#1  
قديم 11-02-2013, 07:41 PM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,392
افتراضي عبرة الهجرة


مصطفى لطفي المنفلوطي

إنَّ أخلاق النَّبي - صلى الله عليه وسلم - وسَجَاياه التي لا تشتمل على مثلها نفس بَشَريَّة ما يغنيه عن خارقة تأتيه منَ الأرض أو السَّمَاء، أو الماء، أو الهواء.

إنَّ ما كان يَبهر العرب مِن معجزات علمه، وحِلْمه، وصَبْره، واحتماله، وتَوَاضعه، وإِيثاره، وصِدْقه، وإِخْلاصه - أكثر ممَّا كان يبهرهم مِن معجزات تسبيح الحَصَى وانشقاق القَمَر، ومَشْي الشَّجر، ولين الحجر؛ وذلك لأنَّه ما كان يَريبهم في الأولى ما كان يريبهم في الأخرى مِنَ الشّبَه بينها وبين عرَافَة العَرَّافينَ، وكَهَانَة الكَهَنَة، وسِحْر السَّحَرَة، فَلَولا صفاته النَّفسيَّة، وغرائزه، وكَمَالاته ما نَهَضَت له الخَوَارق بكل ما يريده، ولا تركت له المعجزات في نفوس العَرَب ذلك الأثر الذي تَرَكَته؛ ذلك هو معنى قوله - تعالى - : {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159].

كان - صَلَّى الله عَلَيه وَسَلَّم - شُجاع القَلْب، فلم يهب أن يدعوَ إلى التَّوحيد قومًا مُشركينَ يعلم أنَّهم غِلاظ جفاة، شَرسون، متنمِّرون، يغضبون لدينهم غضبَهم لأعراضهم، ويُحبُّون آلِهَتهم حبَّهم لأبنائهم.
كان على ثقةٍ من نَجاح دَعْوَته، فكان يقول لقُريش - أشدَّ ما كانوا هزءًا به وسخرية -: ((يا مَعشَر قريش: والله لا يأتي عليكم غيْر قليل حتَّى تعرفوا ما تنكرونَ، وتُحبُّوا ما أنتم له كارهونَ)).

كان حليمًا سَمح الأخلاق؛ فلم يُزْعِجه أنْ كان قومه يؤذونه، ويزدرونه، ويشعثون[1] منه، ويضعون التُّراب على رأسه، ويُلْقُونَ على ظهره أمعاء الشَّاة، وسلى[2] الجَزور، وهو في صلاته؛ بل كان يقول: ((اللهُمَّ اغفر لقومي فإنَّهم لا يعلَمونَ)).

كان واسعَ الأمل، كبير الهمَّة، صلب النَّفس، لبث في قومه ثلاث عشرة سنة؛ يدعو إلى الله فلا يلبي دعوته إلاَّ الرَّجل بعد الرَّجل، فلم يبلغ المَلَل من نفسه، ولم يخلص اليأس إلى قلبه، فكان يقول: ((والله لو وَضَعوا الشَّمس في يَميني، والقمرَ في شِمالي، على أن أتركَ هذا الأمر حتى يظهره الله، أو أهلك دونه فيه ما تركته)).

وما زالَ هذا شأنه حتَّى عَلمَ أنَّ مَكَّة لن تكونَ مبعث الدَّعوة، ولا مطلع تلك الشمس المشرقَة، فهَاجَرَ إلى المدينة؛ فانتَقَلَ الإسلام بانتقاله منَ السُّكون إلى الحَرَكَة، ومن طَور الخفاء إلى طَور الظُّهور؛ لذلك كانت الهجرة مبدأ تاريخ الإسلام؛ لأنَّها أكبر مظهر من مَظَاهره.

لقد لَقيَ - صلَّى الله عليه وسَلَّم - في هجرته عناءً كثيرًا، وَمَشَقَّةً عظمى؛ فإن قومه كانوا يكرهون مهاجرته لا ضِنًّا به؛ بلْ مَخَافة أن يَجدَ في دار هِجْرته منَ الأعوان والأنصار ما لم يَجِد بينهم، كأنَّما يشعرون بأنَّه طَالب حق، وأنَّ طالب الحق لا بدَّ أن يجدَ بين المحقينَ أعوانًا وأنصارًا، فوَضَعوا عليه العيون والجواسيس؛ فخَرَجَ من بينهم ليلة الهجرة متَنَكِّرًا بعد ما ترك في فراشه ابن عمه علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - عبثًا بهم، وتضليلاً لهم عنِ اللحاق به.

ومشى هو وصاحبه أبو بكر - رضي الله عنه - يَتَسَلَّقان الصخور، وَيَتَسَرَّبان في الأغوار والكهوف، ويلوذان بأكناف الشعاب والهِضاب حتَّى انقَطَعَ عنهما، وتَمَّ لهما ما أرادَ بفَضل الصَّبر والثَّبات على الحق.
إنَّ حياة النَّبي - صَلَّى الله عليه وَسَلَّم - أعظم مثال يجب أن يحتذيَه المسلمونَ للوصول إلى التَّخَلُّق بأشرف الأخلاق، والتَّحَلِّي بأكرم الخصال، وأحسن مدرسة يجب أن يَتَعَلَّموا فيها كيف يكون الصِّدق في القول، والإخلاص في العمل، والثَّبات على الرَّأي - وسيلة إلى النَّجاح، وكيف يكون الجِهاد في سبيل الحق سببًا في عُلُوِّه على الباطل.
لا حاجَةَ لنا بتاريخ حياة فلاسفة اليونان، وحكماء الرُّومان، وعلماء الإفرنج؛ فلَدَينَا في تاريخنا حياة شريفة مملوءةٌ بالجد والعمل، والبر والثَّبات، والحب والرَّحمة، والحكمة والسِّياسة، والشَّرَف الحقيقي، والإنسانيَّة الكاملة، وهي حياة نَبينا - صلى الله عليه وسلم - وحسبنا بها وكَفَى.

[1] يقال شعث فلان من فلان: تنقصه.
[2] السلى للدواب بمنزلة المشيمة للإنسان
المصدر: ملتقى شذرات

__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية

الكلمات الدلالية (Tags)
الهجرة, عبرة


يتصفح الموضوع حالياً : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
أدوات الموضوع

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


المواضيع المتشابهه للموضوع عبرة الهجرة
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
موسم الهجرة الى الأردن Eng.Jordan مقالات أردنية 0 03-06-2013 10:35 AM
غارة اسرائيلة على قافلة عبرت الحدود السورية الى لبنان Eng.Jordan أخبار عربية وعالمية 2 02-01-2013 04:29 PM
الهجرة النبوية دلالات وعبر Eng.Jordan شذرات إسلامية 0 11-03-2012 09:35 PM
"الجارديان": الحكم على مبارك غدًا سيجعله عبرة لرئيس مصر المقبل يقيني بالله يقيني أخبار عربية وعالمية 0 06-02-2012 01:17 AM
الهجرة أسرار وأنوار مهند شذرات إسلامية 2 04-24-2012 11:33 PM

   
|
 
 

  sitemap 

 


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 01:45 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.12 by vBS
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والمشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59