#1  
قديم 11-11-2012, 08:35 PM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,392
افتراضي الحركة النقدية حول شعري البحتري وابن الرومي



ماجد عبد الحميد الكعبي
كلية الاداب-جامعة البصرة
توطئة
بداية لابد من التعريف بحياتي شاعرينا لكي نعرف بعض المحطات التي جمعتهما. كما تمضي معرفة حياتيهما بعضاً من القضايا الفنية التي دار حولها الصراع لأن الصراع لم يكن فنياً خالصاً- كما سنرى لاحقا- لقد جمع العصر العباسي الثاني بينهما ولكن الفارق بين الاثنين ان البحتري عاش بين ظلال القصور بعدما عاصر الخلفاء الواثق والمتوكل والمنتصر والمستعين والمعتز وعبد الله بن المعتز والمهتدي والمعتمد والموفق في حين عاش ابن الرومي بعيداً عنها وعلى الرغم من انه قد عاصر الخلفاء انفسهم إلا انه فضل ان يكون بعيداً عن البلاط العباسي بسبب مذهبه العلوي فقد:((كان ابن الرومي متشيعاً في الهوى، متشيعاً في الرجاء، متشيعاً في الرأي الذي وافق الهوى والرجاء))(1) فضلاً عن طبيعته النفسية ومزاجه المتقلب اللذين كانا مسؤولين عن اختلاف طبيعته الفنية التي يعرفها العقاد بقوله:(( ان الطبيعة الفنية هي تلك الطبيعة التي تجعل من شعر الشاعر جزءاً من حياته ايا كانت هذه الحياة من الكبر أو الصغر ومن الثروة أو الفاقة، ومن الألفة أو الشذوذ وتمام هذه الطبيعة ان تكون حياة الشاعر وفنه شيئاً واحداً لا ينفصل فيه الإنسان الحي عن الإنسان الناظم وان يكون موضع حياته هو موضع شعره))(2) وعلى وفق هذا الرأي كانت حياة البحتري متسمة ومتأثرة ايضاً بتلك الطبيعة المتقلبة فقد لاحظ بعض معاصريه((كفره للاحساس وعدم وفائه حين يقلب الدهر مجنه لبعض ممدرحيه أو حين يسبق اليهم الموت فانه بدلاً من ان يثير ذلك في نفسه ضروباً من الشفقة والرحمة يسارع الى الوقوف مع خصومهم الجدد أصحاب الحكم والسلطان ابتغاء ما في ايديهم من المال والنفع))(3).
وقد عرف ابن الرومي بنفسية صعبة المراس(( فقد توفرت لديه دقة الملاحظة والاحساس وعمق الشعور بالمتناقضات في نفسه وفي زمنه وسعة النظر الى الفوارق، وسماحة العطف التي تقابل مرارة العصبية فهو شاعر الطبيعة في الأدب العربي، وشاعر الهجاء الساخر، وشاعر الحياة اليومية في عصره، وشاعر الأوهام والأسباح، وشاعر المزاج المتقلب))(4). ويبدو ان الفارق بين جنسي الشاعرين اسهم بشكل غير مباشر في الاختلاف الثقافي بينهما فضلاً عن الاختلاف في الاسلوب الشعري، فالمعروف ان البحتري كان عربياً من قبيلة طي(( فهو ابن البادية في دور التلمذة الذي قضاه في الشام))(5) وهو الذي نشأ في بادية منبج بين العرب الطائيين الذين كانوا منتشرين بها((وليس من شك في ان نشأته المبكرة بين البدو في هذه البادية كان لها أثر واضح في اتجاهاته الفنية))(6) أما ابن الرومي فقد نشأ في بغداد تلك الحاضرة العباسية التي عرفت المتناقضات في كل شيء فعصر ابن الرومي كما يقول العقاد الذي استعار مقدمة تشارلس ديكنز في(قصة مدينتين)(( كان احسن الازمان، وكان أسوأ الازمان، كان عصر الحكمة، وكان عصر الجهالة، كان عهد اليقين وكان الحيرة والشكوك، وكان اوان النور، وكان اوان الظلام...))(7).


ثقافتهما
لا يختلف اثنان من النقاد القدماء أو المعاصرين في اختلاف ثقافتي البحتري وابن الرومي ولكن الشيء المهم هو معرفة اثر تلكما الثقافتين في شعريهما الأمر الذي أدى إلى أن يكون الصراع الفني ملحوظا بينهما وقد أدى هذا الصراع الفني إلى نزاع شخصي بين الاثنين, فالبحتري ذو ثقافة عربية خالصة انحصرت أو أوشكت أن تنحصر في الثقافة العربية القديمة, وفي شيء يسير من الثقافة الإسلامية الجديدة(8) ويرى بعض الباحثين ان البحتري خلق لنفسه اتجاها يجمع فيه بين القدم والحداثة بشكل أرضى عنه بعض النقاد الكبار((فقد سجل له الثعالبي دوره في تلك المزاوجة بين التراث والحضارة من خلال وقوفه على روعة معاني استاذه, على الرغم من صعوبة فنه وتكلفه فيه))(9) وهناك من يرى ان البحتري((متوسط الموهبة في الابداع , واستطاع ان يجمع في شعره بين طريقة استاذه ابي تمام في تصوير المعاني وفي الولوع بتقسيم الكلام و نظم أجزائه, وبين طريقة الاقدمين في وضوح القصد وفي البعد عن التكلف والايغال والتعسف في الغوص على المعاني المبتكرة والصور الجديدة))(10) .
ويرى د. طه حسين:((ان البحتري قد يحتذي حذو استاذه ابي تمام ويمعن في تقليده, لا من ناحية اللغة العربية وآدابها فحسب, بل من النواحي العلمية والفلسفية التي كانت شائعة في هذا العصر, والتي كان حظ ابي تمام منها عظيماً, والتي يظهر ان البحتري كان متقصدا فيها. فاذا عمد البحتري الى تقليد استاذه ابي تمام تورط في الوان من الرداءة ))(11) .
وقد يدفع التعصب للبحتري الى ان ينفي عن البحتري ذلك النقص والعوز الثقافي العصري المتمثل بمعرفة الفلسفة والمنطق وعلم الكلام حين قال:((ولو اردنا اعتساف القول لوجدنا في شعره قدرا لاباس به من الفاظ الفلاسفة والمناطقة, الامر الذي يمكن ان يتخذ دليلا على المامه بالفلسفة والمنطق, ومن ذلك قوله:
يا ابا الفضل والذي ورث الفض



ل عن الفضل حادثا وقديما

و قوله:
فزعـوا باسمك الصبـي فعادت



حركات البكـاء منه سكونا


و قوله:
رضيت منك باخلاق قد امتزجت



بالمكرمات امتزاج الروح بالبدن


فهو يذكر الحادث والقديم والحركة والسكون, وامتزاج الروح بالبدن...))(12).
ان ذكر الألفاظ الدالة على الفلسفة والمنطق ومعرفة المصطلحات الخاصة بهما لا تجعل من الشاعر عارفا بتوظيفها في تجديد المعاني واستحضارها, فالعلم بالشيء لا يعني ان الشاعر متمكن منه في استعماله وتوظيفه والافادة منه, وهناك امران يدلان على ان البحتري لم يستعمل الفلسفة و المنطق في شعره, اولهما ان الشاعر قد اعترف صراحة عندما قال ابياته المعروفة:(*)
كلفتمونا حـــدود منطقكم



والشعر يغني عن صدقه كذبه


فلم يكن ذو القروح يلهج بال


منطق مـــا نوعه وما سببه


والشعر لمح تكفي اشـاراته



وليس بالهذر طـولـت خطبه


فالبحتري في ابياته – كما يقول د. عبدالله الغذامي:((حرص على تحييد المنطق لأسباب نسقية عندما انشغل الشاعر بالجمالي وتحمس له وحرص على تبريز الجمالي بدعوى تعاليه على شروط الواقع والمنطق))(13) .
و ثانيهما :
ان القدماء من النقاد قد قرروا ان البحتري لم يأخذ من ثقافة عصره, بل كان ذا ثقافة عربية اعرابية فالبحتري شاعر بدوي الهوى و النشأة كما يقول الامدي عندما قارن بينه وبين ابي تمام فقال:((وانهما لمختلفان, لأن البحتري اعرابي الشعر, مطبوع, وعلى مذهب الاوائل))(14) ويضيف صاحب الموازنة امرا آخر يظهر مدى تقلب البحتري في مذهبه الفني فقال:((وكان يعتمد حذف الغريب والوحشي من شعره؛ ليقربه من فهم من يمتدحه, الا ان ياتيه طبعه باللفظة في موضعها من غير طلب لها, و يرى ان ذلك انفق له فنفق, و بلغ المراد؛ ويدلك على ذلك انه كان يكنى ابا عبادة, ولما دخل العراق تكنى ابا الحسن؛ ليزيل العنجيهة والاعرابية, و يساوي في مذاهبه اهل الحاضرة, ويتقرب الى اهل النباهة والكتاب من الشيعة))(15) ويروي صاحب الوساطة رواية تظهر ان البحتري كان بدويا في شعره فقد كان ابو رياش القيسي معروفا بتحامله على المحدثين من الشعراء لكنه عندما سمع قصيدة للبحتري غير رايه فقال:((من هذا البدوي المطبوع؟ فقيل انه الوليد بن عبيد, فقال اعد, فاعيدت, فرجع عن رايه فيه وحض الناس على رواية شعره))(16) وتحمل قصيدة البحتري الآتية الفاظا بدوية وعرة فضلا عن معانيها المستوحاة من الفضاء البدوي, ويبدو انها نظمت في وقت بداية مجيئه الى العراق لان شعره بعد ذلك قد خلا من الألفاظ الوعرة والوحشية, قال البحتري:(*)
نظرت الى طدان فقلت ليلى



هناك و أين ليلى من طدان ؟


ودون مزارها ايجاف شهر



وسبع للمـطــايا أو ثمان


ولما غـربت أعراف سلمى



لهن و شــرقت قنن القنان


تصوبت الـبـلاد بنا اليكم



وغنى بالايــاب الحاديان


وهناك خبر آخر يعزز الآراء السابقة التي قيلت في اسلوبه البدوي فيروي الصولي ان البحتري قال:((كنت امدح المتوكل مقوما لفضي, غير مرسل نفسي, فقال الفتح, وكان والله ما علمت, قوي الآداب, حسن المعرفة بالشعر ليس بك حاجة في مدح امير المؤمنين الى مثل هذا, لين كلامه حتى يفهم, فأنه يلذ ما يفهم. فعلمت انه نصحني, فمدحته بأشعاري التي منها:
لي حبيب قد لج في الهجر جدا



واعـاد الصدود منه وابدى


ومنها:
لم لا ترق لذل عبدك



وخضوعه فتفي بوعدك


ومنها:
عـن أي ثـغـر تبسم



وبـاي طـرف تحكـم ؟


فحظيت عنده, وقربت من قبيلته, وتوفرت على صلاته ))(17) ان مقارنة بين الابيات السابقة والابيات التي مر ذكرها الان تظهر كيف تحول البحتري عن اسلوبه البدوي الامر الذي دعا شوقي ضيف الى ان يستدرك في حكمه على شعر الشاعر فقال:((واذن ينبغي ان نتلقى كلام الامدي بشيء من الاحتراس؛ فليس البحتري بدويا خالصا ولا أعرابيا خالصا, فهو بدوي أعرابي ولكنه يأخذ بعض من الحضارة, فقد تحضر وتحضرت صناعته معه))(18).
وإذا اردنا ان نقبل بذلك الراي الذي ذهب إليه د. شوقي ضيف في ثقافة البحتري التي اصبحت هجينة فان بعض الدارسين لا يقبل بهذه المزاوجة بين المتباينات ويعدها نوعا من التلفيق والاحتفاظ بالبداوة قائلا:((استقر في عقول بعض الباحثين ما يشبه التلفيق بين المتباينات, قيل كثيرا ان من واجبنا ان نحفظ الماضي من حيث هو منبع قيم روحية و ان نأخذ ما نشاء من حاضر العلم العلمي كان هذا امارة الاحتفاظ بالبداوة والدخول في الحداثة... هذه ريح البداوة أو الاصل, هذه ريح تجمع بين البداوة والحضارة أو تجمع المتباينات في حقل التشبيه لا حقل الانصهار))(19).
هذا ما يخص اسلوبه الشعري اما ما يخص بناءه الفكري, فربما لم يتغير, يدل على ذلك تلك السهولة والوضوح الدالان على عدم التعمق في معانيه الامر الذي جعل بعض الباحثين يتهمونه بالرومانسية والسطحية فهو لم يكن سوى سارق لافكار ومعاني شعراء غيره وفي احسن الاحوال محاكيا لما جاء عندهم(20) ببداوته ومحافظته, فالامدي وصف البحتري بانه اعرابي, وقد وصف الجاحظ دولة بني مروان بأنها دولة عربية أعرابية, ولم يتوهم الاستاذ مرجليوث الذي راى ان الشاعر يتمنى رجوع بني امية كما زعم أنيس المقدسي عندما تحدث عن مذهبه السياسي فقال:((اما مذهبه السياسي فمن الطبيعي ان يكون عباسيا وقد توهم الاستاذمرجليوث في الابيات التالية:
يا ضيعة الدنيا وضــيعة اهلها



والمسلمين و ضيعة الاسلام


هذا ابن يوسف في ايدي اعدائه



يجزى على الايــام بالايام


نامت بنو العباس عنه و لم تكن



عنه امية لــو رعت بنيام


...وقال هذه الابيات بدافع الغيرة محاولا ان يستفز شعور القوم لتخليص الرجل وليس في هذه الابيات أدنى صبغة سياسية))(21) ان البحتري شاعر منافق يشهد على ذلك سيرته وشعره وهو يخالف بذلك ابن الرومي تماما الذي يشهر ايضا شعره وسيرته على مبادئه الثابتة,((فلا نرى في شعره ما يدل على تقربه من الخلفاء والحظوة عند الامراء, فاذا قابلناه بزميله البحتري راينا ان هذا مدح خلفاء زمانه,و لاسيما المتوكل والمعتز بعشرات القصائد... اما ابن الرومي فليس له شيء يذكر في الخلفاء, ولعل السبب انه لم يدرك منهم غير المستضعفين))(22) وإذا قبلنا الاختلاف بين الاثنين و تعليله فلا يمكن قبول ان ابن الرومي كان يرى في الخلفاء ضعفا الامر الذي أبعده عنهم, لان الشاعر كان معارضا لسياسة العباسيين فلم يؤمن بعدلهم وحكمهم وقد اتخذجانبا مناوئا لهم, فهو علوي المذهب والهوى كما مر ذلك.
بداية الصراع بين البحتري و ابن الرومي
لم يعن النقاد القدماء بما دار بين البحتري وابن الرومي بل انشغلوا بالخلاف والموازنة بين اشعار ابي تمام و البحتري على الرغم من ان الاثنين لم يتعاصرا لفترة طويلة , فقد توفي ابو تمام سنة 231 هجرية في حين توفي البحتري سنة 284 هجرية أي بعد وفاة ابي تمام عاش البحتري (50) عاما, و توفي ابن الرومي سنة 283 هجرية على ارجح الاراء التي نقلها العقاد(23).
وإذا كان البحتري قد اخذ اشياء من استاذه ابي تمام فان ابن الرومي قد تاثر تاثرا كبيرا بابي تمام على الرغم من ان ابن الرومي لم يعاصره, فهو حريص على احتذاء طريقة ابي تمام في البديع وفي بناء قصيدة المدح فضلا عن الغوص على المعاني الغامضة واستقصائها من الجوانب كافة, والشبه بين الاثنين اكثر من الاختلاف, فهو التلميذ الحقيقي لابي تمام وهو الذي تزعم ريادة الاتجاه المحدث وقاد الحرب ضد البحتري, وهذا ما اكده ابن رشيق القيرواني بصورة غير مباشرة عندما قال:((والذي أراه ان ابن الرومي ابصر بحبيب وغيره منا, وان التسليم له والرجوع إليه احزم ))(24) وقد تابع د. طه حسين القيرواني في رايه الذي يؤكد العلاقة بين ابي تمام وابن الرومي عندما قال:((ان ابن الرومي يخالف غيره من الشعراء الذين عاصروه أو جاءوا قبله, الا واحدا هو ابو تمام, وذلك ان طبيعة ابي تمام الشعرية مشبهة لطبيعة ابن الرومي من وجوه, فهما متفقان من حيث انهما يعتمدان اعتمادا شديدا جدا على العقل في شعريهما))(*)(25).
ووقف الى جانبه بعض النقاد والشعراء فضلا عن بعض النحويين واللغويين من امثال ابي العباس ثعلب, وعبيد بن عبد الله بن طاهر واحمد بن ابي طاهر واحمد بن خلاد وابي عثمان الناجم واحمد بن محمد الخثعمي في حين وقف اخرون مع البحتري وكان ابرزهم: محمد بن يزيد المبرد والفتح بن خاقان وعبد الملك بن الزيات وعبد الله بن المعتز وفيه قال صاحب العمدة:((ولم يذكر أصحاب ابن الرومي وابن المعتز الا من ذكر بسببهما في مكاتبة أو مناقضة))(26) وابراهيم بن المدبر وابو الفضل احمد بن طيفور وابن الشلمغان الكاتب ونفطوية والاخفش الاصغر وابو طالب المفضل بن سلمة النحوي المشهور وقد هجا ابن الرومي اولئك الذين وقفوا مع البحتري... وكان ابو عثمان الناجم صديقا حميما لابن الرومي فكان يروي شعره و يحفظ اخباره وهو الذي جمع بين البحتري وابن الرومي لكن صحبتهما لم تطل كثيرا ((لأن البحتري يدل على ابن الرومي بمكانته من الخلفاء والامراء, وكان ابن الرومي لا يطيق الصبر على ذلك, فهجاه وعاب شعره واتهمه بالسرقة ))(27) وعلى الرغم من ان العقاد قد اضاف سببا الى أسباب الخصومة عندما زعم ان: ابن الرومي انس اغراء من العلاء بن صاعد بالبحتري, لأن العلاء كان يستضعف هجاء الشعراء للبحتري, فاراد بذلك ان يشد ابن الرومي عليه و يفحمه(28) تمتد أسباب الخصومة الى اكثر من ان تكون منافسة فنية محضة, فما يفرق بين الاثنين اكثر بكثير من الذي يجمع بينهما ابتداء من النسب وانتهاء بالمذهب والاخلاق والطبيعة النفسية, وقد كان ابن الرومي يظن نفسه التلميذ الحقيقي لأبي تمام وشعره اشبه باشعار ابي تمام, في البناء وفي المعاني وفي الثقافة ايضا وعلى النقاد ان يشغلوا انفسهم بهما دون البحتري لان البحتري لا يعدو ان يكون سارقا لمعاني غيره بل لا يتوانى ان ينحل قصائده المدحية التي قالها سابقا في اخرين ليقولها في غيرهم وقد لاحظ ذلك المرزباني الذي وصفه بقوله:((ومما قبح فيه ايضاً, وعدل عن طريقة الشعراء المحمودة , اني وجدته قد نقل نحوا من عشرين قصيدة من مدائحه لجماعة توفر حظه منهم عليها الى مدح غيرهم, وامات اسماء من مدائحه اولاً, مع سعة ذراعه بقول الشعر, واقتداره على التوزع فيه))(29) كما لا تخفى المعاني والصور التي سرقها البحتري من ابي تمام والتي اشار اليها الامدي في موازنته, فالسرقة والتلصص ثابتان عليه وهذا الذي اثار حفيظة ابن الرومي عندما قارن بين اسلوبه الذي يبدع فيه فيحاول ان ياتي بكل جديد, بينما ينحل البحتري من الاخرين اشعارهم ويعيد صياغتها بسهولة, فيلقى حظوة عند الخلفاء و الناس, في حين يبقى هو بعيدا عن اضواء الشهرة على الرغم من ان ابن الرومي قد اختار ذلك البعد بنفسه, فلا غرابة ان يشير ابن الرومي الى سرقات البحتري في اكثر من قصيدة, ومنها قوله:(30)
- البحتري ذنـوب الوجه نعرفه

ومـا راينا ذنـوب الوجـه ذا ادب



- انى يقول مـن الاقوال اثقبها



من راح يحمل وجـها سابغ الذنب


- ان الوليد لمغوار إذا نكــلت



نفس الجـبان بعيد الـهم والسرب


- ايسرق البحتري الناس شعرهم



جهرا وانت نكـال اللص ذي الريب


- يـا بحتري : لقد اقبلت منقلبا



يوم اكتسب هجـــائي شر منقلب


- ابا عبادة : ذر ما كنت تنسجه



وخـذ لنفسك يا مسكين في الندب


وعلى الرغم من هجاء ابن الرومي اللاذع للبحتري حاول الاخير ان يستميله ((فاهدى إليه تخت متاع و كيس إليه ليريه ان الهدية ليست تقية منه, لكن رقة عليه وانه لم يحمله على ما فعل الا الفقر و الحسد المفرط
- شاعر لا اهابه



نبحـتني كــلابه


- ان من لا اعزه



لعزيز جوابه ))(31).


ولم يقتصر التهاجي على الشاعرين فحسب بل انتشرت الحرب الكلامية بين المؤيدين والخصوم لهما, فقد دخل عبيد الله بن عبد الله بن طاهر واحمد بن ابي طاهر مع ابن الرومي في صراعه مع البحتري, الامر الذي جعل البحتري يضيق ذرعا بهم وبولعهم بالفلسفة والمنطق, لكن البحتري لم يتورط بهجائهم صراحة كما كان يفعل ابن الرومي بل كان يذهب الى التعريض والتلميح ولا سيما في قصيدته التي مدح بها ابن العباس بن بسطام شاكيا من الزمان واهله فقال(32):

- من قـال للـزمـان ما اربه



في خلق منه قـد بدا عجبه


- وصـاحب ذاهــب بخـلته



ولـى بها واتـلـيت اطلبه

- فلست ادري ابـعـــد شقته



اشـد رزءا علي ام صقبه


- فهل لضيف العراق من صفد



عند عميد العـراق يرتقبه


- ومستمرين فـي الخـمول بلو



ناهم فــذم الحرام مكسبه


- كانوا كـشوك القتاد يسخط را



عيه ويابـى رضاه محتطبه



ويرى احد الدارسين ان عبيد الله بن طاهر - صاحب شرطة بغداد – فهم((ان البحتري يعرض به, وكانت بين الاثنين مودة سابقة, ولعل ابن الرومي اوغر صدره, واوهمه انه المقصود في هذا القول. وعندئذ تصدى عبيد الله للرد بقصيدة يبدو ان ابن الرومي اعانه في نظمها))(33) ومهما يكن فان ابن الرومي ومناصريه كانوا يعملون في اتجاه مضاد لجماعة المحافظة التي يتزعمها البحتري ,فاخذ عبيد الله يرد على كل معنى جاء في قصيدة البحتري وقد كان عبيد الله وابن الرومي فطنين لما يقصده البحتري في قصيدته الاولى بدلالة ان البحتري في قصيدته الثانية قد صرح برفضه لمنهجهما في الشعر فسماه (بالهذر), قال عبيد الله متتبعا بعض الافكار والمعاني التي طرحها البحتري في قصيدته السابقة(34):
- اجـد هـذا الـمـقـال ام لعبه



ام صدق ما قيل فيه ام كذبه


- وانـمـا الـعـقـل للفتى سبب



الـى اختيار الصواب ينتخبه


- والعقل ضـربان ان نظرت فمو



هــوب وثان للمرء يكتسبه


- كــل عـمـيـد لـورد حادثة



فعند الكشف ان عـرت كربه


- وانـمـا الـمــرء عقله فاذا



احـرز عـقـلا فعنده ادبـه

- ومـن نحلت الـمـديح محتمل


لـلـمدح يصفي به وينتجبه


وعلى الرغم من ان عبيد الله لم يذكر البحتري صراحة الا ان البحتري قد شعر انه المقصود بذلك, ومن اجل الدفاع عن رايه رد على تلك القصيدة وعلى متهميه اجمالا بقوله المشهور(35):
- لا الـدهـر مستنفذ ولا عجبه



تسومنا الخسف كـلــه نوبه


- نال الرضــا مادح وممتدح



فقل لهذا الامير مـــاغضبه


- والعقل مـن صيغة و تجربة



شكلان مــولـوده و مكتسبه


- كلفتمونا حــــدود منطقكم



والشعر يغني عن صدقه كذبه


- ولم يكن ذو القروح يلهج بال



منطق ما نوعه ومــا سببه


- والشعر لمح تكـفي اشـارته



وليس بالهذر طولت خطـبته


- لو ان ذاك الشريف وازن بي



ن اللفظ واختار لم يقل شجبه
- و اللفظ حـلـي المعنى وليس يـريـك الصفر حسنـا يريكـه ذهبه
- اجلى لصوص البـلاد يطلبهم



وبـات لـص القريـض ينتهبه


وفضلا عن السجال في الهجاء لم يكتف ابن الرومي بذلك بل راح يعاتب ممدوحيه من الذين مدحهم البحتري من قبله مقارنا بين مديحه لهم وشعر البحتري, وهذا نوع من الصراع الذي يعلنه ابن الرومي الذي لم ينفك من التصريح بذلك واصفا نفسه بالمظلوم, معاتبا الذين مدحهم, وفيما يبدو ان الممدوحين قد استغلا الصراع الناشب بين الشاعرين, فمرة يقرب البحتري واخرى يقرب ابن الرومي, لذلك نرى ان اسماء ممدوحيهم تتناقل بين ديوانيهما, لذلك فان الشاعرين قد تنافسا ايضا في نيل رضى الممدوحين, فكثر العتاب والهجاء معا, فممدوح البحتري اليوم يكون مهجو ابن الرومي غدا, وممدوح ابن الرومي يكون مهجو البحتري, فالتنافس بينهما لم يكن فنيا خالصا بل كان في بعض وجوهه على المال والجاه والحظوة, وخير دليل على ذلك, ان بعض الممدوحين قد شكوا في صدق نوايا هذين الشاعرين, بسبب ما عرف عنهما من سرعة التقلب والتبدل من حال الى حال, فليس هناك ممدوح دائم مثلما لم يكن هناك مهجو دائم, وفي ذلك يقول المزرباني:((ان البحتري قد هجا نحوا من اربعين رئيسا ممن مدحهم: منهم خليفتان وهما المنتصر و المستعين, وساق بعدهما الوزراء و رؤساء القواد, ومن جرى مجراهم من جلة الكتاب والعمال ووجوه القضاة والكبراء بعد ان مدحهم واخذ جوائزهم, وحاله تنبىء عن سوء العهد و خبث الطريقة))(36), وكان ابن الرومي يفعل ذلك ايضا لكنه لم يحصل على الاثابة فكان يشكو كثيرا في مدائحه, لأن ما يجري بينهما اشبه ما يكون باللعبة والمخاتلة والحيلة, وقد فطن ابن الرومي الى خطط الممدوحين فكان يضمن قصيدته وجهين من المعاني, إذا اثيب سكت وان لم يثب صرح بان قصيدته كانت تحمل هجاء للممدوح وقد صرح بذلك في اكثر من موضع في شعره, وهذا اللون من الشعر يمكن ان نطلق عليه ((المديح الهجائي)) الذي عرف به ابن الرومي الذي قال(37):
- إذا ما مدحت المرء تطلب رفـده



ولــم ترج فيه الخير الا بذاكا


- فـانت لـــه اهجي البرية نية



وان كنت قد اطريته في مقالكا


وقال ايضا(38):
- مـديحـا ان تثبه يكن مديحا



من الحـلــل المبحرة الغوالي


- وان تظلمه تجـعله هـجـاء



اشـد على الكــريم من النبال

لذلك لا نستغرب عندما ظن ابو الصقر اسماعيل بن بلبل بان ابن الرومي قد هجاه في قصيدة لم يثبه عليها, فقد كان الممدوح اعرف بطريقة شاعره من المزرباني الذي اورد الخبر عندما قال:((اخبرني محمد بن يحيى قال: كنت يوما عند عبيد الله بن طاهر, فذكرنا قصيدة ابن الرومي في ابي الصقر التي اولها:
- اجنت لك الوجد اغصان وكثبان


فيهن نـوعـان : تفاح ورمان

فقال عبيد الله: هي دار البطيخ: فضحك الجماعة, فقال: اقرءوا تشبيبها فانظروا, هي كما قلت... فلما سمع ابو الصقر قوله:
- هذا الذي حكمت قـــدما بسؤدده



عدنان ثم اجـازت ذاك قحطان


- قالوا ابو الصقر من شيبان قلت لهم



كـلا لعمري ولكـن منه شيبان



قال: هجاني والله, قيل له: هذا من احسن المديح, اسمع ما بعده:
- وكـم اب علا بابن ذرى شرف



كما عــلا برسـول الله عدنان


فقال: انا بشيبان, ليس شيبان بي, قيل له: فقد قال:
- ولم اقصر بشيبان التي بلغت



بها المبالغ اعراق واغـصـان


- لله شـيـبـان قوم لا يشيبهم



روع اذا الروع شابت منه ولدان



فقال والله لا أثبه على هذا الشعر, وقد هجاني فيه.
قال الشيخ أبو عبد الله المزرباني رحمه الله تعالى: وهذا ظلم من أبي الصقر لابن الرومي, وقلة علم منه بالفرق بين الهجاء و المديح))(39).
ويبدو ان ابن الرومي وطريقته في النظم كانت السبب في ظلمه, و إن كانت هذه القصيدة من المديح الجيد, لأن الممدوح يعلم بطريقة ابن الرومي التي وضحها في أكثر من موضع في شعره, وهي الطريقة التي يجعل الشاعر معانيه فيها تحمل وجهين من المعاني فهي ليست خالصة في المديح, بل هي مزيج من الهجاء والمديح , وهذا ما عزاه الغذامي الى القانون الثقافي النفسي؛ قانون(الرغبة– الرهبة) وهو القانون الذي تنبني عليه ثقافة النموذج المعتمد في الخطاب المهيمن على ضميرنا الثقافي منذ ان تمكنت منا لعبة نسق اللغة المدائحية, فقصيدة المديح تنطوي على الهجاء كمضمر نصوصي/ نسقي و كل مديح يتضمن ويضمر الهجاء وما المديح والهجاء إلا نص واحد(40).
لقد كان الشاعران متشابهين في هذا الجانب غير ا ابن الرومي كان اقدر من البحتري على إخفاء معانيه, بينما عرف البحتري بصراحته ومكاشفته, لذلك اتهم بالنفاق والغدر وعدم الوفاء, مع مراعاة ان البحتري هو الذي ينكث بعهده بينما مداح ابن الرومي هم الذين ينكثون به .
وعندما يعاتب ابن الرومي ممدوحيه لا يتوانى من الإشارة الى الفرق بينه وبين البحتري في الشاعرية شاكيا من جهل الممدوحين بالفرق بين شعريهما, والقصيدة الآتية خير شاهد على شكوى ابن الرومي من الظلم الذي وقع عليه بسبب اعتناء الاخرين بشعر البحتري على الرغم من إن شعره كان أفضل من شعر البحتري(41):
- الـى الله اشكو إن شعري مظلم
وانــي مـن الأيــام في منهل ضحل
- ثـنـاؤكــم للبحتري وودكـم
ومدحي لـكــم حاشا هواكم من الخبل
- فـان قلتم للحكــم بالحق فضله
فما لـلـديـغ النحـل مـن عـســل
- أسارت له فيكم امـاديـح مثلها
يحمل ثـقـل الــحـق مستثقلي الحمل
- ام الخلة الأخرى التـي تعرفونها
بل الخلة الأخـرى ومـا النكث كالجدل
- الــم بتجهمكـم بـمـدح كأنه
شبا الـحـد أسـرى في البقاء من النمل
- هجاكم بمنزور الـهجـاء ووغدة
وما حيلة الحسناء بالـعـاج والـذبـل
- فنال التي اجـرى لها وهو وادع
مصون وقـد أسـقـاكـم حماة السجل
- فكان هجاء إن هـجـاكـم و انه
أبـى شغلكم أشـعـره غـأيــة الشغل
- فعارضته بكم بــمـدح كـأنه
شباب جـديـد أو صـقـال على نصل
- فكافأتموني بالــذي هـو أهله
من المنع والحـرمان والرفـض والخذل
- وكـافـأتموه بالــذي استحقه
من البر والإحسان والعطف والـوضـل
- وما ذاك عند البحتري لصاحب
ولا بعضه فـي بـاب فأرض ولا نفل
- وما بـي قصب البحتري و ثلبه
وإن صـال فـحـل ذات يوم على فحل
إن هذه القصيدة تدل دلالة واضحة على ما كان بين البحتري وابن الرومي من تنافس في الفن والحياة, وحاول أبو عثمان المنجم إن يجمع بينهما بطلب من البحتري الذي كان يشعر فيما يبدو بتأنيب الضمير تجاه ابن الرومي المظلوم على الرغم من شاعريته الفذة, فقال: ((اخبرني عبدا لله بن يحيى العسكري , عن أبي عثمان سعيد بن الحسن الناجم, قال: قال لي البحتري: اشتهي إن أرى ابن الرومي فوعدته ليوم بعينه, وسالت ابن الرومي إن يصير الي فيه, فأجابني الى ذلك, فلما حصل ابن الرومي عندي وجهت الى البحتري, فصار الي: فاجتمعا وتوانسا: فقال له البحتري: اقرأني أبو عيسى بن صاعد قصيدة لك في أبيه, و سألني عن الثواب عنها, فقلت له: أعطوه لكل بيت دينارا ثم تحدثا, فقال البحتري: عزمت على أن اعمل قصيدة على وزن قصيدة ابن الرومي الطائية في الهجاء, فقال له ابن الرومي: إياك و الهجاء يا أبا عبادة: فليس من عملك, وهو من عملي, فقال له: نتعاون وعمل البحتري ثلاثة أبيات, وعمل ابن الرومي ثمانية, فلم يلحقه البحتري في الهجاء, وكان اجتماعهما عندي سببا للمودة بينهما))(42).
الاختلاف بين اسلوبيهما
لاشك في ان الشاعرين لمختلفان بالاسلوب و الصور و المعاني واختيار الألفاظ, فالبحتري خير من يمثل المدرسة المحافظة على التراث وعمود الشعر فقد ذكر الامدي في الموازنة:((عن ابي علي محمد بن العلاء السجستاني– وكان صديق البحتري– انه قال: سئل البحتري عن نفسه وعن ابي تمام ,فقال: هو اغوص على المعاني مني وانا اقوم بعمود الشعر منه ,وهذا الخبر هو الذي يعرفه الشاميون, دون غيره))(43) وابن الرومي يعد شاعرا مجددا لاسيما وقد علمنا كيف تاثر الشاعر بابي تمام, وكان ابن رشيق القيرواني من ابرز النقاد الذين اعتنوا بابن الرومي وشعره ومن شدة اعجابه به فقد افرد له كتابا بين وفصل فيه طريقة الشاعر في اختراع المعاني لكن الكتاب لم يصل الينا مع الاسف وفي ذلك يقول:((وانا اقول ان اكثر الشعراء اختراعا ابن الرومي ,وسيأتي برهان ذلك الكتاب الذي شرطت تاليفه ان شاء الله ))(44) في حين عد البحتري من الشعراء المصنعين, ولم يعترف بطبعه ومحافظته, بل يسميه بشيخ الصناعة, عندما وصف عتابه بقوله:((واحسن الناس طريقا في عتاب الاشراف ,شيخ الصناعة وسيد الجماعة:ابو عبادة البحتري))(45) واعجاب ابن رشيق بابن الرومي كان شديدا ولابد من تعليل ذلك لأنه قد افرده عن شعراء العربية الكبار وميزه عنهم بالشاعرية عندما قال:((مع انه لابد لكل شاعر من طريقة تغلب عليه, فينقاد طبعه, ويسهل عليه تناولها, كابي نواس في الخمر والتصنيع, والبحتري في الطيف, وابن المعتز في التشبيه, وديك الجن في المراثي, والصنوبري في ذكر النور والطير, وابي الطيب في الامثال وذم الزمان واهله ، واما ابن الرومي فاولى الناس باسم شاعر, لكثرة اختراعه))(46) ويبدو ان ابن رشيق ينتمي الى مدرسة نقدية تميل الى التجديد والاختراع لأنه علل سبب الاعجاب بابن الرومي لكثرة اختراعاته, فالشاعر عنده يخترع المعاني التي لم يسبق اليها لان الشعر خلق واعادة انتاج, وهو يتفق مع المستشرقة سوزان بينيكي ستيتكيفيتش التي وصفت البحتري بالرومانسية, ولطالما تزعم البحتري الاتجاه المحافظ ولاسيما المحافظ على عمود الشعر فان ابن الرومي قد تزعم الحركة التجديدية في شعره واذا اردنا ان نطلق تسمية اخرى على مذهبيهما فيمكن ان نقول: ان البحتري كان صاحب المدرسة الارستقراطية التي تمثل قيم الطبقة المالكة وان ابن الرومي يمثل الطبقة الشعبية التي كانت اكثر قربا من حياة الناس اليومية بموضوعاتها واسلوبها ولغتها فضلا عن معانيها وصورها,((ففي شعره نزعة شعبية واضحة, إذ كان يصف المطاعم وحياة الناس في بغداد وما يطعمونه ويلبسونه حتى الاردية المرقعة, ويعرض علينا صور طبقاتهم الدنيا من خبازين وحمالين وشوائين وشحاذين, ومن هنا كانت تكثر في شعره الفاظ العامة, فهو ليس شاعر الملوك والقصور من مثل البحتري, وانما هو شاعر شعبي, يعرض علينا بغداد في حياتها المتواضعة وصورها الشعبية))(47) وهذا يعني ان من اراد معرفة الحياة الثقافية فان شعر ابن الرومي هو من يمثلهما تمثيلا حقيقيا, فشعره يمكن ان يدرس من وجهة الدراسات الثقافية, في حين يمثل شعر ابن المعتز الذي وقف مع البحتري لانهما ينتميان الى المدرسة نفسها حياة القصور المترفة وقد كان ابن الرومي يميز ذلك الفرق الواضح بين شعر المدرستين عندما سئل عن الاختلاف بين تشبيهاته وتشبيهات ابن المعتز, فقد ذكر ابن رشيق القيرواني رواية تدل على ذلك عندما قال:((يحكى عن ابن الرومي: ان لائما لامه: لم لا تشبه تشبيه ابن المعتز وانت اشعر منه, قال انشدني من قوله الذي استعجزتني في مثله, فانشده في صفة الهلال:
- فانظر إليه كزورق من فضة
قد اثقلته حمولة من عنبر
فقال: زدني, فانشده:
- كــان اذريونها
والشمس فيه كاليـه
- مداهـن من ذهب
فيها بقايا غـاليـه
فصاح: واغوثاه, يالله!! لا يكلف الله نفسا الا وسعها, ذلك انما يصف ماعون بيته, لأنه ابن الخلفاء وانا أي شيء اصف؟ ولكن انظروا إذا وصفت انا اين يقع الناس جميعا مني, هل قال احد املح من قولي في قوس الغمام:
- وقد نشرت ايدي السحاب مطارفا
على الجو وهـي خضر على الارض
- يطرزهـا قــوس الغمام باصفر
على احمر في اصفر وسط مبيض))(48)
وعلى الرغم من ان القيرواني قد ذكر الرواية دفعه تعصبه وحبه لابن الرومي وشعره للشك في تلك الرواية, فقال:((وهذا كلام ان صح عن ابن الرومي– ولا اظن ذلك– لزمه فيها لدرك, لان جميع ما راه ابن المعتز وابوه وجده في ديارهم كما ذكر ذلك– ان كان ذلك للاجادة وعذرا– فقد راه ابن الرومي هناك ايضا, اللهم الا ان يريد ان ابن المعتزملك شغل نفسه بالتشبيه, فهو ينظر ماعون بيته واثاثه, ويشبه ما اراد وانا مشغول بالتصرف في الشعر طالبا به الرزق, امدح هذا مرة, واهجوهذا كرة, واعاتب هذا تارة, واستعطف هذا طورا, ولا يمكن ايضا ان يقع تحت هذا وفي شعره من مليح التشبيه مادون النهايات التي لا تبلغ, وان لم يكن التشبيه غالبا عليه كابن المعتز))(49) وكان الدكتور شوقي ضيف يربط دائما بين البحتري وابن الرومي عند الكلام عن الصنعة الفنية, وكانما اراد ان يذكر بان الصراع والاختلاف كان واضحا بينهما على الرغم من ان النقاد القدماء قد ركزوا على مذهبي ابي تمام والبحتري, فقد ذكر ان ابن الرومي:((لم يذهب مذهب البحتري في ان الشعر لا يحتاج الى فلسفة ومنطق, بل كان يرى انهما اصلان مهمان في حرفته, فهو يعتمد عليهما في تفكيره, وهو يستخدمهما في صياغته, حتى لتتخذ ابياته في كثير من نماذجه شكل اقيسة دقيقة, فهو يقدم لها بمقدمات ويخرج منها بنتائج, وكانه رجل من رجال المنطق))(50) اما البحتري الذي حافظ على عمود الشعر لأنه كان ذا اسلوب اعرابي بدوي, وهو لم يحفل بالفلسفة والمنطق في شعره على مستوى الصياغة الذهنية:((فانك تراه لا يعنى بتنسيق افكاره وترتيب معانيه ترتيبا منطقيا))(51) وسيتضح الفارق بين الاثنين إذا نظرنا الى نصين من شعريهما, قال البحتري(52):
- مني وصـل ومنك هجر
وفـي ذل وفـيـك كبر
- ومـا ســواء إذا التقينا
سهل علـى خلة ووعر
- قـد كنت حرا وانت عبد
فصرت عبدا وانت حر
- بـرح بـي حبك المعنى
وغـرنـي منك ما يغر
- انت نعيمي وانت بؤسي
وقــد يسوء الذي يسر
ففي هذا النص هناك استعمال للطباق الذي عرف به البحتري((ولكنه طباق ساذح, لا تعقيد فيه ولا عناء ولا مشقة, طباق ضحل بسيط, هو اشبه ما يكون بتداعي المعاني، فلا خيال ولا عمق ولا فكرة... ان الشعر نحت وصقل والوان معقدة, إذ كان يقف عند ظاهر هذا العمل فينقل الشكل, وقلما نفذ الى الباطن, وما يتغلغل فيه من تفكير بعيد))(53) وقال ابن الرومي(54):
- لما تؤذن الدنيا به من صروفها
يكون بكاء الطفل ساعة يولد
- والا فما يبكـيــه منها وانها
لا فسح مما كـان فيه وارغد
- إذا ابصر الدنيا استهل كـانـه
بما سوف يلقى من اذاها يهدد
- وللنفس احـوال تظـل كانها
تشاهد فيها كـل غيب سيشهد
عند قراءة هذه الابيات يتبين((فيها اثر المنطق واضحا, وهذا اهم ما يفرق بينه وبين البحتري في صناعته إذ كان للمنطق تأثير واضح في صياغة شعره وتنسيق افكاره))(55) ومن الاختلافات الاخرى بين اسلوبي البحتري وابن الرومي, ان البحتري لا يبحث عن الفكرة الشعرية بل يعمد الى الصياغة والصنعة سائرا على طريقة القدماء, لان النقاد القدماء– كما يقول احد الدارسين المعاصرين:((قلما وجهوا عنايتهم الى المحتوى: بل تركز اهتمامهم على تحليل الصياغة والشكل, وفصلوا في نظرتهم الى الشعر بين الشعر والفكر, فصلا شبه تام, وقالوا: ان الشعر صياغة الفاظ, وعدوا معنى الشعر امرا ثانويا))(56) وهذا ما اكده د.شوقي ضيف من قبل– ايضا– عندما تكلم عن اسلوب البحتري فقال:((فالبحتري لم يكن يعرف ان الشعر نحت وصقل والوان معقدة, إذ كان يقف عند ظاهر هذا العمل فينقل الشكل, وقلما نفذ الى الباطن وما يتغلغل فيه من تفكير بعيد))(57) اما ابن الرومي فقد اختلف اختلافا يكاد يصل الى النقيض من البحتري لأنه:((كان نسيج وحده بين الشعراء المفكرين في العصر العباسي... نحن امام شاعر متفرد, تعكس ثقافته درجة النضج والشمول التي ميزت ثقافة العصر, وتتسع عبقريته لالوان شتى من التصوير الرائع الذي تبرز فيه ظاهرة التفصيل بل(التفصيص!) كما يتجلى فيه هذا المزاج الموفق بين الشعر والفكر))(58) ويعزو احد الدارسين سبب اهتمام ابن الرومي بالفكر والتامل الى انطوائه وانعزاله عن الناس الامر الذي اسعفه بما شاء من التخيلات الشعرية(59) و((هو يتناول المعاني والصور, يستغرق فيها, وينقلها الى غير واقعها بحيث تصبح هذه المعاني والصور موطنا للكثير من الرموز والدلالات))(60) اما البحتري فكان حريصا على ان تكون معانيه واضحة وسهلة وبعيدة عن التعقيد ومن هنا قالوا ان البحتري كان يحافظ على عمود الشعر وما عرف عنه من النفور من الاغراب والحرص على السهولة والوضوح, واعادة انغام القدماء في التصوير والتقرير(61) معا وقال هو في شعره مفتخرا بالوضوح والسهولة(62):
- حزن مستعمل الكلام اختيارا
وتجنبن ظـلـمـة التعقيد
- وركبن اللفظ القريب فـادرك
ن بـه غاية المراد البعيد
((فهو يعلن في هذه الابيات ان مذهبه في صياغة شعره اللغوية يعتمد على حسن اختيار اللفظ السهل القريب الذي يشبهه بزهر الربيع الضاحك الجميل والذي يعبر عن المعنى مهما يكن بعيدا من اقرب سبيل))(63) وهذا يعني ان البحتري كان يعتني بالصياغة اللفظية بينما يبحث ابن الرومي عن المعنى والفكرة, وقد لاحظ ابن رشيق القيرواني ذلك عندما وصفه قائلا:((وكان ابن الرومي ضنينا بالمعاني ,حريصا عليها ياخذ المعنى أو يولده, فلا يزال يقلبه في كل وجه والى كل ناحية حتى يميته ويعلم انه لا مطمع فيه))(64) وهذا الاستقصاء في المعاني جعل القصيدة طويلة لدى ابن الرومي ولكن هذا الطول غير مخل بها بل يرى العقاد ان هذه ميزه افترق ابن الرومي عن غيره بها, عندما وصفه بقوله:((فالعلامات البارزة في قصائد ابن الرومي هي طول نفسه, وشدة استقصائه المعنى, واسترساله فيه, وبهذا الاسترسال خرج عن سنة النظامين الذين جعلوا البيت وحدة النظم, وجعلوا القصيدة ابياتا متفرقة يضمها سمط واحد... فخالف ابن الرومي هذه السنة وجعل القصيدة( كلا) واحدا لا يتم الا بتمام المعنى الذي اراده على النحو الذي نحاه))(65) وهذه السمة الايجابية في نظر بعض الباحثين المعاصرين لم يرضَ عنها القدماء الذين عاصروا البحتري والذي دون في شعره فوصف التطويل بالهذر بقوله(66):
- والشعر لمح تكفي اشارته

وليس بالهذر طولت خطبه
في حين نجد ابن رشيق واقفا مع ابن الرومي في طريقته الاستقصائية للمعنى المولد والمخترع فقال عن ابي تمام وابن الرومي:((واكثر المولدين اختراعا وتوليدا ,ابو تمام وابن الرومي))(67) وهذا الجمع بين الاثنين يؤكد ما ذكرناه سابقا من ان ابن الرومي لم يكن مصنعا، مثل ابي تمام وهذا ما اتفق عليه الدارسون القدماء والمعاصرون, فقد عده القيرواني شاعرا مطبوعا بالفطرة( لكثرة اختراعه وحسن افتنانه)(68) وتابعه د.شوقي ضيف بقوله:((وكان فكره الدقيق وما انطبع في عقله من طوابع الثقافة والفلسفة حريا به ان يصبح من أصحاب مذهب التصنيع, ومن ينظر الى هذا الجانب عنده يخيل إليه كانه من طراز ابي تمام, وخاصة حين يقرا له بعض ابيات مفردة أو قطعا قصيرة مما تناقله عنه كتب الأديب, ولكن من يقرا قصائده يعرف انه ليس من أصحاب هذا المذهب, مذهب التصنيع, إذ لم يكن يعنى بالزخرف لا في شعره ولا في حياته الا قليلا))(69) ويفرق القيرواني بين الاختراع والإبداع:((الاختراع خلق المعاني التي لم يسبق اليها والإبداع:اتيان الشاعر باللفظ المستظرف الذي لم تجر العادة بمثله))(70) واذا كان البحتري يعتني بالفاظه وصياغته على حساب المعاني فان ابن الرومي كان يعتني بالمعنى على حساب اللفظ وهذا ما عبر عنه في ابياته التي قال فيها(71):
- قـولا لمن عاب شعر مادحه
اما ترى كيف ركب الشجر ؟
- ركب فيه اللحاء والخشب اليا
بس والشوك دونـــه الثمر
- وكـان اولـى بان يهذب مـا
يخلق رب الاربـاب لا البشر
وقد لاحظ هذا الامر – ايضا –القيرواني في شعر ابن الرومي فقال:((ومنهم من يؤثر المعنى على اللفظ, فيطلب صحته, ولا يبالي حيث وقع من هجنة اللفظ, وقبحه وخشونته, كابن الرومي وابي الطيب ومن شاكلهما))(72) ويبدو ان ترف الحضارة العباسية قد اسهم في الاعتناء بالزخارف اللفظية التي لم يعتن بها ابن الرومي, بينما فطن لها البحتري بوصية من الفضل بن الربيع وزير المتوكل( كما مر سابقا), فقد كان البحتري يشذب اشعاره من الألفاظ المستوحشة والبدوية, وكان يقول(73):
- وكانها والسمع معقود بها
وجه ****** بدا لعين محبه
ويؤيد ذلك قول القيرواني ايضا عند وصفه لعلاقة اللفظ بالمعنى:((الألفاظ في الاسماع كالصور في الابصار))(74) وقال عن شعره ابن الاثير:((وترى الفاظ البحتري, كانها نساء حسان عليهن غلائل مصبغات, وقد تحلين باوصاف الحلي))(75) واستنادا الى هذه الاراء التي قالها القدماء في شعره يبدو ان البحتري كان مولعا بالتصوير والرسم الحسيين, وقد لاحظ د.انيس المقدسي ذلك عندما درس موضوع الوصف عنده فقال:((وشاعرنا البحتري وصاف ماهر, وهو كسواه من شعراء العرب اميل الى الوصف الحسي: يتناول المحسوسات فيرقق في رسمها))(76) واذا كان البحتري يميل الى التجسيد والتشخيص الحسيين فان ابن الرومي مولع بتجسيد الافكار والمجردات وجعلها ناطقة, وهذا الاختلاف بين الاثنين راجع الى عقليتيهما المختلفة فضلا عن ثقافتيهما, فالبحتري– كما وصفه الامدي ود.شوقي ضيف, بدوي اعرابي, وابن الرومي حضري رومي الاب, فارسي الام, لذلك كان البحتري يقف مندهشا ازاء المظاهر العمرانية متعجبا من زخارفها والوانها واشكالها, فهو رسام انطباعي مولع بتصوير الاشياء كما تبدو في الطبيعة دون ان يدخل فكره في اعادة تشكيلها كما يفعل ابن الرومي الذي كان مولعا باوصاف الطبيعة الصامتة مضيفا عليها من احاسيسه ومشاعره جمالية فنية عندما يمزج المظاهر المادية الجمالية بالاحساس والشعور النفسيين, لذلك فلا غرابة عندما يتحدى سائله بقوله:((ولكن انظروا إذا وصفت اين يقع الناس جميعا مني, هل قال احد املح من قولي في قوس الغمام؟:
وقد نشرت ايدي السحاب مطارفا على
الجو دكنا وهــي خضر على الارض
يطرزهـا قـوس الغمام بـاصـفـر
على احمر في اخضر وسط مبيض ))(77)
وعلى الرغم من ان ابن الرومي قد وصف الوان الطيف جعل للسحاب ايد تطرز قوس الغمام وهذا الذي وجدناه عند ابي تمام عندما جعل للشتاء اخدعا فعاب عليه النقاد قوله في ذلك(78):
فضربت الشتاء فـي اخدعيه
ضربة غادرته عودا ركوبا
فوصف ابن الرومي واعتناءه بالالوان يذكرنا بابي تمام الذي قال فيه(79):
مصفرة محـمرة فكـانها
عصب تيمن في الوغى وتمضر
من فاقع غض النبات كانه
در يشق قـبـل ثـــم يزعفر
أو ساطع في حمرة فكان ما
يدنو إليه مــن الهواء معصفر

ومن خلال المقارنة بين اوصاف ابن الرومي واستاذه ابي تمام من جهة واوصاف البحتري من جهة اخرى يتضح ان الثلاثة قد اولعوا بالالوان الزاهية في الطبيعة غير ان البحتري لا يلجا الى التشخيص والتجسيم بل تصوير صفائها وشدة سطوعها وتناغمها كما تبدو لا كما يصنعها الخيال يشهد على ذلك قوله(80):
وفيه ارجـواني من النور احمر
يشاب بافرند من الروض اخضر
إذا ما الندى وافاه صبحا تمايلت
اعاليه من در نثير وجـوهــر
إذا قابلته الـشـمس رد ضياءها
عليها صقال الاقحــوان المنور
وهذا الصفاء في اختيار الألفاظ والعبارات والفرز بين الالوان والوضوح في المعنى كانت فيما يبدو مسؤولة عن توجيه شعر البحتري لان يكون ذا موسيقى عالية النغم والجرس, فشعره اميل الى التطريب والغناء ولذلك((كان في البحتري اعجاب شديد, إذا انشد يقول: مالكم لا تعجبون؟ اماحسن ماتسمعون؟ فانشد المتوكل يوما:
عن أي ثغر تبتسم ؟
وباي طرف تحتكم ؟
وابو العنبس الصيمري حاضر ,فلما راى اعجابه قام حذاءه(قبالته) فقال:
من أي سلـح تلتقم
وبــاي كــف تلتطم
ذقن الوليد البحتري
ابــي عبادة في الرحم
ادخلت راسك في الحرم
فولى البحتري وهو غضبان فقال:
وعـلـمـت انـك تنهزم
فضحك المتوكل حتى فحص برجليه واعطى الصيمري جائزة))(81) وهذه الرواية تدلل بما لا يقبل الشك على ان سهولة الفاظها وصياغة تركيبها بهذا الوضوح فضلا عن ترطيبها هو الذي جعل الصيمري يحاكيها ارتجالا بعذوبة وتطريب جعلا المتوكل يعطي جائزة!!
ويروي صاحب الاغاني:((ان البحتري إذا انشد شعره يتشادق ويتزاور في حركته, مرة جانبا, ومرة القهقرة, ويهز راسه مرة, ومنكبيه اخرى, ويقف عند كل بيت ويقول: احسنت والله! ثم يقبل على المستمعين فيقول: ما لكم لا تقولون لي احسنت؟ هذا والله مالا يحسن ان يصنع مثله))(82) وهذا يدل على ان البحتري كان مهتما بالانشاد الذي يعتمد على اللحن والتطريب الذي يصل الى الغناء, ومن هنا ايضا ياتي اهتمامه بالالفاظ فقد:((شاع بين القدماء ان البحتري من شعراء اللفظ, لان شعره يتسم باللفظة المنقاة والعذوبة الموسيقية, والصور المعبرة الموشاة بمختلف الالوان والظلال))(83) واذا ما عدنا الى ابن الرومي نجد ان النقاد قد وضعوه في جانب أصحاب المعاني((فهو شاعر مفتون بالمعاني)) كما– يقول العقاد عنه– وقد درس احد الباحثين صورة دجلة بين البحتري وابن الرومي فوجد اختلافا بين الاثنين مما يعزز الراي الذي ذكرناه من ان البحتري يختلف عن ابن الرومي في القضايا الفنية والموضوعية فضلا عن الاختلاف بين شخصيتيهما ونفسيتيهما وفي ثقافتيهما ولا نغالي إذا قلنا يختلفان في كل شيء, وتلخيص ذلك ان صورة دجلة عند ابن الرومي قد ارتبطت بنفسيته بشكل جلي((فعبر عما كان يعتري نفسه من مخاوف وهواجس واضطرابات وامال, فاسقطها على دجلة... وربط البحتري صورة دجلة بحياة الخلفاء العباسيين وقصورهم, لأنه كان شاعرا رسميا))(84).
ويمكن ان نسترشد بتقسيم احد الدارسين للتفريق بين الاسلوب البدوي والحضري للدلالة على الفرق بين اسلوبي البحتري( صاحب الاتجاه البدوي ) وابن الرومي(صاحب الاتجاه الحضري ) الذي يمكن ان يلخص تجربتي الشاعرين التي مر بها البحث والتي اتضح فيها الفرق بين الثقافتين البدوية والحضرية وكما يلي(85):
البداوة
الحضارة
المعنى الظاهر
المعنى الباطن
المباشرة
الكشف والتاويل
الاحساس
الخلق
الانفعال
التامل
نص مرحلي
نص ادبي
الطبع
الصنعة
وهكذا يبدو الصراع الفني بين الشاعرين جليا في كل المستويات غير ان مساحة البحث لا تتسع لعرض كثير من القضايا التي جاءت في شعريهما واتمنى ان تكون تلك الصفحات قد انارت بعض جوانب العلاقة بين الشاعرين المتعاصرين والمتناقضين في كل شيء... ومن الله العون والتوفيق.

الهوامش

(1)ابن الرومي حياته من شعره ، عباس محمود العقاد .

(2)المصدر نفسه ، 7 .

(3)العصر العباسي الثاني ، شوقي ضيف ، 278 .

(4)الشعر العباسي قضايا وظواهر ، د. عبد الفتاح نافع ، 118 .

(5)تاريخ الشعر في العصر العباسي ، د. يوسف خليفة ، 84 .

(6)في الشعر العباسي ، د. يوسف خليفة ، 108 .

(7)ابن الرومي ، 13 .

(8)في الشعر العباسي ، د. يوسف خليفة ، 111 .

(9)القصيدة العباسية قضايا واتجاهات ، د. عبد الله التطاوي ، 91 .

(10)الشعر في بغداد حتى نهاية القرن الثالث الهجري ، د. احمد عبد الستار الجواري ،346 .

(11) من حديث الشعر والنثر ، 129 .

(12)شعر البحتري، د. خليفة الوقيان، 88.

(*) ديوانه، ج3، 104.

(13)النقد الثقافي- قراءة في الانساق الثقافية العربية. 176).

(14)الموازنة، 11.

(15)الموازنة، 26.

(16)ينظر: الوساطة، 52، وشعر البحتري 103.

(*)ديوانه، ج2 ، 276.

(17)أخبار البحتري، 95، وشعر البحتري، 90.

(18)الفن ومذاهبه في الشعر العربي، 192.

(19)دنيا المجاز، مصطفى ناصف، 39-40، المجلس الاعلى للثقافة، مصر، 2008 ط1).

(20)الشعر والشعرية في العصر العباسي سوزان بينيكي ستيتكيفيتش ترجمة حسن البنا عز الدين، 212.

(21)امراء الشعر العباسي، 242.

(22)المصدر نفسه، 265.

(23)ينظر: ابن الرومي الصفحة 270 وما بعدها.

(24)العمدة، ج1، 214.

(*)ينبغي هنا أن نشير الى بعض الآراء التي وظفت ابا تمام بأنه شاعر رجعي بمعنى انه يميل الى المحافظة والعودة الى القديم ولاسيما في اختيار كثير من ألفاظه الوعرة والوحشية التي إذا قرعت السمع لم تصل الى القلب- كما يقول عبد العزيز الجرجاني- صاحب الوساطة، وقد تابعه المستشرق غوستاف غرينباوم في كتابه ((دراسات في الأدب العربي، 148، وقد اطلق د. عبد الله الغذامي مصطلح ((العمى الثقافي)) معترضاً على من جعل أبا تمام رائداً حديثاً، فقد كان يرى:((ان حداثة ابي تمام حداثة شكلية، كما ان اتخاذها نموذجاً للحداثة العربية يكشف عن مقدار العمى الثقافي الذي تعاني منه هذه الحداثة)) النقد الثقافي، 182 ويبدو ان الغذامي كان يركز اهتمامه على لغة ابي تمام التي لم تقترب من لغة الواقع، كما هي عند بشار وأبي نواس والسيد الحميري وأبي العتاهية، لكن ابا تمام قد دخل باب الحداثة في أفكاره ومعانيه وصوره واخيلته وطريقته في النظم لذلك أطلق عليه بعض الدارسين بـ(( المجدد- المحافظ)) في حين نستطيع ان نصف ابن الرومي بأنه المجدد المحدث، في أفكاره ومعانيه وصوره ولغته الشعرية التي اقتربت بشكل صريح من لغة الواقع واللغة اليومية، وهو بذلك يخرج عن النسق الثقافي الذي عرف به البحتري وغيره.

(25)من حديث الشعر والنثر، 133.

(26)ج1، تح د. النبوي عبد الواحد شعلان.

(27)ابن الرومي، العقاد، 255.

(28)المصدر نفسه، 256.

(29)الموشح، 376.

(30)ديوانه، تحقيق د. حسين نصار، ج1، 273.

(31)العمدة، ج1/ 174 .

(32)ديوانه، 1/277.

(33)شعر البحتري، 86.

(34)ديوان البحتري، 2/52.

(35)ديوانه، 1/71.

(36)الموشح، 376.

(37)ديوانه، 1839.

(38)ديوانه، 1982.

(39)الموشح، 399.

(40)النقد الثقافي، 162، بتصرف في التقديم والتأخير في بناء الفقرة.

(41)ديوانه.

(42)الموشح، 377.

(43)الموازنة,15.

(44)العمدة ج2/999.

(45)المصدر نفسه ج2/852.

(46)المصدر نفسه ج1/ 467.

(47) الفن ومذاهبه, د.شوقي ضيف, 204.

(48)العمدة, 2/986.

(49) المصدر نفسه، ج2/ 987.

(50)الفن ومذاهبه, 205.

(51) المصدر نفس, 179.

(52) ديوانه.

(53)الفن ومذاهبه , 194.

(54)ديوانه ,ج2 /586.

(55)الفن ومذاهبه,205.

(56)الشعر والفكر, د.وائل غالي, 73, الهيئة العامة المصرية للكتاب, مصر, 2001.

(57)الفن ومذاهبه ,194 .

(58) شعر الفكرة في العصر العباسي, د.محمد عبد العزيز الموافي, 59, دار غريب, مصر, ط2 ,2007.

(59)الشعر في بغداد حتى نهاية القرن الثالث الهجري, د.احمد عبد الستار الجواري, 267, المؤسسة العربية للدراسات والنشر, بيروت, ط1 , 2006

(60)الشعر العباسي قضايا وظواهر, د.عبد الفتاح نافع, 134, دار جرير, عمان, ط1 ,2008.

(61)القصيدة العباسية, قضايا واتجاهات, د.عبد الله التطاوي, 49, دار غريب, مصر, ط2, 1992.

(62)ديوانه, ج2/374.

(63) في الشعر العباسي, نحو منهج جديد, د.يوسف خليف, 115, دار غريب, مصر, د.ت.

(64)العمدة, ج2/988.

(65)ابن الرومي, 326.

(66)ديوانه.

(67)العمدة, ج1/426.

(68)المصدر نفسه, ج1/ 467.

(69)الفن ومذاهبه, 204.

(70)المصدر نفسه, ج1 / 426.

(71)ديوانه.

(72)العمدة, ج1 /203.

(73)ديوانه, ج1 /123.

(74)العمدة, ج1 / 206.

(75)المثل السائر 420– نقلا عن امراء الشعر 243.

(76)امراء الشعر العربي, 252.

(77)العمدة, ج2/986.

(78) ديوانه.

(79)ديوانه.

(80)ديوانه.

(81) ج1/227.

(82)حركة التجديد في الشعر العباسي, محمد عبد العزيز الموافي, 278, دار غريب, القاهرة, 2007.

(83)المصدر نفسه, 282.

(84)رؤى فنية– قراءات في الادب العباسي, د.صالح الشتيوي, 123, المؤسسة العربية للدراسات والنشر, بيروت,ط1, 2005.

(85)خطاب الطبع والصنعة، رؤية نقدية في المنهج والاصول، د. مصطفى درواش، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، ط1، 2005.
مصادر البحث ومراجعه
- ابن الرومي, حياته من شعره, عباس محمود العقاد, دار الكتاب العربي,بيروت, لبنان, ط4 ,1987 .
- اخبار البحتري,ابو بكر الصولي، تحقيق د. صالح الأشتر، دار الاوزاعي، بيروت لبنان 1987.
- امراء الشعر العربي في العصر العباسي, د.انيس المقدسي, دار العلم للملايين/ بيروت,لبنان,ط13 ,1980.
- تاريخ الشعر العربي, العصر العباسي الثاني, د.شوقي ضيف, دار المعارف, مصر, 1982 .
- تاريخ الشعر في العصر العباسي د.يوسف خليف, دار غريب, مصر, 1986 .
- الشعر العباسي, قضايا وظواهر, د.عبد الفتاح نافع, دار جرير, ط1, 2008 .
- الشعر في بغداد حتى نهاية القرن الثالث الهجري, د.احمد عبد الستار الجواري, المؤسسة العربية للدراسات والنشر, بيروت, لبنان, ط1, 2006 .
- الشعر والشعرية في العصر العباسي, سوزان بينيكي ستيتكيفيتش, ترجمة حسن البنا عز الدين, المجلس الاعلى للثقافة, القاهرة,ط1 ,2005 .
- الشعر والفكر,د.وائل غالي,الهيئة العامة المصرية للكتاب, مصر, 2001 .
- العمدة في صناعة الشعر ونقده, ابو علي الحسن بن رشيق القيرواني, د.النبوي عبد الواحد شعلان, مكتبة الخانجي, القاهرة, ط1, 2000.
- الفن ومذاهبه في الشعر العربي,د.شوقي ضيف, دار المعارف, مصر, ط13, 2006 .
- القصيدة العباسية, قضايا واتجاهات, د.عبد الله التطاوي, دار غريب, القاهرة, ط2, د.ت .
- الموازنة بين شعر ابي تمام والبحتري, لابي القاسم الحسن بن بشر الامدي, تحقيق السيد احمد صقر, دار المعارف, مصر, 1965.
- الموشح, مأخذ العلماء على الشعراء في عدة انواع من صناعة الشعر, المرزباني, ابو عبد الله محمد بن عمران بن موسى, تحقيق محمد علي البجاوي, دار النهضة,مصر,1965.
- النقد الثقافي (قراءة في الإنساق الثقافية العربية) , د.عبد الله الغذامي, المركز الثقافي العربي, الدار البيضاء, المغرب, ط2, 2001 .
- الوساطة بين المتنبي وخصومه,للقاضي علي بن عبد العزيز الجرجاني, تحقيق وشرح محمد ابو الفضل ابراهيم وعلي محمد البجاوي, 1965, دار احياء الكتب العربية, مصر.
- حركة التجديد في الشعر العباسي, د.محمد عبد العزيز الموافي, دار غريب, القاهرة ,2007 .
- خطاب الطبع والصنعة,رؤية نقدية في المنهج والاصول , د.مصطفى درواش, منشورات اتحاد الكتاب العرب, دمشق, ط1 , 2005 ,
- دنيا من المجاز,مصطفى ناصيف, المجلس الاعلى للثقافة, مصر 2008.
- ديوان ابن الرومي, تحقيق, د.حسين نصار, دار الكتب والوثائق القومية, القاهرة, ط3, 2003 .
- ديوان ابي تمام, شرح التبريزي, تحقيق محمد عبد عزام, دار المعارف, مصر, 1982 .
- ديوان البحتري, تحقيق حسن كامل الصيرفي, دار المعارف, مصر,1978 .
- شعر البحتري, دراسة فنية, د.خليفة الوقيان, المؤسسة العربية للدراسات والنشر, ط1, 1985 .
- شعر الفكرة في العصر العباسي, د.محمد عبد العزيز الموافي, دار غريب , القاهرة ,ط2, 2006 .
- في الأدب العباسي, رؤى نقدية, د.فاطمة الزهراء عبد الغفار علي الموافي, مكتبة الاداب, القاهرة, ط1, 2008 .
- في الشعر العباسي, نحو منهج جديد د.يوسف خليف, دار غريب د.ت .
- من حديث الشعر والنثر,د.طه حسين, دار المعارف, مصر, 1978.




مجلة جامعة بابل / العلوم الإنسانية/ المجلد 18 / العدد ( 2 ) : 2010


المصدر: ملتقى شذرات

__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية

الكلمات الدلالية (Tags)
البحتري, الحركة, الرومى, النقدية, يوم, شعري, وابن


يتصفح الموضوع حالياً : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
أدوات الموضوع

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


المواضيع المتشابهه للموضوع الحركة النقدية حول شعري البحتري وابن الرومي
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
شعري زهير شيخ تراب الشاعر زهير شيخ تراب 0 09-15-2014 08:32 AM
شعري عبدالناصر محمود أخبار ومختارات أدبية 0 01-02-2014 08:29 AM
البحتري Eng.Jordan شخصيات عربية وإسلامية 0 06-16-2013 11:37 AM
رائعة ابن الرومي عبدالناصر محمود أخبار ومختارات أدبية 1 05-28-2013 04:55 PM
البحتري Eng.Jordan شخصيات عربية وإسلامية 0 03-03-2013 07:30 PM

   
|
 
 

  sitemap 

 


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 10:43 AM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.12 by vBS
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والمشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59