهرت، وعمت وطمت، حتى بلاد الحرمين الشريفين! فمن ذلك: ما يفعل عند قبر محجوب، وقبة أبي طالب، فيأتون قبره بالشماعات والعلامات للاستغاثة عند نزول المصائب، وحلول النواكب، وكانوا له في غاية التعظيم، ولا ما يجب عند البيت الكريم! فلو دخل سارق أو غاصب أو ظالم قبر أحدهما، لم يتعرض له أحد، لما يرون له من وجوب التعظيم والاحترام والمكارم.
ومن ذلك: ما يفعل عند قبر ميمونة أم المؤمنين رضي الله عنها، في سرف، وكذلك عند قبر: خديجة، رضي الله عنها، يفعل عند قبرها، ما لا يسوغ السكوت عليه، من مسلم يرجو الله والدار الآخرة، فضلا عن كونه من المكاسب الدينية الفاخرة، وفيه: من اختلاط النساء بالرجال، وفعل الفواحش والمنكرات وسوء الأفعال، ما لا يقره أهل الإيمان والكمال وكذلك سائر القبور المعظمة المشرفة، في بلد الله الحرام: مكة المشرفة.
وفي الطائف، قبر ابن عباس، رضي الله عنهما، يفعل عنده من الأمور الشركية التي تشمئز منها نفوس الموحدين، وتنكرها قلوب عباد الله المخلصين، وتردها الآيات القرآنية وما ثبت من النصوص عن سيد المرسلين، منها: وقوف السائل عند القبر، متضرعا مستغيثا، وإبداء الفاقة إلى معبودهم مستكينا مستعينا، وصرف خالص المحبة التي هي محبة العبودية، والنذر، والذبح لمن تحت ذاك المشهد والبنية.
وأكثر سوقتهم وعامتهم يلهجون بالأسواق: اليوم على الله وعليك يا ابن عباس، فيستمدون منه الرزق والغوث، وكشف الضر والبأس. وذكر محمد بن الحسين النعيمي الزبيدي، رحمه الله: أن رجلا رأى ما يفعل أهل الطائف، من الشعب الشركية والوظائف، فقال: أهل الطائف لا يعرفون الله، إنما يعرفون ابن عباس، فقال له بعض من يترشح للعلم: معرفتهم لابن عباس كافية، لأنه يعرف الله.
فانظر إلى هذا الشرك الوخيم، والغلو الذميم، المجانب للصراط المستقيم، ووازن بينه وبين قوله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} الآية [سورة البقرة آية: 186] ، وقوله جل ذكره: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 18] . وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود والنصارى، باتخاذهم قبور أنبيائهم مساجد، يعبد الله فيها، فكيف بمن عبد الصالحين، ودعاهم مع الله؟ والنصوص في ذلك لا تخفى على أهل العلم.
كذلك ما يفعل بالمدينة المشرفة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، هو من هذا القبيل، بالبعد عن منهاج الشريعة والسبيل. وفي بندر جدة ما قد بلغ من الضلال حده، وهو القبر الذي يزعمون أنه قبر حواء، وضعه لهم بعض الشياطين، وأكثروا في شأنه الإفك المبين، وجعلوا له السدنة والخدام، وبالغوا في مخالفة ما جاء به محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، من النهي عن تعظيم القبور، والفتنة بمن فيها من الصالحين والكرام.
وكذلك مشهد العلوي، بالغوا في تعظيمه وتوقيره، وخوفه ورجائه; وقد جرى لبعض التجار أنه انكسر بمال عظيم لأهل الهند وغيرهم، وذلك في سنة عشر ومائتين وألف، فهرب إلى مشهد العلوي مستجيرا، ولائذا به، مستغيثا، فتركه أرباب الأموال ولم يتجاسر أحد من الرؤساء، والحكام، على هتك ذاك المشهد والمقام، واجتمع طائفة من المعروفين، واتفقوا على تنجيمه في مدة سنين، فنعوذ بالله من تلاعب الفجرة، والشياطين.
وأما بلاد مصر وصعيدها، وفيومها وأعماله، فقد جمعت من الأمور الشركية والعبادات الوثنية والدعاوى الفرعونية ما لا يتسع له كتاب، ولا يدنو له خطاب، لا سيما عند مشهد أحمد البدوي وأمثاله من المعتقدين المعبودين، فقد جاوزوا بهم ما ادعته الجاهلية لآلهتهم. وجمهورهم يرى من تدبير الربوبية، والتصريف في الكون بالمشيئة، والقدرة العامة ما لم ينقل مثله عن أحد من الفراعنة والنماردة.
وبعضهم يقول: يتصرف في الكون سبعة، وبعضهم يقول: أربعة وبعضهم يقول: قطب يرجعون إليه. وكثير منهم يرى الأمر شورى بين عدد ينتسبون إليه; فتعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً} [سورة الكهف آية: 5] .
وقد استباحوا عند تلك المشاهد من المنكرات، والفواحش، والمفاسد، ما لا يمكن حصره، ولا يستطاع وصفه، واعتمدوا في ذلك من الحكايات والخرافات والجهالات، ما لا يصدر عمن له أدنى مسكة أو حظ من المعقولات، فضلا عن النصوص الشرعيات.
كذلك ما يفعل في بلدان اليمن، جار على تلك الطريق والسنن، ففي صنعاء، وبرع، والمخا، وغيرها من تلك البلاد ما يتنَزه العاقل عن ذكره ووصفه، ولا يمكن الوقوف على غايته وكشفه، ناهيك بقوم استخفهم الشيطان، وعدلوا عن عبادة الرحمن إلى عبادة القبور والشيطان. فسبحان من لا يعجل بالعقوبة على الجرائم، ولا يهمل الحقوق والمظالم.
وفي حضرموت، والشحر، وعدن ويافع، ما تستك عن ذكره المسامع، يقول قائلهم: شيء لله يا عيدروس! شيء لله يا محيي النفوس!
وفي أرض نجران من تلاعب الشيطان، وخلع ربقة الإيمان، ما لا يخفى على أهل العلم بهذا الشأن. كذلك رئيسهم، المسمى بالسيد، لقد أتوا من طاعته، وتعظيمه، وتقديمه، وتصديره، والغلو فيه، بما أفضى بهم إلى مفارقة الملة والإسلام، والانحياز إلى عبادة الأوثان والأصنام: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [سورة التوبة آية: 31] .
وكذلك حلب ودمشق وسائر بلاد الشام، فيها من تلك المشاهد والنصب والأعلام، ما لا يجامع عليه أهل الإيمان والإسلام، من أتباع سيد الأنام. وهي تقارب ما ذكرنا، من الكفريات المصرية، والتلطخ بتلك الأحوال الوثنية الشركية.
وكذلك الموصل، وبلاد الأكراد، ظهر فيها من أصناف الشرك والفجور والفساد. وفي العراق من ذلك بحره المحيط بسائر الخلجان، وعندهم المشهد الحسيني، قد اتخذه الرافضة وثنا، بل ربا مدبرا وخالقا ميسرا، وأعادوا به المجوسية، وأحيوا به معاهد اللات والعزى، وما كان عليه أهل الجاهلية.
وكذلك مشهد العباس، ومشهد: علي، ومشهد أبي حنيفة، ومعروف الكرخي، والشيخ عبد القادر، فإنهم قد افتتنوا بهذه المشاهد، رافضتهم وسنيتهم، وعدلوا عن أسنى المطالب والمقاصد، ولم يعرفوا ما وجب عليهم من حق الله الفرد الصمد الواحد.
وبالجملة: فهم شر تلك الأمصار، وأعظمهم نفورا عن الحق، واستكبارا. والرافضة يصلون لتلك المشاهد، ويركعون ويسجدون لمن في تلك المعاهد، وقد صرفوا من الأموال والنذور، لسكان تلك الأجداث والقبور، ما لا يصرف عشر معشاره للملك العلي الغفور.
ويزعمون: أن زيارتهم لعلي وأمثاله، أفضل من سبعين حجة لله تعالى وتقدس في مجده وجلاله، ولآلهتهم من التعظيم والتوقير والخشية والاحترام، ما ليس معه من تعظيم الله، وتوقيره وخشيته وخوفه، شيء للإله الحق، والملك العلام. انتهى من الدرر السنية:
1/378-386
هذه هي صورة المجتمع الذي خرج علينا اليوم من المفكرين البارعين من يشكك في حكم أفعالهم، ويتكلم على أنهم يرونها طاعات لله ورسوله ، ويتبرؤون من الشرك.
فمن كفّر من جحد الزكاة وقاتله هذا له سلف وتحقق تاريخي.
أما من كفَّر من جحد أصل الإسلام وهو التوحيد وتديَّن بالشرك وجعله طاعة ودين الإسلام بدلا من التوحيد وقاتلهم بعد استيفاء الشروط وانتفاء الموانع، لا نجد له تحققا سلفيا في السابق ونشك في إلحاقه بالسلفية.
من كفَّر من ادعى الشراكة في النبوة فحسب وحكم عليهم بالردة وقاتلهم هذا له تحقق سلفي سابق.
ومن كفَّر من ادعى الشراكة مع الله في الدعاء والعبادة وقاتله على ذلك هذا ليس له تحقق تاريخي عند السلف.
تأمل إلى أين وصل عمق التفكير والإبداع المنطقي.
نأتي الآن للعرض العاطفي الذي عرضه الإخوة ، قالا:
(إن الصورة محل البحث هي صورة قوم يدينون بدين الإسلام ولهم علماء وفقهاء من المقدمين من أهل العلم والفقه في زمانهم، ومن المنتسبين لمذاهب الفقهاء المعتبرة المشتهرة، وهم يعدون هذه الأفعال طاعات ويبرأون من شرك المشركين ولا يرون هذه الأفعال من نفس الجنس ، ومعظمهم يرونها من جنس الطاعات التي جاء بها محمد، وكان هذا القول مشتهرا عبر أربعمائة عام قبل ذلك..والسؤال إذن هل في تصرفات السلف ما يشبه تكفير هؤلاء وقتالهم؟)

قالا: قوم يدينون بالإسلام.
قلت: ومن قال أن بني حنيفة تبرؤوا من الإسلام جملة، ومن قال أن مانعي الزكاة تبرؤوا من الإسلام بالكلية، ومَن قال أن العبيديين صرحوا بانهم ليسوا مسلمين، ووو، وإذا كان كل من يدين بالإسلام لا يكفر مهما وقع في نواقض فما معنى حكم الردة.
قالا: ولهم علماء وفقهاء من المقدمين ..ومن المنتسبين لمذاهب الفقهاء المعتبرة.
قلت: إذا كان الصحابة والسلف والمذاهب الاربعة والعلماء المحققون سلفا وخلفا نصوا على أن صرف العبادة لغير الله شرك، ثم وقع بعض العلماء في زلة في هذا الباب، ماذا نفعل بنصوص الكتاب والسنة والعلماء والسلف في أن هذه الأفعال شرك، وهذا يُقال في مسائل جزئية يسيرة أما حال مجتمع الشيخ الذي شرحناه فنقول مَن من العلماء المعتبرين هذا الذي يقول أن هذه الصورة ليست من الشرك، ما هو الشرك إذن عرفوه لنا؟!
قالا: وهما يعدان هذه الأفعال طاعات.
قلت: هب ان طائفة شربت الخمر وجعلته طاعة، هل هذا يهون من الأمر ام يعظمه، سبحان الله، مجتمع الشيخ جعل الشرك طاعة وإسلاما وجعل التوحيد دينا خامسا وكفرا بالإسلام، هل هذا يهوِّن من شركهم أم يؤكد كفرهم بحقيقة الإسلام.
قالا: وكان هذا القول مشتهرا عبر أربعمائة قرن؟
قلت: والتشيع منتشر ومشتهر من 14 قرن، والكفر مشتهر من أول الخليقة، والشرك منتشر من زمن نوح، ووو، ما علاقة هذا بكون هذه الأفعال شركا من عدمه.
قالا:
(والسؤال إذن هل في تصرفات السلف ما يشبه تكفير هؤلاء وقتالهم؟)
قد كفر السلف وقاتلوا من حاله أهون من ذلك بكثير ، فكيف كانوا سيتعاملون مع طوائف تنكر أصل الإسلام ...سبحان الله ..تشكيك في بدهيات ومسلمات.
وأخيرا نقول: هل هذا الإشكال خاص بمحمد بن عبد الوهاب ودعوته؟ أين نذهب بمثل قول ابن تيمية:
(وَالْمُرْتَدُّ مَنْ أَشْرَكَ بِاَللَّهِ تَعَالَى أَوْ كَانَ مُبْغِضًا لِلرَّسُولِ وَلِمَا جَاءَ بِهِ أَوْ تَرَكَ إنْكَارَ مُنْكَرٍ بِقَلْبِهِ...أَوْ جَعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ وَسَائِطَ يَتَوَكَّلُ عَلَيْهِمْ وَيَدْعُوهُمْ وَيَسْأَلُهُمْ..) الكبرى 5/ 535
لماذا لا نقول هل لابن تيمية تحقق سلفي سابق في هذا، وهذه العبارة في حكم المرتد مشهورة كثيرة في كتب المذاهب والعلماء، هل نقول هل لهؤلاء تحقق سلفي سابق في الحكم على من اتخذ وسائط بينه وبين الله بالردة؟
بعد ذلك ختم الكاتب الفصل بمقارنة بين ابن تيمية وابن عبد الوهاب يدلل بها على الافتراق بينهما في التكفير، فنقل عن الإمام محمد بن عبد الوهاب بعض النصوص في تكفير المعينين ثم نقل نصا عن ابن تيمية قال فيه: (لكن لغلبة الجهل وقلة العلم بآثار الرسالة في كثير من المتأخرين = لم يمكن تكفيرهم حتى يتبين لهم ما جاء به الرسول مما يخالفه)
يريد الكاتب أن يوصل للقاريء فكرة أن ثمة خلافا بين ابن عبد الوهاب وابن تيمية في هذا الباب، وأنا أقول للقاريء أرجو ان تحذف النصوص التي ساقها عن ابن عبد الوهاب وتضع هذا النص من نصوص أئمة الدعوة:

(ولكن في أزمنة الفترات وغلبة الجهل، لا يكفر الشخص المعين بذلك، حتى تقوم عليه الحجة بالرسالة، ويبين له، ويعرف أن هذا هو الشرك الأكبر الذي حرمه الله ورسوله) الدرر السنية 10/274

ما الفرق بينه وبين النص المنقول عن ابن تيمية : (لكن لغلبة الجهل وقلة العلم بآثار الرسالة في كثير من المتأخرين = لم يمكن تكفيرهم حتى يتبين لهم ما جاء به الرسول مما يخالفه)
وتأمل مثل هذه النصوص:
وإذا كنا لا نكفر من عبد الصنم، الذي على عبد القادر، والصنم الذي على قبر أحمد البدوي، وأمثالهما، لأجل جهلهم، وعدم من ينبههم...1/104الإمام

وشيخنا رحمه الله قد قرَّر هذا وبينه وفاقًا لعلماء الأمة واقتداءً بهم، ولم يكفِّر إلاَّ بعد قيام الحجة وظهور الدليل، حتى إنه رحمه الله توقف في تكفير الجاهل من عُبَّاد القبور إذا لم يتيسَّر له من ينبِّهه. [مصباح الظلام ص325].
والشيخ محمد - رحمه الله - من أعظم الناس توقفًا وإحجامًا عن إطلاق الكفر حتى أنه لم يجزم بتكفير الجاهل الذي يدعو غير الله من أهل القبور أو غيرهم إذا لم يتيسر له من ينصحه ويبلغه الحجة التي يكفر مرتكبها. [منهاج التأسيس ص98].
بل تأمل في هذا النص الهام:
ونعتذر عمن مضى بأنهم مخطئون معذورون، لعدم عصمتهم من الخطأ، والإجماع في ذلك ممنوع قطعا...فإن قلت: هذا فيمن ذهل، فلما نبه انتبه، فما القول فيمن حرر الأدلة، واطلع على كلام الأئمة القدوة، واستمر مصرا على ذلك حتى مات؟ قلت: ولا مانع أن نعتذر لمن ذكر، ولا نقول: إنه كافر، ولا لما تقدم أنه مخطئ، وإن استمر على خطئه، لعدم من يناضل عن هذه المسألة في وقته، بلسانه وسيفه وسنانه، فلم تقم عليه الحجة، ولا وضحت له المحجة؛ بل الغالب على زمن المؤلفين المذكورين التواطؤ على هجر كلام أئمة السنة في ذلك رأسا، ومن اطلع عليه أعرض عنه، قبل أن يتمكن في قلبه، ولم يزل أكابرهم تنهى أصاغرهم عن مطلق النظر في ذلك، وصولة الملوك قاهرة لمن وقر في قلبه شيء من ذلك إلا من شاء الله منهم.الدرر السنية1/236
ومن أراد التوسع يراجع كتابي (الانتصار للدرر السنية).
فما هو الفرق إذن بين ابن تيمية وابن عبد الوهاب في هذا الباب.
انتقل الكاتب بعد ذلك لبيان أن الفرق هو في كون ابن عبد الوهاب نزل حكم الكفر على الأشخاص وابن تيمية لم يفعل.

نقول: كيف هذا وأين فتوى ابن تيمية الشهيرة في التتار قتالا وتكفيرا؟ وإذا جاز أن ينزل ابن تيمية حكم الكفر في التتار وغيرهم فما المانع أن ينزل حكم الردة على من اتخذ وسائط بينه وبين الله
بعد استيفاء الشروط وانتفاء الموانع.
الفرق الوحيد هو أن البيئة والظروف المحيطة وتفاصيل الدعوة النجدية مختلفة من نواحي كثيرة عن حالة شيخ الإسلام ابن تيمية، وقد قصصنا عليك من قبل قصة دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب باختصار، الآن إذا نزعنا ابن عبد الوهاب ووضعنا مكانه ابن تيمية، هل سيحكم على أفعال المجتمع النجدي بالكفر، الجواب: نعم لأن هذا مصرح به في كتبه.
وهل سيكفرهم بعد إقامة الحجة؟
الجواب: إذا كان كفر التتار مع إظهارهم الإسلام بسبب استحلالهم الدماء وغير ذلك، ما المانع العقلي أن يكفر هؤلاء الذين استحلوا اتخاذ الوسائط؟!
وهل سيقاتلهم على ذلك؟
الجواب إذا كان افتى بقتال التتار مع اظهارهم الاسلام لامتناعهم من بعض الشرائع، فما هو المانع العقلي من أن يقاتل المشركين في الديار النجدية.
(ثم استدل الكاتب على كلامه في ان ابن تيمية لم ينزل أحكام الكفر على الأشخاص بأنه كان يقول للجهمية أنتم عندي لا تكفرون لأنكم جهال.)
ومناقشته من وجود:
أ: لو افترضنا جدلا أن ابن تيمية لم ينزل حكم الكفر على أحد قط، ماذا نفعل بتكفير بني حنيفة وقتالهم، وماذا نفعل بتكفير مانعي الزكاة الجاحدين وقتال كل الممتنعين، وماذا نفعل بتكفير العلماء للعبيديين وإنكار خلافتهم، وماذا نفعل بأحكام العلماء و القضاة على مر التاريخ بردة فلان وعلان.
ب: إذا كان ابن تيمية يصرح بأن اتخاذ الوسائط ردة وفاعله مرتد، ونزل حكم الكفر على التتار فيما دون ذلك، فما هو المانع من تنزيله لحكم الردة على من اتخذ وسائط بينه وبين الله.
ج: تأمل هذا النص عن ابن تيمية:
((وَذَلِكَ يَقْتَضِي وُجُودَ الرِّدَّةِ فِيهِمْ كَمَا يُوجَدُ النِّفَاقُ فِيهِمْ كَثِيرًا. وَهَذَا إذَا كَانَ فِي الْمَقَالَاتِ الْخَفِيَّةِ فَقَدْ يُقَالُ: إنَّهُ فِيهَا مُخْطِئٌ ضَالٌّ لَمْ تَقُمْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ الَّتِي يَكْفُرُ صَاحِبُهَا؛ لَكِنَّ ذَلِكَ يَقَعُ فِي طَوَائِفَ مِنْهُمْ فِي الْأُمُورِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي تَعْلَمُ الْعَامَّةُ وَالْخَاصَّةُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهَا مِنْ دِينِ الْمُسْلِمِينَ؛ بَلْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى يَعْلَمُونَ: أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُعِثَ بِهَا وَكَفَّرَ مُخَالِفَهَا؛ مِثْلُ أَمْرِهِ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَنَهْيُهُ عَنْ عِبَادَةِ أَحَدٍ سِوَى اللَّهِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَالنَّبِيِّينَ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْكَوَاكِبِ وَالْأَصْنَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ هَذَا أَظْهَرُ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ وَمِثْلُ أَمْرِهِ بِالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَإِيجَابِهِ لَهَا وَتَعْظِيمِ شَأْنِهَا وَمِثْلُ مُعَادَاتِهِ لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمُشْرِكِينَ وَالصَّابِئِينَ وَالْمَجُوسِ وَمِثْلُ تَحْرِيمِ الْفَوَاحِشِ وَالرِّبَا وَالْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. ثُمَّ تَجِدُ كَثِيرًا مِنْ رُؤَسَائِهِمْ وَقَعُوا فِي هَذِهِ الْأُمُورِ فَكَانُوا مُرْتَدِّينَ وَإِنْ كَانُوا قَدْ يَتُوبُونَ مِنْ ذَلِكَ وَيَعُودُونَ إلَى الْإِسْلَامِ فَقَدْ حُكِيَ عَنْ الْجَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ: أَنَّهُ تَرَكَ الصَّلَاةَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا لَا يَرَى وُجُوبَهَا؛ كَرُؤَسَاءِ الْعَشَائِرِ مِثْلِ الْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ وعُيَيْنَة بْنِ حِصْنٍ وَنَحْوِهِمْ مِمَّنْ ارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ وَدَخَلَ فِيهِ فَفِيهِمْ مَنْ كَانَ يُتَّهَمُ بِالنِّفَاقِ وَمَرَضِ الْقَلْبِ وَفِيهِمْ مَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ.))
د: إذا كانت المكفرات عند ابن تيمية هي ما عند السلف وهي ما عند ابن عبد الوهاب سواء ، وأصول تنزيل حكم الكفر على المعينين عندهم سواء، وصدر منهم جميعا التصريح بالمكفرات وشروط تنزيل حكم الكفر على المعينين، وصدر منهم جميعا تطبيقات عملية قلت أو كثرت، ما هو قيمة الكلام بعد ذلك حول أن شخصا معينا أو طائفة معينة لم يكفرها العالم الفلاني، فغاية ما في الأمر أن العالم الفلاني يرى أن هذه الطائفة أو هذا الشخص لم يستوف الشروط وتنتفي عنه موانع التكفير.
هـ: نؤكد دائما على أن الظروف السياسية والاجتماعية التي عاش فيها محمد بن عبدالوهاب وقتال أهل نجد له وتكفيره لدينه ثم حصول الغلبة له والولاية لمن أعانه، هذه ظروف لم يعشها ابن تيمية حتى ينتظر منه أن يقدم لنا نفس تراث أئمة الدعوة النجدية بكل تفاصيله، حتى نقول نعم ابن عبد الوهاب موافق لابن تيمية، بل النظر يكون في أصول التكفير عندهما فمن وجد بينهما خلافا فيه فلينبهنا إليه.
(دندن الكاتب حول أن إشكالية الدعوة الوهابية الرئيسة " هو تصور خاص بهم للقدر الذي لابد منه لتكون الحجة قائمة")
وهنا نعود لإشكاليتنا الرئيسية مع الكاتب وهي انه يقرر بعض الأفكار وكأنها مسلمات ، وعلى القاريء أن يقول سمعا وطاعا، ويمر مرور الكرام.
فنقول هنا: دعونا من ابن عبد الوهاب بينوا لنا أنتم ما هو القدر الذي تكون معه الحجة قائمة؟!
هذا لا وجود له في كلامهم.
طيب بينوا لنا ما هو القدر الذي اكتفى به الوهابية في إقامة الحجة وخالفوا العلماء فيه وصار مشكلتهم الرئيسة؟
هذا لا وجود له في كلامهم.
كل الذي قرروه: أن مشكلة الوهابية " هو تصور خاص بهم للقدر الذي لابد منه لتكون الحجة قائمة" والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ويُراجع تفصيل قضية الحجة عند الإمام في كتابي (الانتصار للدرر السنية).
(ثم قال الكاتب منكرا على أئمة الدعوة :
فكيف تستجيز الدعوة الوهابية ما استجازت وحال زمانها أبعد وأدعى للرفق وتمهيد البيان)
هنا نعود لنفس مغالطة أعداء الدعوة، فقد بينا قبل أن الإمام لم يبدأ دعوته إلا بالحجة والبيان ثم كفره مخالفوه وطردوه وقاتلوه واستحلوا دمه وماله، فوقف معه ابن سعود وقاتلا من قاتلهما واعتدى عليهما، أما من لم يقاتله ابتداء في هذه المرحلة من الدعوة (مرحلة الضعف وانتشار الجهل وغلبته) فالاكتفاء بالحجة والبيان، بعد ذلك صارت الغلبة له وخضعت الديار النجدية لولاية ابن سعود، وانتشر التوحيد وصار الأغلب على الناس، ولم توجد جهة في نجد إلا وقد وصلتها الدعوة، هنا أليس من واجب الإمام نشر التوحيد ، فاذا امتنعت طائفة عن التوحيد وقاتلت عليه فما هو إشكالية مقاتلة الإمام لها، بعد إقامة الحجة.
وهذه المغالطة التاريخية هي المغالطة التاريخية الأكبر التي يبني عليها أعداء الشيخ اتهامه بالتكفير والقتال، متجاهلين تماما من الذي بدأ بالتكفير والقتال هل هو الشيخ أم أعداؤه، فلو سلمنا جدلا ان ابن عبد الوهاب توسع في التكفير والقتال، هل هو أولى بفرية الغلو في التكفير أم أعداؤه الذين بدؤوه فكفروه لتوحيده وقاتلوه عليه ؟!
(بعد ذلك استدل الكاتب بنص يدلل به على مخالفة ابن عبد الوهاب للتحققات السلفية السابقة، وهو قوله: ((السلف قد كثر كلامهم وتصانيفهم في أصول الدين وإبطال كلام المتكلمين وتكفيرهم..))
يريد الكاتب من ذلك أن ابن عبد الوهاب كفَّر المتكلمين وهذا شيء لا يوجد عند من سبقه)
وأقول في الرد على هذا الكلام، أرجو من القاريء الكريم أن يفتح الصفحة التي نقل منها الكاتب في الدرر السنية وهي (1/ 53) ثم أرجو منه أن ينظر قبل هذا الموضع بصفحة واحدة وفي نفس الفتوى وسيجد هذه العبارة:
((فإن نظرت في كتاب التوحيد في آخر الصحيح..وقرأت في كتب أهل العلم من السلف، ومن أتباعهم من الخلف، ونقلهم الإجماع على وجوب الإيمان بصفات الله تعالى، وتلقيها بالقبول، وأن من جحد شيئا منها، أو تأول شيئا من النصوص، فقد افترى على الله، وخالف إجماع أهل العلم، ونقلهم الإجماع: أن علم الكلام بدعة وضلالة، حتى قال أبو عمر ابن عبد البر: أجمع أهل العلم في جميع الأعصار والأمصار، أن أهل الكلام أهل بدع وضلالات، لا يعدون عند الجميع من طبقات العلماء؛ والكلام في هذا يطول.))
ما الذي يفهمه القاريء من هذا النص: هل يفهم تكفير ابن عبد الوهاب لأهل الكلام مطلقاً؟؟
بعد ذلك أرجو من القاريء أن يقرأ الفتوى كاملة ليفهم السياق الذي تكلم فيه ابن عبد الوهاب بهذا، والخلاصة أن طوائف في مجتمع الشيخ كانوا يقولون: نحن لا نستطيع أن نأخذ عقيدتنا من القرآن والسنة والعلماء المتقدمين لأننا لا نفهمها بل نأخذها من كلام المتأخرين ممن يصرح بجواز صرف العبادة لغير الله، وصار هذا دينهم الذي يدينون به، فيبين الشيخ في الفتوى أن هذا مردود لأن الأشخاص على مر التاريخ الإسلامي قد وقعوا في مكفرات او في ضلالات بدعية، ومن هؤلاء أهل الكلام الذين جعلوا كلامهم دينا وتركوا الكتاب والسنة، ونقل النقولات في ضلال أهل الكلام ، فنقل النقل الذي سقته أنا لك وهو واضح في تقرير أن أهل الكلام أهل بدع وضلال، ثم تكلم بما نقله الكاتب مما يفهم منه من خلال سياق الفتوى والموضوع أنه يريد تكفير أهل الكلام الذين كفرهم العلماء كمن جوَّز اتخاذ وسائط بينه وبين الله، وغلاة الجهمية وغلاة القدرية.
ثم ماذا لو قابلنا النص الذي نقله الكاتب بهذا النص عن أئمة الدعوة:
((وكل هذه الدول وهذه الفرق، فيهم الكافر كالفلاسفة، وفيهم أهل الشرك الذين بنوا المساجد على القبور وعبدوها، وكذلك أهل البدع كالقدرية المعتزلة، والجهمية النفاة الجبرية الحلولية، وكذلك أهل وحدة الوجود، "ومن رأى رأي هذه الطوائف من المتأخرين،كلهم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، لكنهم شرارها".)) الدرر 11/396

وهذه هي مؤلفات أئمة الدعوة بين أيدينا فمن وقف على نص فيه تكفير أهل الكلام بجميع طوائفهم هكذا مطلقا فليأتنا به.

(ثم استدل الكاتب بعد ذلك بنص آخر يدلل به على مخالفة ابن عبد الوهاب للتحققات السلفية السابقة، وهو قوله: ويظهر الفرق بين الوهابية والتحققات السلفية السابقة بصورة أكبر في تكفير من لم ير تكفير الواقعين في هذه الأفعال وإن كان يرى فعلهم كفرا، وهذا التكفير التسلسلي في هذا الباب قرره ابنا الشيخ محمد بن عبد الوهاب فالا: فمن قال لا أعادي المشركين أو عاداهم ولم يكفرهم أو قال: لا أتعرض أهل لا إله إلا الله، ولو فعلوا الكفر والشرك وعادوا دين الله، أو قال لا أتعرض للقباب = فهذا لا يكون مسلما))
وأقول هنا: أرجو من القاريء الكريم الذي يبحث عن الحق ولا يكتفي بالقراءة المجتزأة لتراث الأئمة أن يقرأ المجلد العاشر من الدرر السنية على الوجه وهو المجلد الذي نقل منه الكاتب هذه العبارة، وبعد هذه القراءة إذا وجد القاريء أن أئمة الدعوة يكفرون من كانت هذه صفتهم بغير قيد أن يكونوا ممن كان يظهر التوحيد ثم انقلب (فسب) دين التوحيد وسب الموحدين (لدينهم) وأظهر حب دين المشركين وتعظيمهم، وأعانهم على قتال الموحدين، وكان من جملة حاله أنه يقول أنا لا أعادي المشركين، أو لا أتعرض أهل لا إله إلا الله، فإن حارب الموحدون أهل قريته لشركهم حارب مع أهل قريته أو أعداء دعوة الشيخ، تحت هذه الدعاوى...
أقول : إذا قرأ القاريء المجلد العاشر ولم يظهر له أن أئمة الدعوة لا يكفرون في هذا الباب إلا بقيود كثيرة بل يكفرون هكذا بمطلق الموالاة وعدم المعاداة فليبين لي أين هذا النص عنهم.
ثم قارن بين النص المنقول وبين هذه النصوص عن إمام الدعوة من الدرر السنية:
وإن كان موالاتهم لأجل دنياهم، يجب عليه من التعزير بالهجر والأدب ونحوه ما يزجر أمثاله. وإن كانت الموالاة لأجل دينهم، فهو مثلهم، ومن أحب قوماً حشر معهم.8/160 من كلام الإمام
وإن كان يقرّ بكفرهم، ولا يقدر على مواجهتهم بتكفيرهم، فهو مداهن لهم، ويدخل في قوله تعالى: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [سورة القلم آية: 9] ، وله حكم أمثاله من أهل الذنوب. 8/ 160 من كلام الإمام
أصل البراءة: المقاطعة بالقلب واللسان والبدن. وقلب المؤمن لا يخلو من عداوة الكافر، وإنما النزاع في إظهار العداوة: فإنها قد تخفى لسبب شرعي، وهو الإكراه مع الاطمئنان. وقد تخفى العداوة من مستضعف معذور، عذره القرآن. وقد تخفى لغرض دنيوي، وهو الغالب على أكثر الخلق، هذا إن لم يظهر منه موافقة.8/305

هل تفهم من هذه النصوص: أن من لم يعاد المشرك فليس بمسلم هكذا مطلقا؟. هل تفهم منها أن من لم يواجه المشركين فليس بمسلم هكذا مطلقا؟ هل تفهم أن من لم يظهر المعادة فليس بمسلم هكذا مطلقا؟ هل تفهم أن من لم يتعرض للمشركين كافر مطلقا؟

أما حال هؤلاء الذين كفرهم أئمة الدعوة بعدم المعاداة وعدم التعرض للمشركين وادعائهم أنهم موحدون فهذا هو حالهم:
فكيف بأهل البلدان، الذين كانوا على الإسلام، فخلعوا ربقته من أعناقهم، وأظهروا لأهل الشرك الموافقة على دينهم، ودخلوا في طاعتهم وآووهم ونصروهم، وخذلوا أهل التوحيد، وابتغوا غير سبيلهم وخطؤوهم، وظهر فيهم سبهم وشتمهم وعيبهم والاستهزاء بهم، وتسفيه رأيهم في ثباتهم على التوحيد، والصبر عليه وعلى الجهاد فيه، وعاونوهم على أهل التوحيد طوعاً لا كرهاً، واختياراً لا اضطراراً؟! الدرر 8/126
هؤلاء هم من ادعى أنهم لا يعادون الكفار، ولا يتعرضون لهم، ولا يهدمون القباب..إلخ.
ومَن قرأ تراث أئمة الدعوة ووجد غير ذلك فليبينه لي.
(ثم نقل الكاتب كلاما عن أحد أئمة الدعوة ينص فيه على تكفير الجهمية في زمانه، لأنه زمان انتشار للعلم والعقيدة ولم تعد مسائل ضلالات الجهمية خفية، وعارض هذا بأن أحمد وابن تيمية والسلف مع تصريحهم بكفر الجهمية فإنهم لم يكفروا كل الجهمية )
قلت: هذا عجب، ومن قال أن كلام عبد اللطيف بن عبد الرحمن يستفاد منه أنه يكفر الجهمية واحدا واحدا، ويكفر كل الجهمية، فكلامه لا فرق بينه وبين كلام العلماء، في إطلاق الكفر، ثم كل جهمي فبحسبه...
(ثم نقل الكاتب كلاما طويلا خلاصته أن الطائفة الممتنعة لا تُقاتل ما دامت تظن أن ما هي عليه شرع ومخالفة ذلك كان من إشكاليات الوهابية)
قلت: وهذا أعجب، فمن قال أن من جحد الزكاة في زمن الصديق كان يقول بأن عقيدته هذه ليست من الشرع، فلذلك قاتله الصديق والصحابة وكفروهم، كيف وهم يدعون أن الزكاة في الشرع كانت مفروضة في وقت معين دون وقت، فنسبوا امتناعهم إلى الشرع.
وكيف نفعل بإجماع الصحابة في زمن عمر، على تكفير قدامة بن مظعون وأصحابه إن لم يتوبوا، لما فهموا من قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [سورة المائدة آية: 93] حل الخمر شرعا لبعض الخواص.
وماذا نفعل بإجماع التابعين ومن بعدهم، على قتل الجعد بن درهم، وهو مشتهر بالعلم والدين؛ وهلم جرا من وقائع لا تعد ولا تحصى...
(وفي ختام الفصل يقول الكاتب قبل إصدار الحكم النهائي على الوهابية: إننا في كتابتنا هذه التي نرجو فيها أن نعدل بين الناس وألا نبخس الناس أشياءهم..)
أقول: دعوة في حجم دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب وأثرها على القرون التالية وأثرها على الدنيا يأتي كاتب لم يضبط شيئا من تراثها، يخبط خبط عشواء في الحديث عنها، ثم يدعي لنفسه أنه سيأتي بحكم منصف فيها.
(ثم ساق الكاتب حكمه فقال: لا نرى أن الوهابية في ممارساتها للتكفير والقتال كانت تحققا مماثلا للتحققات السلفية السابقة عليها..)
قلت: وكيف سيستقيم الظل والعود أعوج.
إذا بنى الباحث حكمه على تصور مشوه لدعوة الإمام، بل لأصول العلماء في التكفير، فماذا ينتظر منه؟
(ثم قال الكاتب: ومثل هذا النوع من الخلل متوقع الحدوث فإن ضعف العلم كان عاما يشمل الجميع)
هذه الدندنة التي دندن حولها الكاتبان على طول الكتاب، الدنيا كلها جاهلة ما عدا هم.
(ثم اتهم الكاتب تراث أئمة الدعوة بقلة التحرزات في أبواب التكفير خلافا لابن تيمية)
ونحن نسأل : ما هو السياق الذي يتطلب ذكر التحرزات؟ هل كل سياق في مسائل التكفير يحتاج تحرزات؟ كيف نفعل إذن بنصوص التكفير المطلقة في الكتاب والسنة، ومن فعل كذا فقد كفر ومن فعل كذا فقد أشرك؟! وماذا نفعل بآلاف النصوص المطلقة عند العلماء؟
إن التحرزات يطالَب العالم بذكرها في سياقات معينة، مثل سياق بيان ضوابط تنزيل الحكم على المعين، ومن وجد في تراث أئمة الدعوة كلاما في هذا السياق دون تحرزات فليبينه لي.
ويطلب التحرز فيما إذا كانت صورة الطائفة التي سينزل عليها الحكم مشتبهة على السائل، أما إذا كانت الصورة واضحة للسائل كأن يسأل رجلٌ أحدَ أئمة الدعوة عن حال القرية الفلانية التي والت المشركين، وهو يعرف تفاصيل عن هذه القرية وصفاتها وصفة موالاتهم تحديدا وهل قامت الحجة عليهم أم لا..إلخ، فيأتي الجواب مطلق في كفرهم، لأن التحرزات واضحة عند السائل، وهذا كثير في تراث أئمة الدعوة.
الشاهد: إطلاق القول بقلة التحرزات في كلام أئمة الدعوة، هذا كلام لا وزن له، إلا إذا أثبتوا لنا انعدام التحرزات في النصوص التي يجب التحرز فيها، وهذا تراث أئمة الدعوة بين أيدينا فمن وجد شيئا من ذلك فليبينه لي.

(ثم اتهم الكاتب الدعوة أن من آثار أخطائها ممارسات إخوان من طاع الله)
وهنا أقول: ما رأيك لو قال أحد من آثار الإسلام ظهور الخوارج والجهمية والقدرية إلخ. ما هو الرد على هذه الشبهة الساقطة؟ أن هؤلاء لم يستقوا عقائدهم من الإسلام بل من أهوائهم. ويتجلى هذا في أن أهل الإسلام حقا ردوا بدعهم.
قِس الآن على الدعوة حيث وقع بعض من تأثر بها تأثرا سطحيا بلا وعي في ممارسات فيها غلو وانحراف. فما علاقة الدعوة بهم إذا كان تقريرات أئمتها يخالف طريقتهم. ويتجلى هذا في أن أئمة الدعوة تبرؤوا منهم وبينوا غلوهم وانحرافهم عن طريقتهم ودعوتهم. بل وصفهم أئمة الدعوة بالجهلة المغرورين، ووصفوهم بالغلاة المتعمقين. حتى وجه لهم أحد أئمة الدعوة رسالة مناصحة قال فيها:
إذا تحققتم ذلك، فاعلموا أيها الإخوان: هل أنتم على طريقة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، في عقيدته، ومراسلاته، ومناصحاته، ودعوته الخلق إلى دين الله ورسوله؟ أم أنتم مخالفون له في ذلك، غير متبعين له في أقواله ورسائله ومناصحاته؟ ومتبعون في ذلك أهواء قوم قد ضلوا من قبل، وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل.الدرر السنية 9/152
تنبيه علمي: الإخوان هؤلاء كانوا على طوائف كثيرة فليس لهم حكم واحد.

(ثم ختم الكاتب الفصل بالنتيجة النهائية وهي أنه يقال أن الوهابية تحقق من تحققات السلفية ولا نستطيع إلحاقهم بغلاة التكفير مطلقا، ولكن مع النص في الوقت ذاته أنهم يتحملون مسؤولية جزئية لظهور فرق التكفير بعدهم)
قلت: إذا كان كل هذا التشويه لحق ذهن الكاتب في تصور حقيقة الدعوة وأقوال ائمتها، بل في تصور أصول التكفير عند العلماء مطلقا، فما هي النتيجة المنتظرة بعد ذلك.
وفي الختام أرجو من القاريء أن يقارن بين النتيجة عند هؤلاء الإخوة الإسلاميين!! وبين النتيجة عند الكاتبة الأمريكيةnatana j.delong-bas في كتابها wahhabi islam الذي طبع عن جامعة أوكسفورد ، والذي كتبته بعد قراءة موسعة لتراث إمام الدعوة و أئمة الدعوة النجدية في محاولة منها لمعرفة مدى مصداقية ما تمارسه آلة الإعلام الغربية من ربط بين أفكار جماعات التكفير والعنف وفكر الإمام محمد بن عبد الوهاب، وكان نتيجة بحثها أنه لا علاقة فكرية تربط بين الاتجاهين، ونفت عن الإمام شبهة تكفير المخالفين لدعوته بإطلاق، تقول الكاتبة (ص283):
It is important to recall that ibn abdulwahhab did not exclude such people as unbelievers (kuffar)..but rather sought to point out where certain of their practices conflicted with the central theological principle of tawheed in the hope that they would recognize the error of their ways and correct them accordingly.
((من المهم أن نؤكد على أن ابن عبد الوهاب لم يُكفر هؤلاء الناس [الذين وقعوا في الشركيات] بل أراد تنبيههم إلى ممارساتهم التي تعارض أصل التوحيد، أملاً في أن يقوموا بتصحيحها شيئاُ فشيئاُ)).
وأكدت (288-289) على أنه لا علاقة بين فكر جماعات التكفير والعنف وبين فكر الإمام، وأن القطيعة بين الفكرين قطيعة تامة (serious disconnect) وأن الجهاد والقتال عند الإمام بدأ دفاعا عن نفسه وأتباعه، ثم للحفاظ على الموحدين وشعائر الإسلام، فأنتج بعد ذلك مجتمعا آمناً مطمئنا قائما بدين الإسلام، وهذا فرق جذري بين قتاله وقتال جماعات التكفير الذي لا ينتج إلا مزيداً من الدمار والخراب:
Suggesting a future of violence and distruction rather than peaceful construction.
فتأمل في كلام هذه الكاتبة الأمريكية واستيعابها لقاعدة تكفير المطلق وتكفير المعين، وأن وصف الإمام لبعض الأعمال –ومن يقع فيها- بأنها كفر لا يلزم منه تكفير معين، ولكنه يطلق على هذه الأفعال وفاعليها اللفظ الشرعي الذي يبين مصادمتها للتوحيد تحذيرا منها.
وتأمل في دقة فهمها ورجاحة عقلها وهي تتحدث عن أهم ما يميز الجهاد الشرعي عند الإمام وما ينتجه من مجتمع آمن وبلد آمن، عن قتال جماعات التكفير والعنف الذين لم ي***وا بأفعالهم على أمتهم إلا مزيدا من الخراب والدمار.
ثم تأمل في كلام الكاتبين، وقل: سبحان الله.


هذا ولا أبريء نفسي من الخطأ والزلل ومجانبة الصواب، فمن ظهر له شيئا من ذلك فليبينه لي وأنا راجع عنه، مستغفرا،

نسأل الله الهداية والتوفيق.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية

الكلمات الدلالية (Tags)
السَّلفيَّة, تعيش


يتصفح الموضوع حالياً : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
أدوات الموضوع

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


المواضيع المتشابهه للموضوع ما بعدَ السَّلفيَّة
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
تعيش 15 عاماً دون استخدام النقود عبدالناصر محمود أخبار منوعة 0 03-01-2015 08:48 AM
الأنبار تعيش مأساة عبدالناصر محمود أخبار عربية وعالمية 0 02-12-2015 07:55 AM
كيف تعيش الحياة بسعادة؟؟؟ صباح الورد الملتقى العام 0 11-17-2012 09:06 AM
إماراتية تعيش مع 270 حيواناً في منزلها Eng.Jordan الملتقى العام 0 05-03-2012 11:00 AM
كيف تعيش أسعد الناس ؟ Eng.Jordan الملتقى العام 0 01-09-2012 06:38 PM

   
|
 
 

  sitemap 

 


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 10:52 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.12 by vBS
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والمشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59