#1  
قديم 01-09-2016, 08:55 AM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود غير متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 56,039
ورقة موسى بن ميمون (1)


التأثير الإسلامي في الفكر الديني اليهودي (موسى بن ميمون) (1)
ــــــــــــــــــــــــــــــــ

(نبيل محمد سعيد عبدالعزيز)
ـــــــــــــ

29 / 3 / 1437 هــ
9 / 1 / 2016 م
ــــــــــــ

805012016093307.png

"ولسنا نعلم رجلاً آخر من أبناء جلدتنا غير ابن ميمون قد تأثر بالحضارة الإسلامية تأثراً بالغ الحد حتى بدت آثاره وظهرت صبغته في مدوناته من مصنفات كبيرة ورسائل صغيرة". بهذه العبارة افتتح الدكتور إسرائيل ولفنسون تصدير كتابه المُعنوَن (موسى بن ميمون... حياته ومصنفاته) الذي أتمه عام 1936م(1). وذهب الشيخ مصطفى عبد الرازق (أستاذ الفلسفة الإسلامية في الجامعة المصرية) إلى القول في المقدمة التي كتبها للكتاب نفسه: "إنني ممن يجعلون ابن ميمون وإخوانه من فلاسفة الإسلام. وقد قلت في كلمة ألقيتها في حفلة ابن ميمون بدار الأوبرا في أول أبريل سنة 1935م ما نصه: أبو عمران موسى بن ميمون فيلسوف من فلاسفة الإسلام؛ فإن المشتغلين في ظل الإسلام بذلك اللون الخاص من ألوان البحث النظري مسلمين وغير مسلمين يسمَّون منذ أزمان فلاسفة الإسلام. وتسمى فلسفتهم فلسفة إسلامية بمعنى أنها نبتت في بلاد الإسلام وفي ظل دولته، وتميزت ببعض الخصائص من غير نظر إلى دين أصحابها ولا جنسهم ولا لغتهم، ويقول الشهرستاني في كتاب الملل والنحل: (المتأخرون من فلاسفة الإسلام مثل يعقوب بن إسحاق الكندي وحنين ابن إسحاق... إلخ). وإذا كان حنين بن إسحاق النصراني من فلاسفة الإسلام فإنه لا وجه للتفرقة بينه وبين موسى بن ميمون الإسرائيلي"(2). كما ذهب الدكتور عبد الوهاب المسيري إلى التعريف بموسى بن ميمون على أنه: "مفكر عربي إسلاميُّ الحضارة والفكر، يؤمن باليهودية وعضو في الجماعة اليهودية في إسبانيا الإسلامية "(3).

ولد موسى بن ميمون משה בן מימוּן‏ - وعرَّفه بعض العرب قديماً بأبي عمران عبيد الله - في الثلاثين من شهر مارس سنة 1135م في مدينة قرطبة في الأندلس، وكانت ولادته قبيل عيد الفصح اليهودي، وفيه يحتفل اليهود بذكرى خروج موسى بن عمران - عليه السلام - من مصر، وكان والده ميمون قاضياً في المحكمة الشرعية اليهودية بقرطبة. وكانت قرطبة وقتذاك حافلةً بالعلماء والفلاسفة من المسلمين واليهود، وقد كانت كرسي المملكة في القديم، ومركز العلم، ومحل التعظيم والتقديم، كما كانت أعظم مدينة في الأندلس. وقد عُدت قرطبة بحق من المراكز العظيمة لليهود في العصر الإسلامي الذي وصل اليهود فيه إلى أوج مجدهم، فكان منهم الوزير والطبيب في حضرة الملوك والأمراء، وكان جموع منهم يتلقون العلوم في المعاهد الإسلامية العالية، حتى نبغ منهم رجال الفلسفة والعلم والطب والشعر. وازدهرت في قرطبة علوم اللغة العبرية، وكذلك علوم الدين اليهودية، وفيها وُجدت المدرسة الدينية العالية التي أسسها موسى بن أخنوخ משה בן חנוך بمساعدة من الوزير حِسْدَاي بن شَفْرُوط חסדאי בן שפרוט، تلك المدرسة التي استغنى بها يهود الأندلس عن مدارس بغداد الشهيرة، وكانت مقصداً لطلاب العلوم الدينية من اليهود من جميع الأقطار(4).

وشكل التعايش والاندماج اليهودي في السياق العربي الإسلامي أرضية خصبة مكنت المفكرين اليهود من الإبداع والتألق؛ فعرف النتاج الفكري اليهودي في هذه الحقبة أزهى عصوره وأكثرها خصوبة، وقد تركت هذه البيئة أثراً قوياً في موسى بن ميمون، حيث يعتبر موسى بن ميمون نفسه نتاجاً مباشراً وتعبيراً بارزاً لهذا النمط من التعايش اليهودي العربي الإسلامي، كما يشهد ويؤكد على ذلك الأستاذ حاييم زعفراني Haim Zafrani قائلاً: "كان ابن ميمون نتاج مجتمع وحضارة وثقافة متميزة بالاندماج والتعايش بين مختلف مكوناتها... باستثناء المراحل التي شهدت عدم استقرار وأعمال عنف مرتبطة بالنزاع على السلطة وتغيير الحكام وانتفاضات القصور، كانت السمة الغالبة هي العمل المشترك والتعايش في كنف الأمن والسلم"(5).

وفي عام 1148م فتح عبد المؤمن بن علي(*) مدينة قرطبة، وهو ما أدى إلى نزوح أسرة ميمون التي كانت مكونة من الوالد، وولدين، وبنت واحدة، أما الأم فكانت قد توفيت بعد أشهر قليلة من ولادة موسى. وقد حلت أسرة ميمون في مدينة المرية بجنوب الأندلس. وخلال هذه التنقلات لم يهمل موسى بن ميمون تحصيل العلوم الدينية اليهودية، بالإضافة إلى تحصيل علوم الطب والفلك والمنطق والحساب والفلسفة. وبعد أن أقامت أسرته في المرية ونواحيها حوالي اثني عشر عاماً نزحت إلى المغرب في سنة 1160م. وفي العام نفسه نشر ميمون رسالة باللغة العربية حث فيها اليهود على التمسك بالعروة الوثقى، والثبات على النوازل والكوارث التي يريد الله بها أن يمتحن اليهود. ثم نشر ولده موسى - في السياق نفسه - مقالة بالعربية "في سبيل تقديس اسم الله" كانت بمثابة ردٍّ على أحد كبار أحبار اليهود، وكان لها تأثير قوي سرى في جوانح اليهود بجميع البلدان(6).

ونزحت أسرة ميمون من مدينة فاس في 18 أبريل 1165م وبعد مرور ثمانية وعشرين يوماً من الإبحار وصلت إلى ثغر عكا بفلسطين، وبعد أن أقامت ستة أشهر في فلسطين، نزح الأخوان والأخت إلى مصر وبقي والدهم في بيت المقدس، وقد وصل موسى إلى الإسكندرية ومنها انتقل إلى مصر الفسطاط وفيها ألقى عصا الترحال(7). وفي مصر أخذ يخرج نتيجة قريحته بعد سنين قليلة، وكان ذلك بداية حياته العلمية واسعة النطاق في تاريخ بني إسرائيل. والتف حول موسى بن ميمون جمهرة من الشباب - كان أغلبهم من مهاجري الأندلس والمغرب - يستمعون إلى محاضراته في علوم الدين والرياضة والفلسفة والفلك. وكان تلاميذ موسى بن ميمون هم الذين نشروا اسم أستاذهم في الديار المصرية أولاً، ثم في الشام من ناحية، والمغرب والأندلس وجنوب فرنسا من ناحية أخرى؛ لذلك أخذت الرسائل من جميع البلدان الدانية والنائية تنهال عليه وفيها أسئلة في الدين والعلم والفلسفة(8).

وبالرغم من أن موسى بن ميمون لم يصل إلى زعامة الطائفة اليهودية قبل عام 1187م فإنه كان من أعضاء هيئة المحكمة الشرعية اليهودية بالفسطاط بضع سنين قبل العام المذكور. وهذا يتضح من عقد زواج في أوراق الجنيزا(**) يذكر فيه أنه كُتب بإذن موسى حبر الطائفة الإسرائيلية العظيم، ولما اختير رئيساً للطائفة الإسرائيلية عمل على رفع مستوى الشعب اليهودي دينياً وخلقياً وعلمياً، كما أخذ ينفذ مشروعاته المختلفة، وأبى أن يتناول مكافأة مالية على خدماته في منصب الرئاسة، وقد أشار غير مرة إلى أن العمل في الرئاسة بالمكافأة مكروه وممنوع، كما أنه قام بإبطال بعض العادات التي لم ترق له، ومنها استعمال التعاويذ التي كانت منتشرة بين الطبقات العامية، لأنه كان يرى فيها نوعاً من الوثنية، كما أبطل عادة رقص العروس أمام جمهور المحتفلين بها في ملابس هزلية(9)، فقد كان الهم الأول لابن ميمون هو تنقية التصورات الدينية اليهودية من السمات الخرافية والميثولوجية فيها وصبغها بصبغة عقلانية(10).

وكان موسى بن ميمون قد احترف الطب حتى وصل صيته الطبي إلى القاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني الذي كان وزيراً عند صلاح الدين يوسف بن أيوب، فقرر لموسى راتباً وما زال كذلك في دار السلطان إلى أن أصبح الطبيب الخاص للملك الأفضل نور الدين أبي الحسن علي بن صلاح الدين الذي تولى حكم مصر بعد وفاة أخيه الملك العزيز سنة 1198م(11).
توفي موسى بن ميمون يوم الإثنين 13 ديسمبر 1204م، وقد حُملت جثته إلى طبرية في فلسطين ودفن هناك. وعم الحزن في جميع البلدان التي عاشت فيها طوائف يهودية، وقيل فيه كثير من الرثاء حتى ذاع المثل في ذلك الوقت: "من موسى إلى موسى لم يقم مثل موسى"، يشيرون بذلك إلى أنه منذ عهد موسى بن عمران إلى عهد موسى بن ميمون لم يقم مثل موسى بن ميمون(12).

جديرٌ بالذكر أنه ثار جدل طويل حول مسألة إسلام موسى بن ميمون حال وجوده في الأندلس، وردَّتِه إلى اليهودية فور وصوله إلى مصر، وبحسب الدكتور إسرائيل ولفنسون، فإنه ليس في جميع المصادر اليهودية أقلُّ إشارة إلى إسلام بن ميمون في الأندلس أو في المغرب الأقصى، وقد مرت قرون كثيرة استمر فيها النضال الشديد بين أنصار موسى بن ميمون وأعدائه، وفي أثناء هذه الحملات لم يرمِ أحدٌ موسى بأنه خرج عن دين أسلافه في أي مرحلة من مراحل حياته. أما في سنة 1707م فقد نشر العالم بسانج Basnage اعتماداً على ما ورد في كتاب تاريخ مختصر الدول لابن العبري أن أسرة بن ميمون أسلمت أثناء إقامتها بالأندلس، وكان ابن العبري قد أورد رواية نصُّها: "... وفي سنة خمسٍ وستمائة مات موسى بن ميمون اليهودي الأندلسي، وكان قد قرأ علم الأوائل بالأندلس وأحكم الرياضيات وقرأ الطب هناك فأجاده علماً ولم يكن له جسارة على العمل، وأكره على الإسلام فأظهره وأسرَّ اليهودية، ولما ألزم بجزئيات الإسلام من القراءة والصلاة فعل ذلك، إلى أن أمكنته الفرصة في الرحلة بعد ضم أطرافه فخرج من الأندلس إلى مصر ومعه أهله فنزل مدينة الفسطاط بين يهودها، فأظهر دينه وارتزق بالتجارة وما يجري مجراها..."(***). وقد أدى انتشار هذا الخبر في الأندية العلمية اليهودية إلى فتنة أدبية انقسم المؤرخون من أجلها إلى فئتين: الفئة الأولى تناصر العالم بسانج وتجمع على ذلك أدلة مختلفة من مصادر شتى، ومن مؤلفات موسى بن ميمون نفسه، وكانت الأخرى تفند زعم الفئة الأولى بكل ما أوتيت من حماسة وبرهان. وبعد أن أورد الدكتور إسرائيل ولفنسون الرأيين وناقش أدلتهما أوضح بأنه لا يمكن الترجيح في هذه المسألة بشكل نهائي على أنه يميل إلى أن الأقرب إلى الحقيقة هو القول الثاني(13).
-----------------------
(1) إسرائيل ولفنسون، موسى بن ميمون. حياته ومصنفاته، لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1936م.
(2) المرجع نفسه.
(3) عبد الوهاب المسيري (د)، موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، الموسوعة الموجزة، دار الشروق، القاهرة، الطبعة الثالثة، 2006 م، المجلد الأول، ص 343.
(4) إسرائيل ولفنسون، مرجع سابق، ص 1 - 4.
And look: Jewish Encyclopedia.
http://www.jewishencyclopedia.com/ar...ses-ben-maimon
(5) جمال الدين بن عبد الجليل (د)، ابن رشد وابن ميمون، مثالان أندلسيان لصيرورة العقلنة والعلاقة بين الدين والفلسفة، ورقة بحث ألقيت كمداخلة في الملتقى الدولي حول موضوع الحضارة الإسلامية في الأندلس في القرن السادس الهجري - الثاني عشر الميلادي، الجزائر، أيام 2، 3، 4 أبريل 2007 م، ص3.
(*) عبد المؤمن بن علي بن علوي، سلطان المغرب الذي يلقب بأمير المؤمنين، الكومي، القيسي، المغربي، ولد بأعمال تلمسان سنة 487هـ، وبويع بيعتين الأولى من قبل أصحاب ابن تومرت (البيعة الخاصة) في شهر رمضان 524 هـ ثم بويع من قبل الموحدين (البيعة العامة) في 20 ربيع الأول 562 هـ، وقيل 527 هـ، وذلك بجامع تينملل. وكان لا يقر الناس إلا على ملة الإسلام، وكان يخير اليهود والنصارى في البلدان التي يفتحها بين ثلاث، إما أن يسلموا، وإما أن يلحقوا بدار الحرب وإما القتل. ولم يدع مشركاً في بلاده، فجميع رعيته مسلمون. وتوفي يوم الخميس العاشر من جمادي الآخرة سنة 558 هـ. انظر: علي محمد الصلابي (د)، تاريخ دولتي المرابطين والموحدين في الشمال الإفريقي، دار المعرفة، بيروت، الطبعة الثالثة، 2009 م، ص 321 - 351.
(6) إسرائيل ولفنسون، مرجع سابق، ص 6 - 8.
(7) المرجع نفسه، ص 8 - 9.
(8) المرجع نفسه، ص 11، ص 14.
(**) الجنيزا הגניזה: تسمية تطلق في العصر الحديث للدلالة على مكنوزات معبد ابن عزرا الخاص باليهود الربانيم في الفسطاط، كما تطلق على المستودع المؤقت الذي أودعت فيه بالمعبد، وكذلك على المدفن الدائم الذي تدفن فيه هذه المكنوزات.
(9) إسرائيل ولفنسون، مرجع سابق، ص 19.
(10) جمال الدين بن عبدالجليل (د)، مرجع سابق، ص 4.
(11) إسرائيل ولفنسون، مرجع سابق، ص 20.
(12) المرجع نفسه، ص 25 - 26.
(***) لمطالعة نص الرواية كاملة، انظر: غريغوريوس أبو الفرج بن أهرون الطبيب الملطي المعروف بابن العبري، تاريخ مختصر الدول، دار الرائد اللبناني، بيروت، الطبعة الثانية، 1994م، ص 417 - 418.
(13) إسرائيل ولفنسون، مرجع سابق، ص 27 - 40.
وانظر: عبد المنعم الحفني (د)، موسوعة فلاسفة ومتصوفة اليهودية، مكتبة مدبولي، القاهرة، 1994م، ص40.

---------------------------------------
المصدر: ملتقى شذرات

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 01-12-2016, 08:49 AM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود غير متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 56,039
ورقة التأثير الإسلامي في الفكر الديني اليهودي (موسى بن ميمون) (2)

التأثير الإسلامي في الفكر الديني اليهودي (موسى بن ميمون) (2)
ــــــــــــــــــــــــــــــــ

(نبيل محمد سعيد عبدالعزيز)
ـــــــــــــ

2 / 4 / 1437 هــ
12 / 1 / 2016 م
ــــــــــــــ




كان موسى بن ميمون قد بدأ بالتدوين في المرية قبل أن يبلغ سن الثالثة والعشرين، وكانت باكورة أعماله رسالتين: الأولى بالعبرية في حسبان الميقات للأعياد اليهودية، وكان الغرض من هذه الرسالة شرح النسيء وكيفية معرفة الأشهر العبرية القمرية من السنة الشمسية لتعيين الأعياد اليهودية، وقد وضعها بطريقة سهلة جذابة لا يحتاج قارئها إلى مرشد. أما الرسالة الثانية فقد وضعها لعلماء اليهود ذوي الإلمام بالأدب العربي الذين يحتاجون إلى علم الفلسفة والمنطق الإسلامي(*)، ويذكر في بداية هذه الرسالة أن المنطق لا يعد علماً قائماً بذاته، بل هو وساطة إلى تمرين التلميذ والمعلم على البحث وتنظيم التفكير تنظيماً معقولاً، وهو للعقل كالقواعد للغة، فكما تعين القواعد على فهم اللغة يرشد المنطق إلى مسالك الضبط وتنظيم العقل. وهكذا يشرح في أربعة عشر فصلاً أُسس المنطق لمن يريد أن يدرسه، وقد وضع في نهاية كل فصل جملة مصطلحات منطقية شرحها شرحاً وافياً، حتى جمع في رسالته ما يزيد عن خمسة وسبعين ومائة مصطلح، وقد كتب هذه الرسالة باللغة العربية وتُرجمت في ما بعد بفترة وجيزة للغة العبرية(1).

وكان موسى بن ميمون قد بدأ في ذلك العهد، قبل هجرته مع أسرته إلى المغرب الأقصى، في تدوين شرحٍ لبعض أسفار التلمود البابلي(**)، غير أن هذا الشرح ذهبت أغلب صفحاته أدراج الرياح نتيجة تنقلاته الكثيرة قبل أن يصل إلى مصر. وكذلك بدأ في فجر شبابه في تأليف تفسيرٍ مفصلٍ للمشناه(***)، غير أن الأسفار الكثيرة وما حل به من موت أبيه وأخيه أعاقه عن إتمام بحثه إلى أجل، ولما كُتب له التغلب على المصاعب والمتاعب أكمل تفسيره هذا سنة 1168م، وقد بلغ إذ ذاك الثالثة والثلاثين من عمره، وسماه كتاب "السراج"، وقد وضع في صدره بحثاً وافياً عن تاريخ نشأة الرواية والإسناد عند اليهود. كما وضع فيه طريقة جديدة لدراسة المشناه، حتى أصبحت علماً مستقلاً يدرَس لذاته، والتي كانت حتى عهد موسى بن ميمون لا تدرس إلا بمعاونة التلمود؛ وذلك نظراً لاشتمالها على قوانينَ وشرائعَ دُونت بأسلوب موجَز دقيق يؤدي أحياناً إلى غموض وإبهام، لذلك لا تُفهم إلا بمعاونة التلمود الذي شرح غوامضها، وفسَّر أسباب القوانين، وناقش مذاهب المدارس المختلفة التي وردت فيها. وكان موسى بن ميمون يرجو لمؤلَّفه رواجاً عظيماً في البلدان الإسلامية لطرافته في الآداب اليهودية، ولكونه كُتب باللغة العربية، ولكن الجموع اليهودية السفاردية لم تُقبِل عليه إقبالاً مرجواً. وإن كان كتاب "السراج" لم يلقَ قبولاً مُرضياً في الشرق فإن يهود البلدان الغربية الإشكنازيم في المغرب الأقصى والأندلس وجنوب فرنسا، أخذوا يُقبلون عليه إقبالاً عظيماً، فتُرجمت بعض أجزائه إلى العبرية، غير أن أغلب الأجزاء قد نقل إلى العبرية بعد حوالي قرن من وفاة مؤلفه، ففي عام 1296م ألح يهود روما على سليمان أدرث في مدينة برشلونة بتكوين لجنة تترجم جميع أجزاء "السراج" إلى العبرية تحت إشرافه فدعا إليه أحباراً من رجالات العلم وعهد إليهم بذلك فانتشر الكتاب انتشاراً عظيماً في جميع البلاد التي كان يجهل فيها اليهود اللغة العربية. جديرٌ بالذكر فقد كان بن ميمون قد أراد في أُخريات أيامه أن يتولى بنفسه ترجمة كتابه "السراج" إلى العبرية، ولكنه المنية عاجلته قبل أن يحقق أمنيته(2).

ويعلق الدكتور إسرائيل ولفنسون بقوله: وكان هذا الكتاب وحدَه يكفي لتخليد اسم ابن ميمون في تاريخ اليهود، ولكنه استمر في التدوين حتى وصل فيه إلى أعلى درجة لم يبلغها غيره من مفكري اليهود في القرون الوسطى، فألف كتاباً آخر أدّى إلى ثورة اجتماعية في حياة اليهود الدينية، ونعني به كتاب تثنية التوارة. وكان موسى بن ميمون في بادئ الأمر لا يفكر أن يدون كتاباً ضخماً ينشر على الملأ في التشريع، بل أخذ يضع نماذج من القوانين كلما قرأ أو انتهى من قراءة باب، أو فصل في أدب التلمود لتكون مرجعاً له في أثناء تأدية وظيفته الشرعية، ثم لما كثر تدوين هذه الأحكام اتضح له أنها تفيد غيره من الأحبار والقضاة. وإذا كانت طريقة التلمود هي العرض للموضوع وإفساح المجال للمناقشة بين أصحاب المذاهب والآراء المختلفة، دون الترجيح في الغالب، فإن موسى كان يعتمد على الترجيح، ولا يجمع روايات ولا يدخل في غامرة مناقشة، بل يفصل تفصيلاً ويحكم حكماً صريحاً. وصنف كتابه هذا باللغة العبرية وبأُسلوب يقترب من أسلوب المشناه، إذ كان يعتقد أن أسلوب أسفار الكتاب المقدس هو الذي يلائم الموضوعات الشعرية ولا يوافق المواضيع التشريعية التي يجب أن تكون خالصة من شوائب المجازات وفيض العواطف، كما يجب أن تكون كل قضية نتيجة بحث منطقي مجرد عن الشعور والميول الوجدانية(3).

ويصف الدكتور إسرائيل ولفنسون أسلوب بن ميمون بقوله: "وأسلوب موسى العبري غني في المفردات دقيق في التعبير، وهو ليس بأسلوب المشناه الخالص، كما أنه ليس بأسلوب الكتاب المقدس، وإنما هو خلق جديد خاص به قد أثرت فيه الأساليب النثرية العربية المألوفة عند علماء المسلمين في عهده، وكان أسلوب موسى بن ميمون العبري قد أصبح المثل الأعلى لكل من دوَّن في التشريع في العبرية"(4).

ويضيف الدكتور إسرائيل ولفنسون: "إذا كانت البحوث التي وردت في مصنفي "السراج" و "تثنية التوراة" لا تتجاوز حدود الدين وأدب الدين والتشريع الإسرائيلي فإن كتاب موسى بن ميمون الثالث "دلالة الحائرين" يشغل ناحية أخرى من التفكير الإنساني هي الناحية الفلسفية والمنطقية أو الناحية الإنسانية العامة التي كانت تشغل بال المفكرين ورجال الفلسفة في ذلك العهد، ويعد كتاب "دلالة الحائرين" ذروةَ التفكير اليهودي الفلسفي في القرون الوسطى، وهو تفكير لا يزال يخصب العقلية اليهودية إلى يومنا هذا". ويؤكد الدكتور ولفنسون على أن: "مما لا شك فيه أن ظهور التفكير الفلسفي الديني اليهودي في القرون الوسطى إنما هو نتيجة لاتصال اليهود بالحضارة الإسلامية الفلسفية، وكانت الفلسفة اليهودية العربية تتقدم مع الفلسفة الإسلامية عامة(5)، وكتاب "دلالة الحائرين" موجه إلى علماء اليهود "الحائرين" بين ما تقرره الفلسفة العقلية وبين ما أتت به التوراة وشروحها وأخذ به أحبار اليهود (أي الحائرين بين ما يقضي به العقل وما جاء به النقل). وتمهيداً للغرض الذي توخاه من تأليف هذا الكتاب بيَّن موسى بن ميمون صعوبة دراسة الفلسفة وما تحتاج إليه من دراسات تمهيدية في المنطق، ومن تطهير للنفس بالأخلاق الفاضلة والتحرز من الشهوات، كما بيَّن الصعوبات القائمة في التوفيق بين الحكمة والشريعة. وأولها أن ألفاظ التوارة هي ألفاظ مشتركة المعاني لهذا يحتاج الأمر أولاً إلى تفسير هذه الألفاظ المشتركة(6).
جديرٌ بالذكر أنه ليس هناك كتاب عبري بعد الكتاب المقدس، وصحف التلمود قد أثر أثراً عميقاً في حياة اليهود مثل كتاب "دلالة الحائرين" فقد كان يُقرأ ويُدرس في المعابد، وأصبح عماد الاسترشاد لكل من يدرس كتب الدين وفقه الشريعة اليهودية(7).
----------------------------
(*) عُرِّف المنطق بعدة تعريفات، أهمها: المنطق هو العلم الباحث في المبادئ العامة للتفكير الصحيح، وموضوعه البحث في خواص الأحكام، لا بوصفها ظواهر نفسية، بل من حيث دلالتُها على معارفنا ومعتقداتنا. ويعني على الأخص بتحديد الشروط التي بها نبرر انتقالنا من أحكام معلومة إلى أخرى لازمة عنها. وعرَّفه إمانويل كنت بقوله: "نطلق نحن كلمة "منطق "Logik على علم القوانين الضرورية للذهن والعقل بوجه عام. انظر: عبد الرحمن بدوي (د)، موسوعة الفلسفة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، 1984م، الجزء الثاني، ص 473 - 476.
(1) إسرائيل ولفنسون، مرجع سابق، ص 41 - 42.
(**) التلمود البابلي "התלמוד הבבלי": يضم مناقشات علماء التلمود (الأمورائيم) "אמוראים" في (بابل)، وقد وضع في مجمله في "بيت مدراش" راف أش "רב אשי" في (صورا) في نهاية القرن الخامس وبداية القرن السادس الميلادي. انظر: رشاد الشامي (د)، موسوعة المصطلحات الدينية اليهودية، المكتب المصري لتوزيع المطبوعات، القاهرة، 2003 م، ص 307).
(***) المشناه המשנה عبرية مشتقة من الفعل العبري שָׁנָה ومعناه "كرر". ولكن بتأثير اللغة الآرامية صار معناها "درس". ثم أصبحت الكلمة تشير بشكل محدد إلى دراسة الشريعة الشفوية، وخصوصاً حفظها وتكرارها وتلخيصها. و "المشناه" عبارة عن مجموعة كبيرة من الشروح والتفاسير تتناول أسفار "التناخ" (المقرا)، وتتضمن مجموعةً من الشرائع اليهودية التي وضعها معلمو "المشناه" (הַתַּנָּאִים- التنائيم) على مدى ستة أجيال. وتُعتبر "المشناه" مصدراً من المصادر الأساسية للشريعة اليهودية، وتأتي في المقام الثاني بعد التناخ (المقرا) باعتباره هو الشريعة المكتوبة التي تُقرأ. أما "المشناه" فهي الشريعة الشفوية، أو التثنية الشفوية، التي تتناقلها الألسن، فهي إذن تكرار شفوي لشريعة موسى مع توضيح وتفسير ما التبس منها. وتتكون الـ "مشناه" من ستة أبواب هي: (زراعيم "זרעים" - موعيد "מועד" - ناشيم "נשים" - نزِيقين "נזיקין" - قوداشيم "קדשים" - طهاروت "טהרות"). انظر: حسن ظاظا (د)، الفكر الديني الإسرائيلي. أطواره ومذاهبه، معهد البحوث والدراسات العربية، 1971م، ص 78 - 94.
(2) إسرائيل ولفنسون، مرجع سابق، ص 42 - 45.
(3) المرجع نفسه، ص 45، ص 47 - 49.
(4) المرجع نفسه، ص 49.
(5) المرجع نفسه، ص 58.
(6) عبدالرحمن بدوي (د)، مرجع سابق، ص 499.
(7) إسرائيل ولفنسون، مرجع سابق، ص 136.

----------------------------------------
رد مع اقتباس
  #3  
قديم 02-01-2016, 09:02 AM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود غير متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 56,039
ورقة موسى بن ميمون

التأثير الإسلامي في الفكر الديني اليهودي: موسى بن ميمون (3)
-------------------------------


(نبيل محمد سعيد عبدالعزيز)
ـــــــــــــ

22 / 4 / 1437 هــ
1 / 2 / 2016 م
ـــــــــــــ




بدت في آراء موسى بن ميمون الروح الهيلينية - التي اطلع عليها واستقاها من خلال مؤلفات فلاسفة المسلمين - الممتزجة بالروح اليهودية. ففي فسلفته تبدو فلسفة أفلاطون (427 - 347 ق. م)، وأرسطو (384 – 322 ق. م)، وأفلوطين (203 - 270م)، وابن سينا (370 - 428 ه)، وابن رشد (520 - 595 ه)، وابن طفيل (494 - 580ه)، والفارابي (260 - 339 ه)، ومتكلمي المسلمين من المعتزلة والأشاعرة، وكان هدفه هو التوفيق بين الدين اليهودي والفلسفات السابقة الذكر، ويبدو ذلك بوضوح في مؤلفه "دلالة الحائرين"(1). حتى أنه جعل أرسطو - الذي يصفه بأنه رئيس الفلاسفة - والمشرع الإسرائيلي في منزلة واحدة في كثير من المسائل الفكرية، وساوى بين أرسطو وموسى النبي(2).

وفي كتابه المسمى "السراج" - وسماه السراج لأنه كان بمثابة أضواء يسلطها على المدونة الكتيمة للشرع اليهودي، وقد وضعه بالعربية لأنها كانت لغة اليهود الدارجة في الديار الإسلامية(3) - وضع موسى بن ميمون أُصول العقيدة اليهودية وأركان الإيمان اليهودي كما تصورها، وهي (الأصول الثلاثة عشر) والتي تسمى عنده "قواعد الإيمان" والتي يجب أن يتمسك بها كل يهودي، ومن يكفر بإحداها فقد خرج عن اليهودية، وهي على النحو التالي:

الأصل الأول: أنا أؤمن إيماناً كاملاً بأن الخالق تبارك اسمه هو الموجود المدبر لكل المخلوقات وهو وحدَه الصانع لكل شيء في ما مضى وفي الوقت الحالي وفي ما سيأتي.

الأصل الثاني: أنا أؤمن إيماناً كاملاً بأن الخالق، تبارك اسمه، واحد لا يشبهه في وحدانيته شيء بأية حال، وهو وحدَه إلهنا كان من الأزل، وهو كائن، وسيكون إلى الأبد.

الأصل الثالث: أنا أؤمن إيماناً كاملاً بأن الخالق، تبارك اسمه، ليس جسماً، ولا تحده حدود الجسم، ولا شبيه له على الإطلاق.

الأصل الرابع: أنا أؤمن إيماناً كاملاً بأن الخالق، تبارك اسمه، هو الأول والآخر.

الأصل الخامس: أنا أؤمن إيماناً كاملاً بأن الخالق، تبارك اسمه، هو وحدَه الجدير بالعبادة، ولا جدير بالعبادة غيره.

الأصل السادس: أنا أؤمن إيماناً كاملاً بأن كلَّ كلام الأنبياء حق.

الأصل السابع: أنا أؤمن إيماناً كاملاً بأن نبوة موسى كانت حقاً، وأنه كان أباً للأنبياء، من جاء منهم قبله، ومَن جاء بعده.

الأصل الثامن: أنا أؤمن إيماناً كاملاً بأن كل التوراة الموجودة الآن بأيدينا هي التي أعطيت لسيدنا موسى.

الأصل التاسع: أنا أؤمن إيماناً كاملاً بأن هذه التوراة غير قابلة للتغيير، وأنه لن تكون شريعة أخرى سواها من قِبْل الخالق، تبارك اسمه.

الأصل العاشر: أنا أؤمن إيماناً كاملاً بأن الخالق - تبارك اسمه - عالم بكل أعمال بني آدم وأفكارهم، لقوله: " الْمُصَوِّرُ قُلُوبَهُمْ جَمِيعًا، الْمُنْتَبِهُ إِلَى كُلِّ أَعْمَالِهِمْ" (المزامير 33: 15).

الأصل الحادي عشر: أنا أؤمن إيماناً كاملاً بأن الخالق - تبارك اسمه - يجزي الحافظين لوصاياه، ويعاقب المخالفين لها.

الأصل الثاني عشر: أنا أؤمن إيماناً كاملاً بمجيء المسيح، ومهما تأخر فإنني انتظره كل يوم.

الأصل الثالث عشر: أنا أؤمن إيماناً كاملاً بقيامة الموتى، في الوقت الذي تنبعث فيه بذلك إرادة الخالق - تبارك اسمه، وتعالى ذكره - الآن وإلى أبد الآبدين(4).

ويُعلق الدكتور حسن ظاظا - رحمه الله - على تلك الأصول بقوله: وواضح أن موسى بن ميمون قد وصل بالعقائد اليهودية في هذه الأصول الثلاثة عشر إلى المستوى الفكري الموازي لنتائج علم التوحيد وعلوم الكلام عند أئمة المسلمين، كما أن تأثره بها واضحٌ أشد الوضوح، فالخالق عنده كما يبدو في الأصل الأول من هذه الأصول قد خُلعت عليه ربوبية فلسفية لا تكتفي بما كان يكتفي به القصص البسيط في سِفر التكوين، بل وضعت من حوله الشروط والاحتياطات، فهو وحدَه الذي خلق والذي يخلق، حتى يتم النص على اختصاصه بهذه القدرة، منذ الأزل وإلى أبد الآبدين، وهو واحد ولكنه ليس في بساطة الإله الواحد الذي ورد نص التوراة بوحدانيته في سفر التثنية 6: 4 إذ يقول: "اِسْمَعْ يَا إِسْرَائِيلُ: الرَّبُّ إِلهُنَا رَبٌّ وَاحِدٌ" وهي الآية التي تقوم مقام شهادة التوحيد عند المسلمين. فهذا الرب الواحد المعلِن عن وحدانيته في التوراة يتركها مطلَقَة بلا قيد ولا شرط، كما أنه يجعل الإيمان به وجدانياً لا عقلانياً، إذ يقول بعد هذه الآية مباشرة: " فَتُحِبُّ الرَّبَّ إِلهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ وَمِنْ كُلِّ قُوَّتِكَ ". أما موسى بن ميمون فإنه يعلن عن وحدانية لا شبيه لها على الإطلاق، ثم ينص في الأصل الثالث على أن هذا الإله ليس بجسم ولا تحدُّه حدود الجسم، وأنه هو هو منذ الأزل وإلى الأبد، أو كما يقول في الأصل الرابع إنه الأول والآخر. ولا يكتفي بذلك بل ينص على تنزيهه - سبحانه وتعالى - عن الشريك في قوله في الأصل الخامس إنه وحدَه الجديرُ بالعبادة ولا يستحق العبادة غيره. كل ذلك يبدو فيه بوضوح أثر الفكر الديني الإسلامي الذي لم يكن معروفاً على عهد تدوين التوراة، يوم كان الإله الرب الواحد لا يعنيه إلا شعبه المختار، ولا يغضبه أن تكون للأمم الأخرى آلهة أخرى، ولا يتحرج النص التوراتي من أن يقارن - على لسان موسى النبي نفسه - بين هذا الرب وغيره من الأرباب فيقول: "مَنْ مِثْلُكَ بَيْنَ الآلِهَةِ يَا رَبُّ؟ مَنْ مِثْلُكَ مُعْتَزًّا فِي الْقَدَاسَةِ، مَخُوفًا بِالتَّسَابِيحِ، صَانِعًا عَجَائِبَ؟ 12 تَمُدُّ يَمِينَكَ فَتَبْتَلِعُهُمُ الأَرْضُ. 13 تُرْشِدُ بِرَأْفَتِكَ الشَّعْبَ الَّذِي فَدَيْتَهُ. تَهْدِيهِ بِقُوَّتِكَ إِلَى مَسْكَنِ قُدْسِكَ. 14 يَسْمَعُ الشُّعُوبُ فَيَرْتَعِدُونَ. تَأْخُذُ الرَّعْدَةُ سُكَّانَ فِلِسْطِينَ. 15 حِينَئِذٍ يَنْدَهِشُ أُمَرَاءُ أَدُومَ. أَقْوِيَاءُ مُوآبَ تَأْخُذُهُمُ الرَّجْفَةُ. يَذُوبُ جَمِيعُ سُكَّانِ كَنْعَانَ. 16 تَقَعُ عَلَيْهِمِ الْهَيْبَةُ
وَالرُّعْبُ. بِعَظَمَةِ ذِرَاعِكَ يَصْمُتُونَ كَالْحَجَرِ حَتَّى يَعْبُرَ شَعْبُكَ يَا رَبُّ. حَتَّى يَعْبُرَ الشَّعْبُ الَّذِي اقْتَنَيْتَهُ. 17 تَجِيءُ بِهِمْ وَتَغْرِسُهُمْ فِي جَبَلِ مِيرَاثِكَ، الْمَكَانِ الَّذِي صَنَعْتَهُ يَا رَبُّ لِسَكَنِكَ الْمَقْدِسِ الَّذِي هَيَّأَتْهُ يَدَاكَ يَا رَبُّ. 18 الرَّبُّ يَمْلِكُ إِلَى الدَّهْرِ وَالأَبَدِ" (خروج 15: 11 - 18). ونلاحظ أن هذه الأبدية الأخيرة تُفهم تأويلاً، فما كانت اللغة العبرية تحتوي على كلمة صريحة لهذه الفكرة حينئذ، وهي بحرفيتها في الآية تعني (الرب يملك إلى نهاية العالم والزمن)(5).

ويضيف الدكتور حسن ظاظا قائلاً: وفي هذه الأصول الثلاثة عشر تأتي بعد ذلك عقيدة تعلن أن كل كلام النبيين حق وبخاصة نبوة موسى عليه السلام، كما في الأصلين السادس والسابع، ثم تقفز فكرة صوفية إسلامية حول صاحب الدعوة ومؤسس الدين، فكثير من متصوفة المسلمين يقولون أن العالم كله قد خلق من نور النبي صلى الله عليه وسلم، كما ذهب البوصيري في البردة والهمزية. فعلى ضوء الفكرة الصوفية الإسلامية نجد موسى بن ميمون يقول في الأصل السابع أن موسى بن عمران كان أباً للأنبياء من جاء منهم من قبله، ومن أتى بعده أيضاً. وفي الأصل الثامن يأتي بأمر لم يكن معروفاً عند من قبلَه من اليهود الأقدمين وهو وجوب الإيمان بأن كل التوراة الموجودة بين أيدينا الآن هي نفسها التي أُعطيت لموسى بن عمران عليه السلام، ويستكمل فقرته في الأصل التاسع بأنها غير قابلة للتغيير، وأنه لن تكون شريعة أخرى سواها من قبل الخالق تبارك اسمه. وهو هنا يقلد المسلمين تقليداً صارخاً في اعتقادهم بأن النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - هو خاتم النبيين، وأن القرآن هو خاتم الرسالات التي أنزلها الله إلى رسله الكرام، بالرغم من أن النبوة في بني إسرائيل بقيت مستمرة بعد موسى عليه السلام، كما أن التوراة التي بين أيدينا كانت قد ضاعت أكثر من مرة، وكانت تروى مشافهة مدة مديدة من الزمان في أوساط مختلفة من الرواة، بحيث لم تصل إلى أيدينا إلا بعد تنسيق وتجميع وزيادة وحذف. وفي الأصل العاشر يبدو أثر عقيدة الأشاعرة على فكر ابن ميمون حيث ينص على ضرورة الإيمان بإثبات علم الله بأعمال الناس ونواياهم، مقدماً بذلك للإيمان بالثواب والعقاب، في الأصل الحادي عشر. جديرٌ بالذكر أن الأشاعرة يرون بأن القضاء والقدر هو شيء سبق في علم الله لا في إرادته، فالله يعلم بعلمه الكامل الذي لا تحده حدود بما سيأتيه عباده من خير أو شر، ولكنه لم يجبرهم على شيء مما يفعلون، ولم يكتفِ موسى بن ميمون بالأخذ بفلسفة الأشاعرة هنا فحسب بل زادهم وضوحاً وشروحاً في "دلالة الحائرين". والأصلان الثاني عشر والثالث عشر فإنهما يتناولان مجيء المسيح والإيمان بالقيامة وبعث الموتى في اليوم الآخر، وهاتان العقيدتان من العقائد اليهودية الغير الموسوية والتي انبثقت في مجتمعهم في الأيام الحالكة التي عاينها بنو إسرائيل وعانوا منها، بدءاً من تصدع مملكة سليمان - عليه السلام - بعد وفاته مباشرة، مروراً بالسبي البابلي، والشتات والتشرد الروماني "الدياسبورا"(6).
----------------------------------
(1) حسن حسن كامل إبراهيم (د)، الآراء الكلامية لموسى بن ميمون والأثر الإسلامي فيها، مركز الدراسات الشرقية، سلسلة فضل الإسلام على اليهود واليهودية، العدد 7، 1424 هـ - 2003 م، ص12.
(2) المرجع نفسه، ص54.
(3) جورج طرابيشي، معجم الفلاسفة، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، الطبعة الثالثة، 2006 م، ص34.
(4) David Birnbaum, Jews, Church & Civilization, Volume III (Millennium Education Foundation 2005), p 157.
(5) حسن ظاظا (د)، الفكر الديني الإسرائيلي. أطواره ومذاهبه، معهد البحوث والدراسات العربية، القاهرة، 1971 م، ص 159 - 160.
(6) المرجع نفسه، ص 160 - 164.

-------------------
رد مع اقتباس
  #4  
قديم 02-08-2016, 08:43 AM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود غير متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 56,039
ورقة موسى بن ميمون

التأثير الإسلامي في الفكر الديني اليهودي: موسى بن ميمون (4)
----------------------------------


(نبيل محمد سعيد عبدالعزيز)
ـــــــــــــ

29 / 4 / 1437 هــ
8 / 2 / 2016 م
ـــــــــ





استمد كتاب "تثنية التوراة" أهميته من أنه كان المرة الأولى التي يقوم فيها مفكر يهودي بتصنيف الشرائع والمواثيق اليهودية بشكل منظم. وفي ما يتعلق بدوافع تأليف هذا العمل الموسوعي وبطريقة تنظيمه فإن المؤلف يذكر في المقدمة: "اعتمدت أنا موسى بن ميمون الأندلسي على الله، وعلى فهمي لكل هذه الأسفار، ورأيت أن أكتب أشياء واضحة مستقاة من كل المؤلفات التي حددت مفاهيم الحرام والحلال والتي حددت ما هو دنس وما هو طاهر، والتي تناولت كل أحكام التوراة، وكتبت كل شيء بلغة واضحة وبإيجاز، حتى تصبح كل الشريعة الشفهية معروفة ومنظمة لدى الجميع، وهذا المؤلَّف يجمع كل الشريعة والنظم والأحكام منذ عهد نبينا موسى وحتى تأليف الجمارا..".(1) ويضيف ابن ميمون في سبب تسمية كتابه " تثنية التوارة " بأن السبب في ذلك يرجع إلى أن من يقرأ التوراة أولاً ثم يقرأ كتابه هذا لا يحتاج بعد ذلك إلى أن يبحث في كتب أخرى عن تفسير لقوانين التوراة.(2)
وسلك موسى بن ميمون في كتابه منهجاً منطقياً فلسفياً في شرح الشريعة اليهودية، وذلك عن طريق التقسيمات النوعية للقوانين التي شرحها واستخدام المصطلحات الفلسفية متأثراً بمذاهب الفلاسفة والمتكلمين المسلمين في ترتيب هذه القوانين ترتيباً منطقياً يقوم على إخضاع تلك القوانين الصارمة لتقسيم عقائدي فلسفي يتمثل في علاقة الإنسان بخالقه وما ينظم هذه العلاقة والنتيجة المترتبة عليها وما ينتج عن معرفة المخلوق للخالق، هذه المعرفة التي تقوم على الاعتراف بوحدانية الله وعدم الشرك به، والتي ستؤدي حتماً إلى حب الله والتفاني في الإخلاص له إلى غير ذلك من الأمور التي يترتب بعضها على الآخر في تسلسل منطقي يذكرنا بأساليب المعتزلة والمتكلمين المسلمين في عرض قضاياهم وأفكارهم. فقسم ابن ميمون القوانين التي تضمنتها التوراة إلى أربعة أقسام:
أولاً: القوانين التي تنظم العلاقة بين الخالق والمخلوق.
ثانياً: العلاقة التي تنظم علاقة المخلوق مع نفسه.
ثالثاً: العلاقة التي تنظم علاقة خاصة بفلسطين، ويقصد بها الطقوس والأوامر الخاصة بالهيكل وما يُتَّبع هناك.
رابعاً: القوانين التي تنظم علاقة الإنسان اليهودي بمجتمعه سواء في ذلك القوانين المدنية أو الجنائية.
ومن خلال هذه التقسيمات بدأ يُفَرع ابن ميمون ويضع أسماء لمجموعات القوانين المتفرعة عن هذه التقسيمات.(3)
وتجدر الإشارة إلى أنه في الوقت الذي أشار فيه موسى بن ميمون في ثنايا كتابه "دلالة الحائرين" إلى المصادر الفكرية التي اطلع عليها ونقل منها معارفه، فإنه لم يُشِر في مقدمته "لفصول الآباء" التي تعرف باسم "الثمانية فصول" أو في كتابه "تثنية التوراة" إلى المصادر الفكرية التي استقى منها أفكاره، واكتفى بقوله: "ولتعلم أن ما سأقوله في هذه الفصول، وأن كل ما سيرد في التفسير ليس من بنات أفكاري، وإنما كل ما سيرد هنا منتقى من أقوال حاخامات "المدراش" و "التلمود" والبعض منتقى من مؤلفات وأقوال الفلاسفة سواء من القدماء أو المحدثين ومن مؤلفاتٍ أخرى، وأَسمع الحقيقة من الذي يقولها، وقد اقتبس أحياناً مقولة كاملة من كتابٍ معروف، ولا ضرر في هذا، ولا أفتخر بما قاله من سبقوني، وأعترف بهذا، ولن أذكر من هو القائل لأن هذه إطالة لا جدوى منها". ويُرجع الدكتور جمال الرفاعي أن سبب التباين في المنهج الذي اتبعه موسى بن ميمون في "دلالة الحائرين" وبين المنهج الذي اتبعه في مقدمته "لفصول الآباء" وفي " تثنية التوراة" يكمن في أن طبيعة العمل الديني الذي أقدم على تفسيره ألزمه بتجنب ذكر أي مصادر غير يهودية في ثنايا العمل الديني، خاصة وأن هذا العمل كان موجهاً في المقام الأول إلى عامة اليهود، ومن المحتمل أيضاً أن يكون قد تخوَّف من أن تؤدي إشارته لمصادر غير يهودية إلى إثارة غضب رجال الدين اليهود.(4)
وبالبحث عن المصادر الفلسفية التي استقى منها موسى بن ميمون فلسفته ونشرها في كتابه "تثنية التوراة" ومقدمته "لفصول الآباء"، نجد أن فلسفة أبو نصر محمد الفارابي كانت هي النبع الرئيسي الذي استقى منه ابن ميمون. حيث انتحل آراء الفارابي في المواضيع الفلسفية التي تناولها في كتابيه، مع تطابق الأسلوب والألفاظ، واكتفى في عمله بمحاكاة كل ما ورد في أعمال الفارابي من أفكار وتشبيهات. جديرٌ بالذكر أن ابن ميمون لم يخف إعجابه بمؤلفات الفارابي، حيث أوصى مترجمه صموئيل بن تبون في خطابٍ أرسله إليه بالاطلاع عليها، يقول ابن ميمون في خطابه: "لا تدع كتب المنطق تشغلك كثيراً سوى تلك التي ألفها أبو نصر الفارابي، إن كل ما ألفه الفارابي يتسم بقدرٍ كبيرٍ من الحكمة، إن أفكاره تساعد المرء على فهم الحقائق، وإن الشك لا يرقى إلى حكمته ".(5)
وبمقارنة مضمون فلسفة الفارابي الأخلاقية التي أوردها في مؤلفاته "رسالة في آراء أهل المدينة الفاضلة" و " التنبيه على سبيل السعادة" و " السياسة المدنية" و "فصول المدني" بما ورد في مقدمة موسى بن ميمون "لفصول الآباء" وكتابه "تثنية التوارة" فإننا نرى أن ابن ميمون قد تبنى المفاهيم نفسها التي طرحها الفارابي لكل من النفس والأخلاق، فنجد ابن ميمون يؤكد - على غرار الفارابي في كتابه آراء أهل المدينة الفاضلة - أن النفس الإنسانية تمتلك قوى عديدة، تتيح للإنسان ممارسة كافة الأنشطة، وعلى حد اعتقاد ابن ميمون فإن هذه القوى هي: "القوة الغاذية والحاسة والمتخيلة والنزوعية والناطقة"، ويُعَرِّف ابن ميمون القوة المتخيلة بقوله: "والجزء المتخيل هو القوة التي تحفظ رسم المحسوسات بعد غيبتها عن مباشرة الحواس التي أدركتها فتُركب بعضها إلى بعض وتفصل بعضها عن بعض، ولذلك تُرَكّب هذه القوى من الأمور التي لا يمكن إدراكها، كما يتخيل الإنسان سفينة حديد تجري في الهواء، وشخص إنسان رأسه في السماء ورجليه في الأرض، وشخص حيوان بألف عين مثلاً، وكثير من هذه الممتنعات تركبه هذه القوة المتخيلة وتوجده في الخيال".(6) وعند مقارنة تعريف ابن ميمون لهذا الجزء من النفس بتعريف الفارابي للقوة المتخيلة من النفس فإننا نجد تشابهاً ملحوظاً يؤكد ما ذهبنا إليه من أن ابن ميمون استقى آراءه تلك من أعمال الفارابي، حيث يقول الفارابي عن القوة المتخيلة: "هي التي تحفظ رسوم المحسوسات بعد غيبتها عن الحس وتركب بعضها إلى بعض، وتفصل بعضها عن بعض، في اليقظة والنوم، تركيباتٍ وتفصيلاتٍ بعضها صادق وبعضها كاذب ". (7)
وسار ابن ميمون أيضاً على نهج الفارابي عند تعريفه للقوة النزوعية من النفس، فيعرفها بقوله: "والجزء النزوعي هو القوة التي بها يتشوق الإنسان لشيءٍ ما أو يكرهه، وعن هذه القوة يصدر من الأفعال الطلب والإيتاء لأمر ما والتجنب له والغضب والرضا والإقدام والقسوة والرحمة والمحبة والبغضة وكثير من هذه العوارض النفسانية".(8) وعرفها الفارابي - في كتابه السياسة المدنية - بقوله: "والنزوعية هي التي يكون بها النزاع الإنساني بأن يطلب الشيء أو يهرب منه، ويشتاقه أو يكرهه، ويؤثره أو يجتنبه. وبها يكون البغضة والمحبة والصداقة والعداوة والخوف والأمن والغضب والرضا والشهوة والرحمة وسائر عوارض النفس".(9)
وبعد أن شرح ابن ميمون وظيفة كل قوة من قوى النفس البشرية معتمداً على ما أورده الفارابي، فإننا نجده قد حاكى الفارابي أيضاً في أن أحوال النفس شديدة الشبه بأحوال البدن، وأن حالة مرضى الأبدان تشبه حالة من يبتعدون عن الفضيلة والصواب، وهم الذين أطلق عليهم الفارابي اسم (مرضى الأنفس)، ويطلق الفارابي هذا التعبير على من لا يتمسكون بالفضيلة وعن مرضى الأنفس يذكر الفارابي: " كما أن مرضى الأبدان يُخيّل لهم فساد حسهم في ما هو حلو وفي ما هو مر ويتصورون الملائم بصورة ما هو غير ملائم، وغير ملائم بصورة ما هو ملائم، كذلك الأشرار وذوو النقائص إذا كانوا من مرضى الأنفس يُخيّل لهم في ما هو شرور أنها خيرات، وفي ما هي خيرات أنها شرور". وفي ما يتعلق بابن ميمون فإنه يستخدم في " تثنية التوراة" التشبيه نفسه الذي استخدمه الفارابي، فيذكر ابن ميمون: "إن مرضى الأبدان يرون أن ما هو مر حلو وأن الحلو مر، فبعض المرضى يأكلون أطعمة يجب ألا تؤكل مثل التراب والفحم، ويكرهون الأطعمة الطيبة مثل الخبز واللحوم، وهذا الأمر يعتمد على مدى قوة المريض، والبشر الذين نفوسهم مريضة يحبون الآراء الشريرة ويكرهون الصراط المستقيم، ويتلكؤون في السير عليه لأن هذا الصراط صعب عليهم، ويذكر إشعياء 5: 20: (وَيْلٌ لِلْقَائِلِينَ لِلشَّرِّ خَيْرًا وَلِلْخَيْرِ شَرًّا، الْجَاعِلِينَ الظَّلاَمَ نُورًا وَالنُّورَ ظَلاَمًا، الْجَاعِلِينَ الْمُرَّ حُلْوًا وَالْحُلْوَ مُرًّا)، وقيل عليهم في سفر الأمثال 2: 13: (التَّارِكِينَ سُبُلَ الاسْتِقَامَةِ لِلسُّلُوكِ فِي مَسَالِكِ الظُّلْمَةِ). ويلاحظ هنا أن ابن ميمون تجنب ذكر المصدر الذي استقى منه مع ذكره لبعض الفقرات من سفري إشعياء والأمثال والتي يتشابه مضمونها مع ما قد اقتبسه من الفارابي، ويرجح أن ابن ميمون اقتبس هذه الفقرات من التوراة بغرض توضيح أن كل ما كتبه يتماشى مع روح الشريعة والكتابات اليهودية، وأن كل ما يطرحه من أفكار مستمد من روح الشريعة.(10)
ومن بين المسائل الرئيسية التي تناولها ابن ميمون مسألة الفضيلة وسبل اكتسابها، وبالرغم من أن رؤية ابن ميمون لسبل اكتساب الفضيلة تتشابه مع ما ورد في كتاب الأخلاق لأرسطو غير أن الأسلوب الذي استخدمه ابن ميمون في إطار حديثه عن الفضيلة لا يشبه فقط أسلوب الفارابي وإنما يتطابق معه، ففي إطار حديث الفارابي عن سبل اكتساب الفضيلة يذكر: "لا يمكن أن يفطر الإنسان من أول أمره بالطبع ذا فضيلة ولا ذا نقيصة، كما لا يمكن أن يفطر الإنسان بالطبع حائكاً ولا كاتباً، ولكن يمكن أن يكون بالطبع معداً نحو أحوال فضيلة أو رذيلة بأن تكون أفعال تلك أسهل عليه من أفعال غيرها، ومتى كُررت أفعال الفضيلة وتمكنت بالعادة حتى تصير هيئة للنفس فإن الهيئة المتمكنة من العادة هي التي يقال لها فضيلة". ويؤكد ابن ميمون على غرار الفارابي أن الفضيلة لا تكتسب إلا عن طريق الممارسة، فيذكر ابن ميمون: "لا يمكن أن يفطر الإنسان من أول أمره بالطبع ذا فضيلة ولا ذا نقيصة، كما لا يمكن أن يفطر الإنسان بالطبع ذا صناعة من الصنائع العملية، ولكن يمكن أن يفطر بالطبع معداً نحو فضيلة أو رذيلة بأن تكون أفعال تلك عليه من أفعال غيرها، واعلم أن الفضائل الخلقية إنما تتحصل وتتمكن في النفس بتكرير الأفعال الكائنة عن ذلك الخلق مراراً كثيراً في زمان طويل واعتيادها لها، فإن كانت تلك الأفعال خيرات كان الذي يحصل لنا هو الفضيلة".(11) وبعد أن حدد ابن ميمون أن الفضيلة لا تكتسب إلا عن طريق الممارسة، فإنه أوضح - على غرار الفارابي - أن الأخلاق الحميدة هي التي تتسم بالاعتدال والتوسط، وكما هو معروف فقد أكد الفارابي في أكثر من عمل أن الفضيلة هي نوع من الوسط بين طرفين أحدهما إفراط والآخر تفريط، فمثلاً فضيلة كالشجاعة هي وسط بين إفراط هو التهور وتفريط هو الجبن، وفضيلة كالكرم أو السخاء هي وسط بين إفراط هو التبذير وتفريط هو التقتير، وعند تعريف الفارابي لهذه الحالة المتوسطة للأخلاق فإنه يذكر: "الأفعال التي هي خيرات هي الأفعال المعتدلة المتوسطة بين طرفين هما جميعاً شر أحدهما إفراط والآخر نقص، وكذلك الفضائل فإنها هيئات نفسانية وملكات متوسطة بين هيئتين وكلتاهما رذيلتان أحدهما أزيد والأخرى أنقص، مثل العفة فإنها متوسطة بين الشره وبين عدم الإحساس باللذة، والسخاء متوسط بين التقتير والتبذير، والشجاعة متوسطة بين التهور والجبن". وعند مقارنة مفهوم الفارابي للأخلاق بما ذكره موسى بن ميمون عن المفهوم نفسه في كتابه "تثنية التوراة" فإننا نجد مرة أخرى التطابق نفسه الذي وجدناه في سائر الأمثلة السابقة، فيذكر ابن ميمون: "إن الصراط المستقيم هو درجة متوسطة في كل رأي ورأي من بين كل الآراء التي للإنسان، وهو الرأي الذي يبعد عن الطرفين بعداً متساوياً، حيث لا يقترب لهذا الرأي ولا لهذا الرأي، ولهذا أمر الحاخامات الأوائل أن يهتم الإنسان بآرائه دائماً ويوجهها إلى وجهة وسطى حتى يصبح سليماً".(12)
__________________________________
(1) جمال الرفاعي (د)، تأثير فلسفة الفارابي على تفسير موسى بن ميمون للمشنا، في: أبحاث ندوة التأثيرات العربية في اللغة العبرية والفكر الديني والأدب العبري عبر العصور (26 - 27 ديسمبر 1992م)، دار الزهراء للنشر، ص87.
(2) عبد الرازق أحمد قنديل (د)، الأثر الإسلامي في الفكر الديني اليهودي، مركز بحوث الشرق الأوسط، جامعة عين شمس، 1984م - 1404 هـ، ص 254.
(3) المرجع نفسه، ص 253 - 256.
(4) جمال الرفاعي (د)، مرجع سابق، ص 88 - 89.
(5) المرجع نفسه، ص 90.
(6) المرجع نفسه، ص 90 - 91.
(7) أبو نصر الفارابي، السياسة المدنية، تحقيق: فوزي متري نجار (د)، المطبعة الكاثوليكية، بيروت - لبنان، 1964م، ص 33.
(8) جمال الرفاعي (د)، مرجع سابق، ص 91.
(9) أبو نصر الفارابي، السياسة المدنية، مرجع سابق، ص 33.
(10) جمال الرفاعي (د)، مرجع سابق، ص 92 - 94.
(11) المرجع نفسه، ص 94 - 95.
وانظر: الفارابي، رسالة التنبيه على سبيل السعادة، دراسة وتحقيق: سحبان خليفات (د)، منشورات الجامعة الأردنية، عمان، الطبعة الأولى، 1987 م، ص 62 - 63.
(12) جمال الرفاعي (د)، مرجع سابق، ص 95 - 96.
وانظر: الفارابي، رسالة التنبيه على سبيل السعادة، مرجع سابق، ص 63 - 65.


---------------------------------
رد مع اقتباس
  #5  
قديم 02-11-2016, 08:54 AM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود غير متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 56,039
ورقة التأثير الإسلامي في الفكر الديني اليهودي: موسى بن ميمون (5)

التأثير الإسلامي في الفكر الديني اليهودي: موسى بن ميمون (5)
ــــــــــــــــــــــــــــــ


(نبيل محمد سعيد عبدالعزيز)
ـــــــــــــ

2 / 5 / 1437 هــ
11 / 2 / 2016 م
ـــــــــ







بدأ موسى بن ميمون في تأليف كتابه "دلالة الحائرين" سنة 1186م وانتهى منه سنة 1190م، واشتمل على كثير من الآراء الدينية والفلسفية التي حصلها من الموروثات الدينية والفلسفية والأدبية اليهودية، كما استفاد من آراء متكلمي المسلمين وفلاسفتهم وأدبائهم، واكتسب من المسلمين أيضاً فلسفة أرسطو، وما وُضع عليها من شروح، وعرف كذلك من كتابات أرسطو المترجمة للعربية آراء الفلاسفة السابقين عليه أمثال بطليموس (87 - 150م) وجالينوس (129 - 200م). وبالجملة فقد حصل موسى بن ميمون كل المعارف الواردة في كتابه الدلالة - وغيره من مؤلفاته - من مخالطته لعلماء الأندلس وتودده إليهم.(1)
ووضع ابن ميمون كتابه "دلالة الحائرين" باللغة العربية بحروف عبرية، ويذهب الشيخ محمد زاهد الكوثري في مقدمته لكتاب "المقدمات الخمس والعشرون في إثبات وجود الله ووحدانيته وتنزهه من أن يكون جسماً أو قوة في جسم من دلالة الحائرين" إلى أن السبب في ذلك يعود إلى أن ابن ميمون كان بتأليفه هذا يتوجس خيفة من اليهود والمسلمين في آن واحد لأنه ألف كتابه هذا مناوئاً لكثير من الآراء المتوارثة بين اليهود جاعلاً دين اليهود خاضعاً لمبادئ أرسطو، ومبادئ فلاسفة الإسلام التي تلقاها من أمثال ابن طفيل وابن رشد الحفيد وارتضاها لنفسه، مع حملات قاسية وجهها إلى فرق المتكلمين من أشاعرة ومعتزلة حسبما استلهمه من يهوديته، فجعل كتابه هذا عربي اللغة، عبري الخط، ليكون اطلاع من لا يأمن جانبهم عليه ببطء، لأنه قل بين اليهود من يعرف العربية في زمنه إلا وهو من مريديه فيستسيغ آراءه، وقل أيضاً بين علماء المسلمين من يلم بالخط العبري في بلاده إلا وله سهم في الفلسفة فيتسع صدره لشتى الآراء، فلا تكون ثورة من يثور عليه من الطائفتين باندفاع بل على تمهل، لكن الغريب أنه لقي مناوأة شديدة من أهل دينه في حين أن علماء المسلمين لم يهتموا بالرد على كتابه مع أن حملاته في كتابه على فرق المسلمين كانت شديدة، ولعل ذلك التساهل معه أتي من جهة سعيه الحثيث في انتشال اليهود من ورطة التجسيم المتوارث بينهم فوجدوا في عمله هذا تخفيف الشر من جانب اليهود، فكان هذا شفيعاً له عندهم وتعرضه لفرق المسلمين لم يبالوا به لكون سهل الرد.(2)
وكان ابن ميمون يهدف في "دلالة الحائرين" إلى توضيح كل ما يتعلق بأمور الشريعة اليهودية وإظهار ما كان خافياً فيها عن فهم الجماهير من بواطن الأمور، بمعنى أنه لم يهدف إلى مجرد تفسير وشرح قوانين الشريعة فقط، وإنما هدف إلى الجمع بين الأمور الدينية الظاهرة والفلسفية الخافية في آن واحد وهو ينبه على ذلك بقوله: "وإنما قصدت بهذه المقالة أن أبين مشكلة الشريعة، وأظهر حقائق بواطنها التي هي أعلى من أفهام الجمهور، فلذلك لا ينبغي لك إذا رأيتني أتكلم في إثبات العقول المفارقة، وفي عددها أو في عدد الأفلاك... فلا تظن أو يخطر ببالك أني إنما قصدت لتحقيق ذلك المعنى الفلسفي فقط، بل إنما أقصد لذكر ما يبين مشكلة من مشكلات الشريعة فأفهما وأحل عقداً كثيرة بمعرفة ذلك المعنى الذي ألخصه".(3)
فسعى ابن ميمون إلى التوفيق بين الشريعة اليهودية والفلسفة، حيث أورد بعض الحجج الفلسفية ليؤكد على بعض الآراء الدينية، فما ورد من فلسفات في "دلالة الحائرين" ليست الموضوع الرئيسي له بل الموضوع الرئيسي هو الشريعة اليهودية التي أراد البرهنة عليها بالطرق الفلسفية، حتى ينقذ هؤلاء الذين اضطربوا وحاروا في بحار الفلسفة الموغلة في العمق. وبسبب تلك المحاولة في التوفيق بين الفلسفة والدين اليهودي أصبح كتاب "دلالة الحائرين" مملوءاً بالتناقضات المحيرة، ولذلك رأى بعض الباحثين أن ابن ميمون نفسه يعد في هذا العمل أول الحائرين الذين غاصوا في بحور الفلسفة.(4)
جديرٌ بالذكر أن موسى بن ميمون رفض في "دلالة الحائرين" التفسير الحرفي لنصوص التوراة لذلك نجده يؤول النصوص الدينية المتعلقة بذات الله سبحانه، ومعرفته، وتعريف توحيده، عن طريق المنطق والعقل، معتمداً في تأويله هذا على فلسفة أرسطو وعلى غيره من فلاسفة المسلمين، غير مبال أن يكون تأويله بعيداً عن لغة التخاطب، ما دام موافقاً للمبادئ الفلسفية عنده، مع إظهار ما له من الملاحظات، والانتقادات، ووجوه الفرق في نظره بين العقلية اليونانية، والإسلامية، واليهودية. وبهذا اعتبر اليهود موسى بن ميمون واضع أساس التفسير العقلي لليهودية، واعتُبر كتابه الدلالة بالنسبة للفلسفة اليهودية في مكانة التلمود بالنسبة للديانة اليهودية.(5)
وقسم ابن ميمون كتابه "دلالة الحائرين" إلى ثلاثة أجزاء، تناول في الجزء الأول ذات الله سبحانه، وصفاته، ومعرفته، وتوحيده. ونجد أن ابن ميمون قد تبنى آراء ابن طفيل عند مقارنته بين صفات الإله وصفات الموجودات، فعنده كل كمال وفضيلة وبهاء للموجودات إنما هي فيض من الإله تعالى الذي هو أعظم منها وأكمل وأتم وأحسن وأبهى وأدوم، ما يستتبعه أن أفعاله - تعالى - كاملة وتامة وحسنة، لا لعب ولا عبث ولا باطل فيها.(6) وأشار ابن ميمون إلى أن الوجود وجودان، ما لوجوده سبب وما ليس لوجوده سبب، والنوع الأول من الوجود وجوده عارض له، ووجوده معنى زائد على ماهيته. أما النوع الثاني من الوجود - أعني ما ليس لوجوده سبب - فهو وحدَه كذلك، ووجوده هو ذاته وحقيقته وماهيته، إنه الإله تعالى، وهو تعالى قادر لا بقدرة، وحي لا بحياة، وموجود لا بوجود، ووجوده تعالى خاص به لا نعرف ماهيته، وهذا ما أشار إليه الفارابي وابن سينا وتبناه موسى بن ميمون من بعدهما. ونلاحظ تأثر ابن ميمون بآراء ابن رشد في رفضه أن تكون الصفات زائدة عن الذات.(7) كما تأثر به أيضاً في ما ذهب إليه من سلب الصفات عن الذات لإثبات الكمال.(8) حيث ادعى ابن ميمون أن وصف الله تعالى بالسوالب والتنزيهات هو الوصف الصحيح الذي لا يلحقه شيء من التسامح في نظره، ويقول إن وصفه – تعالى - بالإيجابيات فيه خطر جسيم، قد يؤدي إلى التجسيم.(9) ونرى أن ابن ميمون هنا متأثراً أيضاً بفكر المعتزلة والظاهرية الذين يرفضون فكرة التجسيم، وقد تقبل كثير من المفسرين اليهود قبله هذا الفكر، وربما يكون قد وصله عن طريق سعديا الفيومي إن لم يكن قد اطلع عليه مباشرة من مؤلفات المعتزلة والظاهرية. وهو في ذلك كله يسير بالقارئ سيراً منطقياً مستخدماً أساليب الفلسفتين اليونانية والإسلامية رافضاً الأفكار البدائية التي تقوم على استخدام التعاويذ والتمائم، كما أغفل بعض ما ورد في التلمود من قواعد خاصة بألفاظ الطِّيرة والتمائم والتنجيم، فكان بذلك من بين مفكري العصور الوسطى القلائل الذين لم يؤمنوا بالتنجيم. وفي الجزء الثاني من دلالة الحائرين تحدث بن ميمون عن مسألة إثبات الذات الإلهية وقِدم العالم أو حدوثه وهي من المسائل التي كثر فيها حديث الفلاسفة والمتكلمين المسلمين، كما يبحث أيضاً في النبوة والمؤمنين بها مقسماً إياهم إلى طبقات ثلاث. أما الجزء الثالث فيبحث فيه عن رؤيا حزقيال مقارناً إياها برؤيا النبي إشعياء، ثم يعرج بعد ذلك إلى بعض الوصايا والقوانين الواردة في التوارة محاولاً إيجاد تعليل فلسفي لها. كل ذلك بأسلوب عربي نجده يتردد كثيراً في كتابات علماء الملسمين وفلاسفتهم مع تأثره تأثراً واضحاً بالبيئات المختلفة التي عاش فيها سواء في الأندلس أو المغرب أو مصر.(10)
----------------------------------
(1) حسن حسن كامل إبراهيم (د)، الآراء الكلامية لموسى بن ميمون والأثر الإسلامي فيها، مركز الدراسات الشرقية، سلسلة فضل الإسلام على اليهودية، العدد 7، 1424 ه - 2003م، ص 44 - 45.
(2) أبو عمران موسى بن ميمون، المقدمات الخمس والعشرون في إثبات وجود الله ووحدانيته وتنزهه من أن يكون جسماً أو قوة في جسم من دلالة الحائرين، تصحيح وتقديم: محمد زاهد الكوثري، المكتبة الأزهرية للتراث، 1413 ه - 1993م، ص 17 - 18.
(3) عبد الرازق أحمد قنديل (د)، الأثر الإسلامي في الفكر الديني اليهودي، مركز بحوث الشرق الأوسط، جامعة عين شمس، 1984م - 1404 هـ، ص 256 - 257.
(4) حسن حسن كامل إبراهيم (د)، مرجع سابق، ص 50.
(5) المرجع نفسه، ص 52 - 53.
وانظر: أبو عمران موسى بن ميمون، مرجع سابق، ص 18.
(6) حسن حسن كامل إبراهيم (د)، مرجع سابق، ص 68.
(7) المرجع نفسه، ص 80 - 81.
(8) المرجع نفسه، ص 84.
(9) أبو عمران موسى بن ميمون، مرجع سابق، ص 18.
(10) عبد الرازق أحمد قنديل (د)، مرجع سابق ، ص 258 - 259.
وانظر: موسى بن ميمون القرطبي الأندلسي، دلالة الحائرين، عارضه بأصوله العربية والعبرية: حسين آتاي (د)، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، د. ت.


----------------------------
رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية

الكلمات الدلالية (Tags)
ميلون, موسى


يتصفح الموضوع حالياً : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
أدوات الموضوع

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


المواضيع المتشابهه للموضوع موسى بن ميمون (1)
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
تجربة زراعة شجرة ليمون من بذرة Eng.Jordan الزراعة 0 11-13-2015 11:09 PM
يوم نجى الله فيه موسى عبدالناصر محمود الملتقى العام 0 10-24-2015 08:11 AM
موسى بن نصير Eng.Jordan شخصيات عربية وإسلامية 0 03-24-2013 02:53 PM
مدمنو الأجهزة الذكية Eng.Jordan الملتقى العام 0 12-29-2012 11:12 PM
زيارة خاصة لشخص أسلم بسببه أكثرمن 4 ميلون Eng.Jordan شذرات إسلامية 4 03-25-2012 06:27 PM

   
|
 
 

  sitemap 

 


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 12:21 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.12 by vBS
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والمشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59