#1  
قديم 12-21-2020, 10:16 AM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,372
افتراضي أعلام المغرب والأندلس في القرن الثامن


الكتاب: أعلام المغرب والأندلس في القرن الثامن
المؤلف: إسماعيل بن يوسف بن محمد بن نصر الخزرجي الأنصاري النصري، أبو الوليد، المعروف بابن الأحمر (المتوفى: 807هـ)
المحقق: الدكتور محمد رضوان الداية
الناشر: مؤسسة الرسالة، بيروت
الطبعة: الأولى، 1396 هـ - 1976 م
عدد الأجزاء: 1
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]

والأندلس 27.gif والأندلس 27.gif والأندلس 27.gif


مقدمة المحقق
1) يعد القرن الثامن-الهجري-أكثر عهود دولة بني الأحمر (من بني نصر) زهاء وقوة وتمكنا؛ فقد كانت أيامهم في القرن السابع (منذ سنة 635) تثبيتا لحدود الدولة وإرساء لدعائمها، ورسما لسياستها، وتهيئة للأسرة الحاكمة وأصهارها ومن يلوذ بها في أنحاء المملكة الفتية وكان استقرار الأمور وهدوؤها-في القرن الثامن-نسبيا، فقد شهد النصف الأول منه حروبا سجالا مع قشتالة وغيرها من دول إسبانيا المجاورة، بينما اتسم نصفه الآخر بالحفاظ على معاهدات السلم والهدنة التي عقدتها دولة غرناطة مع جيرانها.
وكان هذا القرن حافلا بالأعلام في الآداب والفنون والعلوم وشؤون الهندسة والعمران، وحافظ الأندلسيون على خبراتهم الموروثة، كما ظلت الأندلس الباقية منار إشعاع فكري وحضاري على الرغم من ظروفها السياسية والعسكرية القاسية.
ويكفي أن نذكر من أعلامه لسان الدين بن الخطيب (1)، وأستاذه أبا الحسن بن الجياب (2)، وابن خاتمة الأنصاري (3)، وابن زمرك (4)، والشريف
_________
(1) أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن الخطيب (713 - 766) الوزير الكاتب الشاعر صاحب المصنفات الشهيرة. (انظر دراسة عنه خاصة للأستاذ عنان)
(2) أبو الحسن علي بن محمد بن الجياب (673 - 749) الوزير الكاتب الشاعر له ديوان شعر، ورسائل. (وديوانه في سلسلة دراسات أندلسية)
(3) أبو جعفر أحمد بن علي بن خاتمة (700 - 771) متصوف، شاعر، أديب له ديوان مطبوع (وزارة الثقافة بدمشق)
(4) أبو عبد الله محمد بن يوسف الغرناطي (733 - 793) شاعر من مشهوري كتاب الدولة النصرية. (انظر دراسة عنه في سلسلة الذخائر)
(1/5)
________________________________________
(السبتي) (1)، وأبا القاسم بن جزيّ الكلبي المفسر المشهور (2)، وأبا البقاء خالد البلوي صاحب رحلة «تاج المفرق» (3)، وأبا الحسن النباهي القاضي المشهور (4).
2) ومن رجال القرن الثامن الأديب المؤرخ المشارك في فنون من الثقافة العربية والإسلامية أحد أمراء البيت النصري: أبو الوليد إسماعيل بن يوسف بن محمد بن أبي سعيد فرج بن إسماعيل بن يوسف المدعو بالأحمر. وبنو نصر هم حكام دولة غرناطة منذ نشوئها-بعد انتهاء الموحدين وانقراض الثائرين على دولتهم- إلى نهاية الإسلام في الأندلس، وينتمون في نسبتهم إلى الصحابي الجليل سعد ابن عبادة الأنصاري. ومحمد بن الأحمر (شقيق جد صاحب الترجمة) هو مؤسس الدولة الذي استدعاه أهل غرناطة فملكها سنة 635. أما أبو سعيد فرج فقد كان واليا على «مالقة». وكانت لمحمد بن فرج ثورة في مدينة أندرش سنة 727؛ ذلك أنه قدم من تلمسان-حيث يقيم-إلى أندرش باستدعاء عثمان بن أبي العلاء القائد المغربي المريني صاحب (الجند الغربي) (5) بعد أن جافى الأمير محمد النصري (825 - 723) واصطدم بالوزير محمد بن أحمد بن المحروق. ولكن الخلاف بين ابن أبي العلاء والأمير النصري انتهى بوفاة الوزير، فصرف القائد المريني الأمير محمد بن أبي سعيد فرج ثانية إلى تلمسان.
_________
(1) أبو القاسم محمد بن أحمد الشريف الحسني الغرناطي (697 - 760) القاضي الأديب صاحب شرح مقصورة حازم (رفع الحجب المستورة عن محاسن المقصورة).
(2) (693 - 741) الشهيد في وقعة طريف، صاحب تفسير (التسهيل لعلوم التنزيل).
(3) أبو البقاء خالد بن عيسى البلوي القتوري صاحب الرحلة المشهورة تاج المفرق بتحلية علماء المشرق.
(4) علي بن عبد الله بن الحسن النباهي (713 - 792) صاحب كتاب المرقبة العليا فيمن يستحق القضاء والفتيا، المطبوع بعنوان: تاريخ قضاة الأندلس.
(5) كان المرينيون والنصريون قد اتفقوا على إبقاء حامية من الجند المغاربة برسم الجهاد في أرض العدو ومساعدة الأندلسيين في دفاع أو هجوم. وأول من رأس الجند المغربي عثمان بن أبي العلاء. (انظر اللمحة البدرية لابن الخطيب، ونهاية الأندلس لمحمد عبد الله عنان).
(1/6)
________________________________________
وكان الفرع الذي ينتمي إليه صاحب الترجمة قد اضطرب أمره بخلافات حول الملك، واصطدم إسماعيل بن فرج (خامس الملوك النصريين) بوالده، وبأخيه محمد، مما أدى إلى انتقال محمد إلى بلاد المغرب مع نفر من آله.
ومع هذا فإن صاحب الترجمة يقول إن والده يوسف خرج من الأندلس إلى بلاد المغرب، فوفد على بجاية أولا ثم استقر-مع أولاده، وفيهم إسماعيل- بفاس. ويظهر لنا من ترجمته أنه ولد بالأندلس، وعاش فيها صدرا من صباه، ثم استقر بالمغرب يتذكر أيامه بغرناطة ويحنّ إليها، ويتعيش من أعمال في دولة بني مرين، وجراية كانوا يجرونها على (الوافدين) من الأسرة النصرية (1).
3) ولد إسماعيل بن يوسف بن محمد نحو سنة 725 بغرناطة (2)، وغادرها مع أبيه-على الأكثر-إلى بجاية، ثم استقر بفاس. وكانت مغادرته في عهد الأمير يوسف (الأول) «725 - 733»، ويروي لنا أنه غادرها مرغما مغرّبا «فلولا أن هدر الملوك بنو عمي بوطني دمي لسرت إليه على رأسي لا على قدمي. . .» (3)، ويوافق هذا عهد أبي الحسن علي المريني.
وقد نبغ صاحب الترجمة في عهد أبي عنان المريني الذي قربه في جملة العلماء والأدباء
_________
(1) راجع تفاصيل ذلك في الدراسة الموسعة عن إسماعيل بن الأحمر في (نثير فرائد الجمان في نظم فحول الزمان: دراسة وتحقيق-المكتبة الأندلسية العدد 18 تأليف د. محمد رضوان الداية).
(2) انظر في ترجمته: درة الحجال لابن القاضي 1:116، وجذوة الاقتباس، له:69 ونيل الابتهاج لأحمد بابا:99، واللمحة البدرية للسان الدين بن الخطيب:24، وشجرة النور الزكية لمحمد مخلوف:238. وسلوة الأنفاس للكتاني 3:256 وفهرس الفهارس والأثبات لعبد الحي الكتاني 1:100، وإيضاح المكنون 1:172، وهدية العارفين 1:215. وله تراجم في كتب المعاصرين مثل تاريخ الأدب العربي لبروكلمان، والأعلام للزركلي، ومعجم المؤلفين لكحالة، وغيرها.
(3) نثير الجمان (نسخة دار الكتب) 2/ب.
(1/7)
________________________________________
والشعراء، وكان مشهورا يحب العلم وأهله، جمّاعة للكتب، مثيبا للشعراء.
واستمرت صلته بالدولة المرينية طوال حياته، سواء كانت علاقة بالسلاطين أنفسهم أم بالكتاب والوزراء والحجاب وطبقتهم. (1).
وقد تلقى علومه الأولى في غرناطة، ولكن شيوخه الذين ذكرهم في فهرسته كانوا من المغرب، أو من الأندلسيين المقيمين فيه، أو الأندلسيين في أثناء ترددهم عليه أو في أثناء رحلاتهم إلى الشرق وعودتهم منه. فمن شيوخه محمد بن محمد بن داود الصنهاجي (ابن آجروم)، والقاضي الفقيه الحسن بن عثمان الوانشريسي، والقاضي محمد بن أحمد الفشتالي، والفقيه سعيد بن أبي العافية المكناسي. وممن أجازه من الأندلسيين أبو سعيد فرج بن لب التغلبي الغرناطي وأبو القاسم عبد الرحمن الأموي، وأبو عبد الله محمد بن سعيد الرّعيني. السراج، وأبو القاسم عبد الله بن يوسف بن رضوان النجّاري وغيرهم.
وكان يتصل بالوفود الغرناطية الأندلسية الزائرة، ويلتقي بالعلماء والأدباء يستجيزهم علومهم، ويستنشدهم أشعارهم، ويستكتبهم رسائلهم ويدوّن ذلك ويجمعه ويحرص عليه. كما كان يطلب إليهم موافاته ببعض إنتاجهم ليرسمه في بعض مؤلفاته، كما يظهر بجلاء في ثنايا كتابه هذا الذي نقدم له.
وكانت وفاته عن سن متقدمة بفاس سنة 807، وقيل سنة 810.
4) وقد حفظت لنا عدة أسماء ممن تتلمذ على ابن الأحمر أو روى عنه أو أخذ عنه الإجازة مثل سعيد بن إبراهيم السّدراتي الشهير بشهبون، وعبد الرحمن الجادري (2).
وله عدد من المؤلفات، بعضها مفقود، والذي نعرفه منها:
_________
(1) راجع تفاصيل صلته ببني مرين في دراسة المحقق عن حياة ابن الأحمر وأدبه:85 - 87.
(2) انظر: دراسة في حياة ابن الأحمر وأدبه؛87.
(1/8)
________________________________________
1 - شرح البردة: ذكره في نثير الجمان ونقل منه نصا في الورقات 53 - 56 (مخطوطة دار الكتب المصرية).
2 - عرائس الأمراء ونفائس الوزراء: ذكره في نثير فرائد الجمان، وذكره ابن القاضي أيضا.
3 - تأنيس النفوس في تكميل نقط العروس: ذكره ابن القاضي، وأحمد بابا، وصاحب سلوة الأنفاس، وصاحب فهرس الفهارس.
4 - برنامج أو مشيخة ونقل أحمد بابا منه نقولا كثيرة في (نيل الابتهاج).
5 - المنتخب من درر السلوك في شعر الخلفاء الأربعة والملوك: ذكره في نثير الجمان (الورقة 32).
6 - نظم وشرح: على غرار كتاب لسان الدين رقم الحلل (في التاريخ) ذكره في سلوة الأنفاس، وأحمد بابا في نيل الابتهاج.
7 - فريد العصر في شعر بني نصر: ذكره في نثير الجمان.
8 - مشاهير بيوتات فاس: قال في فهرس الفهارس: وهو الذي اختصره أبو زيد الفارسي في كتابه المطبوع.
9 - حديقة النسرين في أخبار بني مرين: ذكره ابن القاضي، وأحمد بابا، وفي فهرس الفهارس.
10 - روضة النسرين في أخبار بني عبد الوادي وبني مرين: ذكره غير واحد وهو مطبوع. نشره ل. بروفنسال في المجلة الآسيوية (أكتوبر ديسمبر-1923)، ثم أعاد نشره الأستاذ المؤرخ عبد الوهاب بن منصور (1382 - 1962) (1).
_________
(1) المرجع السابق ص 125 - 129.
(1/9)
________________________________________
11 - مستودع العلامة ومستبدع العلاّمة: ذكر فيه من تولى «العلامة» من الكتاب عن الملوك. وطبع الكتاب في تطوان عن كلية الآداب بجامعة محمد الخامس بتحقيق الأستاذ محمد التركي التونسي ومحمد بن تاويت التطواني.
12 - نثير فرائد الجمان في نظم فحول الزمان: ألفه سنة 799 وجعله في فصلين: الأول لعدد من شعراء المشرق والثاني لعدد من شعراء المغرب.
وجعل الفصل الثاني في قسمين: أحدهما لشعراء الأندلس والثاني لشعراء المغرب (برّ العدوة). وتراجم الكتاب كله ثلاثون عدا ترجمة المؤلف الذاتية وقد حققت الكتاب ونشرته في المكتبة الأندلسية (العدد 18) (1).
13 - نثير الجمان في شعر من نظمني وإياه الزمان: وهو هذا الكتاب الذي نقدم له ألفه ابن الأحمر سنة 776 وقصره على شعراء الأندلس والمغرب (بمعناه العام) ولم يذكر فيه أحدا من المشارقة على سبيل الترجمة. وهو كتاب تراجم يعتني بالنصوص الأدبية، وبخاصة منها النصوص الشعرية.
وفيه نيف وسبعون ترجمة لأدباء ومتأدبين من الأندلس، والمغرب (الأقصى) من رجال الدولة المرينية، والمغرب (الأوسط) من رجال الدولة الزيانية العبد الوادية، والمغرب (الأدنى) من رجال الدولة الحفصية. وقد انتظمت هذه التراجم معظم المشهورين من أعلام هذه الدول ورجالها.
وجعل كتابه في اثني عشر بابا، عشرة أبواب في التراجم، واثنان مكملان لمقاصد المؤلف، فالأول في فضل الشعر وإباحة انشاده بالمساجد، والثاني عشر في الشعر الذي قيل في السيف الذي [كان] بصومعة جامع القرويين من فاس، مع مقدمة وخاتمة.
والكتاب واحد من كتب التراجم القليلة التي بقيت من هذا العصر، وأشهرها كتاب الإحاطة في أخبار غرناطة، وكتاب الكتيبة الكامنة فيمن
_________
(1) طبع في دار الثقافة ببيروت.
(1/10)
________________________________________
لقيناه بالأندلس من شعراء المئة الثامنة للسان الدين بن الخطيب، وكتابا ابن الأحمر المشار إليها. وقد ألفت كتب أخرى في التراجم، والتعريف بالمدن ورجالها ولكنها في حكم المفقودة مثل كتاب ابن خاتمة المسمى مزيّة المريّة.
5) والكتاب، على كل حال، من الآثار الأدبية الباقية من القرن الثامن وهو ذو أهمية متنوعة الجوانب، فإن فيه نماذج هامة من شعر رجال العصر ونثرهم وفيه تراجم عدد كبير منهم، مما يستقل المؤلف بذكره، أو يعضد تراجم أخرى لهم في كتب سابقة أو لاحقة، وفيه ملاحظات تاريخية واجتماعية وثقافية تلقي أضواء على العصر وأحواله وتقلباته. والكتاب -بعد-معرض لحياة المؤلف، وعلاقاته، وتجاربه، وصلاته بالدول والأمراء لزمانه، ومجال عرفنا فيه شخصيته التاريخية والأدبية، ومشاركاته في عدد من الفنون والأغراض. وعلى الرغم من لغة المؤلف التي أكثر فيها من السجع ومن الأسلوب المرصع فإن القارئ يستشف آراءه وتقريراته وأحكامه بوضوح. وكان ربما خرج إلى الأسلوب المرسل وتحرر من القيود.
6) اعتمدت في تحقيق الكتاب على نسختيه المعروفتين لنا، وهما مخطوطة دار الكتب المصرية (المحفوظة تحت رقم: أدب 1863) ومخطوطة الخزانة الملكية بالرباط.
ومخطوطة دار الكتب المصرية تقع في 129 ورقة، وسقطت منها ورقتان من البداية وورقة واحدة من الخاتمة، ولا نجد تأريخا للنسخة لفقدان أولها وآخرها. وطمس أسفل بضع صفحات من أول النسخة (في حدود سطرين إلى ثلاثة أسطر) بفعل ترميم جرى عليها، وهي بخط مغربي جميل.
أما مخطوطة الخزانة الملكية بالرباط فتقع في 136 ورقة، منها أربع
(1/11)
________________________________________
ورقات من الحوامي وليست من أصل الكتاب. وهي بخط مغربي دقيق، وكتبت بأكثر من قلم واحد. وهي إلى ذلك متداخلة الصفحات مضطربة الترتيب. ولم يكن ناسخها-أو ناسخوها-على نصيب من العلم فتداخل الشعر بالنثر في بعض التراجم. والنسخة المغربية بعد متآكلة في مواطن متعددة بفعل الأرضة. وقد عاينت النسخة الأصلية واستدركت مواضع كثيرة غمضت في النسخة المصورة منها (1).
وقد تداركت من النسخة المغربية ما سقط من نسخة دار الكتب المصرية وقابلت النصين، وإن كانت الفروق بينهما قليلة. ولكن الفائدة الحقيقية كانت في توثيق الكتاب وعرضه وضبطه، واستدراك أوله وآخره.
واعتمدت نسخة دار الكتب أساسا؛ لوضوحها، وضبطها، وحسن خط كاتبها، ووضوح قاعدة رسمه، وانسجام النسخة من أولها إلى آخرها.
وجعلت النسخة المغربية أصلا ثانيا أتدارك منه النقص، وأقابل عليه.
وقد اجتهدت في العناية بالنص، وضبطه، ومقابلته، وأحلت في التراجم على مظان ذكرهم وأخبارهم، وقابلت النصوص على أصولها في الدواوين والمختارات في الكتب الأصلية (2) -إن وجدت-وأضفت حواشي وتعليقات
_________
(1) كان ذلك في شهر تشرين الأول (أكتوبر) سنة 1975، في أثناء مهرجان ابن زيدون، وكانت زيارتي للرباط تلبية لدعوة كريمة من وزارة الثقافة، وقد اطلعت على المكتبة العامة بالرباط والخزانة الملكية بها، وسهل لنا المسؤولون جميعا سبيل القراءة والمراجعة والتصوير، فإليهم أقدم آيات الشكر، والثناء.
(2) من أهم مارجعت إليه كتب لسان الدين بن الخطيب في التاريخ والأدب مثل الإحاطة والكتيبة الكامنة، واللمحة البدرية، ورقم الحلل، ومعيار الاختيار، ومشاهدات لسان الدين، وريحانة الكتّاب، ودواوين بعض المعاصرين كديوان لسان الدين بن الخطيب وديوان ابن خاتمة الأنصاري، وديوان أبي الحسن بن الجياب. ومن ذلك رحلة أبي البقاء البلوي والمرقبة العليا للنباهي. ومن ذلك كتابا المقري نفح الطيب وأزهار الرياض، بالإضافة إلى كتب التراجم، وكتب التاريخ كتاريخ ابن خلدون وترجمته الذاتية. . . ومن هذه الكتب ما هو مطبوع ومنها ما هو مخطوط، كما هو مبين في ثبت المصادر والمراجع.
(1/12)
________________________________________
بما يفيد الكتاب ولا يثقل بهوامش يمكن الاستغناء عنها، على قدر الطاقة، والنظر، والاجتهاد.
وبعد:
فإنني أرجو أن يكون هذا الجهد المتواضع خطوة أخرى في طريق إحياء التراث الاندلسي وأن يساهم في جلاء جوانب جديدة من حياة الأدب الأندلسي وتاريخه وآمل أن يتلقاه المهتمون بالأندلسيات بعين الرضا وأن يلتمسوا لما سهوت عنه، وغاب عني منه، عذرا مقبولا.
وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين.
وهران (بالقطر الجزائري)
1395 هـ‍-1975 م
د. محمد رضوان الداية
(1/13)
________________________________________
صورة الورقة (83) من مخطوطة دار الكتب المصرية (م)، وفيها بداية ترجمة «ابن خلدون»
(1/14)
________________________________________
صورة الصفحة الاخيرة من مخطوطة دار الكتب المصرية (نسخة م) وعليها طابع الدار (الكتبخانة الخديوية المصرية).
صورة الصفحة الأولى من نسخة دار الكتب المصرية واستدرك عنوان الكتاب في رأس الصفحة بخط مغاير
(1/15)
________________________________________
بداية مخطوطة الخزانة الملكية (بالرباط) والسطور الشاحبة في الصورة كتبت في الأصل بقلم أحمر
(1/16)
________________________________________
صورة الورقة الاخيرة من المخطوطة المحفوظة في الخزانة الملكية بالرباط، وفيها عبارة ختام الكتاب
(1/17)
________________________________________
[مقدمة مؤلف الكتاب]
بسم الله الرحمن الرحيم قال الرئيس الفقيه (1) النحوي (2) الراوية المسند الحافظ، فارس النظم والنثر، أبو الوليد إسماعيل بن الرئيس أبي الحجاج يوسف بن السلطان أمير المسلمين القائم بإذن الله (3) أبي عبد الله بن علم الأمراء ووالد الكبراء، الرئيس الأمير أبي سعيد فرج بن الأمير أبي الوليد إسماعيل بن الأمير أبي الحجاج يوسف الشهير بالأحمر، ابن السلطان أمير المؤمنين المنصور بالله أبي بكر محمد ابن أحمد بن محمد بن خميس بن نصر بن محمد بن محمد (4) بن نصر (5) بن علي بن يحيى بن سعد بن قيس بن سعد بن عبادة الخزرجي، رضي الله عنه بمنه وكرمه:
[أحمد الله تعالى الذي] (6) جعل مورد الآداب لدى البث والاكتئاب (7)
_________
(1 و 2) سقط من نسخة الرباط عدد من ألقاب المؤلف العلمية بسبب تآكل النسخة، وتقدر بنحو 6 كلمات.
(3) لقبه في نثير الفرائد بالقائم بأمر الله (ص 215).
(4) (محمد) زيادة عما أورده في نثير الفرائد.
(5) في نثير الفرائد: نصير، ولعلها من تصحيف النساخ.
(6) ما بين معقوفتين غير ظاهر تماما في نسخة الرباط.
(7) تآكل من الأصل بمقدار كلمات تقريبا.
(1/19)
________________________________________
يروي ذا القلب المعنى من فائق اللفظ ورائق المعنى. وأطلق من وثاق (1) الحرمان نفس الجعد البنان (2) إلى طلاقة (3) وسماحة (3).
وأخص بالصلاة سيدنا ومولانا محمدا سراج البيان (4) مصباحه، وأعم به [آله] (5) ذوي الأخلاق الساطعة الإشراق والصباحه. وأسلم عليهم كثيرا عميما، مساء الزمان وصباحه.
وبعد: فإنه لما كان الشعر أعذب ما تطمح إليه الهمم الهمامية (6)، وأسنى ما تعتمده أنفس أولي الفعال الاهتمامية، [لما يشتمل] (7) عليه من ضبط القوافي والأوزان، ويحتوي عليه مسرحه من بديع الحلاوة والنغمات [المذهبة] (7) للأحزان. [ولما كان] (8) ديوان العرب الذي خلدت به مآثرها (9) به تتفاوت في الناس الأخطار وتتشرف النفوس وإن اختلفت بهم الأقطار. وإذ هو أشرف زي وأرفع لباس، وأ*** شيء لنفع وأدفع لباس (10)، ولما كان في المرتبة العالية في نفوس أهل العقد والحل، وبلغ عند ذوي الألباب المنزلة الرفيعة وسنيّ المحل، وصار يعتلق بها اعتلاق الحرباء بالأعواد، ويسلك منها مسلك السماحة في أجساد الأجواد، وكانت العيون
_________
(1) في الأصل: وثائق. وهو تحريف.
(2) جعد البنان: كناية عن البخيل.
(3) كلمة غير ظاهرة.
(4) كذا بغير واو العطف. وانظر الفقرة الموازنة بعد.
(5) غير واضحة في الأصل.
(6) تآكل بعض أجزاء الكلمة في الأصل.
(7) غير واضحة في الأصل.
(8) تآكل بعض العبارة في الأصل.
(9) عبارات لم تظهر بتآكل شديد في النسخة، تقدر بنحو 3 أسطر.
(10) سطران غير واضحين في نسخة الرباط.
(1/20)
________________________________________
أبدا إلى (1) المخترع منه طامحة، وإلى رؤية (1) ما نجم من محاسنه لامحة، والأنفس بقبول حفظه سامحة، وكان في هذا العصر الذي أنا فيه من يأتي في (2) نظمه بالبديع ويوفيه. من محب متغزل، ومادح للمطلوب مستنزل، سنحت لأهله نصحيتي وسمعت بعمله قريحتي.
فسألت الله التيسير في كل عسير، فزال عني الالتباس، وذهب أكثر الباس. فجمعت في هذا التأليف ما وجدته لهم متمحقا شعاعه، وألفته من نفائس [جواهرهم] (3) متفرقا شعاعه لأطلع منه على بدائع جالبة للسلوان (4) في كل أوان. معولا في ذلك على ما طاب فصله، وفرع ذرى الإجادة فرعه وأصله.
واقتصرت فيه على من لنفسه أنشدني، ومن بنظامه البارع استرشدني [ممن رأيته بالعيان من الشعراء الأعيان] (5) ومن بسنّي لحقته (6). وغرضي أن أكتب ما أجده من الرسائل لمن ثبت اسمه، وأضمنه (7) أنواعا شتى من المكاتبات، وأحسن رسمه.
إذ [هذا] (8) النوع الإنشائي من الطبقة العليا بالموضع الذي لا يجهل علوّه، ولم [يتقلد حليه] (8) من الجنس الإنساني إلا الآحاد فلا ينبغي أن يهمل سموّه.
وسمّيت كتابي هذا: نثير الجمان في شعر من نظمني وإياه الزمان وألفته
_________
(1) كلمة غير واضحة في الأصل.
(2) كلمة (في) زيادة على الأصل.
(3) الكلمة متآكلة في الأصل، واستدركت من نثير الفرائد (في عبارة مشابهة).
(4) سقطت عبارة تقدر بنحو 3 كلمات، ظهر منها: وأتيت، بمحاسن
(5) من نثير الفرائد (في عبارة مشابهة).
(6) سقطت ثلاثة أسطر تقريبا.
(7) في الأصل: ونضمنه. وقد ورد كذا في نثير الفرائد في عبارة مقاربة. قلت: انظر الفعل التالي.
(8) غير واضح في الأصل، والمثبت من: نثير الفرائد.
(1/21)
________________________________________
وأنا ببرّ العدوة، في كنف الملك المريني والحفوة (1)، حين أخرجنا من الأندلس بنو عمنا الملوك الأحمريون وعشيرتنا السلاطين النصريون، خوفا منّا على سلطانهم (2) بأوطانهم. [لأجل] (3) واش مرود (4) متملق بذلك [غير] (5) ودود. يظهر لهم النصيحة حالية، ويخوفهم مما (6) وقع في الأيام الخالية. وإن الملك عقيم. وإذ كل من هو من بيته من حوله مقيم.
ولما كان الحلول بملوك المغرب [أمطروا] (7) علينا سحائب كرمهم المغرب، وحسنت الأحوال، وذهبت الأهوال. وطاب المقام، ونجم الأمن واستقام.
ومع هذه (8) الفضائل السامية والمفاخر النامية، فكثيرا (9) ما أنشد في الحنين إلى الوطن:
بلادي وإن شطت عليّ عزيزة … وقومي وإن شحوا [علي كرام] (10)
إذ هو من وطن آبائه، ومحل قومه وأحبائه. ومن مروءة المرء حنينه
_________
(1) في الأصل: الحفوة. قلت والمصدر من حفي به: حفاوة-بفتح الحاء وكسرها- وتحفاية. وأما الحفوة بضم الحاء وكسرها فهو مصدر حفي: مشى بغير خف ولا نعل.
(2) تآكل بمقدار كامتين. والأشبه أن تكونا: إذ كنا (؟).
(3) ظهر نصف الكلمة.
(4) في القاموس: مرد فهو مارد، ومريد.
(5) ظهر نصف الكلمة.
(6) واقرأ أيضا: بما.
(7) غير ظاهرة في الأصل.
(8) بعض حروف العبارة متآكل من الأصل.
(9) في الأصل: فكثير.
(10) البيت ناقص في الأصل بتآكل الصفحة والمحفوظة فيه: وإن جارت. . وإن ضنوا.
(1/22)
________________________________________
إلى وطنه (1). وقد حن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة إذ هي دار مولده (2).
[وفد أصيل الغفاري على رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يضرب الحجاب، فقالت له عائشة رضي الله عنها]: كيف تركت مكة؟ قال: تركتها وقد (اخضرت جنباتها) (3)، وابيضت بطحاؤها، وانتشر سلمها، وأعذق إذخرها، فقال النبي عليه السلام (*) [1/ب]: دع القلوب تقر.
وحدثني بفاس في سنة أربع وسبعين وسبع مئة، شيخنا الفقيه المحدث الراوية المسند الحاج الرحال الصالح المعمر أبو عبد الله محمد بن سعيد الرعيني المعروف بالسرّاج، وشيخنا الفقيه القاضي الخطيب العالم المفتي المدرس أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الملك الفشتالي؛ قالا: حدثنا الفقيه الخطيب الحاج الرحال المحدث الحافظ محب الدين أبو عبد الله محمد بن عمر بن رشيد الفهري السبتي نزيل فاس، عن الفقيه الخطيب الصالح أبي عبد الله محمد بن صالح بن أحمد بن محمد الكناني الشاطبي عن الفقيه القاضي أبي الحسن علي بن عبد الله بن محمد بن
_________
(1) جملة ظهر منها: وإن؟. . . مستوطنه.
(2) تآكلت ثلاثة أسطر وظهر نحو سطرين، ثم تعانقت النسختان المخطوطتان. وما بين معقوفتين غير ظاهر في نسخة الرباط. وفيه أصيل الخزاعي والحديث: قدم أصيل الغفاري على رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يضرب الحجاب، فقالت له عائشة (رضي الله عنها) كيف تركت مكة؟ قال اخضرت جنباتها، وابيضت بطحاؤها، وأعذق إذ خرها، وانتشر سلمها. . الحديث. وفيه: فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ويها يا أصيل، دع القلوب تقر» أخرجه الخطابي في غريب الحديث من طريق الزهري، وأبو موسى المديني من وجه آخر. وانظر: المقاصد الحسنة للسخاوي 183 وكشف الخفا ومزيل الإلباس 1:346، والنهاية في غريب الحديث لابن الأثير 1:33 والإذخر: حشيشة طيبة الرائحة، تسقف بها البيوت فوق الخشب. وأعذق أي صار له أعذاق. والسلم: شجر.
(3) في الأصل: وقد (اخضر؟) ثمامها. وكلمة (اخضر) غير واضحة. والثمام نبات.
(*) من هنا تبدأ نسخة م (دار الكتب المصرية) وإحالات الأرقام عليها.
(1/23)
________________________________________
يوسف بن قطرال عن الحافظ محمد بن سعيد بن زرقون الأنصاري عن الراوية أبي عبد الله أحمد بن محمد الخولاني عن أبي عمرو عثمان بن أحمد بن محمد بن يوسف اللخمي القبحطيلي قال: حدثني أبو عيسى يحيى بن عبد الله بن أبي عيسى قال: حدثني عمي أبو مروان عبيد الله بن يحيى بن يحيى عن أبيه يحيى ابن يحيى عن مالك بن أنس عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وعك أبو بكر وبلال. قالت فدخلت عليهما فقلت: يا أبت: كيف تجدك؟ ويا بلال: كيف تجدك؟ قالت فكان أبو بكر إذا أخذته الحمى يقول:
كل أمرئ مصبّح في أهله … والموت أدنى من شراك نعله
قالت: وكان بلال إذا أقلعت عنه يرفع عقيرته ويقول (1):
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة … بواد وحولي إذخر وجليل
وهل أردن يوما مياه مجنة … وهل يبدون لي شامة وطفيل (2)
[2/أ] قالت عائشة: فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال: اللهم حبب لنا المدينة كحبنا مكة أو أشد، وصححها، وبارك لنا في صاعها ومدها، وانقل حمّاها فاجعلها في الجحفة (3).
وأنشدني في الحنين إلى الأوطان ذو الوزارتين الحاجب القائد الخطيب الفقيه الكاتب صاحب القلم الأعلى، أبو عبد الله محمد بن الفقيه الخطيب الكاتب
_________
(1) لم يظهر ما بين معقوفتين في الأصلين لطمس فيهما وهو مستدرك من صحيح البخاري ج 4:264 وهو في معجم ما استعجم 2:369 والعقد 5:272. والبداية والنهاية 3:221
(2) تآكلت حروف قليلة من الشعر في نسخة ط. وذهب الشعر كله من م.
(3) الحديث في صحيح البخاري 4:264، وفيه حبب إلينا. و: بالجحفة. والجحفة كانت قرية كبيرة على طريق المدينة من مكة. وهي ميقات أهل مصر والشام إن لم يمروا على المدينة. وانظر صحيح مسلم بشرح النووي 9:105
(1/24)
________________________________________
أبي محمد عبد الله بن سعيد بن الخطيب السلماني الأندلسي (1) بفاس يتشوق معاهده بالأندلس لما كان بالعدوة حين خلع عن ملكه مخدومه ابن عمنا السلطان الغني بالله محمد (2)
أحبك يا مغنى الحقوق بواجب … وأقطع في أوصافك الغر أوقاتي
تقسّم منك الترب أهلي وجيرتي … ففي الظهر أحيائي وفي البطن أمواتي
وقلت أنا في ذلك، حين مقامي ببر العدوة في حضرة ملوك مرين لما أخرجنا عن الأندلس بنو عمنا الملوك الأحمريون النصريون لما قدمناه:
فؤادي يشتكي داء دفينا … لبعدي عن مزار الظاعنينا (3)
وأكبادي من الأشواق ذابت … ووجدي فاق وجد العاشقينا
ولي جسم أضرّ به سقام … وقلبي بعدهم أليف الشجونا
ورب البيت لا أنسى هواهم … وكيف؟ وهم بقلبي ساكنونا
لعمري [ما النّوى] إلا عذاب … وإني قد بليت به سنينا (4)
يهيّج زفرتي تذكار أرضي … ويفجعني ويستهمي الجفونا
حنيني ما حييت لها عظيم … وما بسوى محبتها بلينا
فما صبر وإن بعدت بباق … كذا سنن الكرام الماجدينا
وما بمراد نفسي كان عنها … بعادي، لا، ورب العالمينا!
فواجب على الحر الطاهر أن يحن إلى وطنه في السر والظاهر، ويردد بالشوق العظيم ما إني أردده من قصيدة ابن عبد العظيم:
_________
(1) هو لسان الدين بن الخطيب، وسيرد عنه حديث مفصل.
(2) هو الأمير محمد بن يوسف، حكم غرناطة مرتين، الأولى من 755 - 760 والثانية من 763 - 793 وهو مخدوم لسان الدين. انظر اللمحة البدرية:82.
(3) في الأصلين: لبعد. ورجحت ما أثبت.
(4) (ما النوى) زيادة أقترحها، لطمس في الأصلين مكانها.
(1/25)
________________________________________
حنيني إلى تلك المعاهد أنها … معاهد أحبابي تذكرتها حبا
ويتأوه حزنا عليه، ويكثر من تذكار الأوبة إليه. فلولا أن هدر الملوك بنو عمي بوطني دمي، لسرت إليه على راسي لا على قدمي!
على أن مثلي لا تنهنهه الزواجر، ولا تصده عن مطلبه السيوف والخناجر؛ بل يقتحم من مراده الأهوال، ويعمل بقول الشاعر في كل الأحوال:
أزور ولو أن السيوف شواهر … وأدنو ولو أن الجحيم مزارها
إذ كنت من بيت الملك الرفيع السعيد، ومن أحفاد السلطان الرئيس الأمير أبي سعيد. وقصدي في هذا الكتاب عند ذكر الملوك والأمراء والكبراء وغيرهم من سائر الشعراء أن أغضي عما آخذه لهم من القبائح، وأذكر ما امتازوا به من الفضائل والمنائح؛ لأن مثلي لا يليق به إظهار العورات، ولا يحل له تتبع العثرات. غيرة على أعراض الموحدين (1)، [اتباعا للشرع في تحريم الغيبة، وضربا عن الكريبة، وإثباتا لحظوظ النقيبة الرغيبة (2).
تركت مثاليب الرجال لأنني … أفضل أن ألقى بفضلي للناس (3)]
وأرجو بذاك الستر يوم فضيحة … إذا جل خطب في القيامة بالناس
مع أنه ليس في كشف عورات الناس مسرّة. وربما نال ما أثبت (4) ذلك بوسى ومضرة. فما ضره لو اشتغل بذنوبه، وتأسف على ما فرط من حوبه، وستر العيوب وكف الباس، وقال كما قال ابن طاهر عامل آل عباس:
وما السر من قلبي كثاو بحفرة … لأني أرى المدفون ينتظر الحشرا
ولكنني أخفيه حتى كأنه … من الدهر يوما ما أحطت به خبرا
_________
(1) سقطت جملة، لم تستبن في الأصلين.
(2) الكريبة: الداهية الشديدة. والنقيبة، النفس والطبيعة.
(3) ما بين معقوفتين من نسخة ط. وقد استجليت بعض الكلمات من ترجمة لسان الدين بن الخطيب في نثير الفرائد 223 - 224، فقد كرر هناك هذه الفقرة بمناسبة ترجمته له إدلالا بذكر محاسنه دون مساوئه. (راجع الترجمة).
(4) كذا فيهما.
(1/26)
________________________________________
وقد قال بعض الناس من تعرض للأعراض (1)، صار عرضه هدفا لسهام الأغراض. وأرجو من الله بتركي لذلك، أن يقيني من المهالك.
وكتابي هذا قد أينعت أفنان رياضه، وملئت بالآداب الرائقة أرجاء حياضه، فآدابه فائقة، وصفحاته بالحسن رائقة، وقد قلت في وصفه:
هذا الكتاب له فضل على الكتب … كتب القريض مع التاريخ والأدب
لأجل تركي مساوي من به، وسما … سمو واضعه في أشرف الرتب
لم أرض ذكر مساوي الناس عن كرم … فإنني لست للفحشا بمنتسب
يبدي السرور لقاريه، ويبعده … عن التفكر والأحزان والكرب
له فوائد مثل الروض في جيدة … وفوق أزهاره في الحسن والنسب
يروي الظما (ويداوي؟) كل ذي وله … وليس جدواه عن راج بمحتجب (2)
إذا اطلعتَ عليه زدتَ منفعة … وَحُزْتَ آداب أهل العلم والكتب
علم البيان بأشعار مزخرفة … جئنا بها مثل نظم الماء بالحبب
تنافس الصبح فيه عند بهجته … وعند ما تم منه منتهى أرب (3)
قاريه في لذة ما تنقضي أبدا … إلى انقضاء الأماني البيض في الطلب
من جاء يقبس منه نور فائدة … يلقى الهدى وهو لا يخشى من الريب
تهديه للحق فيه كل بارقة … تفوق بارقة الأمطار والسحب
أبديت فيه عجيبا من محافظتي … على العلوم ومن بحثي على العجب
حتى ملأت عياب الطرس من طرف … ومن علوم ومن شعر ومن نسب (4)
فخذه واصلح به ما جاء من خلل … واعذر، هديت إلى الإرشاد والقرب (5)
_________
(1) رسم كلمة أشبه ب‍ (أن) غير معجمة قبل صار. ولا معنى لها هنا.
(2) بعد هذا البيت بيت لم يتضح. وكذا صدر البيت التالي له، وبعض عجزه.
(3) كذا في الأصل؛ واقرأ: أربي.
(4) العياب: جمع عيبة: (ما يجعل فيه الثياب، وغيره).
(5) في م: القرب وفي ط الغرب.
(1/27)
________________________________________
ولعلي أن أكون قد خرجت عن حد الصواب، فيما ألفته؛ وتركت من فصل الخطاب، أضعاف ما عرفته. وإنما ذلك من عوائق تبلد الذهن، وموانع للنشاط توقع في الفكر الصحيح الوهن. ولم لا؟ والدهر قد جار بالبعد عن الأهل والجار، وتبدد شمل الألفة بالأحباب، ومنع الحياة في القرب منهم والأسباب. والخروج عن الأوطان؛ والربط من عدوانه بأشطان.
فأي صواب يوجد مع هذه المحن، وأي فصل خطاب معها بما جرت من الإحن. وايم الله لولا لهجي بالأدب، وكلفي بمن جد في طلبه ودأب، لم أسارع في تأليف كتاب، بل لكنت ممن عن وضعه تاب؛ لهذه المصائب التي غدا سهمها صائب (1). فمن تصفح كتابي هذا، ووقع على خلل في تركيبه، أو عذلني في تبويبه (2):
[4/أ] فعين الرضا عن كل عيب كليلة … ولكن عين السخط تبدي المساويا
ومع ذلك فلم أخل أن جمعت ما تستملح، وأحسن شيء في فنه العيون تستلمح (3). وجئت ببيان ***** ولبابه. وبدائع تنسي عهد الصبا وحسن شبابه.
بدائع جلّت عن مثال لأنها … -لعمرك- إسماعيل ألّف حسنها!
فجئت بمجموع قد أشرقت أسرّة براعته الفائقة؛ وهبّ عطر نواسم جودته الرائقة. قل ما يسمح الزمان بمثاله، أو ينسج على منواله. لم تقدر على الإتيان بمثله أيدي المصنفين، ولا شنفت آذان إبداعه أنامل المشنفين!
_________
(1) كذا في الأصلين، مراعاة للسجع.
(2) في الأصلين نحو سطرين، طمسا في نسخة م بورق لاصق محا الأصل، وبتآكل نسخة (ط) تآكلا شديدا.
(3) فيهما: في فنه العيون تستملح.
(1/28)
________________________________________
وبوّبته أحد عشر بابا (1):
الباب الأول: في فضل الشعر وإباحة إنشاده بالمساجد.
الباب الثاني: في شعر ملوك بني مرين وأبنائهم.
الباب الثالث: في شعر ملوك-بني الأحمر من بني نصر-قومي-وأبنائهم.
الباب الرابع: في شعر ملوك الموحدين الحفصيين وأبنائهم.
الباب الخامس: في شعر ملوك بني زيّان من بني عابد الوادي وأبنائهم.
الباب السادس: في شعر ملوك بني العزفي وأبنائهم.
الباب السابع: فيما بلغنا من شعر وزراء قومي بني الأحمر من بني نصر، ملوك الأندلس.
الباب الثامن: فيما بلغنا من شعر قضاة بلادنا الأندلسية، وفقهائها.
الباب التاسع: فيما بلغنا من شعر كتّاب قومي بني الأحمر ملوك الأندلس.
الباب العاشر: فيما بلغنا من شعر كتّاب بني مرين ملوك المغرب.
الباب الحادي عشر: فيما بلغنا من شعر قضاة المغرب وفقهائها.
الباب الثاني عشر: فيما قيل من الشعر في السيف الذي بصومعة جامع [4/ب] القرويين من مدينة فاس.
_________
(1) فيهما: أحد عشر بابا. والحق أن المؤلف أضاف إلى تراجم الشعراء بابا للشعر الذي قيل في السيف الذي كان بصومعة جامع القرويين بفاس (انظره فيما بعد).
(1/29)
________________________________________
الباب الأول
في فضل الشّعر وإباحة إنشاده بالمساجد
نقول-والله المسدد-: الشعر لا يقوله إلا أهل الفضل والذكاء، ولا يرتاح لسماعه إلا الكرام. وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحب أن ينشد بين يديه قصيدة امرئ القيس (1):
ألا عم صباحا أيها الطلل البالي … وهل يعمن من كان في العصر الخالي
فإذا وصل منشدها بين يديه إلى قوله (2):
ألا زعمت بسباسة اليوم أنني … كبرت وأن لا يحسن اللهو أمثالي
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمسك» نزاهة منه صلى الله عليه وسلم أن يسمع الفحش الذي بعد ذلك في القصيدة.
وبعض المتفقهين الذين لا أدب عندهم، ولا هو في طبعهم ينكرون الشعر ويذمونه، ويرون أنه قبيح، وقائله مذموم. فليت شعري لم أنكروه وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم-وهو الأسوة والقدوة-كان يحب سماع قصيدة امرئ القيس المذكورة، وكانت في أكثر الأوقات تنشد بين يديه. وقد أنشده كعب بن
_________
(1) مطلع قصيدة له (الديوان بشرح الأعلم الشنتمري):27.
(2) قال الأعلم «قوله ألا زعمت بسباسة هي امرأة عبرته بالكبر، وأنه لا يحسن اللهو، فنفى ذلك عن نفسه بقوله -في البيت التالي- كذبت لقد أصبي على المرء عرسه».
(1/31)
________________________________________
زهير بن أبي سلمى بالمسجد قصيدته التي أولها (1):
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول … متيم إثرها لم يفد مكبول
فأصغى إليها صلوات الله عليه وأثابه عليها ببردته. ولو كان الشعر-مدحا أو غزلا-نكرا ما سمعه عليه السلام بالمسجد ولا بسواه، ولا أصغى إليه.
وحسب الشعر رفعة وعزة أن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حظّى عليه وندب أصحابه إليه، وتجند على المشركين به، فقال لحسان بن ثابت: شق القوافي على الغطاريف من بني عبد مناف، فوالله لشعرك أشد عليهم من وقع السهام في غبش الظلام (2).
ومن فضل الشعر وشرفه أن النبي صلى الله عليه وسلم أردف الشريد بن سويد يوما فاستنشده من شعر أمية بن أبي الصلت فأنشده مئة قافية؛ يقول النبي عليه السلام عند كل قافية: هيه! استحسانا له (3).
ومن فضل الشعر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن من الشعر لحكما (4)؛ قاله للعلاء بن الحضرمي وقد سأله: هل تروي من الشعر شيئا؟، فأنشده العلاء (5):
_________
(1) ديوان كعب بن زهير: وانظر خبر إسلام كعب، وقصيدته في السيرة النبوية لابن هشام (بتحقيق الأستاذ مصطفى السقا ورفاقه) 4:501 وانظر العمدة 1:7
(2) انظر العمدة في صناعة الشعر ونقده لابن رشيق (ط الخانجي) 1:12. والغطريف: السيد الشريف والسخي السري.
(3) الخبر في العقد 5:277، وفيه «فقال-النبي صلى الله عليه وسلم-هذا رجل آمن لسانه وكفر قلبه».
(4) قال في كشف الخفا؛ رواه أحمد وأبو داود عن ابن عباس. وهو عند مالك وأحمد والبخاري وأبي داود والترمذي عن ابن عمر بلفظ إن من البيان لسحرا. وفي رواية البخاري قال جاء رجلان من الشرق فخطبا فقال صلى الله عليه وسلم: إن من البيان لسحرا: (كشف الخفا ومزيل الإلباس:296) وانظر العمدة 1:9.
(5) الخبر في معجم الشعراء للمرزباني 156، والعمدة لابن رشيق 1:180 وفي رواية الأبيات بعض خلاف.
(1/32)
________________________________________
وحيّ ذوي الأضغان تسب قلوبهم … تحيّتك الحسنى وقد يرقع النغل
فإن دحسوا بالكره فاعف تكرما … وإن خنسوا عنك الحديث فلا تسل
فإن الذي يؤذيك منه سماعه … وإن الذي قالوا وراءك لم يقل
ومن فضل الشعر: روى عيسى بن طلحة أن النبي عليه السلام قال:
الشعر الحسن مما يزين الله به الرجل المسلم.
ومن فضل الشعر: لما قدم وفد تميم (1) على رسول الله صلّى الله عليه وسلم فنادوه من وراء الحجرات (2)، خرج إليهم عليه السلام فقال: ما تشاؤون؟ قالوا:
جئناك بخطيب وشاعر نفاخرك (3)، فقال عليه السلام: قولوا ما شئتم. فقام الزبرقان بن بدر (4) فقال: قد علم الله أنا أكثر أهل الأرض عدة وعددا، ولو شئنا أن نقول قلنا، ولكنه لا يجمل بنا فيما آتانا الله الإكثار. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد بن قيس بن شماس (5) الأنصاري من بني الحارث بن الخزرج:
قم فأجبهم. فقام فقال: الحمد لله الذي خلق السموات والأرض بأمره، ولم يكن له شيء فيما مضى إلا بعلمه؛ بعث خير خلقه رسولا؛ أكرمهم حسبا
_________
(1) السيرة النبوية 4:560
(2) انظر في ذلك ما ساقه المفسرون في سورة الحجرات. كالقرطبي 16:305.
(3) ورد ذكر الخطبتين والشعرين في مصادر كثيرة، منها تاريخ الطبري:115 - 120 والسيرة النبوية لابن هشام 4:560 - 567 وديوان حسان:243 - 252 وتفسير القرطبي 16:302 - 206 والأغاني 4:15. وقد تصرف المصنف في نقل الخطبتين فاجتزأ، واختصر.
(4) في السيرة النبوية وتاريخ الطبري، وديوان حسان، وغيرها من المصادر اتفاق على أن خطيب تميم يومها هو عطارد بن حاجب، وأن شاعرهم هو الزبرقان بن بدر. بيد أن القرطبي ذكر أن الخطيب هو الأقرع بن حابس. وأجمعت المصادر على أن الأقرع بن حابس هو الذي شهد لخطيب المسلمين بالغلبة.
(5) الصحيح أنه ثابت بن قيس بن شماس أخو بلحارث من الخزرج.
(1/33)
________________________________________
وأوسطهم نسبا في عترته من قريش، وذوي رحمه من الأنصار. فلم يزل يقاتل الناس حق يقولوا لا إله إلا الله، فمن قالها منع منا ماله ودمه، ومن أبى قتلناه، وكان قتله من الله يسيرا. ثم جلس، فقالوا للأقرع بن حابس (1):
قم فأنشده، فقام فقال: [5/ب]
نحن الملوك فلا حيّ يعادلنا … منا الملوك وفينا تنصب البيع
ونحن نطعم يوم المحل جائعكم … من السنام إذا لم تبصر القزع (2)
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت: قم فأجبه، فقام فمد لسانه فضرب به أرنبة أنفه، وقال قصيدته التي يقول فيها (3):
إن الذوائب من فهر وإخوتهم … قد شرعوا سنة للحق تتبع
يرضى بها كل من كانت سجيته … تقوى الإله ويرضى كل ما صنعوا
أكرم بقوم رسول الله قائدهم … إذا تفرقت الأهواء والشيع
خذ منهم ما أتوا عفوا فإن منعوا … فلا يكن همك الأمر الذي منعوا
فإن في حربهم-فاحذر-عداوتهم … سما يخاض عليه الصاب والسلع (4)
_________
(1) الشاعر كما سبق هو الزبرقان بن بدر. (انظر الحاشية 4 صفحة 33)
(2) رواية البيتين في السيرة النبوية (4:563)
نحن الكرام فلا حي يعادلنا ... منا الملوك وفينا تنصب البيع
ونحن يطعم عند القحط مطعمنا ... من الشواء إذا لم يؤنس القزع
وبينهما بيت ثالث في أبيات أخرى. ورواية المؤلف هنا غريبة. (والبيع: مواضع الصلوات والعبادات واحدها بيعة. والقزع السحاب الرقيق. يريد: إذا لم تمطرهم السماء فأجدبت أرضهم).
(3) ديوانه:248. والأبيات هنا مختارة على غير ترتيب رواية الديوان. وبين روايته ورواية الديوان خلاف في مواضع كثيرة.
(4) الصاب والسلع: ضربان من الشجر ممران. يقال: أمر من السلع.
(1/34)
________________________________________
فقال التميميون: نشهد أن خطيبك أخطب من خطيبنا، وأن شاعرك أشعر من شاعرنا وأنك امرؤ مهيأ لك الخير، وأنك لرسول الله. فأسلموا من حينهم. وكان شعر حسان سبب إسلامهم. فلأي شيء يذم الشعر وهو يفعل هذا؟ (*)
ومن فضل الشعر خرج الترمذي عن أنس بن مالك، أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة في عمرة القضاء، وعبد الله بن رواحة يمشي بين يديه ويقول (1):
خلّوا بني الكفار عن سبيله … اليوم نضربكم على تنزيله
ضربا يزيل الهام عن مقيله … ويذهل الخليل عن خليله
قال عمر: يا ابن رواحة! بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي حرم الله تقول الشعر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خلّ عنك يا عمر، فلهي أسرع فيهم من نضح النبل.
ومن فضل الشعر، روي عن عائشة-رضي الله عنها-أنها قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم [يقول] فجاءهم حسان-يعني قريشا-فشفى واشتفى (2)؛ حين قال (3) حسان (4): [6/أ]
_________
(*) في السيرة النبوية (4:567) أن حسان بن ثابت رضي الله عنه لما فرغ من قوله قال الأقرع بن حابس: «وأبي إن هذا الرجل لمؤتى له، لخطيبه أخطب من خطيبنا ولشاعره أشعر من شاعرنا ولأصواتهم أحلى من أصواتنا. فلما فرغ القوم أسلموا وجوزهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحسن جوائزهم».
(1) انظر العمدة لابن رشيق 1:12.
(2) في الديوان (1 - 10) أن حسان رضي الله عنه قال هذه القصيدة قبل فتح مكة، والأبيات المختارة هنا في الرد على أبي سفيان بن الحارث، وكان هجا النبي صلى الله عليه وسلم، قبل إسلامه.
(3) روى أبو الفرج الأصفهاني في ترجمة حسان (دار الثقافة 4:147) بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أمرت عبد الله بن رواحة فقال وأحسن، وأمرت كعب ابن مالك فقال وأحسن، وأمرت حسان بن ثابت فشفى واشتفى».
(4) الأبيات مختارة، وفي رواية الديوان خلافات عما ذكر المؤلف هنا. وفي ترتيب المؤلف هنا للأبيات تقديم وتأخير.
(1/35)
________________________________________
هجوت محمدا فأجبت عنه … وعند الله في ذاك الجزاء
هجوت محمدا برّا حنيفا … رسول الله شيمته الوفاء
فإن أبي ووالده وعرضي … لعرض محمد منكم وقاه
ثكلت بنيتي إن لم تروها … تثير النقع غايتها كداء (1)
(تبارين) الأعنة مصعدات … على أكتافها الأسل الظماء
تظل جيادنا متمطرات … يلطمهن بالخمر النساء
فإن أعرضتم عنا اعتمرنا … وكان الفتح وانكشف الغطاء
وإلا فاصبروا لجلاد يوم … يعزّ الله فيها من يشاء
وقال الله قد يسرت جندا … هم الأنصار عرضتها اللقاء
لنا في كل يوم من معد … قتال أو سباب أو هجاء
فمن يهجو رسول الله منكم … ويمدحه وينصره سواء
وجبريل رسول الله فينا … وروح القدس ليس كفاء
ومن فضل الشعر، كتب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب نضر الله وجهه إلى أبي موسى الأشعري: مر من قبلك بتعلم الشعر، فإنه يدل على معالي الأخلاق، وصواب الرأي ومعرفة الأنساب (2).
وقال أيضا-رضوان الله عليه-الشعر جزل من كلام العرب يسكن به الغيظ، وتطفا به الثائرة، ويتبلغ به القوم في ناديهم، ويعطى به السائل (3).
_________
(1) كذا فيه، وفي الديوان: عدمنا خيلنا إن لم تروها.
(2) الخبر في العمدة 1:10. والعقد 5:281.
(3) في العمدة 1:10: «وروى ابن عائشة يرفعه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الشعر كلام من كلام العرب، جزل تتكلم به في نواديها، وتسل الضغائن من بينها وأنشد ابن عائشة قول أعشى بني قيس. . .»
(1/36)
________________________________________
وقال أيضا-رضي الله عنه-[خير] ما تعلمته العرب الأبيات يقدمها الرجل أمام حاجته فيستنزل بها اللئيم، ويستعطف بها الكريم وقال الأعشى (1):
قلدتك الشعر يا سلامة ذا … فايش والشيء حيثما جعلا
والشعر يستنزل الكريم كما استن‍ … زل رعد السحابة السّبلا (2)
يا خير من يركب المطي ولا … يشرب كأسا بكف من بخلا
ومن فضل الشعر قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب-رضي الله-[6/ب] الشعر ميزان القول. وروي، القوم؛ وكلاهما حسن (3).
ومن فضل الشعر قال أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان-رضي الله عنهما-يجب على الرجل تأديب ولده؛ والشعر أعلى مراتب الأدب (4).
ومن فضل الشعر كان عبد الله بن عباس-رضي الله عنه-يقول: إذا قرأتم شيئا من كتاب الله، فلم تعرفوه، فاطلبوه في أشعار العرب. وكان رضي الله عنه إذا سئل عن شيء من القرآن أنشد فيه شعرا (5).
ومن فضل الشعر، قيل لسعيد بن المسيّب-رضي الله عنه-إن قوما من العراق لا يرون إنشاد الشعر، فقال لقد نسكوا نسكا أعجميا (6).
ومن فضل الشعر، قيل لابن سيرين إن قوما يرون إنشاد الشعر ينقض الوضوء فأنشد (7):
_________
(1) ديوان الأعشى:233 (وفيه جاء البيت الثالث قبل الآخرين) يمدح سلامة ذا فائش.
(2) السبل: المطر.
(3) الخبر في العمدة 1:1.
(4) المصدر نفسه.
(5) المصدر نفسه 1:11.
(6) العمدة 1:11.
(7) البيت في ديوان جرير:88 وانظر حواشي المحقق.
(1/37)
________________________________________
لقد أصبحت عرس الفرزد ناشزا … ولو رضيت رمح استه لاستقرت!
وقام يصلي (1).
ومن فضل الشعر: ذكر أن رجلا من الشعراء قال للحسن البصري: وهو في المسجد [يا] أبا سعيد: هل ينقض الهجو الوضوء؛ فأنشده الحسن:
شهد الفرزدق والقبائل كلها … أن الفرزدق ناك أم جرير!
ثم قام فصلى ركعتين؛ جعلها جوابه.
ومن فضل الشعر قيل لابن السائب المخزومي-رضي الله عنه-أترى أحدا لا يشتهي النسيب؟ فقال: أما ممن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا!.
ومن فضل الشعر كان عروة بن أذينة (2) -رضي الله عنه-على نبذه زهرة الدنيا، وترك نعيمها وورعه وزهده، رقيق القول؛ وهو القائل (3):
إذا وجدت أوار الحب في كبدي … أقبلت نحو سقاء القوم أبترد
هبني بردت ببرد الماء ظاهره … فمن لحرّ على الأحشاء يتّقد؟ (4)
ومن فضل الشعر عن ابن عباس-رضي الله عنه-في حديث قس بن ساعدة الإيادي (5) -وإنما أوردنا الحديث بكماله لما تضمنه من البلاغة والحجة في إنشاد [النبي صلّى الله عليه وسلم الشعر] (6) [7/أ] وسماعه-قال: قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلم وفد فقال أي وفد أنتم؟ قالوا وفد عبد القيس. قال: أيكم يعرف قس بن ساعدة؟
_________
(1) المصدر نفسه 1:11.
(2) عروة بن أذينة «من فقهاء المدينة وعبّادها، وكان من أرق الناس تشبيبا».
(3) البيتان في العقد 5:289.
(4) في العقد: فمن لنار.
(5) أورد ابن عبد ربه في العقد صدرا من هذه الخطبة، والشعر الذي فيها 4:128.
(6) كلمة (النبي) مطموسة في م. وفي ط القس؛ والظاهر من سياق النص ما أثبت.
(1/38)
________________________________________
قالوا: كلنا نعرفه يا رسول الله فماذا فعل؟ قال: لست أنساه بسوق عكاظ على جمل أحمر وهو يقول: يا أيها الناس اجتمعوا، فإذا اجتمعتم فاسمعوا وعوا، وإذا وعيتم فقولوا، فإذا قلتم فاصدقوا. إنه من عاش مات. ومن مات فات.
وكل ما هو آت آت. إن في السماء لخبرا. وإن في الأرض لعبرا، بحار (1) لا تغور، ونجوم لا تمور. وسقف مرفوع. ونهار موضوع. ومطر ونبات.
وذاهب وآت. وأحياء وأموات. وعظام ورفات. وليل ونهار. وضياء وظلام. ومسيء ومحسن. وغني وفقير. يا أرباب الغفلة! ليصلح كل واحد منكم عمله. تعالوا نعبد إلها واحدا ليس بمولود ولا بوالد. أعاد وأباد، وغدا إليه المعاد. أقسم قس بالله، وما أثم، لئن كان في الأرض رضى ليكونن سخطا.
إن لله دينا هو أرضى من دينكم الذي أنتم عليه.
يا أهل إياد! مالي أرى الناس يذهبون فلا يرجعون؟ أرضوا بالمقام فأقاموا، أم تركوا فناموا؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وسمعته يتمثل بأبيات الشعر ولساني لا ينطلق بها فقام إليه رجل منهم فقال: يا رسول الله أنا سمعتها منه، فهل عليّ فيه من إثم إن أنا قلته؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: قل؛ فإن الشعر كلام، حسنه حسن، وقبيحه قبيح، فقال: سمعته يقول:
في الذاهبين الأولين … من القرون لنا بصائر
لما رأيت مواردا … للقوم ليس لها مصادر
ورأيت قومي نحوها … يمضي الأكابر والأصاغر
لا يرجع الماضي ولا … يبقى من الباقين غابر
[7/ب] أيقنت أنّي لا مح‍ … ‍الة حيث صار القوم صائر
_________
(1) في النسختين: بحارا.
(1/39)
________________________________________
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من يزيدنا في إيمان قس بن ساعدة؟ فوثب إليه رجل من القوم فقال: يا رسول الله، بينا نحن في ملاعبنا إذا أشرف علينا من شرفة الجبل متجلل بشملة مرتد بأخرى وبيده هراوة، وهو واقف على عين ماء وهو يقول: آلا وإله السماء «لا يشرب القوي قبل الضعيف. وليشرب الضعيف قبل القوي».
فو الذي بعثك بالحق نبيا يا رسول الله لقد رأيت القوي من الوحش يتأخر حتى يشرب الضعيف. فلما تنحى ما حوله هبطت إليه من ثنية الجبل فرأيته واقفا بين قبرين يصلي. فقلت: انعم صباحا ما هذه الصلاة التي لا تعرفها العرب؟ قال: صليتها لإله السماء. قلت: وهل للسماء من إله (1) سوى اللات والعزى؟ فانتفض وانتقع لونه ثم قال: إليك عني يا أخا إياد. إن للسماء إلها عظيم الشان هو الذي خلقها فسواها. وبالكواكب والقمر المنير والشمس أشرقها. أظلم ليلها وأضاء نهارها، يسلك بعضها في بعض. ليس له كفوية ولا إنسية ولا كيموسية. فقلت ما أصبت موضعا تعبد إله (2) السماء إلا في هذا المكان؟ فقال:
إني لم أصب في زمني غير صاحبي هذين القبرين، وإني لمنتظر ما أصابهما وسيعمكم حق من هذا الوجه، وأشار نحو مكة. فقلت له: وما هذا الحق؟ قال: رجل أبلج أحور من ولد لؤي بن غالب، يعني محمدا صلى الله عليه وسلم، يدعوكم إلى كلمة الإخلاص وعيش الأبد ونعيم لا ينفد، فإن دعاكم فأجيبوه، وإن استصرخكم فانصروه، وقد وصف لي علامات شتى وخلائق حسانا. قال إنه لا يأخذ على دعواه أجرا. قلت فما لك لا تسير إليه؟ قال إني لا أعيش إلى مبعثه. ولو علمت أني ممن يعيش إلى مبعثه لكنت أول من يسعى إليه.
_________
(1) في م: الله. والصواب من ط.
(2) فيهما: الله. والصواب ما أثبت. راجع الحاشية السابقة.
(1/40)
________________________________________
فأضرب بصفقة كفي صفقة [8/أ] كفه، فأقيم بين يديه حكم الله تبارك وتعالى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حسبك حسبك، فإن قس بن ساعدة كان أمّة يبعثه الله يوم القيامة وحده.
ومن فضل الشعر (1): لما انتهى شعر أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب إلى النبي صلى الله عليه وسلم شق ذلك عليه، فدعا عبد الله بن رواحة فاستنشده فأنشده، فقال: أنت شاعر كريم. ثم دعا كعب بن مالك فاستنشده فأنشده فقال:
أنت تحسن صفة الحرب. ثم دعا بحسان بن ثابت فقال: أجب عني، فأخرج لسانه فضرب به أرنبته ثم قال: والذي بعثك بالحق ما أحب أن لي مقولا من معدّ (2)، ولو أن لسانا فرى الشعر لفراه (3). ثم سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمس من أبي سفيان. فقال: وكيف وبيني وبينه الرحم التي قد علمت؟ فقال:
أسلك منه كما تسل الشعرة من العجين. فقال: اذهب إلى أبي بكر الصديق، كرم الله وجهه، [فذهب إليه] فذكر له معايبه، فقال حسان (4):
وإن سنام المجد من آل هاشم … بنو بنت مخزوم ووالدك العبد
ومن ولدت أبناء زهرة منهم … كرام، ولم يقرب عجائزك المجد
ولست كعباس ولا كابن أمّه … ولكن لئيم لا تقوم له زند (5)
وإنّ امرءا كانت سميّة أمه … وسمراء مغموز إذا بلغ الجهد
وأنت زنيم نيط في آل هاشم … كما نيط خلف الراكب القدح الفرد
_________
(1) انظر الخبر في الأغاني ط دار الثقافة.4:141 وديوان حسان-البرقوقي، المقدمة.
(2) كذا في الأصلين. وفي الأغاني-بروايات الخبر المتعددة- (والله ما يسرني به مقول بين بصرى وصنعاء).
(3) في الأغاني. لو شئت لفريت به المزاد. والمزاد ج مزادة وهي التي يحمل فيها الماء.
(4) الأبيات في ديوانه:109، والأغاني 4:146.
(5) في الديوان: ولكن هجين ليس يورى له زند.
(1/41)
________________________________________
قال إسماعيل مؤلف هذا الكتاب، فلما بلغ هذا الشعر أبا سفيان، قال:
هذا كلام لم يغب عنه ابن أبي قحافة (1)، يعني أبا بكر الصديق نضر الله وجهه.
-يعني ببني بنت مخزوم: عبد الله وأبا طالب والزبير بني عبد المطلب ابن هاشم، أمهم فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم وأخواتهم (2) وأميمة [8/ب] والبيضاء جدة أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضوان الله عليه، أم أمه أروى بنت كريز. وقوله: ومن ولدت أبناء زهرة منهم كرام، يعني حمزة وصفية أم الزبير بن العوام رضي الله عنه، أمهما هالة بنت وهيب بن عبد مناف بن زهرة (3).
وقوله: ولست كعباس، ولا كابن أمه، أم العباس نتيلة (4) من النمر ابن قاسط وأخوه ضرار بن عبد المطلب.
وقوله «وإن امرءا كانت سمية أمه وسمراء؛ سمية أم أبي سفيان، وسمراء أم أبيه، وليس هذا موضع إطناب في رفع الأنساب، تحاميا على الطول.
والعاقل لا ينكر أن الشعر جائز إنشاده واستنشاده. وقد قدمنا من الأدلة الناصعة والبراهين الواضحة على ذلك ما لا يسع ردّه.
ومن الدليل أيضا على ذلك أن الخلفاء الراشدين الأربعة، وهم أبو بكر الصديق، وعمر الفاروق، وعثمان ذو النورين، وعلي أبو السبطين عليهم السلام قالوا الشعر، وقاله أيضا جملة من الصحابة والتابعين وغيرهم من أهل العلم الصلاح.
_________
(1) الأغاني 4:143.
(2) اسم غير ظاهر، وانظر أسماء أبناء عمرو بن عائذ في جمهرة أنساب العرب لابن حزم:141 وانظر ما في الأغاني 4:146 والحواشي. وما في الديوان.
(3) النسختين: أهيب، والتصويب من جمهرة أنساب العرب.
(4) في النسختين: نثيلة. والصواب من جمهرة أنساب العرب، والأغاني.
(1/42)
________________________________________
قال أبو بكر-رضي الله عنه (1) -.
أمن طيف سلمى بالبطاح الدّمائث … أرقت أو امر في العشيرة حادث
وهي طائلة، وفيها يقول:
ونحن أناس من ذؤابة غالب … لنا العز منها في الفروع الأثائث
وفيها يقول:
فإن تشعثوا عرضي على سوء رأيكم … فإنّي من أعراضكم غير شاعث
وقال: أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه (1)
هوّن عليك فإن الأمور … بكف الإله مقاديرها
فليس بآتيك منهيّها … ولا قاصر عنك مأمورها
وقال أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه (2):
تفنى اللذاذة ممن نال صفوتها … من الحرام ويبقى الإثم والعار
تبقى عواقب سوء من مغبّتها … لا خير في لذة من بعدها النار
وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه [9/أ]:
إذا عقد القضاء عليك أمرا … فليس يحلّه إلا القضاء (3)
فما لك قد أقمت بدار ذل … وأرض الله واسعة فضاء
تبلّغ باليسير فكلّ شيء … من الدنيا يكون له انقضاء
_________
(1) من أبيات رواها في العمدة 1:13. وقال إن أبا بكر الصديق رضي الله عنه أنشدها في غزوة عبيدة بن الحارث.
(2) في العمدة 1:13. قال: ويروى الشعر للأعور الشني. ونسبهما في العقد (3:207) لابن أبي خازم، وفيه: ولا تحرصن فإن الأمور. . .
(3) في النسختين: إلى في موضع إلا.
(1/43)
________________________________________
وقال: أمير المؤمنين الحسن بن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهما السلام (1)
ومارست هذا الأمر خمسين حجة … وخمسا أرجّي قابلا بعد قابل (2)
فلا أنا في الدنيا بلغت جسيمها … ولا في الذي أهوى علقت بطائل
وقد أشرعت فيّ المنايا سهامها … وأيقنت أني رهن موت معاجل
وقال أمير المؤمنين الحسين بن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنهما في بنته سكينه، وأمها امرأته الرباب بنت امرئ القيس الكلبية (3):
لعمرك إنني لأحبّ بيتا … تحل به سكينة والرباب
أحبهما وأبذل جل مالي … وليس لعاتب عندي عتاب
ولست لهم-وإن عتبوا-مطيعا … حياتي، أو يغيّبني التراب
وقال حمزة بن عبد المطلب-رضي الله عنه- (4):
عشية ساروا حاشدين وكلنا … مراجله من غيظ أصحابه تغلي
فلما تراءينا أناخوا فعقّلوا … مطايا وعقلنا مدى غرض النبل
وقلنا لهم حبل الإله نصيرنا … وما لكم إلا الضلالة من حبل!
فثار أبو جهل هنالك باغيا … فخاب ورد الله كيد أبي جهل
وما نحن إلا في ثلاثين راكبا … وهم مئتان بعد واحدة فضل
وقال أخوه العباس بن عبد المطلب، رضي الله تعالى عنه (5)
ألا هل أتى عرسي مكرّي وموقفي … بوادي حنين والأسنة تشرع
_________
(1) الأبيات في العقد 4:2.
(2) في العقد: قائلا بعد قائل. وفي الأبيات الأخرى روايات مختلفة.
(3) البيتان الأولان في العمدة (1:15) وفيه: وليس للائمي.
(4) في العمدة (1:15) أن حمزة رضي الله عنه قال هذا الشعر يذكر لقاءه أبا جهل وأصحابه.
(5) قالها كما في العمدة (1:15) يوم حنين يفتخر بثباته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1/44)
________________________________________
[9/ب] وقولي إذا ما النفس جاشت لها قري … وهام تدهدى والسواعد تقطع
وكيف رددت الخيل وهي مغيرة … بزوراء تعطي باليدين وتمنع
نصرنا رسول الله في الحرب تسعة … وقد فر من قد فرّ عنه وأقشعوا (1)
وقال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما (2):
إذا طارقات الهم ضاجعت الفتى … وأعمل فكر الليل والليل عاكر
وباكرني في حاجة لم يجد لها … سواي، ولا من نكبة الدهر ناصر
فرجت بمالي همّه من مقامة … وزايله همّ طروق مسامر
وكان له فضل عليّ بظنه … بي الخير، إني للذي ظنّ شاكر!
قال إسماعيل مؤلف هذا الكتاب، وحسب من ذم (3)، أن من قدمنا من الصحابة قد قالوه وكانوا (4) يتمثلون به، ولا يرون أنه مذموم. فإن احتج عاطل من حلية الآداب وقال: إن النبي-صلى الله عليه وسلم-لم يقل الشعر، وأن الله تعالى قال فيه وَماعَلَّمْناهُ اَلشِّعْرَ وَمايَنْبَغِي لَهُ (5) قلت: لو كان النبي صلى الله عليه وسلم شاعرا لكان متهما بالقرآن ولقيل إنه من عنده، وإنه اختلقه؛ فيكون ذلك نقصا في حقه، ومدخلا للطعن في نبوّته. فمنعه الله عز وجل من قوله، ونزّهه عن ذلك. وهذه معجزة في حقه عليه السلام.
وقد قيل للإمام القاضي عبد الوهاب إن النبي عليه السلام لم يقل الشعر فقال له: ذلك في حقه معجزة، وفي حقك معجزة (6).
_________
(1) في العمدة: سبعة.
(2) في العمدة (1:16).
(3) أي الشعر وإنشاده.
(4) في النسختين: وكان.
(5) يس 36:39 (وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين).
(6) انظر البيان النبوي (د. عدنان زر زور) الطبعة الأولى 28 - 34.
(1/45)
________________________________________
وإن احتج بقوله تعالى وَاَلشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ اَلْغاوُونَ (1) الآية. قلت:
قد قال الضحاك (2) إنها نزلت في رجلين أحدهما أنصاري، مع كل واحد منهما غواة قومه-وهم السفهاء-وقال به ابن عباس: وعنه أنهم الرواة (3). وعنه أنهم كفار الجن والإنس. قال أبو عبد الله هم الذين يشعرون (4) [ولا يتبعون سنن الحق]، [10/أ] وأراد بهؤلاء شعراء الكفار عبد الله بن الزبعرى، وهبيرة ابن أبي وهب ومسافع (5) بن عبد مناف وأبا عزة الجمحي وأمية بن أبي الصلت كانوا يهجون النبي عليه السلام، ويتبعهم الكفار.
وقال غضيف من أصحاب النبي عليه السلام، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من أحدث هجاء في الإسلام فاقطعوا لسانه».
وقال ابن عباس: (6) لما فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة رنّ إبليس رنة فاجتمعت إليه ذريته فقال: ايأسوا أن ترتد أمة (7) محمد على الشرك بعد يومكم هذا، ولكن أفشوا فيها-يعني مكة (8) الشعر والنّوح.
_________
(1) الشعراء 26 - 224 (والشعراء يتبعهم الغاوون. ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون. إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون).
(2) الخبر في تفسير القرطبي 13:152
(3) في المصدر السابق: رواة الشعر.
(4) فيهما مسافر، والمثبت من القرطبي.
(5) الخبر في تفسير القرطبي 13:152.
(6) في القرطبي أن تريدوا أمة محمد.
(7) في القرطبي: فيهما يعني مكة والمدينة.
(8) في ط: يشعرون «قلوب؟» وسقط بمقدار 3 كلمات، وفي م يشعرون وسقط بمقدار 4 كلمات. والعبارة مثبتة من تفسير القرطبي بحسب السياق.
(1/46)
________________________________________
يخرج من هذا كله أن (الغاوون) هم السفهاء، أو هم الكفار من الجن والإنس أو هم الرواة. فإذا كان هذا كذلك، فأي ذم يلحق شعراء الإسلام إذا لم يهجوا؟ لا سيما والنبي عليه السلام قال لشاعره كعب بن مالك لما سأله رأيه في الشعر حين أنزل الله فيه هذه الآية: إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه، والذي نفسي بيده لكأن ما ترمونهم به نضح النبل (1)، فإذا كان شاعر الإسلام لا يهجو إلا الكفار فهذا هو المطلوب.
وفي هذا الحديث تقرير الشعراء على قول الشعر على الوجه الجائز إذا حملنا خطاب النبي عليه السلام عموما على ما يرد في بعض الأحكام الشرعية، أن يكون الخطاب لشخص والحكم متوجه على الجملة (2).
وأما إن كان الذم المفهوم من قوله تعالى وَاَلشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ اَلْغاوُونَ ليس على عمومه بل كما قيده أبو عبد الله بالشعراء الكفار، فلا مدخل للإسلاميين فيه؛ وبالله التوفيق.
وإن احتج أيضا بقول النبي صلى الله عليه وسلم «لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا حتى يريه خير له من أن يمتلىء شعرا» (3). قلت: الجواب ما قاله الإمام أبو عبد الله المازري والقاضي عياض في ذلك الحديث، ونقلته من الإكمال
_________
(1) ورد الخبر في تفسير القرطبي 13:153.
(2) في الأصلين: أن. قلت، ولعله أيضا: أن يكون الخطاب. . . متوجها.
(3) أخرجه البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود وابن ماجة، وفي فتح الباري: قال ابن بطال ذكر بعضهم أن معنى قوله «خير له من أن يمتلئ شعرا» يعني الشعر الذي هجي به النبي صلى الله عليه وسلم. وقال أبو عبيد والذي عندي في هذا الحديث غير هذا القول، لأن الذي هجي به النبي صلى الله عليه وسلم لو كان شطر بيت لكان كفرا. فكأنه إذا حمل وجه الحديث على امتلاء القلب منه أنه قد رخص في القليل منه، ولكن وجهه عندي: أن يمتلئ قلبه من الشعر حتى يغلب عليه فيشغله عن القرآن وعن ذكر الله فيكون الغالب عليه. فأما إذا كان القرآن والعلم غالبين عليه فليس جوفه ممتلئا من الشعر.10/ 451 - 453. وانظر تفسير القرطبي 12:150
(1/47)
________________________________________
[10/ب] للقاضي أبي الفضل، وهذا نصه «قال الإمام، قال أبو عبيد قال الأصمعي»:
هو من الوري، على مثال «الرّمي»، وهو أن يورى جوفه، يقال منه: رجل موري، مشدد غير مهموز: هو أن يأكل القيح جوفه. قال صاحب الأفعال: وري الإنسان والبعير ورى، دوى جوفه، ووراه الداء وريا: فسد جوفه. ووري الكلب: سعر أشد السعار.
قال أبو عبيد: وقوله صلى الله عليه وسلم «خير له من أن يمتلئ شعرا».
قال بعضهم: يعني من الشعر الذي هجي به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو كان شطر بيت لكان كفرا. فكأنه إذا حمل وجه الحديث على امتلاء القلب منه، فقد رخص في القليل منه. ولكن وجهه عندي أن يمتلئ قلبه حتى يغلب عليه فيشغله عن القرآن وعن ذكر الله عز وجل فيكون الغالب عليه من أيّ الشعر كان. فإذا كان القرآن والعلم الغالبين عليه فليس جوف هذا عندنا بممتلئ من الشعر.
وقال القاضي عياض في الإكمال: ذكر مسلم استنشاد النبي صلى الله عليه وسلم الشريد بن سويد شعر أمية بن أبي الصلت (1)، وقوله هيه إلى أن أنشده مئة بيت؛ وقوله إن كاد ليسلم، فيه جواز سماع أشعار الجاهلية، وأخبارها، والتحدث بها، وإنشادها. و (هيه) مكسورة الهاء، ساكنة الياء والهاء الآخرة كلمة للاستزادة أي: زد. وأصلها إيه، فهي استزادة لما تعرف.
وفيه أن الشعر بنفسه ليس بمنكر، وإنما المنكر منه المذموم: الإكثار منه، أو ما يتضمنه من الهجاء للمسلمين وقذف المحصنات، والتشبيب بالحرم، وذكر أوصاف الخمر وأنواع الباطل [مما يهيج] المرتكبين لذلك، ويجرئهم على المعاصي. وقد جاء من ذلك أشياء في شعر حسان وكعب وغيرهما مما
_________
(1) في خزانة الأدب للبغدادي 1:227. وتفسير القرطبي 13:145. وانظر مقدمة ديوان أمية بن أبي الصلت (بتحقيق الدكتور ع. السطلي).
(1/48)
________________________________________
مدح به النبي صلى الله عليه وسلم [11/أ] في وصف الخمر والتشبيب (1) بغير معيّن (2)، جريا على عادة العرب فيستحب منه القليل ولم ير أصحابنا بمثل هذا رد شهادة الشاهد، ولا جعلوه جرحا فيه.
وقال أيضا: القاضي عياض فيه-في الإكمال-وإنه كالكلام فحسنه حسن، وقبيحه قبيح (3)؛ كما روي عن الشافعي. وقد روينا هذا الكلام مرفوعا للنبي عليه السلام، وقد أنشد النبي عليه السلام الشّعر وتمثل به واستنشده؛ وقاله أصحابه، وحضّهم على قوله في هجاء المشركين.
وقد روي عن الخلفاء، وأئمة الصحابة، وفضلاء السلف في استشهادهم به وإنشاده (4)، وقولهم الجيد منه (5).
قال إسماعيل مؤلف هذا الكتاب: ولا مرية في جواز إنشاد الشعر والتمثل به، وإنما المذموم منه ما قدمنا للإمام المازري، وللقاضي عياض من هجاء المسلمين وقذف المحصنات وغير ذلك مما قالا، رحمهما الله تعالى.
وأما إن كان الشعر في مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو في هجاء المشركين، أو غزل بغير معيّن، فذلك جائز لا مطعن فيه. وحسبك ما قدمنا على فضله وجوازه من الأدلة، وقول القاضي عياض. وقد أنشد النبي عليه
_________
(1) في النسختين: والتشبيه.
(2) راجع رأي ابن حزم القرطبي الأندلسي في هذا الموضوع: تاريخ النقد الأدبي في الأندلس.
(3) في تفسير القرطبي خبر عن ابن سيرين فيه «وهل الشعر إلا كلام لا يخالف سائر الكلام إلا في القوافي فحسنه حسن وقبيحه قبيح». وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «حسن الشعر كحسن الكلام وقبيحه كقبيح الكلام» 13:150.
(4) في الأصلين: وإنشاد «بدون الهاء».
(5) زاد في النسختين ما رسمه «والرقيق والمثقف في ضروب أفانينه ما يعني «يغني؟» بمن خلف «؟»، وبالله التوفيق».
(1/49)
________________________________________
السلام الشعر؛ وتمثله به صحيح أخرجه أهل الصحة. ولكنه صلى الله عليه وسلم، مهما أنشد الشعر وتمثل به لا يذكره إلا غير موزون، لكونه لم يكن في طبعه، وقد قدمنا سبب ذلك. فكان عليه السلام يتمثل بقول طرفة:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزود
ينشده غير موزون، يقول، (ويأتيك من لم تزود بالأخبار) (1) فيقول [11/ب] أبو بكر الصديق: ليس هكذا يا رسول الله وإنما هو (ويأتيك بالأخبار من لم تزود) فيقول له عليه السلام، إني لست بشاعر ولا ينبغي لي قوله، عليه السلام.
«ولا ينبغي لي» أي ما هو بحسن في حقه، لأنة لو كان يقول الشعر لكان يورث الشبهة في الطعن فيما أتى به من القرآن، ولقيل إنه من عنده. وقد قال المشركون فيه: شاعر، ولم يكن بشاعر. قال الله تعالى: وَماعَلَّمْناهُ اَلشِّعْرَ وَمايَنْبَغِي لَهُ (2) فنزّهه عن ذلك. انظر قولهم، وهو ليس بشاعر، فما ظنك لو كان شاعرا؟.
وقال الحسن (3): كان النبي صلى الله عليه وسلم يتمثل بهذا البيت «كفى بالإسلام والشيب للمرء ناهيا»؛ فقال أبو بكر: يا نبي الله إنما قال الشاعر:
*كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا (4) *
فقال أبو بكر وعمر (5): أشهد أنك رسول الله؛ لقوله تعالى {وَماعَلَّمْناهُ
_________
(1) الخبر في تفسير القرطبي 15:51 - 52.
(2) سورة يس 36 - 69. (وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين)
(3) الخبر في تفسير القرطبي.
(4) عجز بيت لسحيم عبد بني الحسحاس (ديوانه 16) وتمامه:
عميرة ودع إن تجهزت غازيا ... كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا
(5) يعني تعقيبا على ذلك.
(1/50)
________________________________________
اَلشِّعْرَ وَمايَنْبَغِي لَهُ}. وقال الحكم: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتمثل بقول العباس بن مرداس (1):
أتجعل نهبي ونهب العبيد … بين الأقرع وعيينة
فقالوا يا رسول الله إنما قال: بين عيينة والأقرع، فأعادها فقال: بين الأقرع وعيينة. فقام إليه أبو بكر فقبل رأسه فقال: وَماعَلَّمْناهُ اَلشِّعْرَ وَمايَنْبَغِي لَهُ.
قال إسماعيل مؤلف هذا الكتاب:
وإذ قد فرغنا من ذكر جواز الشعر وفضله، والأدلة على ذلك، فلنشرع في بعض ما يتعلق به من علم البديع؛ من تجنيس وترصيع وغير ذلك مما يندرج تحته. فمن ملك زمام ذلك فهو المقدم لحمل راية الأدب، ومن كان خليا منه فباعه في الإجادة (2) لا محالة قصير، إذ لم يمتع من ذلك بقليل ولا كثير.
ولا بد للشاعر (2) من معرفة اللغة والعربية، فإن كان قاصرا عنهما كان شعره دون من يكون بهما عالما لا محالة.
[12/أ] والعربية أهم للشاعر من اللغة لأنه إن تكلم بشعر أو غيره لم يلحن، وإن خلا منها لحسن ضرورة.
واللحن من أقبح الأشياء. أتى عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، على قوم يرمون رشقا لهم، فأساؤوا الرمي (3). يا أمير المؤمنين نحن قوم متعلمين!
_________
(1) الخبر مفصل في تفسير القرطبي 15:52 - 53. والبيت على جهته:
أتجعل نهبي ونهب العبيد ... بين عيينة والأقرع
والعبيد اسم فرس عباس بن مرداس، والبيت من جملة أبيات في العقد 1:286. وانظر البيت ورواياته في «ديوان العباس بن مرداس» جمعه د. يحيى الجبوري.
(2) لم تتضح الكلمات في نسخة دار الكتب، وهما من نسخة الرباط.
(3) سقط نحو سطر تقديرا، ولم ينبه إلى ذلك في المخطوطتين. وفي ألف باء لأبي الحجاج البلوي، عرف بابن الشيخ 1:34 «مر عمر رضي الله عنه =
(1/51)
________________________________________
فقال عمر رضي الله عنه لإساءتكم في لحنكم شر من إساءتكم في رميكم أو رشقكم، رحم الله امرءا أصلح من لسانه. وقال أيضا: تعلموا العربية فإنها تثبت العقل.
ولا بد له من معرفة العروض، وعلم القوافي، إذ بالعروض يقيم صغا (1) الأوزان الموجودة للعرب. ومن كان جاهلا به، والوزن في طبعه، ربما وقع في غير أوزان العرب، وخرج للأوزان الطبيعية من الدوائر وغيرها مثل أوزان الموشح وغيره. ولولا مخافة التطويل لذكرنا دوائره وبحوره، وأعاريضه، وضروبه، وتفعيلاته في التقطيع.
ولنذكر ما عليه يبنى علم البيان (2) -ولا بد أيضا للشاعر من معرفته-وهو أربعة أشياء: الكناية والاستعارة، والتمثيل والإشارة.
فالكناية على نوعين (3): النوع الأول أن تريد إثبات معنى فتترك اللفظ الموضوع له، وتأتي بتاليه وجودا لتوميء به إليه، وتجعله شاهدا له ودليلا عليه. مثاله: فلان كثير رماد القدر، وطويل النّجاد. فهذه الكناية أبلغ من التصريح.
النوع الثاني: أن تأتي بالمراد منسوبا إلى أمر يشتمل على من هي له حقيقة. مثاله قول زياد الأعجم (4):
إن السماحة والمروءة والندى … في قبة ضربت على ابن الحشرج
_________
= بقوم يتناضلون ورمى بعضهم فأخطأ فقال له عمر: أخطأت، فقال يا أمير المؤمنين نحن متعلمين! فقال: والله لخطؤك في كلامك أشد علينا من خطئك في نضالك. احفظوا القرآن وتفقهوا في الدين وتعلموا اللحن». قال ابن الشيخ: واللحن في هذا الموضع: اللغة.
(1) الصغا: الميل.
(2) راجع: الدكتور شوقي ضيف في: (البلاغة وتطور وتاريخ) عن اضطراب مفهوم علم البيان في بعض الدراسات البلاغية.
(3) بحث الكناية في تحرير التحبير:143.
(4) في مدح عبد الله بن الحشرح (الأغاني 12:20)
(1/52)
________________________________________
والاستعارة (1)
وهي مأخوذة من العاريّة؛ لأن الشاعر يعير المعنى ألفاظا غير لفظه الموضوع له، كقول بشار بن برد (2):
كأن مثار النقع فوق رؤوسنا … وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه
وكقول بعضهم: (3)
وكالسيف إن لا ينته لان متنه … وحدّاه إن خاشنته خشنان

والتمثيل (4)
وهو إنما يكون مجازا إذا جاء على حد الاستعارة. وقد جاء به القرآن، مثاله من القرآن قوله تعالى {وَاِخْفِضْ لَهُما جَناحَ اَلذُّلِّ مِنَ اَلرَّحْمَةِ} (5) وقوله تعالى وَاِشْتَعَلَ اَلرَّأْسُ شَيْباً (6). وقد جاء به الحديث، وهو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم (7) «دب إليكم داء الأمم قبلكم: الحسد والبغضاء».
وقد جاء في كلام العرب، وهو قولهم للمتحير (8): «فلان يقدم رجلا
_________
(1) في تحرير التحبير:97.
(2) هو من شواهد التشبيه التمثيلي في التلخيص للقزويني:254، والإيضاح له. وهو في الديوان:318 وانظر رواياته.
(3) البيت في العقد 1:52 وفيه: هو السيف.
(4) جعله ابن رشيق في العمدة من ضروب الاستعارة (1:187). وانظر تحرير التحبير 214 وقال القزويني إنه يسمى التمثيل على سبيل الاستعارة، أو التمثيل مطلقا.
(5) سورة الإسراء 17:24.
(6) سورة مريم 19:4
(7) أخرج الإمام أحمد بن حنبل من حديث الزبير بن العوام قال قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: دب إليكم داء الأمم قبلكم الحسد والبغضاء. والبغضاء هي الحالقة، حالقة الدين لا حالقة الشعر؛ والذي نفس محمد بيده لا تؤمنون حتى تحابوا. أفلا أنبئكم بشيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم.
(8) هو من كلام الخليفة الأموي الوليد بن يزيد، كتب إلى مروان بن محمد وقد بلغه أنه يتلكأ في بيعته «أما بعد فإني أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى فإذا أتاك كتابي هذا فاعتمد على أيها شئت، والسلام!».
(1/53)
________________________________________
ويؤخر أخرى». وقد جاء في الشعر؛ قال عمرو بن كلثوم:
ألا أبلغ النعمان عنّي رسالة … فمجدك حولي (1) ولؤمك قارح
وقال العباس بن الأحنف: (2)
قد سحب الناس أذيال الحديث بنا … وفرّق الناس فينا قولهم فرقا
فكاذب قد رمى بالظنّ غيركم … وصادق ليس يدري أنه صدقا

والاشارة (3)
قال قدامة: هي اشتمال اللفظ القليل على المعاني الكثيرة باللمحة الدالة.
قال زهير بن أبي سلمى (4):
فإني لو لقيتك فاجتمعنا … لكان لكل منكرة كفاء
وقال امرؤ القيس (5):
على هيكل يعطيك قبل سؤاله … أفانين جري غير كزّ ولا واني

ذكر ألقاب في صناعة البديع (6)
وهي ستة وعشرون لقبا: التجنيس، والترصيع، والاشتقاق، والتطبيق، ولزوم ما لا يلزم، والتضمين المزدوج، والالتفات، والاعتراض،
_________
(1) الحوليّ: ما أتى عليه حول من ذي حافر وغيره. والقارح من ذي الحافر بمنزلة البازل من الإبل.
(2) ديوانه (طبعة الجوائب:113). وفي البيت الثاني: فجاهل قد رمى بالظن غيركم
(3) الإشارة من أنواع ائتلاف اللفظ والمعنى (نقد الشعر:55) وانظر تحرير التحبير 200 والعمدة 1:206.
(4) البيت لزهير في ديوانه:81 طبعة دار الكتب المصرية.
(5) ديوان امرئ القيس:311 (بشرح الأعلم الشنتمري-دار المعارف بمصر).
(6) اكتفى المؤلف بهذه الانواع من فن البديع، وسأحيل على بعض المصادر مثل العمدة وتحرير التحبير. ويلاحظ أن هذه الأنواع هي أعيانها التي ذكرها ابن الزملكاني في كتابه «التبيان» المطبوع في بغداد والذي رد عليه ابن عميرة المخزومي الأندلسي (انظر دراسة صديقنا الدكتور محمد بنشريفة عن أبي المطرف بن عميرة المخزومي-طبع المغرب)
(1/54)
________________________________________
واللف والنشر، والتفسير، والتعديد، والتخييل، والمتواتر، ورد العجز على الصدر، والمساواة، والعكس والتبديل، والاستدراك، والرجوع، والاستطراد، والاستهلال، والتلخيص، والترديد، والتتميم، والتفويف، والتجاهل، والهزل المراد به الجد، والتنبيه.

أما التجنيس (1)
فهو مناسبة بين لفظين فأكثر، في كل حروفهما، أو في أكثرهما، مع اختلاف المعنى؛ وسواء اتفقت الصيغ أو اختلفت. من ذلك قول ابن المعتز:
وإني للثغر المخوف لكالئ … وللثغر يجري ظلمه لرشوف
انظر ما أحسن هذا البيت، كيف جمع فيه بين الشجاعة والغزل.

وأما الترصيع (2)
فهو أن تكون الكلمات متقاربة في الأوزان، متفقة الأعجاز، مثاله قوله تعالى (3) إِنَّ إِلَيْناإِيابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْناحِسابَهُمْ. وقول الخنساء (4):
حامي الحقيقة محمود الطـ … ـريقة نفّاع وضرار
[وقولها]
جوّاب قاصية، جزّاز ناصية … عقّاد ألوية، للخيل جرّار
_________
(1) تحرير التحبير:102
(2) باب التصريع في تحرير التحبير:305
(3) الغاشية 88/ 25.
(4) استشهد المؤلف بالبيتين على أنهما في درج واحد. والبيت الثاني في الديوان «ط بيروت 889» ص 27، برواية:
حمال ألوية هباط أودية ... شهاد أندية للجيش جرار
وفي قصيدة أخرى «ص 43»:
جواب أودية حمال ألوية ... سمح اليدين جواد غير مقتار
(1/55)
________________________________________
وأما الاشتقاق (1)
فهو أن تأتي بألفاظ يجمعها أصل واحد، يكون معناه مشتركا، كما [تكون] (2) حروفه [13/ب] الأصول مشتركة، ويزيد على معنى الأصل بوجه مع تغاير اللفظين. مثاله: ضرب، ويضرب، واضرب، وضارب، ومضروب، وضروب، وضرّاب، ومضراب، ومضرب، فإن ذلك كله مشتق من الضرب.
ومنه قوله تعالى فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ اَلْقَيِّمِ (3). ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:
«ذو الوجهين لا يكون عند الله وجيها». ومنه قول الشاعر (4):
ألم تبتدركم يوم بدر سيوفنا … وليلك عما ناب قومك نائم؟!
فكأن الشاعر يقول: ينبغي أن يكون (بدر) سمي بهذا الاسم من ابتدار سيوفنا فيه إليكم، وإن كان الاسم سابقا.

وأما التطبيق (5)
فهو أن تأتي بالشيء وضده، كقوله تعالى (6) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً. وكقول دعبل الخزاعي (7):
لا تعجبي يا سلم من رجل … ضحك المشيب برأسه فبكى!
_________
(1) هو داخل عند ابن أبي الإصبع في باب التجنيس، وقال فيه قدامة إنه اشتراك المعاني في ألفاظ متجانسة على جهة الاشتقاق. (نقد الشعر 61. وتحرير التحبير 102 - 103)
(2) في مكان الكلمة طمس في النسختين.
(3) الروم:30/ 43
(4) هو النعمان بن بشير، والبيت في نقد الشعر «61».
(5) العمدة 2:6، وتحرير التحبير:111
(6) التوبة 9/ 83
(7) ديوان دعبل «بتحقيق: الدكتور عبد الكريم الأشتر».
(1/56)
________________________________________
وقول زهير بن أبي سلمى (1):
ليث بعثّر يصطاد الرجال إذا … ما كذّب الليث عن أقرانه صدقا
وقول عبد الله بن الزبير الأسدي (2):
فرد شعورهنّ السّود بيضا … وردّ وجوههنّ البيض سودا

وأما لزوم ما لا يلزم (3)
فهو ما في الاصطلاح أن الناظم أو الناثر يضيق على نفسه في التزامه مؤاخاة ألفاظ التسجيع. مثاله قوله تعالى فَأَمَّا اَلْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ، وَأَمَّا اَلسّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (4). وفي قول أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضوان الله عليه «لا يكن حبك كلفا ولا بغضك تلفا». ومنه قول ذي الوزارتين الأمير أبي بكر [14/أ] محمد بن عمار المهري في وصف هبوب نسيم السّحر على الرياض (5):
بحيث اتخذنا الروض جارا تزورنا … هداياه في أيدي الرياح النواسم
يبلغّنا أنفاسه فتردّها … بأعطر أنفاس وأذكى مناسم

وأما التضمين المزدوج (6)
فهو أن يقع في أثناء قرائن النثر أو النظم لفظان مسجعان مع مراعاة حدود الأسجاع الأصلية التي يسميها الأكثر الفقر. مثاله قوله تعالى {وَجِئْتُكَ
_________
(1) ديوانه «طبعة دار الكتب المصرية 54» وفيه: ما الليث كذب. «وكذب الليث» لم يصدق الحملة، وكذب الرجل عن كذا إذا رجع عنه.
(2) البيت من قطعة له في العمدة 2:7. وساقه ابن أبي الإصبع مثالا على العكس والتبديل:320.
(3) ويسمى الالتزام، كما في تحرير التحبير 715.
(4) الضحى 93/ 9 - 10
(5) ديوانه صفحة 211: وفيه تبلغنا.
(6) ورد عند ابن أبي الأصبع في تحرير التحبير:302 بعنوان. الترصيع.
(1/57)
________________________________________
مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ} (1). ومنه قوله بعض الشعراء البلغاء، وهو ابن نباته.
قال: (2) «أيها الناس:
احضروا .......... بصفاء الأذهان ........ لعظات الزمان.
فقد لخصها على قدمه ....... لمستمعيها.
وتدبروا .......... قوارع القرآن ............. ببصائر الإيمان.
تكتفوا بزواجر ................ نواهيها.
وادرؤوا .......... سوابق العصيان ......... بلواحق الإحسان.
تسلموا من دوائر ............ مهاويها.
وعلى هذا الأسلوب أنشأ الفقيه القاضي الكاتب أبو الحسن علي بن القائد أبي عبد الله محمد بن الصباغ العقيلي الأندلسي خطبة كتابه المترجم بجليس الأديب وأنيس الغريب، وهي:
الحمد لله معتمد الإنسان ....... بعميم الإحسان ............. عناية.
لا تحد، ....... ولطفا.
ومعلمه من البيان ............... وملهمه إلى التبيان ........... رعاية.
لا تصد، ....... ولا تجفى.
عجز عنه كلّ لسان ........... فلو اجتمع الإنس والجان ...... نهاية.
فالردّ ........... أن لم يبلغوا حرفا.
أحمده، حمد من أقر على نفسه، أنه أولاه نعمه، إنعاما وافى فوفى وأشكره شكر من أمر على طرسه، بذكر مولاه قلمه، فما قنع ولا استكفى وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أعدّها:
_________
(1) النمل 27/ 22.
(2) يعني من خطبة له.
(1/58)
________________________________________
شهادة تخلد في جنته لنا قرارا يؤنسنا بحلمه فنأمن خوفا
وإفادة تجدد من منّته لنا جوادا يلبسنا حليّه الرائقة شنفا.
وأشهد أن سيدنا ومولانا محمدا عبده ورسوله:
أفضل، مخصوص، بقوله، وخطابه، والخاتم، لمصطفيه، أقرّ بها ألفا.
وأجل منصوص على فضله من كتابه، بالمكارم، تصار إليه، ليست بهرجا ولا زيفا.
وأصلي عليه، وعلى آله وصحبه، وعترته، وحزبه. صلاة تامة أجدها وقاية يوم لا أملك لنفسي عدلا ولا صرفا.

وأما الالتفات (1)
فهو أن تعدل من الخطاب إلى الإخبار، ومن الإخبار إلى الخطاب، أو من الغيبة إلى التكلم مثاله قوله تعالى (2): مالِكِ يَوْمِ اَلدِّينِ. إِيّاكَ نَعْبُدُ وَإِيّاكَ نَسْتَعِينُ. وقوله تعالى (3): هُوَ اَلَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي اَلْبَرِّ وَاَلْبَحْرِ حَتّى إِذاكُنْتُمْ فِي اَلْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ. ومنه، قال إسحاق الموصلي قال لي الأصمعي:
أتعرف التفات جرير؟ قلت: لا. فأنشدني (4):
أتنسى إذا تودّعنا سليمى … بفرع بشامة، سقي البشام
ألا تراه مقبلا على شعره، ثم التفت إلى البشام؟
و [منه] قول جرير (5):
_________
(1) العمدة 2:44. وتحرير التحبير 123.
(2) فاتحة الكتاب 1: 4 - 5
(3) يونس:10/ 22
(4) ديوانه:512، وهو من الشواهد المشهورة.
(5) ديوانه 512: وهو مطلع قصيدة له.
(1/59)
________________________________________
متى كان الخيام بذي طلوح … سقيت الغيث أيتها الخيام!

والاعتراض (1)
هو أن يكون الشاعر آخذا في معنى، فيعدل عنه آخذا في غيره، قبل أن يتم الأول. ثم يعود إليه فيتممه، فيكون ما عدل إليه مبالغة في الأول وزيادة في حسنه:
قال النابغة: -وقيل للجعدي- (2)
ألا زعمت بنو عبس بأني … ألا كذبت كبير السنّ فان
و [منه] قول كثير (3):
لو انّ الباخلين-وأنت منهم- … رأوك تعلّموا منك المطالا
وقال الآخر:
فإني إن أفتك يفتك منّي … -فلا تسبق له-علق نفيس

وأما اللف والنشر (4)
فهو أن تذكر شيئين، ثم ترمي بتفسيرهما جملة، ئقة بأن السامع يردّ كل تفسير إلى اللائق به؛ كقوله تعالى (5): وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ اَلْجَنَّةَ إِلاّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى ولم تقل الطائفتان ذلك؛ وإنما قالت اليهود لن يدخل الجنة إلا اليهود، وقالت النصارى لن يدخل الجنة إلا النصارى.
_________
(1) أورده القزويني في علم المعاني: التلخيص 231.
(2) ديوان الجعدي:162 من قصيدة له وفيه: بنو كعب. . . كذبت.
(3) البيت في ديوان كثير 507 وانظر العمدة 2:36.
(4) التلخيص للقزويني:361.
(5) البقرة 2: 111 وتمامها: «تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين».
(1/60)
________________________________________
وأما التّفسير (1)
فهو أن تذكر شيئا ثم تقصد تخصيصه فتعديه مع ذلك المخصص؛ مثاله قوله تعالى (2): فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ ثم قال: فَأَمَّا اَلَّذِينَ شَقُوا فَفِي اَلنّارِ لَهُمْ فِيهازَفِيرٌ وَشَهِيقٌ وَأَمَّا اَلَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي اَلْجَنَّةِ الآية.
وقول طريح (3):
إن حاربوا وضعوا أو سالموا رفعوا … أو واعدوا ضمنوا، أو حدّثوا صدقوا

وأما التعديد
فهو إيقاع الألفاظ المفردة على سياق واحد. مثاله قوله تعالى (4): لا إِلهَ إِلاّ هُوَ اَلْحَيُّ اَلْقَيُّومُ.

وأمّا التّخييل
فهو تصوير حقيقة الشيء حتى يتوهم أنه ذو صورة تشاهد أنه مما يظهر في العيان. مثاله قوله تعالى (5): وَاَلْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ وَاَلسَّماواتُ مَطْوِيّاتٌ بِيَمِينِهِ.

وأما المتواتر (6)
فهو أن يتفق آخر الكلمتين اللتين بهما تكمل القرينتان وزنا ولفظا في الحرف الأخير. مثاله قوله تعالى (7): فِيهاسُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ.
_________
(1) انظر باب التفريق والتقسيم في التلخيص:366
(2) هود 11: 306.
(3) البيت من قصيدة مطولة في مدح الخليفة الأموي الوليد بن يزيد «الأغاني 6: 98» قال أبو الفرج ذكر يحيى أن الشعر لطريح، وذكر ابن السكيت أنه لابن هرمة.
(4) البقرة 2: 255
(5) الزمر 49: 67.
(6) انظر باب التسجيع في تحرير التحبير:300
(7) الغاشية 88: 13 - 14
(1/61)
________________________________________
وأما رد العجز على الصدر (1)
فهو أن يلاقي آخر الكلام أوله بوجه؛ مثاله قوله تعالى (2): وَتَخْشَى اَلنّاسَ وَاَللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ. [15/ب] وقول الشاعر:
سكران سكر هوى وسكر مدامة … أنّى يفيق فتى به سكران؟!

وأما المساواة (3)
فهو أن يكون اللفظ مساويا للمعنى من غير زيادة ولا نقصان؛ مثاله قول زهير (4):
ومهما تكن عند امرئ من خليفة … وإن خالها تخفى على الناس تعلم

وأما العكس والتبديل (5)
فهو كل ما كان من قبيل ما يحمل على غيره لقصد المدح أو الذم فتجعل ما ينبغي أن يوصف به موصوفا، وما ينبغي أن يكون موصوفا صفة؛ مع إجرائهما على الأصل في ذلك الكلام. مثاله:
وإذا الدّرّ زان حسن وجوه … كان للدّرّ حسن وجهك زينا!

وأما الاستدراك والرّجوع (6)
فهو أن يعود المتكلم على ما سبق من كلامه بالنقض والإبطال. مثاله:
أليس قليلا نظرة إن نظرتها … إليك وكلا ليس منك قليل
_________
(1) تحرير التحبير:116
(2) الأحزاب 33: 37.
(3) التلخيص:209 وأورده القزويني في علم المعاني.
(4) ديوان زهير:32
(5) تحرير التحبير:318
(6) تحرير التحبير 331
(1/62)
________________________________________
وأما الاستطراد (1)
فهو كل كلام خرجت منه، وأخذت في غيره مما يناسبه ويلابسه، مع أنه دخيل فيما عقد له التصدير. ومنه: قال البحتري أنشدني أبو تمام يهجو عثمان بن إدريس الشامي (2)
وسابح هطل التّعداء هتّان … على الجراء أمين غير خوّان
أظمى الفصوص ولم تظمأ قوائمه … فخلّ عينيك في ظمآن ريّان
فلو تراه مشيحا والحصى فلق … تحت السنابك من مثنى ووحدان
حلفت إن لم تثبّت أن حافره … من صخر تدمر أو من وجه عثمان!
ثم قال: ما هذا الشعر؟ قلت: لا أدري؛ فقال هذا هو الاستطراد.
فقلت: فما معنى ذلك؟ [16/أ] قال: يريك وصف الفرس، وهو يريد هجاء عثمان. فأخذها البحتري فقال: (3)
يهوي كما تهوي العقاب وقد رأت … صيدا وينصبّ انصاب الأجدل
ما إن يعاف قذّى ولو أوردته … يوما خلائق حمدويه الأحول!
وقال بشار بن برد (4)
خليليّ من كعب أعينا أخاكما … على دهره إن الكريم معين
ولا تبخلا بخل ابن قزعة إنّه … مخافة أن يرجى نداه حزين (5)
إذا جئته في حاجة سدّ بابه … فلا تلقه إلا وأنت كمين!
_________
(1) تحرير التحبير:130
(2) ديوان أبي تمام 4:125
(3) ديوان البحتري 3:1741. وهما من قصيدة في مدح محمد بن علي بن عيسى القمي الكاتب. وفي أخبار أبي تمام أنه كانت بين الممدوح وبين حمدويه عداوة. وبين البيتين السالفين، في الديوان ثالث.
(4) ذكرهما المبرد في الكامل، وهما في ملحق ديوانه 4:211.
(5) بعد هذا البيت بيتان آخران قبل الخامس. (الثالث هنا).
(1/63)
________________________________________
وأما الاستهلال (1)
فهو أن تبتدئ بما يدل على الغرض. مثاله قول الخنساء (2)
وما بلغت كفّ امرئ متناولا … من المجد إلا والذي نلت أطول
وما بلغ المهدون للنّاس مدحة … وإن أطنبوا إلا الذي فيك أفضل

وأما التّخليص (3)
فهو أن تخرج من التغزل إلى ذكر الممدوح مع امتزاج بين النوعين بحيث يتلاءمان تلاؤم أجزاء النوع الواحد. مثاله قول محمد بن وهيب: (4)
ما زال يلثمني مراشفه … ويعلّني الإبريق والقدح
حتى استردّ الليل خلعته … وبدا خلال سواده وضح
وبدا الصّباح كأن غرّته … وجه الخليفة حين يمتدح!

وأما الترديد (5)
فهو أن تعلق لفظة بمعنى ثم تردها بعينها، وتعلقها بمعنى آخر. وأكثر ما يستعمله المحدثون. ومنه قول أبي حية النميري (6)، وهو المقدم في ذلك، إذ أجمعوا أنه [16/ب] سبق إلى الإحسان جميع من تقدمه أو تأخر عنه (7):
_________
(1) في تحرير التحبير بعنوان: حسن الابتداءات:168.
(2) من أبيات ترثي أخاها (الديوان:5) وانظر روايات البيتين.
(3) في تحرير التحبير بعنوان: براعة التخلص.
(4) في النسختين: محمد بن وهب. والشاعر هو محمد بن وهيب؛ ترجم له في الأغاني 19:2 - 26 والأبيات من قصيدة له يمدح بها المأمون العباسي.
(5) تحرير التحبير:253.
(6) ترجمته في الأغاني 16:236.
(7) البيتان الأولان في الأغاني 16:235، وفي العقد 6:164 - 165 برواية أخرى.
(1/64)
________________________________________
ألا حيّ من أجل ****** المغانيا … لبسن البلى مما لبسن اللياليا
إذا ما تقاضى المرء يوم وليلة … تقاضاه شيء لا يملّ التّقاضيا
كلانا غنيّ عن أخيه حياته … ونحن إذا متنا أشدّ تغانيا
وقال الخليع الباهلي:
لقد ملئت عيني بحسن محاسن … ملأن فؤادي لوعة وهموما

وأما التّتميم (1)
فهو أن تأخذ في بيان معنى، فلا تترك شيئا يتم به ذلك التبيين ويتكامل الإحسان معه فيه إلا أتيت به. مثاله قول ابن الرومي (2):
آراؤكم ووجوهكم وسيوفكم … في الحادثات إذا دجون نجوم
منها معالم للهدى ومصابح … تجلو الدجى والأخريات رجوم
وقول طرفة (3):
فسقى بلادك غير مفسدها … صوب الربيع وديمة تهمي

وأما التفويف (4)
فهو أن تصف المذكور بما يدل على مدحه من صفات المكارم مثلا، ثم يدل على ذمه؛ لكن تقرن بذلك الذم ما يرشد بأنه مديح، مثاله قول جرير (5):
هم الأخيار منسكة وهديا … وفي الهيجا كأنّهم صقور
بهم حدب الكرام على الموالي … وفيهم عن مساءتهم فتور
خلائق بعضهم فيها كبعض … يؤمّ كبيرهم فيها الصّغير
عن النّكراء كلّهم غبيّ … وبالمعروف كلهم بصير
_________
(1) في تحرير التحبير بعنوان باب التمام:127
(2) لم يردا في ديوانه (ط الكيلاني)
(3) ديوان طرفة:93
(4) تحرير التحبير:260
(5) الأبيات من قصيدة في ديوانه 234 يمدح بني أمية. وانظر اختلاف الروايات.
(1/65)
________________________________________
وأما التّجاهل (1)
فهو أن تسأل عن شيء تعرفه، موهما أنك لا تعرفه، وأنه مما داخلك فيه الشك، وخالجك لقوة شبه حصل بين المذكورين. مثاله (2):
أيا ظبية الوعساء بين جلاجل … وبين النّقا آأنت أم أمّ سالم

وأما الهزل الذي يراد به الجدّ (3)
فهو أن تعلم لمن أتاك يفاخرك عيبا، فتعرض له إذا فاخرك بذلك العيب. مثاله: (4)
إذا ما تميمي أتاك مفاخرا … فقل عدّ عن ذا، كيف أكلك للضب؟!

وأما التّنبيه
فهو أن تطلق كلاما للانتقاد فيه متسع، ثم تنيطه بما [يدفع] ذلك ويدل على استقامته، مثاله:
هو الذيب، أو للذيب أوفى أمانة … وما منهما إلا أزل خؤون
وقال الآخر:
إذا ما ظمئت إلى ريقها … جعلت المدامة منه بديلا
_________
(1) تحرير التحبير:135 بعنوان تجاهل العارف.
(2) البيت في الخصائص 2:458 وانظر تخريجاته فيه.
(3) تحرير التحبير:137
(4) البيت لأبي نواس من قصيدة له في الهجاء «الديوان 510».
(1/66)
________________________________________
الباب الثاني
فيما بلغنا من شعر كتّاب بني مرين (*) ملوك المغرب
أمير المسلمين أبو الحسن علي بن أمير المسلمين عثمان بن أمير المسلمين
يعقوب بن عبد الحق (1).
_________
(*) بنو مرين من قبائل زنانة. كان موئلهم الأول بلاد القبلة من زاب إفريقية إلى سجلماسة، وكانوا في طاعة الموحدين فلما كانت هزيمة العقاب سنة 609، وضعف أمر الموحدين، بدأ نجم الموينيين بالظهور، وبرز فيهم أبو محمد عبد الحق بن محيو المريني الذي تنسب الدولة أحيانا إليه فيقال: الدولة المرينية العبد الحقية. واستمر نجم المرينيين بالظهور ونجم الموحدين بالأفول حتى استولى بنو مرين على أمصار المغرب الرئيسية كمراكش وسلا والرباط وفاس وغيرها، وانتهت محاولات فلول الموحدين نهائيا بمقتل أبي دبوس سنة 667 على يد يعقوب المريني. واستقر المريينون في المغرب «الأقصى» وامتدت حدودهم في مدد كثيرة حتى شملت المغرب كله، وكانت بين دول المغرب الثلاث المرينية، والزيانية، والحفصية علاقات متشابكة بين التصافي والتعاون من جهة، والحروب والفتن-وهو الاقل-من جهة أخرى. واستمرت الدولة المرينية إلى أواسط القرن التاسع الهجري حيث خلفهم بنو وطاس. (راجع في ذلك: روضة النسرين لابن الاحمر «الرباط-المطبعة الملكية» وتاريخ ابن خلدون «العبر»، والاستقصا للناصري).
(1) أبو الحسن المريني «697 - 752» يلقب بالمنصور، بويع له بفاس سنة 731 بعد وفاة أبيه. كانت حياته حافلة بالأحداث السياسية والعسكرية. وامتد سلطانه إلى تلمسان «عاصمة بني زيان» وتونس «عاصمة الحفصيين». وامتد ملكه من مصراته إلى السوس الاقصى، وأنجد =
(1/67)
________________________________________
حاله-رحمه الله- (هو) (1) محرز قصب سبق الكمال، المستولي على أمد الإجمال. له المناقب الجليلة، والآثار الجميلة من العدل في الرعية، وبذل الغيرة المرعية، واتباع الأحكام الشرعية. وحسبك من فضائله الجسيمة، ومحامده الجمة الوسيمة، أنه ما تناول من الخمر كاسا؛ ولا اتخذ منه خماسا. ولا حل مآزره على حرام، بل تبرأ من الفحش والآثام.
فمن قوله يفتخر-رحمه الله- (2):
أرضي الله في سرّي وجهري … وأحمي العرض من دنس ارتياب
وأعطي الوفر من مالي اختيارا … وأضرب بالسيوف طلى الرّقاب
_________
= الأندلس بجيوشه وأساطيله بعد اشتداد حملة الدول الإسبانية، وكانت عليه مع جموع الأندلسيين هزيمة منكرة سنة 741 قرب طريف. وجهز جيشه للعودة إلى الجهاد في الاندلس، فعلم بوفاة صاحب تونس أبي بكر الحفصي ونشوب الخلاف بين ابنيه، فقصد إلى تونس سنة 748، وزار مدنا أخرى. وحصلت بينه وبين قبائل العرب خلافات ومعارك، ثم تصالح الطرفان. وفي هذه المدة بويع لابنه أبي عنان بعد انتشار خبر يقول بموت والده، وخرج من المنصورة إلى فاس، وتخلص أبو الحسن من طريقه بعد أهوال طويلة إلى قرب فاس، ولكن مؤيديه يخسرون معركتهم أمام جيوش أبي عنان، فيخرج إلى جبل هنتاتة ويقيم في قبائله زمانا يسيرا، ويعتل ويتوفى سنة 752. وقد دفن بمراكش ونقل بعد ذلك إلى فاس. ويعد أبو الحسن المريني في أشهر ملوك المرينيين، وأبعدهم أثرا في الحضارة والعمران (انظر روضة النسرين لابن الاحمر:25، جذوة الاقتباس لابن القاضي 291، والاستقصا في أخبار المغرب الأقصى للناصري 3:118 وما بعدها، واللمحة البدرية للسان الدين بن الخطيب 92 - 93، ورقم الحلل في نظم الدول له:92 والعبر «تاريخ ابن خلدون» 7:278، ومشاهدات لسان الدين:123).
(1) كلمة هو لم ترد في: ط.
(2) البيتان في روضة النسرين:26.
(1/68)
________________________________________
ابنه أمير المؤمنين المتوكل على الله فارس رحمه الله (*)
[كنيته:]
يكنى أبا عنان. ورأيته، وكنت في حضرته بفاس تحت إيالته، وسيب إنعامه مدة حياته. وأعطى عني صداق ابنة عمي حين تزوجتها، محبة منه إلي-رحمه الله تعالى-.
وكان كمثل أبيه سمتا وهديا، و (؟) ضخامة الملك واتساع البلاد. ملك من السوس إلى إطرابلس وبلاد إفريقية مدة. وحين ارتحل إلى أرض إفريقية من فاس ليملكها في عام ثمانية وخمسين وسبع مئة سرت معه، فأتاحني من العطايا ما قرت به عيني، ولم أزل معه تحت بره، حتى فرق الدهر بيننا بموته، رحمه الله.

حاله-رحمه الله-:
هو الملك العالم بالمفروض والمندوب. الهمام الذي لم يزل لأذيال الشهامة سحوب. من أشرقت ببهائه، وظهر بظهور روائه، غياهب الظلم. ونجم بتدقيق ذكائه، وتحقيق آلائه، مأثور العلم والكرم. فلا جهة من جهات البر إلا عم علمه لديها، ولا ناحية من نواحي الفقر إلا غطى كرمه عليها. وكانت الملوك تبجله، ومقصده تعجله ولا تؤجله؛ لما كان أسدهم الهصور، وفارسهم المنصور.
_________
(*) أبو عنان المريني (729 - 759) فارس بن أبي الحسن علي-صاحب الترجمة السابقة-ولاه أبوه مدينة تلمسان، ثم بويع بالملك سنة 749 في حياة أبيه لما جاء الخبر بوفاته، واستتب له الامر سنة 752 بعد وفاة والده ومن أعماله إعادة إخضاعه لبني زيان ملوك تلمسان، وللحفصيين أصحاب قسنطينة وتونس. وقد توفي مخنوقا على يد وزيره الحسن ابن عمر الفودودي. اشتهر أبو عنان بحب العلوم والآداب، وإثابة أهل العلم، ومناظرتهم. وكانت له عناية بجمع الكتب وبناء المدارس. (راجع في حياته روضة النسرين:27، جذوة الاقتباس:314، والاستقصا 3:181 ورقم الحلل:112، واللمحة البدرية:93،104 - 106، والعبر لابن خلدون 7:151).
(1/69)
________________________________________
ومن قوله في الحكمة:
وإذا تعرّض للرّياسة خامل … جرت الأمور على الطّريق الأعوج!
[18/أ] وكنت يوما جالسا معه بمقعد ملكه من المدينة البيضاء من فاس [فدخل] (1) عليه رجل من المنخرطين في سلك المتصلحين، فلما نظر إلى المتصلح قال بديهة:
تراهم في ظواهرهم كراما … ويخفون المكيدة والخداعا!
وأخبرني الفقيه الإمام المفتي المدرس قاضي الجماعة بفاس، وقاضي الحضرة المرينية المدينة البيضاء أبو عبد الله محمد القرشي المعروف بالمقري (2)، بفتح الميم، كنت يوما عند أمير المؤمنين المتوكل على الله أبي عنان، فقال لي يا أبا عبد الله، كنت يوما بقصري، وكان في يدي تفاحة، فحضرت عليّ جارية من جواري، كنت أحبها حبا مبرحا فأرميتها (3) بالتفاحة، وقلت على البديهة:
خذها إليك هدّية … من كفّ ملك مالك
يبدي العطايا دائبا … ويبيد شمل الفاتك (4)
_________
(1) غير واضحة في الاصلين.
(2) أبو عبد الله محمد بن محمد المقري التلمساني، تولى قضاء فاس أيام السلطان أبي عنان- وهو الجد الأعلى للمقري صاحب نفح الطيب-له ترجمة في (المرقبة العليا 169، والتعريف بابن خلدون 59، والإحاطه 2:136 ونفح الطيب 1:556)
(3) كذا فيهما.
(4) قال في روضة النسرين: ومن شعره الحلو:
رمى تصوب حبي ... حبي تصوب رميي
نهى تقاصد خلي ... خلي تقاصد نهيي
(1/70)
________________________________________
أخوه لأبيه أمير المسلمين عبد العزيز-رحمه الله (*) -
[كنيته:]
يكنى أبا فارس. ورأيته. وكنت بحضرته وتحت إيالته، وكاد أن يكون كأبيه المنصور بالله وكأخيه-أبا عنان-المتوكل على الله في هديهما وضخامة ملكيهما، لو لم تخترمه المنية.

حاله-رحمه الله-
هو الملك المتحلي بالتقوى، المستمسك في ذلك بالحبل الأقوى. ظهر له في الدين ما بهر به العقول، وخرج عن الحد والمعقول. وسار بسيرة المنصور أبيه، ولم يقصر في ذلك عن مدى المتوكل أخيه. وجد في نجوم الحق وعدل؛ وعن سنن الطاعة ما عدل.
فمن قوله-رحمه الله-؛ زادها [على قول] أبيه؛ قال والده رحمه الله [18/ب]
أرضي الله في سرّي وجهري … وأحمي العرض من دنس ارتياب (1)
وأعطي الوفر من مالي اختيارا … وأضرب بالسّيوف طلى الرّقاب
_________
(*) أبو فارس عبد العزيز بن علي المريني 750 - 774. أحد ملوك بني مرين المعدودين. جدد سلطة الدولة وبسطتها، جاء به إلى الملك الوزير المتسلط على دولة المرينيين عمر بن عبد الله، ولكنه نقم عليه وتخلص منه، وساهم في استرداد الجزيرة الخضراء مع بني الأحمر وأعاد الإستيلاء على تلمسان من أصحابها بني زيان. وتوفي شابا سنة 774. وكان ولي الحكم 767. (روضة النسرين لابن الأحمر:33، الاستقصا للسلاوي 4:52، وجذوة الاقتباس 268، والتعريف بابن خلدون 133).
(1) راجع ترجمة أبي الحسن. وقد نقل الناصري في الاستقصا الأبيات عن ابن الاحمر «الاستقصا:4/ 59» وفيه: «في سر وجهر».
(1/71)
________________________________________
فقال هو-رحمه الله-
وأرغب خالقي في العفو عنيّ … وأطلب حلمه يوم الحساب
وأرجو عونه في عزّ نصر … على الأعداء محروس الجناب
وعبدك واقف بالباب فارحم … عبيدا خائفا ألم العقاب

ابن عمه الأمير منصور (*)
ابن أمير المسلمين أبي علي عمر بن أمير المسلمين السعيد بفضل الله أبي سعيد عثمان ابن أمير المسلمين المنصور بالله يعقوب بن عبد الحق.

[كنيته:]
يكنى: أبا علي، ورأيته. وكان قد بعثه ابن عمه أبو عنان إلى الأندلس مع إخوانه الأمير المؤيد بالله عبد الحليم، والأمير عبد المؤمن، والأمير الناصر.
فلم يزل بغرناطة تحت إيالة بني عمنا الملوك بني الأحمر إلى أن بعثه ابن عمنا السلطان أمير المسلمين الغالب بالله، المتوكل على الله أبو عبد الله محمد بن أخي أبينا الرئيس الأمير أبي الوليد إسماعيل بن جدنا أبي عبد الله محمد بن جدنا أبي سعيد فرج، مع أخيه السلطان المؤيد بالله عبد الحليم، حين قدّم ابن عمنا عبد الحليم المؤيد بالله أميرا، وجوزه البحر لطلب ملك آبائه بني مرين بالعدوة.
فلما استقر الأمير منصور بغساسة قبض عليه، وسيق لابن عمه أمير المؤمنين
_________
(*) الامير منصور بن أبي علي عمر. وأبوه أبو علي أخو أبي الحسن، وكان واليا -لعهد أبيه-على جنوبي المملكة، وكانت بينه وبين أخيه فتنة انتهت بمقتله. وغرب أبو عنان بن أبي الحسن أبناء عمه منصور وعبد الحليم وعبد المؤمن والناصر وجملة من أهله إلى الاندلس. وفي جملة المشكلات التي طرأت بين بني الأحمر وبني مرين محاولة محمد الغني بالله النصري التدخل في شؤون المرينيين، وتنصيب سلطان يدين له بالولاء، ولكن محاولاته هذه لم تفلح كما ذكر ابن الاحمر. وكان هذا سنة 763. وكان لمؤامرته سنة 776 شأن آخر. راجع الاستقصا 4:43، ونفاضة الجراب 299.
(1/72)
________________________________________
المتوكل على الله أبي (1) [زيان] محمد (2) بفاس، فقتله بالسيف.

حاله-رحمه الله-
كان يوصف بالكرم الفائق، والنبل الرائق. مع الفصاحة في اللسان، والبلاغة في البيان. ومشاركة في العلوم، ومعرفة بالمجهول والمعلوم [19/أ] وسمت ووقار وكلام ألذ من كاسات العقار. لا تراه إلا جائدا بالجدا (3). . . عن البخل في كل منتدى. أخبرني صاحبنا الفقيه الكاتب أبو الحسن علي بن محمد ابن معاود البلوي، قال خرجت يوما مع الأمير أبي علي منصور لمتنزّه بخارج بلدنا غرناطة (فلقينا) (4) وسيما، فقال فيه بديهة:
لو اطلّعت على قلبي رأيت به … من لحظ عينيك أو من ثغرك الأثرا

الشيخ أبو الحسن علي بن بدر الدين
ابن موسى بن عبد الرحمن بن عبد الله بن الأمير عبد الحق المريني،
كان ببلادنا الأندلسية، وقدمه على جيوشه الغزاة شيخا ابن عمنا أمير المسلمين الغني بالله، أبو عبد الله محمد بن أمير المؤمنين أبي الحجاج يوسف، بن أمير المسلمين أبي الوليد إسماعيل أخي جدنا، بن جدنا الرئيس أبي سعيد فرج، ابن جدنا الأمير إسماعيل بن جدنا الأمير يوسف الشهير بالأحمر، بن جدنا أمير المؤمنين المنصور بالله أبي بكر محمد بن أحمد بن محمد بن خميس بن نصر الخزرجي.
_________
(1) كلمة (زيان) لم ترد في النسختين
(2) المتوكل على الله محمد بن أبي عبد الرحمن بن أبي الحسن، حكم من صفر 763 إلى ذي حجة 767.
(3) كلمة غير واضحة في النسختين.
(4) الكلمة مطموسة في (ط).
(1/73)
________________________________________
وهو من بيت الملك المريني. وبالأندلس ولد هو ووالده. وجده موسى ابن عبد الرحمن هو الداخل إلى الأندلس فرّ من بر العدوة أمام ابن عمه أمير المسلمين، الناصر لدين الله يوسف المكنى بأبي يعقوب بن عبد الحق إلى الأندلس خوفا من الملك. فقدمه شيخا على الغزاة جدنا أمير المسلمين أبو عبد الله محمد الفقيه ابن جدنا أمير المسلمين الغالب بالله أبي عبد الله محمد صاحب الدبوس، ابن جدنا الأمير يوسف الشهير بالأحمر ابن جدنا أمير المؤمنين المنصور بالله محمد بن خميس ابن نصر الخزرجي.

حاله-رحمه الله-
(كان) (1) بالشجاعة موصوفا، وبالبراعة معروفا. وله في الأدب باع مديد [19/ب] ورأيه مستعمل سديد. وفعاله وسيمه، وصنائعه جسيمه. وكان عارفا بالتعديل، لم يكن له عديل. وخط بيده من التقاويم الحسنة ما يخبر بتحويل كل سنة.
أنشدني لنفسه-رحمه الله-ملغزا في مملوك له وسيم من أبناء الروم يسمى فارحا:
اسم فلان هيّن … يصبي النّهى تقريبه
حروفها ثلاثة … ثلثها مقلوبه (2)
وأنشدني أيضا لنفسه ملغزا، يقرأ أول كل بيت فيخرج: اشتقول لمن يحبك؟
أرقت وقد نام الخليّ المسلّم … وبي من أليم الشّوق ما ليس أكتم
شهودي نجوم راكدت كأنّما … عدت عن طريق القصد والليل مظلم (3)
_________
(1) كلمة كان ممحوة في (م).
(2) كذا فيهما.
(3) في الاصلين: غدت عن طريق القصر، وهو تصحيف ظاهر.
(1/74)
________________________________________
تذكرّني من قد بليت بحبه … وفي القلب والأحشاء نار تضرّم
قضيب من الريحان غصن منعّم … ولكنه بالوصل لي ليس ينعم
وضعت له خدّي وقلت لعبرتي … همي فوق خدّي عله لي يرحم
لزمت البكا والشوق بعد فراقه … وقلت لذي بثّ ودمعي يسجم
له مقلة ترمي إذا اللحظ نالها … وثغر كمثل الدرّ حين ينظّم
مريض عليل الطرف من غير علة … فما أحد من سحر عينيه يسلم!
نهيت فؤادي عنه فازداد لوعة … وهل يستطيع الصبر صبّ متيّم؟
يسرّك يا مولاي إن متّ بالهوى … وحسبك ما ألقاه والله أعلم
حكمت على قلبي فعذّبت مهجتي … وللحبّ سلطان على الصبّ يحكم
بعينيك ما ألقاه فيك من الأسى … وإني في حبي إليك مصمّم
كتبت فخذ من كلّ بيتي أوّلا … ودبّره أحيانا لعلك تفهم!
(1/75)
________________________________________
الباب الثالث
في شعر ملوك بني الأحمر من بني نصر قومي وأبنائهم (*)
أمير المسلمين الغالب بالله المتوكل على الله محمد (**)
_________
(*) يطلق اسم دولة بني نصر أو دولة بني الاحمر على المملكة التي أسسها أبو عبد الله محمد بن يوسف، الملقب بالغالب بالله. نشأ بأرجونة من أحواز قرطبة، ونبغ له شأن في المدة التي شغر فيها الجو السياسي الأندلسي بتداعي دولة الموحدين، وكان واحدا من ثوار الأندلس المنازعين في الوصول إلى رياستها. وقد تملك جيان وخضعت له إشبيلية وقرطبة برهة يسيرة، كما ذكر ابن الخطيب. وفي خضم الأحدات استدعاه أهل غرناطة وملكوه عليهم، فجعلها عاصمته واستمر فيها وأورثها عقبه من بعد ذلك. وفي زمانه استقرت الحدود بينه وبين جيرانه من الدول الإسبانية في حديث طويل. وكانت بداية الدولة النصرية مع تملك الغالب بالله لها سنة 635 وكانت نهايتها مع تسليم أبي عبد الله الصغير مفاتيح المدينة إلى الملكين الإسبانيين سنة 897 هـ‍. وبين هذين التاريخين أحداث كثيرة تزخر بها الدولة النصرية. (راجع الإحاطة لابن الخطيب، واللمحة البدرية له، ورقم الحلل له، ونفاضة الجراب و «مشاهدات لسان الدين» وتاريخ ابن خلدون «العبر»، ونهاية الاندلس لمحمد عبد الله عنان.
(**) هو محمد بن اسماعيل بن (القائم بأمر الله المتغلب على أندرش) محمد. وكان قد زوجه الأمير يوسف ابنته، فاتصل بالفرع الحاكم اتصالا وثيقا. وفي سنة 760 دبر مؤامرة أفضت إلى تنصيب إسماعيل بن يوسف أخي الأمير آنذاك الغني بالله محمد بن يوسف، وقام بالامر معه، من وراء ستار. ثم جدت أمور أدت إلى مقتل اسماعيل المتغلب على الحكم باسمه
(1/77)
________________________________________
ابن عمنا الرئيس الأمير الذي بويع بالطشاتين (1) أبي الوليد إسماعيل، ابن جدنا السلطان أمير المسلمين القائم بإذن الله أبي عبد الله محمد، ابن جدنا الرئيس الأمير أبي سعيد فرج ابن جدنا الأمير أبي الوليد إسماعيل، ابن جدنا الأمير أبي الحجاج يوسف الشهير بالأحمر؛ ابن جدنا السلطان أمير المؤمنين المنصور بالله أبي بكر محمد بن أحمد بن محمد بن خميس بن نصر الخزرجي.

[كنيته:]
يكنى أبا عبد الله، وأدركته. وهو ملك الأندلس وهو ابن أخي أبي -رحمه الله-.

حاله-رحمه [الله]-
وصفته في كتابنا (فريد العصر من شعر بني نصر) ما نصه:
«هو الملك الذي قدح زند الفضائل فأورى. وأعاد على الملة المحمدية عهد الشباب وقد أصبح ماؤه غورا؛ والبهمة الذي تحدث الركبان بشجاعته نجدا وغورا؛ الأريحي الذي جاد بجراه (2) رياض الآمال فراق نضرة ونورا. المتألق عطر ذكره تألق الصبح، والذي كان له في تجارة الجهاد أوفر ربح. فإن ذكر الكرم فهو ابن بجدته، وإن وصف الإقدام فهو عين نجدته:
_________
(**) -وارتقائه إلى السلطنة من سنة 761 إلى جمادى الثانية 762. فقال لسان الدين «وشمر الصهر المذكور-وهو ما هو من الإقدام ومداخلة ذؤبان الرجال-عن ساعد جده وراش وبرى واستعان بمن هفت به الأطماع.». وجملة رأي لسان الدين فيه أنه أ*** بالفتنة وأفسد الدولة، وقاد نفسة إلى الهلكة. (راجع اللمحة البدرية:108 وأعمال اعلام 308 والإحاطة 2:2 ونفاضة الجراب 183).
(1) لم أقف على هذا الاسم، وهو كما يظر، مكان في غرناطة.
(2) في القاموس: من جراك وجرائك وجريرتك: من أجلك.
(1/78)
________________________________________
حدّث به عن حاتم يوم النّدى … واسمع بزيد الخيل يوم المغنم
ولا مرية في أنه بحر الجود المتلاطم الأمواج. ومنتهى الآمال حين تضيق بالمعتفين المسالك والفجاج. جادت من سماء جوده على العلماء كل هاطلة ثره؛ وجرت أنهار عطائه لهم لأنهر المجره. أنسى-حقا-ما يؤثر عن الطائي، ووسع -صدقا-بإشاره القريب والنائي. فعادت أخباره أحلى من الأناشيد، وأملك للقلوب [20/ب] من الأغاريد، ومنادمته الفراقيد (1)، وأعذب من ماء العناقيد.
وحين خطبته الخلافة ليكون لها بعلا، لما تخيرته كفؤا وأهلا، زهد في زهرة الدنيا وخاف النار؛ وتسربل حلل السكينة والوقار. وأمر بإراقة الخمور، وقطع الملاهي؛ فكان وجه الإمارة يشرق به ويباهي. لما أظهر من الحلم والعفاف، وغمر المعتفين في إمارته من الإسعاد والإسعاف. مخالفا لشهوات قلبه؛ في مرضاة ربه. لا يثني العنان لريبة، ولا يأسف-في غير الدين-على مصيبة. عفيف الفرج والبطن عما يشينها من الحرام، متبرئا من كل موبقة ت*** له الآثام. مضى في إحياء الشريعة على سبيل الخلفاء الراشدين، وأربى في الشجاعة على من عاصره أو تقدمه من المتقدمين؛ فكانت النصارى تفرق من خوفه، وترى أن الحتف ملك لكفه.
فحليت تأليفي هذا بما انتهى إليّ من مآثره المألوفة، ومكارمه الجمة الجميلة الموصوفة؛ لكونه زهد حين أقبلت عليه دنياه، ولم يستفزه هواه. وكان يقتدي بالسلف الصلح في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولبس ثياب الصوف. ولولا قصدي الإيجاز والاختصار لألفت في آثاره ومآثره أسفار (2).
فتىّ جمعت فيه الفضائل كلّها … ولا بدّ من نقص فكان من العمر!
_________
(1) كذا فيهما.
(2) كذا لضرورة السجع
(1/79)
________________________________________
فمن قوله-وكتب به مجاوبا-.
قل للتي نبّأتك هذا … قد صح هذا ب‍ «صح هذا» (1)
فلا تبالي صدود قوم … يروم في صدّك التذاذا (2)
وسلّم الأمر والمقاضي … لخير قاض قضى بهذا
وعلى هذا الأبيات حكاية. وذلك أن كاتبه الفقيه أبا القاسم (3) محمد ابن قطبة [21/أ] الدوسي طلب منه أن يقلده رياسة كتابه، وخطة العلامة.
وكانت علامة كتبه، وكتب آبائه الملوك بني الأحمر من بني نصر: (صح هذا) تكتب بقلم غليظ القطة. فكتب له ابن قطبة هذا، في ذلك، بقوله (4):
تقول ليلى-وقد رأتني … كسيف بال-: فديت، ماذا؟
فقلت مهلا، فعن قريب … يصحّ هذا ب‍ «صحّ هذا»!
فجاوبه ابن عمنا السلطان الغالب بالله، المتوكل على الله، أبو عبد الله المذكور بأبياته المتقدمة.
_________
(1) قال ابن الاحمر-مؤلف هذا الكتاب-في كتابه الآخر (مستودع العلامة) ص 23 - 24: إن علامة دولة بني الاحمر (التي يوقع بها ملوكهم على الصكوك وغيرها) كانت «ولا غالب إلا الله» ثم كانت «وكتب في التاريخ» ثم كانت «صح هذا».
(2) كلمة «في» جاءت في الاصلين قبل «صدود» وتحت البيت نظر.
(3) أبو القاسم محمد بن قطبة الدوسي، من أسرة مشهورة بالأدب والخدمة السلطانية ترجم لسان الدين بن الخطيب لعدد منهم في كتبه المختلفة كالإحاطة والكتيبة الكامنة وغيرهما. وانظر أيضا نثير فرائد الجمان:318 في ترجمة ابنه أبي بكر محمد.
(4) البيتان في مستودع العلامة.
(1/80)
________________________________________
الرئيس إسماعيل بن الأمير أبي سعيد فرج (1)
ابن أمير المسلمين أبي الوليد إسماعيل، عم أبينا بن جدنا الرئيس أبي سعيد فرج، ابن جدنا الأمير أبي الوليد، ابن جدنا الأمير أبي الحجاج يوسف الشهير بالأحمر، ابن جدنا أمير المؤمنين المنصور بالله أبي بكر محمد بن أحمد بن محمد بن خميس بن نصر، رحمه الله.

[كنيته:]
يكنى أبا الوليد. ورأيته، وصحبته، وبيني وبينه وداد عظيم.

حاله-رحمه الله-
وصفته في كتابنا «فريد العصر من شعر بني نصر» بما نصّه: طلع في مماء البراعة نجما. وبرز في ميدان البلاغة ضيغما شهما. وحاز من الفصاحة مالم يحزه سواه، ومن الذكاء ما هو ألذ من الشهد في الأفواه. ومن الهمة ما يسمو أدناها فوق الشاهد، ومن الفكاهات ما يلتذ بسماعها الغائب والشاهد. ومع ذلك فهو بالأدب عارف، وعلى محبته عاكف. وربما نظم القصائد فتأتي كالقلائد في أجياد الخرائد. وتشبيهاته في الأدب ملوكية، تلوح عليها مخايل العروبية. ومن علو همته وجلالة رتبته أن نفسه شغفت بحب الإماره؛ ولا يتكلم في غيرها ليله ونهاره. قد تمكن من قلبه هواها، ولا يميل في دنياه لشيء سواها. فانظر [21/ب] همة هذا الندب ما أسماها، ونفسه النفيسة ما أسماها.
وهو فتى الجلالة ومحلّي جيدها، ومبدئ أسرار الفضائل لموعودها (2).
_________
(1) يلتقي المؤلف، والمترجم به هنا عند جدهما الأمير أبي سعيد فرج (صاحب مالقة). فالمؤلف هو إسماعيل بن يوسف بن محمد بن فرج، والآخر هو إسماعيل بن فرج بن إسماعيل (خامس ملوك بني الأحمر) بن فرج.
(2) هكذا في النسختين.
(1/81)
________________________________________
أنشدني لنفسه-رحمه الله-
أردّد في ليلى فرائد فكرتي … فيحسبني صحبي بليلى مولّعا
ولو علموا ما يقتضي بعد همّتي … لخرّوا أمامي كلمّا لحت ركّعا
ولعت بحمراء البلاد ولم يكن … فؤادي بحمراء الخدود ليولعا!
أراد بحمراء البلاد دار الملك بغرناطة.
وأنشدني لنفسه أيضا-رحمه الله-وكان قد بلغه عن أحد بني عمه -وهو الرئيس أبو عبد الله محمد الأبكم-كلام قبيح في جنابه فقال يفتخر:
يقولون إنيّ بالبطالة مولع … ولست، وربّ البيت، أعرفها بتّا
ولكنّهم لمّا رأوني سدتهم … وكان جوابي في مجالسهم صمتا
تقوّل كل في جنابي ضلّة … وما عرفوا وصفا لذاتي ولا نعتا
وأنشدني أيضا لنفسه:
يتوق لمن يهواه قلبي صبابة … فيمنعني عمّا أحبّ حياء
وأرسل طرفي محاسن وجهه … فيمنعني عن قصده الرّقباء
فلاحول لي قد ضاق ذرعي والهوى … إذ البعد عنّي واللقاء سواء
وأنشدني أيضا لنفسه، يداعب شاعره الفقيه الكاتب أبا العباس أحمد بن محمد الأنصاري الخزرجي المعروف بالدباغ عند زواجه، وكان قد تزوج امرأة مسنة:
أما العجوز فقد شغلت بكلها … عن مدحنا والسين دون اللام
فاقصر وقصّر ما استطعت فإنها … باب السّقام ومنتهى الآلام
(لا تكثرنّ من النكاح فإنه … ماء الحياة يراق في الأرحام)
(1/82)
________________________________________
أخونا الرئيس محمد ابن والدنا (1).
[كنيته:]
يكنى أبا عبد الله، وهو أكبر مني سنا، يفوتني بعشرين سنة.

حاله-أكرمه الله-
وصفته في كتابنا «فريد من شعر بني نصر» بما نصه:
هو أحد أبناء الملوك الموصوفين بالبراعة الفائقة، والفصاحة الرائعة المعجبة الرائقة. ممن يشار إلية في فك معميات الأدب، ويلجأ إلى معين فطنته في كشف مغيبات الطلب. متحل من الدين بشعاره المعجب، مترنم بالقرآن ترنما مستحسنا مطرب. إن خط مهرقا (2) فأين منه ابن مقلة في التنميق؛ وإن شعر فما المرقش في التزويق. وإن خطب أنساك بلاغة سحبان؛ أو أنشأ فما العماد وبديع الزمان. وإن شدا مغنيا شغف القلوب وأذهلها، وإن تكلم منشدا خدع العصم في المعاقل وأنزلها. فلو سمعه الموصلي لسلم إليه على ياس، وكذلك ابن شكله إبراهيم بن المهدي صيت (3) آل عباس.
ومع ما حباه الله به من هذه الخصال البديعة؛ التي لا تجتمع إلا في كل ذي نفس ذكية رفيعة، لا تراه إلا مطرقا من الحياء، ولا متكلما إلا في هبات الجزيل من العطاء.
لا يرفع الطّرف إلا عند مكرمة … من الحياء ولا يغضي على عار
إن عقد حبوة خلته رضوى الوقار؛ وإن نطق فكأنما سقي كؤوس العقار: سمت همته الشريفة إلى حب الطاعة، فلم يلف من أبناء الأمراء الزهاد
_________
(1) لم أقف له على ترجمة، غير ما ذكره ابن الخطيب عرضا في جملة بني الأحمر الذين لجؤوا إلى المغرب بعامة وإلى بني مرين بخاصة (اللمحة البدرية في الدولة النصرية).
(2) المهرق: الصحيفة.
(3) رجل صات وصيت: (مشهور).
(1/83)
________________________________________
مصادما. وسرت جنود ورعه إلى ميدان الفضائل، فلم تلق له مقاوما.
أيقابل السيل بالوشل، أم يعارض الجد بالفشل؟ ومكارمه قرت بها كل [22/ب] عين. وانتظم في لبه الدهر واسطة زين.
أنشدني لنفسه:
يا نازحا ولعهد الحبّ قد نقضا … لا تستحلّ حراما رمته غرضا
ناشدتك الله هل في العيش منتفع … يوما إذا ما جفا المحبوب أو رفضا؟
ولقي يوما ببعض الأزقة من فاس امرأة بارعة الجمال، وقد لبست ثياب حزن زرق، وهي سافرة عن وجه كالقمر، وهي تلطمه بيديها، ومن حواليها من النساء يرمن أن يبرقعنه فتمنعهن بيديها، فقال بديهة:
ألبسوها ليحجب الحسن فيها … ثوب حزن فزاد حسنا ومعنى
عجبا للسّحاب تستر شمسا … فتقت غيمه شمالا ويمنى!
قال إسماعيل مؤلف هذا الكتاب:
ولما نظمني معهم سلك الآداب، وسلك بي مسلكم شرف الانتساب، ولم أكن ممن قصر عن ذلك المرام، ولا ممن تبدد من ذلك النظام؛ رأيت أن ترك اسمي وعدم إثبات نظمي، ثلة في جمع، ووترا من شفع، وفلا في حسام، وحظا من أسقام. بل كنت في ذلك، من فريق هنالك؛ قاده طبعه إلى تولج هذا الباب، وحداه عقله إلى مطالعة نوع من الآداب.
فمن قولي-لطف الله بي-وكان قد بلغني عن بعض بني عمي بعض القول مما يقبح:
رماني بنو عمّي بزور مزورّ … وما زلت أوفاهم وأحسنهم سمتا
رموني حقدا بالذي لست أهله … وإنّي عن هجر لأكثرهم صمتا
وإنّ جدودي كالجبال رزانة … وما إن ترى فيها اعوجاجا ولا أمتا
(1/84)
________________________________________
[23/أ] وقلت أيضا-خار الله لي-:
يوم بان الظّاعنونا … لا تسل ماذا لقينا
أيّ شوق أيّ وجد … فضح السرّ المصونا
وأشدّ من تشكّى … من بهم جنّ جنونا
فرح الحاسد ممّا … آلم القلب الحزينا
يا فراق الخلّ ماذا … من ولوع لك فينا؟!
كلمّا رمنا بعادا … منك أدنينا الشّجونا
جئت في فعلك هذا … بخلاف المغرمينا!
وقلت أيضأ في مدح ابن عمنا أمير المسلمين الغني بالله محمد المخلوع: (1)
أبى الله إلا أن يمّلكك الدّنيا … ويحمي بك الإسلام إذ حطته رعيا
حميت جناب الله فضلا ولم تزل … تراقب فيه أمر ربّك والنّهيا
_________
(1) سبقت الإشارة إليه (انظر إلى الحاشية 2 صفحة 25). وقد امتد العمر بالأمير النصري الغني بالله، وحكم الاندلس أكثر من أربعين عاما على فترتين. وفي شعراء العصر عدد كبير ممن مدحه بالشعر والموشحات، وفي أدبائه من رفع إليه مؤلفاته وطرزها باسمه. وفي هذا الكتاب تراجم عدد من الشعراء الذين مدحوه. (انظر: الكتيبة الكامنة للسان الدين بن الخطيب، والإحاطه له، ونثير فرائد الجمان، ونفح الطيب، مثلا) وتلقيبه بالمخلوع غير مشهور. وهو يشير إلى الحادثة عليه التي سلبته ملكه من 28 رمضان سنة 760 إلى 20 جمادى الآخرة 763، ولجأ في أثنائها إلى المغرب، ودخل فاس فاتح محرم 761. والمعروف بلقب المخلوع منهم ثالث ملوكهم محمد بن محمد بن محمد بن يوسف. فهو ولي السلطنة سنة 701، وخلع عنها في حديث طويل سنة 708. (راجع في ذلك: اللمحة البدرية، والإحاطه، وأعمال الاعلام-القسم الثاني).
(1/85)
________________________________________
وأعززت دين الله لما نصرته … فقد نسخت معنى السماع به الرّؤيا (1)
وسرت لعمري سيرة عمرية … بها قرّعين الدّين واعتزّت العليا
وقد خضعت صيد الملوك لأمركم … وليس لها إلا اتباعكم رأيا
ومن حاد منهم عن مراميك كلّها … يلاقي الرّدى من بعد أن يوسع الخزيا
سقيت بغيث الجود ما كان ما حلا … حنانا وإحسانا فيا حبذا السّقيا
ألا يا عفاة الأرض طرّا تبادروا … إلى جود ملك فضله غمر الدّنيا
هو الفذّ في الأملاك طرّا لأنه … أجلّهم قدرا وأحسنهم هديا
همام إذا ما الروع عبّ عبابه … وأبدى عليه النّقع من نسجه زيّا
[23/ب]
ولاحت بروق الهند وامتلأ الفضا … بصلصال رعد الطبل أعظم به شيّا (2)
وطأطأت الأرماح تدمى أنوفها … وأحكم طير النّبل مرسله الرّميا
أراك محيّا تاليا سورة الضّحى … وقلبا على الأعداء قد ركب البغيا
على فضله قد أصفق الناس مثلما … على ملكه حتما تطابقه الفتيا
بنى حرما للمكرمات تحجّه … عفاة الورى أكرم بمورده ريّا
وأذهب بالتقوى القبائح كلّها … وبدّد بالرّشد السفاهة والغيّا
وأدرك بالعزم الذي أعجز الورى … وجاء بما أعيى سواه وإن أعيى (3)
تعزّز منه الدين لما أقامه … ولم يشك منه الملك وهنا ولا وهيا
كفيل بتيسير الأماني وضامن … عن الدّهر ألا يمنع السائل الرّعيا
_________
(1) يريد الرؤية، وأعجزته القافية.
(2) في اللسان «صلصل صلصلة ومصلصلا». قال: ويقال للحمار الوحشي صالّ وصلصال، يريد، الصحيحة الاجساد الشديدة الاصوات لقوتها ونشاطها. والصلصلة صفاء صوت الرعد.
(3) كذا في الاصلين.
(1/86)
________________________________________
غدا المدح صعبا في سواه وإنه ... غدا فيه سهلا إذ لداثره أحيى
أفاض على العافين طرّا مواهبا ... بأفضاله وعدا لهم منه مأتيّا
حلفت يمينا برة ليس في الدنيا ... مليك سواه للمعالي سعى سعيا
أبناء نصر حزتم بمليككم ... فخارا بما يلفى مدى الدّهر مخفيا
أشاد لكم ملكا وعزّا مؤبّدا ... فلا زال مأثورا-مدى الدّهر-مرويا
لنا الله كم حزنا به من مفاخر ... تنافى بها عنّا العنا في الورى نفيا
تسامت به العلياء منه بقربنا ... إليه وأضحى فعلنا منه مرضيا
فيا فخر أملاك الدّنى والذي حوى ... لعمر المعالي الحزم والعزم والرّأيا
نموت بتشييد المفاخر مثلما ... شأوت ملوك الأرض طرّا بلا ثنيا
منعت به الباغين بالعدل رحمة ... فليس يخيف الذيب في قفره الظّبيا
[24/أ]
وقتّلت أهل الشّرك في عقر دارهم ... وأبت ولم تترك بأحيائهم حيّا
(1/87)
________________________________________
وملك النّصارى ذلّ قسرا لعزّكم ... يعاود في سلم له النشر والطّيا
ولولا ظباك القاهرات لملكه ... لما كان نحو الحقّ مستمعا وعيا
فلا زلت يا أسمى الملوك مؤيّدا ... ولذّت لك البقيا وطاب لك المحيا
وقلت أيضا:
سهرت فيمن جفنه نائم … وذبت فيمن جسمه ناعم
ظبي ظبا عينيه فعّالة … بالقلب ما لا يفعل الصّارم
يستلّ من مقلته صارما … للصّبر مني أبدا صارم (1)
ينشأ عن عينيه سكر الهوى … فكلّنا من ثمل هائم
يهزأ بي كأنّه جاهل … بما ألاقي وهو العالم
شكوته (2) ما بي من حبّه … من وله لعلّه راحم
فظلّ والجسم غدا ناحلا … ودمع عيني أبدا ساجم
يضحك في الحبّ وأبكي أنا … الله فيما بيننا حاكم!
وقلت أيضا فيه (3):
هاجت لبعدك لوعة وغليل … والقلب بعدك واله مخبول
يا نازحا نزح الكرى لفراقه … رفقا فعقد تصبرّي محلول
وابعث ولو بالطّيف في سنة الكرى ... ليزورني في النّوم عنك رسول
_________
(1) الصارم في البيت السابق: السيف، وصارم هنا «فاعل» من صرم: قطع.
(2) في النسختين: شكوت، ولعل الصواب ما أثبت.
(3) في غرض الغزل، أو المحبوبة المذكورة في القطعة السابقة.
(1/88)
________________________________________
فاسأل نجوم اللّيل تخبر قصّتي ... فالنّجم عن سهري (1) بك المسؤول
فإلى متى قلبي مروع بالنوى … فلقد رثى لي حاسد وعذول
قد هام قلبي في هواك (وإنني) … دنف على جمر الغضا مجعول
[24/ب]
يا ملبسي ثوب السّقام، تعطّفا … يوما بصب من نواك عليل
فلقد قضى أهل الغرام ديونهم ... وغريم حسنك في الهوى ممطول!
أدركت من سرّ الغرام حقيقة ... ما نالها قيس الهوى وجميل
إنّ الذّين جمالهم بجمالهم … سارت إلى نحو الأراك تميل
وغدت تجدّ السّير لمّا شاقها … من نحو رامة إذخر وجليل (2)
أقوت معاهد حيّهم منهم كما … ملحوب أقوى ربعه المأهول (3)
لا عيش بعدهم يلذّ وإنّهم … روح الحياة لهائم والسّول
عللّت قلبي باقترابهم فلم … ينفع مشوقا بالنوّى التّعليل
يفنى الزّمان وما قضيت لبانتي … يا ليت شعري هل لديك سبيل؟
هملت نجيعا أدمعي (4) يوم النّوى … وقد استقلّت للوداع حمول
_________
(1) في م صهر، وفي ط سهر. ولعل الصواب ما أثبت، وقد يغفل الناسخان ياء المتكلم.
(2) الإذخر: حشيش طيب الريح، واحدتها إذخرة، وهي شجرة صغيرة. الجليل: نبت الثمام، ضعيف «يحشى به خصاص البيوت».
(3) يشير إلى بيت عبيد بن الأبرص:
أقفر من أهله ملحوب ... فالقطبيات فالذنوب
وملحوب: اسم ماء لبني أسد، والقطبيات والذنوب مواضع لهم أيضا. (الديوان:10، وانظر المعلقات بشرح التبريزي 324، وجمهرة أشعار العرب 2:473
(4) في الأصلين (أدمع).
(1/89)
________________________________________
وسرت ركائب لوعتي منثالة … والوجد هاد والغرام دليل
يا راحلين عن المشوق لشدّ ما … خلّفتموه وقلبه متبول
يهوى على مرّ الزّمان حديثكم … وكثيره فيكم لديه قليل
أمّا ****** فلا يملّ حديثه … وحديث من أبغضته مملول!
لكنني آوي (1) إلى حرم الذي … ما إن له في المالكين عديل
من شيّد العلياء بعد عفائها … وأنال ما قد كلّ عنه منيل
من لم يزل يرعى الإله وعقله … عند المشورة شامه وطفيل (2)
ملك إذا ركب المطهّم طالبا … لعداته فعدوّه مغلول (3)
ملك إذا ما صال يوما صولة … كادت لها شمّ الجبال تزول
سائل (4) عن وثباته وثباته … يوم الكريهة والذّوابل غيل
[25/أ]
تخبر بما أعيى الفوارس كلّها … وحديثه في الصالحات يطول
أجرى مياه العدل في أحكامه … وأقاد صعب الدهر فهو ذلول
قد روّض الإمحال جودا مثلما … قد شيّد العلياء وهي طلول
ملك القلوب محبّة ومهابة … ولسيفه في الدارعين صليل
ساد الملوك بنسبة سعديّة (5) … ففخارها أبدا له التّفضيل
وسما بها فوق السّماك وإنّه … لا يعتريه في الهياج ذهول
بعلى المعلّى جدّه سعد الرّضا … مولي النّدى، قد أفصح التّنزيل
_________
(1) في نسخة م «أو»، ولم تظهر في «ط» لطمس في رأس الصفحة.
(2) شامة وطفيل: جبلان مشرفان على مجنة، وهي على بريد من مكة.
(3) واقرأ «مفلول» بالفاء.
(4) في الأصلين: سائل كما أثبت؛ ولعله: سائله.
(5) نسبة الممدوح إلى الصحابي الجليل سعد بن عبادة الأنصاري.
(1/90)
________________________________________
حامي الرّسول وسيّد الأنصار من … صحب الرّسول وسيفه مسلول
أعطى أمير المسلمين وقد سطا … بالمعتدين ووعده مفعول
وطلب مني الفقيه الشريف محمد بن أحمد الحسني (1) المدني رسالة ذي الوزارتين الفقيه الكاتب أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن الخطيب الأندلسي، التي كتب بها عن ابن عمنا السلطان أمير المسلمين الغني بالله أبي عبد الله محمد المخلوع، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ معرفا بجهاده الروم ونصره عليهم وأخذ بلادهم. فبعثت بها إليه، وكنت قد صححتها بيدي، وطغى القلم في لفظة وهي الأغوار بالواو فجعلت مكان الواو دالا مهملا جاء منه «الأغدار».
فلما وقف على ذلك كتب عليه طرة ينبهني على نسياني ويعتذر، فجاوبته بقولي:
حبوت جنابي يا سليل محمّد … بعذراء ما أسنى سناها وأعجبا (2)
بدت شمسها في هالة السّعد مثلها … تضوّع رّياها من المسك أطيبا
فلا زلت تسديها على الخلق نعمة … ولا زلت تسمو في الفضائل منصيبا
[25/ب] وصلت-أعزك الله-عقيلتك السالبة للعقول، الخارجة بنظمها البديع، المسكت للبديع عن الحد والمعقول. وهي من الأصل الوسيم والفضل الجسيم، ترفل في حلل؛ وتنتمي بنسبها العلي، وحسبها النبوي في أشرف الحلل.
إلى السّادة الأخيار أبناء هاشم … بني الحجر والبيت العتيق الممجّد
هم آل خير الخلق أحمد والألى … بهم عزّ دين الله في كلّ مشهد
فقبّلتها ألفا، ولم أرض-دهري-غيرها إلفا. وقلت لها مرحبا بذات
_________
(1) القاضي الفقيه أبو القاسم محمد بن أحمد الشهير بالشريف الغرناطي، ويعرف بالسبتي أيضا؛ وسيترجم له المؤلف في الورقة 41/أ.
(2) القاضي أبو القاسم من الأشراف الحسنيين.
(1/91)
________________________________________
الجزالة، وأخت غزالة (1) والغزالة. والبارعة الجمال والفارعة ذرى الإجمال.
ومصرح الناظر ومسرح المناظر. وبنت سليل الرسول، ومنتهى الأمل بالسول: الرافعة من شأني، والخافضة في طلق الفصاحة، وميدان الصباحة، من جاراني وماشاني. التي أذهبت عني الأتراح وتسربلت لها ثياب الأفراح.
وأزاحت الكرب، وامتلأ بها دلو السرور إلى عقد الكرب. وزدت بها أنسا.
وكلفت بحسنها الذي لا أنسى. نفرت عن جلي عذرك فقبلته. وتأملت على سطرها مرور يدك فقبلته. وقلت إن سيدي صدر المجالس، والتحفة التي ألقاها الدهر إلى المجالس. ما صدرت منه تلك الطرة لتعريض، ولا لأن يظهر علمه الطويل العريض؛ بل ليصلح ما طغى به لسان اليراعة، وذلك مما وهبه الله من فائق الحكمة ورائق البراعة. فما الظبية الوعساء، ولا العزة القعساء عندي بأبدع (2) من تنبيه معظّمي العذب الشمائل، المزدهي عرف عرفانه بزهر الخمائل، تهديه الصبا والشمائل. فلا زال في صعود سيدي علم البلاد، والنحرير الذي أسلم وجهه لبلاغته وسلم لفصاحته الصاحب [26/أ] بن عباد. ما عطرت رياض الحزن غب سواكب المزن الرياح النواسم، وأومضت في حندس الليل بروق الثغور البواسم، والسلام.
وقلت أيضا، معزيا لابن عمنا الرئيس أبي الوليد إسماعيل بن الأمير أبي سعيد فرج:
لا تجز عنّ أبا الصّدق الأمير على … يحيى سليلك؛ في الباقي لك الخلف
كان الذي قد مضى نجما فغاب ومن … بقي بدور-لعمري-ما بها كلف
_________
(1) غزالة، على وزن سحابة، علم على الشمس.
(2) في الأصلين: عند.
(1/92)
________________________________________
مثلك-أعزك الله-لا يذكّر عند المصيبة، إذ سهام صبرك مسددة مصيبة.
وايم الله لقد فجعت لرزئك في نجلك، وعظم فقده عندي من أجلك. ومهما أمرّ بناديه، أتفجع فأناديه:
(إذا ما دعونا الصّبر بعدك والبكا … أجاب البكا طوعا ولم يجب الصبر
فإن ينقطع منك الرجاء فإنّه … سيبقى عليك الحزن ما بقي الدّهر)
والله يجزل بمصابه أجرك؛ ويرفع-بالصبر عليه-في الدارين ذكرك.
والسلام.
وقلت أيضا:
-وبعثت بها إلى ابن عمنا أبي الوليد هذا رحمه الله تعالى-وكل ما في رسالتي هذه من الأبيات هي نظمي-:
أكاتبكم يا أهل ودّي وبيننا … كما حكم البين المشتّ فراسخ
فأما منامي فهو عنّي مشرّد … وأما الذي بالقلب منكم فراسخ (1)
الأخ الوفي الذي لا ارتياب في صحة إخائه، وابن العم الصفي الذي لم يشب الكدر صفو صفائه، والولي الحفي الذي يشهد خالس محبته بحسن ولائه.
الذي صحح وداده الاختيار، وصرف عنان المحبة إليه الاختيار. المبرز في إحراز غاية الإعجاب والإعجاز، الواحد الذي به فخار صدور القوافي والأعجاز، المنزهة حقائق عزائمه الصادقة عن شوائب المجاز. الذي كان له [26/ب] سعد بن عبادة أبا، واكتسب من المعالي ما امتنع عن غيره وأبى.
واعترف له بالفضل من أهل عصره أعلامه؛ وأطاعته في الحرب سيوفه، وفي الكتب أقلامه. إنسان عين الكمال، وفلذة كبد المجد الباهر الإجمال.
_________
(1) فراسخ في البيت الأول جمع فرسخ، و «راسخ» في الثاني اسم فاعل من رسخ: ثبت.
(1/93)
________________________________________
سلام عليكم من مشوق متيّم … أخي حرق رقّ الجماد لما يلقى
يكفكف دمع العين مهما ذكرتم … وقد كاد أن يفنى لرؤيتكم شوقا
براه الهوى واستأصل السقم جسمه ... وغيّره نأي ****** فما أبقى
ينادي إذا ما الليل أرخى سدوله ... يسرّكم يا أهل ودّي أن أشقى؟
لئن سرّكم هذا فراحة مهجتي ... إذا قيل إني متّ من أجلكم عشقا!
خذوا مهجتي بالرّفق أهل مودّتي ... وليس من الإنصاف أن أسأل الرّفقا
أنا المغرم المضننى بحبّ جمالكم ... فرقّوا لملهوف غدا لكم رقّا
كتبته-أعزّك الله-والدّموع سواجم. والقلب ممّا اعتراه واجم؛ لما أجد من التّوق إلى حسن مزاحكم، ومن الألم من طول انتزاحكم.
وبعد فإني أصرف إليك عنان المعاتبة، لعدم المراسلة والمكاتبة. وقد أضرّ بي الأسى والتّبريح، حتى صرت أبعث السلام مع الريح. فلا أدري:
أملل صدّك عن جوابي أم أردت أن يقضي عليّ جوى بي (1). فارفق بملهوف تضطرم أحشاؤه لوارد الأغراض، ويرضى بكلام المحبوب وإن لم يكن عن تراض. فلو أنّ ما به بالصّخرة الصماء لذابت، أو بالليلة الظلماء لا نجابت. قسما بمحبّتك التي تيّمتني، وفضائلك العميمة التي ملكتني. لولا أمنيات نفس بالوصال نعلّلها، واستئناس (2) بلقياك نؤمّلها؛ لعدم ما بقي
_________
(1) رسمت فيها «جوابي»، وفضلت ما أثبت.
(2) لم تضف الكلمة إلى شيء في النسختين. وقارن بالجملة السابقة.
(1/94)
________________________________________
من خيال الجسد، ولذاب الفؤاد من جمرة الكمد (1) وإلى كم نار شوق جوانحي أوريتها، ودموعا سواجما على الخدين أسلتها (2). فهذه حالي [27/أ] يرقّ لها الجلمود، ويذوب لها الجمود. فأحي مهجتي من إماتة الشوق بألفاظ أسكن إليها، ورسائل اعتمد عند تأجج نار الشوق عليها. وأنا-وان تباعدت المساكن والأشباح، فقد تقاربت منا القلوب والأرواح. والصبر عليك قد ارتحل، والجفن بالسّهاد لا بالإثمد اكتحل. فلو رأيت حالي من ذلك، لعلمت أني في أشدّ المهالك».
_________
(1) في «ط» الكبد.
(2) كذا في الأصلين. وفي «م» أؤريتها.
(1/95)
________________________________________
الباب الرابع
في شعر ملوك الموحّدين الحفصّيين وأنبائهم (*)
أمير المؤمنين المستنصر بالله المنصور بفضل الله محمد بن أبي بكر ابن
إسحاق بن إبراهيم بن موسى بن إبراهيم بن أبي حفص (**)
[كنيته:]
يكنى: أبا عبد الله، وهو ملك تونس؛ ورأيت بفاس ابنيه الأميرين أبا حفص عمر، وأبا محمد عبد الواحد. ونحن جميعا في حضرة الملوك من بني مرين.

حاله-رحمه الله-
كان عفّا كاملا، وعالما عاملا. له شعر يصبي النفوس، ويلتذ بسماعه
_________
(*) بنو أبي حفص، أصلهم من هنتاتة، وهي من أعظم قبائل المصامدة؛ ودولتهم متشعبة من دولة الموحدين. وكان الشيخ أبو حفص من أوائل القائمين بدعوة المهدي ابن تومرت والناصرين له، وتداول أبناؤه من بعده الإمارة بالأندلس والمغرب وإفريقية مع بني عبد المؤمن-أمراء الموحدين-وكان أبو محمد عبد الواحد بن الشيخ أبي حفص أول من ولي إفريقية، وذلك برغبة من الناصر الموحدي سنة 603 هـ‍. ومن أشهرهم في القرن السابع أبو زكريا يحيى، الذي استنجد به أهل بلنسية واستصرخه ابن الابار بسينيته المشهورة. واستمرت دولتهم إلى حوالي منتصف القرن العاشر الهجري.
(**) انظر معجم الأنساب والأسرات الحاكمة لزامباور 1:116.
(1/97)
________________________________________
الرئيس والمرؤوس. وخطه تستلب العقول براعته، كما أذهلت الفوارس شجاعته. أنشدني له الشيخ القائد المعدل أبو محمد عبد الحق بن أبي بكر الموحد، قال أنشدني لنفسه أمير المؤمنين المستنصر أبو عبد الله:
(جزى الله الحوادث كل خير) … وإن كانت تغصصّني بريقي
وما شكري لها إلاّ لأنّي … (عرفت بها عدوّي من صديقي)

أمير المؤمنين المتوكل على الله المؤيد بنصر الله أبو بكر (*) ابن الأمير
المنتخب (1) لدين الله يحيى [27/ب] ابن الأمير إبراهيم
بن الأمير يحيى بن عبد الواحد ابن أبي حفص.

[كنيته:]
يكنى أبا يحيى. وأدركته وهو ملك إفريقية. ورأيت بفاس، في حضرة الملوك من بني مرين جملة من أحفاده، وابنه الأمير أبا عبد الله محمد، صاحبنا.

حاله-رحمه الله-
هو الملك الذي تليت في المحافل سور ذكره، وجليت في النوادي صور فخره. إذ لم يبق للمعالي غاية إلاّ جازها، ولا للمحامد راية إلا حازها.
كما فاق بهمّته الهماميّة، وساد بشيمته الاهتماميّة. وبرز في ميدان الشجاعة ليثا، وكان للبائس غوثا وغيثا. وله معرفة بقرض القريض. وصوته ينسي ابن عائشة والغريض (2). ولا مرية في أنه أسد الكتائب، ومن أتى في الحروب بالعجائب.
فمن قوله-رحمه الله:
بذيّالك الوادي وذيالك الحمى ... سلبت فؤادي واغتديت متيّما
_________
(*) انظر معجم الأنساب والأسرات الحاكمة 1:116.
(1) فيهما: المنتخب.
(2) من مشهوري المغنين في المشرق.
(1/98)
________________________________________
سكرت ولم أعلم أمن خمرة الهوى ... عراني هذا السّكر أم خمرة اللّما
علقت كحيل المقلتين مهفهفا ... رخيما يلين الصّخر مهما تكلّما
تعلّم سحر الجفن من أرض بابل ... وليس لغيري في الأنام تعلّما!
رماني بسهم من مذانب لحظه ... شديد فلم يخطئ فؤادي إذ رمى (1)
وصاد بأشراك الفواتر مهجتي ... فواعجبا من شادن صاد ضيغما
له وجنتا شمس وبدر إذا بدا ... وأقبل من خلف السّتور مسلّما
تراه ضحى في القصر شمسا منيرة ... وعند الدّجا تلقاه بدرا متمّما
ألائمتي لومي إذا شئت أو دعي ... فمن يهو هذا الحسن لم يخش لوّما
وحاسدة قالت لأخرى تعيبه ... لقد تاه حتى قال من قال أجرما
وظنّت بأنا نحسب التّيه زلّة ... ولم تدر أنّا نجتنيه تنعّما
[28/أ] فلولا التجنّي والتدلّل في الهوى ... لما كان برد العشق بالعشق معلما
_________
(1) في الأصلين: يخط.
(1/99)
________________________________________
ولا هاج مشتاقا إلى جيرة اللّوى ... ومنزل من يهوى حمام ترنّما
وألطف شيء في الهوى أنس خمسة ... «متى؟ أو عسى! أو هل؟ وكيف؟ وربّما!»
إذا لم يكن منها شعور لعاشق ... فليس له نحو المحبّين منتمى
إليك حديثي بالّتي لم أسمّها ... وعنك حديثي حيثما قلت حيثما
ومنك هيامي والضنّى لي شاهد ... وفيك هيامي بعد كتمي له نما
ولم يعلم الواشون إلا تسهّدي ... ولم يدركوا الأسباب إلا توهّما
ملكت الدّنى شرقا وغربا بأسرها ... ولكنّني أمسيت فيها متيّما
يغالبني ظبي، وأغلب كلّ من ... تملّك فيها، وارتدى، وتعمّما
كتمت هواها عن فؤادي ومهجتي ... وعن سهد جفني ما استطعت تكتّما
ولكنّ لي نفسا تذوب صبابة ... وتصبر عند الحادثات تكرّما
وتألم من طول الصّدود ولا ترى ... لدى الحرب من مسّ الحديد تألمّا
وتهجر في نيل المعالي منامها ... وتتّخذ المكروه للفخر سلّما
(1/100)
________________________________________
فتدرك ما تبغي من الحظّ سالما ... ولو كان خلف البحر والبحر قد طما
وما هي إلا رفعة عمريّة ... إلى ذروة العليا بها المجد قد سما
فإن صعد الأملاك بالإرث منبرا ... فمنبرنا أعلى وأكرم منتمى
وآباؤنا في الملك والبأس والندّى ... تداولها الوراخ عربا وأعجما (1)
ولا فخر والأعداء تشهد أنني ... أجيء وغاها مسفرا متجهّما
وأقدم والأبطال يبصر وجهها ... هناك عبوسا منكرا متغيّما
فكم قائل لي في الرّياس (2) وغيره ... وصدر القنا في القوم أوردتّه دما
[28/ب] وللنّصر سيف من يميني مؤيّد ... فيقطف أرواحا ويحطم أعظما
وكم واديا بدّدت فيه سراتهم ... وخلّفت ذاك الماء ماء محرّما
فإن تجهل الحرب الزبون سكينتي ... فتعرفني (3) مهما حططت التلثّما
_________
(1) هكذا في الأصلين: الورّاخ، مشكولة بضم الواو وتشديد الراء.
(2) فيهما: في الرياس.
(3) كذا فيهما.
(1/101)
________________________________________
جواد الوغا والفخر والذكر حقّه ... لمثلي من دون الورى أن يفخّما
وإني أمير المؤمنين متوّجا ... من الملك تاجا بالأمانة كرّما
جعلت بمجدي ثم لفظي وصارمي ... فخاري بجيد الدّهر درّا منظّما
يراه ولا يرقى إليه معاند ... ويبصره كالنّجم في كبد السّما
بنينا بناء الملك والعزّ والعلا ... سماء على بنيان قوم تهدّما!

ابنه أمير المؤمنين أحمد (*):
[كنيته:]
يكنى أبا العبّاس، وأدركته. وكان أبوه أمير المؤمنين المتوكل على الله أبو يحيى اقتطعه (1) مدينة توزر (2)، وولاه عهده، وصحبت بفاس في حضرة الملوك من بني مرين ابنه الأمير أبا عبد الله محمد، وابنه الآخر الأمير أبا البقاء خالدا.

حاله-رحمه الله:
برز في الجمال الرائع، وحاز من الفصاحة ما تستغربه المسامع. وكان من
_________
(*) انظر معجم الأنساب والأسرات الحاكمة:116.
(1) في النسختين: اقتطعه.
(2) توزر: مدينة في أقصى إفريقية (بلاد تونس) من نواحي الزاب الكبير من أعمال الجريد (ياقوت-معجم البلدان 2:57 - 58).
(1/102)
________________________________________
مجيدي الشّعراء، ومن أولي الشجاعة في الأمراء، مع ما حوى من مكارم الأخلاق المرضيّة، ومن الشيم التي لم تزل من القبائح بريّه (1)
أنشدني له ابنه صاحبنا الأمير محمد في أخذه توزر:
بالمشرفيّات يحمى المجد والشّرف … ومن صدور المعالي تقتنى الطّرف
وللفتوح رياضات مزخرفة … لكنّها برقاق البيض تقتطف
[29/أ]
وفي حياة أمير المؤمنين أبي … يحيى أبينا سعود مالها طرف
حزنا الخلافة إرثا عن أوائلنا … فالملك متّلد فينا ومطّرف
لا يبلغ الوصف في عليائنا أحد … إلاّ وسؤددنا فوق الذي يصف
ناهيك من حسب ما مثله حسب … وكيف لا وأبو حفص لنا سلف؟
تخالف النّاس إلا في مفاخرنا … وفي المعالي ما شكّوا وما اختلفوا
حمى الشريعة منا سعي مجتهد … فليس بالدّين لا حيف ولا جنف
فينا التّواضع والإغضاء شيمتنا … والعفو والصّفح من أبنائنا عرفوا
ورأفة في جناب الله صالحة … فلا ترانا لغير الحقّ ننتصف
تواضعا عظمت في النّاس هيبته … إنّ التواضع في أنف العلى أنف
نهوى الحروف التي مجموعها نعم … وليس في لفظنا لام ولا ألف (2)
ما إن بنا سرف إلاّ مواهبنا … إنّ المواهب فيها يحمد السّرف
لبأسنا يرعد الصّمصام من رهب … يوم الوغى ووشيج الرمح ينعطف
_________
(1) بريئة.
(2) يتضمن البيت معنى قول الحزين الكناني (وينسب للفرزدق):
ما قال (لا) قط إلا في تشهده ... لولا التشهد كانت لاؤه نعم
(1/103)
________________________________________
سيوفنا من تمادي سلّها نحلت … حتّى كأنّ بها من عشقها دنف
وما ارتضينا عديد الجيش يكنفنا ... بل الجيوش بنا في الحرب تكتنف
جيش تضيق به الغبراء متّسع … فالأرض ترجف والأطواد تنتسف
من الفوارس طعّانين إن وقفوا … يوم الكريهة ضرّابون إن وقفوا
بكل هنديّة رقّ الغرار بها … وكلّ خطيّة قد زانها هيف
يقودها النّصر خفّاق ذوائبه ... إذ ليس إلاّ بريح العدل ينعطف
حتى أطل (1) على سكّان توزر لا ... يمحيهم منه سور لا ولا كنف
ظنّوا الحفير (2) حفيرا مانعا لهم ... حتى رأوا سمعها عزما وهم هدف
[29/ب]
تواقعوا فيه أمثال الفراش ردّى … كأنّهم بأكفّ الجنّ قد خطفوا
لكن عفونا أدناه اعترافهم … والعفو أطيب ما يجنيه معترف (3)
نعفو ونصفح عن عزّ ومقدرة … فإنّ خير السّجايا الحلم واللّطف
أطاعت العرب لمّا أوردت حللا … وإنّ أرواحها بالذّعر تختطف
لاذوا بخدمتنا في ظلّ حرمتنا ... قسرا (4) وعند التلافي يؤمن التّلف
_________
(1) في الأصلين: أطال، وهو تحريف.
(2) فيهما: ظنوا الحفير حفير مانع لهم.
(3) فيهما: لكن عفوا.
(4) في الأصل: قصرا (بالقاف)، ولعله كما أثبت.
(1/104)
________________________________________
يا سعد متبّع آثار دولتنا … وسوء عقبي شقيّ عنه ينحرف
ويا طلاقة فتح في أسرّته … رذاذ نور به الآفاق تختلف
فتوزر اليوم ما للسّعد منفرج ... عنها ولا لعديد النّصر منصرف
ونعمة عمّت الأقطار سابغة … وجدّدت لذوي الآمال ما ألفوا
دامت إيا لتنا العلياء في سعة ... فالسعد والشمل بالأحباب مؤتلف
ولا برحنا طويل العمر في دعة … وللخلافة (1) من أبنائنا الخلف

أخوه لأبيه أمير المؤمنين الناصر
لدين الله المنصور بفضل عمر (*)
[كنيته:]
يكنى أبا حفص. وأدركته وهو ملك تونس. وصحبت بفاس ابنه الأمير محمدا.

حاله رحمه الله تعالى:
هو الملك المنصور، والأسد المسلّط الهصور. والكميّ المنجّد، والبهمة الأريحي الممجّد. ممهّد الإمارة العمريّة، ومشيد منار المملكة الحفصيّة. صمصام الدولة، المرهوب البأس والصولة.
أنشدني له ابنه صاحبنا أبو عبد الله محمد-أعزه الله-[30/أ] وقال إنه قالها بديها بين يدي أبيه أمير المؤمنين المتوكل على الله أبي يحيى، يخاطب
_________
(1) في النسختين: ولا الخلافة، وهي تحريف.
(*) معجم الأنساب والاسرات الحاكمة:116 وإتحاف أهل الزمان لابن أبي الضياف 1:173.
(1/105)
________________________________________
أباه المتوكل لمّا سيق له رأس المعزّ بن مظاعن العربي، وكان الذي ساقه أخوه أمير المؤمنين أحمد بن المتوكل أبي يحيى:
ليهنك أنّ الله فوقك مالك … ودونك كلّ المالكين عبيد
وأنّك سرّ الله فينا وأنّنا … فروعك ينمي فضلها ويزيد
وكان بيني وبين ابنه الأمير أبي عبد الله محمد وداد عظيم بفاس في حضرة الملوك من بني مرين. وكان المطر قد حال بين لقائنا أربعة أيام فكتب لي بقوله:
وحياة حبّك إنني … مذ غبت لا أدري المنام
لي ما رأيتك مدة … فكأنما هي ألف عام
لا بدع إن حجبتك هـ‍ … ذي السّحب يا بدر التّمام (1)
والدهر من عاداته … أن يحجب البدر الغمام
فجاوبته بقولي:
يا أيها الخلّ الذي … أرعاه ما بين الأنام
وصلت إلينا قطعة … تنبي بقطعك للمنام
فظفرت منك بتحفة … قد جدّدت فرط الغرام
فكأنّها إذ أقبلت (2) … تفترّ عن زهر الكمام
فطمحت نحو جوابكم … رعيا لودّك والذّمام
فوجدت شعري قاصرا … عن شكر ودّك والسلام
فالنظم لا يسطيع أن … يحصي أياديك الجسام
لا زلت في عزٍّ وفي … عيشٍ هنّيٍ مستدام
_________
(1) في الاصلين: هذا السحب.
(2) فيهما: إذا أقبلت.
(1/106)
________________________________________
[30/ب]

أمير المؤمنين المستنصر بالله محمد بن الأمير أبي زكريا يحيى بن
أمير المؤمنين المتوكل على الله أبي يحيى (*):
[كنيته:]
يكنى أبا عبد الله. وأدركته ورأيته وهو ملك بجاية. وصحبته بفاس في حضرة الملوك من بني مرين حين خلعه أمير المؤمنين المتوكل على الله أبو عنان ملك المغرب عن ملكه ببجاية. وكان يظهر لي من الوداد ما جلّ عن الوصف.

حاله-رحمه الله تعالى-
طلع في سماء الإمارة بدرا. وسما بنسبه العربي قدرا. وفاق ببارع جماله كما ساد بحظه وإجماله. وظهر له من العطاء ما أنسى به الطّائي، ومن الشهامة ما أذهلت القريب والنائي، ومن الفصاحة ما أسكتت الغائب والرّائي.
عزم على ظهور ملكه فخانه جدّه، ولم ينفعه حزمه وجدّه. بل سطا الدّهر به سطوة حاقد، ونبّه له جفنه الرّاقد. ففتك به ابن عمّه، واحتزّ رأسه عن جسمه.
أنشدني لنفسه في العتاب:
لمّا وقفت على حقيقة أمركم … وعلمت أنّ الودّ فيك مضيّع
وجعلت جلّ وسائلي حبّي لكم … ورأيت أنّ وسائلي لا تنفع
أنشدت فيك معزّيا بل ساليا … وجميل صبري للشدائد يرفع:
«إنّي وهبتك للذّين تحبّهم … هبة الكرام فإنها لا ترجع!»
_________
(*) معجم الأنساب والأسرات الحاكمة:116
(1/107)
________________________________________
صاحبنا الأمير زكريا بن أمير المؤمنين أبي محمد عبد الواحد
ابن أمير المؤمنين، القائم بأمر الله المنصور بفضل الله أبي يحيى زكريا بن أحمد بن الأمير أبي محمد عبد الواحد بن الشيخ أبي حفص الموحّد.

[كنيته:]
يكنى: أبا يحيى، ورأيته [31/أ] وصحبته بفاس في حضرة الملوك من بني مرين.

حاله-أعزه الله-
حاز من العلوم أوفر نصيب. وسهم تفننّه فيها مسدّد مصيب. وجنى بحفظها ثمر غرسها. وأشرق له وجه انقيادها وبهاء شمسها. فلو أبصره إياس لبات من ذكائه على ياس. ولو أدركه القعقاع بن شور، وابن مامه (1)، لسلّما له في الجود، وحفظ ذمامه. وفي إن وعد، وصادق إن عهد غير متكّبر على صاحبه، ولا متأبّ له عن توفية مأربه.
أنشدني لنفسه:
تقض؟ ظلوعي كلما حنّت الحشا … عليك وأنفاسي إليك تميل
وبالقلب منّي حرقة وصبابة … يفكّر منها عروة وجميل! (2)
_________
(1) القعقاع بن شور الذهلي كان إذا جالسه واحد بالقصد إليه جعل له نصيبا من المال. وكعب بن مامة يضرب به المثل في الجود.
(2) عروة بن حزام وجميل بن معمر من مشهوري عشاق العرب.
(1/108)
________________________________________
الباب الخامس
في شعر ملوك بني زيّان من بني عابد الوادي وأبنائهم (*)
_________
(*) دولة بني عبد الوادي (عابد الوادي) أو دولة بني زيان، إحدى الدول الثلاث الرئيسة التي استغلت ضعف دولة الموحدين-بعد هزيمة العقاب-وظهرت في المغرب الأوسط. وهم من زناتة مثل بني مرين؛ ووطنهم الذي انتشر وافيه هو المغرب الأوسط، وعاصمتهم التي اتخذوها مركزا طوال مدتهم هي مدينة تلمسان. وكانوا-أيام الموحدين- موالين لهم، داخلين في جماعاتهم وجنودهم، ثم استقلوا بين دولتي بني مرين غربا وبني حفص شرقا. وبدأت دولتهم مع أوائل القرن السابع، واستمرت-بين مد وجزر-إلي أواسط القرن العاشر. ونظرا لتوسط هذه الدولة بين دولتين طامعتين في التوسع شرقا وغربا، وبسبب ظروف متعددة أخرى، عاشت دولة بني زيان في حروب معها، ونشبت في داخل الأسرة الحاكمة خلافات طالما أذكاها المرينيون أو الحفصيون. وقد أثرت الخلافات بين هذه الدول على جدية دور المغرب في الجهاد في الأندلس. وكان يغمر اسن بن زيان هو أول من أثل دولتهم، واستقل بها، واتخذ تلمسان حاضرة. (راجع في ذلك: بغية الرواد ليحيي بن خلدون، وروضة النسرين لابن الأحمر-وهو مغال في ذكر مثالبهم-، وتاريخ ابن خلدون «العبر»، ورقم الحلل لابن الخطيب، والاستقصا للناصري).
(1/109)
________________________________________
أمير المسلمين المتوكل على الله موسى بن يوسف
ابن عبد الرحمن بن الأمير يحيى بن أمير المسلمين يغمر اسن بن زيّان.

[كنيته:]
يكنى: أبا حمّو، وأدركته، وهو الآن ملك تلمسان (*).

حاله-أكرمه الله-
هو الملك الذي ابتهجت بدولته الإمارة، والهمام الذي لم تزل فيه لحفظ المجد الأمارة. تمسّك بالعلم فسما في سماء المعالي، وتحلّى بالحلم فعلا على المعالي. وبرع في نظم القريض، وجمع نور روضه الأريض. وجاز من الشرف بذلك، ما أنسى به شرف كلّ مالك. وعقله عقل به جماح الأمور، وبهاؤه بذكره الرّكبان [تدور؟] (1).
فمن قوله-وهي من النّظم الحسن-[31/ب] وجدت مكتوبة في حائط قصره، حين خرج (2) فارّا من تلمسان أمام أمير المسلمين أبي فارس عبد العزيز بن أمير المسلمين علي بن أمير المسلمين أبي سعيد عثمان بن أمير المسلمين أبي يوسف يعقوب بن عبد الحقّ (3):
_________
(*) أبو حمو الثاني من مشهوري أمراء بني زيان. ترجم له ابن الأحمر في روضة النسرين، وقلب ما أثبته له هنا من فضائل ومكارم (54 - 58)، وهو في ذلك يصدر عن رأي السلطة المرينية التي كان في ظلها. (وانظر تفاصيل أخباره أيضا في تاريخ ابن خلدون «العبر» 7:122، وبغية الرواد ليحيى بن خلدون ج 2).
(1) في الأصلين رسم يشبه (تبور).
(2) كان خروج أبي حمو أمام جيش عبد العزيز المريني في 14 محرم سنة 772، ولم يطل ذلك، فلم يلبث أن عاد إلى تلمسان في 25 محرم، (وقيل يوم عاشوراء).
(3) قال في روضة النسرين إن الأمير المريني أبا فارس عبد العزيز أمر بتغييرها، فقالوا في تبديلها:
سكناها ليالي خائفينا ... وأياما تسوء الناظرينا
بناها جدنا شيخ المعاصي ... وكنا نحن شر الوارثينا
فلما أن جلانا السيف عنها ... تركناها لقوم غالبينا
(1/110)
________________________________________
سكنّاها ليالي آمنينا … وأيّاما تسرّ النّاظرينا
بناها جدّنا الملك المعلّى … وكنّا نحن بعض الوارثينا
فلما أن جلانا الدهر عنها … تركناها لقوم آخرينا!

صاحبنا الأمير الحاج يوسف بن عمر بن يعقوب
ابن الأمير عامر بن أمير المسلمين يغمراسن بن زيّان.
[كنيته:]
يكنى: أبا يعقوب. ورأيته، وصحبته بفاس، في حضرة ملوك بني مرين. وارتحل إلى المشرق فحجّ وقفل إلى المغرب. وقد تبرّع (1) في العلوم حتى جاء نسيج وحده. فلما بلغ إلى جهة بسكرة (2) من بلاد الزاب بايعه من هنالك من الأعراب، وقدموا به ملكا إلى بسكره، فوقع بينه
_________
(1) كذا فيهما: بمعنى: برع.
(2) بسكرة: ذكرها صاحب «الاستبصار في عجائب الأمصار:173» وتحدث عن مركزها الزراعي والحضاري وظهورها في مدن الزاب وقراه. ونقل ياقوت «في معجم البلدان» عن الحازمي أنها تضبط بكسر الباء والكاف، وعن غيره بفتحها؛ وقال: فيها نخل وشجر وقسب جيد. وكانت بسكرة مركزا رئيسا في دولة الموحدين، ثم تنازعها الحفصيون ومتغلبون من بني زيان وبعض القبائل العربية المنتشرة. وحصلت في أيدي بني مزني مددا من الزمن في القرنين السادس والسابع. وفي عهد أبي عنان المريني ظهر يوسف بن مزني الذي شايع المرينيين فعقد له أبو عنان على بسكرة عاصمة بلاد الزاب وما يلحق بها من بلاد ريغة وواركلي. قال ابن خلدون في تاريخه (6:412) إنه قام بالأمر بعد يوسف ابنه أحمد «وهو لهذا العهد-وقت تأليف ابن خلدون كتابه-أمير على الزاب بمحل أبيه من إمارته». وبسكرة اليوم من مدن القطر الجزائري، ولا زالت تحتفظ بأهميتها الزراعية والتجارية.
(1/111)
________________________________________
الحرب وبين أميرها أبي يعقوب يوسف بن مزني (1). ثم قبض عليه وسيق لابن مزني، فعفا عنه، وخلّى سبيله. ثم خرج بجهة المديّة (2) على ابن عمه أمير المسلمين المتوكل على الله أبي حموّ ملك تلمسان (3)، وبويع هناك. ثم تخلّى عن الأمر من غير منازع، وقصد إلى ابن عمه أبي حمّو المتوكل على الله فخيّره (4) أن يقيم معه بتلمسان، أو يعبر البحر إلى الأندلس، فاختار الأندلس. فعبر البحر إليها، واستقرّ بغرناطة؛ فأحسن نزوله ابن عمّنا أمير المسلمين الغني بالله أبو عبد الله محمد المخلوع. ثم عبر البحر إلى العدوة فاستقر بحضرة ملوك بني مرين من فاس، فأكرم مثواه أميرها أمير المسلمين أبو فارس عبد العزيز. ثم ارتحل عنها وقصد إلى جهة سجلماسة، فبويع هناك، وأقام أشهرا ملكا، وقتل رحمه الله.

[32/ أ] حاله-رحمه الله تعالى-:
هو علم الأملاك، وواسطة الأسلاك، وإنسان عين المفاخر، المتلفّع من الدين بردائه الفاخر. قرأ العلوم ودرسها، وشيّد الفضائل وأسسها. وحصل من علم الحدثان على طائل. وحاز من الفصاحة ما أسكت به الأواخر والأوائل.
وتحلّى في منصّة الجمال وحيدا، وترفع في مراقي الكمال صنديدا.
أنشدني لنفسه-رحمه الله-:
رعى الله أيّاما تقضّت وحيّاها … بأنس حبيب كان أنس محيّاها
وردّ ليالينا التي سلفت لنا … وحيّى فؤادا لا يملّ لذكراها
_________
(1) راجع أخبار بني مزني في تاريخ ابن خلدون 6/ 405 - 412.
(2) المدية: مدينة تقع الآن في القطر الجزائري.
(3) أبو حمو سلطان الزيانيين ومعيد رسوم دولتهم-سبقت الإشارة إليه في أول هذا الباب-.
(4) هكذا فيهما.
(1/112)
________________________________________
وحيّى الرّبوع الدارسات بفقد من ... تملّك قلبي والحشاشة أفناها!
وكانت ليالينا ينافرها الكرى ... فعاد الكرى من بعد ذا يتلافاها
5 ليال قطعنا الوصل عذبا بقربها ... فواحسرتا ما كان ألطف معناها
تملّك قلبي قلب هيفاء إذ هفا ... بتذكارها يوما، دعته فلبّاها
فلولا محيّاها لما صرت مغرما ... ولا صار قلبي-للصّبابة-يهواها
ولا سكبت عيناي منّي دموعها ... ولا ذقت فرط الحبّ والوجد لولاها
فقد صار قلبي مستهاما بحبّها ... وعاد فؤادي والها يتمنّاها
10 ولما أتى حادي رحال نياقها ... سباني لمّا أن حدا بمطاياها
سرت حين سرّت عن فؤادي همومه ... وأودى بقلبي شوقها عند مسراها
وصرت حزينا ذا غرام وذا ضنى ... أسائل عنها رندها (1) وخزاماها
_________
(1) في الأصلين: زندها.
(1/113)
________________________________________
فيا سائلي عن شرح حالي أما ترى ... نحولي وسقمي والدّموع ومجراها
لقد خطّت الآماق من فوق وجنتي ... سطورا فمن شاء الحقيقة يقراها
فلا تكثروا فيها الملام فإن لي ... فؤادا على طول النّوى ليس ينساها!

صاحبنا الأخلص محمد بن الأمير أبي سرحان مسعود:
ابن أمير المؤمنين العادل بالله أبي تاشفين عبد الرحمن بن أمير المسلمين أبي حمّو موسى ابن أمير المسلمين عثمان بن أمير المسلمين يغمراسن بن زيّان (*).

[كنيته:]
يكنى: أبا زيّان. ورأيته، وصحبته بفاس، في حضرة الملوك من بني مرين.

حاله:
هو صاحبنا الصفيّ، وخليلنا الوفيّ، المظهر لنا من الوداد أطيبه، والواهب من الاعتقاد أعذبه. الخالص صفاؤه من الأكدار، الموفي حقوق الصّحبة بالابتدار. والذي نجم في المعالي فساد، ولم يدنسه درن الفساد.
كنت قد بعثت له بأبيات من قولي، طالبا منه أن يبعث لي بشعر أثبته في كتابنا: المنتخب من درر السّلوك في شعر الخلفاء الأربعة والملوك، وهي:
قرّت (1) بفضلك ألسن الأعداء ... يا ابن الملوك ذوي التّقى الفضلاء
_________
(*) ورد ذكر أبيه مسعود في جملة الذين قتلوا في حملة أبي الحسن المريني على تلمسان سنة 635، حيث كان جده أبو عثمان عبد الرحمن هو الأمير، صاحب دولتهم.
(1) قرت: في الأصلين.
(1/114)
________________________________________
انت الذي حزت الشّجاعة والنّدى ... وعلاك أربى فوق كلّ علاء
أبشر فقد لاحت طلائع ملككم ... واهنأ بملك شامخ، وبقاء
إن الإمارة لا تفوتك، إنها ... تأتيك دون توقّف وتناء
أنت المراد بها لما قد حزت من ... فضل وإحسان وحسن ثناء
ندب نمته من الخلائف عصبة ... أكرم بها من عصبة غرّاء
شهم إذا ما الحرب شبّ ضرامها ... يمشي إليها مشية الخيلاء
يحكي إذا ما لاح نور جبينه ... شمس الضحى والبدر في الظّلماء
راقت محاسنه وطاب ثناؤه ... وهو المعظّم في بني العظماء
[33/أ]
كم حاز في يوم الوغى من مفخر ... وفضيلة جلّت عن الإحصاء
(1/115)
________________________________________
يا ابن الأمير القرم مسعود الرّضا ... وأخا السّماح وفارس الهيجاء (1)
ابعث إليّ قريضك الحلو الذي ... حاكى رياض الحزن غبّ سماء (2)
واعلم بأنّي فيك ذو وجد لما ... بيني وبينك من لزوم إخاء
أنت ****** المخلص الفذّ الذي ... يرعى المودّة في بني الأمراء
فرياض ودّي مخصب جنباته ... وجميل عهدي مشرق الأرجاء
خذها أبا زيّان مني قطعة ... غرّاء ذات طلاوة وبهاء
وعليك منّي ما حييت مجدّدا ... أزكى التحيّة خصّصت بنماء
فجاوبني بقوله:
لله ما بلغت في الإطراء … وبثثت من ودّ وطيب ثناء (3)
فاتحتنا بالمدح نظما حاز من … حسن حواه كواكب الجوزاء
مالي يدان بشكر تلك أياديا ... يا مسدي النّعمى لغير جزاء
_________
(1) القرم: السيد.
(2) في القاموس: الحزن ما غلظ من الأرض، وموضع فيه رياض وقيعان.
(3) فيهما: بلغت بالتضعيف. قلت والأقرب أن تكون: بالغت.
(1/116)
________________________________________
أنت ****** المحض أنت أخو النّدى ... أنت الأمير ووارث الأمراء
أنت الذي ما تحت خضراء السّما … ملك سواك أحقّ بالحمراء! (1)
فلتسم إسماعيل ذروة نيقها … ولتقطعنّ أزاهر العلياء (2)
ولتقعدنّ على مراتب ملكها … تبعا إلى الأجداد والآباء
أبا الوليد نداء مشغوف بكم … كلفا بذكراكم مدى الآناء
ماذا بعثت لنا؟ أزهر يانع … أم زهر أفق لحن في الظلماء
أم لؤلؤ رطب تناسق نظمه … في جيد باهرة السّنا غيداء
أم ذلكم حرّ الكلام وعذبه … وبليغه (3) المزري على البلغاء
من ذا يجاريكم لدى ميدانه … ولكم به حوز السّباق النّائي؟
[33/ب]
أيصحّ عند ذوي البصائر والنّهى … أن تقرن الأنعام بالشعراء؟
عذرا فمثلك من تسامح مغضيا … يا ذا المحيّا السّمح والإغضاء
وإذا تحققّت المودّة من أخ … سقط التكلف، شرعة الفضلاء
فانظر بعين رضاك عيب نظامه … واخفض جناح مذلّة الرّحماء
واكتبه، بل فاكتمه خيفة حاسد ... لي أن أرى في جملة الشّعراء!
...
_________
(1) يتقارض الأميران النصري والعبد الوادي الثناء، ويتبادلان التمنيات الطيبات. وليس من شك في أن ابن الأحمر-صاحب الكتاب-لم يخطر له أن يتقلد أمور الحمراء على أي وجه، وإنما هو الشعر وخواطره.
(2) النيق-بالكسر-أرفع موضع في الجبل ج نياق وأنياق ونيوق.
(3) فيهما وبلغية «وهو تصحيف».
(1/117)
________________________________________
الباب السادس
في شعر ملوك بني العز في وأبنائهم (*)
_________
(*) بنو العز في أسرة مشهورة من أعيان مدينة سبتة وعلمائها والمستقلين بها. وهم ينتمون إلى لخم في اليمن. وأول من كان له شأن في السلطة منهم أبو القاسم محمد بن أبي العباس أحمد. وكان أبو القاسم في زمانه-كما قال ابن خلدون-كبير المشيخة بسبتة، وعقد له المرتضى الموحدي على سبتة ينفرد بحكمها في خبر طويل سنة 647 هـ‍. وبقيت المدينة تحت نظر آل العزفي إلى أن احتلها أبو سعيد فرج صاحب مالقة، من بني الأحمر، ونقل بني العزفي إلى غرناطة، وضم سبتة إلى دولة بني الأحمر. وكان احتلالها في جملة لواحق المنافة والخلاف بين بني مرين وبني الأحمر، وكان العزفيون قد دخلوا في طاعة يعقوب المنصور المريني، وأخذت منهم سبتة في زمن خليفته يوسف. وعاد العزفيون إلى المغرب بعد انتهاء الخلافات المرينية الغرناطية، وعقد أبو سعيد المريني لأبي زكريا يحيى بن أبي طالب عبد الله العزفي-حفيد أبي القاسم-على سبتة، وبقيت في طاعته حتى توفي في خبر متشعب. وخلفه ابنه محمد الذي لم تدم دولته طويلا، وانتهت مكانة أسرتهم السياسية على يده. وقد انتشر بنو العزفي في فاس على الخصوص، وسبتة وغرناطة، وبقي لهم ذكر وصيت في علوم الشريعة واللسان وغيرهما. (راجع ابن خلدون ج 7 والاستقصا للناصري ج 3).
(1/119)
________________________________________
الأمير محمد بن الأمير يحيى:
ابن الأمير أبي طالب عبد الله بن الأمير أبي القاسم محمد بن الفقيه القاضي الإمام المجتهد أبي العبّاس أحمد بن القاضي الخطيب محمد اللخمي العزفي (*).

[كنيته:]
يكنى: أبا القاسم؛ وأدركته، ورأيته بفاس في حضرة الملوك من بني مرين وهو ملك مدينة سبتة، وابن ملوكها.

حاله-رحمه الله-:
نال إمارة قومه بسبته، أشهرا ستة. وقام عليه أحد بني عمّه، فخلعه عن ملكه وحكمه، فاستقرّ ببلادنا الأندلسيّة، في كنف دولتنا الأحمريّة النصرية. فنال بها جاها مكينا عند أمير المسلمين إسماعيل (1) عمّ أبينا. ثم قوّض عن الأندلس الرّحال. واستقرّ بالعدوة، ولم يكن له عنها انتقال إلى أن أتته بها المنيّة فألقت عليه رداها، وانصرمت أيامه وسقته رداها.
وكان في الآداب يمّا لا يسبح؛ بنظم القصائد التي هي أصبح من الخرائد وأملح. [34/أ] مع قوّة نفس في استخراج معمّيات الأدب، ومعرفة بالتّاريخ، ومشاركة في فنون شتّى من الطلب.
أنشدني لنفسه، طالبا من بعض الأعلام الرّبّ بالراء المهملة:
قل لأبي يحيى لنا حاجة … بالرّبّ من صنعة أربابه
فابعثه لي صرفا بلا نقطة … تكن أتيت الفضل من بابه
ودعه إن كانت به نقطة ... فأنت للحاجة أولى به
_________
(*) هو آخر من حكم مدينة سبتة من بني العزفي. تولى السلطة بعد أبيه أبي زكريا يحيى ولكنه «لم يستقم له حال» كما قال فيه الأستاذ كنون في أثناء ترجمته عمه أبي العباس فأخره السلطان أبو سعيد، وكان ذلك نهاية رياسة بني العزفي بسبتة (تاريخ ابن خلدون -أبو العباس العزفي للأستاذ عبد الله كنون).
(1) الأمير النصري إسماعيل بن فرج، حكم غرناطة ما بين 713 - 725.
(1/120)
________________________________________
وأنشدني أيضا لنفسه يخاطب. . . (1):
يا ماجدا ما جئته في حاجة … إلا وكان له الكريم المفضلا
ومؤمّلا مهما شكوت بواقع … داوى ولو ألفاه داءّ معضلا
وأنشدني أيضا لنفسه، يداعب:
بالله خبّرني وكن صادقا … هل نلت شيئا ليلة البارحه
أو كنت أيضا عاجزا قاصرا … ولم تقم منك لها جارحه
وحالة المرء بلا حيلة … ليست لعمري حالة صالحه!

ابنه صاحبنا محمد-سلمه الله-:
[كنيته:]
يكنى: أبا يحيى، ورأيته، وصحبته بفاس، في حضرة ملوك بني مرين (*).
حاله: ظهر بمفخره الإماريّ على الظّهراء، وسما بمحتده العربيّ على النظراء، وساد بشرفه العلميّ في بني الأمراء، وله همّة عالية، ونفس عن محبّة الفخر غير آبية.
أنشدني لنفسه يمدح أمير المسلمين أبا فارس عبد العزيز بن أمير المسلمين أبي الحسن علي بن أمير المسلمين أبي سعيد عثمان بن أمير المسلمين أبي يوسف يعقوب بن عبد الحق بمدينة [34/ب] تلمسان، حين دخلها أمير المسلمين أبو فارس عبد العزيز مالكا لها، وفرّ أمامه منها أمير المسلمين المتوكل على
_________
(1) فراغ في الأصلين.
(*) هو أبو يحيى محمد بن أبي القاسم محمد بن بن أبي زكريا يحيى.
(1/121)
________________________________________
الله أبو حمّو موسى بن يوسف بن عبد الرحمن بن الأمير يحيى بن أمير المسلمين يغمراسن بن زيان إلى الصحراء (1):
حنّ المشوق إلى ديار أحبّته … فسقى الثرى شوقا لذاك بدمعته
واهتاجه وجدا هبوب نسيمها … لمّا سرى يهديه طيب تحيّته (2)
وشجاه تذكار العقيق وبانه … وعهود تأنيس بظل أثيلته (3)
لله منّا طيب عيش قد مضى … يا ليت لو سمح الزّمان بعودته
فلكم بلغت من السرور به منى … ولكم نعمت بطيبه وبلذّته
مع جيرة بانوا وما تركوا سوى ... قلب لفرط الشوق هام بسكرته
لم يودعوا يوم الوداع سوى البكا ... فيه وصلت نهاره مع ليلته
أترى الزّمان يجود لي بوصال من ... أهوى فأحسبه له من نعمته
أو من سبيل للورود بزمزم ... كي ينقع الصّادي لواعج غلّته
أو من سبيل للحلول بطيبة ... يقضي بها المشتاق أقصى منيته
حيث النبيّ الهاشمي محمد … أسنى عباد الله خير بريّته
اختاره الله العظيم وخصّه … في الأنبياء بعزّه وبحظوته
_________
(1) انظر تفاصيل هذا الخبر في تاريخ ابن خلدون 7:132 - 135.
(2) في الأصلين: واهتازه (بالزاي بدل الجيم).
(3) الأثيلة تصغير: الأثلة، واحدة الأثل.
(1/122)
________________________________________
وحباه بالقرآن أعظم آية … رفع الشكوك يقينه عن ملّته
والبدر شقّ إليه لمّا أن بدا … والأيك جاءت في المقام لدعوته
والجذع حنّ إليه شوقا بعد أن … قد ناله ما ناله من فرقته
وكذاك سكّن روع ظبي عندما … وافى إليه مفصحا بشكيّته
وأباد ملك الفرس صادق وعده ... فأذلّ كسرى وهو فوق أسرّته
[35/أ]
والنار أخمدها الإله لبعثه … فأزاح من زيغ الضّلال وشبهته
هذا هو الفضل العظيم فمن يلذ ... بجنابه نال المفاز بجنّته
يا ربّ عفوك عن عبيد مذنب ... يرجوك تغفر ما قضى من زلّته
فارحم لديك خضوعه وأنله ما ... يرجوه من سر (1) المزار ودعوته
بمقام خير الخلق هاديهم إلى ... طرق الرّشاد بفرضه وبسنّته
فبجاهه نرجو المفاز غدا إذا ... أضحى المسيء هناك رهن خطيّته
صلّى عليه الله ما هبّت صبا … أو ما تغنّى ساجع في أيكته
وأمدّ بالنّصر العزيز إمامنا … عبد العزيز المرتضى من أمّته
ملك حمى دين الهدى سلطانه … وأذلّ دين الكفر قاهر عزّته
_________
(1) كلمة (سر) أقرب ما يقرأ في الأصلين.
(1/123)
________________________________________
فهو الكريم الماجد الشهم الذي … تعنو الملوك له مخافة سطوته
قد حاز أمر الملك عن آبائه … وهو الكفيل له برعي أذمّته
ما شئت من خلق كأزهار الرّبا … إذ جادها صوب الغمام بديمته
تبدو عليه من أبيه شمائل … في بذل نعماه، وعالي همّته
. . . (1) للعطاء لرفده … لله منك، مؤيّد في دولته
حكمت سعودك بالّذي أمّنت من … تمهيد هذا القطر أو من هدنته
والأعور الأشقى إليك يساق كي … يسقى بكأس حمامه ومنيّته (2)
إنّ كان للصحراء وجّه وجهه ... لا بارك الله له في وجهته
الأمر أمرك لا يخالف حكمه ... والقطر قطرك قد دعاك لنصرته
مولاي يا عبد العزيز ومن غدا ... بذل النّدى بين الورى من شيمته
[25/ب] وافاك ميلاد النبيّ محمّد ... بزيارة أكرم به وبزورته
فاخلد ودم ما أصبحت أمداحه ... يسري لها حادي الرّكاب [] (3)
ما رنّمت فوق الغصون حمامة … أو حنّ مشتاق. . لذكرته (4)
_________
(1) بياض في الأصلين.
(2) قال ابن الأحمر في صفة أبي حمو (روضة النسرين:55) إنه كان أبيض، وفي عينه اليمنى نكتة بياض. ولعل هذا هو ما ينبزه به الشاعر هنا.
(3) لم يتم البيت في الأصلين.
(4) هكذا ورد البيت وفيه سقط كلمة.
(1/124)
________________________________________
الباب السابع
فيما بلغنا من شعر كتّاب قومي بني الأحمر ملوك الأندلس
ذو الوزارتين (*) الفقيه الكاتب صاحب القلم الأعلى (1)
علي بن محمد بن سليمان بن الجيّاب الانصاري:
[كنيته:]
يكنى: أبا الحسن، وأدركته، وهو من أهل غرناطة من صدور أعيانها
_________
(*) أبو الحسن علي بن محمد بن الجياب كاتب، وشاعر، من أشهر كتاب الدولة النصرية (673 - 749) خدم عددا من أمراء الدولة النصرية فكتب لهم وترقى في المناصب وحاز من الثقة حتى صار رئيس كتاب الحضرة. وكان شيخ طلبة الأندلس في زمانه رواية وتحقيقا ومشاركة في كثير من العلوم والفنون، ووصف بأنه كان قائما على العربية إماما في الفرائض والحساب عارفا بالقراءات متبحرا في الأدب والتاريخ مشاركا في التصوف. وعليه تتلمذ لسان الدين بن الخطيب وزير الأندلس وكاتبها بعده. له ديوان شعر محفوظ في دار الكتب المصرية، وفيه ما يدل على أنه عن أصل الديوان الذي قال لسان الدين إنه صنعه، كقوله: «وقال (ابن الجياب) يجاوبني عن قصيدة في الروي» الورقة 64 منه، وذكر لسان الدين القصيدتين في كتابه «الكتيبة الكامنة» 185 - 188. (ترجمته في: نثير فرائد الجمان:239، والكتيبة الكامنة:183، والديباج المذهب:207 ونيل الابتهاج:402 ودرة الحجال 2:435 ونفح الطيب 5:436).
(1) صاحب القلم الأعلى لقب لكاتب علامة السلطان النصري (راجع مستودع العلامة).
(1/125)
________________________________________
وكتب في الحضرة النّصريّة لستّة من ملوكنا، وقلده الوزارة السلطان أبو الحجّاج يوسف ابن عمّ أبينا مضافة إلى رياسة الكتّاب.

حاله-رحمه الله-:
كان قد امتطى من ديوان الإنشاء جوادا تقدّم به مجليّا، وغدا كل منتم لهذه الطريقة له مصلّيا. وطلع في سماء الإحسان غيثا، وبرز في ميدان العلوم ليثا. وفي تصريف الأفعال ينسيك سيبويه، وفي علم اللّغة يعفي أثر ابن درستويه، وفي الصنعة البديعية والبيانية يزري بابن سماك، وينسي مآثر ابن سكاك. وشعره وسط، وفهمه مرتبط، وهو عارف بأيام العرب ووقائعها، محصّل لمآثرها وبدائعها.
فمن قوله-رحمه الله-يمدح أمير المسلمين الغالب بالله، الناصر لدين الله أبا عبد الله محمد المخلوع (1) ابن جدّنا أمير المسلمين أبي عبد الله محمد الفقيه ابن جدّنا أمير المسلمين الغالب بالله أبي عبد الله محمد صاحب الدبوس ابن جدنا الأمير أبي الحجّاج يوسف الشهير بالأحمر ابن جدّنا أمير المؤمنين المنصور بالله أبي بكر محمد بن أحمد بن محمد بن خميس بن نصر الخزرجي (2):
زارت تجرّر نخوة أذيالها … هيهات تخلط بالنّفار دلالها (3)
والشمس من حسد لها مصفرّة … إذ قصّرت عن أن تكون مثالها (4)
_________
(1) هو الأمير الغالب بالله محمد بن محمد بن محمد، الملقب بالمخلوع، ثالث ملوكهم. ولي الإمارة سنة 701، وخلعه السلطان نصر سنة 708. (اللمحة البدرية:47).
(2) ذهب جزء من مطلع القصيدة في الديوان، وبقيتها فيه (الورقة 69،70). والقصيدة في نثير فرائد الجمان 240، ونفح الطيب 5:436 وفي روايات القصيدة اختلافات طفيفة. وقدم المقري للقصيدة بقوله «وقال يمدح ويصف مصنعا سلطانيا».
(3) في النفح: بنخوة.
(4) في النفح: فالشمس.
(1/126)
________________________________________
وافتك تمزج لينها بقساوة … قد أدرجت طيّ العتاب نوالها
كم رمت كتم مزارها لكنّه … صحّت دلائل لم تطق إعلالها
تركت على الأرجاء عند مسيرها … أرجا كأن المسك فتّ خلالها
ما واصلتك محبّة وتفضّلا … لو كان ذاك لواصلت إفضالها
لكن توقّعت السلوّ فجدّدت … لك لوعة لا تتّقي ترحالها
فوحبّها قسما يحقّ بروره … لتجشّمنّك في الهوى أهوالها!
حسّنت نظم الشعر في أوصافها … إذ فتّحت لك في الهوى أقفالها (1)
يا حسن ليلة وصلها ما ضرّها … لو أتبعت من بعدها أمثالها
لمّا سكرت بريقها وجفونها … أهملت كاسك لم ترد إعمالها
هذا الربيع أتاك ينشر حسنه … فافسح لنفسك في مداه مجالها
واخلع عذارك في البطالة جامحا … واقرن بأسحار المنى آصالها
في جنّة تجلو محاسنها كما … تجلو العروس لدى الزّفاف جمالها
شكرت أيادي للحيا شكر الورى ... شرف الملوك همامها مفضالها
وصميمها أصلا وفرعا، خيرها … ذاتا وخلقا، سمحها، بذّالها
الطاهر الأعلى الأمين المرتضى … بحر المكارم غيثها سلسالها
حاز المعالي كابرا عن كابر … وجرى لغايات الكرام فنالها
[36/ب]
إن تلقه في يوم بذل هباته … تلق الغمائم (2) أرسلت هطّالها
_________
(1) في نثير الفرائد والنفح: *إذ قبحت لك في الهوى أفعالها*.
(2) في النسختين الغمام. والصواب من النفح.
(1/127)
________________________________________
(1) أو تلقه في يوم حرب عداته … تلق الضراغم فارقت أشبالها
ملك إذا ما صال يوما صولة … خلت البسيطة زلزلت زلزالها
فبسيبه وبسيفه نيل المنى … واستعجلت أعداؤه آجالها
الواهب الآلاف قبل سؤالها … فكفى العفاة سؤالها ومطالها
إن قلت: بحر كفّه، قصّرت إذ … شبّهت بالملح الأجاج نوالها
ملأ البسيطة عدله وأمانه … فالوحش لا تعدو على من غالها!
وسقى البريّة فيض كفيّه فقد … عمّ البلاد سهولها وجبالها
جمع العلوم عناية بفنونها (2) … آدابها، وحسابها، وجدالها
منقولها، معقولها، وأصولها … وفروعها، تفصيلها، إجمالها
فإذا عفاتك عاينوك تهلّلوا … لمّا رأوا من كفّك استهلالها
وإذا عداتك أبصروك تيقّنوا … أنّ المنيّة سلطت رئبالها
بدّدت شملهم ببيض صوارم … روّيت من علق الكماة نصالها
وابحت أرضهم فأصبح أهلها … جزرا (3) تغادر نهبة أموالها
فتحت إمارتك السعيدة للورى … أبواب بشرى واصلت إقبالها
وبنت مصانع رائقات ذكّرت … دار النّعيم جنانها وظلالها
وأجلّها قدرا وأرفعها مدى … هذا الذّي سامى النّجوم فطالها
_________
(1) من هنا يبدأ الموجود من القصيدة في الديوان، فإن ورقة واحدة منه-على الأقل- سقطت من حرف اللام.
(2) في الديوان ونثير الفرائد «بفنونها» وفي النفح: بعيونها.
(3) في الديوان ونثير الفرائد: جزرا، وفي النفح خورا.
(1/128)
________________________________________
هو جنّة فيها الأمير مخلّد … بلغت إمارته به آمالها
ولأرض أندلس مفاخر أنتم … أربابها أضفيتم سربالها
فحميتم أرجاءها وكفيتم … أعداءها، وهديتم ضلاّلها
فبآل نصر فاخرت لا غيرهم … لم تعتمد من قبلهم أقيالها
بمحمّد ومحمد ومحمّد … قصرت على الخصم الألدّ نصالها
فهم الألى فتحوا لكّل عظيمة … جردا كسبين من النّجيع جلالها
وهم الألى فتحوا لكل ملمّة … بابا أزاح بفتحه إشكالها
(1) متقلّدون من السيوف عضابها … متأبّطون من الرّماح طوالها *
_________
(1) بقي من القصيدة في الديوان-والنفح-أربعة أبيات.
(*) كان منهاج المؤلف يقتضي أن يترجم هنا للوزير الخطير أبي عبد الله محمد بن الخطيب الشهير بلسان الدين بعد ترجمة شيخه وسلفه أبي الحسن بن الجياب. وقد بقي في المخطوطتين من نثير الجمان فراغ في آخر ترجمة ابن الجياب. وتجد بعد ذلك صفحة ونصف الصفحة لأشعار عباسية اختارها المؤلف أو غيره مقطوعة عن غرض الكتاب ثم يأتي الباب الثامن. ومجمل القول أن ترجمة لسان الدين لم ترد. ويظهر أن السبب في ذلك هو أن المؤلف صنف كتابه هذا في حدود 775 - 776 (راجع تفاصيل ذلك في نثير فرائد الجمان 105 - 106) وهي المدة التي كان فيها المؤلف ناقما على لسان الدين، الذي كان قد غادر الأندلس مزورا عن أمير غرناطة الغني بالله منذ 773 في خبر طويل. ويبدو أن المؤلف لم يترجم للسان الدين منتظرا انتهاء الخلاف؛ فالغني بالله ابن عم للمؤلف المتعصب لأسرته الإمارية. ولقد انتهى الخلاف بعد ذلك بوفاة لسان الدين على أيدي جماعة الغني بالله ووفده إلى فاس. وما ندري أعاد المؤلف إلى كتابه فأضاف إليه ترجمة لابن الخطيب أم أرسل كتابه هذا ناقصا، كما هو هو الحال مع النسختين اللتين وصلتا إلينا منه. ولسان الدين بن الخطيب هو من أسرة شهيرة في غرناطة، وأصلهم من مدينة لوشة القريبة من غرناطة. ولد سنة 713، وانتظم -بعد أن اشتد عوده- في جملة الكتاب =
(1/129)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
_________
= في ديوان بني نصر بغرناطة، وأعجب به شيخه ورئيسه ابن الجياب، ومهد له. ولما توفي ابن الجياب في طاعون سنة 749 قدم الأمير النصري يوسف، لسان الدين بن الخطيب على كتابه. وما لبث أن ترقى في المناصب وحاز الثقة. فلما تولى محمد بن يوسف (محمد الخامس، الغني بالله) أمور غرناطة استأثر بلسان الدين وقربه وقلده المهم من أموره. فاتخذ رسوم الوزارة ورئاسة الكتاب والسفارة، وما يليق به على رضى الأمير ورغبته. ولما وقع الانقلاب على الغني بالله سنة 761 لحق به لسان الدين إلى المغرب، وعاد معه 763 بعد استرداد ملكه، وبقي معه أثيرا إلى أن أحس من مخدومه تغيرا، فلجأ إلى المغرب 773، وكان الملك المريني ووزراؤه من أنصار لسان الدين. ولما تبدل السلطان المريني الملقب بالسعيد وجاء أبو العباس أحمد المستنصر-وكان من صنائع الغني بالله- جاء وفد غرناطي فيه ابن زمرك تلميذ ابن الخطيب وخلفه، وانتهى ابن الخطيب إلى السجن، ثم قتل فيه صبرا. رحمه الله. انظر في ترجمته: نثير فرائد الجمان 242، والدرر الكامنة 3:469 والتعريف بابن خلدون 85 - 92 أما نفح الطيب للمقري فقد ألفه أساسا للترجمة للسان الدين ثم اتسع الكتاب (راجع مقدمة المؤلف ج 1)؛ وكتاب الأستاذ محمد عبد الله عنان عن لسان الدين (ط الخانجي). وانظر فيه ثبت مؤلفاته؛ وبرو كلمان (تاريخ الأدب العربي 2: 260 والملحق 2:372).
(1/130)
________________________________________
الباب الثامن
فيما بلغنا من شعر وزراء قومي بني الأحمر
من بني نصر ملوك الأندلس
الفقيه الكاتب صاحب القلم الأعلى
أحمد بن إبراهيم بن صفوان (*):
[كنيته:]
يكنى: أبا جعفر، ويعرف بابن صفوان، وهو من أهل مالقة؛ وأدركته، وكتب في الحضرة السلطانية لجدنا أمير المسلمين أبي عبد الله محمد الفقيه ابن جدنا أمير المسلمين الغالب بالله أبي عبد الله [محمد] صاحب الدبوس، ابن
_________
(*) أبو جعفر أحمد بن إبراهيم بن أحمد بن صفوان من أهل مالقة ويعرف بابن صفوان (675 - 763) وصفه لسان الدين بن الخطيب في الإحاطة فقال إنه صدر من صدور كتاب دولة غرناطة وشيوخ طلبتها؛ ناظم، ناثر، ثاقب الذهن، قوي الإدراك، إمام الفرائض والحساب والأدب والتوثيق، ذاكر للتاريخ واللغة، مشارك في الفلسفة والتصوف، كثير النظر والتقييد والتصنيف. ومن كتبه؛ مطلع الأنوار الإلهية، وبغية المستفيد. وقد جمع ابن الخطيب ديوان شعره سنة 744 أيام إقامته بمالقة (بلد المترجم به) مع الركب السلطاني الذي خرج لإنجاد الجزيرة الخضراء، وسماه: الدرر الفاخرة واللجج الزاخرة. (انظر الإحاطة 1:100، والكتيبة الكامنة 216، ونفح الطيب 6:39)
(1/131)
________________________________________
جدّنا الأمير أبي الحجاج يوسف الشهير بالأحمر، ابن جدنا أمير المؤمنين المنصور بالله أبي بكر محمد بن أحمد بن محمد بن خميس بن نصر الخزرجي.
وكتب أيضا لعمّ أبينا أمير المسلمين أبي الوليد إسماعيل، ابن جدنا [38/ب] الرئيس الأمير أبي سعيد فرج، ابن جدنا الأمير أبي الوليد إسماعيل، ابن جدنا الأمير أبي الحجاج يوسف (الشهير) بالأحمر، ابن جدنا أمير المؤمنين المنصور بالله أبي بكر محمد بن أحمد بن محمد بن خميس بن نصر الخزرجي.
وقلّده علامته، ورياسة كتّابه حين بويع بمالقة، وبعض أشهر بغرناطة.

حاله-رحمه الله تعالى-:
له في التصوّف قدم راسخة (1)، وفي أحكام النجوم آية ناسخة. وبرع في الحساب وإحكامه، وأصاب في الفقه وأحكامه. ولا مرية في أنه أبرع من أصاب في التّعاليم وعلمها، وخطّ في ألواح الإجادة قلمها. والأدب نقطة من بحره الزّاخر، وزهرة من أزهار روضه النّاضر.
فمن قوله يعارض قصيدة الإمام الصّوفي أبي القاسم عمر بن الفارض (2) الفائيّة (3):
_________
(1) قال ابن الخطيب في الكتيبة الكامنة في ترجمته لابن صفوان «وله بالمقاصد الصوفية كلف وبالأقوال الشهيرة بها زلف».
(2) عمر بن علي، الحموي الأصل، المصري المولد والدار والوفاة (576 - 632) أبو القاسم، وأبو حفص من شعراء الصوفية المعدودين، قال الذهبي «كان سيد شعراء عصره» ولابن الفارض ديوان مطبوع.
(3) ومطلعها (الديوان:106):
قلبي يحدثني بأنك متلفي ... روحي فداك عرفت أم لم تعرف!
(1/132)
________________________________________
ببهاء عزّك عند ذلّة موقفي … عطفا على مسترحم مستعطف
أخفاه إخفاء الغرام فشخصه … وغرامه سيّان مخف أو خفي
ما إن لغمض جفونه من زورة … أو عطفة إن أنت لم تتعطّف
أيزور جفني غمضه من بعد ما … شطّ المزار من ****** المسعف
والنّوم في حكم الهوى ما انفكّ مذ … عرف الهوى أثر الأحبّة يقتفي
يشفي المحبين الخيال إذا سرى … وشفاء حبّي بالخيال المنتفي
ويروعهم عذّالهم وبذكر من … في ذكره أربي، عذولي متحفي
فأعد حديثك عاذلي واقرع به ... سمعي وصرّح باسم حبّي واهتف
فسماع ذكر أحبّتي لي مبهج ... وبه من الشّوق المبرّح أشتفي
[39/أ]
(معنى) (1) ****** بسرّ ذاتي قائم ... والعذل يبدي ما بسرّي قد خفي
لو كان يعلم عاذلي قدر الهوى ... وبمن كلفت لقال لي: اعشق واكلف!
كلّ المحاسن لائح في وجه من ... أضحى به شغفي، وكل العشق في!
لهواي أرباب الهوى قد سلّموا ... ولحسنه تعنو البدور وتختفي
فاشرح غريب جماله ومحبّتي ... وانشر حلى ذاك الغريب وصنّف
_________
(1) لم تظهر الكلمة في «ط» وظهر شطر الكلمة الآخر في «م».
(1/133)
________________________________________
15 وقف الهوى بالعاشقين مواقفا … غاياتها قد قصّرت عن موقفي
أدركت من سرّ الهوى مالم يرم … إدراكه وعرفت ما لم يعرف
فأنا المحبّ حقيقة والحبّ لي … طبع، يعاف تطبّع المتكلّف
يا ملبسي خلع الضّنا أهلا بما … أضفيت منها، لست بالمستنكف
بتجرّدي عمّا سواك رفلت في … حلل العناية والنعيم الأشرف
20 وبمحو ما خطّته أقلام المنى … في الوهم صحّت لي قراءة أحرفي
واها لأوقات التّداني، حقّ يا … عيني لفقد رطيبها أن تذرفي (1)
أمسيت من ليل القطيعة في دجى … ظلمائه خلف الحجاب الأكثف
في وحشة الإعراض حال تصبّري … وبحسرة الإبعاد طال تأسّفي
وحنين نفسي للرسوم أعلّني … وتلمّحي الأغيار شتّت مألفي
25 فمتى إلى الإقبال يجنح معرض … عنّي ويسمح بالقبول معنّفي
واحسرتا ولّى سدى عمري وما … يجدي عليّ تحسّري وتلهّفي
طفئت لأرباب الهوى نار الهوى … وتجلّ نار هواي عن أن تنطفي!
وشفى التنعّم بالوصال ضناهم … وضناي من داء القطيعة ما شفي
وعلى ضناي فلا سلبت شحوب ما ... بي من ضنى، لبسي حلاه مشرّفي
[39/ب]
30 لا أبتغي بشعاره بدلا ولا … بأقلّ من ولهي (2) به أنا مكتف
ولّيت قلبي شطر من أحببته … وأبى الوفاء تقلّبي وتحرّفي
فإليه قصدي حيث كنت وقبلتي ... وتوجّهي، ما عنه لي من مصرف
_________
(1) في النسختين: تذرف.
(2) واقرأ: واحسرتي.
(1/134)
________________________________________
كيف انصرافي عن هوى من لو بدا ... للشّمس قيل لها: اضمحلّي واختفي!
مّلكته نفسي وروحي والمنى ... والسرّ والنّجوى، ولست بمسرف
35 وإذا المحبّ صفت موارد حبّه … فوجوده وقف على من يصطفي
أأهيل ودّي والّذين بأنني … لهم عبيد نسبتي وتعرّفي
أنتم أحبّائي وغاية مقصدي … وإلى رضاكم ما حييت تشوّفي
وعلى محبّتكم فطرت وإنّني … لأرى بها ختم الصحيفة مزلفي
ووحقكم قسما أؤكّده وما … قسم لديّ بقدر حقّكم يفي
40 لرضاكم أشهى إليّ وإن نأى … عنّي، من العذب الزّلال حلا بفيّ
ولعطفكم من كلّ ما ظفرت به … أيدي المنى أسنى وإن لم يسعف
ولقد أجلت الفكر فيما أرتجي … من قربكم بوسائل العهد الوفي
وتحرّقي بلهيب نار جوانحي ... وتجرّعي غصص الدّموع الذّرّف
وحنوّ أضلاعي على قلب شج … لسهام روعات الأسى مستهدف
45 فعلمت أني حال إقدامي على … طلب الرّضا أو هيبتي وتوقّفي
مالي سوى فقري لكم وغناكم … عنّي وسيلة سائل متلطّف
يرجوك حال الخوف تقنطه فيا … رحمى لراج قانط متخوّف!
فلئن عطفتم فالتعطّف شيمة … معلومة للمنعم البرّ الحفي
ولئن طردتم من أبيتم قربه … فرجاؤه عن بابكم لم يصرف
[40/أ]
50 أرضى لنفسي ما رضيتم لي به ... ومن الذي استكفى الثقات فما كفي؟
(1/135)
________________________________________
إني لجودكم عليّ لواثق … وجميل ظنّي فيه ليس بمخلف
ولئن سموت لما رجوت من المنى … مستنزلا غيث الرّضا بتلطّف
فأحقّ من رمت استمالة عطفه … بخضوع مضطر وذلّة معتف
ذو قدرة مترفّع بكماله … وجلاله عن قدرك المستضعف
55 ولئن غدا حتما على العشّاق في ... شرع الهوى تلف العميد المدنف
فلقد تلفت وعفت قول مسوّف ... «نفسي تحدّثني بأنّك متلفي»!
وله أيضا في التورية (1):
كففت عن الوصال طويل شوقي … إليك وأنت للرّوح الخليل
و «كفّك» للطّويل فدتك نفسي … قبيح ليس يرضاه «الخليل»!
وله أيضا في التورية بالعروض:
يا كاملا شوقي إليه وافر … وبسيط خدّي في هواه عزيز
عاملت أسبابي لديك «بقطعها» … والقطع في «الأسباب» ليس يجوز
وله أيضا في العذار:
ولما ثناني عن هوى من أحبّه … عذار بدا في الخدّ أسود فاحم
لحاني على هجرانه بعد وصله ... ومن سحر عينيه لما شدت هاجم (2)
_________
(1) التورية ببعض ألقاب العروض.
(2) في الأصلين: هاجم. ولعله: هادم.
(1/136)
________________________________________
وقلت له والحقّ أبلج واضح ... إلى ضوئه الملتاح يعشو المخاصم
أيا عبد شمس من محيّاك أشرقت ... ثناني سواد من عذارك فاحم
ومن قبل ما أخفى ظهور السّواد من ... إلى عبد شمس ينتمي وهو راغم!

الفقيه الخطيب القاضي الكاتب صاحب القلم الأعلى:
عبد الحق بن محمد بن عطية المحاربي (*):
[كنيته:]
يكنى: أبا محمد، وأدركته؛ ومسقط رأسه مدينة وادي آش. وهو من كبار صدور أعيان الأندلس، وبيته بيت القضاة والعلماء والخطباء.
وهو من ولد الإمام العالم المجتهد ابن عطيّة المفسّر لكتاب الله! عز وجل؛ وكفاه شرفا هذا الجدّ (1).
وولي ببلده وادي آش (2) الخطابة والقضاء، ثم قدم على الحضرة
_________
(*) ذكره لسان الدين في الإحاطة 2:5، وفي اللمحة البدرية:103 و 106. وترجم له في الكتيبة الكامنة:269. وقال في اللمحة البدرية إنه استخدم في الكتابة ابن عطية المترجم به فأحمد عمله «لحمل الكل والصبر على الخدمة». وقال في الكتيبة إنه اشتغل بعد ذلك بالقضاء. ووصف شعره وشاعريته فيها بقوله: «وشعره سهل على المعاني مؤثر لحظوظ الألفاظ على حظوظ المعاني».
(1) هو الإمام القاضي أبو محمد عبد الحق بن غالب بن عطية (481 - 546) وله التفسير المشهور «المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز» وهو يطبع في الرباط بالمغرب.
(2) وادي آش: مدينة بالأندلس قريبة من غرناطة كبيرة خطيرة، ينحط نهرها من جبل شلير (جبل الثلج). وبينها وبين مدينة غرناطة أربعون ميلا.
(1/137)
________________________________________
السلطانيّة النصريّة الأحمريّة بغرناطة، فكتب بها ورأس كتّابها مع ذي الوزارتين الفقيه الحاجب القائد الكاتب صاحب القلم الأعلى أبي عبد الله محمد بن عبد الله الخطيب السلماني، في دولة أمير المسلمين الغني بالله أبي عبد الله محمد بن أمير المسلمين أبي الحجّاج يوسف ابن أمير المسلمين أبي الوليد إسماعيل، عم أبينا ابن جدنا الرئيس الأمير أبي سعيد فرج.
فلمّا ولي الملك ابن عمنا أمير المسلمين الغالب بالله المتوكل على الله أبو عبد الله محمد بن أخي أبينا الرئيس أبي الوليد إسماعيل ابن جدنا أمير المسلمين القائم بإذن الله أبي عبد الله محمد ابن جدنا الرئيس أبي سعيد فرج بن جدنا الأمير أبي الوليد إسماعيل، ابن جدنا الأمير أبي الحجاج يوسف الشهير بالأحمر، ابن جدّنا أمير المؤمنين المنصور بالله أبي بكر محمد بن أحمد بن محمد بن خميس بن نصر الخزرجي، قلده العلامة ورياسة الكتاب؛ ونال لديه جاها مكينا.

حاله-سلّمه الله-:
هو في المحاسن قد تثنى عليه الخناصر، وقرم لا تحصي مفاخره الألسن ولا يحصرها الحاصر. وبيته زاحم النجوم بكاهله، وورد نسبه من الشرف أعذب مناهله. ملأ الأبصار جلالة وسمتا، وحاز هديا لا عوج [41/أ] فيه ولا أمتا. وبلاغة ينبوعها مسترسل، وفصاحة فرس إجادتها مستنسل.
وخط تميّز به، وعلم تشرّف بسببه.
فمن قوله يمدح ابن عمنا أمير المسلمين الغني بالله أبا عبد الله:
يا قاطع البيد يطوي السّهل والجبلا ... ومنضيا في الفيافي الخيل والإبلا
يجوب آفاق أرض لا يؤنّسه ... إلا تذكّر عهد للحبيب خلا
(1/138)
________________________________________
أو ظبية أذكرت عهد التّواصل إذ ... تحكي اللّحاظ التي عاهدت والمقلا
أستغفر الله في تلك اللّحاظ فقد ... أربى (1) بها الحسن عن ضرب المها مثلا!
5 أو هادل فوق غصن البان تحسبه ... صبّا لفقد حبيب كان قد ثكلا
أو لامع البرق إذ يحكي إنارته ... كفّا خضيبا مشيرا بالذي عدلا
ماذا عسى أن تقضّي من زمانك في ... قطع الفيافي ترجو أن تنال علا
فكم معالم أرض أو مجاهلها ... قطعتها لا تملّ الرّيث والعجلا
إن كنت تأمل عزّا لا نظير له ... وتبتغي السؤل فيما شئت والأملا
10 فالعزّ حرف بعيد لا ينال سوى ... بعزم من شدّ عزم البين وارتحلا
والدرّ في صدف قلّت نفاسته ... ولم يبن فخره إلا إذا انتقلا
فاربأ بنفسك عن أهل وعن وطن ... عهود أنس به قلب المحبّ سلا
وعدّ عن ذكر محبوب شغفت به ... ولا تلمّ به مدحا ولا غزلا
_________
(1) كذا فيهما. ولعله ربا (مسهلة من) ربأ به عن كذا: رفعه ونزهه.
(1/139)
________________________________________
واقصد إلى الحضرة العليا وحطّ بها ... رحلا ولا تبغ عن أرجائها حولا
15 غرناطة (1) لا عفا رسم بها أبدا ... ولا سلا قلب من يبغي بها بدلا
فهي التي شرّف الله الأنام بمن ... في مقعد الملك من حمرائها (2) نزلا
[41/ب]
خليفة الله مولانا وموئلنا ... وخير من أمّن الأرجاء والسّبلا
محمد بن أبي الحجّاج أفضل من ... قد قام فينا بحق الله إذ عدلا
من آل نصر أولي الملك الذي بهرت ... علاه كالشمّس لما حلّت الحملا
20 هو الّذي شرّف الله البلاد ومن ... فيها بدولته إذ فاقت الدّولا
أقام عدلا ورفقا في رعيّته ... وكان أرحم من آوى ومن كفلا
فهو المجار به من لا مجير له ... لم يخش أخرى اللّيالي فادحا جللا
_________
(1) يقال غرناطة وأغرناطة. اتخذها بنو الأحمر عاصمة للدولة منذ آل الحكم إليهم سنة 635. وصارت غرناطة منذ أوائل القرن الخامس مركز كورة البيرة بعد انتقال أهل مدينة إلبيرة إليها.
(2) قصر الحمراء، دار الملك النصري بغرناطة.
(1/140)
________________________________________
إنّ المدائح طرّا لا تفي أبدا ... ببعض ما قد تحلّى من نفيس علا
فالحزم والعزم والإقدام شيمته ... والجود ممّا على أوصافه اشتملا
25 إن قال أجمل في قول وأبدعه ... والفعل أجمل منه كلمّا فعلا
يولي الجميل ويعطي عزّ نائله ... من قد رجاه ولا استجدى ولا سألا
من سائلي عن بني نصر فلا أحد ... منهم بأبلغ منّي كلّما سئلا
هم الذّين إذا ما أمنحوا ابتهجوا ... أسنى العطاء وأبدوا إثره الخجلا
هم الألى مهّدوا أرجاء أندلس ... إذ حكموا في الأعادي (1) البيض والأسلا
30 فإن تسل عنهم يوم الرّهان فلم ... تعدل بأحدثهم في سنّه بطلا
من ذا يجاريهم في كلّ مكرمة ... أيشبه البحر في تمثيله الوشلا (2)؟
_________
(1) في «ط» الأعاد وفي «م» الأعداء، ونرجح ما أثبت.
(2) الوشل: الماء القليل «يتحلب من جبل أو صخرة ولا يتصل قطره».
(1/141)
________________________________________
مولاي يا خير من للنّصر قد رفعت ... راياته ولواء الفخر قد حملا
لله عيني لمّا أبصرتك وقد ... أعددت بين يديك الخيل والخولا (1)
وأنت في قبّة يسمو بها عمد ... أقام منآد أمر الدين فاعتدلا
35 الجيش يعشي عيون الخلق منظره ... لمّا اكتسى منك نور الحقّ مكتملا
لا غرو أن شعاع الشّمس يشمل ما ... أضحى عليه إذا ما لاح منسدلا
[42/أ]
وراية النّصر والتأييد خافقة ... قد أسبل الله منها النصر فانسدلا
والخيل قد كسيت أثواب (. . .) (2) ... (فمن براقعها) (3) قد ألبست حللا؟
ترى الحماة عليها يوم عرضهم ... يمشون من فرط زهو مشية الخيلا
40 فمن رماة قسيّ العرب عدّتها ... تحكي الأهلّة منها، نورها اكتملا
_________
(1) الخول: الأتباع.
(2) كلمة لم تظهر في «ط» واضطرب ناسخ «م» في رسمها.
(3) أقرب ما يمكن أن يستخلص من رسم «م»، وهي متآكلة في «ط».
(1/142)
________________________________________
ومن كماة شداد البأس شأنهم ... أن يعملوا البيض والخطيّة الذّبلا
بسعدك انتظمت تلك الجيوش لأن ... أشبهت في نظمها أسلافك الأولا
لا زلت تزدادها نعمى مضاعفة ... (لها. . (1)) الأرض منها السّهل والجبلا
44 وخلّد الله ملكا أنت ناصره ... ما عاقبت بكر من دهرنا الأصلا
_________
(1) فيهما «لها»، ولا يستقيم بها الوزن، ولا يظهر المعنى.
(1/143)
________________________________________
الباب التاسع
فيما بلغنا من شعر قضاة بلادنا الأندلسيّة وفقهائها
الفقيه الكاتب القاضي الخطيب:
محمد بن أحمد الحسنيّ
(*) [كنيته:]
يكنى أبا القاسم، وأدركته، ورأيته.
ونسبه: هو محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن القاسم بن عبد
_________
(*) أبو القاسم محمد بن أحمد، الشريف الحسني، أصله من سبتة، ونزل غرناطة. (ولد 697، وتوفي 760، وقيل 761). واشتهر بالشريف الغرناطي لطول ملازمته إياها وتوليه القضاء زمانا بها، وتكليفه بالكتابة والخطابة. كان في رؤوس القضاة والكتاب الشعراء. شهد له تلامذته ومعاصروه بالفضل والتقدم إلى ديانة وتصاون. وقد توفي في غرناطة وهو على قضائها. للشريف مؤلفات منها شرح على مقصورة حازم القرطاجني سماه: رفع الحجب المستورة عن محاسن المقصورة (ط). وشرح على الخزرجية في العروض (خ). (ترجمته وأخباره في: نثير فرائد الجمان:231، والإحاطة 2:129، والمرقبة العليا:171، والديباج المذهب:290، والدرر الكامنة 3:452. ودرة الحجال:1 - 284 ونفح الطيب 7:339 وجذوة الاقتباس:193، والتعريف بابن خلدون:61. وللأستاذ العلامة عبد الله كنون عدد في سلسلة مشاهير رجال المغرب عن الشريف، برقم 21. وهو يتشدد في تسميته بالشريف السبتي)
(1/145)
________________________________________
الله بن محمد بن محمد بن محمد بن علي بن موسى بن إبراهيم بن محمد بن ناصر بن جنون بن القاسم بن الحسن بن الحسن بن إدريس بن الحسن بن محمد بن علي ابن أبي طالب، كرم الله وجوههم.
وهو من أهل سبته (1)، وارتحل عنها إلى غرناطة، فاستكتبه في الحضرة السلطانية أمير المسلمين أبو الوليد إسماعيل عمّ أبينا بن جدّنا الرئيس الأمير أبي سعيد، وجعله من كتّاب الإنشاء، ثم قلّده القضاء والخطابة بغرناطة.
وولي أيضا بمالقة (2) القضاء ثم ولي أيضا القضاء بغرناطة ثانية في دولة ابن عمّنا أمير المسلمين الغني بالله أبي عبد الله محمد (المخلوع).

حاله-رحمه الله-:
احتوى على جمل من الآداب رائقة، وطرائق في الإنشاء فائقة.
وشعره يشبّه بالنّجوم لو نظمت سلكا، ويجري مع النّفوس فيملكها ملكا. وحصّل من علم البيان مفيده وعجيبه، ومعرفة باللّغات الغريبه.
وقوّة نفس في استخراج المعمّى، ولو أنفذ (3) فيه الملغز مرمى. وتفنّن في جميع العلوم، والمعرفة منها بالمجهول والمعلوم، وثقوب ذهن في الآداب والفهوم (4).
_________
(1) سبته مدينة عظيمة على بحر الزقاق، وهي تقابل الجزيرة الخضراء بالأندلس وهي مدينة قديمة. والبحر يحيط بها من كل جهة إلا من جهة الغرب. وكان للمدينة شأن أيام ازدهار الأندلس، وأيام الدولتين الموحدية والمرينية.
(2) مالقة من مدن الأندلس، وثغر بحري هام لدولة غرناطة، على شاطئ البحر المتوسط.
(3) في الاصلين: أنفد (بالدال المهملة) ونرجح ما أثبت.
(4) كذا وردت العبارة فيهما.
(1/146)
________________________________________
فمن قوله يتغزّل (1):
دعيني من مقال العاذلين … وخلّي بين تهيامي وبيني
ومن يك سائلا (2) فلديّ حب … سلوّ القلب منه غير هين
علقت، فمقلتي للنوم حرب … بأعزل، وهو شالي (3) المقلتين!
مليح الدّلّ شاقت كلّ قلب … شمائله، وراقت كل عين
جنى وحمى فلم أطلب بثأري … محاجره ولم أتقاض ديني
أهيم بخدّه وبمبسميه … فأنسب بالحمى والأبرقين (4)
عقدت مع الغرام فبعت فيه … وقاري والتّصبر صفقتين
وهمت بناعم العطفين فيه … عذاب الصبّ، عذب المرشفين
تدير عليّ عيناه كؤوسا ... كأن سلافها من رأس عين (5)
10 فأحلف بالمحصّب والمصلّى … وأعلام الصّفا والمأزمين (6)
لأنتصرنّ بالأجفان حتّى … تكون دموعها في الحبّ عوني
_________
(1) أورد ابن الاحمر معظم القصيدة في كتابه الآخر، نثير فرائد الجمان، وسنقابل عليه. وأوردها الأستاذ كنون في ترجمة «الشريف السبتي» نقلا عن الكتابين.
(2) في نثير الفرائد: ساليا.
(3) شاكي المقلتين، من قولهم «شاكي السلاح»: ذو شوكة وحدة.
(4) الحمى والأبرقان: مواضع. والابرقان أبرقا حجر اليمامة، وهو منزل بعد رميلة اللوى بطريق البصرة إلى مكة.
(5) رأس عين أو رأس العين من مدن الجزيرة وبمقربة من نصيبين، ذكرها الشعراء بجودة الخمر، ومنهم حسان في شعره الجاهلي.
(6) المأزمان بين عرفة ومزدلفة.
(1/147)
________________________________________
وحين تعرّفوا كلفي وقلبي … يصون السرّ عنهم كلّ صون
كففت المقلتين ليشهدا لي … فجرّحت الدّموع الشّاهدين!
[43/أ]
فلو أبصرت ناظري المعنّى … وماء الدّمع فوق الوجنتين
15 بصرت بوردتين يسحّ منها ... سكيب القطر فوق بهارتين (1)
إذا أعرضت أعرض كلّ صبر ... وآذن نوم أحداقي ببين
ولم تبأ (2) الرّياض بحسن زيّ ... ولم تزه الرّبا بكمال زين
كأن نسيمها ممّا أقاسي … تهبّ عليلة بالأبردين (3)
كأن الزّهر غبّ سما بكته … لما أبدى حمام الشاطئين (4)
20 أهيج لها الهوى وتهيجه لي … فنلفى في الهوى متطار حين
وقد هاج الحمام الوجد قبلي … لتوبة عند بطن الواديين (5)
_________
(1) البهار: النرجس.
(2) في نثير الفرائد: تبد. والبأو: الفخر والتعاظم.
(3) الأبردان: الغداة والعشي.
(4) في نثير الفرائد، وفي الأصلين المخطوطين لنثير الجمان: غب بها. وقرأها الأستاذ كنون (غب سما) وهي قراءة مناسبة اعتمدناها.
(5) توبه بن الحمير (ت 85 هـ‍) شاعر من عشاق العرب المشهورين كان يهوى ليلى الأخيلية (وهي من شواعر العرب)، وخطبها فرده أبوها، وزوجها غيره. فتغزل بها واشتهر أمره. وله مع ليلى حديث طويل (الأغاني 11:208 دار الكتب) وهو القائل:
حمامة بطن الواديين ترنمي ... سقاك من الغر الغوادي مطيرها
(1/148)
________________________________________
بعيشك هل ترى ثاني وحيد … يرى بك ثالثا في النّيّرين؟
وهل يدنو من الآمال صب … بعيد بين هدب النّاظرين؟
فإن يكن الجمال حباك ملكا … وأيّد ناظريك بحاجبين
25 فما أرضى لملكك أنّ كسرى … وقيصر في مقام الحاجببين (1)
وإنّ أقلّ حظ يبتغى من … رضاك يفي بملك الحارثين (2)
تخبّرني وفي عطفيك لين … فعالك أنّ قلبك غير لين! (3)
وأعرف في لحاظك ما رأت في … ظبى الثّقفيّ قاتلة الحسين (4)
وألقي في الهوى بيدي ومالي … على فتكات لحظك من يدين
30 علام الغبّ عنّي؟ لا أغبّت … بك الخيرات هامية اليدين!
ولا جرت الريّاح عليك إلا … صبا وسقى محلّك كلّ جون (5)
_________
(1) الحاجبان في البيت السابق هما المعروفان فوق العينين. والحاجبان هنا مثنى حاجب، وهو من يقوم على حجابة الملك، وتنظيم الصلة بينه وبين الناس.
(2) قال المحبي في جنى الجنتين (37 - 38) الحارثان هما: الحارث بن ظالم بن جذيمة بن يربوع (من فتاك العرب في الجاهلية) والحارث بن عوف بن أبي حارثة صاحب الحمالة (من فرسان الجاهلية).
(3) في نثير الفرائد: «فعالك عن فؤاد غير لين».
(4) خرج المختار بن عبيد الثّقفي على بني أمية فدعا باسم محمد بن الحنفية، وغلب على الكوفة والموصل، وتتبع قتلة الحسين بن علي رضي الله عنهما، فقتل كثيرا منهم.
(5) الجون: الأسود. وإذا كان السحاب جونا كان أكثر ملاءمة للمطر الغزير.
(1/149)
________________________________________
الفقيه الخطيب علي بن أحمد الحسني (*):
[43/ ب]

[كنيته:]
يكنى: أبا الحسن، وأدركته بسنّي، ويعرف بالأحيمر، وهو من أهل مالقة.

حاله-رضي الله عنه-:
هو صدر الصدور، وواسطة الشذور، ورضيع ثدي الدين، ومعدن الورع المتين. راح في ميدان الصلاح وغدا، وتوشّح بفضل عن الفلاح وارتدى. وطلع في سماء الأدب شهابا، وبرز في ميدان الفصاحة ليثامهابا.
وهو في العلوم مشارك، وآخذ في حفظها غير تارك.
فمن قوله يمدح (**):
الآن تطلب ودّها ووصالها ... من بعد ما شغلت بهجرك بالها (1)
_________
(*) ترجم له في نثير الفرائد، وأثنى عليه، وقال فيه «الشريف الفقيه الخطيب الصالح». وترجم له لسان الدين في الكتيبة الكامنة في الباب الذي خصصه للخطباء والصوفية، وقال «رجل وقار وسكون له إلى الخير ركون. . . وله شعر يحيد ويجيد». ولم يذكر ميلاده ووفاته. (نثير فرائد الجمان:235، والكتيبة الكامنة:62).
(**) القصيدة-كما قرر في نثير فرائد الجمان-في مدح صاحب غرناطة السلطان إسماعيل ابن أبي سعيد فرج بن إسماعيل بن يوسف (حكم 713 - 725).
(1) القصيدة في نثير الفرائد (ص 236 - 238) عدا الأبيات:23،32،43،44 وورد منها في الكتيبة الكامنة الأبيات (1 - 22) بزيادة بيت بعد البيت الأول. و (42 - 46 - 47)، بزيادة (7) أبيات في قسم المديح.
(1/150)
________________________________________
وأتيتها متلبّسا بروائع ... نكر بفودك أصبحت (1) عذّالها
بيض تخيّل للنفوس نصولها ... سمرا تحوّل للنّحور نصالها
مثل الأفاعي الرّقط تنفث في الحشا ... وأرى بفودك جثّما (2) أصلالها
5 نار تضرّم في الفؤاد حريقها ... لكن تنير (3) بمفرقيك ذبالها
جزعت لهذا الشّيب نفسي وهي ما ... زالت تهوّن كل صعب نالها
ولكم صدعت بنافذ من عزمتي ... يهماء (4) لا يهدى العليم ضلالها
صادمت من كرب الدّنى أشتاتها ... ما خفت غربتها ولا إقلالها (5)
ولئن تقلّص عسرتي فيء الغنى ... عنّي، فلي نفس تمدّ ظلالها
_________
(1) في نثير الفرائد: صبحت.
(2) في الكتيبة: كمنا.
(3) في الكتيبة: تشب.
(4) اليهماء: المفازة لا علم (لا أثر) بها.
(5) في الكتيبة: إخلالها.
(1/151)
________________________________________
10 ما مزّقت ديباجتي عين امرئ ... عرضت عليه النّفس قطّ سؤالها!
ألقى الليالي غير هيّب (1) صرفها … والأسد غير مجنّب أغيالها
أمشي الهوينى والعداة تمرّ بي … مرّا (2) يطير عن الجياد نسالها
علمت لي الخلق الجميل محقّقا … وتسيء فيّ على عمى أقوالها
[44/أ]
تبغي انثنائي، هل سمعت بنسمة ... مرّت على نجد تهز جبالها!
15 ولربّما عرضت لعيني نظرة ... يرضى الحكيم غرامها وخبالها
من غادة سرق الصّباح بهاءها ... والبدر في ليل التّمام كمالها
تهوى المجرّة أن تكون نجومها ... من حليها، وهلالها خلخالها
عرضت كما مرّت بعينك مطفل ... ترعى بناظرها الكحيل غزالها
ما نهنهت نفسي وإن ضمنت (3) لها ... عبراتها يوم الوداع وصالها
_________
(1) في الكتيبة: غير طيب.
(2) في الكتيبة: تمر في جري. والنسال: ما سقط من الشعر عند نسله.
(3) كذا في نثير الفرائد أيضا. وفي الكتيبة: ظمئت.
(1/152)
________________________________________
20 من كان يأمل أن يقوم بمجلس ... حطّت به شهب السّما أثقالها
يحيى (1) أحاديث السّراة أولى النّهى ... نصلي ويضرب في العلا أمثالها
ألقى هواه جانبا وهوت (2) به ... وجناء تدمن في الدّجى إعمالها
منها في المدح:
ألبست دين الله حلّة آمن ... أضفت على أسرابه (زلزالها) (3)
أنتم بني نصر نصرتم ملّة ال‍ ... إسلام حين شكت لكم خذّالها
25 كنتم لنا أهلا ورحبتم بنا ... في العدوتين (ومنهم انزالها) (4)
نزلت على سعد (5) ليسعد جدّها ... وأوت إلى نصر لينصر آلها
أحرزتم يوم السّقيفة (6) قودها ... دون الأنام وقيدها وشكالها (7)
_________
(1) في الكتيبة: يجني.
(2) في الكتيبة: وسرت به.
(3) في الأصلين: زلزالها. ولم يرد البيت في المصادر الأخرى.
(4) كذا وردت العبارة في الأصلين، وفي نثير الفرائد. ولعلها: وصنتم.
(5) الإشارة إلى جد الأسرة النصرية الصحابي الجليل سعد بن عبادة.
(6) سقيفة بني ساعدة في المدينة المنورة، والإشارة واضحة.
(7) القود: الناقة، والشكال: الحبل الذي تشد به قوائم الدابه.
(1/153)
________________________________________
لكن حبوتم من أجرتم منّة ... بخلافة الله التي يعشى لها (1)
إذ تؤثرون سواكم قالت بذا ... آي الكتاب (2)، فمن يردّ مقالها؟
30 حتّى إذا عثرت ولم ينهض بها … إلاّكم بادرتم إنشالها
آويتم خير البريّة كلّها … ومغيثها ونجاتها وثمالها
من ألبس الشرف الرفيع وضيعها ... وكسا معصفرة الحجا جهّالها
[44/ب]
ومنها:
لما تحققّت النبوّة أنّها … قد زلزلت منها الورى زلزالها
وتقاعست عن منعها أعمامها … أمّت أئمة نصرها أخوالها (3)
35 فوثبتم مثل الليّوث لنصرها … والحرب تخطف خلفها أمثالها
فأدرتم منها زبونا أصبحت … ترمي رؤوس الملحدين ثفالها
ومنها:
«بدر» وما بدر وردم قليبها … بجنادل الطّاغوت تملأ جالها (4)
ولكم «بأوطاس» (5) وقد حمي الو … طيس على العدى يوم أطاح محالها
فنزعتم أرواحها، وسبيتم … أولادها، وسلبتم أموالها
_________
(1) عشى إلى النار: رآها من بعيد فقصدها.
(2) يشير إلى الآية الكريمة «ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة».
(3) الإشارة إلى خؤولة النبي صلى الله عليه وسلم في الخزرج.
(4) الجال: جانب البئر. والقليب: البئر. والإشارة إلى وقعة (بدر).
(5) أوطاس: واد بديار هوازن فيه كانت وقعة حنين.
(1/154)
________________________________________
40 وذهبتم بالمصطفى لدياركم ... وحبا سواكم شاءها وجمالها (1)
فزتم به فوز المعلّى منحة … أحرزتم دون الأنام منالها
يا أيّها الملك الذي من ملكه … جنت الملوك جمالها وجلالها
ما زال حزبك في الورى يعلو على ... مرّ الدّهور ويعتلي أجبالها
حتّى حللت من المجادة ذروة ... ما حلّ غيرك في المجادة حالها
45 تحمي الهدى، تهمي النّدى، تولي الجدا ... وتقي الرّدى، وتري العدا أوجالها (2)
خذها كما دارت بكاس سلافها ... حوراء تمزج باللّمى جريالها (3)
تثني على السّحر الحلال وشاحها ... وتدير من خمر الفتون حلالها!
_________
(1) الإشارات كثيرة إلى ما كان في حنين وبعدها.
(2) في نثير الفرائد: ترمي العدا أوجالها.
(3) الجريال: صبغ أحمر!
(1/155)
________________________________________
الفقيه القاضي الخطيب محمد بن محمد السّلمي (*):
[كنيته:]
يكنى: أبا البركات، ويعرف بالبلّفيقي، وبابن الحاج. وأدركته ورأيته. وأصل سلفه [45/أ] من بلّفيق (1)، من بيت العلماء والمحدثين والحفاظ. وكان أبوه محمد بن إبراهيم محدّثا حافظا متفننا في العلوم.
وإبراهيم: والد محمد كان فقيها إماما عالما محدثا حافظا؛ رأيته.

ونسبه:
هو محمد بن محمد بن إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن محمد بن خلف ابن محمد بن سليمان بن سوار بن أحمد بن حزب الله بن عامر بن سعد الخير ابن أبي عيشون عياش بن محمود بن عنبسة بن حارثة بن العباس بن مرداس السّلمي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
_________
(*) أبو البركات ابن الحاج البلفيقي، (ت 773) وقيل 771 واحد من شيوخ غرناطة وقضاتها المعدودين في القرن الثامن. كان شيخ لسان الدين بن الخطيب وطبقته. وهو ينتمي إلى الصحابي الجليل العباس بن مرداس السلمي. نشأ بمدينة المرية وتلقى علومه فيها وفي مدن الأندلس الأخرى. ورحل إلى المغرب أكثر من رحلة قاصدا العلم والعلماء ووصل حتى بجاية. وعاد إلى الأندلس فولي القضاء في عدد من بلدانه كالمرية، ومالقة ورحل إلى المغرب في أغراض سلطانية. ولأبي البركات تصانيف متعددة الاغراض منها: تاريخ المرية، والمؤتمن على أنباء أبناء الزمن. وخلف ديوان شعر كان متداولا معتنى به. أثنى عليه الذين ترجموا له بالفهم والفضل وإفادة طلبة العلم، وكان أصحابه وتلامذته يقدمونه ويقدرونه غاية التقدير والتبجيل. (انظر ترجمته وأخباره في: الإحاطة لابن الخطيب:102، والكتيبة الكامنة له 127 والمرقبة العليا للنباهي 164، والديباج المذهب لابن فرحون:164، والتعريف لابن خلدون:61، ونفح الطيب 5:471).
(1) بلفيق: حصن من عمل مدينة المرية.
(1/156)
________________________________________
والدّاخل من أجداده إلى الأندلس من المشرق هو محمود بن عنبسة؛ دخلها مع موسى بن نصير.
وولاه القضاء (1) في سنة سبع عشرة وسبع مئة بشبالش، أمير المسلمين أبو الوليد إسماعيل عم أبينا بن جدّنا الرئيس الأمير أبي سعيد فرج. ثم لم يزالوا يوالونه (2) القضاء والخطابة بغرناطة وغيرها من البلاد، أبناء عمّنا الملوك من بني الأحمر آل نصر.
فلما ولي الملك ابن عمّنا أمير المؤمنين الغالب بالله المتوكل على الله أبو عبد الله محمد قدّمه على قضاء الجماعة بغرناطة بطول دولته. وبعثه رسولا لملك العدوة؛ وهو أمير المسلمين المستعين بالله أبو سالم إبراهيم. فلقيته بفاس، وأنا إذ ذاك بها في حضرة الملك من بني مرين حين أخرجنا بنو عمّنا الملوك من بني الأحمر آل نصر، فطلبت منه أن ينشدني من شعره فأنشدني ما نذكره إن شاء الله تعالى.

حاله:
هو علم أعلام القضاة، وصاحب الخلال المرتضاة. ورجل الحديث وأسد رجاله. وعلامة العلم وفارس مجاله. وعالم الرّواية، والمحصّل للدراية.
وربّ البلاغة والفصاحة، ومبرّز ميدان الذكاء والسّماحة. وباعه في القراءات مديد، ورأيه في الأحكام سديد. وبيته بيت علم سحب من الصّون ذيلا، وتضوّعت من عرف عرفانه نواسم الجلال نهارا وليلا.
_________
(1) عود الحديث إلى صاحب الترجمة.
(2) كذا في النسختين: وترى أنه استعمل لغة «أكلوني البراغيث».
(1/157)
________________________________________
أنشدني لنفسه (1):
يفنى الهوى وغرام عزّة باق … والشّوق يذهب ما عدا أشواقي
حلف الهوى ألا يفارق مهجتي … طول الزّمان إلى بلوغ تراقي
فالوجد ما طويت عليه جوانحي ... والدّمع ما جادت (2) به آماقي
أنا فارس العشّاق ما منهم فتى … يهتزّ بين يديّ يوم سباق
5 وإذا هم يعدون خلفي سرّعا … لم يظفروا يوم الهوى بلحاق
فأنا الذي عرف الرجال مقامه … من بينهم في مصرع العشّاق
قالوا لعاذ لنا وعاذرنا وما … بي من غرام منهم ووفاق (3)
قد صمّت اذني عن حديثكم كما ... عميت إذا شاهدتكم أحداقي!
إن شئت تعلم هل شعرت بأمركم ... أم لا، فهاك انظر إلى استغراقي
10 الحال أغلب والدّليل مؤخّر … والحكم في ذا الباب للأذواق
دعني وعزّة والغرام فإنّه … تثليث توحيد بغير نفاق!
داء الهوى ما إن أدين ببرئه … ما للطّبيب ولي، وما للرّاقي؟!
_________
(1) قال النباهي في ترجمته له (165): وكان التكلم بالشعر من أسهل شيء عليه في كثير مراجعاته وفنون مخاطباته. وله منها ديوان كبير يحوي من ضروب الأدب على جد وهزل، وسمين وجزل سماه ب‍ «العذب والأجاج».
(2) في النسختين: ما جاءت، ولعله تحريف عما أثبت.
(3) كذا البيت في النسختين، ولعل مطلعه: قولوا.
(1/158)
________________________________________
هي علة أو سكرة لا ترتجي ... صحوا، وكيف وما عدمت الساقي؟
لله ساق في حلاوة كأسه ... للمدنف الهيمان مرّ مذاق
15 وأمرّ من محن الهوى أن لم أبل ... بعظيم ما في جنب ذاك ألاقي
يا قلب كم أسعى ومالي مخلص ... نحو التفلّت من شديد وثاقي
لله ما يلقاه أرباب الهوى ... من كلّ ما يفري عرى الأعناق
لا غرو أن يشقى المحبّ ببعده ... إن لم يدن محبوبه بتلاق
الموت كلّ الموت أنّي مبتلى ... بفراق من يشكو أليم فراقي!
[46/أ]
20 يا من فؤادي في وصال جمالهم ... ما زال في طمع وفي إشفاق
إن كان دهر قد قضى بفراقنا ... فعساكم لا تنقضوا (1) ميثاقي!
_________
(1) لا هنا: النافية. وأظن الوزن ألجأه إلى الضرورة.
(1/159)
________________________________________
وأنشدني أيضا لنفسه، يخاطب بعض الطّلبة معتذرا له وقد [غفل عنه] في بعض حلق العلم (1):
إن كنت أبصرتك لا أبصرت … بصيرتي في الحقّ برهانها
لا غرو أنّي لم أشاهدكم … فالعين لا تبصر إنسانها!
وأنشدني أيضا لنفسه في البعاد (2):
قالوا تغّربت عن أهل وعن وطن ... فقلت لم يبق لي أهل ولا وطن
مضى الأحبّة والأهلون كلّهم ... وليس لي بعدهم سكنى ولا سكن
أفرغت دمعي وحزني بعدهم فإذا (3) ... من بعد ذلك لا دمع ولا حزن!
وأنشدني أيضا لنفسه:
قد كنت أحسب قدوة في سادة ... عدّوا بغير رضاي من أكفائي
فاجتاحهم ريب المنون فأصبحوا ... رهن الثرى نبأ من الأنباء
وأقام بعدهم الزمان صغارهم ... رغما أمامي، والكبار ورائي!
_________
(1) البيتان في الإحاطة 2:112 وفيه: إنه قالهما بسبتة. وهما في نفح الطيب 5: 481، وفي المرقبة العليا:176.
(2) البيتان في المرقبة العليا:166.
(3) في المرقبة: فأنا.
(1/160)
________________________________________
لم أرض بالطّرف العتيق مسابقا ... فبليت بالجريان خلف الشاء!
وأنشدني أيضا لنفسه في المجبّنة (1):
ومصفرّة الخدّين مطويّة الحشا ... على الجبن والمصفرّ يؤذن بالخوف
لها هيئة كالشّمس عند طلوعها ... ولكنّها في الحين تغرب في الجوف!

الفقيه الكاتب القاضي محمد بن عمر بن علي بن عتيق القرشي (*):
[46/ ب]

[كنيته:]
يكنى: أبا بكر. وأدركته، ورأيته. وكتب في الحضرة السلطانية لأبناء عمّنا الملوك من بني نصر. وصلّى بالسلطان منا بمسجد قصره في تراويح شهر رمضان. ثم صلّى بالنّاس بالمسجد الأعظم من الحضرة بعد ذلك. ثم ولي قضاء الجبل من غرناطة، ثم عزل عن ذلك الموضع وولي قضاء بسطة (2).
_________
(1) البيتان في الإحاطة 2:113، والمرقبة العليا:166، ونفح الطيب 5:781.
(*) ترجم لسان الدين بن الخطيب في الكتيبة الكامنة (ص 51) لوالد المترجم به هنا وهو أبو علي عمر بن علي بن عتيق القرشي، وقال إنه رحل إلى المشرق وأدى فريضة الحج وأنه «له شعر قليل». وترجم في الكتاب نفسه ص 200 «للكتاب أبي بكر محمد ابن محمد بن عمر بن علي القرشي» وكانت بينه وبين لسان الدين مراسلات ومطارحات شعرية (ص 201). ويرجح عندي أنه أبو بكر محمد بن عمر بن علي صاحب الترجمة عند ابن الأحمر. ويكون ما في الكتيبة من أنه (محمد بن محمد) سهوا من ناسخ النسخة المعتمدة هناك، حين زاد (محمد) بين الأب عمر وابنه أبي بكر محمد.
(2) بسطة: مدينة بالقرب من وادي آش، وهي من كور جيان.
(1/161)
________________________________________
حاله-رحمه الله تعالى-
كاتب الإمارة وقاضيها، ومنفّذ أحكام الشّريعة وممضيها، وخطيب الحفل، وإمام الفرض والنّفل. وفريد البلاغة التي لا يشحّ ينبوعها، ووحيد الفصاحة التي لا تقفر من البراعة ربوعها. وروضة العلم التي تفتّحت فيها للفنون أزاهر، ورافع راية الأدب التي عجز عن حملها كل ماهر.
فمن قوله يهنّئ أمير المسلمين أبا الحجّاج يوسف بن أمير المسلمين أبي الوليد إسماعيل عمّ أبينا بن جدّنا الرئيس الأمير أبي سعيد فرج، بإبلال من مرض.
عادت ببرئك بهجة الأيّام ... واستقبلتك بثغرها البسّام
وغدت عليك وفود راحتك الّتي ... نهبت جيوش السّقم والآلام
فانزاح عنك الضّير غير معاود ... وأتيح بالآمال كلّ مرام
فاستأنف العمر الطّويل فهذه ... بشرى السعّادة آذنت بدوام
ومنها:
5 فلأنت حائز خصل (1) كلّ فضيلة ... في الدّين يوم تراهن الأقوام
_________
(1) أحرز خصله، وأصاب خصله: غلب.
(1/162)
________________________________________
ولأنت أزهاهم وأطولهم يدا ... في الحالتين: النّقض والإبرام
برّزت فوق النجم في طلب العلا ... والغير كعّ (1) ومال للإحجام
أفعال أسرتك الّذين تسنّموا ... مرقى العلا فعلوا على بهرام (2)
وتميّزوا بين الأنام بمجدهم ... كتميّز الأعياد في الأيام
[47/أ]
10 قوم إذا افتخر الكرام فإنّهم ... غوث الصّريخ وقاتلو الإعدام
فضحوا البحار وكلّ طود راسخ ... بنداهم ورجاحة الأحلام
وكفى بهم شرفا على من غيرهم ... حبّ النبيّ ونصرة الإسلام
أمّا بنو نصر فأرواح، بها ... حيي الورى، والنّاس كالأجسام
والقوم جسم، يوسف هو روحه ... وصلت له الأعوام بالأعوام
15 قطب إذا داروا، وواسطة إذا ... نظموا، وشمس ضحى وبدر تمام
_________
(1) كع: جبن وضعف.
(2) بهرام: كوكب المريخ.
(1/163)
________________________________________
هو واحد الدّنيا الذي إن يرتجى ... كالغيث أو يخشى فكالضّرغام
طلق الجبين محبّب فكأنّه ... جذب القلوب لنفسه بزمام
يا أيّها الملك الذي إنعامه ... أبدا يسحّ، ولا انسكاب غمام!
غفل الأنام فأهملوا شكر الذّي ... وهبوه منك، فأنت خير إمام
20 وتنبّهوا لمّا اعتراك تألّم ... بالحال أنّك غاية الإنعام
فلقد تشكّى من شكاتك من نأت ... أسبابه فضلا على الخدّام
والآن صحّ لك الشّفاء وكلّهم ... قاموا بفرض الشكر أيّ قيام
وتكّفلت لهم السّعود بما ابتغوا ... فالخير أجمع في البسيطة نام
فاستشهدوا البشرى لذلك بينهم ... وأصاخ سمعا معرق وشآمي
25 نسأ (1) الإله لنا حياتك إنّها ... ذخر الأنام وبهجة الأيّام
_________
(1) نسأ الله في أجل فلان، من: نسأ الأمر إذا أخره.
(1/164)
________________________________________
الفقيه الكاتب القاضي الخطيب أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد
ابن عبد الله بن جزي الكلبي (*):
[كنيته:]
يكنى: أبا بكر، وأدركته؛ وهو من أهل غرناطة من أعلامها، من بيت العلماء والقضاة والخطباء (1).

وأبوه، أبو القاسم محمد كان خطيب الجامع الأعظم بغرناطة (**)
_________
(*) أبو بكر أحمد بن محمد بن جزي، خطيب، فقيه، قاض، كاتب، من وجوه غرناطة، وهو واحد من أسرة بني جزي، ويرجع أصل أسرة بني جزي إلى حصن البراجلة من ولبة. واستقر أسلافه بغرناطة منذ أن صارت هي الحاضرة. وكان أبو بكر في جملة كتاب الدولة النصرية وقضاتها. وله-إلى ذلك-مشاركة في شيء من التصنيف والتأليف، قال ابن الخطيب «له تقييد في الفقه على كتاب والده المسمى بالقوانين الفقهية، ورجز في الفرائض» ومن جملة أعماله القضاء بحضرة غرناطة والخطبة بمسجد السلطان، وكان موصوفا بالنزاهة والمضاء ولد سنة 715 وتوفي سنة 785 وكنيته في الإحاطة واللمحة البدرية أيضا أبو بكر، وكناه في الكتيبة الكامنة وبعض نسخ اللمحة البدرية (حاشية ص 116) بأبي جعفر. (الإحاطة 1:52، واللمحة البدرية:116،119، والكتيبة الكامنة:138، وبغية الوعاة 1:375 والدرر الكامنة 1:253، والديباج المذهب:41)
(1) بنو جزي أسرة مشهورة من الأسر التي كان لها ظهور في دولة غرناطة في القرن الثامن على الخصوص. وتعود شهرتهم في غرناطة إلى نبوغ عدد من رجالاتهم في علوم الشريعة، وفنون الأدب المختلفة، ولاصطناع السلاطين النصريين لهم في خطط الكتابة، والقضاء، والخطابة، وغير ذلك. وأشهرهم أبو القاسم محمد بن أحمد (المفسر) وأبو بكر أحمد بن محمد بن أحمد الذي ولي القضاء، والخطابة بالجامع الأعظم بغرناطة ومحمد بن محمد بن أحمد الكاتب لدى النصريين والمرينيين، ومدون رحلة ابن بطوطة بقلمه.
(**) الفقيه الخطيب المفسر؛ علامة عصره، أبو القاسم محمد بن أحمد بن جزي، صاحب التصانيف في فنون الشريعة والعربية، الشهيد في معركة طريف مجاهدا محتسبا =
(1/165)
________________________________________
وكان [47/ب] فقيها إماما عالما بجميع العلوم، محصلا، قارب درجة الاجتهاد، ودون وصنف في كل فن. وكان أحد أهل الفتيا بغرناطة، وقتل شهيدا بطريف في سنة إحدى وأربعين وسبع مئة.
ولجده السلطان الأمير أبي بكر بن جزي الظهور بمدينة جيان (1). بويع بها في شهر رمضان سنة تسع وثلاثين وخمس مئة.
_________
= قال تلميذه لسان الدين في ترجمته «من أهل غرناطة وذوي الأصالة والنباهة فيها. كان رحمه الله على طريقة مثلى من العكوف على العلم والاشتغال بالنظر والتقييد والتدوين فقيها حافظا قائما على التدريس، مشاركا في فنون من عربية وأصول وقراءات وحديث وأدب. حافظا للتفسير، مستوعبا للأقوال، جماعة للكتب، ملوكي الخزانة، حسن المجلس ممتع المحاضرة، صحيح الباطن. تقدم خطيبا على حداثة سنه، فاتفق على فضله، وجرى على سنن أصالته.». وله مؤلفات كثيرة، منها: وسيلة المسلم في تهذيب صحيح مسلم، وكتاب الأقوال السنية في الكلمات السنية، وكتاب الدعوات والأذكار المخرجة من صحيح الأخبار. وكتاب القوانين الفقهية في تلخيص مذهب المالكية والتنبيه على مذهب الشافعية والحنبلية والحنفية، وكتاب تقريب الوصول إلى علم الأصول. وكتاب النور المبين في قواعد عقائد الدين، وكتاب المختصر البارع في قراءة نافع، وكتاب أصول القراء الستة غير نافع، وكتاب الفوائد العامة في لحن العامة. وله فهرسة كبيرة. وأبو القاسم بن جزي هو مؤلف التفسير الشهير-التسهيل إلى علوم التنزيل- (انظره محققا بعناية الدكتور عدنان زر زور والدكتور محمد رضوان الداية). كانت ولادة ابن جزي سنة 693 وتوفي شهيدا في معركة طريف التي جرت سنة 741 بين دولة بني نصر المتحالفين مع بني مرين من جهة وتحالف الدول الإسبانية البرتغالية والمطوعة معهم من جهة أخرى، ومحص الله فيها المسلمين. قالوا في ترجمته إنه فقد وهو يحرض الناس -على الجهاد- ويقاتل مجاهدا. تقبل الله شهادته.
(1) جيان مدينة كبيرة، كانت حاضرة كورة باسمها.
(1/166)
________________________________________
والقاضي أبو بكر (1)
هذا استكتبه بالحضرة السلطانية ابن عم أبينا أمير المسلمين أبو الحجاج يوسف، ثم بعد ذلك ولي القضاء ببرجة، ثم بأندرش، ثم بوادي آش (2). وولي أيضا قضاء الجماعة بغرناطة بمسجدها الأعظم في دولة ابن عمنا أمير المسلمين أبي الوليد إسماعيل.

حاله-أكرمه الله-
قدّم للقضاء فعدل، وما عن النّهج القويم عدل. ولا وجد له جور ولا ذوى للحقّ بعدله نور. فطابت بجميل ذكره الخواطر، وتضوّع من حسن سيرته المسك العاطر. وقلّد الكتابة فأجال قداحها، وأبان بالإجادة مساءها وصباحها. وسلك من الفضل الجسيم، الواضح الوسيم؛ على السّنن المأثور، وركض في ميدان الآداب جياد المنظوم والمنثور. إلى ما شئت من سكينة وعفاف، وتخلّق بالمحامد وإنصاف. ونسب قصّر عن وصفه الحافظ المجيد، وشرف تحلّى به للفخر النّحر والجيد.
فمن قوله يهنّئ بها ابن عمّ أبينا، أمير المسلمين أبا الحجاج (3) ببعض المغازي (4):
_________
(1) عود إلى المترجم به.
(2) برجة من أعمال المرية، وهي على واد يعرف بوادي عذراء. وأندرش: مدينة من أعمال المرية. ووادي آش: مدينة بالأندلس قريبة من غرناطة.
(3) هو الأمير النصري أبو الحجاج يوسف بن إسماعيل بن فرج. حكم غرناطة (734 - 755).
(4) في مدة الأمير المذكور كانت وقعة طريف (741) وأدت إلى استيلاء صاحب قشتالة ألفونسو على الجزيرة الخضراء وحاصر المسلمين وجاس خلال ديارهم. ونازل جبل الفتح سنة 751 ولكنه هلك حتف أنفه دون ذلك فانفض جيشه وطورد فله.
(1/167)
________________________________________
سعود بها الإسلام نال أمانيّه … أشادت ببشراه وشادت مبانيه
هنيئا لهذا الملك نصر مؤزّر … وحق علينا أن نديم تهانيه
ضمان على الأيام أنّك غالب … وأنّك لا تبقي من الشّرك باقيّه
لقد نصر الإسلام منك مؤيّد … معالمه أحيى، وأعلى مراقيه
[48/أ]
5 فيا غزوة ما كان أسعد يومها … ويا نعمة للدّين والملك ضافيّه
ويا بطشة ما كان أعظم صولها ... ويا عزمة كانت على الرّوم قاضيه
ومنها:
لقد عزّ دين كنت أنت حسامه ... وناصره إن ناب خطب وحاميه
هو الملك زانته مكارم جمّة ... لديك وصانته عزائم ماضيه
فأوليته الإعزاز لمّا وليته ... وأخصبت مرعاه وأعشبت واديه
10 وسدّدت مرماه وأعليت أمره ... وشيّدت مبناه وشرّفت ناديه
وحلّيت بالإسلام والجود جيده ... وجلّيت بالتّوفيق والرّشد داجيه
ألا في سبيل الله ما أنت صانع ... ولله والإسلام ما كنت آتيه
قضى لك بالتفضيل كلّ مجرّب ... عليم بأخبار الأوائل راويه
(1/168)
________________________________________
وله أيضا في العذار، وهو أحسن ما قيل فيه. وسبب ذلك أن كتّاب الحضرة السلطانية اليوسفيّة تذاكروا معنى مخترعا في العذار لم تسبق إليه الشعراء فأتى كل بما في قدرته فقال هو-على البديهة:
أتى أولو الكتب والحرب الألى عزموا ... من بعد سلمي على حربي وإسلامي
واستطر دوني لتشبيه العذار لهم ... وجادلوني فيه دون أحلام
فقال ذو الكتب لا أرضى الكتائب في ... تشبيهه لا وأنقاسي (1) وأقلامي
وقال ذو الحرب ما المحراب مشتبها ... عندي به لا وأسيافي وأعلامي
فقلت أجمع بين الحالتين إذا ... باللام، فاستحسنوا التشبيه باللام!
وقال أيضا مورّيا بالكتب:
(أمالي) الشّوق تملأ لي الدّفاتر ... أقول هي (الصّحاح) هي (النّوادر)
ومن حبّي (خلاصة) كلّ حب ... ومن صبري (معونة) كل صابر
[48/ب]
ومن قلبي (المخلّص) (2) و (الموطّا) ... ومن دمعي (المفصّل) و (الجواهر)
_________
(1) فيهما: أنفاسي (بالفاء). وأنقاس جمع نقس (بكسر النون): المداد يكتب به.
(2) في النسختين: المخلص.
(1/169)
________________________________________
الفقيه الكاتب القاضي الخطيب علي بن عبد الله بن الحسن
الجذامي (*):
[كنيته:]
يكنى أبا الحسن، وأدركته، ورأيته، ويعرف بابن الحسن، وبالبني.
وهو من أهل مالقة، من بيت رفيع المجادة؛ من أولي علم وقضاء وخطابه.
وقدّمه قاضيا بغرناطة ابن عمنا أمير المسلمين الغني بالله أبو عبد الله محمد المخلوع واختطب به، واستكتبه، ثم قدّمه على قضاء الجماعة ثانية.
ولجده الفقيه القاضي ابن الحسن المالقي أخبار شهيرة مع الحاجب المنصور بالله، أبي عامر محمد بن أبي عامر المعافري، حاجب هشام المؤيد بالله أمير
_________
(*) أبو الحسن علي بن عبد الله، الشهير بالقاضي النباهي. من رجال الدولة النصرية في النصف الثاني من القرن الثامن. ولد بمدينة مالقة سنة 703، واستكمل علومه في مدينة غرناطة وولي القضاء في بعض مدن دولة غرناطة ثم التحق كاتبا بالديوان. وقد حظي عند الغني بالله محمد الخامس بمكانة مرموقة فصار قاضي الجماعة على أيامه. ولا يذكر القاضي النباهي دون أن يذكر معه لسان الدين بن الخطيب. فقد بدآ صديقين، يتقارضان الثناء. وذكره ابن الخطيب في الإحاطة في ترجمة مديحة لم يضن فيها بالإطراء، ولكنه نقض كلامه في (أعمال الأعلام) وفي (الكتيبة الكامنة) وهجاه هجوا مرا. ولما اشتد بينهما الخلاف ألف فيه «خلع الرسن في وصف القاضي أبي الحسن». وكان النباهي من أهم المحرضين على ابن الخطيب، لا يعدله في ذلك غير ابن زمرك الوزير الذي جاء بعد ابن الخطيب. واشتدت الحملة بينهما بعد أن غادر لسان الدين إلى المغرب تاركا وزارته بغرناطة ومقاطعا السلطان النصري. للنباهي «المرقبة العليا فيمن يستحق القضاء والفتيا» ط-القاهرة-وشرح المقامة النخلية-خ-. قال في «نيل الابتهاج» إنه كان حيا سنة 793. (انظر نيل الابتهاج 205 والكتيبة الكامنة 146، وأزهار الرياض 1:212، ونفح الطيب 5:122. وفيه كتاب النباهي إلى لسان الدين يلومه ويفند مواقفه).
(1/170)
________________________________________
المؤمنين الأموي، خليفة الأندلس، أثبت هنا منها حكاية طريفة. ولم أثبتها إلا ليعلم منها أصالتها (1)، وعلوّ منصبه. وهي ما قال (2) محمد به موسى بن عزرون عن أبيه موسى. قال: اجتمعنا يوما في متنزّه لنا بجهة النّاعورة بقرطبة مع المنصور بن أبي عامر (3) في حداثة سنّه، وأوان طلبه، وهو مرجئ (4) مؤمّل. ومعنا ابن عمّه عمرو بن عبد الله بن عسقلاجه (5)، والكاتب ابن المرعزي، والفقيه ابن الحسن المالقي (6) وكانت معنا سفرة فيها طعام. فقال ابن أبي عامر من ذلك الكلام الذي يتكلم به: لا بد أن أملك الأندلس! وأملك الرجال! وأقود الجيوش! وينفذ حكمي في جميع الأندلس! ونحن نضحك من قوله (7) ونتعجّب من حديثه. فقال (8):
يتمنى كل واحد منكم ما شاء، فتمنى كل واحد منهم، فقال عمرو بن عبد الله، نتمنى (9) أن توليني المدينة لضرب الظّهور والجناة (10)، ونفتحها مثل هذه الشاردة (11). وقال ابن المرعزي: أنا أشتهي هذه الإسفنج، توليني أحكام السّوق حتّى نشتفي منها! وقال ابن الحسن، أحبّ هذا التين نتمنى
_________
(1) في النسختين: أصالتها. ولعله: أصالته.
(2) الخبر في المرقبة العليا للنباهي (المترجم به): «81».
(3) في المرقبة العليا «وهو في حداثة سنه».
(4) في النسختين: (مرجئ، مهموزة) وفي المرقبة: مرجي. قلت كأنه يريد: راج.
(5) في نسخة ط: عسقالجة. والمثبت من م، ومثله في المرقبة.
(6) في المرقبة العليا: الحسن بن عبد الله بن الحسن المالقي.
(7) في المرقبة العليا: ونضحك معه.
(8) في المرقبة العليا: تمنوا علي.
(9) في المرقبة العليا: أتمنى.
(10) اختصر النباهي: في «المرقبة» من القصة الحديث عن المآكل الواردة بعد.
(11) في «ط»: الساردة.
(1/171)
________________________________________
تولّيني القضاء بريّة (1) حتى أتشفّى من ذلك.
[49/أ] قال موسى بن عزرون: فقال لي تمنّ أنت! قال فشققت لحيته، وضرطت به وقلت قولا قبيحا من أقوال السّفال. قال فلمّا صار المنصور إلى ما صار من ملك الأندلس ولى ابن عمّه المدينة، وولّى ابن المرعزي أحكام السّوق، وولى ابن الحسن المالقي قضاء ريّة، وبلغ كل واحد منهم ما تمنّى، وأغرمني أنا مالا عظيما أجحف بي وأفقرني لقبح ما جئت به! (2).

حاله:
ملك من الطريقة الأدبيّة الصدور والأعجاز، وضرب القداح في منثورها ومنظومها بمعلاهما وفاز. واهتز قضيب براعته في المسائل الفقهية أي اهتزاز.
ذو إصابة في الأحكام الشرعية، ووقوف عند حدودها السنيّة. إلى سمت ووقار، وكلام ألذ من كاسات العقار.
فمن قوله ما كتب به للشريف الفقيه القاضي أبي القاسم محمد بن الفقيه القاضي أبي علي حسن الحسيني السّبتي المعروف بالتّلمساني:
يا عمادي الذي له القدر العالي، والفضل المستوالي؛ والمكارم التي صحّت منها الأسانيد وحسنت الأمالي. خصّكم الله بدوام السّعادة، وحباكم من عوارفه بالحسنى والزيادة. وصلت العقيلة الجليلة التي قادت الجذل، وسحرت بجمالها المثل. وهبّت أسرار معانيها هبوب الرّياح، وسرت ألطافها الشريفة مسرى الحياة في الأرواح. أكرم بها من زهرة سعيدة، وزهرة لشرخ الشباب معيدة. لم تكدّر صفو شهدها (3) إبر النحل. ولا شكت دوحة مجدها
_________
(1) رية: كورة من كور الأندلس في قبلي قرطبة. قال في المغرب: وتعرف الآن بمالقة، والتين فيها مفضل على سائرتين الأندلس (المغرب 1:423).
(2) اختصر في «المرقبة» هذه الفقرة.
(3) في (م) ثمدها.
(1/172)
________________________________________
ألم المحل. يمينا لقد أنست صباحتها محاسن أدباء بغداد، وأزرت فصاحتها بخطباء إياد. فمن سطور تحاكها الشذّور، وتغصّ بمرآها البدور، ومن طرف أغراض تذهب بعلل القلوب المراض، ويقصر عن طيب شذاها أنفاس [49/ب] الرّياض. ومن معان تطلق من ربقة الجهل كلّ عان.
فنزّهت فيها الناظر والخاطر، ونافحت بها الرّوض الماطر، والمسك العاطر. وناديت بأعلى صوتي: بمثل هذه الخريدة، الفذّة الفريدة؛ يكاثر من يكاثر؛ ويفاخر من يفاخر. ثم إني أقبلت أناجيها بالضّمير، وأقول في مراجعتها بلسان التّقصير:
يا تحفة القلم الذي زان الزّمن ... من ذا يقوم بشكر من أهداك من؟
إن خطّ مهرقه فقد سحر النّهى ... وأراك فيه وشي صنعاء اليمن
وكلامه نظما ونثرا لؤلؤ ... لكنه يربي على غالي الثّمن
أبدى وأظهر من صفاة كماله ... ما كان لي في القلب منه قد كمن
لا زال يبلغ في الزّمان مراده ... ويبيت من طرق الليّالي في أمن
وعذرا يا سيّدي في الاختصار والاقتصار من الكلام على هذا المقدار. فلا خفاء عليكم بما لديّ من القصور في المنظوم والمنثور. على أني لو كنت أشعر من حبيب، وأخطب من شبيب، وأحكم من أكثم، أو عمرو بن الأهتم؛ وأطرف وأطبع من الملقب في عدوان بذي الإصبع، وأصبحت
(1/173)
________________________________________
بعلوم البيان أعلم من الشيخ أبي عبد الرحمن، أو (. . .) (1) عمرو بن أبي عثمان (2) أو الأخفش علي بن سليمان لاستقصرت كلّ لسان، ولرأيت الواجب لكم فوق ذلكم الإحسان.
بيد أن المعظّم يعاتب مثابة الجمال والإجمال معاتبة الإدلال، والجمع بين المفاكهة والإجلال، والإحماض والإخلال. فنقول: العقيلة المعبر عنها أصاب كمالها سهم النقص، إذ دفعت إلى الشخص الذي هو دون قدرها بالقياس والنص! فليس لمثلي على القيام بحقها من يدين، ولو أني علوت الفرقدين، واستنزلت النّيرّن الأكبرين، وسقت لها النّعائم والشّعريين، والزّباني مع البطين. وأمّا قرطا ماريّة فما إن رضيت بهما لها من قرطين، ولو كللّلا بالغفر والشّرطين [50/أ] ولم لا وهي بنت فكر إمام المغربين، وجمال المشرقين، وقدوه العدوتين. فكيف جرى هذا الواقع، ومتى حلّ السّبب القاطع، حتى ظهر على الشّمس المنيرة النّسر الواقع. هنا يجمل تعصّب الفقيه، ويحمد تكلّمه بملء فيه، وإظهار ما يرويه ويدّعيه؛ من سند وثيق، ونكت تحقيق، ونصوص توثيق. فهو محلّ القبول والردّ، والحلّ والعقد، والاستدراك والنقد.
إيه، أيها المنعم بالتّحفة المعطارة، قد آن للمعظّم أن يكف من هذه الغزارة (3). ويراجع نفسه، فبئست الجارة، والعصيّة الأمارة، والمكرهة المختارة. فأقول-وبالحقّ أصول-صنيعة العماد إنما هي درر وشذور.
ثبت عدم قارون عندها وإن العديم لمعذور. وغير نكير على البحر الكبير
_________
(1) في ط: كريمة، وفي م: لريمة. ولم تتوجه لي في قراءتها.
(2) فيهما عمرو بن عثمان، قلت لعله عمرو أبي عثمان (الجاحظ).
(3) في النسختين: الغزارة، «بغين وزاي».
(1/174)
________________________________________
أن يجود على فقير أو حقير بمذخور. فسيّدي أولى من تطوّل بالهيبة السّمحة والنعمة السّحّة، من غير منّ ولا أذى، ولا تعلّل بفتح باب «حتّى» و «إذا». فهو ربّ الأيادي، وملاذ الحاضر والبادي. أبقاه الله شرفا للأيام، وفخر الدولة السامية المقام. وهذا ما حضر من الكلام، والسّلام.

الفقيه الكاتب أحمد بن علي بن محمد بن علي ابن محمد بن محمد بن خاتمة الأنصاري (*)
[كنيته:]
يكنى أبا جعفر، وأدركته.
_________
(*) أبو جعفر أحمد بن علي بن خاتمة، الشاعر، الفقيه، الكاتب، (700 - 770) كان مشاركا في ضروب من العلوم والمعارف، مشهورا بالبراعة والإتقان، سالكا خطة حميدة من الزهد والتقوى، بارعا في الأغراض الشعرية. أثنى عليه معاصروه، وخصه لسان الدين بن الخطيب بعدد من التراجم في كتبه التي ألفها، وكانت بينهما مراسلات تدل على صداقة وطيدة. وقد شارك ابن خاتمة في التأليف وكان من وجوه العصر وأدبائه المعدودين. فمن كتبه «تحصيل غرض القاصد في تفصيل المرض الوافد» مخطوط، ومزية المرية على غيرها من البلاد الأندلسية، منه نقول عند المقري وغيره، و «إيراد اللآل من إنشاد الضوال» في لحن العامة، مطبوع، ورسائل متفرقة. كما جمع تلميذه ابن زرقا له طائفة حسنة من شعر أستاذه ابن خاتمة في غرض التورية في كراس سماه «رائق التحلية وفائق التورية» مخطوط، وقد حققت ديوان ابن خاتمة معتمدا على نسختين إحداهما عن مخطوطة بخط المؤلف نفسه، (طبع بوزارة الثقافة والإرشاد القومي-بدمشق-1972). (انظر ترجمة ابن خاتمة في الإحاطة للسان الدين 1:114، والكتيبة الكامنة له: 239، ودرة الحجال لابن القاضي 1:40، ونيل الابتهاج 72. وانظر أخبارا وافية عن حياته وأدبه وديوانه في مقدمة الديوان).
(1/175)
________________________________________
وهو من المريّة (1)، وكان يكتب على أهلها إلى السّلطان ويقرئ، العربية وسائر العلوم بها.

حاله-سلمه الله-
أسد ميدان الطلب، وربّ الفصاحة والأدب. وفارس البيان واليراعة، ورب الكتابة والبراعة. إلى خط يستوقف من حسنه الأبصار، وقريض يقرض شعراء الأعصار. وإنشاء نشأت منه الإجادة في الأمصار. وشعراء الأندلس يقدمونه على أنفسهم، ومع ذلك يلتزم التواضع لأدناهم وأنفسهم.
[50/ب]
فمن قوله يتغزل (2):
أكلّ شاك بداء الحبّ مضناك ... ماذا جنته على العشّاق عيناك
قد كان لي عن سبيل الحبّ منصرف ... حتى دعوت له قلبي فلبّاك
_________
(1) المرية مدينة على الشاطئ الجنوبي الشرقي من الأندلس، كانت فرضة رئيسة في دولة غرناطة تقصدها المراكب من الإسكندرية والشام وغيرها. والمرية مدينة عربية أسسها عبد الرحمن الناصر سنة 344.
(انظر في التعريف بها الروض المعطار للحميري:537، ومعجم ياقوت 5:118 والمغرب لابن سعيد 2:193، ومشاهدات لسان الدين:43 - 44 ومقدمة ديوان ابن خاتمة).
(2) أوردت القصيدة في ديوان ابن خاتمة (نقلا عن نثير الجمان)، انظر 203.
(1/176)
________________________________________
أيقظته لأساة (1) ثم نمت وما ... باليت، إياك شكوى الصّب إيّاك!
أحيي ذماي وما أتلفت من رمق ... إن قلت عطفاك قالا بل دلالاك
5 كأنّني لست أدري من أراق دمي ... والله ما بفؤادي غير مرماك
أستغفر الله لا أبغيك مظلمة ... فأنت منّي في حلّ ومن ذاك
كل عليّ له جند مجنّدة ... يكفيك يا هند أنّي بعض قتلاك!
كيف الخلاص لمثلي من هواك وقد ... رمى بي الوجد في أشراك أسراك
أعدت جفونك قلبي حيرة وضنى ... فهل دليل لقلب حائر شاك؟
10 قد كنت أطمع أن تصحو صبابته ... لو قد صحت من حميّا التيّه عطفاك
زجرت فيك رسول الطّرف عن نظر ... فهل على القلب عتب إن تمنّاك؟!
يا طلعة الحسن تزهو في ملابسه ... رحماك في أنفس العشّاق! رحماك!
_________
(1) كذا في الأصلين، ولعلها، لأساه
(1/177)
________________________________________
تيهي على الشمس واسبي البدر مطلعه ... فإنما روضة الدّنيا محيّاك
أقول والرّوض يجلى في زخارفه ... من علّم الرّوض يحكي حسن مغناك؟
15 في فيك راح وفي عطفيك هزّتها ... فهل تثنّيك سكرا من ثناياك؟
أليس من أعظم الأشياء موجدة ... أن تضحكي بي وطرفي دائم (1) باك
وأقطع العمر مالي في سواك هوى ... وليس لي منك يوما حظّ مسواك!
أومي بفيّ لتقبيل الصّبا ولها ... أقول شوقا عساها قبّلت فاك!
وأملأ الصّدر من أنفاسها كلفا ... بما أشمّ بها من طيب ريّاك
[51/أ]
20 هل بالأثيل وبان الجزع تسلية ... وما الأثيل وبان الجزع لولاك؟
إني لأهواه والثاوي بحلّته ... ولست أهوى على التّحقيق إلاك!
أحبّ نجدا إلى جرّاء ساكنه ... وما محبّته إلا بجرّاك
_________
(1) في الأصلين: دائم.
(1/178)
________________________________________
يا من نأت وبأحناء الضّلوع ثوت ... تراك تنسين صبا ليس ينساك؟
أما وسرّ جمال أنت رونقه ... لو صوّر الحسن شخصا ما تعدّاك!
25 حيّي على البعد تحيي نفس ذي كمد ... ما إن تهبّ صبا إلا وحيّاك!
وكتب إليه صاحبنا الفقيه العالم الكاتب أبو عبد الله محمد بن أبي القاسم محمد بن جزي الكلبي (1) الأندلسي قصيدة حذف منها الراء المهملة للثغ يعتري لسانه؛ يجعل مكان الراء غينا معجمة وهي:
وعد الوفاء وليته ما نجزا (2) ... طيف ألمّ بمقلتي مستوفزا
ماذا يفيد الطّيف إذ ينتابني ... والنّوم قد أعيى الجفون وأعجزا
يا قاتل الله الزّمان فإنّه ... ما زال في عنوانه متجوّزا
وإذا تغافل عنك حينا خطبه ... فمكيدة حتى يصادف منهزا!
لله أيام خوال لم أكن ... فيهنّ إلا للهوى متحيّزا
_________
(1) سبق الحديث عنه، وعن أسرة بني جزي.
(2) في الأصلين «ما نجزا».
(1/179)
________________________________________
5 أتتبّع اللذات حيث وجدتها ... وأميل نحو الأنس حيث تحّوزا (1)
وأظلّ حيث اللهو يبسط ظلّه ... حتّى عزاني للبطالة من عزا
والعيش غض و****** مساعد ... بالوصل عفوا قبل أن يستنجزا
إنّ الشباب، إذا سموت للذّة ... وجعلته مفتاحه لن تعجزا!
10 ومعلّل قلبي بخلّب لفظه ... وعد الجميل ووعده لن ينجزا
قد كنت أحمل صدّه وجفاءه ... حتّى أعينا بالبعاد وعزّزا
[51/ب]
ها إنّني من بعده لا ميّت ... أبكى، ولا حيّ، فهلاّ أجهزا؟
يا عيشة ألوى بجدّتها النّوى ... كانت كما أنشأت لفظا موجزا
ومحا محاسنها البعاد فقد سلا ... عنها فؤادي بالتعلّل واجتزا
15 خدع الزّمان بها وكنت أظنّني ... خادعته فأبان عمّا ألغزا
_________
(1) تحوز كتحيز: تنحى. يريد: أميل نحو الأندلس حيث مال.
(1/180)
________________________________________
من مبلغ عنّي ابن خاتمة الذي ... ختمت به البلغاء فذّا معجزا
إن البلاغة قد ملكت زمامها ... وفتحت مقفلها الذي قد أعوزا
جلّيت في ميدانها وفضحت من ... كان انتمى قدما إليها واعتزى
ولك البيان سحبت من أذياله ... في حالتيه مطنبا أو موجزا
20 قاد القوافي طائعات فهو لا ... يخشى عقائل نظمها أن تنشزا
خذّها أبا العبّاس من ذي خلّة (1) ... لك قد غدا بخلوصها متميّزا
حسناء كالذّهب المصفّى خلّصت ... لتخطّ في صحف القلوب وتكنزا
حاشيت أخت الزّاي منها عامدا ... حتّى لكدت إخال ذلك معوزا
وافتك مبلغة سلامي بعد ما ... طال البعاد فأولها حسن الجزا!
_________
(1) الخلة: الصداقة والمحبة.
(1/181)
________________________________________
فجاوبه بقصيدة هجر فيها الراء المهملة، وبرسالة مثلها زائية، معجمة، وهي (1):
مزج البلاغة بالجزالة موجزا ... وأتى به في الحسن بدعا معجزا
ينساب بين حلاوة وطلاوة ... جمع البديع به البديع فأوجزا
وافى يجاذبني الحديث وإنّما ... وافى يجشّم بذل نيل معوزا
هلا وملعب خيلي الآداب إذ ... أسمو لها من قبل أن تتنجّزا
5 تهفو بعطفي نحوها خلق الصّبا ... ميلا لحيّز حسنها وتحيّزا
[52/أ]
أمّا وقد جذبت عنان عنايتي ... أيدي الحقائق فانتبذت تجوّزا
همّي تلقّي علم او إلقاؤه ... ممّا يؤمّل نفعه يوم الجزا
وعقائل الآداب ما لم تصطنع ... بعد التّثني أو شكت أن تنشزا
وعزيزة الأبيات أودع نظمها ... من واضح الآيات ما قد أعجزا
_________
(1) أوردت القصيدة في ديوان ابن خاتمة:191 نقلا عن نثير الجمان.
(1/182)
________________________________________
10لو واصل بن عطاء * أعطي وصلها ... لم يعتزل عن حسنها، ولها اعتزى!
ولأصبحت فيما أتاه أسوة ... يعتادها من جدّ قولا أو هزا (1)
حيّى بها (كالابن) (2) بل أحيى بها ... ماضي البديهة مسهبا أو موجزا
قسما بما خطّت غوالي نقسه (3) ... في وجه صفحتها الذّي لا يوتزى (4)
ما جنّة بالحزن دبّج وشيها ... وكّاف (5) مزن لم يبت مستوفزا
15 قد عمّها وجه الزّمان محاسنا ... تستوقف الأحداق أن تتجوّزا (6)
لغناء ساجعها افتتان مساجل ... يثني عليها مفصحا أو ملغزا
_________
(*) واصل بن عطاء (80 - 131) من رؤوس المعتزلة. كان من أئمة البلغاء والمتكلمين، وكان يلثغ بالراء فيجعلها غينا؛ فتجنب الراء في خطابه، وضرب به المثل في ذلك.
(1) يريد: من جد أو هزل. وقد ورد مثل هذا الحذف في الشعر.
(2) فيهما: كالابن. ولم تظهر.
(3) وردت الكلمتان في الأصلين «عوالي نفسه». ولعل ما أثبته هو الصحيح لسياق المعنى. والغوالي جمع غالية «ضرب من الطيب». والنقس: الحبر.
(4) آزى الشيء: حازاه وجاراه.
(5) في م: وكف.
(6) يريد: محاسن تجتذب النظر اجتذابا.
(1/183)
________________________________________
سحب النّسيم بها فضول ذيوله ... فتضوّعت طيبا ولانت مغمزا
بأتمّ أنفاسا وأعذب نغمة ... منه، لدى سمع، وآنق حيّزا
إيه مهيّجة الجوى بجوانحي ... شوقا لمن بحلى علاه تميّزا
20 بحياة ودّي في امتداد حياته ... ووفاء عهد صنته أن يغمزا (1)
قولي وزيدي وابسطي لي حاله ... لا توجزي، ما حقّه أن يوجزا
وصفي ففي أوصافه ما يجتلى ... صدعا بها فبوحيها لا يجتزا (2)
لمحمد بن جزيّ آية سودد (3) ... قد ظلّ في العليا بها متميّزا
ندب إذا ما المجد نيل بمهنة (4) ... لم يأل أن يحظى به متعزّزا
25 أضحى ذكاء بني جزيّ (غدوا) (5) ... شهب العلاء بكلّ أفق حيّزا
_________
(1) يريد وفاء عهد صادق لا مطعن فيه.
(2) اجتزأ به: اكتفى.
(3) أضلها بالهمز، وسهلت.
(4) الندب: النجيب، الخفيف في الحاجة. واستعمل الشاعر «المهنة» هنا بمعنى المهانة.
(5) في الأصلين: غدوا، ولم يتوجه.
(1/184)
________________________________________
[52/أ]
وعد الزمان به اعتدال محاسن ... والآن آن لوعده أن ينجزا
وإليكها منّي تعلة معوز ... فلقد سموت إليه سهلا معوزا
جانبت ما جانبت فيه تشيّعا ... فمن انتبذت فنبذه عندي الجزا (1)
يا أخي، الذي سما وده أن يجازى، وسيّدي، الذي علا مجده من أن يوازى. وصل الله تعالى لك أسباب الاعتلاء والاعتزاز. و «كاف» مالك من الاختصاص بالفضائل والامتياز. أما إنه لو وسع التخلّف عن جواب أخ أعزّ، ولم يجب التّكّلّف على توسّد العجز، لغطّيت عجزي عن عين تعجيزك؛ ولما تعاطيت المثول في زيّ مناهزك أو مجيزك. لكنّه في حكم الودّ المكنون المكنوز؛ ممّا لا يحلّ ولا يجوز. فلكم الفضل في الإغضاء عن عاجز، دعاه حكم التّكلّف إلى القيام مقام مناجز. وإن لم يكن ذلك عند الإنصاف، وحميد الأوصاف من الطّائع الجائز. فعن جهد ما بلغ وليّك إلى هذه الأجواز، ولم يحصل من الحقيقة إلا على المجاز. أما ما ذهبتم (2) إليه من تخميسي القصيدة التي
_________
(1) تجنب حرف الراء.
(2) لم يثبت ابن الأحمر غير قصيدة لابن جزي ولم يصلها برسالة كما صنع في إيراد قصيدة ابن خاتمة ورسالته. ويبدو من الكلام أن ابن جزي كان قد أثنى على قصيدة مخمسة لابن خاتمة كما ترى. قلت، وفي ديوان ابن خاتمة تخميس (تسميط) لطيف لقصيدة ابن الخيمي مطلعها: =
(1/185)
________________________________________
أعجزت، وبلغت من البلاغة الغاية التي عزّت مناهضتها، وأعوزت، فلم أكن لأستهدف ثانيا لمضاضة الإعجاز، وأسجل على نفسي بالإفلاس والإعواز!

شيخنا الفقيه الخطيب فرج بن قاسم
ابن أحمد بن لب التغلبي (*).
[كنيته:]
يكنى أبا سعيد، وأدركته، وبعث لي بالإجازة العامة من غرناطة إلى فاس، وأنا قاطن بها في حضرة الملوك من مرين، حين أخرجنا عن الأندلس بنو عمنا الملوك من بني نصر. وهو من أهل غرناطة. وولاه الخطابة بجامعها الأعظم أمير المسلمين يوسف ابن عم أبينا. وهو الآن يخطب به على حاله-أعانه الله تعالى-.
_________
= منك التجلي ومنا الستر والحجب ... وكل نعمى فمن علياك ترتقب
وأنت أنت الذي أبغي وأطلب ... «يا مطلبا ليس لي في غيره أرب»
إليك آل التقصي وانتهى الطلب»
انظر ديوان ابن خاتمة 30 وما بعدها.
(*) قال في نفح الطيب في التعريف به: شيخ الشيوخ العلامة أبو سعيد فرج بن لب، وذكره لسان الدين في الإحاطة بالمدح والثناء وقال إن عليه مدار الشورى وإليه مرجع الفتوى لقيامه على الفقه وغزارة علمه وحفظه، إلى المعرفة بالعربية واللغة، ومعرفة التوثيق، والقيام على القراءات والتبريز في التفسير، والمشاركة في الأصلين والفرائض والأدب. وقد ولي الخطابة بالجامع (بغرناطة) وقعد للتدريس، وأقرأ بالمدرسة النصرية. ووصفه مترجموه بالذكاء وحسن الخلق وإصابة التعليم، وسعة المعلومات. (ترجمته في نفح الطيب 5:509 وأكثر نقله عن الإحاطة للسان الدين. وفي نيل الابتهاج 219، وبغية الوعاة. وترجم له في الكتيبة الكامنة ولكنه انقلب عليه وثلبه 67).
(1/186)
________________________________________
[53/أ]

حاله-نسأ الله في أجله-
هو معيد البلاغة ومبديها، وعالم الأندلس ومفتيها، ومظهر مشكلات العلوم ومجليها. وشيخها وفتاها، وحامل لواها، وفارس البراعة والمتلفع برداها. قد تحلى بالسكينة والتقوى، والتزم الطاعة في السر والنّجوى. إن حضر مع الفقهاء مجلسا، واحتل للأدباء مكنسا؛ فله يتبعون، وعلى قوله يعولون. وهو المصيب في كلامه ونظمه، بثقوب ذهنه واتساع علمه. مع باع مديد في النحو واللغة الغريبة، وحفظ للآداب والتواريخ العجيبة، ومعرفة شديدة، بالأصول والفروع والحديث، مصيبة. ونبل فائق في العروض والمنطق والبيان، وعلم الكلام والقراءات وتفسير القرآن. وهو (يرى)؟ (1) في كل لهذه (2) العلوم قاريا، ولتدريسها ملازما، وعلى نهج تبيانها جاريا. وينظم القصائد النفائس، فتأتي كالقلائد في أجياد العرائس.
ولعمري ما تكلم مع أحد من الناس، في توجيه مسألة فقهية أو قياس؛ إلا كان له عليه الظهور، شهد له بذلك الخاصة والجمهور.
أنشدني لنفسه يمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم:
إذا البرق ثار أثار ادّكارا … لقلبي فأذكى عليه أوارا (3)
تروم جفوني لنار الهوى … خمودا فتهمي دموعي غزارا
فماء جفوني يسحّ انهمالا … ونار فؤادي تهيج استعارا
_________
(1) كلمة لم تتضح لي، وهذه أقرب قراءة تبينتها.
(2) في النسختين: لهذا، ولعله كما أثبت.
(3) نقل المقري في نفح الطيب (5:510 - 521) القصيدة عدا البيت 11.
(1/187)
________________________________________
أطيل العويل صباح (1) مساء … كئيبا ولست أطيق اصطبارا
5 رقيت مراقي للحبّ شتى … فأفنى مرارا وأحيى مرارا
أحنّ اشتياقا لريح مرت … وأبدي هياما لبرق آنارا
[53/ب]
حنينا وشوقا إلى معلم … حوى شرفا خالدا لا يجارى
به أسكن الله أسمى الورى … نبيّا كريما، وصحبا خيارا
هو المصطفى المنتقى المجتبى ... أرى معجزات وآيا كبارا
10 يحقّ علينا ركوب البحار … وجوب القفار إليه ابتدارا
وأمّ ذراه فمن يعطه … كفاه اعتلاء، أجل، وافتخارا
فيا فوز من فاز في طيبة … بلثم المغاني جدارا جدارا
وألصق خدّا على تربها … وأكمل حجّا بها واعتمارا
وأهدى السّلام لخير الأنام … على حين وافى عليه فزارا
15 لأنت الوسيلة والمرتجى … ليوم يرى الناس فيه سكارى
وما هم سكارى ولكنّهم … دهتهم دواه فهاموا حيارى
ترى المرء للهول من أمّه … ومن أقربيه يطيل الفرارا
وكل يخاف على نفسه ... فيكسوه خوف الإله انكسارا
فصلّى الإله-رسول الهدى- ... عليك، وأبقى هداك منارا
_________
(1) في النفح: صباحا.
(1/188)
________________________________________
20 وقدّس ربي ثرى روضة ... يعمّ الجهات سناها انتشارا
أعير شذى المسك منها الثّرى ... بل المسك منها شذاه استعارا
هنيئا لمن بهداك اهتدى ... ومغناك وافى وإيّاك زارا
قال إسماعيل بن الأحمر، مؤلف هذا الكتاب: أخبرني شيخنا أبو سعيد هذا، أنه عارض بقصيدته (1) هذه قصيدة الفقيه الإمام القاضي الرئيس شهاب الدين أبي الثناء محمود بن سليمان بن فهد الحلبي (*) صاحب «ديوان الإنشاء بالشام» التي هي:
وصلنا السّرى وهجرنا الدّيارا ... وجئناك نطوي إليك القفارا
وهذه القصيدة نظمها الرئيس أبو الثناء بالحجاز الشّريف في طريق
_________
(1) في م: قصيده، وفي ط قصيدة، ولعله كما أثبت.
(*) شهاب الدين محمود بن سليمان (وقيل سلمان) بن فهد الحنبلي الحلبي ثم الدمشقي، من كتاب ديوان الإنشاء المشهورين. ولد بحلب سنة 664، وولي كتابة الإنشاء في دمشق وانتقل فعمل في مصر مدة ثم عاد إلى دمشق، واستمر فيها إلى وفاته سنة 725. وولي كتابة السر ثماني سنوات قبل وفاته. قال في الأعلام «وكان شيخ صناعة الإنشاء في عصره. وعرف الشهاب محمود كاتبا بليغا-لم يكن بعد القاضي الفاضل مثله-وشاعرا مشهورا». له كتب ومصنفات في الترسل والأدب والتراجم، وشعر غزير. وقال ابن حجر إن شعره يقع في ثلاثين مجلدة. (ترجمته في الدرر الكامنة 4:324 وفوات الوفيات 2:564 والبداية والنهاية 4: 120 وشذرات الذهب 6:69 والأعلام 8:49).
(1/189)
________________________________________
المدينة شرفها الله-وعلى ساكنها السلام. وقد شرحتها، وشرحي لها أذكره هنا معها.
وحدّثني بالقصيدة شيخاي الفقيهان الإمامان العالمان المحصلان المفتيان القاضيان الخطيبان: أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الملك الفشتالي قاضي الجماعة بفاس (1)، والشريف أبو الحسن محمد بن عبد الرحمن الحسني المعروف بالمومناني الفاسي عن الفقيه الإمام المحدث الرواية المسند الحافظ الحاج الرحّال محبّ الدين أبي عبد الله محمد بن عمر بن محمد بن عمر بن محمد بن رشيد الفهري السّبتي (2)، نزيل فاس. قال أنشدني لنفسه الفقيه الإمام العام العلامة الرئيس القاضي شهاب الدين أبو الثناء محمود ابن سليمان بن فهد الحلبي في سنة تسع وثمانين وست مئة بطريق المدينة:
وصلنا السّرى وهجرنا الدّيارا ... وجئناك نطوي إليك القفارا
أتيناك نحدو البكا والرّكاب ... ونبعث إثر القطار القطارا
_________
(1) ترجم له لسان الدين في الإحاطة (2:133) وأحمد بابا في نيل الابتهاج (265) وغيرهما. ووصفه ابن الخطيب بأنه مديد الباع في فن الأدب، شاعر مجيد وكاتب بليغ وقال إن أبا عنان المريني قدمة قاضيا بحضرته. وهو توفي سنة 779 كما في نيل الابتهاج.
(2) من أهل سبتة ولد بها سنة 657، وتوفي بفاس سنة 721، يعرف بابن رشيد. أثنى عليه ابن فرحون في الديباج المذهب (310) وقال إنه برع في علوم كثيرة رواية ودراية. وهو صاحب الرحلة المشهورة باسمه، وعنوانها: «ملء العيبة فيما جمع بطول الغيبة في الوجهتين الكريمتين إلى مكة وطيبة». قال في درة الحجال (2:96) إنه بدأ رحلته من المرية سنة 683.
(1/190)
________________________________________
إذا أخذت هذه في الرّبا ... صعودا أبى ذاك إلا انحدارا
وإن فاض ماء لفرط الحنين ... ورجّع حادي السّرى عاد نارا
كأني به وهو يجري دما ... وقوفا على الخيف نرمي الجمارا
قال إسماعيل بن الأحمر مؤلف هذا الكتاب-لطف الله به-:
قوله «أتيناك نحدو» إلى آخره. الحادي هو السائق من خلف العيس منشدا لتقوى على السير. والهادي: السائق من أمام. والبكا يمد ويقصر بمعنى. وقيل البكاء (ممدود)، [54/ب] هو العويل والصياح.
[والبكا] (مقصور) البكاء بالدمع من غير عويل. والركاب: الإبل تحمل القوم، ويقال لراكبيها وراكبي سائر الدواب: الرّكب، على وزن الضرب، والأركوب، بضم الهمزة، والركبان. ويقال في جمع راكب السفينة ركّاب بضم الراء، وإضعاف الكاف. والقطار الأول جمع قطر (مفتوح القاف، ساكن الطاء المهملة): الاسم لما يقطر من الماء. يقال قطر الماء (بالفتح) قطرا -بسكون الطاء-وقطرانا. والاسم القطر، والجمع القطار. والقطار الثاني تقطير الإبل على نسق حتى تكون كالسطر.
وقوله: «إذا أخذت هذه في الرّبا» إلى آخره. جمع ربوة، بضم الراء وهي الأكمة. والأجمة التل. ويقال: الرابية، والربوة، بكسر الراء.
والرّباوة على وزن الهراوة. و «الصّعود» بضم الصاد والعين المهملتين الارتقاء يقال: صعد، بكسر العين صعودا. أو أصعد-أيضا-على وزن أكرم، إذا ارتقى مشرفا، أي موضعا يشرف عليه. والصّعود-بفتح الصاد-
(1/191)
________________________________________
الطريق إليه. والجمع أصعدة. وقيل، يقال: صعد في الجبل، وأصعد في الأرض لا غير. والانحدار: الهبوط من علو إلى سفل.
يقول: إذا طلعت بهذه الإبل ربوة بعد ربوة زادت الدموع جريانا وهبوطا. يصف بذلك وبالبيتين بعده: الدمع.
أتيناك سعيا ننادي البدارا … إلى سيّد المرسلين البدارا
إلى أشرف الخلق في محتد … وحام (1) جوارا، وأعلى نجارا
إلى من به الله أسرى إليه … وما زاغ ناظره حين زارا
ولمّا نزعنا شعار (2) الرّقاد … لبسنا الدّجى وادرّعنا النّهارا
نميل من الشوق فوق الرّحال … كأنا سكارى ولسنا سكارى!
نجافي عن الطّيف أجفاننا … فلا نطعم النّوم إلا غرارا (3)
ونسري مع الشّوق أنّى سرى ... ونتبع حادي السّرى حيث سارا
ونسأل والدار تدنو بنا … عن القرب في كل يوم مزارا
وما ذاك أنا سمعنا السّرى … ولكن دنونا فزدنا انتظارا
إذا البرق عارضنا موهنا … حسبنا سنى طيبة قد أنارا
فنفري بأذرع تلك النّياق … أديم الفلا غدوة وابتكارا
ونرمي بهنّ صدور الفجاج … كأنّا نشنّ عليها مغارا
قوله «موهنا» يريد ساعة مضت من الليل. يقال لذاك الوقت وهن؛
_________
(1) في الأصلين: حامي (بالياء).
(2) في م: شفار (بالفاء).
(3) الغرار: القليل من النوم.
(1/192)
________________________________________
بسكون الهاء، وموهن؛ و «نفري»: نقطع. و «أذرع» جمع ذراع.
و «النّياق» جمع ناقة. و «أديم الفلا»: وجهها، أراد ظاهرها.
و «الغدوة»: بضم الغين المعجمة، معروفة. وبفتحها المرّة الواحدة من الفعل في ذلك الوقت. و «الابتكار» المضي بكرة، وكذلك البكور.
و «الإبكار» على وزن الإكرام اسم للبكرة. والفجاج: الطّرق الواسعة في أقبال (1) الجبال واحدها فجّ، بفتح الفاء وإضعاف الجيم. والأقبال: جمع قبل، وقبلك، على ما لم يسم فاعله، أي استقبل وجهك. «نشنّ» أي نبثّ خيلا. يقال شن وأشن. والمغار: اسم المصدر من أغار؛ هذا بفتح الميم، والاسم الغارة؛ وهو إتيان القوم للقتال.
إذا رقصت في الفلاة المطيّ … جعلنا الدّموع عليها نثارا (2)
تساند أرجلها في السّرى … لديها وتشكو اليمين اليسارا
ونجمع بين السّرى والمسير ... ونجفو الكرى ونعاف القرارا
وكيف القرار إلى أن نراك ... وتدني المطيّ إليك المزارا
ومن كان يأمّل منك الدّنوّ ... أيملك دون اللّقاء اصطبارا؟!
ترى تنظر العين هذا البشير ... يريني على البعد تلك الدّيارا
_________
(1) الأقبال جمع قبل (بضم وضم) وهو من الجبل سفحه.
(2) النثار والنثارة ما تناثر من الشيء.
(1/193)
________________________________________
[55/ب]
لأعطيه روحي سرورا بها ... وأوطيه طرفي وخدّي اعتذارا
وأمسح عن أرجل اليعملات ... بأجفان عينيّ ذاك الغبارا
وأهدي-على القرب-منّي السّلام ... حسبي بها رتبة وافتخارا
وأكتب شوقي بماء الدّموع ... بسيطا إذا اللّفظ كان اختصارا
وأفدي بما طال من مدّتي ... بطيبة تلك اللّيالي القصارا
ترى هل أناجي هناك الرّسول ... جهارا كما أرتجي أو سرارا؟
وأعلم أنّي على بابه ... وقفت وقبّلت ذاك الجدارا
وماذا أقول وكلّ الورى ... نشاوى هنالك مثلي حيارى
وأنشد يا شافع المذنبين ... أجر من بباب حماك استجارا
أجرني فقد جئت أشكو الذّنوب ... إليك وأنت تقيل العثارا
فكن شافعي يوم لا شافع … سواك يفكّ العناة الأسارى
(1/194)
________________________________________
فمالي سوى حقّ هذا الجوار … لديك ومثلك يرعى الجوارا
وإني قطعت إليك القفار … فقيرا أقلّ (1) ذنوبا كبارا
وفي قطعها لك فضل عليّ ... ولو خضت دون اللّقاء البحارا
ولو أستطيع قطعت الزّمان ... -وأنت المنى-حجّة واعتمارا
وما كنت أظعن إلا إليك ... إذا ما ملكت لروحي اختيارا
قوله: «اليعملات» هي الإبل التي تعمل حملا وركوبا وغير ذلك.
و «العناة» جمع عان، وهو الأسير. و «الظّاعن»: الشّاخص. يقال ظعن يظعن ظعنا، بفتح العين فيها، وظعونا على وزن خروج، إذا شخص. وشخص هنا صار من مكان إلى مكان، شخوصا.
حمىّ حلّ فيه نبيّ الهدى ... فأضحى به أشرف الأرض دارا
[56/أ]
فيا فوز من كلّ عام أتاه ... ويا فوت من غاب عنه خسارا
شممنا الشّذى من مبادي الحجاز ... فخلنا العبير أعار العرارا (2)
_________
(1) أقل الشيء: حمله ورفعه.
(2) العرار: بهار طيب الرائحة الواحدة عرارة.
(1/195)
________________________________________
فواها (1) لها نفحة أذكرت ... هواي وأذكت بقلبي الشّرارا
إذا خطرت في الرّبا سحرة ... وجرّت ذيولا على الغار غارا
«الغار» هنا نبت طيب الريح. وغار: الماضي من «الغيرة». تقول غار الرّجل يغار غيرة وغارا فهو غيران. وامرأة غيور وغيرى، والجمع الغير على مثال السّرر، والغيارى على مثال الحيارى.
يمانية زانها أنّها … بطيبة مرّت وجرت إزارا
على من سرت من حماه السّلام ... وحيّى الحيا ذلك الرّبع دارا

الفقيه الحاج محمد بن محمد بن الشّديد (*):
[كنيته:]
يكنى: أبا عبد الله. وأدركته، وهو من أهل مالقة؛ وارتحل عنها ويعرف بالشّديد.

حاله-رحمه الله تعالى-:
شاعر طلق اللسان، وأديب أحسن في القريض كلّ الإحسان. وسابق ركض في ميدان الفصاحة فجلّى، وأريب طلع في سماء البراعة فتجلى.
_________
(1) فيهما: فهوا. وأرجح أنها محرفة عما أثبت.
(*) ترجم له لسان الدين في «الإكليل الزاهر»، ونقل عنه صاحب النفح (6:237) وفيه: شاعر مجيد حول الكلام، ولا يقصر فيه عن درجة الأعلام. رحل إلى الحجاز لأول مرة فطال في البلاد المشرقية ثواؤه، وعميت أنباؤه». ونقل قصيدته هذه التي رواها ابن الأحمر.
(1/196)
________________________________________
فإن مدح أصاب، وإن تغزل أهل المصاب (1). ولم تزل روضات إجادته ذات أزهار، وبدائع قصائده في سمو واشتهار. فمن شعره الذي يخبر بإجادته، ويدلّ على براعة أدبه ومجادته، قوله يمدح ابن عم أبينا أمير المسلمين أبا الحجاج:
لنا في كلّ مكرمة مقام … ومن فوق النّجوم لنا مقام
روينا من مياه المجد لمّا … وردناه (2) وقد كثر الزّحام
فنحن هم وقل لي من سوانا ... لنا التّقديم قدما والكلام
[56/ب]
لنا الأيدي الطّوال بكل ضرب (3) ... يهزّ به لدى الرّوع الحسام
5 ونحن اللابسون لكلّ درع ... يصيب السّمر منهنّ انشلام
بأندلس لنا أيّام حرب ... مواقعهنّ في الدّنيا عظام
ثوى منها قلوب (4) الرّوم خوف ... يخوّف منه في المهد الغلام
حمينا جانب الدّين احتسابا ... فها هو لا يهان ولا يضام
_________
(1) كذا فيهما.
(2) في النفح: وردناها.
(3) في النفح: بكل صوب.
(4) كذا في النسختين، وفي النفح أيضا.
(1/197)
________________________________________
وتحت الراية الحمراء منّا … كتائب لا تطاق ولا ترام
10 بنو نصر وما أدراك ما هم … أسود الحرب والقوم الكرام
لهم في حربهم فتكات عمرو … فللأعمار عندهم انصرام
يقول عداتهم مهما ألمّوا: … أتونا! ما من الموت اعتصام
إذا شرعوا الأسنّة يوم حرب ... فحقّق أنّ ذاك هو الحمام!
كأنّ رماحنا فيها نجوم … إذا ما أشبه اللّيل القتام
15 أناس تخلف الأيام ميتا … بحيّ منهم، فلهم دوام
رأينا من أبي الحجاج شخصا … على تلك الصّفات له قيام
موفّى العرض، محمود السّجايا … كريم الكفّ، مقدام همام
يجول بذهنه في كلّ شيء … فيدركه وإن عزّ المرام
قويم الرّأي في نوب اللّيالي … إذا ما الرّأي فارقه القوام
20 له في كلّ معضلة مضاء … مضاء الكفّ ساعدها الحسام
رؤوف قادر يغضي ويعفو … وإن عظم اجتناء واجترام
تطوف ببيت سؤدده القوافي … كما قد طاف بالبيت الأنام!
وتسجد في مقام علاه شكرا … ونعم الرّكن ذلك (1) والمقام (2)
[57/أ]
أفارسها إذا ما الحرب أخنت … على أبطالها ودنا الحمام
_________
(1) في النسختين: ذلك المقام. والمثبت من النفح.
(2) تجاوز الشاعر في الثلاثة الأبيات إلى مبالغات شديدة!
(1/198)
________________________________________
25 وممطرها إذا ما السّحب كفّت ... -وكفّ أخي النّدى أبدا غمام! -
لك الذّكر الجميل بكلّ قطر ... لك الشّرف الأصيل المستدام
لقد جبنا (1) البلاد فحيث سرنا ... رأينا أن ملكك لا يرام
فضلت ملوكها شرقا وغربا … وبتّ لملكها يقظا، وناموا!
فأنت لكلّ معلوة مدار … وأنت لكلّ مكرمة إمام
30 جعلت بلاد أندلس إذا ما … ذكرت تغار مصر والشآم!
مكان أنت فيه مكان عزّ … وأوطان حللت بها كرام
وهبتك من بنات الفكر بكرا ... لها من حسن لقياك ابتسام
فنزّه طرف مجدك في حلاها ... فللمجد الأصيل بها اهتمام
_________
(1) في م: جبت، وفي ط: جئت، والمثبت من النفح.
(1/199)
________________________________________
الفقيه الضرير:
محمد بن أحمد بن علي بن جابر الهواري (*):
[كنيته:]
يكنى: أبا عبد الله، ويعرف بابن جابر، وهو من أهل المرية. وارتحل عن الأندلس إلى المشرق، فحج، واستوطن مدينة حلب من الشام؛ ودرّس بها العلوم، وكان (1) أهل الفتيا فيها.

حاله-رحمه الله-:
تحلى بعلوم بارعة، ومحاسن لأشتات الفوائد جامعة، وهو سراج الأدب المتوقد الضياء، والمستولي على أمد المكارم والحياء. وشعره مهما فري يستلم، أرق وأجزل من شعر الرّضي بذي سلم (1). مع النثر البديع، الذي فاق به البديع، الذي نجم في الأندلس فسما بأدبه، وطلب العلوم فحازها بطلبه. وارتحل عن الأندلس للطلب، فاحتل من الشام بحلب. فدرس العلوم بها، [57/ب] ونجح مطلوبه بسببها.
فمن قوله يمدح ابن عم أبينا أمير المسلمين أبا الحجاج:
عليّ لكل مكرمة ذمام … ولي بمدارك المجد اهتمام
وأحسن ما لديّ لقاء حر … وصحبة معشر بالمجد هاموا
_________
(*) ممن ارتحلوا إلى المشرق أبو عبد الله بن جابر الضرير (ت 780) وعرف في المشرق بلقب شمس الدين. صاحب بديعية العميان، ارتحل مع صاحبه الرعيني. قال في النفح (2:664) له أمداح نبوية كثيرة وتواليف منها شرح ألفية ابن مالك وغير ذلك، وله ديوان شعر. وأمداحه النبوية في غاية الإجادة. (ترجمته في نفح الطيب 2:664، والدرر الكامنة 3:339، ونكت الهميان 244، والوافي للصفدي 2:157، وبغية الوعاة 1:34 ودرة الجمال 2:242)
(1) كذا فيهما.
(1/200)
________________________________________
وإني حين أنسب من أناس … على قنن النجوم لهم مقام
يميل بهم إلى المجد ارتياح … كما مالت بشاربها المدام
5 هم لبسوا أديم اللّيل بردا … ليسفر عن مرادهم الظّلام
هم جعلوا متون العيس أرضا ... فمذ عزموا الرّحيل فقد أقاموا
فمن كلّ البلاد لنا ارتحال … وفي كلّ البلاد لنا مقام
وحول موارد العلياء منها … لنا مع كلّ ذي شرف زحام
تصيب سهامنا غرض المعالي … إذا ضلّت عن الغرض السّهام
10 وليس لنا من المجد اقتناع … ولو أنّ النجّوم لنا خيام
أنزّه (1) عرضنا عن كل لؤم … فليس يشين سؤددنا ملام
ونبذل، لا نقول: العام ماذا (2) … سواء كل خصب أو حطام
وإن حضر الكلام ففي يدينا ... ملاك أمورهم ولنا الكلام
وفينا المستشار بكلّ علم … ومنّا اللّيث والبطل الهمام
15 فميدان الكلام لنا مداه (3) … وميدان الحروب بنا يقام
كلا الأمرين ليس له بقوم … سوانا [عند] (4) نازلة تمام
نريق دم المداد بكلّ طرس ... وليس سوى اليراع لنا سهام
_________
(1) في الأصلين أنزه، والأشبه «ننزه».
(2) فيهما «ماذا»، ولعلها محرفة عن مثل «محل».
(3) فيهما: مدامه. ونرجح ما أثبت.
(4) أسقط النساخ كلمة من الشطر الثاني. وما بين معقوفتين مقترح.
(1/201)
________________________________________
ونكتب في المثقّفة العوالي ... بحيث الطّرس لبّات وهام!
[58/أ]
إذا عبست وجوه الدّهر منّا (1) ... إليها فانثنت ولها ابتسام
20 ومهما اعوجّت الأيّام كنّا … لها في كلّ معضلة قوام
وجرّ لباسها لأمات حرب … لهنّ بمحكم السّرد اتسّام
نجرّدها وحدّ السّيف كاس … ونلبسها إذا عري الحسام
ونبسم والوجوه لها انقباض … وننهض والسّيوف لها انثلام
ولولا صبرنا في كل حرب … لكان لجانب الدّين اهتضام
25 نحارب دونه الأعداء حتّى … تذلّ لعزّه النّوب العظام
لقد علمت ملوك الرّوم أنّا … أناس ليس يعوزنا مرام
وليس يضرّنا أنّا قليل ... لعمر أبيك ما كثر الكرام!
إذا ما الرّاية الحمراء هزّت ... فثمّ هناك للحرب ازدحام
وما احمرّت سدّى بل من دماء ... لهنّ على جوانبها انسجام
30 نظلّل من بني نصر ملوكا ... حلال النوم عندهم حرام
فكم قطعوا الدّجا في وصل مجد ... وكم سهروا إذا ما النّاس ناموا
_________
(1) كذا فيهما. والأشبه أن تكون مثل «قمنا».
(1/202)
________________________________________
إذا بان العجاج بيوم حرب ... فما يدرى الوراء ولا الأمام
هدتهم نحو قصدهم وجوه … لها من رائق البشر ابتسام
كتائب لا يفلّ لها اعتزام … وليس يعيب مقدمها انهزام
35 إذا ركبوا متون الخيل قالت … عداتهم: على العمر السّلام!
رأوا أنّ العلا سيف وسيب … فما لهم بغيرهما اهتمام
يعدّون السيوف فنون زهر … ومن أغمادهنّ لها كمام!
فما غير الدّماء لهم مدام … ولا غير الرّماح لهم مرام
[58/ب]
وليس نجومهم إلا العوالي … وليس سماؤهم إلا القتام
40 وآكد ما عليهم بذل نعمى … ومنهم تعرف النّعم الجسام
وما افتتحوا بغير النّصل أمرا … ولا بسواه عندهم اختتام
فما لجميل شكرهم انتهاء … ولا لجزيل جودهم انصرام
بنوا في المجد ما لم يبن قدما ... فما لمشيد مجدهم انهدام
يعوّض منهم ماض بآت … له بحياة مجدهم اهتمام
45 أقام لهم أبو الحجّاج ذكرا … كأنّهم من الأجداث قاموا
تأمّل كل مكرمة لديه … ففيه لنا نظام والتئام
فتى فضل الملوك بكل وجه … ووافق خلقه خلق كرام
فبين الخلق والأخلاق منه … جمال الرّوض باكره الغمام
تراه-مع الشباب-أعفّ شخص ... على كشحيه قد عقد الحزام
(1/203)
________________________________________
نقيّ (1) عرضه عن كلّ شين ... سليم فعله عما يذام (2)
لقد نهضت جياد علاه حتّى … غدا ولها على الأفق الزّحام
فموردها المجرّة لا بصدّى (3) ... ومرعاها الكواكب لا الإكام (4)
ومن بين البروج لها مجال … وفي أيدي الرّياح لها زمام
بحقّك هل تقصّر من مراد … جياد قادها ذاك اللّجام؟
55 وما تركت مدى في المجد إلا ... عليه لها استباق واقتحام
فمن نسج النّجيع لها جلال (5) ... ومن حبك السّماء لها حزام (6)
هو البحر الذي لولا نداه ... لكان لكل ذي أمل أوام (7)
فما لي ليس أنفق فيه شعري ... ولولاه لما نفق الكلام!
_________
(1) في الأصلين: تقي. ونرجح ما أثبت.
(2) فيهما: يرام، ونرجح ما أثبت.
(3) صدى: ركية «بئر» ليس عند العرب-قالوا-أعذب منها.
(4) الإكام ج أكمة (التل).
(5) الجلال جمع جل (بالفتح) ما تغطى به الدابة لتصان.
(6) الحبك جمع حبيكة وهي مسير النجم.
(7) الأوام: العطش.
(1/204)
________________________________________
تحوم على محاسنه المعاني ... نعم وعلى محاسنه يحام
60 وتزدحم القوافي في حماه ... وحول العذب قد كثر الزّحام
فمن (1) لا يعدّ المال إلا ... لحمد يقتنى وعلا يسام
جعلنا الحمد مبدأ كلّ مجد ... لعلمك أنّ ذاك له تمام

الفقيه الحاج
إبراهيم بن محمد الأنصاري الأوسي (*)
[كنيته:]
يكنى: أبا إسحاق ويعرف بالسّاحلي وبالطّويجن؛ بضم الطاء المهملة، وفتح الواو، وسكون الياء باثنتين من أسفلها وفتح الجيم. وأدركته وهو من أهل بلدنا غرناطة من بيت ثروة (2) وصلاح وأمانة.
_________
(1) في الأصلين «فمن». ولا يستقيم.
(*) كاتب، شاعر، فقيه، متفنن، عالم بالفرائض. عمل في حداثته موثقا بسماط شهود غرناطة، وقصد إلى المشرق فأدى فريضة الحج، وفي عودته استقر بمالي مكرما عند ملكها. وأقام هناك إقامة مستقر، ففي الإحاطة (1:183) ما يدل على أنه رزق بأولاد من أمهات سمراوات. وقال صاحب النفح 2:194 إنه نقل عمن يوثق به أن وفاة الساحلي كانت سنة 747 بمدينة تمبكتو بمالي. بينما قال ابن الخطيب في الإحاطة إنه توفي سنة 739. (ترجمته في نثير الفرائد الجمان 308، ونفح الطيب 2:194، والاستقصا 3:152)
(2) في الأصلين ثورة. وهو تحريف.
(1/205)
________________________________________
كان أبوه أمين العطارين بغرناطة. وكان مع أمانته من أهل العلم، فقيها متفننا. وله الباع المديد في الفرائض.
وأبو إسحاق هذا كان في صغره موثقا بسماط شهود غرناطة.
وارتحل عن الأندلس إلى المشرق. فحج ثم سار إلى بلاد السّودان (1) فاستوطنها، ونال جاها مكينا من سلطانها. وبها توفي، رحمه الله تعالى.

حاله-رحمه الله-:
طلع في سماء الأدب كوكبا وقادا. وقام في روض البراعة غصنا ميادا. وزها في النّحو على سيبويه، وفي اللغة على نفطويه. وفي الإنشاء على ابن العميد، كما أربى في البلاغة على عبد الحميد. وله مشاركة في المسائل الفقهية، وأبرع ما كان في الطريقة الأدبية.
وكان صاحب همّة سنيّة. ومن علوّ همّته، وجلالة رتبته أن أمير المسلمين أبا الحسن ملك المغرب الحسن، طلب منه أن يكتب في حضرته، ويكون من جملة خدّام دولته، [59/ب] فتأبى منه وانحرف عنه، وأنف من ذلك، ولم يرض أن يكون أحد له مالك! وقال له: أيّد الله مولانا الخليفة، وأدام أيامه المنيفة! أقلني من هذا، وكن منه ملاذا. فقال الملك ولم، وقد عمتك النّعمى؟ قال: لا أرضى أن يرأسني عبد المهيمن (2) الحضرمي! فتعجب منه السلطان، وأجزل عليه بذلك الإحسان! فانظر همة هذا الفقيه ما أعلاها، ونفسه النفيسة ما أزكاها!
_________
(1) هي بلاد «مالي» كما سبق.
(2) سيترجم له ابن الاحمر في أول الباب العاشر.
(1/206)
________________________________________
فمن قوله-رحمه الله-ما كتب به من أرض الحبشة للأندلس، إلى صديقه الفقيه الكاتب القاضي أبي القاسم بن أبي العافية.
لمن الرّكائب خضن رمل زرود (1) ... وسرين بين تهائم ونجود
وجرين في بحر السّراب سفائنا ... ألبسن قارا للّيالي السّود
ورأين وطء الأرض منقصة الهوى ... فوطئن فوق محاجر وخدود!
هنّ المطايا عوّضت من طائها ... يوم النّوى نونا لكل عميد
5 وهفت بهيف عاقروا تحت الدّجا ... خمرين من أين (2) ومن تسهيد
تركوك تستقري المنازل بعدهم ... وسروا بشلو فؤادك المفؤود (3)
فبكلّ واد أنت رائد مربع ... وبكلّ ناد أنت ناشد غيد
سيرا فدون مناك قطع مهامه ... قطع النّياط بها نياط القود (4)
_________
(1) زرود: جبل رمل بين ديار بني عبس وديار بني يربوع.
(2) الأين: التعب والإعياء.
(3) الشلو: البقية من كل شيء.
(4) يقال مفازة بعيدة النياط: بعيدة الحد. والقود -ج- أقود: الذلول المنقاد من الخيل. والنياط الفؤاد، وعرق غليظ علق به القلب إلى الرئتين.
(1/207)
________________________________________
طربي إذا جنّ الظلام لأنّه ... في ظهر عود (1) لا لرنّة عود!
10 كم من طلاح (2) فوقها أمثالها ... لم تكتحل أجفانهم بهجود
كالسّمر هزت في أكفّ فوارس ... والبيض سلّت من بطون غمود
أنضاهم طول السّرى فتخالهم ... أوهام فكر في صدور البيد!
[60/أ]
ساجلتهم تحت الدّجى بشملّة (3) ... فطرت على التّأويب والتّسهيد (4)
أهدت إلى سلع تحيّة حاجر (5) ... وحثث على نجد تراب زرود
15 وكأنّما آثارها فوق الثّرى ... وطآت منشعب (6) الجراح طريد
_________
(1) العود: المسن من الإبل.
(2) طلح: تعب من السير، وطلح الرجل البعير جعله يعيى ويهزل.
(3) الشملة: السريعة الخفيفة. و «التسهيد» هي القراءة الظاهرة للكلمة.
(4) التأويب سير النهار كله إلى الليل.
(5) سلع: جبل متصل بالمدينة. وحاجر: منزل للحاج بالبادية (موضع).
(6) انثعب الماء والدم ونحوهما: انفجر.
(1/208)
________________________________________
ولكم قصيّ الحوض منهدّ الجبا (1) ... لا يهتدي فيه القطا لورود
إن ضلّ وارده هداه صوبه ... رمم الضّراغم دونه والسّيد (2)
5 وكأنّما ريش النّواهض (3) حوله ... مسنونة (4) بريت قصار العود (5)
وافيته والذيب يوجس خيفة ... فيه، ويرعد رعدة المرؤود (6)
فرويت منه-ولم أكد-حتّى ارتوى ... مسراي من نيي (7)، ونيّ قعودي
ولكم رحيب الصدر ملموم (8) القرى (9) ... كلح النّواجذ مشرئبّ الجيد
مهما أحسّ ببنأة (10) أصغى لها ... أذني سميع والتفات رصيد
_________
(1) الجبا: الماء المجموع في الحوض.
(2) السيد: الذئب.
(3) النواهض ج ناهض: فرخ الطائر الذي وفر جناحاه، وتهيأ للطيران.
(4) المسنونة: الأرض التي أكل نباتها.
(5) في م: برئت. وفي ط بريت.
(6) ترأد «الشيء»: اهتز واضطرب.
(7) نوى ينوي نية ونوى: تحول من مكان إلى مكان.
(8) الملموم: المجتمع المدور.
(9) القرى: الظهر. وكلح: عبس.
(10) النبأة: الصوت الخفي.
(1/209)
________________________________________
10 كفّاه كفّته (1) ليوم قنيصه ... وذراعه حبل لكلّ مصيد
ما بات منه قضاقض (2) إلا على ... أشلاء لحم أو دم معقود
آوي إلي أجماته مستسلما ... وأهاب مأوى شامت وحسود!
أخشى المقيل بظلّه مستوفزا (3) ... وأظلّ بين أساود (4) وأسود
يا راكبا إمّا أنخت مقيّلا ... في ظلّ ضال (5) بالعقيق (6) نضيد
15 ورتعت من روض الجلال بباسق ... غضّ الأزاهر يانع الأملود (7)
قل للّذي عاطيته ممحوضة ... من خالصي ودّي وحسن عهودي
أعلى الغنى أوجفت لا كان الغنى ... سبق القضاء برزقي الموعود
_________
(1) الكفة: حبالة الصائد.
(2) القضاقض: الأسد.
(3) استوفز: جلس على هيئة كأنه يريد القيام.
(4) أساود ج أسود: العظيم من الحيات وفيه سواد، وهو أخبثها وأنكاها.
(5) الضال: السدر البري «شجر».
(6) عقيق المدينة على ميلين منها، وفيه نخل.
(7) الأملود: الناعم اللين.
(1/210)
________________________________________
بل طرت ملء قوادمي نحو العلا ... طير القطاة تخاف فوت ورود!
فطلعت من أثناء كلّ ثنيّة ... وتركت مطلع أفقي المعهود
[60/ب]
20 هذا، وما نجديّة قد عارضت ... ضال العقيق وطلحه المخضود (1)
ولهاء تعترض الصّبا كلفا بما ... جرّت عليه من ملا وبرود
إن مسّها وخز الهجير تذكّرت ... ماء الحجاز وظلّه الممدود
أو عارضت شوقي ودمعي ساءلت ... عن برقه وسحابه المورود
بأشد من شوقي لنبع ركيّة (2) ... علّت سراة بني أبي وجدودي
25 قوم تناوبت النّوائب شملهم ... فنثرن سلك نظامه المعقود
صدعت لفقدهم الخطوب زجاجتي ... ولحت (3) لبعدهم اللّيالي عودي
_________
(1) الطلح: شجر عظام «المخضود» في النسختين، ومن معانيها التثني.
(2) الركية: البئر.
(3) لحا الشجرة: قشرها.
(1/211)
________________________________________
وأضلّ صبري طرقه، وهدى الأسى ... دمعي لمسلك خدّي المخدود
قد كنت أرتع من نداهم في حمى ... روض وأكرع في حياض برود
فإذا وردت وردت غير مزاحم ... وإذا صدرت صدرت غير مذود
30 ولربّ سافرة النّقاب تبسّمت ... عن لؤلؤ من ثغرها منضود
نظمت من السّحر الحلال مكلّلا ... فضح القلائد في نحور الغيد
وتبسّمت عن روضة قد أقطفت ... بيض الأماني من سطور سود!
وأرتك من أنقاسها وحروفها ... شهبا تجلّت في بروج سعود
وأتت محاسنها بكل غريبة ... أغنت مقلّدها عن التّقليد
35 وقف ابن حجر دونها وتخبّطت ... في نسج حلّتها أكفّ لبيد (1)
يا بنت من حلّت سوابق فضله ... وشأت بهم همم العلا والجود
_________
(1) ابن حجر «امرؤ القيس» ولبيد، شاعران مشهوران.
(1/212)
________________________________________
أمّا حديثك فهو درّ كلّلّ ال‍ ... أسماع حلي جواهر وعقود
أندى على الأكباد من وقع النّدى ... وألذّ من نغمات صوت العود!
أذكرتني-وأبيك-عصر شبيبة ... ذهب الزّمان بعيشه المحمود
[61/أ]
40 وقصصت غير مطيلة أنباءه ... عودي لبدء حديثه، أو عيدي (1)
كان الشّباب دجىّ فمزّق ليله ... عن ضوء لا حسن ولا محمود
وإذا الجديدان (2) استجّدا (3) صحبة ... ذهبا بثوب للبيان مديد
جلت بديهتك التّي قد أعجلت ... عن موقف التّهذيب والتّجويد
ورمت مساجلك الجهالة في مدى ... شأو (4) قصيّ الجانبين بعيد
_________
(1) في النسختين: أنباؤه، عيد. ونرجح ما أثبت.
(2) الجديدان: الليل والنهار.
(3) في النسختين: استجد. ونرجح ما أثبت.
(4) في النسختين: شأوي.
(1/213)
________________________________________
فمتى دعوت لها القوافي أجفلت ... فعل الظّليم (1) وآذنت بشرود
فلو استطعت لغضت درّ بكيّتي (2) ... وسترت بهرج قولي المنقود
ولويت ثنيا من عناني ناكصا ... عن مرقب أعيى إليه صعودي
لكنّها نفثات ملتهب الجوى ... وكلام مكلوم الحشا منجود! (3)
50 غطّى هواه عقله فاقتاده ... لمواقف التّهذيب والتّجريد
فجاوبه صديقه القاضي أبو القاسم بن أبي العافية، المذكور، بقوله:
أملي على كبري وطول عهودي ... رجع الشّبيبة والهوى المعهود
_________
(1) الظليم: ذكر النعام.
(2) بكأت البئر: قل ماؤها. وبكأ الحيوان الحلوب. قل لبنه.
(3) نجد «بضم النون» أصابه الكرب والغم فهو منجود.
(1/214)
________________________________________
ودنوّ منتزح الدّيار رمت به ... كالسّهم مبريّا قسيّ القود (1)
فسرى كبدر الأفق يعترض الدّجا ... ويميط سجف (2) رواقها الممدود
ترد القطا من سؤره (3) حيث انتهت ... أسرابها بحفيفها المجهود
وتظلّه كالسّحب ريش قوادم ... من كلّ فتخاء الجناح صيود (4)
والوحش تأكل فضل ما يغتال من ... صيد بديموم (5) الفلاة وسيد
فقرى سباع الطّير شلو غريضة ... وقرى سباع الوحش شلو قديد (6)
وله من الجنسين (7) تحت وفوق ما ... يغنيه عن جيش وخفق بنود
_________
(1) قود ج أقود: الفرس طال ظهره وعنقه.
(2) السجف: الستر.
(3) السؤر: بقية الشيء.
(4) الفتخاء من العقبان: اللينة الجناح. والصيود: الصياد «مبالغة». وصيد ج أصيد: الأسد. والسيد الأسد، وهو الذئب أيضا.
(5) الديموم والديمومة: الفلاة الواسعة.
(6) الغريض: الطري، والقديد عكسها.
(7) كلمة لم تظهر في كلتا النسختين. وهذه أقرب قراءة.
(1/215)
________________________________________
[61/ب]
خاض البحار وجازها ثمّ ارتمى ... يفلي الفلا بنجيّة صيهود (1)
10 تفري (2) الفريّ ولا تخاف خفافها ... من وحل ميثاء (3)، ولا جلمود
الشّمس فوق قتودها حلّت فما ... غرب وشرق عندها ببعيد
يا ليتها حنّت إلى أعطانها (4) ... من جوّ كاظمة ودوّ زرود (5)
ولها علينا أن نعوّضها إذا ... رجعت مواطئ أعين وخدود!
تلك النّوى أجنت عليّ وكدّرت ... شربي ونغبة عيشي المثمود (6)
_________
(1) النجية: الناقة السريعة. الصيهود-كما في اللسان-الجسيم. وفي القاموس الصيهود: الفلاة لا ينال ماؤها، والصهود: الجسيم.
(2) في الأصلين المعتمدين: يفري. والحديث عن الناقة، فلعل الصواب ما أثبت. وفرى الأرض: سارها وقطعها.
(3) ميثاء: هي الأرض اللينة السهلة.
(4) أعطان ج عطن: وطن الإبل ومبركها.
(5) كاظمة: اسم ماء، وجو اسم اليمامة في الجاهلية. والدو بلد لبني تميم وهو ما بين البصرة إلى اليمامة. وزرود: جبل رمل بين ديار بني عبس وديار بني يربوع. (راجع مواد دو-وزرود-وكاظمة وجو في معجم ما استعجم للبكري).
(6) النغبة-في الأصل-الجرعة. والمثمود: ماء نفد من الزحام عليه.
(1/216)
________________________________________
15 هبني مقيما بعد أن رحل الهوى ... فالميت يوجد وهو كالمفقود!
قسما بأيّام الشّباب وطيبها ... وبنظم شمل أحبّتي وعهودي
وبما حدا الحادي بهم يوم النّوى ... من منتقى رجز وحرّ قصيد
وبمستمرّ جمالهم بجمالهم ... ما بين شهب قنا وغلب أسود
لأشدّ ما يلقى امروء من دهره ... شيئا وشيك نوى وطول صدود
20 إلا مشيب العارضين فإنّه ... يدني الفتى من يومه الموعود
يا طائرا في الجوّ ملء جناحه ... لا سائرا في الدوّ فوق قعود (1)
أسرع لعلّك بعد دهر بالغ ... ما ليس يبلغه مطى بوخيد (2)
وانشد فؤادي في المهامه إنّه ... رهن المطايا والسّرى والبيد
_________
(1) القعود: البعير من الإبل، وهو البكر «بفتح الياء» حين يركب أي يمكن ظهره من الركوب. والدو: المفازة.
(2) الوخيد للبعير: الإسراع. والمطي: الناقة تمطو «تسرع» في مشيها. والمطا: الظهر وفي نسخة «م» مطي «بياء مشددة» ولا يستقيم بها الوزن.
(1/217)
________________________________________
وإذا اعترفت القلب بلّغ سمع من ... هو في يديه ألوكة المفؤود (1)
25 يا نازحا لعب المطيّ بكوره (2) ... لعب الرّياح الهوج بالأملود
ورمت به للطيّة القصوى التّي ... ما وردها لسواه بالمورود
هلا حننت إلى معاهدنا التّي ... كنت الحليّ لنحرها والجيد!
ورياض أنس بالمشايح طارحت ... فيها الحمائم سجع صوت العود
ومبيتنا فيها؛ وصفو مدامنا ... صرف المودّة، لا ابنة العنقود
[62/أ]
30 والعيش أخضر والهوى يدني جنى ... زهرات ثغر أو ثمار نهود
والقضب رافلة يعانق بعضها ... بعضا، إذا اعتنقت غصون قدود
لهفي على ذاك الزّمان وطيبه ... وعلى مناه وعيشه المحمود
_________
(1) الألوكة: الرسالة.
(2) الكور: الرحل.
(1/218)
________________________________________
تلك اللّيالي لا ليالي بعدها ... عطّلن إلا من جوى وسهود
كانت قصارا ثمّ طلن فها أنا ... آسى على المقصور والممدود!
35 وتحوّلت حلل التئام الوصل في ... سلك انتظام الشّمل للتّبديد
ومضى الشّباب كديمة قد أقلعت ... من بعد سقي تهائم ونجود
وأتى المشيب بمحله فأعاد ما ... أحيى الشّباب النضر عصف حصيد
لو يفتدى عهد الصّبا لفديته ... بتحلمي وبطارفي وتليدي!
لكنّها الأيّام أبخل شيمة ... من أن تعيد شبيبة لمعيد (1)
40 آها أبا إسحاق من بعد المدى ... آها يزيد أسى على التّرديد
طارحت في تردادها من شاقها ... دعوى نزيع كالهديل فقيد (2)
صنو الحمامة في الخضاب وطوقها ... وغنائها المترنّم الغرّيد
_________
(1) فيهما: لمعيد، كأنه يريد (لمستعيد)
(2) النزيع: الغريب. والهديل: الذكر من الحمام، وهو صوته أيضا.
(1/219)
________________________________________
تأبى الصّيانة أن أصرّح باسمها ... واللّحن يفهم معترى المقصود (1)
وجبت مبرّتها عليك وكيف لا ... والشّرع ليس بشاهد مردود
45 هذا الجناح وطر إليها قبل فو ... ت الأمر، ما ذي الدّار دار خلود
لو كنت مطّلعا، وقد طالعتها ... بخطابك المستعذب المورود
لأسيت ضعف أساك عند فراقها ... وحللت حبوة حلمك المعقود
هذا العتاب وبعده العتبى التّي ... تأسيسها يغني عن التّوكيد *
لله درّك من رئيس بلاغة ... حسن المآخذ بارع التّوليد
[62/ب]
50 حلّ العبارة في حلاوة زفّة (2) ... كالخمر محبّتها مراشف غيد!
كالرّمح لان وبأسه في شدّة ... والسّيف يدعو (3) في يد الصّنديد
_________
(1) اللحن-هنا-أن تقول قولا يفهمه المخاطب المقصود ويخفى على غيره. واعتراه: غشيه. يريد أنه اكتفى بالتلميح عن التصريح.
(*) سقطت ابتداء من هنا ورقة من نسخة (ط).
(2) في النسختين: زفة. ول‍ «زف» معان متعددة.
(3) فيهما: يدعوا. وترسم الألف أحيانا بعد الفعل المضارع في الخط.
(1/220)
________________________________________
أو كالغمامة أرعدت وتبسّمت ... فأرت مخايل موعد ووعيد!
أو كالتّي زأرت وغنّت ورقها ... فارتعت، ثمّ أنست بالتّغريد
روض من الآداب أينع قبل أن ... تفترّ زهرته لطيب العود
55 بكر أتت تمشي على استحيائها ... تزهى بحلية مبسم وعقود
حوراء مقلتها سواد مدادها ... والسّحر في مقل العيون السّود!
سحبت على سحبان (1) فضل ردائها ... وعبيد (2) استغشى ثياب عبيد
ولبيد (3) انقلبت عليه حروفه ... فغدا بليدا! -وهو غير بليد-
نظمت من السّحر الحلال قوافيا ... أغنت مقلّدها عن التّقليد
60 لكنّها عثرت بضالة طلحها ... فلعا (4) لعثرة طلحها المخضود (5)
_________
(1) سحبان بن زفر بن إياس الوائلي (000 - 54) خطيب شهير، أدرك الجاهلية الإسلام قيل فيه «إنه خطيب العرب غير مدافع».
(2) عبيد بن الأبرص شاعر جاهلي عده ابن سلام في الطبقة الرابعة.
(3) لبيد بن ربيعة العامري (000 - 41) شاعر مخضرم معمر.
(4) لعا لفلان: دعاء للعاثر أن يرتفع من عثرته.
(5) خضد النبت: ضعف ووهن.
(1/221)
________________________________________
وبهمزة الولهاء مدّت باعها ... فعجبت من مقصورها (1) الممدود!
لكنّها رقّت وراقت وانتمت ... للعلم راغبة عن التّقليد
فجعلت يوم قدومها عيدا، ومن ... (يحلى) (2) مسرّته ليوم العيد
_________
(1) يقال في صفة المؤنثة: ولهى ووالهة وواله وميلاه.
(2) هذا ما استوضحته من الأصلين؛ ولم يستقم الطرف الثاني من البيت.
(1/222)
________________________________________
الباب العاشر
فيما بلغنا من شعر كتّاب بني مرين
الفقيه الكاتب صاحب القلم الأعلى
عبد المهيمن بن محمد بن عبد المهيمن الحضرمي (*)
[كنيته:]
يكنى أبا محمد. وأدركته، ورأيته.
_________
(*) الفقيه الكاتب النحوي اللغوي المحدث أبو محمد عبد المهيمن الحضرمي السبتي (676 - 749) يرتفع نسبه إلى الصحابي الجليل العلاء بن الحضرمي، وأصل سلفه من اليمن. كانت لآل الحضرمي صلة قرابة ببني العزفي أصحاب سبتة، وعينوا الفقيه محمد بن عبد المهيمن الحضرمي (والد المترجم به) قاضيا بها 683 واستمر مشكور الحال حتى أخذ النصريون سبتة 75 فارتحل مع ابنه وأسرته إلى غرناطة وأقام بها مدة، ثم أذن لهم صاحب غرناطة بالعودة إلى سبتة والقاضي طاعن في السن، ضعيف، فتوفي سنة 712، وقد وصفه الذين ترجموا له بالفضل والعلم والاستقامة والصرامة. واتصل أبو محمد عبد المهيمن بالدولة المرينية حين استقدمه من سبتة الأمير عثمان بن يعقوب ابن عبد الحق، فكتب له العلامة، ثم استكتبه ابنه أبو الحسن علي، واصطحبه في أسفاره وتنقلاته، وتوفي بتونس سنة 749 عام الطاعون الجارف. ترجم له لسان الدين في الإحاطة وعده في شيوخه، وأثنى عليه. ونقل المقري في النفح جملة من أخباره وأشعاره وقال «كان عالي الهمة. سريا، أعطى المنصب حقه، وكان لا يحتمل الضيم واحتقار العلم. . سريع الجواب. .» وقد نبغ من بعده ابنه أبو سعيد وحفيده عبد المهيمن الذي كتب العلامة لأبي العباس أحمد المستنصر المريني. (ترجمته وأخباره في: نفح الطيب 5:464 - وانظر 5:240 - ومستودع العلامة: 50، وجذوة الاقتباس:279، والتعريف بابن خلدون:20).
(1/223)
________________________________________
وهو من أهل سبته، وأصل سلفه من الأندلس، من بيت القضاة، والعلماء، [63/أ] والإمارة. ولجدّه الأمير كريب بالأندلس ثورة.
وكان أبوه قاضي الجماعة بسبته. (1) قدّمه الأمير أبو طالب عبد الله بن الأمير أبي القاسم العز في اللّخمي.
وكتب عبد المهيمن هذا للأمير يحيى بن الأمير أبي طالب العزفي بسبتة.
وكتب قبل ذلك بالأندلس لخال جدّنا أمير المسلمين الغالب بالله الناصر لدين الله أبي عبد الله محمد المخلوع بن جدنا أمير المسلمين الغالب بالله أبي عبد الله محمد صاحب الدبّوس، ابن جدّنا الأمير أبي الحجاج يوسف الشهير بالأحمر، ابن جدّنا أمير المؤمنين المنصور بالله أبي بكر محمد بن خميس بن نصر الخزرجي.
وكتب بالعدوة أيضا لأمير المسلمين السّعيد بفضل الله أبي سعيد عثمان ابن أمير المسلمين المنصور بالله أبي يوسف يعقوب بن عبد الحق، العلامة. ثم كتبها لابنه أمير المسلمين المنصور بالله أبي الحسن علي-رحمه الله-ولم يزل عليها إلى أن ارتحل السلطان أبو الحسن إلى تونس؛ فلما استقر بها أخّره عن العلامة، فمات بتونس سنة خمسين وسبعمئة.

حاله-رحمه الله تعالى-:
هو فخر الكتّاب والعلماء، وصدر الصّدور الكرماء. ذو همة سمت
_________
(1) «وانظر ترجمة محمد بن عبد المهيمن الحضرمي في نفح الطيب 5:240، والمرقبة العليا للنباهي 32 - 123. ودرة الحجال 2:106».
(1/224)
________________________________________
فوق الكواكب، وذو بلاغة وذهن ثاقب. وقدره في العلماء معروف، وبيته بالنّسب الصّريح موصوف. صاحب رواية وحديث، وذاكر رجال في قديم من الزمان وحديث إلى تحصيل العلوم، ومعرفة بالمجهول منها والمعلوم. وأما كتاب سيبويه فكان بمسائله عارفا، وعلى قراءته بطول عمره مداوما وعاكفا. لم يكن له بالمعرفة به قرين، ولقد تصدّر لإقرائه وهو ابن عشرين. وقد دوّن الكثير من العلوم وصنف، وقرّط مسامع الفهوم وشنف.
[63/ب] فمن قوله رحمه الله تعالى:
نفسي الفداء لعهد كنت أعهده ... وطيب عيش تقضّى كلّه كرم
وجيرة كان لي أنس بوصلهم ... والأنس أفضل ما في الوصل يغتنم
كانوا نعيم فؤادي والحياة له ... فالآن كلّ وجودي بعدهم عدم
بانوا فعاد نهاري كلّه ظلما ... وكان قربهم يمحى به الظّلم
5 والعين منّي لا ترقا محاجرها (1) ... كأنّها سحب تهمي وتنسجم
تبكي عهود وصال منهم سلفت ... كأنّما هي في إنسانها حلم
_________
(1) رقأ الدمع والدم-ونحوهما-سكن وجف وانقطع.
(1/225)
________________________________________
لئن ضحكت سرورا بالوصال لقد ... بكيت للبعد حزنا والدّموع دم
«هم علّموني البكا ما كنت أعرفه ... يا ليتهم علّموني كيف أبتسم!»

الفقيه الرئيس الحاجب الكاتب صاحب القلم الأعلى محمد بن محمد بن أحمد بن علي بن أبي عمرو التميمي (*):
[كنيته:]
يكنى أبا عبد الله وأدركته ورأيته.
وهو من أهل تلمسان. وأصل سلفه من الأندلس. من بيت أصالة وتعيين (1). ومحمد والده كان من أهل العلم التام. درّس العلوم بتلمسان وأفتى بها
_________
(*) الفقيه الحاجب، الرئيس الكاتب، محمد بن محمد بن أحمد بن علي بن أبي عمرو التميمي (ت 756) من أسرة اشتهرت بالعلم والأدب، وانخرط كثير من رجالاتها في خدمة عدد من الدول كالمرينيين والحفصيين. حجب أبو عبد الله محمد (المترجم به هنا) لأبي عنان المريني ونال حظوة لديه، وثقة واسعة، فقلده عددا المناصب منها «خطة السيف» كما قال ابن الاحمر في مستودع العلامة، وأسند إليه ولاية بجاية، فاستمر عليها الى وفاته:756. قال في البستان «وسيقت جنازته إلى تلمسان فدفن فيها». (ترجم له ابن مريم في كتابه «البستان في ذكر الأولياء والعلماء بتلمسان»:228، وقال فيه: «له همة عظيمة وعلم وشأن كبير». وابن الأحمر في مستودع العلامة:36 وقال إن أبا عنان قدمه على الإمارة ببجاية بينما قال هنا في نثير الجمان إنه ولاه بجاية وقسنطينة، ولعل قسنطينة كانت تابعة آنذاك لبجاية، فلا تعارض. وذكره ابن القاضي في درة الحجال 2:265 وفيه. . . ابن أبي عمر التميمي، وهو خطأ من الناسخ والمحقق، وذكره ابن الأحمر في روضة النسرين. وأورد ابن الأحمر في مستودع العلامة نسقا من أولاده وأحفاده خدموا في الدولة المرينية في مناصب كتابية رفيعة انظر 37 - 41).
(1) فيهما. وسترد «تعين» بياء مشددة في الترجمة التالية.
(1/226)
________________________________________
وكان من عباد الله الصالحين، ومن الأولياء المخلصين. وحسبه من ورعه أنه ولي القضاء بتلمسان سنين طائلة، فلما توفي لم يوجد له غير قطيفة، ووسادة صوف، نفع الله به.
ومن سعة علمه أنه رتب التبصرة للإمام أبي الحسن اللخمي وأتى بها نسقا على أبواب التهذيب؛ ومسائله اعتنى بها فقهاء الأمصار وعرفوا بها قدره في العلوم.
وقدّمه على قضاء الجماعة بتلمسان أمير المسلمين المنصور بالله أبو الحسن علي المريني، فأظهر من التصميم في الحق وإقامة منار الشريعة ما يكل اللسان عن وصفه. وأحمد والد محمد كان أيضا [64/أ] من أهل العلم البارع، ودرّس العلوم، وأفتى، وولي قضاء الجماعة في بعض بلاد إفريقية. وكان علي والد أحمد إماما عالما مدرسا مفتيا محدثا حافظا، وولي قضاء الجماعة بتونس لأمير المؤمنين المستنصر بالله، المنصور بفضل الله أبي عبد الله محمد بن الأمير أبي زكريا يحيى بن عبد الواحد بن أبي حفص الموحّد؛ وقدمه المستنصر بالله هذا على حجابته، وقلده خطّة علامته.
ونسبه في تميم، ويقال إنه من بني الأغلب التميميين، ملوك إفريقية.
والحاجب أبو عبد الله هذا كان ملازما لأمير المؤمنين المتوكل على الله أبي عنان المريني في الصّحبة بتلمسان (1)، في إمارته حين قدمه
_________
(1) تلمسان: مدينة شهيرة في المغرب الأوسط. كان لها دور بارز في تاريخ المنطقة منذ استقلال بني زيان واتخاذهم تلمسان عاصمة لهم. وهي مركز ثقافي وحضاري هام على مدى الأعصر الإسلامية. وتقع اليوم في القطر الجزائري. وهي تزخر بأثار إسلامية موحدية ومرينية هامة.
(1/227)
________________________________________
أبوه أمير المسلمين المنصور بالله أبو الحسن عاملا عليها، فلما بويع بها المتوكل على الله أبو عنان، وسار منها إلى فاس مقعد الملك المريني، قدمه حاجبا له وصاحب علامته، وبلغ لديه جاها عظيما لم يبلغه غيره. وكان أحد الأجواد لا يقاس إلا بمن تقدّم من البرامكة وأمثالهم. وكان قد أعطاه مخدومه السّلطان أبو عنان بعد أن حجبه عشرة من الطّبول وعشرة من البنود، وقدمه أميرا ببجاية (1) وقسنطينة (2) فظهر له هنالك من الآثار الجميلة ما أنسى بها من تقدمه من الحجاب والأمراء. وببجاية توفي في سنة ست وخمسين وسبعمائة، وسيق منها فدفن بتلمسان. فوجد لفقده السّلطان أبو عنان حزنا عظيما أداه ذلك لأن بعث أعز بنيه عنده-وهو الأمير أبو زيان محمد-لبحضر جنازته بتلمسان، وأخرجه حزنه أيضا عليه لأن رثاه بقوله:
ألمّا بأجداث العلى والمناصب ... تحيي ثراها واكفات السّحائب
وعوجا بأكناف الضّريح الذي حوى ... من الجود والإفضال أسنى المراتب
ألا بكّيا غيث المواهب والجدا ... وليث الشّرى نجل السّراة الأطايب
_________
(1) بجاية: مدينة ساحلية بين إفريقية (تونس) ومدينة الجزائر. وهي الآن في القطر الجزائري
(2) قسنطينة: مدينة كبيرة تقسع اليوم في القطر الجزائري (في الشرق منه)، وكانت لها قلعة كبيرة عالية حصينة.
(1/228)
________________________________________
[64/ب]
وجودا بوبل الدّمع تهمي شؤونه ... كما هتنت مزن الغيوث السّواكب
5 وبوحا بأنّ المجد أقوت ربوعه ... وزلزل منه مشمخرّ الأهاضب
فيا رجل الدّنيا وواحدها الذّي ... تحثّ لمغناه مطيّ الرّكائب
لقد كنت لي أنسا وخلاّ وصاحبا ... فبنت ولم تثن العنان لصاحب
وقد أنشبت فيك المنيّة ظفرها ... وما غادرت يوما منيع الجوانب
سقتك صروف الدّهر كاسات حتفها ... وجرّعت منها مفظعات المشارب
10 ولاقيت مكروه الحمام وقد سرى ... عبير ثناك في الرّبا والسّباسب
رزئت أبا عبد الإله بفقدكم ... فها أنا ذا أشكو بريب النّوائب
مسعّرة نار الجوى في جوانحي ... تذكّرني عهد النّصيح المراقب
لقد رزئت فيك السّماحة والنّدى ... وضعضع منها جانب أيّ جانب
(1/229)
________________________________________
وما كنت إلا الطّود والبحر والسّنى ... تضيء ضياء الزّاهرات الثّواقب
15 وما كنت إلا حائزا كلّ شيمة ... من الفضل سبّاقا لبذل الرّغائب
فما اختصّت الأملاك مثل محمّد ... ولا خصّت الأملاك منه بحاجب
ولا نالت الأشراف ما نلت من علا ... وما هي ندّ في النّهى والمناصب
وإن خصّ منهم ماجد بمزيّة ... فقد حزت في العليا جميع المناقب
نمتك إلى المجد الأثيل خصائص ... يقصّر عنها نجل زيد وحاجب (1)
20 ظعنت من الدّنيا حميدا مقرّبا ... وسرت بريئا من ذميم المثالب
وتالله ما دمع براق (2) وإنّما ... أكفكف منه كالعهاد الصوائب (3)
تغمّدك الرّحمن منه برحمة ... وبلّغك الزّلفى وأقصى المآرب
_________
(1) المشهورون ممن تسمى بزيد كثيرون، وفيهم زيد الخيل (000 - 9) من أبطال العرب، وحاجب بن زرارة (000 - 3؟) من سادات العرب في الجاهلية.
(2) رقأ الدمع: جف وسكن.
(3) العهاد جمع العهد: أول مطر الوسمي.
(1/230)
________________________________________
وبوّاك من أعلى الجنان قصوره ... تحيّيك فيها مسبلات الذّوائب
[65/أ]
عليك سلام الله ما لاح بارق ... وما سجعت ورق الحمام النّوادب

حاله-رحمه الله تعالى-:
هو القرم الذي حاز الجلالة، والجواد الذي لم تزل مواهبه منثاله.
قدم للحجابة ففخرت به الدّولة، وقلد الرئاسة فكانت له الصّولة. من عظيم أياديه وسموّ ناديه، وكريم أواخر فضله ومباديه. ولا مرية في أنه ساد بجوده، كما فخر الزّمان بوجوده. وزها بنسبه الطّاهر من الأكدار، وسما بأفعاله الخالصة من الأغيار. ونجم في الدولة الفارسية (1) نجوم البدر في السماء، وتلاعب بسياستها تلاعب الأفعال بالأسماء!.
وحين غيّبته الصفائح، وعدم جداه الفائح؛ رثاه العافون، وتوجّع لفقده المبتلون والمعافون!
فمن رثاه الفقيه الكاتب أبو عبد الله محمد بن محمد بن جزيّ الكلبي (*) بقوله:
لعمر المعالي ما وفى بحقوقها ... من النّاس من لم يرث لابن أبي عمرو
_________
(1) يعني بذلك دولة أبي عنان فارس المريني.
(*) من أسرة بني جزي المشهورة في غرناطة، وله ترجمة في هذا الكتاب.
(1/231)
________________________________________
فتى جمعت فيه المحاسن كلّها ... ولا بدّ من نقص فكان من العمر!
وفي رثانه أنشدني صاحبنا الفقيه الكاتب أبو العباس أحمد بن محمد بن محمد بن عبد المنّان الأنصاري الخزرجي لنفسه (*)
من كان يبكي ماجدا فليجد ... بالمدمع السّكب على الحاجب
يمّم وجه المجد فاغتاله ... صرف الرّدى لم يخش من حاجب
عين أصابته ويا قربها ... في الوجه بين العين والحاجب!
وإذ قد فرغنا مما رثي به فلنذكر شعره، وهو ما كتب به لمخدومه أمير المؤمنين المتوكل على الله أبي عنان:
أنا حاجب لفظا، ومعنى ... ليس لي منها نصيب
فمتى دعيت بحاجب ... فالحقّ ألا أستجيب
بالعجز عن ضرر العدوّ ... وعن موالاة ******
فأنا البعيد حقيقة ... وعلى المجاز أنا القريب
_________
(*) هكذا ورد اسمه في نثير الجمان. وقد ترجم ابن الأحمر في نثير الفرائد لابن عبد المنان باسم أبي العباس أحمد بن يحيى بن عبد المنان (ص 348). وترجم له في درة الحجال (1:53) أيضا باسم أحمد بن يحيى، كما ترجم لابنه يحيى بن أحمد. فلعل اسم أبيه في كتابنا هذا مصحف عن يحيى. وتكون التراجم كلها لواحد. قال في نثير الفرائد: إنه الأندلسي الأصل، مكناسي الدار، وتوفي سنة 792.
(1/232)
________________________________________
فجاوبه أمير المؤمنين المتوكل على الله أبو عنان بقوله:
لئن استقمت كما أمر … ت وترعوي فلك النّصيب
ومتى دعيت بحاجب … فعليك حقّا أن تجيب
فلقد جمعت خصالها … بفعائل الفطن اللّبيب
ونصحت مالكك الذي … ما مثله لك من طبيب
فاشكر لما أولاكه … شكرا به أبدا تصيب

الفقيه القاضي الخطيب الكاتب صاحب القلم الأعلى عبد الله
ابن يوسف بن رضوان بن يوسف بن رضوان بن يوسف بن رضوان
ابن يوسف بن رضوان النجاري الخزرجي (*):
_________
(*) أبو القاسم عبد الله بن يوسف بن رضوان النجاري، المالقي الأندلسي، ثم الفاسي، ذكره تلميذه أبو زكريا السراج وقال إنه كان متفننا في علوم شتى آخذا بحظ وافر من الرواية، مجيدا، كاتبا بليغا، حسن الخط، محبا لأهل الدين معظما لهم ولمن ينتسب للصوفية. بدأ أبو القاسم حياته العملية في بلدة مالقة فارتسم في العدول، ثم انتقل الى المغرب فقدم بالحضرة المرينية كاتبا وخطيبا. وقال ابن خلدون فيه إنه كان يكتب عن السلطان ويلازم خدمة رئيس الكتاب ابن عبد المهيمن. «وكان ابن رضوان هذا من مفاخر المغرب في براعة خطه، وكثرة علمه، وحسن سمته، وإجادته في فقه الوثائق والبلاغة في الترسيل عن السلطان، وحوك الشعر، والخطبة على المنابر، لانه كان كثيرا ما يصلي بالسلطان. .» وكتب ابن رضوان العلامة لأبي عنان المريني ولجماعة من ملوك المغرب كما قال ابن الاحمر في مستودع العلامة. وترجم ابن خلدون لابن رضوان هذا ترجمة مفصلة في (التعريف:41) وذكر خدمته لأبي الحسن المريني مدة، ثم لحاقه بالأندلس، وعودته الى خدمة أبي عنان المريني وغيره من سلاطين بني مرين إلى أن توفي في بعض حركات السلطان أحمد بأزمور (بالمغرب). (انظر ترجمته وأخباره وأشعاره في: مستودع العلامة 51، والكتيبة الكامنة 254، والتعريف لابن خلدون 41 ومواضع أخرى، ونيل الابتهاج:145، ونفح الطيب «مواضع متفرقه منه» -).
(1/233)
________________________________________
يكنى أبا القاسم. وأدركته، ورأيته.
وهو من أهل مالقة، وأصل سلفه من قرطبة، من بيت أصالة وتعيّن، وعم جدّه القريب رضوان، وهو أبو عبد الله محمد بن رضوان، كان لجدي الرئيس الأمير أبي سعيد فرج بن جدنا الأمير أبي الوليد إسماعيل بن جدنا الأمير أبي الحجاج يوسف الشهير بالأحمر بن جدنا السلطان أمير المؤمنين المنصور بالله أبي بكر محمد بن أحمد بن محمد بن خميس بن نصر الخزرجي، وزيرا ورئيس كتابه وذلك حين كان جدنا الرئيس الأمير أبو سعيد فرج (1) المذكور أمير مالقة (2) والجزيرة الخضراء (3) وسبتة من بر العدوة.
_________
(1) هو الأمير أبو سعيد فرج بن إسماعيل بن يوسف بن نصر؛ ومحمد أخو يوسف «جد فرج» هو أول ملوك بني نصر. كان واليا على مالقة، وهو الذي أوقع بسبتة فاحتلها وأجلى بني العزفي «راجع الباب الخاص بتراجم بني العزفي من هذا الكتاب». وانصرف ملك غرناطة إلى ولده أبي الوليد إسماعيل (خامس ملوك النصريين) بعد نصر. وكان الأمير فرج شخصية قوية، وذا نفوذ كبير.
(2) مالقة: مدينة قديمة على شاطيء البحر المتوسط بين الجزيرة الخضراء والمرية وصفت المدينة بالجمال وطيب الهواء ووفرة الخيرات وازدادت أهميتها في عهد بني نصر، ونشطت فيها التجارة وازدهار العمران. وكان لصاحب مالقة أيام بني الاحمر مركز مرموق ومشاركة في كثير من الأمور لمكانة المدينة من البحر وقربها من المغرب وكانت-آنذاك -حاضرة علم وثقافة خرجت عددا كبيرا من الأدباء والكتاب والعلماء واشتهرت المدينة بصناعة الأواني الفخارية والخزفية التي انتشرت على يد التجار منها إلى بلاد المسلمين وغيرها.
(3) الجزيرة الخضراء: مدينة بحرية في أقصى الجنوب من الأندلس. وتقابلها مدينة سبتة في بر العدوة من المغرب. وكان مرساها من أجود المراسي للجواز وأقربها من البحر المحيط، وهو مشتى مأمون. وأرض الجزيرة الخضراء أرض زرع وضرع وبخارجها المياه الجارية والبساتين النضيرة، وبها كانت دار صناعة الأمير عبد الرحمن الناصر. وقد تعرضت المدينة للخطر في القرن الثامن مع اشتداد غزوات الإسبان عليها وعلى مملكة غرناطة، واحتلت في عهد الأمير يوسف مع عدد القرى والقلاع ثم عادت الى المسلمين سنة 70.
(1/234)
________________________________________
والفقيه أبو القاسم هذا [66/آ]. كان قد استنابه في القضاء الفقيه القاضي أبو إسحاق ابراهيم بن أبي يحيى التسولي قاضي حضرة السلطان أبي الحسن المريني.
وبابن رضوان يعرف، ونشأ ببلده مالقة على أحسن حال، كان شاهدا عدلا بسماط شهودها. وارتحل عنها إلى بر العدوة فاستنابه القاضي إبراهيم ابن أبي يحيى المذكور. ثم استكتبه بالحضرة المرينية أمير المسلمين أبو الحسن، ثم اختطب به بتونس حين ملكها من يدي الموحدين آل أبي حفص، ثم استكتبه ابنه أمير المؤمنين المتوكل على الله أبو عنان في حضرته. ثم قلده خطة العلامة ولم يزل عليها حتى الآن في حضرة الملوك من بني مرين.

حاله-نسأ الله في أجله-:
هو سديد الرأي شديد الفهم، بارع الإنشاء رقيق النظم. متلفع ثوب الفصاحة، ورافع راية البهاء والصّباحة. قد امتطى صهوة طرف النّهى، وتقلد نجاد سيف حسن الرّواء. وباعه في المشاركة في العلوم مديد، وله معرفة بطارفها والتّليد. وهو الآن في الدولة المستنصرّية (1)، والإمارة المرينية، كاتب سرها ورئيس كتابها، والمعظم في وزرائها وحجابها. تحت برّ وإكرام، وسيب إنعام.
وما ذاك إلا للذي حاز من علا ... ومن مكرمات ما لها في الورى محص
_________
(1) تلقب أبو فارس عبد العزيز المريني ب‍ «المستنصر بالله».
(1/235)
________________________________________
فمن قوله يمدح ملك المغرب أمير المسلمين أبا فارس عبد العزيز المريني (1):
وهي مولدية (2) ورفعها له في عام ثلاثة وسبعين وسبعمائة:
قف بالدّيار فهذه أعلامها ... يهدى إليك مع النّسيم سلامها
وإذا وقفت بها فحيّ ربوعها ... وذر المدامع يستهلّ غمامها
لنجود هاتيك النجّود وننتحي ... تلك التّهائم بالدّموع سجامها (3)
_________
(1) السلطان أبو فارس عبد العزيز المريني بن أبي الحسن علي: أصلح الدولة بعد استبداد وزراء الدولة وقتلهم بعض السلاطين، وتخلص من الوزير عمر بن عبد الله الياباني. ووصف أبو فارس بعلو الهمة وحسن السيرة وهو ساعد أمير غرناطة محمد الخامس على استرجاع الجزيرة الخضراء، واستولى على مدينة تلمسان. وإليه لجأ لسان الدين بن الخطيب بعد خروجه عن غرناطة تاركا الغني بالله «محمد الخامس» النصري. وتوفي أبو فارس عبد العزيز سنة 774.
(2) بدأت عادت تعظيم يوم المولد النبوي في المشرق، وانتقلت إلى المغرب «والأندلس» على يد أبي العباس العزفي بسبتة فكان يعقوب المريني أول من احتفل به في المغرب، ثم انتقل هذا الرسم إلى الأندلس. قال ابن خلدون في وصف احتفال الأندلس بالعيد «وكان يحتفل-بالأندلس-في الصنيع بليلة العيد، والدعوة، وإنشاد الشعراء، اقتداء بملوك المغرب». وانظر دراسة عن عصر ابن الاحمر «القرن الثامن» في كتابي دراسة عن نثير فرائد الجمان لابن الاحمر-طبع دار الثقافة ببيروت-العدد 18 من سلسلة المكتبة الأندلسية.
(3) في م شجامها، وهو تصحيف. وسجم الدمع: سال. وجاد المطر القوم: عم أرضهم، وجادت العين: كثر دمعها. كذا البيت في النسختين.
(1/236)
________________________________________
[66/ب]
فتعود روضا دبّجته يد الحيا ... ويميل ريّا أثلها وبشامها (1)
5 يا نظرة أرسلتها في عبرة ... بين الطّلول فشاقني آرامها
وأطلت بين كناسها وعرينها ... لهفي فطال بأينقي إرزامها (2)
ذكرى حبيب ما ذكرت عهوده ... إلا وصال على الضلوع هيامها
عهدي بها الحيّ الجميع ودونه ... أسد الشّرى ومن القنا آجامها
لم ترن عين الشّمس هالة بدرها ... إلا وضلّل بالقتام خيامها
10 فمن المزاور والأسنّة والظّبا ... متوقّد حول القباب ضرامها
ومن المؤمّل غير طيف خيالها ... لو كان يحظى بالجفون منامها!
فاليوم بعد نوى الأنيس مقوّضا ... أقوت معالمها وصخّ وسامها؟ (3)
_________
(1) البشام واحده: البشامة: وهي شجرة طيبة الريح والطعم، يستاك بها.
(2) أرزمت الناقة: حنت على ولدها، أو صوتت حنينا على ولدها.
(3) صخ الحجر: صوت عند القرع و «وسامها» كذا فيهما.
(1/237)
________________________________________
واستوحشت أرجاؤها، وتجاوبت ... أصداؤها، ودعا الهديل حمامها
أقوى (1) ملاعبها التي جدّ الهوى ... لما تضوّع رندها وخزامها
وجدي على تلك الظّباء وقد نأى ... منها المزار فما استعيد لمامها (2)
إنّي ليحرقني أوار صبابتي ... ويهيجني للآبجات غرامها (3)
فلكلّ لمحة شارق أو بارق ... أهفو فتغلب مهجتي آلامها
يا صاحبيّ عن الرّكائب حدّثا ... فزمامها ما تعلمان ذمامها
ودعا حديث اللّوم عنّي إنّه ... يذكي لهيب العاشقين ملامها
لما بصرت بطالعات الشّيب في ... شعرات رأسي واستنار ظلامها
وذكرت ما أسلفته فيما مضى ... من موبقات راعني إجرامها
_________
(1) غير ظاهرة في «ط». وأقرب رسم لها في «م» أقرا أو أفرا، وأرجح ما أثبت.
(2) اللمام: اللقاء اليسير.
(3) في القاموس: الأبج: حر وعطش.
(1/238)
________________________________________
أقبلت أطّلب المتاب وإنّه ... صعب على هذي النّفوس فطامها!
أين الرّجال وصدقها في زعمها ... هيهات يضمن صدقها تزعامها
لولا النّبيّ الهاشميّ محمّد ... خير الأنام شفيعها وإمامها
[67/آ]
لقضى على النّفس الظّلوم إياسها ... ولحمّ من خوف الجحيم حمامها
لولا النبيّ الأبطحيّ محمّد (1) ... لم تعرف الكفّار ما إسلامها!
كم أمّة ممحوّة آثارها ... كم شرعة منسوخة أحكامها
كم عصبة مغلوبة أنصارها ... كم ملّة مكسورة أصنامها
أيقظتها بهداك يا صبح الهدى ... من رقدة لعبت بها أحلامها
في فترة أخفى الشرائع ليلها ... وسطا على إشراقها إظلامها
_________
(1) قريش البطاح الذين ينزلون بين أخشبي مكة. وذكر «الأبطح» في خبر العقبة الثانية (الروض المعطار:418).
(1/239)
________________________________________
والجاهليّة تعتدي كي تعتلي ... سفها ويخضع للصّليب طغامها
عميت بها الأبصار عن إدراكها ... سبل الرّشاد وظلّلت أحلامها
وأتيت يا علم النّبوة صادعا ... بالحقّ تأبى أن يزيغ قوامها
وأتيت يا نور الإله مبصّرا ... أهل العماية فاهتدت أفهامها
وحملت في ذات الإله شدائدا ... راعت سواك وما زهتك جسامها
ناجزتهم بالمعجزات شواهدا ... يفري حجاج المبطلين حسامها
أعجب بناطقة الجمادات التّي ... ما كان يفصح ناطقا إعجامها
أعجب بتكثير القليل براحة ... يكفي الألوف شرابها وطعامها
أعظم بإنزال الكتاب كرامة ... أربى على الرّتب العلى إكرامها
فالعرب خاضعة الزّمام لعزّه ... إذ عزّها بمثاله إلمامها
(1/240)
________________________________________
والبدر شقّ وعادت الشّمس التي ... غابت فأشرق نورها وقسامها (1)
وبليلة الإسراء أكبر آية ... جلّت مكانتها وعزّ مرامها
شاهدت والتّقريب يشهد أنه ... بعلوّ قدرك مؤذن إعلامها
بك شرّف الله النبوّة فاعتلت ... وسما على سمك السّماك مقامها
فالأفق ملتمع الضّياء بنورها ... والأرض طاب وهادها وإكامها
[67/ب]
إن تسر في الأنصار سارية لها ... حذرا ليوم تروعها آثامها
فإليك أكرم شافع إنجادها ... وإليك أكبر مرسل إتهامها
لم تقض حقّ المجد إلا عصبة ... أمّت معاهدك الكرام كرامها
يا مصطفى الرّحمن كم من آية ... بهرت بصدقك واستبان تمامها
أوصاف مجدك لا يحيط بمدحها ... ذكر ولا حصر به إتمامها
_________
(1) القسام والقسامة: الحسن.
(1/241)
________________________________________
ماذا يقول المادحون ودرّها ... في الوحي أنزل فذّها وتؤامها (1)
لله مولدك الكريم وفادة ... وإفادة يروي الظّماء جمامها (2)
هو أكبر الأعياد بشرى آذنت ... أن [لا يودع؟] شهرها أوعامها (3)
وافى ربيع الخير منه بليلة ... عن وجه ذاك البدر حطّ لثامها
طفئت بها نيران فارس بعدما ... لم [تطف] (4) ألفا عدّدت أعوامها
والنهر غاض وكان بحرا زاخرا ... وتداعت الشّرفات يسجد هامها
هي ليلة فاق اللّيالي فضلها ... وتشرّفت بزمانها أيامها
أبدى الكريم إمامنا تعظيمها ... وله يحقّ بواجب إعظامها (5)
فهو المليك الصّالح العلم الرّضا ... محيي الشريعة؛ عزّها ونظامها
_________
(1) الفذ: الفرد، وتؤام جمع توأم.
(2) جم الماء: معظمه ج جمام.
(3) لم يظهر من الكلمة غير «لا يو» أو «لا ير»، وما أثبت مقترح.
(4) ما بين معقوفتين ساقط من الأصلين، وهو مقترح.
(5) بدأ الحديث عن تعظيم الممدوح للمولد.
(1/242)
________________________________________
وهو الخليقة وارث الملك الذّي ... منع الخلافة أن ينال مضامها (1)
حامي الحقيقة فاعلا أو قائلا ... فخر الملوك إمامها وهمامها
هو للغواة شتاتها، هو للعفا ... ة حياتها، هو للعداة سهامها
عزّ انتصارا للّذين بعزّه ... لاذوا وألصق بالغواة رغامها
في اللّيث من وثباته وثباته ... شبه يقرّ بفضله ضرغامها
في الغيث من جدوى يديه مشابه ... لو لم يشق سحب الحيا إنجامها
[68/آ]
تندى غضارة بشره فكأنّما ... حامت على ورد النّعيم حيامها
وتريك أفواف الرّياض يمينه ... مهما جرت في رقّها أقلامها
لم يثنه الملك العظيم عن التي ... ضمن الثّواب بخطّه إحكامها
هذا وللخطّي منها هولة ... في الحرب تهزأ بالدّروع سطامها (2)
_________
(1) في ط: مضامها، وفي م: مصامها.
(2) السطام: حد السيف.
(1/243)
________________________________________
يا ابن الملوك وإنّهم لملائك ... في الصّالحات علت بها أقدامها
لله فيك سرائر شهدت بها ... آثار عدلك صادقا إفهامها
تلك الخلافة من مرين أصبحت ... والدّين والدّنيا لديك قوامها
فلعزّ نصرك دائما إسراجها ... وعلوّ أمرك دائما إلجامها
إنّ الليالي أنتم قوّامها ... إن الهواجر أنتم صوّامها
إنّ المعارف منكم استهداؤها ... إن العوارف منكم استتمامها
فرغت ثنايا المأثرات حسانها ... فرعت مراعي المكرمات سوامها
لك صدق وعد الله في إظهاره ... للدّين أنت لها، وأنت عصامها! (1)
لك في الجهاد سريرة أخلصتها ... لله فلينشر عليك علامها
لك راحة في الجود راحتها وكم ... كف بمنع نوالها إفعامها!
_________
(1) من المثل المشهور -وينسب للنابغة- *نفس عصام سودت عصاما*.
(1/244)
________________________________________
ولك المواضي الفاتكات صفاحها ... ولك الأيادي المالكات جسامها
ولك الإيالة شاهدا إقبالها ... إن السّعود بها يكون دوامها
هامت بها مصر فلو واصلتها ... لرأت شبيهة عمرها أهرامها!
ولو أنّ بغدادا أردت وجلّقا ... لهوى إليك عراقها وشآمها
إن الفتوح عليك يخفق بندها ... ولديك فيما ترتضيه قيامها
وعداك عوّدك الإله بأنّها ... إن لم تطعك تحط بها آثامها
[68/ب]
تلك العطاية عبيد الواد لم ... يرفع لها علم ولا أقوامها (1)
نامت لهم عين الحوادث برهة ... فاستيقظت من بعد ذاك نيامها
لا تحسبنّ لها غناء في الوغى ... فوراؤها عند الهياج أمامها!
إن الإله قضى لها مهما بدت ... تخفى، وعند وجودها إعدامها (2)
_________
(1) يشير إلى انتصار الممدوح المريني على أبي حمو العبد الوادي صاحب تلمسان سنة 772 هـ‍
(2) يريد: وجودها كعدمها. واستعمل إعدام بمعنى عدم.
(1/245)
________________________________________
أنت الّذي ترث البلاد وأهلها ... منها سوى ما حازه أرجامها! (1)
لك من سعود «المشتري» ما شئته ... ولها نحوس ذلّها بهرامها (2)
إن الشّقيّ وإن تولّى مجفلا ... في النّازحات كما يراع نعامها
لتسوقه الأعراب خادمة به ... ويقود ناقته إليك زمامها!
ويحلّ حيث مضى الذّين، تقدّموا ... طوع السّيوف هوى بهم إلحامها
مولاي يا عبد العزير ومن له ... تحدى الرّكائب والرّجاء خطامها
يا ابن الإمام عليّ الملك الذّي ... دانت إليه من الملوك ضخامها
نجل الإمام أبي سعيد ذي النّهي ... والكفّ تطمع بالعطاء رهامها (3)
نجل الرّضا يعقوب ذي الملك الّذي (4) ... ملك البسيطة فاستقام أثامها
_________
(1) أرجام ج رجم: القبر.
(2) بهرام: المريخ. وللمشتري والمريخ عند المشتغلين بالنجوم دلالات ولهم فيها ادعاءات.
(3) الرهام جمع رهمة وهي المطر الخفيف الدائم.
(4) أبو سعيد عثمان ويعقوب المريني المنصور، من سلاطين المرينيين المشهورين.
(1/246)
________________________________________
خذها إليك مدائحا أهديتها ... كالزّهر يطلع زهرها أكمامها
حملت شذا أوصافك الغرّ الّتي ... أرجت (1) بعرف ثنائها أيّامها
واهنأ بميلاد الرّسول مسرّة ... خفقت على دين الهدى أعلامها
واخلد ودم ما خلّدت أمداحه ... كالمسك ينفح بدؤها وختامها

الفقيه الكاتب القاسم بن يوسف بن رضوان رحمه الله (*):
[كنيته:]
يكنى أبا الفضل. وأدركته، ورأيته. ومولده بمالقة، بلده، وكتب لأمير المؤمنين [69/أ] المتوكل على الله أبي عنان فارس.

حاله-رحمه الله-:
كان بالحديث عارفا، وعلى درسه عاكفا، ولرجاله واصفا. مع معرفة بالأصول والفروع، ومشاركة في النحو واللغة تروع. إلى بهاء وصباحة، وحسن رواء وسماحة.
_________
(1) لم تظهر الكلمة في «م» والمثبت من «ط».
(*) ذكره المقري في نفح الطيب 7:118، ونقل مساجلات شعرية بينه وبين أبي إسحاق ابن الحاج النميري الغرناطي.
(1/247)
________________________________________
فمن إنشائه البارع، ما كتب به المخدومه أمير المؤمنين المتوكل على الله أبي عنان، والتزم في كل منها بالسين. تقدست أسماء السّميع. سعود سيد السلاطين متساعده، وسريرته لسنن السّنّة السّمحة مساعده، وسنا سنائه (1) استنار الإسلام بحسن سيرته السّنيّة، وسرى بالبسيطة سيب سحاب إحسانه وسماحته السخية، وسما بسنام سفح السّؤدد بحسامه الناسخ سبيل البأس والبؤس، وسبق بنفسه النفيسة سطور العساكر، وعساكر الطّروس، فحسبك استنباط السفن بالمراسي المحروسة، وإسعاف الرّسل بسوابغ الحسنات الجسيمة المغروسة. فيستفتح بأسنّة سمره، وسمر أسنته رسوم الأندلس الدارسة، وبه يسلك سبيل سلفه (. . .) (2)، المستنيرة بسناهم السّدف الدّامسة. فشمس السرور بسماء مسرّته مستنيرة، وسعد السعود بتسنّي سؤله ساطعة مستديرة.
ومجالس أنسه منفسحة الآساس والمسالك، وسلسبيل السول بساحة سماحته يستحليها الناسك والسالك. وسائل إسعافه السّابغ، القاسم سليل يوسف (3) مسترق سلطانه ومستمنح إحسانه. ساعد سلطته السامية الإسعاد وساعفها السّرور المستفاد. والسلام المتسق السلك، المنتسم المسك يسري للمجلس السعيد الأسمى [69/ب].
_________
(1) أقرب ما يمكن أن يقرأ فيهما.
(2) كلمة طمست في «م» ومكانها بياض في «ط».
(3) يشير إلى اسمه: القاسم بن يوسف.
(1/248)
________________________________________
الفقيه الكاتب صاحب القلم الأعلى وكاتب الأشغال السلطانية
علي بن محمد بن أحمد بن موسى بن سعود الخزاعي (*).
[كنيته:]
يكنى أبا الحسن، وأدركته ورأيته. ومسقط رأسه تلمسان، وأصل سلفه من الأندلس من بني سعود. والقادم من الأندلس على تلمسان أبوه محمد.
ووالد جده الفقيه موسى بن سعود ولي قضاء أدله (1) بالأندلس في دولة أسلافنا الملوك بني نصر. ثم ولي بها القضاء بعده ابنه الفقيه أحمد؛ ثم ارتحل أحمد إلى غرناطة فاستوطنها، واستخدمه جدّنا أمير المسلمين أبو عبد الله محمد الفقيه ابن جدنا أمير المسلمين الغالب بالله أبي عبد الله محمد صاحب الدبوس ابن جدنا الأمير أبي الحجاج يوسف الشهير بالأحمر ابن جدنا أمير المؤمنين المنصور بالله أبي بكر محمد بن أحمد بن محمد بن خميس بن نصر الخزرجي، في الأشغال السلطانية، ثم ارتحل عن الأندلس إلى بر العدوة، واستقر بتلمسان هو وولده محمد، فاستوطنها إلى أن توفي بها.
واستكتب الملوك من بني زيان بحضرتهم من تلمسان لولده محمد وقلده
_________
(*) ترجم له ابن الأحمر في مستودع العلامة «62 - 64»، واسم جده فيه «مسعود»، وقال إن نفرا من آبائه تولوا القضاء بالأندلس، وإن والده انتقل من الاندلس، واستقر بتلمسان. وذكر ابن الاحمر أن المترجم به كتب في حضرة بني عبد الوادي أولا، ثم استقر كاتب أشغال في حضرة بني مرين. وتحدث عنه ابن خلدون في «التعريف 43» وفسر عبارة كاتب الأشغال السلطانية حين وصفه بأنه «صاحب ديوان العساكر». وقد أسندت إليه كتابه العلامة بالإضافة إلى منصبه السابق في دولة السلطان أبي سالم إبراهيم بن أبي الحسن المريني. وانظر في ترجمته درة الحجال وجذوة الاقتباس لابن القاضي.
(1) أدله: فيهما.
(1/249)
________________________________________
وزارته السلطان أبو زيان محمد بن السلطان عثمان ابن السلطان يغمراسن بن زيان. ثم قلده منهم كتابة الأشغال السلطانية أمير المؤمنين العادل بالله أبو تاشفين عبد الرحمن، ثم استكتب بنو زيان بحضرتهم ابنه الفقيه أبو الحسن (1) علي هذا وقلده منهم خطة الأشغال السّلطانية أمير المسلمين المتوكل على الله أبو سعيد عثمان بن عبد الرحمن بن الأمير يحيى بن أمير المسلمين يغمراسن بن زيان.
واستكتبه أيضا في الأشغال السلطانية بالحضرة المرينية أمير المؤمنين المتوكل على الله أبو عنان فارس بن أمير المسلمين أبي الحسن علي بن أمير المسلمين أبي سعيد عثمان بن أمير المسلمين أبي يوسف يعقوب بن عبد الحق، وابنه أمير المؤمنين السعيد بالله أبو يحيى أبو بكر، وعمه أمير المسلمين المستعين بالله أبو سالم إبراهيم، وهو الذي قلده خطة القلم الأعلى مضافة إلى الأشغال [السلطانية] (2) [70/أ] بطول دولته.
وقلده أيضا منهم الأشغال أمير المؤمنين المتوكل على الله أبو زيان محمد، وعمه أمير المؤمنين أبو فارس عبد العزيز، وابنه أمير المسلمين السعيد بالله أبو زيان محمد.

حاله-أكرمه الله-:
هو فارس ميدان الحساب، وحامل راية الآداب والأنساب، ورئيس النحويين وعلم اللغويين. ولديه من الأصول حظ وافر، كما وجه الفروع له سافر. وخطه ينسي ابن مقلة في تنميقه، وشعره يسكت المرقش في تزويقه.
وقدمه في الكرماء أرسخ من أبي قبيس وفضله ينسى فضل الأمير دبيس!
_________
(1) في النسختين «أبو الحسن علي».
(2) لم ترد في الأصلين.
(1/250)
________________________________________
أنشدني لنفسه يمدح ملك المغرب أمير المؤمنين المتوكل على الله أبو عنان (1):
هو الدّين عزّ اليوم بالنّصر جانبه ... وذلّ مناويه وهان مناصبه
وكنّا من الإشفاق في مدلهمّة ... تجلّت بمرآك السّني غياهبه
وربّ غويّ كان يخفي نفاقه ... وفي ساعة (الإيجاف) (2) دبت عقاربه
أذقهم وبال البغي إنّ قتالهم ... جهاد ولا عهد لديهم تراقبه
وأرسل عليهم من جيوشك عارضا ... بصائبة النشّاب يمطر حاصبه
هو اللّيل والزّرق الطّوال نجومه ... هو السّيل (3) والبيض القصار مذانبه
إذا أمّ أرضا دوّختها سلاهبه ... وإن رام أمرا وصّلته قواضبه
وقد وثقت طير الفلاة بغارة ... لحوم الأعادي فهي ممّن تصاحبه
_________
(1) فيهما «أبو عنان».
(2) في النسختين: الآجاف. وما بين قوسين مقترح، على أن مصدر «وجف» بمعنى اضطرب لا يكون على إيجاف، كما في القاموس.
(3) فيهما: والسيل، وظاهر أن المقصود مثل ما أثبت.
(1/251)
________________________________________
وكم لك من يوم أبدت به العدا ... بألسنة الأغماد تتلى مناقبه
10 إذا خطّ رمح الخطّ في معرك الوغى ... أتاك ظهير الفتح والنّصر كاتبه
أقام بك الله الخلافة بعد ما ... وهت وعماد الدّين إذ هدّ جانبه
وناضلت عن دين الهدى غير مقصر ... فعزّ، ولولا أنت عزّ مغالبه
[70/ب]
فتنتجع الأملاك غيث يمينكم ... فيرجع كل مثنيات حقائبه
وكم ملك سوغته الملك منعما ... فلما بغى قامت عليه نوادبه!
15 تسالم من قد أوجب الشّرع سلمه ... وتقطع في نصر الهدى من يناصبه
فيا سعد من سالمتموه فقد نجا ... ويا ويل من كانت مرين تحاربه
فهل من قبيل لم يسده أميرهم ... وهل من بلاد لم تسدها كتائبه
أجلّتك أملاك الزّمان لعلمهم ... بأنّك شمس والملوك كواكبه!
وأنفذ كل رسله لمقامكم ... ونيل رضاكم سؤله ومآربه
(1/252)
________________________________________
20 فدم لرجا راج وتأمين خائف ... ونصرة مظلوم تضيق مذاهبه
وأيّدك الرحمن فيما ترومه ... ويسّر من قهر العدا ما تطالبه

الفقيه الكاتب محمد بن عبد الحكيم بن تادرارت (*).
[كنيته:]
يكنى أبا عبد الله، وأدركته، ومسقط رأسه مالقة، وأصل نسبه من تونس. وعبر البحر من الأندلس إلى العدوة يكتب في الحضرة المرينية في دولة أمير المسلمين أبو الحسن.

حاله-رحمه الله-:
كان ممن برز في الكتابة، وأصاب في النّصح كل الإصابة. وارتقى من المفاخر مرقى لا يطرق. وحاز من الكمال ما ليس يلحق، مع البهاء البهي، والجلاء الجلي، وحسن الصحبة وكرم الخيم، وطهارة النسبة.
فمن قوله، وكتب به من إطرابلس إلى صاحبه الفقيه الكاتب صاحب القلم الأعلى أبي القاسم بن رضوان النجاري (1):
_________
(*) ترجم لسان له في الكتيبة الكامنة «213»، وترجم لأخيه أبي علي حسين بن عبد الحكيم، وقال في أثناء التعريف به «207»: التينملي، المحسوب من الاندلس لولادته بها، كان أبوه من قسنطينة. ووصف المترجم به بأنه فاضل من الفضلاء، اشتغل بالكتابه والقضاء. ونقل له قطعة شعرية في غرض الرثاء قال فيها إنه لم يسمع له غيرها. وعلى هذا فإن المترجم به مقل في غرض الشعر يثارك فيه مشاركة عارضة.
(1) سبق التعريف به والترجمة له.
(1/253)
________________________________________
سل قلبك المصدوع من بعدي ... ماذا لقيت لحادث البعد
[71/آ]
فلديه من ذاك الحديث-متى ... تسأله-ما أخفي وما أبدي
وإذا شرقت بملح دمعك من ... أسف عليّ علمت ما عندي!

الفقيه الكاتب أحمد بن شعيب الجزنائي (*).
[كنيته:]
يكنى أبا العباس، وأدركته. وكتب في حضرة أمير المسلمين أبي الحسن علي ملك المغرب.
_________
(*) هو أبو العباس أحمد بن شعيب الجزنائي، التازي الدار، نزيل فاس. كما في نثير فرائد الجمان، غير أن ابن خلدون عده في أهل فاس، وقال في التعريف:48 «برع في اللسان والأدب والعلوم العقلية من الفلسفة والتعاليم والطب وغيرها». وكان كاتبا لدى السلطان المريني أبي سعيد وطبيبا، واستمر على ذلك عند أبي الحسن المريني. وكان المترجم به-الى ذلك-شاعرا متقدما، وناقدا بارعا، وعبارة ابن خلدون في ذلك تدل على مكانة عالية له في كلا الفنين، قال «وله شعر سابق به الفحول من المتقدمين والمتأخرين وكانت له إمامة في نقد الشعر وبصر به»؛ ووصفه ابن القاضي في درة الحجال بالنحوي. وكانت وفاة المترجم به في تونس، في أثناء الطاعون الجارف الذي اجتاح الاندلس والمغرب ومناطق أخرى في سنة 749 هـ‍. ولم يحدد ابن خلدون سنة وفاته، وأرخها ابن الأحمر في نثير الفرائد بسنة 750 هـ‍، وقال ابن القاضي إنه توفي سنة 749. (انظر في ترجمته نثير الفرائد:335، ونيل الابتهاج:68، والتعريف لابن خلدون: 48، وجذوة الاقتباس 47، ودرة الحجال 1:45).
(1/254)
________________________________________
حاله-رحمه الله تعالى-:
كان عالما بالحساب، حافظا بالأنساب، عارفا بالطبّ والنّجوم، كما كان له في الشعر النّجوم!
فمن قوله:
يا غائبا في الضّمير ما برحا … إني محل (1) الهوى وإن نزحا
لم تضمر الصّبر عنك جارحة … ولا فؤادي لسلوة جنحا
مستعبر المزن فيك أدمعه … يظلّ يبكيك كلّما سنحا
ولا أرى البرق عاد مبتسما … بعدك بل زند شوقه قدحا
وما تغنّى الحمام من طرب … بل يعلن النّوح كلّما صدحا

الفقيه الكاتب محمد بن عبد الله بن أبي مدين شعيب العثماني (*):
[كنيته:]
يكنى أبا الحسن، وأدركته، ورأيته، وكتب للملوك من بني مرين بحضرتهم.
وكان أبوه عبد الله (**) هو الذي نجم في بني أبي مدين في خدمة الملوك من بني مرين. قلدوه الحجابة ورياسة الكتاب، وكان أحد الموصوفين
_________
(1) كذا فيهما.
(*) تحدث ابن خلدون في «التعريف» وابن الأحمر في «مستودع العلامة» عن أسرة بني أبي مدين، فقد كانت أسرة علم واشتهار بالخدمة السلطانية. ونص ابن خلدون «ص 40» أنه كتابة العلامة كانت مقصورة على هذا البيت. وقد ألم ابن الأحمر في هذا الكتاب ونثير الجمان بذكر نفر من مشهوري هذه الأسرة، وتعد أخباره عنه وإشاراته مصدرا أساسيا عنهم لاستفاضته في بعض تراجمه، وتقصيه، ومعاصرته، ومعرفته ببعضهم معرفة شخصية.
(**) انظر ترجمة لعبد الله بن أبي مدين في مستودع العلامة:41، والتعريف 40.
(1/255)
________________________________________
بالكرم الفائق، كانت عطاياه هنيدات (1).
أخبرني بفاس غير واحد ممن رآه أن عطاياه كانت من خمسين دينارا ذهبا، إلى مائة دينار مثلها، إلى أكثر من ذلك.
ومولده بقصر كتامة (2)، ونشأ بمكناسة الزيتون (3)، وبها قرأ القرآن وتفقّه؛ فتعلق بخطة [71/ب]، التوثيق، وسكنها مدة. ثم ارتحل عنها إلى فاس فأقام بها موثقا بسماط شهودها، وكان أصل قربه من دار السلطان أن الوزير أبا علي عمر بن الوزير السعود بن خرباش الحشمي (4) طلب من قاضي مكناسة في حينه كاتبا لنفسه يكون حسن الحظ، فعرفه بعبد الله هذا؛ فاستكتبه. وانتقل بعد وفاة الوزير عمر بن السعود لقراءة الحزب بدار أمير المسلمين أبي يوسف يعقوب بن عبد الحقّ. ثم تعلق بخدمة السلطان أبي يوسف يعقوب بن عبد الحقّ على يد (5). . . من كتاب الحضرة السلطانية اليعقوبية على يد صاحب قلمها الأعلى أبي عبد الله محمد الكناني. فلما توفى الكناني قدمه السلطان أبو يوسف للعلامة فكان يعلم، وأبو الطيب الكناني أخو المتوفى يعلم، وأبو عبد الله محمد بن الربيب الكتامي يعلم، وأبو عبد الله
_________
(1) الهنيدة المئة من الإبل.
(2) قصر كتامة أو مدينة قصر عبد الكريم، غربي مكناسة بانحراف إلى الشمال، (انظر تقويم البلدان لابي الفدا:133، والاستبصار:190).
(3) مكناسة الزيتون: مدينة بالمغرب «في المملكة المغربية»، من نظر فاس إلى جهة المغرب، وهي مدينة جليلة وكانت في معظم الأوقات مركز نشاط حضاري وعمراني. قال في الاستبصار: وزيتها أكثر زيت في المغرب. (انظر الروض المعطار 544، وتقويم أبي الفداء 123، والستبصار 178).
(4) تحدث السلاوي عن بعض خبره في الاستقصا 3:75.
(5) بياض بمقدار كلمة في الأصلين.
(1/256)
________________________________________
محمد العمراني يعلم؛ من حضر منهم علم. فمات السلطان أبو يوسف، وولي بعده السلطان أبو يعقوب يوسف فبقي كاتبا كما كان، إلى أن استبد بأمور أبي يعقوب كلها، وقلده الحجابة ورياسة الكتاب، ولم يزل كذلك إلى أن توفي أبو يعقوب، وولي بعده حفيده ابن ابنه، أبو ثابت عامر. فبقي على ذلك إلى أن مات أبو ثابت وولي أخوه لأبيه أبو الربيع سليمان، فبقي على ذلك إلى أن قتله أبو الربيع في عام عشرة وسبع مئة.
وأبو مدين شعيب والد عبد الله كان منخرطا في سلك المتصلحين، فصيح اللسان، وكان يصلي في بعض الأوقات بالسلطان أبي يوسف يعقوب بن عبد الحق. وليس هو أبو مدين شعيب بن الحسين (1) الأنصاري الاشبيلي الأندلسي
_________
(1) سيدي أبو مدين شعيب بن الحسين الأندلسي، اشتهر بشيخ المشايخ، قال فيه أبو الصبر شيخ مشايخ وقته: كان أبو مدين زاهدا فاضلا عارفا بالله تعالى. وقال التادلي: كان مبسوطا بالعلم مقبوضا بالمراقبة، كثير الالتفات بقلبه إلى الله تعالى حتى ختم بذلك. وكان من أعلام العلماء وحفاظ الحديث خصوصا جامع الترمذي وكان يقوم عليه. وكان يلازم كتاب الإحياء ويعكف عليه، وترد عليه الفتاوى في مذهب مالك فيجيب عنها في الحال. وكان شيخه أبو يعزى يثني عليه جميلا، ويخصه بين أصحابه بالتعظيم والتبجيل. قضى في الأندلس مدة من حياة الصبا، ثم ارتحل إلى المغرب، واستقر بفاس يتلقى علومه ويتعبد ويلتقي بالعباد الزهاد، فأخذ عن ابن حرزهم وابن غالب وغيرهما. ولزم الشيخ أبا يعزى الفقيه الزاهد، واستأذنه في الحج فأدى الفريضة ولقي سيدي عبد القادر الجيلاني ولبس منه الخرقة وقرأ عليه كثيرا من الحديث في الحرم. وعاد فاستوطن بجاية فاشتهر أمره وقصده الناس وطار صيته حتى وشى به بعضهم إلى أبي يوسف يعقوب المنصور الموحدي فاستقدمه الأمير ووصى صاحب بجاية أن يرفق به، فقال أبو مدين لأصحابه وتلاميذه-وقد تغيروا لطلب الأمير-أنا لا أرى السلطان ولا يراني!» =
(1/257)
________________________________________
وليّ الله تعالى، الذي دفن بالعبّاد (1) من مدينة تلمسان؛ وإنما اتفق الاسمان.
وهو من بني عثمان، قبيلة، يسكنون بقصر كتامه. وأبو الحسن هذا كتب في حضرة أمير المسلمين أبي الحسن ملك المغرب المريني. وكتب أيضا في حضرة أمير المؤمنين [72/أ] المتوكل على الله أبي عنان.

حاله-رحمه الله-:
كان قد تابع والده في هديه، ولم يتخطه (2) في أمره ونهيه. وحاكاه في بذل العطايا، ولم يحد عن تلك السّجايا. وكان للقرآن حافظا، وعلى أوقات
_________
= فارتحلوا به على أحسن حال حتى وصلوا حوز تلمسان فبدت لهم رابطة العباد فقال لأصحابه: ما أصلحه للرقاد!. فمرض فلما وصل وادي يسر اشتد مرضه ونزلوا به هناك فكان آخر كلامه: الله الحق. وتوفي سنة 594، ودفن بالعباد في مشهد عظيم. من كلامه: من اشتغل بطلب الدنيا ابتلي فيها بالذل، ومن لم يجد من قلبه زاجرا فهو خراب. وقوله: بفساد العامة تظهر ولاة الجور، وبفساد الخاصة تظهر دجاجلة الدين الفتانون. وقوله: من عرف نفسه لم يغتر بثناء الناس عليه. وفي تراجمه الكثيرة أحاديث مطولة عن فضائله وما ينسب إليه من كرامات. ولم يظهر من أخباره ما يدل على ادعائه وتطوله، والله تعالى أعلم. (انظر تراجمه وأخباره في. التشوف لرجال التصوف للتادلي 316، ونفح الطيب للمقري 7:142 ونيل الابتهاج لأحمد بابا:127). وألف فيه ابن قنفذ القسنطيني كتابا مستقلا بعنوان: أنس الفقير وعز الحقير ط الرباط). ولسيدي أبي مدين ديوان شعر لطيف الحجم، طبع في دمشق، وهو في حاجة إلى تحقيق وإلى تخليص شعره وموشحاته من أشعار غيره.
(1) عباد تلمسان عند وادي يسر قرب تلمسان، موضع معروف، مشهور بالحسن وجمال الطبيعة، واشتهر بعد ذلك بضريح سيدي بومدين، ثم أقيم إلى جانبه مسجد مشهور.
(2) في الأصلين: يتخطاه.
(1/258)
________________________________________
قراءته محافظا. لا تراه إلا تاليا، كما كان للفواحش قاليا. وأبوه عبد الله هو الذي أشاد المعالي في قومه، وأيقظ لهم جفن الفخار من نومه. وساد بما أشاد من المفاخر، ونشر بعطائه رداء السيادة الفاخر. أعطى وما أبطأ، وأصاب في ذلك وما أخطأ (*). وسطا في حجابته بالظلام، ورفع في رياسته من وضعته الأيام. وكان مكرما بالشرفاء (1)، رفيقا بالضعفاء. عظيم الصدقات، حليما في السكون والحركات. كثير التواضع، قليل التصانع.
أنشدني أبو الحسن المذكور لنفسه-رحمه الله تعالى-يتشوق:
يا سقى الله دهرنا المستقضّي ... من شآبيب دمعي (2) المرفض
لو بملك العراق أسعف دهري ... ما رضيت المقام في غير أرضي!
يا رسول الهوى (3) تحمّل سلامي ... للذي حال بين جفني وغمضي
وإذا ما أتيته فتأدّب ... فعلى الحسن حاجب غير مغض!
بديار ****** قلبي مقيم ... وبدار النّوى القصيّة بعضي
شيمة الدّهر فرقة وتلاق ... كلّ ما فيه مؤذن بتقضّ
_________
(*) واقرأ «أبطا» و «أخطا» بالتسهيل.
(1) كذا عبارة المؤلف، والأشبه: للشرفاء.
(2) في الأصلين «دمع»، ونرجح ما أثبت.
(3) في الأصلين «الهدى» بالدال، ونرجح ما أثبت.
(1/259)
________________________________________
إن مضى عهد قربنا وتولى ... فزمان البعاد لا شكّ يمضي!
وأنشدني أبياتا كتب بها لأبيه الفقيه الكاتب صاحب القلم الأعلى أبو محمد صالح بن حجاج (*) وهي:
يا سيّدي لم أنم البارحه ... من فكرة سانحة بارحه
إذ باتت النّفس لأوطانها ... شيّقةّ، ونحوها جانحه
وكان في صحبة من قد مضى ... لي أمل وهمّة طامحه
حتّى إذا ولّوا وأضحت بهم ... ركابهم غادية رائحه
قنطت حتّى لم أجد سلوة ... إلا بتلك الغرّة الواضحه
كذاك حالي إن نأت سلوتي ... بكم أردّ سلوتي النازحه
وإنّما المقصود يا سيّدي ... جوابكم فكن إذن مانحه
بالنّظم أو بالنّثر إن شئتم ... تلك فعال كلّها صالحه!
_________
(*) كاتب العلامة الفقيه أبو محمد صالح بن حجاج اللخمي السبتي، كاتب علامة السلطان عثمان بن يعقوب بن عبد الحق المريني ملك المغرب. وقد وصله ابن الأحمر في مستودع العلامة بأسرة بني حجاج الذين كان لهم نفوذ بإشبيلية أيام الدولة المروانية. (انظر مستودع العلامة:41، وروضة النسرين 24).
(1/260)
________________________________________
فأخبرني أن أباه جاوبه بقوله:
شممت من ريحانها رائحه ... لمسك دارين غدت فاضحه
أبيات شعر أشعرت أنّها ... لذي وداد خالص مادحه
قد نفثت سحرا ولكنّها ... صادحة بالبثّ بل بائحه!
وراعني خطّ يراع غدا ... مقلّما زند الأسى قادحه
لا أهل بالبين ولا مرحبا ... جراحه ما غادرت جارحه
يا فارقا من فرقة غربة ... أمست لها سلوته نازحه
هوّن على نفسك ما هالها ... فإنّ عتبى صبرها ناجحه
ستحمد الحالة يا صالح ... عمّا قريب وترى صالحه
بفضل رب قادر لم تزل ... ألطافه غادية رائحه
(1/261)
________________________________________
ابن عمه الفقيه الكاتب صاحب القلم الأعلى محمد بن محمد ابن
أبي مدين (*):
[كنيته:]
يكنى أبا المجد، وأدركته، ورأيته. وكتب في الحضرة المرينية. ثم كتب العلامة [73/أ] لأمير المسلمين أبي الحسن علي المريني في حين كان بجبل عامر بن محمد الهنتاتي.

حاله: -رحمه الله تعالى-:
كان شاعرا أريبا، وطالبا لبيبا. ذا سمت جسيم، وظرف شكل وسيم.
أنشدني لنفسه:
عزّ صبري ولم أكن بالجهول ... عندما آذنوا لشدّ الحمول
ها أنا في الطّلول أرسل دمعا ... ليس إلا به شفاء العليل
لم تكن أدمعي بأوّل دمع ... طلّه العاشقون بين الطّلول
فدموعي الغزار طوفان نوح ... وضلوعي الحرار نار الخليل!
_________
(*) وصفه في مستودع العلامة بأنه كان غزير الأدب، جم الحياء، وقال إنه كتب في حضرة السلطان أبي الحسن المريني ثم كتب له العلامة بجبل هنتاته «مستودع العلامة:46».
(1/262)
________________________________________
5 لهبوب الشّمال ملت ارتياحا ... فكأني شربت كأس شمول
والتزام الرّبوع صيّر جسمي ... مشبها منهم لكلّ نحيل
آه ممّا أضرّ بي من غرامي ... واشتياقي ولوعتي وغليلي
سادتي هل إلى الوصال سبيل؟ ... إننّي لم أجد له من سبيل!
إن أمت في الهوى فغير نكير ... كم لها في ذوي الهوى من قتيل!
10 فارحموا من شكا لغير رحيم ... بعدكم واستنال غير منيل
نال عزّا بكم وذلّ لديكم ... فاعجبوا منه للعزيز الذّليل!
وبشوقي بعثت قلبي رسولا ... فارفقوا؛ لا يحلّ قتل الرّسول
أنا عبد لكم على كلّ حال ... كنتم؛ ليس لي بكم من بديل!
(1/263)
________________________________________
أخوه الفقيه الكاتب شعيب بن محمد ابن أبي مدين شعيب بن مخلوف العثماني (*):
[كنيته:]
يكنى أبا مدين، وأدركته.
وهو ابن أخي الفقيه الوزير الحاجب الكاتب صاحب القلم الأعلى عبد الله بن أبي مدين المذكور أولا. وكان أبوه محمد قد كتب [73/ب] العلامة لأمير المسلمين أبي سعيد عثمان بن أمير المسلمين يعقوب بن عبد الحق.
وشعيب هذا كتب في الحضرة المرينية، وامتحنه أمير المسلمين أبو الحسن-رحمه الله-وأسكنه دار السجن سنين طائلة.

حاله-رحمه الله تعالى-:
كان ممن أصفق الإجماع على براعة نظمه، وتوقع في الأسماع إجادة فهمه.
كثير الارتياح إلى الآداب، شديد الكلف بمعرفة الأنساب. عظيم الثروة، عميم الحظوة. وكان في الدار السلطانية رفيع الجاه، ثم إن الدهر أضاعه وألجاه. والدّهر لا يبقي على حال، وتصرفاته كم لها من قبيح أفعال. وقلب له المجنّ، وأورثه بجوره المحن! وسكن السجن من قبل السلطان، لأمر أبغضه الله، وأحبه الشيطان!
_________
(*) نعرف من أسماء أبناء أبي مدين شعيب العثماني-بحسب ما في مستودع العلامة والتعريف بابن خلدون-كلا من عبد الله، وأبي القاسم، ومحمد الحاج، ومحمد القصري. وفي أولاد هؤلاء عدد سموا ب‍ «محمد». ووالد شعيب. المترجم به هنا هو محمد الحاج بن ابي مدين كاتب علامة السلطان عثمان بن يعقوب. ولم أقف على ترجمة لشعيب هذا. وفي نيل الابتهاج لأحمد بابا ترجمة لشعيب بن محمد بن جعفر بن شعيب (727 - 775) وقال إنه غادر إلى المشرق، واستقر بحماة. ويكون لأبي مدين-على ما نقل أحمد بابا-ولد آخر هو جعفر. (نيل الابتهاج 129، وروضة النسرين 24، ومستودع العلامة 44)
(1/264)
________________________________________
فمن قوله-رحمه الله تعالى-:
كم بات طيفك بالزوراء يغريني ... وأسهم الوجد لا تخطي وتصميني
لياليا سلفت نادمت سدفتها ... يغيب في اللّيل أحيانا ويبريني
كم وقفة لي في أطلالهم سحرا ... حيّيت فيها نسيما كان يحييني
ونشقة من نسيم الرّند نمّ بها ... عرف الصّبا نفحت بالخرّد العين
5 رصدتّهم في النّقا والجزع من إضم ... رصد العبيد لأبواب السّلاطين!
آها لها نظرة ما إن شعرت بها ... حتّى عراني حبل غير مأمون
يا ساكن الجزع أعياني النّدا فمتى ... أراك يوما من الدّنيا تلبّيني؟
من لي بنظرة خلس في محاسنه ... أجني بها الورد بل كلّ الرّياحين
ظبي تفلّت من نعمان ثم غدا ... يزري بأهل النّهى والعقل والدّين
10 لو أنّني بعت دنياي وزخرفها ... بنظرة منه ما بيعي (1) بمغبون!
_________
(1) يقال باعه إذا باعه وإذا اشتراه (ضد).
(1/265)
________________________________________
ولو بذلت له نفسي وما ملكت ... للمحة عرضت ما كان بالدوّن
[74/أ] فقيس ليلى وغيلان وشيعته ... وكلّ ما رسموا من وجدهم دوني (1)!

ابنه الفقيه الكاتب حمزة بن شعيب ابن محمد بن أبي مدين شعيب (*):
[كنيته:]
يكنى أبا يعلى، وأدركته، ورأيته، وكتب في حضرة أمير المؤمنين المتوكّل على الله أبي عنان فارس ملك المغرب، ونال لديه جاها مكينا. ثم امتحنه بسبب الحاجب الرئيس الفقيه الكاتب صاحب القلم الأعلى أبي عبد الله محمد بن أبي عمرو التميمي المحنة العظيمة التي أدخلته رمسه، واعتقله بالسجن، وبه مات مقتولا في عام اثنين وخمسين وسبع مئة.

حاله-رحمه الله-:
كان من أهل البراعة في الكتاب، ومن أولي (2) النظم البديع اللّباب.
صفت موارد شعره، ورق نسيم نثره. وتدفقت جداول بلاغته، واعتنقت نواسم فصاحته. ولا مرية في أنّ بهاءه يختلب العقول اختلابا،
_________
(1) في الأصلين: دون ونرجح ما أثبت.
(2) في «م» من أول
(*) ترجم له ابن الاحمر في نثير الفرائد «ص 347»، ولم يكد يزيد في المعلومات عما ذكره هنا. واختار له قصيدة أخرى، ونبه إلى أنه كان يجيد قرض الشعر.
(1/266)
________________________________________
وسناه يجتلب النّفوس اجتلابا. ومع ذلك فكان مجانبا للّغو، وفي براعة الخط بعيد الشأو.
أنشدني لنفسه:
ألي في سدرة (1) الوادي مقيل ... غداة شكت لبينهم الطّلول
حداة العيس رفقا بالمطايا ... فقد أودى بها السّير الذّميل (2)
وعوجي بي على العلمين حتّى ... يروّي تربها الدّمع الهمول
لقد رمت التصبّر يوم شطّوا ... وإثرهم نأى الصّبر الجميل
5 وقد بانوا فلم يقض اجتماع ... ولم يشف بقربهم الغليل
وإن ذقت الهوى مرّا فقلبي ... تجرّع منه علقمه «جميل»!
فلست بأوّل الباكين فقدا ... على الأحباب مذ قرب الرّحيل
_________
(1) السدر: شجر النبق.
(2) الذميل: السير اللين أو ما فوق العنق (بفتح النون).
(1/267)
________________________________________
[74/ب]
أحبّهم وأعجب ما تراه ... قتول ظلّ يهواه القتيل
فلا تسلنّي (1) كيف الحال صحبي ... فشرح الحال بعدهم يطول
10 أحبّتنا احفظوا قلبا لديكم ... غدا ما بين أرجلكم يجول!
أقمت عن الرّحيل بلا اختيار ... وقصّر عنكم الطّرف الكليل
ألا يا ليت شعري أيّ يوم ... يرى للظّاعنين به قفول
فبعدكم تشكّى الصّبّ وجدا ... وقلّ له المساعد والكفيل

الفقيه القاضي الكاتب علي بن محمد
ابن عبد الحق بن الصباغ العقيلي (*)
[كنيته:]
يكنى أبا الحسن، وأدركته، ورأيته.
_________
(1) في «م» تسألني وفي ط تسلني.
(*) أبو الحسن علي بن محمد بن الصباغ العقيلي. ترجم له لسان الدين بن الخطيب في الإحاطة والتاج، ونقل تراجمه هذه عنه صاحب النفح. كما ترجم له ابن الخطيب في الكتيبة الكامنة «228» وقال في ترجمته في الإحاطة «إنه من أهل الفضل والسراوة والجزالة. اشتمل على خلال من خط بارع وكتابة حسنة وشعر جيد، ومشاركة في فقه وأدب ووثيقة ومحاضرة ممتعة. . .». (نفح الطيب 6:258، والكتيبة الكامنة:228).
(1/268)
________________________________________
وهو من أهل غرناطة؛ من بيت أصالة وخدمة لأسلافنا الملوك من بني نصر في محلّ الوزارة.
وكان أبوه محمد قائد المناهل بمرج غرناطة في دولة أمير المسلمين أبي الوليد إسماعيل عمّ أبينا بن جدّنا الرئيس الأمير أبي سعيد فرج بن جدّنا الأمير أبي الوليد إسماعيل بن جدّنا الأمير أبي الحجاج يوسف الشهير بالأحمر بن جدّنا أمير المؤمنين المنصور بالله أبي بكر محمد بن أحمد بن محمد بن خميس ابن نصر الخزرجي.
وابنه الفقيه أبو الحسن علي هذا أبرز عدلا في سماط الشّهود من غرناطة واستنابه بعض قضاة الأندلس فأبدى هنالك جزالة وصلابة في الحق، شهدت له بالجلالة.
أخبرني مخبر صدق أنه لم يقبل شهادة بعض عدول ذلك الموضع، فعظم ذلك عند الناس، وأكبروا هذا الموقع، فقيل له في ذلك، فقال: كل يعمل على ما يتقرر عنده!. ثم انتقل إلى العدوة-لأشياء حذفناها لطولها-فتلقى هنالك من ملكها أمير المؤمنين المتوكل على الله أبي عنان رتبة التبجيل والقبول، واستعمله في أعمال ظهرت فيها نجدته، وشكرت خدمته، وارتسم [75/أ] في ديوان كتابه، حتى إن أمير المؤمنين، المتوكل على الله أبا عنان حين طلع إلى بلاد إفريقية في عام ثمانية وخمسين وسبع مئة تركه بالمدينة البيضاء-دار الإمارة-مع ولده الأمير أبي زيد عبد الرحمن ناظرا له في أموره. وكانت كتب أمير المؤمنين المتوكل على الله أبي عنان ترد عليه من فلان إلى فلان. أطلعني على ذلك ابنه (1) الفقيه العدل أبو عبد الله محمد صاحبنا.
_________
(1) ابنه من «ط» وأحال على كلمة في الهامش في «م» لم تظهر في الصورة.
(1/269)
________________________________________
حاله-رحمه الله تعالى-:
واحد الدّنيا رجلة ووفاء، ومعول الأصحاب عزما ومضاء، وأطيبهم ذكرا وأضوعهم ثناء، وأصدقهم لهجة وصحبة وولاء.
كاتب ناظم، وبحر علوم موجه متلاطم. (ما شئت) (1) من إيضاح معقول، توقل (2) طود له إشكال، واشتباه حقّق نقطه والأشكال.
وتأييد في الهام، لتنوير الأفهام. واسترقاق لألباب بحلال ***** اللباب.
ولرقاب بأياد لا تعفيها تعاقب الأحقاب. شاهدت من تكلمه في تأليفه المترجم ب‍ «جليس الأديب، وأنيس الغريب» ما ينبئ عن رسوخ قدمه، وتقدمه.
وأخبرني والدي-رحمه الله-من أصالته ما شهد به الاختيار على قدمه فإنه من بيت نباهة ووزارة، وخدمة من القيادة لأسلافنا بادية الإنارة.
وأبو الحسن هذا هو الذي (3). . . وبرز مع حذاق مديري قرقفه (4). عكف ببلده على كتب الشروط إبان الشبيبة، وبرز عدلا مع أعلام تلك الكتيبة.
واستنابه بعض قضاة وطنه، فأثار العدل من مكمنه، وقهر المتكبر في مأمنه.
عبر البحر قاصدا حضرة السلطان أبي عنان، بعد ذكره بذلك المكان، في غرض الإصابة والإحسان. فترقى لديه من الحظوة مرقاة، واستنارت ذاته من اعتنائه بمشكاة. واستعمله [75/ب] في الرسالة تنبيها على ماله من
_________
(1) في الأصلين: ما سئت، (بالسين المهملة) ورسم الهمزة على ألف «ماسأت» ونرجح ما أثبت. والعبارة كما ترى.
(2) وقل في الجبل وتوقل: صعد.
(3) فراغ في الأصلين بمقدار نصف سطر.
(4) القرقف: الخمر.
(1/270)
________________________________________
الجلالة. وتوفي في خدمته منوها، ومن لحظه مرفها. امتدحه بقصائد غر، وأثنى عليه ثناء يفوق الزّهر والزّهر.
فمن ذلك ما أنشدني له ابنه محمد، ونقلتها أيضا من خطه، يمدح أمير المؤمنين، المتوكل على الله أبا عنان فارس عند وقيعته بسلطان بنى عبد الوادي أمير المسلمين المتوكل على الله أبي سعيد عثمان (1)، وأنشدها إياه ليلة يوم الإثنين التاسع لذي حجة ثلاث وخمسين وسبع مئة:
بشرى لدولتك الغرّاء في الدّول ... حيطت بها الملّة البيضاء في الملل
أنت الذي صنعت أيدي القضاء له ... ما ليس تصنع أيدي البيض والأسل
يا خير منتصر بالله معتصم ... عليه، معتمد في الأمر متّكل
لله منك أمير المؤمنين علا ... بدت بأحسن (2) مرأى الشّمس والحمل
5 وطلعة أطلعت سعد السّعود لنا ... ورتبة الملك تعلو عن ذرى زحل
مؤيد العزم والآراء محكمة ... تزينت بسداد القول والعمل
_________
(1) انظر في تفصيل الحادثة في الاستقصا للسلاوي 3:182.
(2) في النسختين: من مرأى. ولعله كما أثبت.
(1/271)
________________________________________
ملك تصوّر في شكل الورى وله ... خليقة الملأك المخصوص بالرّسل!!
فرحمة لأولي التّقوى تعمّهم ... ونقمة لذوي العدوان والخطل
كم فتنة أخمدت نيرانها يده ... بما أراقت عليها من دم هطل
10 ونعمة سدلتها لم تدع بشرا ... حلّت فلم تحص بالتّفصيل للجمل
وضيقة فرّجتها عن صدورهم ... عزائم منه ما خامت (1) ولم تحل
ومن مسيء وستر العفو يؤمنه ... من المخاف فلم يذعر ولم يسل
ومن جيوش أزيلت عن مواقفها ... حتى رأته فلاذت منه بالجبل
كم ثبّت الله من جأش بموقفه ... وخلّص الله من هول ومن وهل
15 وسل بني عابدي الوادي غداة عتوا ... وقد أتوا بعظيم المكر في الأصل (2)
_________
(1) خام: نكص وجبن.
(2) قصد أبو عنان المريني يريد تلمسان لرد طاعة أهلها وإخضاع بني عبد الوادي رؤسائها. قال السلاوي «وأجمع بنو عبد الوادي على صدمة المرينيين وقت القائلة وعند ضرب الأبنية وسقاء الركاب وافتراق أهل المعسكر في حاجاتهم فحملوا عليهم. . .» وقد انتصر أبو عنان عليهم، وتقبض على أبي سعيد العبد الوادي ثم قتله.
(1/272)
________________________________________
[76/أ]
هم جادلوا الحقّ بغيا واعتدوا فتووا ... والسّيف يذهب رسم البغي والجدل
كانوا تصدّوا لملك لم يكن لهم ... حقّا وكيف وهم من جملة الخول
راموا-وقد خاب ما راموا-فما حليت ... آمالهم بسوى قرب من الأجل
20 لاقتهم من أكفّ العزّ معملة ... غراري العضب لا تؤتى من الملل
فللكماة-ولا عيب بهم-نهم ... إذ جدّ جدّهم في الموقف الجلل
ترميهم ببروق من أسنّتها ... رمي الملائك هذا الجنّ بالشّعل
فالسّمر تهتزّ في الأشلاء من قرم ... والبيض تحمرّ في الأعناق من خجل
حتّى ارتدوا بجلابيب الظّلام وكم ... أبقوا بمعترك الأقران من ظلل
25 وخلّفوا من يتيم أو من ارملة ... يذرون دمعا بمنهلّ ومنهمل
تّقطّعوا أمرهم عذلا فما انتفعوا ... والسّيف عند التّلاقي سابق العذل
(1/273)
________________________________________
لله عين رأتهم في اللّقاء وما ... أذلّت الحرب منهم بالقنا الذّلل
وسهم عزمك لم يترك بهم رمقا ... بالضرب للهام في القيعان والقلل (1)
فابعث لما أسأر الخطّي جيش وغىّ ... يشربه سؤرا غدا أشهى من العسل
30 هم ضيّعوا الحزم إذ جاؤوا مقاتلة ... عمى البصائر أدهى من عمى المقل!
لو ساعدتهم سعود الجدّ لاتّبعوا ... مواطئ الخيل خيل الله بالقبل
كيما يجرّوا ذيول الأمن سابغة ... بحسن عفوك ما جرّوا من الوجل
لكن دعتهم أمانيّ تمين (2) بهم ... ليس الجبان إذا يدعى من البطل
من كان تخدمه الأقدار مسعدة ... فهل يعارضه مستشعر الزّلل
35 أو من يقوم لنصر الله محتسبا ... يلقاه من قام بالإفساد والخلل
وكيف يخذل من قد جاء متّكلا ... على الإله وما بالحقّ من حول
_________
(1) القيعان ج قاع: وهو أرض سهلة مطمئنة «قد انفرجت عنها الجبال»، والقلل ج قلة: وهي الجبل.
(2) مان يمين: كذب.
(1/274)
________________________________________
[76/ب]
هذا شمائل (1) من طابت شمائله ... وأورث الملك من آبائه الأول
ملك خلائقه ماء السّحاب إذا ... جاء الخلائق لم يشكو من الغلل (2)
بل أصبحوا في ذرى أمن وعافية ... وستر عدل وما شاؤوه من جذل
حلم وعدل وإقدام وجود يد ... ورحمة وهدى للنّاس والسّبل
فهنّأ الله هذا الملك فارسه ... فهو الذي شاده بالعدل يوم ولي
ومن إنشائه البارع، مما رفع لأمير المؤمنين المتوكل على الله أبي عنان فارس المذكور يطلب منه الإنعام بخط الازواج المنعم بها عليه بقرية آجلى من حوز فاس مما كان لعبد الله بن يوسف بن محمد الينجاسني المريني، والتزم في كل كلمة السّين:
«أسدّد سهم الاستعطاف لقرطاس الإسعاف باسم القدّوس.
وأسترفع بالسّلام للمستودع لسيّد باس البوس. وأستوهب السلام -سبحانه-لسلطان المسلمين، المستخلف، السّامي، السّني السّني، المستمنح، المستعطف، فارس؛ ولسلالته سلامة الجسوم وسرور النّفوس.
أسترفعها لسابع المستخلفين في السّنين السّوالف، وسامع سؤال السّول للإسعاد بالسّول بسامعي المساعد المساعف.
_________
(1) في الأصلين: هذا شمائل.
(2) الغلل: العطش.
(1/275)
________________________________________
وأستودعها مستودع الأسرار، السالم الإسرار، مستقبلها بالاستئثار.
ليستوصلها للمجلس المستحق للأسماء، والبساط القدسي الحسن الاسم والسيماء، المستحفظ بعساكر سكان السماء. المستنير كالسبع السارية بالسّنا والسّناء. مسترق سيبه الواسع الساكب، السادل سابغ إحسانه الجسيم سدل المستكبر الساحب. المستكتب بسدة سلطنته الفارسية السعيدة، المستعبد المستملك الأندلسي. ووسيلته لسؤاله قسطه بسوق [77/أ] السبت سهم سليل يوسف الونجاسني، فسيح الإحسان المستعذب وواسع السّيب المستدني المستقرب. فالمنتسب سليلا لموسى استوفى سجالها وسرى سربالها. وليس مسرحها بشاسع لسوائم فاس. فعساه يسقى لسلسبيلها بكاس. ويستفيدها لستة وتسعة سلالة وناس. ليستعين باستفادتها مستملكو سلطانك، ومسترقّو إحسانك.
لسيرهم سيرة مرسلي رسائل السين. وسلوكهم لسؤال سؤلهم بالسبيل المستقيمة والمسلك المستبين. لسلطنتك السّوس وفارس واستفتحت بسيوفك ساحات القسطنطينية وقادس!
والسلام يسري نسيمه المستطاب، ويستهزيء بآس البساتين سقاه السّحاب. يستمده تنسم المسك، ويستحسنه تناسق السلك.
يستقر بالمجلس السعيد السلطاني الفارسي-أسعده سامك السماوات السبع، وباسط البسيطة لساحة السبع. ونستوهب مسرى النسيم لسلطانك سعدا سرمدا، وسهما لاستئصال فساد المفسدين مسدّدا!
(1/276)
________________________________________
الفقيه الكاتب يحيى بن إبراهيم ابن
زكريا الأنصاري الأوسي (*)
[كنيته:]
يكنى أبا عمرو، وأدركته، ورأيته.
وهو من أهل غرناطة من بيت أصالة ورفعة وعلم وقضاء وكتابه.
وكان أبوه إبراهيم قد كتب لجدّنا الرئيس الأمير أبي سعيد فرج ابن جدنا الأمير أبي إسماعيل بن جدّنا الأمير أبي الحجاج يوسف الشهير بالأحمر ابن جدنا أمير المؤمنين المنصور بالله أبي بكر محمد بن أحمد ابن محمد بن خميس بن نصر الخزرجي، في حين سار جدنا أبو سعيد من دار إمارته مالقة إلى بر العدوة وملك مدينة سبتة ودخلها عنوة على أميرها أبي طالب العزفي، في دولة أمير المسلمين أبي يوسف يعقوب بن عبد الحق.
وأبو عمرو هذا كتب لبني عمنا الملوك من بني الأحمر، ثم عبر البحر إلى الحضرة المرينية، فكتب [77/ب] لملوكها.

حاله-رحمه الله تعالى-:
كان ذا وجه حسن، وذلاقة لسن. حسن الشارة، بارع الفهم والعبارة.
موصوفا بالرّجولية والمروءة الفائقة، ونزاهة النفس والهمة الرائقة. مع براعة في إنشاء الرسائل، ونظم أحلى من وصل ذات الغلائل!
_________
(*) ترجم له لسان الدين في الإكليل الزاهر، ونقل منه أيضا في الكتيبة الكامنة (276) وكنيته ثمة «أبو عمر». وقال في أبيه إنه «زين الزين، وراحة القلب وقرة العين».
(1/277)
________________________________________
أنشدني لنفسه-وكتب بها لابن عمنا الرئيس أبي الوليد إسماعيل ابن جدنا الأمير أبي سعيد فرج بن أمير المسلمين أبي الوليد إسماعيل عم أبينا بن جدنا الرئيس الأمير أبي سعيد فرج (1) صدر من عمنا له، وكان السفير بينهما فيه خديم لابن عمنا اسمه فارح:
خبر الرّوض طيّ واني النّسيم ... سل خبيرا عن سرّه المكتوم
أبكى المزن رحمة بعيون ... من سحاب وشقّ جيب الغيوم؟
فريا حينه تحلّى بدرّ ... وتعلّ الشّراب من تسنيم
وثغور الأقاح ذات ابتسام ... قد غذاها النّدى بماء النّعيم
5 وقدود الغصون مالت بلين ... حملت أنجما هوت برجوم!
واختلاف الفنون فيها بديع ... فقسيم غدا إزاء قسيم
قطع لم تدع زخارف زين ... ما حوى حصرها عروض نديم
فبسيط أمدّ بحر مديد ... وطويل وكامل ولزومي
_________
(1) فراغ فيهما بمقدار كلمة واحدة.
(1/278)
________________________________________
أبدعتها الطّيور تجنيس لحن ... في أساليبه حلى التّرنيم
10 أسمعتني الطّباق عن صوت طبع ... يحمل السّجع في المساق السّليم
عجزت عن أدائه في المثاني ... «نعم» وهي غاية التّحكيم
فمتى غنّت الحمام «برمل» ... زمّ رحلي فنحت في «المزموم»
شوّقتني ولم أكن بخلّي ... من خليل مفارق وحميم
[78/أ]
أغرت الوجد فاستطال ملحّا ... يطلب القلب باشتياق لريم
15 طارحتني أصيل يوم إلى أن ... صارف الأفق شمسه بالنجوم
صبّها الشّرق وهي في الغرب تحصى ... عددا في وعائه المضموم
نثر اللّيل زهرها فغدت في‍ ... ـه عيونا في أحسن التّقويم!
فقطعت الدّجا بنير حزم ... منجد قد أثار شدّ الحزيم
(1/279)
________________________________________
أمسح الأرض لا أقرّ بحيّ (1) ... قد كفتني السّروج ذلّ المقيم
20 إن جفاني أبو الوليد بعمد ... وقديما مكنّته من شكيمي (2)
وادّخرت العتاد منه حساما ... ماضيا عدّة لكلّ جسيم
فعدمت ادّخار دهر طويل ... يوم إذ صرت في زمان عديم
يا وحيد (3) العلا وفذّ المعالي ... لم [أكن؟] (4) بالبعاد جدّ عليم
كنت ألقى الخطوب منك بواق ... لم أكن أحتسبه بالمعدوم
فهتكت احترام حبّي ونصحي ... وابتذلت المصون وجه الكريم (5)
وقطعت الدّنوّ وهو رجاء ... فأنا مذ عدمته في جحيم!
ثمّ لمّا أعدته يوم بين ... نال مني النّوى فأدمى كلومي
_________
(1) في «ط» بحي، وفي «م» بجو.
(2) الشكيم ج الشكيمة، ولها معان منها العهد، والحديدة المعترضة في فم الفرس من اللجام.
(3) في «ط» وحيد، وفي «م» واحد.
(4) ما بين معقوفتين مقترح، ولم تشر النسختان إلى سقط.
(5) في «ط» حبي وفي «م» حيي. وفي النسختين: «وابتدلت» بالداء المهملة ورجحت ما أثبت. وقد يسقط الناسخان بعض النقط.
(1/280)
________________________________________
ومتى ما أعيد شرّ حديث ... والذي نلت من عذاب أليم
ثار وجدي وأحوجتني أمور ... ضقت منها بفادح من هموم (1)
30 ما لصبري على ابتلاء وفاء ... إذ أتى فارح (2) وضاع قديمي
موقف جرّع العداة فظيعا ... هو عندي أجلّ خطب عظيم
فأثار الأسى وعزّ التّأسي ... إذ رماني بمقعد ومقيم!
ثم لمّا خصصتني بسلام ... -وهو أسنى هديّة التتميم-
برّح الوجد بي وذبت اشتياقا ... عندما عاد عهدكم للصّميم
[78/ب]
35 قلت والله شاهد سرّ سرّي ... عالم حقّ قولي المحتوم
ألزم القلب بعدها شرط طوع ... أن يرى الذّل فيك غير ذميم!
فاحتكم في الأنام إنّك ملك ... ولك الحمد يا أمنّ رحيم
_________
(1) فيهما: هموم. واقرأ أيضا: همومي.
(2) انظر مناسبة النص، و «فارح» اسم علم.
(1/281)
________________________________________
ويحيّيك بالسّلام فؤادي ... ولساني تحيّة التّكريم
وعليك الثّناء يترى جديدا ... فجديدا مواصل التّنعيم!
ومن إنشانه-رحمه الله-هذه الرسالة الزانية والتزم في كل كلمة منها حرف الزاء المعجمة، وبعث بها من سبتة حين شيع منها بنيه لوطنهم الأندلسي، لمزعج دعاه لفراقهم اضطرارا لا اختيارا، لأمير المسلمين أبي فارس عبد العزيز المريني طالبا منه أن يرده لكتابته بالحضرة حين أخره عنها لسعاية بعض الحسّاد:
بعزّة العزيز منزل الرزق ومجزله، واللازم الزاكي (1) للمزمل الحجازي الزمزمي، الممتاز من زمرة زهرة. بمزية التنزيل والمعجزات، ولحزبه الفائزين بجزيل الجزاء يزول مزعج جزعي بهز عزمات هزبر مأزق الزبون.
محرز المزية، مزيح الأزمات، مزيل الزائغين بحز حجزهم، الفائز بزلفى الغزو، وميزاب مزن الرزق، كنز الزائرين، ز هو زناتة، وطرازها الزاهر عبد العزيز. لا زال زمانه في ازدياد زينة ليلزم رزقي زمام مزمعيه المزدحمين.
لاعزب اعتزائي لزرافاتهم (2) زهوه، في زهو ينزه زائيتي، كزين الزمان بعبد العزيز، وفزت برزق مزيد جزيل وحرز حريز وعز عزيز.
زففتها بزينتها الزخرفية الزبرجدية. فأزمعت في زي انحفاز، زاهية كالزّهر، مزدرية بالزّهر، زعيمة بجزيل الجزاء، والفوز بإنجاز الإعزاز
_________
(1) في ط: والازم الزكي.
(2) في ط: لزرافتهم.
(1/282)
________________________________________
للمعزى لزكريا، مزجي ملتزمها الزائي، أجزل من الجزيئية منزعا، وأعز مغزى، وأحزم عزم جزم من منزل كالجزيرة يوازي الجزيرة في زمان النيروز وزفير الزمهرير!

الفقيه الكاتب محمد (*) بن محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله
ابن يحيى بن الأمير أبي بكر عبد الرحمن الثائر بجيان (1) بن يوسف
ابن سعيد بن جزيّ الكلبي الأغرناطي، المتوفى بفاس في عام
ثمانية وخمسين وسبع مئة.
[كنيته:]
يكنى أبا عبد الله، وأدركته، ورأيته.
وهو من أهل بلدنا غرناطة. وكان أبوه أبو القاسم محمد أحد المفتين بها، علم الأندلس الصائرة فتياه منها إلى إطرابلس؛ وقتل شهيدا في المعترك
_________
(*) هو أبو عبد الله محمد بن أبي القاسم محمد بن جزي، أحد أفراد أسرة بني جزي النابغة في دولة غرناطة. بدأ حياته في الأندلس في ظل والده الفقيه المفسر أبي القاسم واشتهر فيهم بالأدب والكتابة بالإضافة إلى مشاركته في العلوم والفنون المختلفة. وقد تعرض لمحنة أيام أبي الحجاج يوسف النصري الذي أمر بضربه بالسياط. وقال ابن الأحمر في نثير الفرائد إنه ضرب مظلوما. وغادر ابن جزي بعد ذلك إلى المغرب فكتب في دولة أبي عنان المريني. وهو الذي دون رحلة ابن بطوطة بقلمه وصاغها بأسلوبه. وله شعر جيد. وتوفي بفاس في شوال سنة 757. (انظر ترجمته في نفح الطيب 5:526، وأزهار الرياض للمقري 3:195، ونثير فرائد الجمان 292، والكتيبة الكامنة:223).
(1) نقل المقري في أزهار الرياض أن أصل سلفه من حصن البراجلة، نزل بها أولهم عند الفتح صحبة قريبهم أبي الخطار حسام بن ضرار الكلابي. وعند خلع دعوة المرابطين كان لجدهم يحيى بجيان رياسة، وانفرد بالتدبير. وقال لسان الدين بن الخطيب في أعمال الأعلام عند ذكر الثوار أواخر أيام اللمتونيين إن القاضي أبا الحكم يوسف بن جزي رأس في الفتنة بجيان ثم عقب بأنه يشك في هذا، وعنده أن المتأمر بجيان رجل آخر غير يوسف المذكور.
(1/283)
________________________________________
في الوقيعة التي كانت للنصارى-دمرهم الله-بطريف على المسلمين في سنة إحدى وأربعين وسبع مئة، بعد أن أبلى بلاء حسنا.
وأبو عبد الله محمد هذا كتب بالأندلس في حضرة ابن عم أبينا أمير المسلمين أبو الحجاج (1) يوسف وله فيه أمداح عجيبة، ولم يزل كاتبا في الحضرة الأحمرية النصرية إلى أن امتحنة أمير المسلمين أبو الحجاج ابن عم أبينا، فقوض الرّحال عن الأندلس واستقر بالعدوة، فكتب بالحضرة المرينية لأمير المؤمنين المتوكل على الله أبي عنان إلى أن توفي بها؛ رحمه الله تعالى.

حاله-رحمه الله-:
طلع في سماء العلوم بدرا مشرقا، وسارت براعته غربا ومشرقا. وسمى بشعره فوق الفرقدين كما أربى بنثره على الشّعرى والبطين، له باع مديد في التاريخ والحساب، واللغة والنحو والبيان والآداب. بصير بالأصول والفروع والحديث، عارف بالماضي من الشعر والحديث. إن نظم أنساك أبا ذؤيب برقته، ونصيب (2) بمنصبه ونخوته. وإن كتب أربى على ابن مقلة بخطه، وإن أنشأ رسالة أنساك العماد بحسن مساقها وضبطه. وهو رب هذا الشأن، وفارس هذا الميدان. ومع تفننه في العلوم فهو في الشعر قد نبغ، وما بلغ أحد من شعراء عصره البحر الذي منه قد بلغ بل سلموا التقدم فيه إليه، وألقوا زمام الاعتراف بذلك في يديه، ودخلوا تحت راية الأدب الذي حمل، إذ ظهر ساطع [79/ب] براعته ظهور الشمس بالحمل.
أنشدني لنفسه: يمدح أمير المسلمين أبا الحجاج يوسف بن أمير المسلمين أبي الوليد إسماعيل عم أبينا بن جدنا الرئيس الأمير أبي سعيد فرج ابن جدنا أبي الوليد إسماعيل
_________
(1) فيهما: أبو الحجاج.
(2) فيهما: نصيب.
(1/284)
________________________________________
ابن الأمير أبي الحجاج يوسف الشهير بالأحمر ابن جدنا أمير المؤمنين المنصور بالله أبي بكر محمد بن أحمد بن محمد بن خميس بن نصر الخزرجي، هذه القصيدة البارعة، وحذف منها الرّاء المهملة (1):
قسما بوضّاح السّنا وهّاج ... من تحت مسدول الذّوائب داج
وبأبلج بالمسك خطّت نونه ... من فوق وسنان اللّواحظ ساج
وبحسن خدّ دبّجت صفحاته ... فغدت تحاكي مذهب الدّيباج
وبمبسم كالعقد نظّم سلكه ... ولمى حكى الصّهباء دون مزاج
5 وبمنطق تصبو القلوب لحسنه ... أنسى المسامع نغمة الأهزاج
وبمائس الأعطاف تثنيه الصّبا ... فيميس كالخطّي يوم هياج
ومنعّم مثل الكثيب يقلّه (2) ... مستضعف يشكو من الإدماج!
وبموعد للوصل أنجز فجأة ... من بعد طول تمنّع ولجاج
_________
(1) القصيدة في نفح الطيب 5:527، وفي أزهار الرياض 3:191، ونقلتها عن نثير الجمان في كتابي: مختارات من الشعر الأندلسي صفحة 163 فما بعدها.
(2) أقله: حمله، والمدمج: التام المحكم.
(1/285)
________________________________________
وبأكؤس أطلعن في جنح الدّجى ... شمس السّلافة في سماء زجاج!
10 وحدائق سحب السّحاب ذيوله ... فيها وبات لها النّسيم يناجي
وجداول سلّت سيوفا عندما ... فجئت بجيش للصّبا عجّاج
وبأقحوان قد تضاحك إذ بكت ... عين الغمام بمدمع ثجّاج
وقدود أغصان يملن كأنّها ... تخفي حديثا بينها وتناجي
وحمائم يهتفن شجوا بالضّحى ... فهد يلهنّ لذي الصّبابة شاج
15 إن المعالي والعوالي والنّدى ... والبأس طوع يدي أبي الحجّاج
ملك تتوّج بالمهابة عند ما ... لم يستجز في الدّين لبس التاج
[80/أ]
وأفاض حكم العدل في أيّامه ... فالحقّ أبلج واضح المنهاج (1)
_________
(1) هذه القصيدة معارضة لقصيدة جرير يمدح الحجاج بن يوسف الثقفي، وفيها شيء من ترسم خطاه (انظر ديوان جرير:89).
(1/286)
________________________________________
هو منقذ العاني ومغني المعتفي ... ومذلّل العاتي وغوث اللاجي
ماضي العزيمة والسّيوف كليلة ... طلق المحيّا والخطوب دواج
20 علم الهدى والنّاس في عمياء قد ... ظلّوا لوقع الحادث المهتاج
غيث النّدى والسحب تبخل بالحيا ... والمحل يبدي فاقة المحتاج
ليث الوغى والخيل تزجى بالقنا ... والبيض تنهل في دم الأوداج
يتقشّع الإظلام إذ يبدو له ... وجه كمثل الكوكب الوهّاج
من آل قيلة من ذؤابة سعدها ... أعلى بني قحطان دون خلاج (1)
25 حيث العلا ممدودة الأطناب لم ... تخلق معالمها يد الإنهاج
والأعوجيّات السّوابق تمتطى ... فتظلّل الآفاق سحب عجاج
_________
(1) هو سعد بن عبادة الخزرجي الأنصاري، جد أسرة بني نصر، الصحابي المشهور. والأقيال: الملوك، وقيل الملوك من حمير. والخلاج، من قولك: خالج قلبي أمر: نازعني فيه.
(1/287)
________________________________________
والبيض والأسل العوامل تقتضي ... مهج الكماة بأبلغ الإزعاج!
مجد ليوسف جمّعت أشتاته ... أعيى سواه بعد طول علاج
مولاي هاك عقيلة تزهو على ... أخواتها كالغادة المغناج
إنشاء عبد خالص لك حبّه ... -ومن العبيد مداهن ومداج-
آوى إلى أكناف نعماك التي ... ليست إليه صلاتها بخداج (1)
سبّاق ميدان البلاغة والوغى ... لشعاب كلّ منهما ولاّج
جانبت أخت الزّاي (2) منها عامدا ... فأتت من الإحسان في أفواج
فافتح لها باب القبول وأول من ... أهداكها ما يبتغي من حاج!
_________
(1) أخدجت الصيفة: قل مطرها.
(2) يشير إلى تجريد القصيدة من حرف الراء. وكانت في الشاعر لثغة تعتريه حين ينطق بحرف الراء!
(1/288)
________________________________________
وأنشدني أيضا لنفسه يمدح أمير المؤمنين المتوكل على الله أبا عنان فارس ملك المغرب (1): [80/ب]
إنّ قلبي لعهدة الصبر ناكث … عن غزال في عقدة السّحر نافث
أضرم النّار في فؤادي وولّى … قائلا: لا تخف، فإنّي عابث!
ورماني من مقلتيه بسهم … ثم قال: اصطبر لثان وثالث!
كم عذول أتى يناظر فيه … كان تعذاله على الحبّ باعث
5 ويمين آليتها بالتّسلي … فقضى حسنه بأنّي حانث
جبر الله صدع قلب عميد … صدعت شمله صروف الحوادث
فهو يهفو إلى البروق ويروي … عن نسيم الصّبا ضعيف الأحادث!
سلبته الأشجان إلا بقايا … من أمان حبالهنّ رثائث
وبكاء على عهود مواض … ملأت صدره هموما حدائث
10 لست وحدي أشكو بلية (2) وجدي ... إنّ داء الغرام ليس بحادث
يا مضيع العهود-والله يعفو ... عنك-أنّى ارتضيت خطّة ناكث؟
غرّني منك والجمال غرور … وظبا اللّحظ في القلوب عوابث
مقل يقتسمن أعشار قلبي … بالرّضى منّي اقتسام الموارث!
_________
(1) نقلها المقري عن نثير الجمان في كتابيه: نفح الطيب 5:529، وأزهار الرياض 3:192
(2) في النفح: بليلة.
(1/289)
________________________________________
كيف غيّرت بانتزاحك حالي … وتغيّرت لي ولست بحارث (1)
15 فرط حبّي وفرط بخلك إلا … أن عينيك بالفتون نوافث
وندى فارس وحسبك رّدا … قول من قال سدّ باب البواعث
ملك البأس والنّدى فهو بالسّيف … وبالسّيب عائث أو غائث!
محرز المجد والثّناء فهذا … سائر في الورى وذلك لابث
أوطأ الشّهب رجله وترقّى … صاعدا في سموّه غير ماكث
فدرار تسري وما لحقته … ونجوم خلف القصور لوابث
وله المقربات لا بل هي العقبان … من فوقها اللّيوث الدّلاهث (2)
[81/أ]
مطلعات من كل نعل هلالا … فلهذا تجلو دجا كلّ حادث
إن ترافقن فالجبال الرّواسي … أو تسابقن فالغيوث الحثائث (3)
والمواضي كأنّها قد أعيرت … حدّة الذّهن منه عند المباحث
25 هي نار محّرقات الأعادي … وهي ماء مطهّرات الخبائث
فيردن الوغى ذكورا عطاشا … ثم يصدرن ناهلات طوامث (4)
من معاليه (5) قد رأينا عيانا … كلّ فضل ينصّه من يحادث
_________
(1) يشير إلى قول إبراهيم بن العباس الصولي (وينسب لغيره):
تغير لي فيمن تغير حارث ... وكم من أخ قد غيرته الحوادث
(وانظر نفح الطيب 1:26، و 5:529).
(2) الدلاهث: جمع دلهاث وهو المقدام.
(3) في الأصلين المخطوطين: فالليوث الدلاهث. وقد وردت الكلمتان في البيت قبل السابق، والمثبت من نفح الطيب والأزهار. و «ترافقن» كذا فيها.
(4) من «طمثت»: حاضت.
(5) في النفح والأزهار: من معانيه.
(1/290)
________________________________________
خلق كالنّسيم مرّ سحيرا … بالأزاهير في البطاح الدّمائث
في سبيل الإله يقصي ويدني … ويوالي في ذاته ويناكث
30 شرف الملك منه سام وحام … ففدته سام وحام ويافث!
هاكها من بنات فكري بكرا … ليس يسمو لها من الناس طامث
ذات لفظ لا يعتريه اختلال … ومعان لا ينتحيها المباحث (1)
زعماء القريض أبقوا بقايا … كنت دون الورى لهنّ الوارث
من أراد انتقادها فهي (هذي (2)) … عرضة البحث فليكن جد باحث
وأنشدني-أيضا لنفسه-يمدحه:
لعلّك لي عن حسن عهد مكافئ ... فيسرع نحوي ودّك المتباطئ
فديتك لا يذهب بك البعد للّتي … يسرّ بها منّا حسود وشانئ
كما وسع الإحسان من كان محسنا … أما يسع الغفران من كان خاطئ (3)
وما ضرّ لو ربّ (4) الصّنيعة منعما … وتمّم بالإفضال من هو بادئ
على أنني لم يصرف اليأس ساحتي … وإن راعني خطب من الهجر فاجئ
فكم طالب أمرا تسنّت عواقب … له بعد ما أعيت عليه مبادئ
لئن ريع بالأشجان روعي لطالما … تحامت حماي النّائبات الطوارئ
_________
(1) في النفح والأزهار: لا تنتحيها (بالتاء).
(2) في النفح والأزهار: هذي. وفي الأصلين «هذا».
(3) في «م» كل محسنا. كان خاطئ. وفي «ط» كل. . كل. . ونرجح ما أثبت.
(4) فيهما «رب».
(1/291)
________________________________________
وإن أمس قد شابت ذوائب لمّتي ... فطعن الهوى في حجر قلبي ناشئ
[81/ب]
وليلاء ملء الأفق روعا وظلمة (1) … فلا نظر هاد ولا قلب هادئ
ظللت يعاطيني بها (2) أكؤس السّرى ... حبيب على ما شئت منه ممالئ
ولا صبح إلا وجهه متطلّع … ولا برق إلا ثغره متلألئ
إذا غار منها نجمها وهلالها … بدت غرر من خيلنا ومواطئ
وبيداء لم تفر السّراة أديمها ... ولم تخترقها اليعملات النّواجئ
كأن السّراب الجون في جنباتها … حياض ملاء أو سحاب نواشئ
بعثت لها عزمي وخضت عبابها … كما خضت بحرا لا يرى منه شاطئ
وأجريت ذكر الجود من كفّ فارس ... بها فارتوى في الرّكب من هو ظامئ
وإن امرأ يروي الصّدا ذكر جوده ... لتحسد جدواه الغمام النّواشئ
هو البدر لكنّ السّعود مطالع ... هو البحر لكنّ العلوم لآلئ
لعلياء تمّ الفخر بالعلم والنّدى ... إذا اقتسم العلياء قان وقارى
_________
(1) ليلة ليلاء: طويلة شديدة أو هي أشد ليالي الشهر ظلمة.
(2) في الأصلين: بنا، ونرجح ما أثبت.
(1/292)
________________________________________
لئن كان معنى الجود منه مبيّنا ... فلفظ الورى في شكره متواطئ
لك الخير كم هيجاء جلّيت غمّها ... وقد عجز الدّاري وكعّ المدارئ (1)
تطاول فيها المرهفات إلى العلا ... فتعنو لها من هيبة فتطاطئ
تركت بها الأبطال صرعى كأنّهم ... ندامى عقار سكرهم متكافئ
فأطعمت ذؤبان الفلا وهي جوّع ... وروّيت بيض الهند وهي ظوامئ
حسامك مهما نظّم الرّمح ناثر ... ورمحك مهما مزّق السّيف رافئ
رفعت لواء العدل والدّهر جائر ... وأغريته بالجدّ إذ هو هازئ
فنام الرّعايا تحت ظلّ كلأته ... وعزمك يقظان وحزمك كالئ
وأمّن مذعور وأعتب مذنب ... وأغني معتر وقرّب لاجئ
[82/أ]
مساع من العلياء وفّيت حقّها ... وربّك عن تلك المساعي مكافئ
_________
(1) كع: جبن وضعف.
(1/293)
________________________________________
ومن إنشانه البارع موريا بالكتب ودفعها لأمير المؤمنين المتوكل على الله أبي عنان فارس بن أمير المسلمين المنصور بالله أبي الحسن علي بن أمير المسلمين السعيد بفضل الله أبي سعيد عثمان بن أمير المسلمين المنصور بالله أبي يوسف يعقوب بن عبد الحق يهنئه بابلال ولده وولي عهده الأمير أبي زيان محمد من مرض:
ماذا عسى أدب الكتّاب يوضح من ... خصال مجدك وهو الزّاهر الزّاهي؟
وما الفصيح بكليّات موعبها ... كاف فيأتي بأنباء وإنباه
أبقى الله تعالى مولانا الخليفة ولسعادة (1). . . القدح المعلى، ولزاهر كماله التاج المحلّى. تجلى من حلاه نزهة الخاطر، ويسير بعلاه المثل السائر. ويتّسق من ثنائه العقد المنظّم، ويتضح بهداه القصد الأمم، ولا زالت مقدّمات النصر له مبسوطة، ومعونة السعد بإشارته منوطة. وهدايته متكلفة بإحياء علوم الدين، وإيضاح منهاج العابدين. وإرشاده يتولى تنبيه الغافلين، ويأتي من شفاء الصدور بالنور المبين. وميقات الخدمة ببابه مطمح الأنفس، وملخص الجود من كفه بغية الملتمس. قد حكم أدب الدين والدنيا بأنك سراج الملوك، لما أتت عوارفك بالمشروع السّلسل ومعارفك بنظم السلوك. ووضحت معالم مجدك وضوح أنوار الفجر، وزهت بعدلك المسالك والممالك زهو خريدة القصر. فلك في جمهرة الشرف النسب الوسيط، ومن جمل
_________
(1) هكذا في الأصلين، ولعل كلمة سقطت (انظر الفقرة التالية).
(1/294)
________________________________________
المآثر الخلاصة والبسيط. وسبل الخيرات لها برعايتك تيسير، ومحاسن الشريعة لها بتحصيلك تحبير. وأنت حجة العلماء الذي تقصّر عن تقصي مآثره فطن الأذكياء، إن انبهم [82/ب] التفسير ففي يديك ملاك التأويل، أو اعتاص تفريع الفقه فعندك فصل البيان له والتحصيل. وإن تشعب التاريخ فلديك استيعابه، أو تطاول الأدب ففي إيجاز بيانك اقتضابه. وإن ذكر الكلام ففي انتقائك من برهانه المحصول، أو المنطق ففي موجز أماليك لبابه المنخول. وليس أساس البلاغة إلا ما تأتي به من فصل المقال، ولا جامع الخير إلا ما حزته من تهذيب الكمال. ولذلك صارت حرمتك غاية المطلوب، وحبك قوت القلوب. ولا غرو أن كنت من العلياء درتها المكنونة، فأسلافك الكرام هم جواهرها الثمينة.
بحماستهم أصيبت مقاتل الفرسان، وبجود جودهم تسنى ريّ الظمآن، وبتسهيل عدلهم وضحت شعب الإيمان. وأنت المنتقى من سمط جمانهم، والواسطة في قلائد عقيانهم. عنك تؤثر سيرة الاكتفاء، وعن فروعك السعداء تروى أخبار نجباء الأبناء. فهم لمملكتك العلية بهجة مجالسها، وأنس مجالسها؛ وقطب سرورها، ومطالع نورها. وولي عهدك درتهم الخطيرة، وذخيرتهم الأثيرة.
لا زال كامل سعادته بطول مقامك محكما، وحرز أمانته بالجمع بين الصحيحين: حبك ورضاك معلما! وقد وجبت التهنئة بما كان في حلية (1) برئه من التّيسير، وتهيّأ في استقامة قانون صحته من نجح التدبير.
ولم يكن إلا أن بعدت به عنك المسالك. وأعوز نور طرفه
_________
(1) فيهما: حيلة، ونرجح ما أثبت.
(1/295)
________________________________________
تقريب المدارك. وتذكر ما عهده من الإيناس الموطأ جنابه عند أفضل مالك. فورى من زنده سقط الزند، والتهب في جوانحه قبس الوجد. فامدد له من دعائك الصالح بحلية الأولياء. فظفر لما شارف مشارق الأنوار من حضرتك بالشفاء. وقد حاز إكمال الأجر بذلك العارض الوجيز، وكان له كتشبيه الإبريز. وها هو قادم بالطالع السعيد، آيب بالمقصد الأسنى [83/أ] من الفتح والتمهيد.
يطلع بين يديك طلوع الشهاب، ويبسم عن مفصل الثناء في الهناء بذلك زهر الآداب. فأعد له تحفة القادم من إحسانك الكامل.
واخصصه بالتكلمة من إيناسك الشامل. فهو الكوكب الدّري المستمدّ من أنوارك السّنية، وفي تهذيب شمائله إيضاح للخلق (1) الكريمة الفارسية (2). لا زالت تزدان بصحاح مآثرك عيون الأخبار، وتتعطر بنفحة الزهر من ثنائك روضة الأزهار. وتتلى من محامدك الآيات البينات، وتتوالى عليك الألطاف الإلهيات؛ بمنّ الله وفضله.
والسلام الكريم يعتمد المقام العليّ؛ ورحمة الله وبركاته
_________
(1) فيهما: للخلق.
(2) نسبة إلى أبي عنان فارس المريني.
(1/296)
________________________________________
الفقيه الكاتب صاحب القلم الأعلى عبد الرحمن بن محمد بن
خلدون الحضرمي (*):
صاحب علامة أمير المؤمنين المستنصر بالله بفضل الله إبراهيم بن أمير المؤمنين المتوكل على الله المؤيد بنصر الله أبي يحيى أبي بكر الحفصي الموحد، بحكم الاستنابة؛ وهو إذ ذاك شاب صغير. واستقرّ بالمغرب فاستكتبه بالحضرة السلطانية المرينية أمير المؤمنين المتوكل على الله أبو عنان فارس وقلده كتابة سره؛ فحسده بعض بطانة السلطان وأغروا به إليه، فقبض عليه، وامتحنه، واعتقله بسجن دار الإمارة
_________
(*) الأديب المؤرخ العالم الاجتماعي البحاثة الشهير أبو زيد ابن خلدون الحضرمي الإشبيلي. مولده في تونس سنة 732 وأصل سلفه من الأندلس من إشبيلية. وخالد المعروف ب‍ «خلدون» هو جده الأعلى الداخل إلى الأندلس. تتلمذ على علماء تونس وعلى جمهرة من علماء المغرب والأندلس لما قدم بهم أبو الحسن المريني في طلعته إلى الجزائر وتونس. وتنقل طويلا في بلاد المغرب والأندلس، وتقلب في المناصب، وتتلمذ على كبار الشيوخ، وصادق الجلة من الوزراء والأدباء والعلماء، وعرفوا-جميعا-له قدره ومكانته. وكان مشهورا بالكتابة والشعر والمشاركة في العلوم. وخلد ذكره في تاريخ الحضارة الإسلامية بكتابه «العبر» وبجزئه الأول-المقدمة-على الخصوص. ولجزئه الأخير أهمية خاصة لانه ترجمة ذاتية للمؤلف، طبعت أيضا منفردة بعنوان وضعه هو: التعريف بابن خلدون ورحلته غربا وشرقا. وقد انتقل ابن خلدون-بعد عودته إلى تونس-إلى المشرق، واستوطن مصر. وأعطي قضاء المالكية، وتعرض لخصومات بعض الفقهاء وبعض المتنفذين، ولكنه-على الجملة- حظي بمكانة رفيعة وعرف الناس-وأهل السلطنة-له حقه وكرامته وكانت وفاته في القاهرة سنة 808 هـ‍. أشهر مؤلفاته تاريخه المعروف. وكتبت عنه كتب وألفت فيه دراسات وبحوث وعقدت حوله ندوات وملتقيات.
(1/297)
________________________________________
المدينة البيضاء، ثم سرحه من السجن السعيد بالله أبو يحيى أبو بكر بعد وفاة أبيه أمير المؤمنين المتوكل على الله أبي عنان، واستكتبه في حضرته. ثم ارتحل إلى بلاده الإفريقية؛ فقدمه حاجبا أمير المؤمنين المستنصر بالله أبو عبد الله محمد بن الأمير أبي زكريا يحيى بن أمير المؤمنين المتوكل على الله المؤيد بنصر الله أبي يحيى أبي بكر الحفصي الموحد ببجاية. وهو الآن بالأندلس في حضرة ابن عمنا أمير المسلمين الغني بالله أبي عبد الله محمد المخلوع. وحين كان في سجن أمير [83/ب] المؤمنين المتوكل على الله أبي عنان بعث من السجن (1) لأبي عنان المتوكل في العشر الأول من شعبان عام تسعة وخمسين وسبع مئة قصيدة رائقة من نظمه يستعطفه بها، وكان له في السجن ثمانية عشر شهرا.

حاله:
هو ممن لا ينكر حقه في ارتياض العلوم الشريفة، واستئصال رتبها العالية المنيفة. لما احتوت عليه ترجمة ذكره، وخبيئة فكره، من أساليب النظام الرائقة الحلاء. ومجاري أقوال النثر البارعة في الإنشاء. ولا يسع المصنف في هذا الشأن أن يتركه، لظرفه الكامل؛ ولا يدعه لعلمه الشامل. له باع واسع في المنطق وعلم النجوم، وما يتعلق بالعلوم النظرية والفهوم؛ وطريقة رائقة الفروع والأصول، كاد أن يصل بها إلى درجة الاجتهاد غاية الوصول. ومعرفة بالتواريخ الحديثة والقديمة، وإرسال ديمة من سحائب علمه يتبعها ديمه!
_________
(1) تفصيل خبر سجنه في «التعريف» ص 66، وقد عقد ابن خلدون فصلا بعنوان «حدوث النكبة من السلطان أبي عنان».
(1/298)
________________________________________
وقصيدته المذكورة هي (1):
على أيّ حال للّيالي أعاتب ... وأيّ صروف للزّمان أغالب
كفى حزنا أنّي على القرب نازح ... وأني على دعوى شهودي غائب
وأني على حكم الحوادث نازل ... تسالمني طورا وطورا تحارب (2)
أحنّ إلى إلفي وقد حال دونهم ... مهامه فيح دونهنّ سباسب
5 وبيداء قفر غيّرتها يد البلى ... وأزرت بمغناها الصّبا والجنائب
_________
(1) قال ابن خلدون: كان اتصالي بالسلطان أبي عنان آخر سنة ست وخمسين (وسبعمئة) وقربني وأدناني واستعملني في كتابته حتى تكدر جوي عنده. . ثم اعتل السلطان آخر سبع وخمسين. وكانت قد حصلت بيني وبين الأمير محمد صاحب بجاية من الموحدين مداخلة أحكمها ما كان لسلفي في دولتهم. وغفلت عن التحفظ في مثل ذلك من غيرة السلطان فما هو إلا ان شغل بوجعه، حتى أنمى إليه بعض الغواة أن صاحب بجاية معتمل في الفرار ليسترجع بلده، وبها يومئذ وزيره الكبير عبد الله بن علي. فانبعث السلطان لذلك، وبادر بالقبض عليه. وكان فيما أنمي إليه أني داخلته في ذلك فقبض علي وامتحنني، وحبسني، وذلك في ثامن عشر صفر سنة ثمان وخمسين. ثم أطلق الأمير محمدا، وما زلت أنا في اعتقاله إلى أن هلك. وخاطبته بين يدي مهلكه مستعطفا بقصيدة أولها. . . «الأبيات». وذكر من القصيدة خمسة أبيات فقط ثم قال «وهي طويلة نحو المئتين بيتا. .». والقصيدة عند ابن الاحمر هنا في 107 أبيات، ونرجح أنها كاملة، ويكون الرقم الباقي في ذاكرة ابن خلدون عن القصيدة مبالغا فيه.
(2) أورد في التعريف «67» الأبيات الثلاثة الأولى، وأردف بالبيتين التاسع والعاشر. وقال إن بقية الأبيات «ذهبت عن حفظه».
(1/299)
________________________________________
بها لعزيف الجنّ (1) أيّ تراجع ... وبين الرّياح الهوج فيها تلاعب
يضلّ بها الخرّيت (2) في كل موقف ... فيصرفه بحر من الآل راسب
سلوتهم إلا ادّكار معاهد ... لها في اللّيالي الغابرات غرائب
وإنّ نسيم الريح منهم يشوقني ... إليهم وتصبيني البروق اللّواعب
[84/أ]
10 ولم أنس، لا أنسى الوداع وقد جرت ... دموع وزمّت للوداع ركائب
عشيّة بانوا والقلوب جوامد ... وكان عقيق في النّواظر ذائب
وقفنا ولا نجوى سوى بين أعين ... وشت بالهوى منها دموع سواكب
تخاطب رسم الدّار شوقا وما لنا ... على القرب إلا من صداها مجاوب
مضوا يزمعون السّير إلا تلفّتا ... كما التفتت بين الأراك الرّبارب (3)
_________
(1) قالوا: العزيف صوت الجن، وهو صوت الرمال إذا ذهبت بها الرياح.
(2) الخريت: الدليل الحاذق بالدلالة.
(3) في الأصلين: الربائب، ونرجح ما أثبت. والربارب ج الربرب وهو القطيع من الظباء، ومن البقر الوحشي والإنسي.
(1/300)
________________________________________
15 وأتبعتهم طرفي وقلبي وما دروا ... بأني على آثار هذين ذاهب
وما راعني إلا المآقي تحدّرت ... بهنّ قلوب في الدّموع ذوائب
وقد طويت شمس الأصيل بأفقها ... كما نشرت للّيل منها ذوائب
وسرنا وترجيع الحداة يحثّنا ... كما رجّع الإنجيل في الصّبح راهب (1)
نميل على الأكوار سهدا كأنّنا ... نشاوى مدام أنحلتها الحقائب (2)
20 أقول لصحبي-والظعائن ترتمي ... وقد أخذت منّا السّرى والنّجائب
وقد ظمئت منّا المطيّ وأظلمت ... دجى خفيت فيها علينا المذاهب-
: ردوا ليس يروينا الغمام وهذه ... دموعي لا يظما بها بعد شارب!
وإن يك بالشّهب اهتداء فهذه ... بصدري شهب للغرام ثواقب
رعى الله عهدا ضمّه أفق تونس ... ومعهد أنس لم ترعه النّوائب
_________
(1) في الأصلين «كما رصع الإنجيل في الصفح» ونرجح ما أثبت.
(2) جمع الشاعر حقبة-وهي من الدهر: المدة لا وقت لها-على حقائب. ولم أجد لها هذا الجمع.
(1/301)
________________________________________
25 وجادت عليه الغانيات بما حوت ... من الظّلم لا ما تحتويه السّحائب (1)
وروّض منها كل قطر بأغصن ال‍ ... ـقدود اللّواتي لم تثرها الأهاضب
بلاد بها عقّ (2) الشباب تمائمي ... ولا مس فيها التّرب منّي التّرائب
يذكّرني عهد الرضّا في جنابها ... أمان تقضّت لي بها ومآرب
فأصبو ولكن أين مني مزارها؟ ... وأبكي وإن لم تغن عنّي السحائب!
30 ويقلقني شوق تضرّم بالحشا ... فتحرقني لولا الدّموع لواهب
[84/ب]
أبيت تناجيني الهموم كأننّي ... صديق عفا (3) في الحبّ وهي تعاتب
وإن قمت غنّتني قيان أداهم ... لها بين أقدام الكماة ملاعب
وقد أمتطي فكري لدى اللّيل مركبا ... بذكر الّذي تحدى إليه الرّكائب
_________
(1) الظلم: ماء الأسنان وبريقها.
(2) في الأصلين: «غص» ولا معنى لها، والصواب ما أثبت.
(3) كذا فيها.
(1/302)
________________________________________
وأعشو إلى مدح الخليفة فارس ... فتنجاب عنّي للخطوب غياهب
35 إمام هدى ضاءت شموس اهتدائه ... فبانت لنا من بينهنّ المذاهب
ترقرق ماء البشر في صفحاته ... وأينع منه المجد فالمحل عاشب (1)
وأوسع أبناء الزّمان نواله ... فليس سوى ممّن ينوّل كاسب
خلائق يحكيها الرّياض بدائعا (2) ... فتعزى له إن حقّق القول ناسب
جرى الجود أنهارا-بكفّيه-عذبة ... (ما تلك) (3) في الرّاحات منها مشارب
40 وسار على الآفاق طيب ثنائه ... فما المسك لولا عرفه المتطايب
وأشرقت الدّنيا بنور جبينه ... فما المسك لولا عرفه المتطايب
وأشرقت الدّنيا بنور جبينه ... فما الشمس إلا إن بدا منه حاجب!
_________
(1) مكان عاشب: ذو عشب.
(2) فيهما: بدائعا.
(3) فيهما: ما تلك.
(1/303)
________________________________________
مناقب تحكي الشّهب ضوءا ورفعة ... فيسري بها في مهمه الخطب راكب
ففكر إذا ما أظلم الخطب نيّر ... وفهم إذا ما أشكل العلم ثاقب
وهمّة من لم يجعل الإرث وحده ... طريق العلى حتّى استتمّت مناصب
45 تزاحم تيجان الملوك ببابه ... كما ازدحمت بالّدارعين المواكب
وتفخر من ملك أغرّ مهذّب ... ثقيل المراقي عنده والمناصب
جبرت عماد الدّين بعد انصداعه ... على حين لم يجبر له الصّدع شاعب (1)
وملئت عن الدّنيا إلى الدّين راغبا ... على رغبة منها فنعم المراغب
50 وشيّدت فخرا في ذؤابة معشر ... نمتك إلى العلياء منهم عصائب
ومهّدت ركن الملك منك بعزمة ... تذب بها عنه الحماة الضوارب
[85/أ]
ودوّخت أرض الغرب حتى تسابقت ... لأمرك طوعا عجمه والأعارب
_________
(1) شعب الشىء فرقه، واستعمل في الضد فقيل: شعب الصدع إذا لمه وأصلحه، و «شاعب» في البيت من هذا النحو.
(1/304)
________________________________________
فأوطأتهم فوق السّماكين منزلا ... فليس لهم إلا هناك مراتب
ولمّا طغى بالشرق كلّ مكذّب ... عصيّ تناجيه الأماني الكواذب
55 ويخلو على بعد الدّيار بنفسه ... فتعصيه (1) من طعن العدا ما يطالب
بدأتهم بالقول (2) لو أنّ سعيهم ... حميد (3) لما ساءت لديهم عواقب
ولكن أبوا إلاّ جماحا وما دروا ... بأنّك حزب الله-والله غالب! -
ولجّوا على ظنّ بأنّ حصونهم ... ممنّعة لو أنّ غيرك طالب
فسمتهم بالرّعب قبل نزالهم ... ففلّت جموع منهم ومضارب
60 وأرسلتهم من آل أعوج غلّب ... عليها من الأبطال شوس أغالب
من القوم ما غير القنا في طريقهم ... أنيس ولا غير المهنّد صاحب
_________
(1) في «م» فتقصيه، وفي «ط» فتعصيه.
(2) في «م» بالقبول.
(3) في «م» حميدا.
(1/305)
________________________________________
إذا أظلمت جنج النّهار دروعهم ... أضاءت وجوه منهم ومناقب
وإن ضلّ في ليل الكفاح دليلهم ... هدتهم من العزم الصّميم كواكب
بأيديهم سمر الرّماح كما على ... عواتقهم بيض السّيوف القواضب
65 فذاك أصمّ يبلغ الطّعن للعدا ... وهذا سميع إن تناجي الكتائب!
غمائم للعافين، تهتن، صيّب ... وفي عرصات المارقين مصائب
ففي الحرب آساد وفي السلم سادة ... ويوم النّدا والمكرمات سحائب
ندبتهم لله ثمّ بعثتهم ... تقام على الأعداء منهم نوادب
وسرت فلولا أنّ أمرك وازع ... لسارت جبال عندها وأهاضب
70 وريعوا فلولا طود حلمك قد رسا ... لزعزع من ذاك الأشمّ جوانب
بجيش يغصّ الأفق منه بمركب ... ويعجز عن حصر الكتيبة حاسب
يباح حمى الأفلاك عند فريقهم ... وتنهب إن أومى إلى الشّهب ناهب
(1/306)
________________________________________
[85/ب]
أثرت بهم فوق الأعادي مصائبا ... من النقع جدواها السهام الصوائب
وجست على رغم خلال ديارهم ... تعطّر بالأردان منك مساحب
75 فلولا اعتصام كان منهم بطاعة ... لأغرقهم طوفانك المتراكب
ولمّا انتضى جبّار تونس عزمة ... ورام فرارا لو نجا منك هارب
بعثت بها غربان زجر يحشّها ... لتفريق شمل من أعاديك ناعب
وملّكتها شرقا وغربا كأنّما ... لأمرك من جاري المقادير صاحب
ولولا خطوب كنت حاسم دائها ... لقد علموا كيف الغريم المطالب
80 أمولاي طاب القول لي فأطلته ... وما طيّب الأقوال إلا الأطايب!
وما كان لي نظم القريض بضاعة ... ولكن دعاني نحو مدحك جاذب
فجئت بها حسناء تلتمس الرّضا ... وإن رغم الواشون منها وشاغبوا
(1/307)
________________________________________
فعفوا أمير المؤمنين فليس لي ... يدان بسخط منك والصّبر عازب
أساق مدى الأيام في القيد مفعم ... وجسم عليل بعد ذلك شاحب
85 وقد وضحت للحلم في كلّ طيّع ... وعاص شرود عنك طرق لواحب
وأرضعتهم ثدي الأماني وكم بغوا ... وأوردتهم صفو الأماني وحاربوا
أبى الله إلا أن يكون لك العلا ... تنيل الورى عفوا فتعفى المعايب
وإن أثبت الأعداء أني مذنب ... فصفحك يا مولاي للذّنب سالب
وهبهم رموني بالتّي لست أهلها ... أليس انتسابي واضح متناسب؟
90 أبعد انتزاحي عن بلادي تحثّني ... إلى بابك الأعلى مطيّ شوازب (1)
وغرّاء من نسل الجديل وشدقم (2) ... لها في الرّياح العاصفات مناسب
يجاذب عطفيها المراح فتنثني ... كما التفتت في الرّوض حسناء (3) كاعب
_________
(1) شوازب ج شازب: وهو الضامر.
(2) الجديل، وشدقم فحلان مشهوران للنعمان بن المنذر.
(3) «حسناء» سقطت من «م».
(1/308)
________________________________________
وتكبر قدرا أن يميل بمثلها ... لغيرك قصدا أو تحنّ مطالب
[86/أ]
رقمت بها في صفحة البيد أسطرا ... كما زان رقما في الصحيفة كاتب
95 وجبت بها غور الفلاة ونجدها ... وليس سوى من ذنبها ما أصاحب!
كأني لفظ والبلاد تجيبني ... خواطر منها للمعاني صوائب
نظنّ بأنّ الشّرق عن حمل كتمه ... نضيق فتطوي سرّهنّ المغارب
إلى أن حططت الرّحل في سرحة العلا ... لدى بابك الأعلى كما حطّ آيب
وأصدرتني عن ورد نعماك ناهلا ... وقد أثقلت ظهري لديك المواهب
100 فكيف أولّي شطر غيرك وجهة ... أؤمّل منها نجعة أو أراقب
وما خلصت إلا لبابك هجرتي ... ولم تصف لي ممّن سواك المشارب
وإني على علم بأن لا مملّك ... سواك على الدّنيا ولا عنك ذاهب
(1/309)
________________________________________
ولكن عواد إن عدتني عن الرّضا ... زمانا فإني اليوم منهنّ تائب
سأنزع عما أنت-والله-ساخط ... فأمرك محتوم على الخلق واجب
105 وأسطو على الأيام منك بنوبة ... كما افترستني بينهنّ النّوائب!
وتوسعني رحماك أفضل نعمة ... تريش بها عظمي وتترى المكاسب
فما في اللّيالي من ذميم-ولو أتى- ... إذا حميدت بعد المبادي العواقب
...

صاحبنا الفقيه القاضي الكاتب يحيى بن أحمد (1) بن محمد ابن
البغلة الأموي.
[كنيته:]
يكنى: أبا زكريا، ورأيته، وصحبته، ويعرف بابن البغلة.
وهو من أهل طنجة واستنابه بعض قضاتها، وكان عدلا بسماط شهودها. وأصل سلفه من الأندلس من الجزيرة الخضراء. وكتب في الحضرة المرينية لملوكها، وهو الآن كاتب الإنشاء بها لأمير المسلمين المستنصر بالله أبي العباس أحمد بن أمير المسلمين المستعين بالله أبي سالم إبراهيم.
وبيني وبينه وداد عظيم ولما [76/ب] كنت بالحضرة المرينية حين أخرجنا عن الأندلس بنو عمنا الملوك من بني الأحمر آل نصر كان
_________
(1) بويع المستنصر بالله أحمد بطنجة سنة 775 وخلع سنة 786، وهذه هي دولته الأولى. (وحكم ثانية من 789 إلى 796). انظر روضة النسرين 34،38.
(1/310)
________________________________________
يسنخلص لي حوائجي من ملوك بني مرين، فعرضت لي يوما عند الوزير أبي يحيى أبي بكر بن الوزير أبي مجاهد غازي بن الكاس المجدولي، المدبر لملك أمير المسلمين السعيد بالله أبي زيان (1) محمد حاجة، وكان الفقيه أبو زكريا هذا له جاه مكين عند هذا الوزير؛ فطلبت منه، وكتبت له في ذلك أبياتا من قولي، وهي:
أيحيى ميّت الأحياء يرجو … كلامك للوزير بغير ريث
فأنت نصير من أخنى عليه … زمان قد أناخ بكلّ ليث
ومهما أرسلت كفاك جودا … يكفّ بجوده وكّاف غيث!

حاله-أكرمه الله تعالى-:
هو صدر الأعيان، وعلم أولي البلاغة والبيان. الفصيح الذي يقصر عن مرماه في الفصاحة سحبان، ويعجز عن مضاهاته في الاختراعات والإنشاءات بديع الزمان. سليم الصدر من البأو والمباهاة، ذو ذكاء وفكاهات!
فمن قوله يمدح الوزير أبا علي عمر بن الوزير أبي عامر عبد الله بن علي بن سعيد الياباني (2) مدبر الدولة المحمدية المتوكلية والعزيزية المرينية:
_________
(1) تحدث السلاوي في الاستقصا عن خبر تدبير أبي بكر بن غازي بن الكاس لدولة السلطان ابن زيان محمد المريني، وقال إنه استبد، واستعمل على الجهات، وجلس بمجلس الفصل، واشتغل بأمر المغرب إبراما ونقضا. (انظر الاستقصا 4:60، وروضة النسرين:35).
(2) انظر روضة النسرين لابن الأحمر:32 - 33.
(1/311)
________________________________________
أعاذلتي أن أبصرت راحتي صفرا ... وأن لست ممّن يقتني البيض والصّفرا
ذريني فليس الشّحّ أولى بذي نهى ... من الجود، إنّ الجود مرتبة أخرى!
وإنّ الفتى من صان بالمال عرضه ... وأبقى بتخليد الثّناء به ذكرا
ودان بتشفيع الصّنيع تمدّه ... بحار جدى لا يتّقي مدّها جزرا
5 لعمر العلا والجود والعرف والنّدى ... لقد ألفت خلقي السّماحة والبرّا
[87/أ]
ولا سيّما إذ داورت عمر الرّضا ... وأهدته آمالا فأصدرها وفرا
هو البحر لا بل دونه البحر إنّه ... لعذب الحيا جمّ اللهى يلفظ الدّرا
يروّي الظّما، يشفي الضّنا، ينقع الصّدى ... ينيل المنى، يولي الغنى، يصرف الفقرا
إذا أخلف الغيث استغثنا بجوده ... فيوسعنا رحمى، ويمنحنا يسرا
10 رعى الله عصرا جاءنا منه بالذي ... نؤمّل في الأولى ونحمد في الأخرى
(1/312)
________________________________________
وزير تقى صان الخلافة فاغتدت ... بتدبيره تستخدم الفتح والنّصرا
يرى واردات الأمر قبل وقوعها ... فيبدى من التّدبير ما يشرح الصّدرا
وقد بسط العدل الذي من روائه ... خلائق حلم لا نوفّي لها شكرا
إذ أنت يوم الرّوع لا قيته فقد ... أمنت، فما تدري المخاف ولا الزّجرا
15 وإن أنت في يوم الهياج رأيته ... وقد أعمل البيض البواتر والسّمرا
وعوّضها هام العدا من جفونها ... فأوردها بيضا وأصدرها حمرا
يولّي ويقصي (1) في الإله وإنّه ... لمن طينة المجد التي كرمت نجرا
نمته إلى العليا سراة أكابر ... فلله منهم ما أجلّ وما أسرى
حموا حوزة الملك الذّي لم يبح بهم ... حماه وشدّوا من قواعده أزرا
20 وهاك التّي أهديتها منك كفؤها ... وأبديتها شمسا ميمّمة بدرا!
خريدة نظم أنتجتها قريحة ... لغيرك لم تعمر مدى دهرها فكرا!
_________
(1) فيها «يوالي» ونرجح ما أثبت.
(1/313)
________________________________________
تجرّر من فرط الحياء رداءها ... وتلتمس الإغضاء لا غيره مهرا!
على أنّني لم أدّع الشّعر صنعة ... ولم أتعاط النّظم يوما ولا النّثرا
ولكنّني إذ رمت مدحك قدتها ... قوافي فانقادت محجّلة غرّا
25 ووافتك تثني بالذي أنت أهله ... من الشّيم اللاتي سمت واعتلت قدرا
...

صاحبنا الفقيه الكاتب أحمد بن يحيى بن أحمد بن عبد
[87/ب] المنّان الانصاري الخزرجي (*):
[كنيته:]
يكنى: أبا العباس، ورأيته، وصحبته، ويعرف بابن عبد المنان، ومسقط رأسه مدينة مكناسة، وأصل سلفه من الأندلس؛ من إشبيلية. وجده أحمد والد يحيى هو القادم من الأندلس على بر العدوة؛ وأبوه يحيى استخدمه ملوك مرين في ولاية الخراج.
وله نظر في علم الطب مع المشاركة في الطلب، والإجادة في نظم الشعر. وأحمد والد يحيى القادم من الأندلس كان قد قدمه
_________
(*) أبو العباس أحمد بن يحيى بن عبد المنان الخزرجي الأنصاري (000 - 792) من كتاب الدولة المرينية. كان أثيرا لدى السلطان أبي عنان المريني، وعند عدد من السلاطين الذين جاؤوا بعده. وفي درة الحجال لابن القاضي أخبار تدل على ثقة صلته ببني مرين وحسن علاقاته معهم. (انظر درة الحجال 1:53، ونثير فرائد الجمان:348 وجذوة الاقتباس:60)
(1/314)
________________________________________
جدنا الرئيس الأمير أبو سعيد فرج بن جدنا الأمير أبي الوليد اسماعيل بن جدنا الأمير أبي الحجاج يوسف الشهير بالأحمر بن جدنا أمير المؤمنين المنصور بالله أبي بكر محمد بن أحمد بن محمد بن خميس بن نصر الخزرجي أمير مالقة بالجزيرة الخضراء على خراجها.
فلما عبر البحر للعدوة قدمه ملوك مرين على خراج مكناسة وولوه قيادة قصبتها، ونال لديهم جاها مكينا.
وأبو العباس هذا استكتبه أمير المؤمنين المتوكل أبو عنان فارس في حضرته السلطانية؛ وله فيه أمداح عجيبة. واستكتبه أيضا في الحضرة السلطانية المرينية أمير المؤمنين السعيد بالله أبو يحيى أبو بكر، وأمير المسلمين المستعين بالله أبو سالم إبراهيم، وأمير المسلمين أبو عمر تاشفين، وأمير المؤمنين المتوكل على الله أبو زيان محمد، وأمير المسلمين أبو فارس عبد العزيز، وأمير المسلمين السعيد بالله أبو زيان محمد، وأمير المسلمين المستنصر بالله أبو العباس أحمد.

حاله-أكرمه الله-:
ظهر له في القريض باع أي باع، وكان لمعانيه جلاء وللثنايا اطلاع. وهو مجيد في فكرته، يأتي بالغرابة في رويته، وقد انقادت له ركائب الآداب بأزمتها، وتجلت له شمس البديهة عن ظلمتها. إلى خلق في [88/أ] الفضائل ممكنة، وأفعال حسنة بسنه.
أنشدني لنفسه، ورفعها ليلة مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم من عام سبعة
(1/315)
________________________________________
وخمسين وسبعمائة، لأمير المؤمنين المتوكل على الله أبو عنان فارس (1) وعارض بها قصيدة الشيخ الفقيه الإمام العالم الصّوفي المحقق أبي عبد الله محمد بن خميس الحجري (2) التي أولها:
أمّا المشيب فقد لاحت لوامعه ... فما لدمعك لا تهمي هوامعه
_________
(1) كانت للسلطان أبي عنان المريني عناية فائقة بالعلوم والآداب، ونقل المترجمون لابن خميس أنه كانت لأبي عنان عناية خاصة بأخباره وأشعاره (نفح الطيب 5:366).
(2) هو أبو عبد الله محمد بن عمر بن محمد الحميري الحجري-حجر ذي رعين، وهو أبو قبيلة من اليمن-التلمساني عرف بابن خميس (000 - 708) من علماء تلمسان وشعرائها المعدودين. وقد أفاض مترجموه في ذكر مآثره ومزاياه العلمية والأدبية، ومنهم لسان الدين بن الخطيب، وابن خاتمة الأنصاري شاعر المرية وأديبها. ارتحل ابن خميس إلى سبتة، دار إمارة بني العزفي فأقام مده، ثم ارتحل إلى الأندلس تحت رعاية وزيرها ابن حكيم، وطاف في بعض بلاد الأندلس. وكانت وفاته في حادثة نكبة الوزير ابن حكيم، قتله بعض مهاجمي قصر الوزير دون جريرة سنة 708، وله نيف وستون سنة (؟) كما نقل في نفح الطيب وأزهار الرياض. قال ابن خاتمة في مزية المرية في حقه «كان من فحول الشعراء وأعلام البلغاء، يصرف العويص ويركب مستصعبات القوافي» وذكر عنايته والعلوم اللغوية، ومشاركته في العقليات، وقعوده للإقراء أيام مقامه بغرناطة. قال: «ومال بأخرة إلى التصوف والتجوال، والتحلي بحسن السمت وعدم الاسترسال». ويلتقي هذا الكلام مع ما يذكره ابن الأحمر عن تصوفه. وقد جمع أبو عبد الله الحضرمي-معاصر ابن خاتمة ولسان الدين-شعر ابن خميس في ديوان سماه الدر النفيس في شعر ابن خميس». (ترجمته وقصائد من شعره في: أزهار الرياض 2:301، ونفح الطيب 5:359 والدرر الكامنة 4:113 والتعريف بابن خلدون 390. وانظر: مختارات من الشعر الأندلسي:193).
(1/316)
________________________________________
فقال-نسأ الله في أجله-:
هل العقيق وما ضمّت أجارعه ... كما عهدناه أم أقوت مرابعه
وهل تغيّر بان الحيّ بعد نوى ... أهليه أم روّضت خصبا أجارعه
ديار سلمى سقاها من ديار هوى ... من صيّب الغيث هاميه وهامعه
قفا بها إنّ عهدا للطّول على ... دمعي السّكيب بأن تجري دوافعه
5 وهلّ وقوف محب بالطّول على ... إثر الخليط الّذي قد بان نافعه؟
لله عهدك يا ربع الألى ظعنوا ... أيام روضك غضّ الدّوح يانعه
أيام ظبيك لم تقفر مراتعه ... منه، وبدرك لم تظلم مطالعه
ودار سلمى بجرعاء الحمى كثب ... ومورد الوصل لم تحظر مشارعه
لعمر سلمى لقد بانت وما تركت ... سوى جوّى يسفع الأضلاع سافعه!
(1/317)
________________________________________
10 ومنية يترجّاها (1) على طمع (2) ... منه ويأبى مشوق القلب جازعه
في ذمّة الله قلب كلّما ذكرت ... سلمى تغصّ به خفقا أضالعه
وإنّ سلمى لظبي في النّفار وفي ... طرق الملالة قد أعيت منازعه
ماذا تجرّعت من مرّ الغرام هوى ... يا قلب فيه، وماذا أنت جارعه!
أبيت ليلي من جرّاه مكتحلا ... بالسّهد وهو نؤوم الجفن هاجعه
[88/ب]
أدافع الوجد في سلمى فيغلبني ... والوجد لا شكّ مغلوب مدافعه!
15 أخادع القلب عنها وهو يخدعني ... كذلك القلب مخدوع مخادعه!
ويح المحبّ لقد نمّت شمائله ... بحبّه فهو خافي السّرّ ذائعة
وأيّ واش به في الحبّ يكذبه ... سهاده أم ضناه أم مدامعه؟
_________
(1) فيهما: يترجها «بتشديد الجيم» ونرجح ما أثبت.
(2) في «ط» طعم، وهو تحريف.
(1/318)
________________________________________
أم نفثة قذف الوجد الصّميم بها ... طيّ النّسيب وقد رقّت وشائعه
20 هل تعلمان له راق فيطمع في ... برء أم الحبّ داء عزّ دافعه؟
أو ملجأ غير أعلى الخلق منزلة ... يوم الحساب وقد راعت روائعه
خير البرية أولاها وآخرها ... وحائز الفضل دانيه وشاسعه
يا ليلة أسفرت عنه ظفرت علا ... بالفخر قد ملأ الأقطار شائعه
ضاءت لمولده الآفاق واتّضحت ... سبل الرّشاد بما جلّت نواصعه
25 وأصبحت (1) صور الأصنام من وجل ... والكلّ ناكس أعلى الهام خاضعه
وأمسك النّهر خوفا عند ذلك إذ ... أحسّ بالجود قد فاضت ينابعه
وأخمدت نار كسرى وهي ما علموا ... وقودها قبل وارتجّت مصانعه
وكم دليل له من قبل مبعثه ... وبعده صدع الظّلماء ساطعه
كآية الغار لمّا قام ناسجه ... من دونه وأوى للوكر ساجعه
_________
(1) كذا في الأصلين.
(1/319)
________________________________________
30 وأعلمته ذراع الشّاة مشفقة ... بسمّها ليته (يفتض) (1) ناقعه
والضّبّ والذّئب تصديقا له نطقا ... والطّفل أفصح لم تفطم مراضعه
والشمس والبدر هذي (2) ردّ غاربها ... بعد الأفول، وهذا شقّ طالعه
والماء فاض معينا من أصابعه ... وهل بحور النّدى إلا أصابعه؟
وعاد في الرّوع جدل (3) النّخل من يده ... باللّمس أبيض لا تنبو مقاطعه
35 والغصن لمّا دعاه جاء مؤتمرا ... يخطّ في الأرض لا شيء يمانعه
[89/أ]
والجذع أسمع ترديد الحنين له ... لو لم يفارقه لم يسمعه سامعه
آيات صدق جلت علياء منتخب ... لم يطلع الكون من خلق يضارعه
مؤيّد بجنود الله يكنفه ... هاد إلى الحقّ مهدّي متابعه
_________
(1) هذا أقرب ما يقرأ في النسختين.
(2) فيهما «هادي» ونرجح ما أثبت، وانظر الشطر الثاني.
(3) فيهما جدل، وتحتمل قراءة جذل (بالذال) وجزل (بالزاي).
(1/320)
________________________________________
مخصّص بمزايا القرب طولع من ... معارف الغيب بالمختوم طابعه
40 وأوتي الكلم الوضّاح حكمته ... ولامرئ قبل لم تجمع جوامعه
ما وصف فضلك يا أعلى الورى شرفا ... بممكن فيطيل القول واضعه
وكيف يدرك أوصافا وقد فرعت ... مرقى العقول وإن جلّت فوارعه؟!
يا صفوة الله والدّاعي برحمته ... إلى النّجاة بما سنّت شرائعه
دعاء محتقب ذنبا أضيق به ... ذرعا فأمّا حماك الرّحب مانعه
45 لولا تمسّكه قدما بحبك ما ... إن كاد يطمع في الغفران طامعه
حب إليك-رسول الله-أخلصه ... قلب تقلّبه شوقا نوازعه
كن شافعا لي أسعد بالمفاز غدا ... فما السّعيد سوى من أنت شافعه
يا أكرم الرّسل يا أعلى الأنام علا ... يا خير منتجع ترجى نواجعه
أعلّل النّفس تعليلا بقربك لـ ... ـكنّي أرى القرب قد سدّت ذرائعه!
(1/321)
________________________________________
50 ولي على الدّهر دين لثم تربك لـ ... ـكنّ التّقاضي تلويه موانعه
ما كنت آمله لولا الخليفة لا ... زالت تؤمّل للحسنى صنائعه
إمام عدل وإحسان سمت شرفا ... فروعه وزكت طيبا منابعه
من عصبة أثلّوا المجد التّليد علا ... ودوّخوا الكفر فاستخزت بواقعه (1)
يا آل يعقوب أعلى الله ملككم ... فهو الملاذ الّذي ترجى مفازعه
55 ما آل يعقوب إلا مرتقى شرف ... سامى النّجوم ففات النّجم فارعه
بنى له المجد عبد الحقّ معتليا ... وجاء يعقوب للغايات تابعه
[89/ب]
ويوسف ثمّ عثمان ونجلهما ... عليّ معلي منار المجد رافعه
وفارس البأس والإنعام من علمت ... به الملوك، مذلّ الشّرك قامعه
_________
(1) الباقعة: الرجل الداهية، والذكي العارف.
(1/322)
________________________________________
مؤيّد الأمر لم تحجم صواهله ... يوم النّزال ولم تكهم قواطعه (1)
60 ليث الحروب إذا ماجت كتائبها ... غيث الجدوب وقد راعت طلائعه
سل كلّ قطر بما وفّى نداه به ... إذ أخلف القطر واغبرّت مواقعه
والبدو والحضر كم أحيت مواهبه ... والطّير والوحش كم أردت وقائعه
غمر النّوال عطوف محسن جبلت ... على المكارم والرّحمى طبائعه
ما زاده الله من عز لعزّته ... إلا وزاد له فيه تواضعه
65 أبا عنان لك الخيرات من ملك ... عاصيه قد خاب لمّا فاز طائعه
أعليت دين الهدى لا زلت معتليا ... فعزّ أهلوه (2) واستخذى مماصعه (3)
ومجتد أنت معبيه (4) وجابره ... ومعتد أنت مقصيه ورادعه
_________
(1) سيف كهام: كليل.
(2) في «م» أهله، والمثبت من «ط».
(3) ماصعوا: قاتلوا وجالدوا.
(4) عبا المتاع: هيأه، والجيش: جهزه.
(1/323)
________________________________________
وجنح ليل تجلّى عنك فاحمه ... وأنت قائمه برّا وراكعه
وموسم جلّ قدرا باعتناك به ... راقت لياليه وازدانت سوابغه
70 يذكّر الخلد، نال الخلد منزلة ... مقيمه يبتغي الزّلفى، ورافعه
تمّت بسعدك فيه كلّ معجبة ... وانقاد كلّ بديع الحسن رائعه
وآلة للمواقيت استقلّ بها ... صنع تفوت النّهى لطفا صنائعه
أبياتها عدّ أبراج السّماء ولا ... قطب ولا فلك تدرى مواضعه!
يجري الهلال عليها جريها أبدا ... على المنازل صنع فاق بارعه
75 وفي البيوت جوار كلّ واحدة ... منهنّ خصّت بميقات تطالعه
حتّى إذا جدّ إسراعا لوجهته ... وحمّ منه فراق حان واقعه
وأذّن الطّير من أعلى مراقبه ... ببينه معربا عن ذاك قارعه
[90/أ]
ثارت هنالك توديعا له ودنت ... إلى الفناء على ذعر تشايعه
(1/324)
________________________________________
وفي اليمين كتاب باسم موقتها ... إلى الإمام وقد أومت تبايعه
80 وشامخ المرتقى آوى لأفرخه ... بالوكر وهو أمين السّرب وادعه
أتيح عمدا له مستشنع سبط ... رحب القذال صقيل الطّرف لامعه
أحوى الأديم يجاري دونما قدم ... هوج الرّياح، حديد النّاب قاطعه
جمّ التّقلّب لم تؤمن غوائله ... غدرا، وتحذر من ختل خدائعه
يسعى له الحين بعد الحين يرزؤه ... ثكلا فيصفرّ خوفا أو يقارعه
85 كذلك اللّيل لا ينفكّ مختلفا ... إليه وهو عن الأفراخ دافعه
ومثله لأخيه ينتحيه وما ... إن منهما ليله إلا مقارعه
كأنّما الصلّ أمسى ممسكا فإذا ... ما ساعة ذهبت ثارت مطالعه
وظنّها آخر السّاعات قد أذنت ... بفطره فسما للفرخ لاسعه
(1/325)
________________________________________
رياض حسن بدا لولا سعودك لم ... تستجل يا مالك الدّنيا بدائعه
90 في ليلة آنست مرأى ومستمعا ... لا شتّ من شملها بالأنس جامعه
نودّ فيها-وإن لم نعط ذلك-أن ... لو عرّس اللّيل أو مدّت هوازعه (1)
قد حجّب السّجف عنّا شهبها وبدت ... كواكب الشّمع إذ صفّت مشامعه
ولم يكن يا أمير المؤمنين بها ... إلا محيّاك من بدر نطالعه
بقيت للدّين والدّنيا تزينهما ... والملك ما صدع الإظلام صادعه
95 وهاكها من خبايا الدّهر قافية ... تزهى على الدّر قد (2) صفّت رصائعه
أهداكها فائق الإبداع باسمك ما ... رقت مباديه أو رقّت مقاطعه
وقد تعمّد فيها وصف معجبة ... أجاد في صنعها لا شكّ صانعه
لم ينعت البعض منها عن مشاهدة ... لكن بما هو في الأخبار سامعه
_________
(1) الهزيع من الليل: الطائفة منه أو نحو ثلثه أو ربعه.
(2) «قد» ساقطة من «م».
(1/326)
________________________________________
[90/ب]
فإن أصاب فذاك اليمن سدّده ... قدما وإن لم يصب فالحلم واسعه
100 يتلى بحمدك من أمداحه كلم ... يبلى الزّمان ولا تبلى وشائعه
لو مرّ بابن خميس وفده لدري ... بأنّ ثمّ خميسا لا يماصعه
قضى له الدّهر تأخيرا ولا عجب ... تأخّر الشّمس عن فجر تتابعه!
وأنشدني أيضا لنفسه يمدحه، ويصف قتل الأسد بين يديه بقصره، والثور المقاتل للأسد، والأكرة (1)، والمخاتل، وغير ذلك مما يلعب به مع الأسد:
أسرى فهيّج لاعج البرحاء ... برق أضاء له من الجرعاء
أهدى-وقد نام الخليّ عن الحمى- ... خبرا وطار بطارق الإغفاء
وحكى به أنّ الثغور بواسم ... وضّاحة والبيض ذات مضاء
هرق الوميض وإنّ في كنف الحمى ... لشبيهة بالجونة الغّراء
_________
(1) «الأكرة» ساقطة من «ط».
(1/327)
________________________________________
5 تجلو عن البدر اللّثام وإنّما ... تفترّ عن بدر وعن صهباء
عبث الصّبا بقوامها عبث الصّبا ... بالغصن [علّ] (1) بواكر الأنداء
زارت وجنح الليل معتكر ومن ... دون الزّيارة ملتقى الأعداء
والزّهر كالأزهار إلا أنّها ... نثرت خلال بنفسج الظّلماء!
والبدر يسبح في الغمام كأنّه ... مرآة هند وسط لجّة ماء
10 ضاءت بشهب حليّها شهب الدّجا ... وأتتك تمشي مشية الخيلاء
أنّى أمنت-هديت-غائلة السّرى ... والواشيين: تأرّج وضياء
لم ترهبي الآساد غلبا، والظّبا ... قضبا، وجبت مضلّة البيداء!
قالت: أما أحييت منك متيّما؟ ... أنّى أضلّ، ودنت بالإحياء؟
أيرى ضلال والخليفة فارس ... في الأرض أن يلفى على الغبراء؟
_________
(1) في الأصلين «على» ونرجح ما أثبت.
(1/328)
________________________________________
15 يمّمت علياء فما من منذر ... أخشى ولمّا أرّج ماء سماء
[91/أ]
صرّاف عادية، مزيح ضلالة ... فرّاج داهية، عظيم غناء
تجلو الأسرّة منه بدر مكارم ... ويفيض منه الجود بحر عطاء
وتهيج منه الحرب ليث ملاحم ... ويقرّ منه الحلم طود علاء
هلا سألت به الغيوث فإنّه ... مهما استهلّت فاضح الأنواء
20 وسل اللّيوث تجبك صدقا؛ إنّها ... أدرى بفتكة عضبه المضّاء!
لله يوم في حماه مفضّض الـ ... ـإصباح منه، مذهّب الإمساء
رتعت به الأبصار بين عجائب ... رقّت فراقت كل طرف راء
وأجشّ منهرت اللها نهد الطّلا ... عبل الجزالة محكم الأنساء
طاوي الحشا، رحب المقدّم، عابس ... متطلّع عن جذوتي ظلماء
25 بل كوكبين تقارنا بجبينه ... لحدوث ما نبأ من الأنباء!
(1/329)
________________________________________
وأرى الأهلّة في البدور وإنّما ... يعتدّها للأزمة الدّهماء
يفترّ لا لتبسّم يعتاده ... ويعانق الأقران لا لإخاء
قد طالما سهرت مخافة بأسه ... دون الخلال طلائع الأحياء
قذفت به الأقدار بين مخاتل ... ومكابد ومناجز ومناء
30 رفعوا لموقت حتفه كرة فلم ... تبرز له إلا طويل شقاء!
جاؤوا بها شمسا تيمّم بيتها ... منه، وإنّ اللّيث (1) بيت ذكاء
عجبا لها جازت إليه النّور لم ... تجنح إلى السّرطان والجوزاء!
ومعدّلو الشّبكات بعد تردّد ... حكموا عليه بشدّة ورخاء
ألقوه في التّابوت ثم تعمّدوا ... إرساله؛ أبقوه لا لبقاء!
35 لكنّ أرباب الصّفائح صمّموا ... فقضوا بداهية له دهياء
هذا وقد طلعت بوشك حمامه ... شهب الأسنّة، جمّة الأضواء
_________
(1) في «م» الليت. والمثبت من «ط».
(1/330)
________________________________________
[91/ب]
يا نصبة حكمت على ليث الشّرى ... قسرا بقضّ المتن والأحشاء
لولا حظته عناية القمر الذي ... في البرج (1) أمّن طارق الأرزاء
... (2) لمّا قضى إسلامه ... للسّمر والخطّية السّمراء
40 والحارث الفتّاك بالأسد الذي ... لم يبق إشفاقا على الآباء
طلعت بمفرقه الأهلّة إنّها ... أبدا لها منه محلّ ثواء
يا ليث [لا تأمنة] (3) ختلا إنّه ... ليكرّ بعد تحيّز وثناء
لا يطمعنّك إن أجدّ منكّبا ... لمّا دلفت له حثيث عداء
ما ذاك إلا لو علمت تأثّما ... من قطع أرحام وسفك دماء!
45 وسل الجواميس البهيم أديمها ... تخبرك فهي له من الشّهداء!
_________
(1) في الأصلين البروج، ونرجح ما أثبت، للوزن.
(2) في «م» والحار قضى. وفي «ط» فالحار قضى. وأظن الناسخ الاول أخطأ بنقلة عين فكتب جزءا من كلمة الحارث في البيت التالي، وتابع، فاضطرب الشطر.
(3) فيهما: لا تمنه، ونرجح ما أثبت.
(1/331)
________________________________________
فلقد شهدن أخاك لمّا أمّه ... كالسّهم قاسمه مدى المثناء
أنحى عليه بصدمة ثوريّة ... تركت أسامة واهي الأنحاء
وبطعنة نجلاء أنهر فتقها ... تحت الأديم عريضة جوفاء
شكّت فريصته [فولّى] (1) ناجيا ... يبغي النّجاة ولا حين نجاء!
50 ثم استكان يردّد الزّفرات عن ... وهن وتلك شكاية الضّعفاء
حتى أتته العين عائدة وما ... إن كنّ قبل له من السّجراء (2)
رحمته-وهي عداته-ولحادث ... متفاقم ما رحمة الأعداء!
فاحذر لمصرع تربك الماضي ولن ... يثني الحذار مقدّرا بقضاء
يا ليث سامتك (3) الهوان بنو الوغى ... فاصبر لما سامت بنو الهيجاء
_________
(1) لم يترك الناسخ فيهما فراغا. وما بين معقوفتين مقترح.
(2) السجراء جمع السجير: الخليل والصفي.
(3) فيهما: شامتك ونرجح ما أثبت.
(1/332)
________________________________________
55 تلك الأسنّة والقنا أتخالها ... أزهار قضب السّرحة الغيناء (1)
والبيض لامعة وما هي-فاتّئد- ... بجداول العرّيس (2) ذي الأفياء
ومصارع الآساد ليست هذه ... بمصارع الإدلاج والإسراء!
[92/أ]
دار الخلافة يمّمت ساحاتها ... صيد الملوك لخيفة ورجاء
راقت مراقي برجها بخليفة ... لم يعد هدي أئمّة الخلفاء
60 متهلّل غمر النّوال مظاهر ... في بردتين: جلالة وبهاء
ترتاده الدّنيا فيرجع أهلها ... من غير سوء باليد البيضاء!
رحب المجال مناضلا ومناظرا ... ثبت اللّقاء مسدّد الإلقاء
حمل الورى رشدا وقد ضلّوا على ... نهج الهدى ومحجّة السّمحاء
لا تنكر الإرشاد منه إنّه ... لأبو المعالي، جهيذ العلماء
_________
(1) الغيناء: الخضراء من الشجر.
(2) العريس: مأوى الأسد.
(1/333)
________________________________________
65 يا فارس الهيجاء دمت لحكمة ... ومكارم وبسالة وسخاء
دوّخت أرض الرّوم منتقيما على ... شحط المزار ومنعة الأرجاء
وبعثتها غربان زجر لم تطر ... لهم بغير كريهة شنعاء!
لما بدت وبنو الوغى من فوقها ... والسّمر نازعة إلى الهيجاء
قالوا الرّبا والأسد في آجامها ... تختاض عرض اللّجة الخضراء
70 جاسوا خلال ديارهم فكأنّها ... لم تغن بعد مزاهر وغناء
ونواقس تهدي الضّلال سميعة ... وكنائس وجآذر وظباء!
أمّا بلاد الشّرق نالت رشدها ... بوسيلتين: إنابة ووفاء
ألقت بمقلدها إليك ولم تزل ... من قبل ذات تمنّع وإباء
والعرب تجهد في رضاك وإنّما ... أخذوا بحظّهم من العلياء
75 أنت الكرام، وعصر ملكك دهرهم ... والأرض-أجمع-حضرة (1) البيضاء!
_________
(1) البيضاء حضرة الملك المريني من فاس.
(1/334)
________________________________________
ولك الخطاب الفصل والفضل الذي ... لم يختلف فيه ذوو الآراء
ولك القضاء العدل سدّده (1) الذي ... ولاّك إذ أولاك كلّ علاء
لا زلت تكلأ أمّة جبّارها ... يكلؤك في السرّاء والضرّاء (2)
[92/ب]
وبقيت للإسلام ما جرّ الدّجا ... لملاءة الإصباح فضل رداء
80 واهنأ بعيد النّحر حلّى جيده ... سلكا فتوح واقتبال سناء
وإليكها عذراء تزهى نخوة ... بحلى محاسنها على العذراء
أسديّة لم تدر ما يمن ولم ... تنسب مجاورة إلى الأذواء!
أحكمتها صنعا فقال رواتها: ... عجبا أهذا الوشي من صنعاء؟!
طالت وأحشمها القصور فأقبلت ... من خجلة تمشي على استحياء
85 إن لم أقلدها علاك فرائدا ... كالشّهب بعد سنا وحسن رواء
_________
(1) فيها: سدد، والمثبت مقترح.
(2) حركة همزة يكلؤك مختلسة.
(1/335)
________________________________________
وأجيل في ميدان شكرك عربها ... غرّا فلست بشاكر النّعماء
فضحت يمينك كلّ جود وابل ... وثناي عرف الرّوضة الغنّاء
وعلى هذه القصيدة حكاية: وهي أن صاحبنا أبا العبّاس لما رفعها لأمير المؤمنين المتوكل على الله أبي عنان، وافق المجلس أن الشريف أبا عبد الله محمد بن القاسم الحسيني العراقي رفع للمتوكل أبي عنان قصيدة مثلها في الوزن والقافية. فلما قرئت قال شيخ بني مرين وهو الحاج أبو مهدي عيسى بن الحسن بن علي بن يحيى بن منديل بن أبي الطّلاق العسكري لأبي عنان المتوكل: يا أمير المؤمنين! إن قصيدة الشريف أحسن من قصيدة ذلك الحضري! يعني صاحبنا أبا العباس بن عبد المنّان. فقال له أبو عنان المتوكل على الله: «ليس الأمر على ما ذكرت، اسكت، فإنك غير عارف بالشعر! إنّ قصيدة أحمد أبدع من قصيدة الشّريف!» وصاحبنا أبو العباس لهذا كلّه قائم بين يدي أبي عنان المتوكل يسمع ما قال السلطان، وما قال الشيخ أبو مهدي، فحقدها للشيخ أبي مهدي. فلمّا قام الشيخ أبو مهدي بجبل [93/أ] الفتح من الأندلس على أبي عنان (1)، وقبض عليه، وسيق للمتوكل
_________
(1) كان انتقاض أبي مهدي عيسى بن الحسين بن أبي الطلاق على أبي عنان المريني سنة ست وخمسين وسبع مئة. ووصفه السلاوي بأنه كان وزير أبي عنان وصاحب شوراه، وأنه من شيوخ بني مرين ووجوهها. وكان انتقاضه بجبل طارق (وهو جبل الفتح المذكور، سماه بذلك الموحدون بعد إزالتهم المرابطين ودخولهم الاندلس). قال: وهو انتقض على السلطان لأسباب يطول شرحها. وقد انتهى أمر الثائر إلى سجن أبي عنان ثم قتله مع ابنه، ولم يقبل منه عذرا. (الاستقصا 3:200).
(1/336)
________________________________________
أبي عنان سرّ صاحبنا أبو العباس بذلك، ونظم قصيدة ورفعها لأبي عنان يحرضه بها على قتله؛ فقتله بالرماح وأنا حاضر لقتله.
والقصيدة هي هذه:
محيّاك أبهى لا الهلال ولا البدر ... وريقك أشهى لا الزّلال ولا الخمر
ولحظك أنكى لا البواتر تنتضى ... وعرفك أذكى لا الأزاهر تفترّ
أيا مالك القلب الّذي جار في الهوى ... عليه، ترفّق، ربّما وهن الصبر
ويا باخلا حتّى بطيف خياله ... نشدتك: هل في الطّيف تبعثه وزر؟!
5 أعندك أنّي منذ أضمرت هجرة ... هجرت الكرى سهدا سوى سنة تعرو؟
ولم يبق منّي السّقم إلا صبابة ... تردّد في أثنائها أنه نزر
وهل لي إذا لم أفن فيك صبابة ... بحكم الهوى العذريّ عند الهوى عذر
ألفت الهوى حتّى استهنت صعابه ... وحتّى تساوى عندي (1) الحلو والمرّ!
_________
(1) في نسخة «ط» عند.
(1/337)
________________________________________
وقال وشاة الحبّ سحر أصابه ... فهل علموا من لحظ (1) من ذلك السّحر؟
10 لك الخير هذا نعت حالي جملة ... وشرحا فهل للعطف من بعده ذكر؟
بنفسي نشوان المعاطف عاطف ... كغصن النّقا، كالظّبي خامره ذعر
تجول صدور السّمر دون لقائه ... ويسحب من أذياله العسكر المجر (2)
هو الظّبي إلا أنّ دوحته القنا ... هو البدر إلا أنّ مطلعه الخدر
له الودّ منّي والخلوص وعنده ... تجنّ كما تهوى الملاحة، أو هجر
15 ألا إنّ إنعام الخليفة فارس ... لنا الصّفو من فيّاضه وله الشكر
مليك ملوك الأرض أوحدها الذّي ... به علت العلياء وافتخر الفخر!
غمام النّدى الهطّال والجوّ أغبر ... وليث العدا والبيض قانية حمر
إذا ما تراءى البدر يوما ووجهه ... تحيّرت الأبصار أيّهما البدر!
_________
(1) في نسخة «ط» من تحظ.
(2) المجر: الجيش العظيم.
(1/338)
________________________________________
[93/ب]
تأخر عصرا في الملوك وإنّه ... إذا عدّ أملاك الزّمان هو الصدر
20 إمام الهدى شكرا على النّعم الّتي ... يضيق إذا عدّدتها العدّ والحصر
لك الجود تردي المارقين جنوده ... بأقطارهم من قبل أن تمرح الشقر (1)
وغاو رمى في هوّة الملك قاذفا ... يد البغي، والرأي المضلّل، والغدر
أغار على الدّين الحنيف يهدّ من ... قواعده ما شاده القادة الغرّ
ملوك الهدى والقائمين بنصره ... قديما وسل فالبرّ ينبىء والبحر
25 ورام مراما دونه النّجم ساريا ... ولم يدر جهلا أنّه المرتقى الوعر
وهيهات يأبى الله ذلك والعلا ... ودين الهدى والملك والبيض والسّمر
جنى ثمر (2) الإيمان بالبغي واعتدى ... يؤمّل جهلا أن يؤيّده الكفر!
_________
(1) في نسخة «ط» تمرح الشعر.
(2) في الأصلين: ثمرة. ونرجح ما أثبت، للوزن.
(1/339)
________________________________________
فيا عجبا بعد السّعادة ناله ... شقاء وبعد الرّبح حمّ له خسر
سعى راشدا شطرا [من الدّهر] (1) وافرا ... فلما تناهى السعي واكتمل العمر
30 عصى الله في الشّطر الأقلّ، سفاهة ... ألا إنه ذاك الذّراع أو الشبر!
ورام غنى بالصفر (2) أو سدّ خلة ... وهيهات يغني فقر ذي الخلّة الصّفر!
وأمّل في أعدادهم كتم نفسه ... وإضمارها منعا فأخرجها الجبر!
لعلك-عيسى-رمت باسمك برّهم ... وما كلّ عيسى حظّه منهم البرّ!
دعوتهم للغدر لمّا اتّخذته ... سبيلا فقالوا: بدعة أمرها إمر (3)
35 فكان النّصارى منك أوفى (4) بذمّة ... وأكرم عهدا إنّ ذا لهو الوزر!
_________
(1) ورد البيت ناقصا، وما بين معقوفتين مقترح. وسقط البيت من «ط» بنقلة عين إذ ذكر ثلاث كلمات من البيت 29، ثم ذكر تتمة البيت 30.
(2) يريد أنه تقوى بالنصارى الإسبان فلم ينفعوه. وعبر عنهم بالصفر كناية. وكان شاع هذا الاستعمال في المشرق من قبل، ولم يكن في الأندلس ولا غزاتها صفر على الحقيقة. وفي «الصفر» التالية تورية لطيفة.
(3) أمر إمر: منكر عجب.
(4) في نسخة «ط» أوفى منك.
(1/340)
________________________________________
لئن رمت دنيا أنت قارونها الذي ... له الحرث والأنعام والخيل والتّبر
وإن كنت للأخرى جنحت ولم يكن ... أعد نظرا إن شئت، ما هكذا الأمر
أويت إلى تلك الرّبا غير صالح ... فأدركك الطّوفان وهو الظّبا البتر
وجرد كأمثال الروابي سوانح ... وغلب كأسد الغاب يقدمها النّصر
[94/أ]
40 وسعد إمام يخدم الدّهر سعده ... وتجري بما يومي به الأنجم الزّهر
ألا يا أمير المؤمنين الّذي اهتدى ... بنور هداه الباهر البدو والحضر
أطعت مليك الأرض ربّك فاغتدى ... يطيعك فيما رمت من أمرك الدّهر
وأنت الذّي جدّدت بعد دروسها ... مكارم قدما كان أخلقها العصر
مننت فأوسعت البلاد رغائبا ... ففي كلّ حيّ «حاتم» الجود أو «عمرو»
45 تداعت لك الآمال من كلّ وجهة ... لغنم وعلم، ذا جزيل وذا غمر
(1/341)
________________________________________
تصد عن الأملاك دونه رغبة (1) ... ولا نجم يستهدى وقد طلع الفجر
كأنّي بأقطار البلاد منيبها (2) ... ومن لم ينب قد قاده الطّوع والقسر
وأنّس أرجا تونس أمرك الذي ... هو العدل يرضي من له الخلق والأمر
وجاشت ببطحاها الجيوش وأصبحت ... «تقول بنو العبّاس قد فتحث مصر!»
50 لعمري لقد زنت الخلافة فاغتدت ... يقصّر عن أوصافها النظّم والنّثر
وراقت بك الدّنيا جمالا وبهجة ... فإظلامها فرع وإصباحها بشر
وأنجمها حلي ونجوى نسيمها ... ثناء بما تولي وإيماضها ثغر
ودونكها عذراء أجلو عروسها ... عليك ومرجوّ القبول له مهر
لها نسب في السّحر تعربه النّهى ... وإن قالت الأسماع: والدها الشّعر
55 وهنّئت عيد النّحر والفتح إنّه ... لك العيد منه، والعدا لهم النحر
بقيت لدين الله ردءا وعصمة ... فما غير علياك-الزمان-له ذخر!
_________
(1) و (2) كذا فيهما. ولم ينضبط لي.
(1/342)
________________________________________
وأنشدني أيضا لنفسه يمدحه ويصف قتل الأسد بين يديه (*) وكان السّلطان مولعا بقتل الأسود، فسيق إليه يوما أسد فقتل بين يديه بقصره من دار الإمارة المدينة البيضاء، والسّلطان المتوكل جالس بأعلى عليّة بالقصر ينظر للأسد. وأنا إذ ذاك جالس في ذلك [94/ب] الموضع أتنزه في قتل الأسد، في جملة من حضر ذلك الموطن مع السلطان. ووصف فيها أيضا أكرة الأسد وهي أكرة مستدارة من خشب معدّة، ويدخل فيها رجل يحرّكها ويمشي بها، فيرى الأسد الرّجل فيهمّ به ويدور بها ويضرب الأكرة بيده فلا يكسرها لشدّتها. ووصف فيها أيضا شبكة صيد الأسد في الفلاة، نصبت في ذلك اليوم بالقصر، واصطادوا بها الأسد بين يديه.
ووصف فيها أيضا الثّور الذي كان من عادته قتل الأسود في ذلك الموطن ووصف فيها أيضا بعد فراغه من قتل الأسد النّاعورة الكبيرة، والنهر والروض المسمى بالمصارة، وهو بإزاء القصر.
وهي:
ألف الجوى مذ بان سكّان اللّوى ... صبّ يهيج غرامه نفس الصّبا
وشجاه أن قيل الألى قد ودّعوا ... شطّ المزار بهم (1) وعزّ الملتقى
_________
(*) تحدث ابن الأحمر أيضا في كتابه نثير فرائد الجمان عن هذا الاحتفال، وسرد القصيدة المذكورة هنا. وقال إن الشاعر أنشده هذه القصيدة. ومعلوم أن المؤلف صنف نثير الجمان (هذا الذي نحققه) قبل نثير الفرائد بزمان طويل. «نثير الفرائد:350».
(1) في «ط بها».
(1/343)
________________________________________
حفظ الإله عهودهم وسقاهم ... صوب العهاد ولا سقى يوم النوى
ماذا أفادوا مصحرين بسحرة ... تظما وتضحى عيسهم رأد الضّحى
5 ولقد كفتهم واكفات مدامعي ... لما ثووا من أضلعي بالمنحنى
قسما لما راعوا بوشك نواهم ... روعي (1) وقد عبثوا بشكوى من شكا
إلاّ وقد نذروا دماء حرّمت ... ظلما، أراق الظلم منها واللمى
وبمهجتي منهم محجبة حمت ... قلبي السّلوّ ومقلتي طيب الكرى
حسانة نجلاء باهرة السّنا ... خمصانة جيداء عاطرة الشّذا
10 وقوامها كالغصن إلاّ أنّه ... يهتزّ بين البدر حسنا والنّقا
قالت وقد ودّعتها متجملا (2) ... إيه بعيشك عن فؤادك (3) هل سلا؟
_________
(1) في نثير الفرائد: روحي.
(2) تجمل: تكلف التجميل. يريد أنه أظهر التجلد.
(3) في نثير الفرائد «فؤادي».
(1/344)
________________________________________
فأجبتها وأبيك لا أسلو ولا ... حلّ الفؤاد هوى سوى هذا الهوى
حتّى يرى فقر بساحة بلدة ... وبها الخليفة فارس مغني الورى!
[95/أ]
ملك نمته إلى المكارم عصبة ... كرمت أواصرهم وعزّوا منتمى
15 ورث المعالي عن عليّ المجد عن ... عثمان عن يعقوب، أعلام الهدى
متهّلل ضاهى الغمام مواهبا ... ورغائبا فونى (1) الغمام وماونى
قطعا حبال رجاك ممّن دونه ... ملكا «فكل الصّيد في جوف الفرا»
ألق العصا بحماه وامتط سابقا ... (امدحه غرّا) (2) فنعم الممتطى
وأت (3) معارفه الجليلة إنّها ... بحر فرات لا تكّدره الدّلا
20 والشّمس من أنواره والفجر من ... بتّاره والطّود من ذاك الحجا
_________
(1) الونى: التعب والفترة.
(2) في نثير الفوائد: أمداحه غرا، والمثبت كما في الأصلين.
(3) في «ط» و «م» وابي، وفي نثير الفرائد وأبا. والمثبت مقترح.
(1/345)
________________________________________
والنّجم في ظلم الوغى من رمحه (1) ... ما ضلّ من أثنى عليه وما غوى
غمر جواد يستضاء بهديه ... وافى كما تهوى المكارم والتّقى
متوكل، بحر، وليس بجعفر ... أفضاله، بل زاخر جمّ اللهى
تتضاءل الأملاك دون مقامه ... والشّهب تخفى إن بدت شمس الضّحى!
25 يخشى ويرجى عابسا أو باسما ... وكذاك ذو البأس المصّمم والنّدى
يا غيث أنت كجوده متبجّسا ... لكن خصصت وعمّ أقطار الدّنا!
يا بدر أنت كوجهه متهلّلا ... لكن نقصت ودام مكتمل السّنا!
كم من جواد راجيا أولى الغنى ... عفوا ولا كأبي عنان مرتجى!
ولكم يرى يوم الوغى من فارس ... وك‍ «فارس» يوم الوغى ما إن يرى!
30 ذلّت لبطشته الأسود وإنها ... لتذلّ لولا عزّ (2) بطشته الطّلا
_________
(1) في الأصلين رمح والتصريب من نثير الفرائد.
(2) كذا في النسختين ونثير الفرائد. واقترح في نثير الفرائد أن تكون «إذ عانا لبطشته» مشاكلة للمعنى في الشطر الاول.
(1/346)
________________________________________
وضبارم رحب اللّبان تقلّه ... صهب متين خلقها، عبل الشّوا
يفترّ عن ناب كأطراف القنا ... بيضا (1) وينضو مخلبا حدّ الشبا
فتكت به بالقصر سمر رماحه ... بأكفّ أسد دوّخت أسد الشّرى
أمسى صريعا والدّماء سلافة ... أتراه سكرا مال من تلك الطّلا؟
[95/ب]
35 وثنى على زأراته كشحا وقد ... كانت يردّدها فرادى أو ثنى
لكنّ ألسنة القواضب أظهرت ... ما أضمرت جنباه من سرّ الحشا
ولقد رماه قبل مصرعه الرّدى ... من معضلات (مكابديه) بما رمى (2)
ومخاتل في جوف دائرة طوت ... أضلاعها منه على شهم فتى
يحكي بها رألا ببيضة سبسب (3) ... لم تنفرج عنه فأنفذها كوى (4)
_________
(1) في نثير الفرائد: أيضا.
(2) في الأصلين: مكابدة. والمثبت من نثير الفرائد.
(3) الرأل: ولد النعام.
(4) في الأصلين: فانفردها، والمثبت من نثير الفرائد.
(1/347)
________________________________________
40 يمشي الهوينا وسطها فتقلّه ... عدوا وما إن تشتكي ألم الوجى
حسب الغضنفر مرتقاها كعبة ... فدنا يطيل بها الطّواف وقد سعى
ولربّما ألقى عليها لامسا ... بأكفّه وسما وقبّل إذ سما
لكنه خبثت سرائره فلم ... يحمد على الإلمام منه بها الجزا
عجبا له ولجأش طفل لم يهب ... أسد الشّرى، وقد استشاط وقرددا
45 هذا ولم يبصر هناك بملجأ ... واق وقد تركوه منفردا سدى
قد كان طلّ دم له لما رنا ... أسد العرين له غضوبا وارتمى
لو لم تقم بالثّأر منه أساود ... كانت هنالك كامنات لا ترى!
منهنّ فاغرة له أفواهها ... بأكفّ كركبة ومنها ما التوى
ومدّبر (1) الروقين أصفر فاقع ... راق النّواظر نظرة لما بدا
_________
(1) كذا في الأصلين: وفي نثير الفرائد «مذرب» أي مدبب القرنين.
(1/348)
________________________________________
50 ما زال يدعو للنّزال أسامة ... ولقد أشار بظلفه (1) لما دعا
ولقد أراه مكان مصرعه وقد ... أدمى بساح القصر ينكت في الثّرى
ولقد أطال وقوفه مستقبلا ... حذر الهزبر مبارزا حتى انبرى
وعدا له والظنّ يقضي أن يرى ... وقد اعتلاه (2) فكان عكسا ما قضى!
جالت عليه صدمة من حارث ... تنسيك صدمة حارث يوم الوغى
55 أعجب بها من صدمة قد عفّرت ... لبد الهزبر وأوهنت منه القوى
[96/أ]
لا تلح روق الثّور إن أبصرته ... عن جانب اللّيث الطعين وقد نبا
ما كلّ دون كلاه لكن ساعة ... بقيت له ولكلّ عمر منتهى
فدعته في دعة إلى أمثالها ... ولتعذرنّ اللّيث يا ملك الهدى
أعدى فريسته عليه قولك «ابـ ... ـق» لذا وقولك للغضنفر «لا لعا»
_________
(1) في نثير الفرائد: بلفظه.
(2) في الأصلين: وقد اعتلى، والمثبت من نثير الفرائد.
(1/349)
________________________________________
60 عاجلت ذا هلكا فلم يعجز وقد ... أبقيت ذا منّا فجانبه المنى
إنّ الإله قضى بأن يجري القضا ... طوعا كما شاء المطيع المرتضى
وعلاكم ما حارث بمقاوم ... لأبيه لولا أن أردت به الرّدى
ولقد رأت منه العيون عجيبة ... راقت وقد أبلى النّواظر والنّهى
فأبحه جنّات المصارة خالدا ... فيها فبالجنّات يجزى ذو البلا
65 أحسن بها من روضة غنّاء قد ... غنّى الحمام بها طروبا أو شدا
حاكت لها الأنواء مطرف سندس ... أرج وشاه يد الرّبيع بما وشى!
وبجانب «البيضاء» منها مرتقى ... جبّارة الأرجاء سامية الذّرا
كرحى الصّياقل ما سعت لتديرها ... رجل ولا نسبت لأمهاء المدى (1)
أترى حسام النّهر جلّل متنه ... صدا فما تنفكّ تجلوه جلا؟
_________
(1) أمهاء ج مهو: السيف الرقيق. وفي نثير الفرائد: لإمهاء المدى (بكسر الهمزة) من أمهى الحديدة: أحدها وشحذها.
(1/350)
________________________________________
70 ناعورة لا بل أبثك إنّه ... وغدت تكّنفه البروج وقد رقا
فلك مضى في الرّوض ما حكمت به ... أدواره والقطب منه وما اقتضى
فقضى برفع الماء إلا أنّه ... قد خفّض الأدواح عيشا والرّبا
حسن بديع في حمى ملك له ... حسن الزّمان، وقام في أبهى حلا
يا أيّها الملك الذي أضحى به ... دين الإله قرير عين والعلا
75 هيهات لا يجدي عدوّك جدّه ... يأبى وحقك ذاك جدّك والقضا
وعلاك لو ناواك أجدل كاسر ... لتخطّفت أشلاءه كدر القطا!
[96/ب]
إنّ الذي لمّا تزل متوكلا ... قدما عليه لكافل لك بالمنى
الله أولاك السّعادة فليفض (1) ... كمدا حسودكها ويأبى من أبى!
أغرق بطوفان الكتائب عصبة ... عاذت بمعتصم الجبال من العدا
_________
(1) فاض فيضا وفيوضا: مات.
(1/351)
________________________________________
80 اشف (1) صدور السّمر واردة دما ... تلك الصّدور وسم هوانا من عتا
انهد لأرض الرّوم وارم غواتهم ... بالشّهب من أطراف ميّاد القنا
فكأنّني ببلادهم وأبحت ما ... لم يلف للإسلام منها للبلا
وسبيت بيض ظباهم قسرا على ... حكم الظّبا وتفرّقت أيدي سبا (2)
واستشرفتك لمرتجى إنقاذها ... أعلام ذات النّهر حمص والقرى (3)
85 قسما لئن نسأ المهيمن لي مدى ... حتّى تحلّ بأفقها بدرا بدا
لتسوّغنّي من مريع (4) جنابها ... ما بزّ آبائي بها فيما مضى
وإليكها دررا فإنّي منتق ... ما راق منها للنّظام وما غلا
مقصورة بخيام فكري أعرضت ... عمّن سواك وأمّمتك على حيا
_________
(1) رسمها في الأصلين ونثير الفرائد: اشفي.
(2) كنى بالظباء عن بنات الأعداء المهزومين السبايا والظبا ج ظبة وهي حد السيف.
(3) حمص (الأندلس) هي مدينة إشبيلية. وكانت على أيام المرينين قاعدة مملكة قشتالة بعد طليطلة.
(4) في نثير الفرائد: بديع.
(1/352)
________________________________________
حسناء يهوى كل عضو لو غدا ... أذنا وقد تليت تصيخ لمن تلا
90 تثني عليك علا بأطيب نكهة ... ممّا به أثنى الرّياض على الحيا
لا زلت والأقدار جارية بما ... تهواه ما كرّ الصّباح على الدّجى
وبلغت ما ترجوه من أمل على ... عجل ودام لك السّعادة والبقا
(1/353)
________________________________________
الباب الحادي عشر
فيما بلغنا من شعر قضاة المغرب وفقهائها
الفقيه القاضي الخطيب محمد بن علي بن عبد الرزاق الجزولي
(*) [كنيته:]
يكنى أبا عبد الله وأدركته، ورأيته، ويعرف بابن عبد الرزاق وبابن الحاج [97/أ] وهو من أهل فاس. وكان أبوه علي بن عبد الرزّاق فقيها متفننا محدثا حافظا صالحا. وله رحلة إلى المشرق قضى فيها فريضة الحج وأخذ عن علماء المشرق. وأبو عبد الله هذا ولي قضاء الجماعة بفاس في دولة أمير المسلمين أبي الحسن، وقدم للخطابة بجامع القرويين في فاس-رحمه الله-.
_________
(*) من شيوخ ابن خلدون، ترجم له في «التعريف» ص 65، وترجم له أحمد بابا في نيل الابتهاج 249، والمقري في نفح الطيب 5:241، والكتاني في سلوة الانفاس 2:276 نشأ أبو عبد الله محمد الجزولي بفاس، وتلقى فيها علومه، ثم ارتحل إلى تونس وأخذ عن طبقة شيوخها وروى عن علمائها. وعينه أبو الحسن المريني على قضاء فاس. واستمر على خدمته في القضاء حتى عزله أبو عنان المريني بالفقيه أبي عبد الله المقري. ولكن أبا عنان جمع مشيخة العلم في مجلسه للاستفادة منهم، وكان فيهم الجزولي فأخذ عنه الحديث وقرأ عليه القرآن الكريم. وتوفي الجزولي أواخر مدة أبي عنان، سنة ثمان وخمسين وسبع مئة. ونقل في نيل الابتهاج عن أحد المؤرخين قوله في الجزولي «كان فقيها، قاضيا، معمرا، راوية من الفضلاء». وترجم له أيضا ابن القاضي في جذوة الاقتباس 39.
(1/355)
________________________________________
حاله-رحمه الله تعالى-:
كان من أولي المعرفة بالحديث، بصيرا بالقديم من القريض والحديث.
وأمّا الإنشاء، فكان يصوغ منه ما يشاء. وهو أمير حلبته، ورئيس طلبته!
فمن قوله هذه الأبيات والرسالة جاوب بها بعض أصحابه من الفقهاء والأعلام:
أما ومعان قد نظمت مقصّرا ... فأطلعتها غرّاء في أفق الفكر
وأودعتها من حلّ سحرك نفثة ... أحالت إلى التّحليل غائلة السّكر
لقد نسمت من روض علمك نفحة ... تناست بها الألباب عاطرة الشّحر (1)
وأهديت لي بكرا تكامل حسنها ... فأكرم بها حسناء عالية القدر
لها غزل ينسي اللبيب وقاره ... لها زجل بالحمد يغني عن الشّكر
تحيّي فتحيي من هوى النّفس داثرا ... يجدّد لي عهدا بما ضلّ عن فكري
_________
(1) ساحل البحر بين عمان وعدن. وفي الروض المعطار: والشحر مدينة كبيرة وليس بها زرع ولا ضرع، ويكون بها العنبر.
(1/356)
________________________________________
سيدي! شرح الله له بالمعارف صدرا، ووضع عنه من ملاحظة الأغيار إصرا، ورفع له في مقامات العلماء العاملين ذكرا، ووهبه على مكابدة إبراز الموجب عليه في ذلك أجرا. ما زلت أرتقب صبح وصاله أن يتنفس ولا يتعوص، وآمل لحظة من إقباله أتميز بها مزية من اختصاصه وأتخصص. إلى أن تنفس ذلك الإصباح وتبلج، وتعطر الأفق بأنفاسه الكريمة وتأرج. فأطلع سيدي من مواصلته شمسا، وأوجد بملاطفته [97/ب] المشعرة بالاختصاص أنسا، وخلع من حلاه ما أوجب لمحلاه أن قرّ عينا وطاب نفسا.
وجهز من بنات فكره عقيلة طالما تطاولت إليها الأعناق فجدت، (1) لنيل صلاتها الآمال فصدت. ووقفت بباب حملتها أعزة الخطاب منافسة في طلابها فرّدت. أرسل بها لا عدمت أفضاله متوددا، وارتضى لها بحسن اختياره حبا لم يزل حول حماها مترددا. أظنه أبقاه الله توسم خلوصه لها بأنوار خلوصه، وأمضى له من حكم استحقاقه ما ثبت لديه لزومه بأدلة نصوصه. وغير بدع من ذي بصيرة منيرة أن يتوسم، أو محب يجد الروح من تلقاء حبيبه إذا تنسّم. فابتهجت بورودها بشرا، وقبلت نفحة حسنها شفعا ووترا. وأخلقت بردها طيا ونشرا، ونذرت أن أصوم من أيام العمر عشرا! وكيف لا؟ وقد ألفيتها قد حليت من الدرر النفيسة بمنثور ومنظوم، وباحت لي من المعارف بسر عن غير أهله مكتوم. ونازعتني كأس خلوص أصبحت بنشوته أقعد وأقوم. شكر الله لمهديها إحسانه، ولا زالت العفاة تجد من إفضاله روحه وريحانه!
_________
(1) هكذا فيهما، باتصال الكلام.
(1/357)
________________________________________
شيخنا الفقيه الخطيب القاضي محمد بن أحمد بن عبد الملك بن
شعيب بن عبد الله بن موسى بن مالك الفشتالي (*)
[كنيته:]
يكنى أبا عبد الله وأدركته ورأيته. وهو من أهل فاس، من بيت صلاح وعلم.
ووالده أحمد كان خطيبا بجامع قصبة فاس. واختطب أيضا بجامع مدينة سجلماسة في دولة ملكها أمير المؤمنين أبي علي عمر المريني، وكان شاعرا مجيدا. وعبد الملك والد أحمد ولي القضاء والخطابة بالمدينة البيضاء دار الإمارة في حضرة فاس، وبمحلة أمير المسلمين أبي يعقوب يوسف المريني. وشعيب والد [98/أ] عبد الملك كان فقيها ذا نعمة وثروة، ذا جاه من السلطان، من أهل الخير والدين. وعبد الله والد شعيب كان فقيها مفتيا مدرسا بفاس، صالحا ورعا زاهدا مكاشفا. وكان من الدين
_________
(*) أبو عبد الله محمد بن أحمد الفشتالي، قاضي الجماعة بفاس (ت 779) من علماء فاس، وقضاتها المشهورين. قدمه السلطان أبو عنان المريني للخدمة قاضيا بحضرته في فاس، واختصه، واشتمل عليه. وترجم له لسان الدين بن الخطيب في الإحاطة وذكر بعض أحواله وأخباره وصفاته، وأدرجه في كتابه لتردده على الأندلس في غرض السفارة. ونقل أحمد بابا عن أبي زكريا السراج في فهرسته شيئا من ترجمة السراج لأستاذه وشيخه الفنتالي، فقال «شيخنا الفقيه الخطيب البليغ المدرس العالم العلم المتفنن الصدر الأوحد قاضي الجماعة كان عالما بالفقه، مشاركا في غيره من العلوم، مسددا في الفتاوى، عارفا بأخذ الشروط، له حظ وافر من الرواية، شاعر مجيد وكاتب بليغ، حسن المعاملة للطلبة. .» ووصفه ابن الخطيب القسنطيني بأنه «له عقل وسمت لم يكن لغيره من القضاة، وله مجلس جليل في العلم». (انظر نيل الابتهاج:265، والإحاطة 2:133 ونفح الطيب 5:342 والمرقبة العليا 170 ونسبه فيه: محمد بن أحمد بن عبد الله الفشتالي. وسلوة الأنفاس 3:259).
(1/358)
________________________________________
والصلاح في المحل [الذي] لا يخفى، ومكاشفاته وعلو منزلتة أكثر من أن تحصى وموسى والد عبد الله كان من أهل الصلاح الفائق والورع العظيم.
ومالك والد موسى كان صالحا ملازما للخير.
وفشتاله، قبيلته، هم قاطنون بحوز فاس. وذكر فيهم ابن أبي زرع (1) في تاريخه أنهم فرع من صنهاجة من حمير، عرب الأصل.
وأبو عبد الله شيخنا هذا هو الآن قاضي الجماعة بفاس، وخطيب بالمدرسة التي بناها السلطان أبو عنان بإزاء باب المحروق (*). وهو أحد المفتين بفاس، ويدرس المدونة وغيرها بالمدرسة التي بالعطارين. وحضرت حلقته غير مرة وأخذت عنه وأجازني إجازة عامة.

حاله-سلمه الله-:
له علم بالتوثيق وصناعته، وطريق إلى صياغته في حلل براعته.
وهو مفت في المسائل الفقهية، ومتفنن في العلوم الأدبية، وله مشاركة في جميع العلوم النظرية والتعالمية. وله ذهن ثاقب، ونظر في ميدان البحث لا يجاريه فيه فقيه ولا طالب. واعتناء بالعلوم الشرعية، واقتناء بالمعالي البيانية. إلى وقار وبها، وثقوب فطنة ونهى، وهمّة سمت فوق السّها.
فمن قوله يمدح أمير المؤمنين المتوكل على الله أبا عنان (2)
أيا إماما ندى كفّيه قد وكفا ... حسبي اعتصامي بحبل منكم وكفى!
_________
(1) الإمام الفقيه أحمد ابو العباس. وكتابه «الانيس المطرب بروض القرطاس في أخبار ملوك المغرب وتاريخ مدينة فاس». توفي سنة 717.
(2) ذكر أحمد بابا في نيل الابتهاج البيتين الأولين من هذه القصيدة، وقال في التقديم لهما إن للفشتالي نظما حسنا وكتابة رائفة، وضرب بالبيتين مثلا.
(*) هو أحد أبواب فاس وكان يسمى باب الشريعة.
(1/359)
________________________________________
وكيف أصرف وجه القصد عن ملك (1) ... ما صدّ عني سنا بشر ولا صرفا
ما إن شكوت بما أضنى تطلّبه ... إلا وجدت لديه من ضناي شفا
[98/ب]
ولا وقفت عليه منتهى أملي ... إلا قضى وطرا منه وما وقفا
في كلّ يوم له تجديد عارفة ... مهما انقضت هذه لهذه ائتنفا
وليس ممّن يرى أن لا يتيح يدا ... حتّى يقام له بالشّكر ما سلفا
وكان قد بعث إليه ذو الوزارتين الحاجب القائد الرئيس الفقيه الخطيب الكاتب صاحب القلم الأعلى أبو عبد الله محمد بن عبد الله ابن سعيد بن الخطيب السّلماني، وزير أمير المسلمين أبي الحجّاج يوسف بن عم أبينا ووزير ابنه أمير المسلمين الغني بالله محمد المخلوع رسالة، وصدّرها بأبيات، كلّ ذلك من قوله، وهما (2):
_________
(1) في نيل الابتهاج: عن مالك، وهو تحريف.
(2) يريد: الرسالة والأبيات. وقد نقل لسان الدين بن الخطيب الرسالتين في كتابه الإحاطة في أخبار غرناطة «2:134 - 136». وقال في التقديم لهما «ولما كان عام الإزعاج» من الأندلس عند النكبة التي أصابت الدولة بلوت من فضله ونصحه وتأنيه ما أكد الغبطة وأوجب الثناء وخاطبته بما نصه. . .». و (عام الإزعاج) الذي تحدث عن ابن الخطيب هو العام الذي حدث فيه الانقلاب على دولة مخدومه محمد الغني بالله النصري وآلت بعده السلطة إلى سواه، في المدة بين 761 - 762.
(1/360)
________________________________________
من ذا يعدّ فضائل الفشتالي؟ … والدّهر كاتب آيها والتّالي
علم إذا التمسوا الفنون فعلمه … مرعى المسيم ونجعة المكتال
نال الّتي لا فوقها من رفعة … ما أمّلتها حيلة المحتال
وقضى قياس تراثه عن جدّه … أنّ المقدّم فيه غير التّالي
قاضي القضاة! بماذا أثني على خلالك المرتضاة (1)؟ أبقديمك الموجب لتقديمك، أم بحديثك الداعي لتحمّل حديثك؟ وكلاهما غاية بعد مرماها، وحام التصور حماها، والضالع (2) لا يسام سبقا، والمنبتّ لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى؟ وما الظنّ بأصالة تعترف بها الآثار وتشهد، وأبوة صالحة كانت في غير ذات الله (3) تزهد.
وفي نيل الاتصال به تجهد، ومعارف تقرر قواعد الحقائق وتمهد، وتهزم الشبه (4) إذا تنهد. وقد علم الله أنّ جوارك لم يبق للدّهر جورا، ولاحت من غصني ورقا ولا نورا. هذا وقد زأر عليّ أسدا وحمل (5) ثورا، فقد أصبحت في ظل الدولة التي وقف على سيدي اختيارها، وأظهر خلوص إبريزه معيارها. تحت كنف، وعزّ مؤتنف، [99/أ] وجوار أبي دلف، وعلى ثقة من الله بخير خلف (6). وما منع [من انتسابي لما لديه] (7) من الفضائل رحلة لم يبرك بعد جملها،
_________
(1) في الإحاطة: قاضي الجماعات. . . خلالك المرضاة.
(2) الضلع: الاعوجاج، وهو في البعير بمنزلة الغمز في الدواب. (وظلع البعير-بالضاء- غمز في مشيته).
(3) في الإحاطة: في غير ذات الحق.
(4) في الإحاطة: الشيب.
(5) في الإحاطة: أو حمل.
(6) في الإحاطة: أن يحسن الخلف.
(7) في الأصلين: من انثياب ما لديه، ورجحت رواية الإحاطة.
(1/361)
________________________________________
ولا فرغ عملها، وأوحال حال بيني وبين مسوّر البلد القديم مهملها (1) ولولا ذلك لاغتبط الرّائد، واقتنيت الفوائد.
والله يطيل بقاءه حتى تتأكد القربة، التي تنسى بها الغربة.
وتعظم الوسيلة، التي لا تذكر معها الفضيلة. وأمّا ما أشار به من تقييد القصيدة التي نفّق سوقها استحسانه، وأنس باستطرافها إحسانه؛ فقد أعمل وما أهمل، والقصور باد إذا تؤمّل، والإغضاء أولى ما أمل.
فإنما هي فكرة أخمدت نارها الأيام، وغيرت آثارها اللئام. وكان الحق إجلال مطالعة سيدي عن خللها، وتنزيه رجله (*) عن تقييد مرتجلها. لكن أمره ممتثل، و «أتى من المجد أمر لا مردّ له» مثل! (2)
فجاوبه بقوله:
وافت يجرّ الزهو فضلة بردها ... حسناء قد أضحت نسيجة وحدها
لله أيّ قصيدة أهديت لو ... يهدى المعارض نحو غاية قصدها (3)
لابن الخطيب بها محاسن قارعت ... عنه الخطوب ففللّت من حدّها (4)
_________
(1) في الإحاطة: مسود البلد القديم مهلها.
(*) هكذا فيهما «رجله».
(2) قال في الإحاطة في ختام الرسالة «والسلام على سيدي من معظم قدره وملتزم بره محمد ابن الخطيب، ورحمة الله، فكتب إلي مراجعا، وهو المليء بالإحسان. .».
(3) في الإحاطة «لم يهد المعارض» وهو أقدم.
(4) في الإحاطة:
لابن الخطيب بها محاسن جمة ... يلقى الخطيب فهاهة في عدها!
(1/362)
________________________________________
سرّ البلاغة منه أودع حافلا ... قد صانه حتّى فشا من عندها
في غير ما عقد نفثت بسحرها (1) ... فلذا أتى سلسا منظّم عقدها
لم أدر ما فيها رقمت معنونا ... من طرسها أو معلما من بردها (2)
حتّى دفعت بها لأبعد غاية ... باعي تقاصر في البلوغ لحدّها
حرّان من نظم ونثر آب من ... يلقاهما منها بذلّة عبدها
أولى يدا بيضاء موليها فما ... لي من يد في أن أقوم بحمدها
فبذلت شعري رافعا من برّها ... وهززت عطفي رافلا في بردها
ورفضت تكذيب المنى متشيّعا ... لعليّ مرآها بصادق وعدها!
[99/ب]
خذها أعز الله جنابك، وأذلّ للأنس على الوحشة اغترابك.
كنغبة الطائر المتحفز، ونهبة السائر المستوفز (3) ومقة اللحظ، قلقة
_________
(1) في الإحاطة: في غير عقد نفثته.
(2) هذا البيت هو الأخير في الإحاطة، وما بعده جاء قبله.
(3) في الإحاطة: كغبة الطائر المتجعد: ونهبة السائل المسترفد.
(1/363)
________________________________________
اللفظ (1) قد جمعت من ترامها وانقحامها (*) بين بطمة فند، وصلود زند، ونوّعت فعلي إقدامها وإحجامها إلى قاصر ومتعد (2)، وليتني إذ جادت سحابة ذلك الخاطر الماطر الودق، وانجابت المعاني عن مزنة فكرتي (3) بتقاضي الجواب انجياب الطرق، أيقنت أني قد سدّ علي باب القول وأرتج، وقلت هذه السالبة الكلية (4) لا تنتج! فنبذت طاعة الداعية من تلكم الإمرة، ولم أفه إذ أعوزت الخلوة بالمرّة (5)، لكني قلت وجد المكثر كجهد المقل، والواجب قد يقع الامتثال فيه بالأقل. فبعثت بها على علاتها، وأبلغتها عذرها في أن كنيت عن شوقها بلغاتها. وهي لم تعدم من سيدي إغضاء كريم، وإرضاء مليم (6).
والله سبحانه يصل بالتأنيس الحبل، ويرد الألفة ويجمع الشمل.
والسّلام (7).
وكتب إليه أيضا ذو الوزارتين محمد بن الخطيب المذكور إثر نكبة أنكبه أمير المسلمين المستعين بالله أبو سالم إبراهيم المريني، من غير ذنب فعله، أغرى به السلطان حسدا له:
تعّرفت أمرا ساءني ثم سرّني ... وفي صحّة الأيّام لا بدّ من مرض
تغمّدك المحبوب بالذات بعد ما ... جرى ضدّه والله يكفيه بالعرض
_________
(*) التريم (كأمير) المتواضع. والبطمة الحبة الخضراء أر شجرها. والفند الغصن.
(1) في الإحاطة: رميكية اللحظ.
(2) ساقط في الإحاطة.
(3) في الإحاطة: وانجاب العشا عن قريحة فكرتي.
(4) و (5) ساقطة من الإحاطة.
(6) في الإحاطة: ورضاء سليم.
(7) في الإحاطة: والسلام الكريم يخص تلك السيادة ورحمة الله وبركاته، محمد بن أحمد الفشتالي
(1/364)
________________________________________
في مثلها-أبقى الله سيدي-يجمل الاختصار، وتقرر الأنصار وتطرق الأبصار. إذ لم يتعين ظالم، ولم يتبين يقظ ولا حالم. وإنما هي هدية أجر، وحقيقة وصل عقّبت مجاز هجر. وجرح جبار، وأمر ليس به اعتبار، ووقيعة لم يكن فيها إلا غبار! وعثرة القدم لا تنكر، والله يحمد في كلّ ويشكر. وإذا كان اعتقاد الخلافة لم يشبه شائب، وحسن الولاية لم يعبه عائب، والرعي دائب، والجاني [100/أ] تائب، فما هو إلا الدهر الحسود لمن يسود، خمش بيد ثم سترها (؟)، ورمى عن قوس ما أصلحها-والحمد لله-ولا أوترها.
إنما باء بشينه، وجنى من مزيد النعمة سخنة عينه. ولا اعتراض على قدر أعقب بحظ مبتدر، وورد نغّص بكدر، ثم أنّس بأكرم صدر. وحسبنا أن نحمد الدفاع من الله والذّب، ولا نقول-مع الكظم- إلا ما يرضي الرب. وإذا تسابق أولياء سيدي في مضمار، وحماية ذمار، واستباق إلى برّ وابتدار، بجهد اقتدار، فأنا-ولا فخر-متناول القصبة، وصاحب الدّين من بين العصبة، لما بلوت من برّ أوجبه الحسب، والفضل الموروث والمكتسب، ونصح وضح منه المذهب، وتنفيق راق منه الرّداء المذهب. هذا مجمل (1) وبيانه عن وقت الحاجة مؤخر، ونبذة سرّه (؟) لتحقيقها يراع مسخر. والله أعلم بما انطوى عليه لسيّدي من إيجاب الحق، والسّير من إجلاله على أوضح الطّرق، والسلام.
فجاوبه بقوله:
وأيم الله إبرارا لأيم (2) … لقد جلّى كتابك كلّ غمّ
وساهم في الحوادث من رمته … ففاز من الوفاء بخير سهم
_________
(1) فيهما «مجهد» ونرجح ما أثبت.
(2) أيمن الله وأيم الله «اسم وضع للقسم».
(1/365)
________________________________________
يا سيّدي. أمدّ الله في أنوار تلكم الطريقة المثلى، وبارك.
وجزاها جزاء من ساهم على الحقيقة في الجلّى، وشارك. وصل كتابكم الصّادق الصفاء؛ الصادر عمن لم يرض من الوفاء باللّقاء.
فثأى (1) من صدع الأيام ورأب. ونأى في دفع الأوهام وقرب.
وهو الدّهر-أبقاكم الله-لا تثنى فلتاته. ولا يبني على عقد صفائه يوم لوى ولائه إلاّ كدره بالنّقض مفتاته. هذا ولو حاسب الإنسان نفسه لاستحقر ما استعظم. وعلم أنّ «ما لا يرى مما وقى الله أعظم». فآه آه! ومن جني عليه فليستغفر الله. فغفرا اللهمّ غفرا. وحمدا على السراء والضرّاء، وشكرا.
وسيدي-أعزّه الله-المشكورة أياديه، المبرورة غاياته الجميلة [100/ب] ومباديه. والله-سبحانه-يعين على واجبكم، ويشكر في حسن الإخاء جميل مواهبكم. والسّلام.

شيخنا الفقيه القاضي الحسن بن عثمان بن عطيّة بن موسى بن
يوسف بن عبد العالي التّجاني المعروف بالوانشريسي (*)
[كنيته:]
يكنى أبا عليّ، وأدركته، ورأيته.
وهو من أهل مكناسة الزيتون. ومولده بتاوريرت (2) من حوز
_________
(1) الثأي الإفساد، والرأب: الإصلاح.
(*) ترجم له أحمد بابا في نيل الابتهاج «107»، ونقل عن فهرسة ابن الاحمر وقال فيه: شيخنا الفقيه المفتي المدرس القاضي أبو علي بن الشيخ الصالح عطية. توفي سنة 781. وترجم له في سلوة الانفاس 3:259.
(2) ذكر في الاستبصار أن مكناسة الزيتون تسع خطب، عد منها «تاورا» 188.
(1/366)
________________________________________
مكناسة. وهو من قبيلة تجّين. وآباؤه كلّهم فرسان أولو شجاعة.
وجدّه عطيّه هو الذي ارتحل منهم عن بلاد التّجانيّة، واستقر ببلاد مرين ملوك المغرب في دولة السّلطان أبي يعقوب يوسف، وكان فارسا شجاعا، فاستخدمه ملوك مرين ثمّ تخلّى عن الخدمة السلطانية وأقبل على طلب الآخرة؛ وسكن بحوز مكناسة. وكان له أولاد نجباء فقهاء وهم: عثمان-وهو أكبرهم-وهو والد شيخنا القاضي أبي عليّ هذا. وعبد الله-وهو الذي يليه-والحسن. وهؤلاء الثلاثة أشقاء. ويونس وإبراهيم. وكلهم فقهاء.
وأمّا الحسن منهم فهو فقيه متفنّن حافظ بمسائل الفقه بصير (1) بالفروع واللغة والحديث والتاريخ؛ وهو أحد المفتين بفاس.
وأما (2) كتاب الإمام العالم المفتي المدرّس الصالح أبي إسحاق إبراهيم ابن عبد الله بن عبد الرحيم اليزناسني وغيره من فاس يسمّونه ابن رشد لحفظه لمسائل الكتاب المذكور (2). وهو-مع معرفته بالعلم- (3) متورّع، متواضع، حسن الأخلاق، صادق اللهجة، شديد في الحقّ. وولي القضاء ببادس (4) في دولة السلطان أبي الحسن المريني. وهو الآن في هذا الوقت الذي ألّفت فيه كتابي هذا بفاس يقرئ بجامعها الأعظم المسمّى بالقرويين: المدوّنة والجلاّب والرسالة وكل ذلك لم أغب عن حلقته لاقتباس [101/أ] علمه وبركته، وذلك حين
_________
(1) في «م» و «ط» بصيرا، ونرجح ما أثبت.
(2) هكذا فيهما.
(3) توفي الفقيه اليزناسني 775 وكان قاضيا صالحا.
(4) بادس مدينة بالمغرب. انظرها في الاستبصار 175 والروض المعطار 74.
(1/367)
________________________________________
مقامي بفاس لمّا أخرجنا عن بلادنا الأندلسيّة بنو عمنا الملوك بنو (1) الأحمر من بني نصر.
نرجع إلى ذكر شيخنا القاضي أبي عليّ الحسن المذكور. كان قد برز عدلا-في صغره-في سماط شهود مكناسة. ثم ارتحل إلى فاس، فاستنابه في القضاء شيخنا القاضي الخطيب الإمام المفتي المدرّس أبو عبد الله الفشتالي (2). ثم قدّمه السلطان أبو فارس عبد العزيز المريني على قضاء بلده مكناسة. ثم أنقله (3) منها، وولاّه القضاء بسلا. ثم تخلّى عن القضاء. وهو الآن في سماط شهود فاس عدل. ويقرئ في هذا الوقت بجامع القرويّين كتاب ابن الحاجب الفرعي. وهو أحد شيوخ حضرت حلقته في كتاب ابن الحاجب.
وأجازني إجازة عامّة.

حاله-سلّمه الله تعالى-:
له باع في الفرائض والفروع جسيم، وسماوة همّة وذكاء وسيم.
وشعره فيه حلاوة، وكلامه فيه عذوبة وعليه طلاوة. كان قاضي الجماعة الفشتالي بفاس قد استنابه، فأظهر في الحقّ صلابه. ثمّ استقضاه السّلطان بمكناسة وسلا؛ فجدّ في إقامة الشّرع ولا الحقّ سلا. ولم ير له ما يستقبح في أحكامه، بطلول أيامه.
_________
(1) في الأصلين: بني.
(2) راجع الترجمة السابقة للفقيه القاضي الفشتالي.
(3) في الأصلين: أنقله.
(1/368)
________________________________________
كنت قد تفكرت يوما في ذنوبي-وأنا بفاس-حين مقامي بها -في حضرة الملوك من بني مرين-فرأيتها جمة أعظم من أن أحصيها، فأحزنني ذلك، وساءني، فبعثت له بقولي:
يا أوحد الفقهاء والكبراء … وأخي التّقى والفضل والعلياء
قل لي وقاك الله كل مساءة … وحباك كلّ مسرّة وبهاء! -
كيف الخلاص من الهوى وأنا له … تبع مدى الإصباح والإمساء؟
فجاوبني بقوله:
يا ابن الملوك الأكرمين ذوي العلى … أهل الوفاء وملجأ الضّعفاء
هذا قريضك قد أتاني منبئا … عن بعض ما أودعت من علياء
[101/ب]
وطلبت ما ينفي متابعة الهوى … وينيل كلّ مسرّة وبهاء
فاعلم فدتك النّفس أني أشتكي … فوق الذي تشكو من البرحاء
ولعلّ مولانا ينيل جميعنا … عزّ التّقى في زمرة السّعداء
أمسكت رقعتك التي وجّهتها … من كونها خصّت بحسن ثناء
وعليك مني ألف ألف تحيّة … في ضعفها تترى بكلّ ثناء
***
(1/369)
________________________________________
شيخنا الفقيه القاضي الخطيب الحاج عبد الرحمن بن محمد بن عبد
الرحمن بن عبد الله بن الفقيه الامام القاضي أبي الوليد محمد الحفيد بن الفقيه
القاضي أبي القاسم أحمد بن الفقيه الامام القاضي أبي الوليد محمد بن أحمد بن
رشد الأموي (*).
[كنيته:]
يكنى أبا القاسم، وأدركته ورأيته. وأجازني في القصيدة الموسومة بالبردة التي أولها:
*أمن تذكّر جيران بدي سلم*
نظم الفقيه أبي عبد الله محمد شرف الدين البوصيري.
ومولده بسجلماسة (1) «وأصل سلفه من الأندلس. وهو من ولد الحفيد ابن رشد، وبابن الحفيد يعرف. واستوطن مدينة فاس في بعض الأحيان. واستقضاه بأصيلا (2) السلطان أبو فارس عبد العزيز المريني. واختطب في بعض بلاد النصارى بالرّجل (3).
_________
(*) أكثر المترجمون وأصحاب التواريخ من الترجمة لابن رشد الجد (الفقيه) وابن رشد الحفيد (الفقيه المتفلسف) ولم أعثر-فيما بين يدي الآن من مراجع-على ترجمة للقاضي الخطيب ابن رشد الذي يترجم له ابن الأحمر.
(1) سجلماسة: مدينة في بلاد المغرب، قال في الاستبصار: وهي على طرف الصحراء لا يعرف في قبليها ولا غربيها عمران، بينها وبين غانة صحراء مسيرة شهرين في رمال وجبال. وهي مدينة محدثة بنيت سنة 140 هـ‍. قال: وهي كثيرة النخل والأعناب وجميع الفواكه، وتقع على نهرين ينبعان من عنصر (نبع) واحد. وقال محقق التعريف بابن خلدون «وسجلماسة الآن مقاطعة في جنوب المغرب تسمى الآن تافيلالت»
(2) أصيلا «وتكتب أيضا: اصيلة وازيلا» بلد بقرب طنجة. قال الحميري: وأصيلا أول مدن العدوة من جانب الغرب. وهي مدينة محدثة أسهم الاندلسيون في تمصيرها.
(3) كذا العبارة في الأصلين.
(1/370)
________________________________________
حاله-أكرمه الله-:
هو آخذ من اللغة بأزكى نصيب، وسهمه من النحو مسدد مصيب.
ينظم من الشعر الأبيات الحسنة، ويتكلم في الفقه بمسائل في البراعة ممكنة.
وباعه في الحديث مديد، كما هو بصير بالطارف من التاريخ والتليد.
وأما الفصاحة فهو ابن بجدتها، وأما البلاغة فهو عين نجدتها.
أنشدني لنفسه [102/أ]:
وذي شنب متى أنظر بطرفي … إليه استلّ من لحظ ذبابا (1)
تبسّم عن عقيق فوق در … فخلت الخمر قد حملت حبابا
أذوب إذا بدا شوقا إليه … ولو زارته أنفاسي لذابا
فإن أزرى به شيطان واش … أحلت عليه من حرقي شهابا
وأنشدني أيضا لنفسه مواطئا (2) على البيت الثالث:
تحام بلاد الغرب ما عشت إنّها ... ظلام وحزن دائم وحروب!
وخيّم بلاد الشرق تلق بها المنى ... فللخير أنواع بها وضروب
«ففي الشّرق من أجل الشّروق مسرّة ... وفي الغرب من أجل الغروب كروب!»
_________
(1) ذباب السيف: حده.
(2) المشهور: موطئا. ووردت في الأصلين «مواطئا».
(1/371)
________________________________________
صاحبنا الأستاذ النحوي المقرىء عبد الرحمن بن علي بن صالح المكودي (*):
[كنيته:]
يكنى أبا زيد، وهو من أهل فاس، وبها رأيته، وصحبته.
حاله: هو شاعر مجيد، ومبدىء في البلاغة ومعيد. قد فاق في النحو، وسلم نظمه من الحشو. مقرىء للعلوم الأدبيّة، بنفس مطاوعة غير أبيّه.
وكنت قد سألته شيئا من نظمه، لأنشر رداء معرفته وفهمه.
فأبطأ عليّ بالجواب دهرا، حتى جمع من شعره نزرا. وكتب ذلك في أوراق، وذيّل بكلامه الذي راق. وذكر في أول كلامه اسمي، وطرزه برسمي. لما توالى تكرار السؤال عليه، ودؤب الطلب مما من النظم لديه. وبعث بذلك إلي، وألقى زمامه في يديّ. واخترت منه ما يعلمه (1) باتساع باعه، وانطباع طباعه.
وهذا ما كتب في صدر كلامه، وما ذيل به عند ذكر نظامه:
_________
(*) أبو زيد عبد الرحمن المكودي (ت 708)، فاسي. ونسبته «المكودي» إلى بني مكود إحدى قبائل هوارة. وكان المكودي «إماما في اللغة والنحو والعروض وسائر فنون الأدب». ألف شرحا على الألفية كان له ذيوع، وشرحا على الآجرومية، وعلى «المقصور والممدود» لابن مالك، وغير ذلك. واشتهرت مقصورته التي مدح بها النبي صلى الله عليه وسلم وهي تدل على تضلعه في اللغة وتملكه ناصية الأدب. (نيل الابتهاج 169، نفح الطيب 5:428 في ذكر شيوخ ابن مرزوق الحفيد، والنبوغ المغربي:210).
(1) فيهما: ما يعلمه، والأشبه: ما يعلم.
(1/372)
________________________________________
«يقول عبد الرحمن بن علي بن صالح المكودي-لطف الله به- سألني صاحبنا الشهير بالنبل والذكاء، وسروة الهمّة والبهاء. الضابط لفنون الآداب، العالم بعيون التاريخ والأنساب. رافع راية القريض، وناشر لوائه الطويل العريض. علم الرؤساء [102/ب] ودرّة أبناء الأمراء أبو الوليد إسماعيل بن الرئيس أبي الحجاج يوسف بن الأحمر الخزرجي أن أقيّد له شيئا من شعري فلم أسعفه بمطلوبه، ولا عجّلت له بمرغوبه؛ استحقارا لشعري، واستضعافا لما صدر من نظمي ونثري.
وهجرا للأدب وطريقته، وقلى لمجازه وحقيقته. طريقة كثر قائلها وقلّ نائلها! فلو أمكن أن يجتمع في زماننا هذا أبو تمام باغترافه من بحره، وأبو الطّيب باقتطافه من زهره، وأبو العلاء بنحته من صخره، على استخراج درهم واحد من أهل زماننا لما حظوا منهم بنائل، ولا وقفوا في أمورهم على طائل! دهر وقى الله من حوادثه سيّان ذو الجهل فيه والعالم.
ولما كان السائل المذكور ممن لا يسعني خلافه، ولا يمكنني إلا إسعاده وإسعامه؛ قيدت له شيئا من شعري، مع نبذ من نثري.
وليتخير من ذلك ما يستجيده، وينتخب ما يريده. والله يعصمنا من الزّلل، ويهدينا إلى صالح القول والعمل».
قال إسماعيل مؤلف هذا الكتاب: فمما اخترت من كلامه الرائق ونظامه العذب الفائق؛ قوله يمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي القصيدة (1)
_________
(1) ذكر أحمد بابا في نيل الابتهاج 4 أبيات من آخر المقصورة ينكت على مقصورتي حازم وابن دريد. ونقل العلامة الأستاذ عبد كنون في كتابه النبوغ المغربي قطعة كبيرة من القصيدة. وفي قراءته للنص خلافات يسيرة، وقد يعمد إلى تعديل كلمة بأخرى على جهة التنقيح، مما لم أجد ضرورة لإثباته.
(1/373)
________________________________________
التي ضربت في البلاغة بسهم، وحازت من الفصاحة أوفر سهم:
أرّقني بارق نجد إذ سرى … يومض ما بين فرادى وثنى
أهّبتي إذ هبّ منه موهنا … ما سدّ ما بين الثريّا والثّرى
شممت من أرجائه إذ شمته … ريح صبا أطوع من ريح الكبا
فيا له من بارق ذكّرني … من الهوى ما كنت عنه في غنى!
5 أثار شوقا كان مني كامنا … بين ضلوع طالما فيها ثوى
[103/أ]
فكان قلبي المجتوى إذ هاجه … كالزّند إذ أوراه مور فورى
وسحّ سحب مقلتي فما بقي … نوع من الدّمع بها إلا همى
ما كنت أدري قبل أن أنفده … أنّ البكا يمنعني من البكا!
وليلة سبحت في ظلمائها … إذ سحبت فضول أذيال الدّجا
10 ألفت فيها كل ما ألفيته … يوهي القوى إلا التّسلي والكرى
طالت وما أطلّ بازي صبحها … إلا باغيا (1) ما لديها من جوى
قد وقفت نجومها في أفقها … وقفة حيران طويل المشتكى
جبت بها وحدي قفرا سبسبا ... ليس به إلا النّعام والمها
نائي الزّيازي (2) والفلا، داني الصّفا ... خالي الفيافي والذّرى، خافي الصّوى (3)
_________
(1) أغيى السحاب: أقام. وبإغيا أي بغاية.
(2) الزيازي جمع الزيزاء: ما غلظ من الأرض.
(3) صوى جمع صوة (بواو مشددة): وهو حجر يكون علامة في الطريق.
(1/374)
________________________________________
15 قطعتها ببازل ذي مرّة … ينوّع السير بأنواع المشى
فتارة يعمل فيها الهيدبى … وتارة يعدو عليها الخيزلى
كأنّ رحلي إذ علوت ظهره ... فوق متين المتن وجريّ القوى
من وحش مهمه بعيد غوره ... ذي أكرع أصلب من صمّ الصّفا
يقذف بي من فدفد لفدفد ... وينتهي بي من فلا إلى فلا
20 حتّى إذا انتضى الصباح نصله ... وقدّ ***اب الدّياجي فانفرى
كأنّه كتائب قد نشرت … راياتها على الإكام والرّبى
أحسّت الشّهب بها فأجفلت ... وأمّت الغرب وجدّت في السّرى
إذا أنا ببقعة غيطانها … جرى بها سلسال نهر وانحنى
كأنّه معصم خود غادة … على رداء قد وشاه من وشى
25 وظلّ روض راضه صوب الحيا ... فاعتمّ من نور حلاه واكتسى
باكره وسميّه فانفتحت … كمامه عن زهر طيّب الشّذا
وهزّ أيدي الرّيح منه قضبا … غنّى بها الطّير الأغنّ وشدا
[103/ب]
أحسن به روضا نميما عرفه … معطّرا داني القطوف والجنى
(1/375)
________________________________________
قد نثرت شمس الغداة أيدعا (1) ... فيه وقد بلله قطر النّدى
30 وقفت طرفي بإزاء دوحه … أسرح طرفي في مبانيه العلا
وأشتكي دهرا دهاني صرفه … لمّا قضى بالبين فيما قد قضى
منازل كانت بنا أواهلا … نلنا بها حينا أساليب المنى
كم بتّ في أفنائها أجري إلى ... غاياتها بطرف جد ما كبا
وكم سحبت إذ صحبت غيدها ... بروضها ذيل السّرور والهنا
35 وكم مددت من سرادق على ... ضفّة نهر أرج رحب الذّرى
وكم سعدت إذ صعدت صهوة ... لمنزه منزّه عن الخنا
وكم هصرت فيه من غضن نقا ... من قدّ ظبي أهيف طاوي الحشا
وكم لثمت زهر ثغر أشنب ... من شادن عذب الثنّايا واللّمى
وكم رشفت من رضاب سلسل ... يفعل بالألباب أفعال الطّلا
40 أيّام أزهار المنى مونقة … والدّهر ذو وجه منير المجتلى
تزفّني من الأماني دائبا … عرائس ذوات حلي وحلى
_________
(1) الأيدع: الزعفران.
(1/376)
________________________________________
أنى أرجّي لفؤادي سلوة … من بعد بعد المونقات المجتنى؟
يا ليت شعري والأماني خدّع ... هل يرجع الدّهر لنا ما قد مضى؟
وهل لنا من عودة لمعهد ... صبوت فيه جلّ أيّام الصّبا؟
45 إذ لا مشيب فوق فودي يرعوى ... من شينه، ولا رقيب يختشى!
أيّام أنس أسرعت في خطوها ... كذا اللّذاذات سريعات الخطا
يا قلب لا تجزع فأنت قلّب ... وأنت عندي ذو دهاء وحجا
فلا يهولنّك صرف الدّهر في ... ما قد جنى عليك من خطب النّوى
[104/أ]
فكلّ وصل ينتهي لفرقة ... تفرى العرى منه وإن طال المدى
50 والدّهر في صروفه ذو عجب ... يدني بها كلّ جديد للبلى
يبكي إذا أضحك يوما أهله ... ويعقب الكرب إذا العيش صفا
كم ملك ذي نجدة في ملكه ... يضيق عن جنوده رحب الفضا
(1/377)
________________________________________
قد ملك الأرض وراض صعبها ... وشيّد القصور فيها والبنى
أخنى عليه دهره وعاقه … عن كلّ ما شيّده وما بنى
55 أين الألى شادوا وساسوا ملكهم ... كمثل ساسان وعاد وسبا
دارت على أدؤرهم (1) دوائر … وجرّعوا كاس المنايا والرّدى!
وأين باني إرم وجيشه؟ ... صاروا رميما تحت أطباق الثّرى!
وملك كسرى حين تمّ أيده ... أوهته أحداث اللّيالي فوهى
ولم تقصّر عن ملوك قيصر ... حتّى أبادتهم وطاحوا في التّوى (2)
60 ولم تدع من ملك غسّان فتى ... سامى المعالي في ذراها وسما
وكم ملوك قهروا بملكهم ... أسد الشّرى صاروا حديثا في الدّنى
هذي هي الدّنيا فلا يغررك ما ... تراه فيها من سرور وهنا!
فانفض يديك من عراها وارمها ... وابرأ بها (3) إن كنت من أهل النّهى!
_________
(1) أدؤر ج دار.
(2) التوى: الهلاك.
(3) كذا في الأصلين وقرأها الأستاذ كون: وادرأ بها.
(1/378)
________________________________________
وظنّ بالإخوان شرّا واخشهم … وصيّر الأحباب منهم كالعدا
65 وإن أردت خبرهم فاخبر فما ... خبر قوما أحد إلا قلا!
وسرّك اكتمه عن الخلق ولا ... تطلع عليه أحدا من الورى
واقنع-على عزّ-بما يكفي ولا … تحرص فإنّ الحرص ذلّ للفتى
وساير الناس على أخلاقهم … وساعد المسعد واحمل من جفا
وصافهم وإن أساؤوا نيّة … فإنّما لكلّ شخص ما نوى
[104/ب]
71 كم من صديق مظهر لودّه … لكن له قلب على الحقد انطوى
يشكر في وجهك إن لاقيته … وإن تغب يغتبك في كلّ ملا
يذيع ما يراه من قبح وإن … رأى جميلا منك أخفى ما رأى
فاترك إخا من هذه سيرته … واهجره في الله ودعه والعمى
ولا تهابنّ ذوي الجهل وإن … راقك منهم منتدى ومنتمى
75 كم من أناس كالأناسي منظرا ... فهم إذا أشبه شيء بالدّمى
وكم رجال في الدّنى ليس لهم ... من العلا إلاّ الأسامي والكنى
يرون أنّ المجد والعلياء في ... ما ينتقى من أبّهات وكسا
ليس العلا والمجد إلاّ لامرىء ... رقا إلى أفق المعالي وارتقى
(1/379)
________________________________________
وصمّم العزم على ترك الهوى ... وجدّ في طلاب ما يجدي الثّنا
80 وانتعل الشّهب الدّراري رفعة ... وامتهد البدر المنير واعتلى
وما المعالي غير علم رائق … يصيّر المرء على أعلى السّها
طوبى لمن برّز في ميدانه … وابتدر السّبق لديه وجرى
وجدّ فيه وحماه جدّه … حتّى ارتقى منه بأسنى مرتقى
ودان بالدّين القويم والعلا … وازدان بالخلق الجميل والتّقى
85 لله قوم قارعوا أنفسهم ... عن الهوى إذ قرعوا باب الرّضا
عابوا نفيس الدّرّ والعقيان إذ … باعوا نفوسهم بأنفاس علا
وأنت يا نفس شغلت بالهوى … حتّى هويت منه في قعر هوى!
فرّطت إذ أفرطت في اكتساب ما ... يردي ولم أسلك سبيل من نجا
كم خضت في بحر المعاصي جامحا ... لا أرعوي نصحا للحي من لحا
[105/أ]
90 وكم تعبت إذا تبعت أملا … قد انقضت لذّته وما انقضى!
واحسرتا قد مرّ عمري ضائعا … بين خزعبلات لهو وهوى
هلكت في الهلاّك لولا أنّني ... ذخرت ذخرا (1) أرتجي به الهدى
_________
(1) في الأصلين بالدال المهملة. ونرجح ما أثبت للمعنى.
(1/380)
________________________________________
وليس ذخري غير مدح أحمد ... سيّد أهل الأرض طرّا، وكفى
محمّد أسمى النّبيّين علا … ومن كأحمد النّبيّ المصطفى
95 أكرم مبعوث لخير أمّة … فضّلها الله به على الورى
توراة موسى قد أتت ببعثه … وصدّق الإنجيل ما فيها أتى
قد أكثرت في كتبها الأحبار من ... ما أخبرت (1) من فضله فيما مضى
وأشرقت بنوره الآفاق في … مولده، وشرقت منه اللها
فالملك كسرى قد تداعى صرحه ... وانقضّت الأرجاء منه وهوى
100 وفارس قد خمدت نيرانها … وألف عام سعرت فيها خلا
وغار نهر ساوة (2) فساءها … ما لقيت من ظمأ ومن صدى
وخرّت الأوثان يوم بعثه … وظهر الذّلّ عليها وبدا
وانبعثت ثواقب الشّهب ترى … محرقة للجنّ في جوّ السّما
وكم له من آية بيّنه … ومعجزات مثل إشراق الضّحا
105 منهنّ نطق الذّيب في تصديقه ... والعير أيضا والذّراع والرّشا
_________
(1) في الأصلين: اخترت ولعلها كما أثبت.
(2) ساوة: قرية في الطريق ما بين همذان والري. وهي التي روي أن الموبذان رأى في منامه أن بحيرتها غاضت، في حين رأى كسرى ارتجاس الإيوان وخمود النيران. (راجع الروض المعطار 297).
(1/381)
________________________________________
ومن عظيم المعجزات أنّه ... قد سبّحت في كفّه صمّ الحصا
والجذع إذ فارقه حنّ كما ... تحنّ ثكلى هاجها حرّ الجوى (1)
والسّرح بالشّام لها أعجوبة ... إذ عفّرت أغصانها على الثّرى
والأيك إذ أمرتها فأقبلت ... وما بقي عرق بها إلاّ انفرى (2)
110 وقلت عودي فكأنّ أصلها … ما زال عن موضعه ولا نأى
[105/ب]
والشاة إذ مسحتها عادت به ... بعد الهزال ذات نحض يشتهى (3)
فروّت الرّكب بشكر (4) ضرعها ... إذ سحّ منها الضرع ذرّا وانهمى
وفي انشقاق البدر أيّ آية ... بانت وما كانت حديثا يفترى
وكم مشت من فوقه غمامة ... تقيه حرّ الشّمس حيثما مشى
_________
(1) في الأصلين: الجدا. قلت والأشبه «الجوى». والجذا-بضم الجيم-ج جذوة: القبسة من النار والجمرة، وفيه تكلف.
(2) انفرى: انشق.
(3) النحض: اللحم أو المكتنز منه.
(4) شكرت الناقة: امتلأ ضرعها، وأشكر الضرع: امتلأ.
(1/382)
________________________________________
115 وآية الغار مع الصّديق إذ ... تواريا في جوفه عن العدا
قال له الصّديق كيف نختفي ... ونحن فيه عرض لمن يرى؟
فقال: لا تحزن، فإنّ الله قد ... حجبنا عن كلّ ضر وأذى
فحاك فيه العنكبوت سادلا ... ببابه في الحين سجفا قد ضفا
وسترت وجه النبيّ سرحة ... جاءت إلى الغار بأغصان علا
120 وحام في الحين الحمام حاميا ... كأنّه مذ أزمن فيه ثوى
وليلة المعراج أجلى آية ... إذ سار من مكّة ليلا وسرى
فاخترق السّبع الطّباق صاعدا ... حتّى انتهى منها لأعلى منتهى
وائتمّ سكان السّماوات به ... من ملك ومن نبيّ مجتبى
سايره جبريل حتّى أشرفا ... معا على بحار نور وسنا
125 فقال جبريل تقدّم راشدا ... هذا مقامي في السّماوات العلى
(1/383)
________________________________________
فاخترق الأنوار يمشي وحده ... والحجب تنجاب له حيث انتمى
وقامت الأملاك إجلالا له … أمامه يسعون حيثما سعى
ناداه في ذاك المقام ربّه ... يا صفوة الخلق ادن مني، فدنا
فكان منه قاب قوسين فما … كذب إذ ذاك الفؤاد ما رأى
130 خلا به حتّى حباه آية … ما زاغ فيها بصر ولا طغى
وكان هذا كلّه في ليلة … لم يستلبها الصّبح أثواب الدّجا
[106/ب]
وفي نزول الغيث عام المحل ما ... سرّ نفوس الخلق طرّا وجلا
إذ أمسك القطر عن الأرض ولم ... ينل بها غيث ولا هبّت صبا!
حتّى دعا الله ليسقي أرضه … فسحّت السّحب بهطّال الحيا
135 وبقيت سبعا تريق ريّقا … راق به نور البطاح والرّبا
فأفرط الوبل على الخلق، فلم … يقلع ولا انجاب الحيا حتّى دعا
والصّاع اتّسعت به ألفا كما (1) ... أرويت نصف الألف والألف معا
_________
(1) كذا وقع البيت في الأصلين. قلت ويستقيم وزن الصدر، لو كان:
*واتسعت ألفا به الصاع كما*
(1/384)
________________________________________
وعاد بعد شبع القوم كأن ... لم (ينتقص) (1) منه طعام بل نما
وقصّة الزّوراء فيها عجب ... إذ روي الجيش جميعا من إنا
140 وضع فيه كفّه فانهلّ من … أنملها ماء نمير وجرى
وكان جيشا من ثلاث مئة … فكلّهم غرف منه وارتوى
وفي نزول الوحي أمر هال إذ ... أعجز أرباب البيان والحجا
أنزل في عصر البيان فتلي … على الجميع في البوادي والقرى
طلبتهم في سورة من مثله ... فكلّهم إذ ذاك للعجز انتمى
145 فقام منهم كاذب معارض (2) … هذى بعيّ غيّه وما هدى
جاء بقول هلهل مقبّح (3) … وفاه فيه بفرى لا ترتضى
تمجّه الآذان (4) عند سمعه ... نظم ركيك النسج، إفك مفترى
كأنّه منطق ورها (5) مسّها ... خبل من الجنّ ففاهت بالهرا
_________
(1) في النسختين: ينقص، والمثبت مقترح.
(2) في «م» معارضا.
(3) كذا قرأتها، واقرأ «متبح»؟
(4) في «ط» الأذهان.
(5) الورهاء: الحمقاء.
(1/385)
________________________________________
وردّه عين قتادة كما … كانت فعادت ذات حسن وبها
150 وكم أنالت كفّه من نعم … وكم أزالت من وبال وعنا
وكم له من غزوة ذلّت له … فيها رقاب المشركين والعدا
قاد بها من صحبه عساكرا … عزّ بهم دين الإله وسما
[106/ب]
من كل شهم مكم (1) بحزمه … وممتط للعزم أسنى ممتطى
يسقي كؤوس الحتف في يوم الوغى … كلّ عدوّ ضلّ فيها وغوى
155 بكلّ رمح نافذ بادي السّنا … وكل نصل باتر ماضي الشّبا
أسد لدى الهيجاء لكن مالهم ... غاب سوى ظلّ القتام والقنا
كم زاولوا الأوراد في ظلمائهم ... وقاتلوا الأبطال يوم الملتقى
فهم إذا جنّ الظلام سجّد … وبالنّهار مضرمو نار الوغى
ريع بهم فؤاد كلّ مشرك ... من كلّ شاك عاث كفرا وعثا (2)
160 كم صدموا أقيال كلّ جحفل ... وكم أداروا بينهم كاس الرّدى
ومن يكن نصيره محمّد ... خير الورى تجم له أسد الشّرى
_________
(1) المتكمي في سلاحه: أي المتغطي المتستر بالدرع والغفارة.
(2) عاث يعيث، وعثا يعثو: أفسد
(1/386)
________________________________________
سل عنهم بدرا وسل أبطالها ... ما فعلوا إذ بلغ السّيل الزّبى
جاءت جيوش الشرك في عساكر ... بسبق تعدو بهنّ الجمزى (1)
قادوا خميسا غصّت الأرض به ... من كلّ ضرغام وليث قد سطا
165 فجاء جبريل بأملاك لهم ... خيل من الكدن سريعات الخطا
بعدد ذي كثرة وعدد ... ما حاك خلق نسجها ولا حكى
جند حمى الله به نبيّه … أكرم بمحميّ به ومن حمى
وكان من آيات بدر أنّه … رمى جيوشهم بكف من حصى
أصبت منهم أعينا فعميت … وامتلأت حين رميت بالقذى
170 وما رميت إذ رميت أعينا … منهم به، ولكن الله رمى
فكلّهم عقل عن حراكه … وجاش ممّا قد دهاه وجثا
موضع حتف حان فيه حينهم … ورويت أقطاره من الدّما
فكم قتيل خرّ مبتور المعا … وكم طريد فرّ مذعور الحشا
[107/أ]
وكم أسير مثخن في قدّه … إمّا إلى المنّ وإما للفدا
175 وغزوة الخندق فيها عجب … إذ ابتلى الله بها من ابتلى
_________
(1) الجمز ضرب من السير، والناقة تعدو (الجمزى) وكذا الفرس.
(1/387)
________________________________________
أقبل مشركو قريش كلّهم … وجيّشوا الأحزاب من كلّ ملا
حرّضهم بنو النّضير إذ بغوا ... وغيرهم من اليهود والعدا
وصارخوا من غطفان عسكرا (1) ... عرمرما من [كل] جبّار عصى (2)
راموا بجيش المسلمين نقمة … إذ جيّشوا برومة؟، ونقما
180 أكثر من عشرة آلاف لهم ... في معضلات الحرب مكر ودها
من قيس عيلان ومن نجد ومن … تهامة وغيرهم ممّن طغا
هنالك ابتلي كلّ مؤمن … وزلزلوا لما دهاهم ما دها
فأرسل الله على عدوّهم … ريحا أراحت منهم كلّ عنا
وأنزلت عليهم ملائك … من السّماء بجنود لا ترى
185 لمّا رأوا أن البلاء عمهم … وفرّقوا، تفرّقوا أيدي سبا
جلاهم دون قتال ربّنا … إذ كفّ عنه المؤمنين وكفى
وانقرضت قريظة بالقتل إذ … خانوا وخالوا أنّهم ذو ونهى!
ما بين سبعمئة ونيّف ... قد ضربت بالسّيف منهم الطّلى
لم يقهم من المنايا والرّدى … ما شيّدوه من حصون وبنى
190 فما حيي حييّ بن أخطب … بما جنى عمدا ولا كعب نجا!
راحت غداة غودروا رهن التّوى ... أرواحهم من الدّنى إلى لظى!
_________
(1) في الأصلين: عسكر.
(2) (كل) سقطت من م. وفي ط «من جبار قد عصى»
(1/388)
________________________________________
وقد فشت أخبار أرض خيبر … إذ خربت بما أتاها من توى
حلّ بهم جيش النّبيّ غدوة … وعمّهم من جأشه خطب دهى
فاستفتحوا حصونهم، واستأصلوا ... أعيانهم بالمرهفات والقنا
[107/ب]
195 وفي علي إذ أراد بعثه … [لخيبر] معجزة لمن يرى (1)
كان بعينيه أذى من رمد … فتفل النّبيّ فيها فبرا
وسار في الحين إليهم ناشرا … رايته يجوب بالجيش الفلا
قلع باب خيبر فما عصى … راحته كأنّه فيها عصا
أقامه عن ترسه فلم يزل … بيده حتى جرى ما قد رجا
200 فاستفتح الحصن الحصين واعتلى … به على الأديان دين المجتبى
وحين تمّ المصطفى افتتاحه … لخيبر سار إلى وادي القرى
حاصرهم لياليا وآب من … غزوته تلك بعلق مقتنى
وفي افتتاح مكّة عز غدا … مذلّ كلّ كافر فيها عدا
إذ جاءها يزحف في عساكر … ضاق بها رحب الأراضي والفلا
205 كتائب كأنها كواكب … وهو بها كأنّه (2) بدر الدّجى
ملأتها خيلا ورجلا منهم … بين جبال وبطاح وربى
جبت بهم ظلماء نقع ما لها … ثواقب إلا أسنّة القنا
عشرة آلاف كرام ألّفت … قلوبهم طرّا على سبل الهدى
_________
(1) [لخيبر] مقترحة اهتداء بالبيت 98: وفي ط «لبعض مجزة»!
(2) في الأصلين: كأنها. ونرجح ما أثبت.
(1/389)
________________________________________
قبائل علت على قبائل … من كلّ شهم في الحروب متّقى
210 وكلّ ضرغام بصير بالوغى ... قد سلّ نصل العزم فيها وانتضى
أقبلت في كتيبة خضراء قد ... حفّ بها التأييد من ربّ العلا
عنّت بها ركائب كأنّها … مراكب في لجّ قمقام طما
وأنت يا خير الورى تقدمها … كأنّما أنت بها شمس الضّحا
أتيت في جند الإله رافلا … في ثوب تأييد ونصر قد صفا
215 والخيل من خلفك تختال بها … والعيس تنثال ثناء وثنى
[108/أ]
قد انطويت من تواضع على ... رحلك لمّا أن وصلت ذا طوى (1)
خشعت من تحت لواء العزّ إذ ... علا بك الدّين كمالا وسما
فاهتزّت الأرض به من فرح … وزهو إذ حلّ بها عيش حلا
عزّ نبيّ عقد الله له … لواءه (2) فوق السّماوات العلا
220 وحين حطّ رحله ببكّة … كبا بها كل عدو وبكى
لم يبق إذ ذاك بها من مشرك … إلا اختفى خوفا بها، أو انجلى
_________
(1) ذو طوى: واد بمكة، لما انتهى إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح وقف على راحلته معتجرا بشقة برد حبرة حمراء، وإنه ليضع رأسه تواضعا لله تعالى حين رأى ما أكرمه الله عز وجل به من الفتح، حتى إن عثنونه ليكاد يمس واسطة الرحل.
(2) في الأصلين «لواء» ونرجح ما أثبت.
(1/390)
________________________________________
فما أفادت «ابن حرب» حربه ... حتى أتاه صاغرا فيمن أتى
ولا حمى فيها «حماسا» حزمه ... حتى نجا منهزما فيمن نجا
فكان من فضل النّبيّ المجتبى ... يومئذ أن كفّ عنهم وعفا
225 وطاف بالبيت العتيق شاكرا … لله ما أعطاه فضلا وحبا
ومرّ بالأصنام إذ طاف به … يشير نحوها فخرّت للثّرى
فبعضها خرّ على الوجه لما … أصابه، وبعضها على القفا!
فأصبح الدّين القويم قيّما … سما على الأديان طرّا وعلا
وعاد برق الشّرك برقا خلّبا ... -من بعد ما أومض حينا-وخبا
230 وفي حنين حان حين حارث ... وملك مالك بن عوف قد عفا!
دارت عليهم إذ أتوا دوائر ... وأسلموا «دريدهم» إلى الرّدى
لما أتاهم ما حبا الله به … نبيّه من الفتوح والغنى
غاظهم فجمعوا من حينهم … عساكرا ممّن تولّى وغوى
وجمعت «هوازن» قبائلا ... ممن زها عقلا بها حتى هوى
235 جاؤوا بأطفال وأموال لهم ... من ذي بكاء ويعار (1) ورغا!
_________
(1) اليعار: صوت الغنم أو المعزى. والرغاء: صوت البعير.
(1/391)
________________________________________
فخرج النبيّ في عساكر … من كلّ صنديد كريم المنتمى
[108/ب]
عساكر تتبعها عساكر … كلّ له عزم إذا الخطب عرا
لما تراءى العسكران أقبلت ... جيوش أهل الشّرك تعدو الخيزلى
ففرّ جيش المسلمين هاربا … فما ثنى عنانه منهم فتى!
240 فأنزل الله على نبيّه … سكينة شام بها برق المنى
فقام في الجيش لهم مناديا … أنا محمّد النبيّ المصطفى
ثم دعا العبّاس جهرا فانثنى … إليه أنصار النبيّ إذ دعا
فاجتمعت عليه نحو مئة … ممّن به في المعضلات يهتدى
وأيّدوا بعسكر عرمرم … أنزله الله من املاك السّما
245 فانهزمت جيوش أهل الشّرك إذ ... حمى جيوش المسلمين من حمى
فخذلوا طعنا وضربا إذ جثوا ... بين عوامل الرّماح والظّبا
نصر إلهي قضى الله به ... من قبل خلق الخلق فيما قد مضى
نبيّ صدق صادق في زهده … ما فوقه لمعتل من معتلى
عنت له شمّ الجبال ذهبا … طوع يديه من دنا ومن قصى
250 وراودته برهة عن نفسه … فما اشرأبّ نحوها ولا رنا
كم وقف الليل الطويل قانتا … لم يغتمض بسنة ولا كرى
(1/392)
________________________________________
حتّى اشتكت رجلاه ما قد نالها ... وشفّها من ورم ومن (مأى) (1)؟
فأنزلت (طه) له تكرمة … وزال عنه ما اعتراه من شقا؟
وكم طوى إنابة لربّه … على الحجار كشحه من الطّوى
255 لولاه ما كانت سماوات ولا … أضاء نجم من دراريها العلا
هو ****** الآمر النّاهي الذي … ليس يضاهيه نبيّ مجتبى
هو الشّفيع في المعاد للورى … منقذنا في الحشر من نار لظى
[109/أ]
هو المرجّى (2) للخطوب كاشفا … ومن سواه للخطوب يرتجى؟
هو الذي من أمّه مستشفعا … مستمسكا بحبله فقد نجا
260 هو الذي فاق النّبيين معا … في خلقه وخلقه منذ بدا
فكلّهم مسلّم لفضله … والعلم والحلم جميعا والندى
وكلّهم من بحره مغترف … معترف بأنه خير الورى
وكلّهم دون علاه واقف … في حدّه ملتمس منه الرّضا
وكل ما جاؤوا به من آية … فأصله من النّبي المصطفى
265 فانسب له ما شئته من شرف … واثن بما شئت عليه من ثنا
فلا ترى تبلغ منه غاية … وكيف يحصي أحد عدّ الحصا!؟
وما عسى تثني عليه مادحا … وحامدا لفعله وما عسى؟
وربّه في محكم القرآن قد … أثنى عليه وحباه بالهدى
_________
(1) كلمة وردت مهملة، ورسمها فيهما «ماءا» ويمكن قراءتها بالفاء.
(2) في الأصلين: هو المرتجى. والمثبت مقترح.
(1/393)
________________________________________
يا أيّها المبعوث فينا رحمة … أنقذنا الله بها من الرّدى
270 خدمتكم بمدحتي هذي وإن … كنت من الإحسان نائي المنتأى (1)
أقصرت إذ كنت بها مقصرا … أو لم أجئ فيها بمعنى منتقى
لكنّني طرّزتها من مدحكم … بحلل ذات بهاء وحلا
مقصورة، لكنّها مقصورة … على امتداح المصطفى خير الورى
ما شبتها بمدح خلق غيره … لرتبة أحظى بها ولا جزا
275 فاقت (2) علاء كلّ ذي مقصورة ... وإن هم نالوا الأيادي واللها
فحازم قد عدّ غير حازم (3) ... وابن دريد (4) لم يفده ما درى
فإن أكن ملقى الغنى من غيره (5) ... فلن يفوت مملقا منه الغنى
وإنّما قصدي أن أحظى بما ... يبقى من الذّكر الجميل والتّقى
_________
(1) في «م» المنتئوى وفي «ط» المنتوى. والمنتأى: الموضع البعيد.
(2) فيهما: فقلت. والمثبت مقترح مرجح.
(3) حازم بن محمد بن حسن القرطاجني (608 - 684) أديب، شاعر، ناقد أندلسي بليغ نسبته إلى قرطاجنة الاندلس هاجر إلى المغرب واستقر بإفريقية، وتوفي بتونس وله ديوان شعر (ط) وكتاب في النقد هو منهاح البلغاء (ط)، وكتب أخرى. وله مقصورة طبعت في حوليات كلية آداب عين شمس.
(4) محمد بن الحسن بن دريد الأزدي من أئمة اللغة والأدب (223 - 321) مؤلفاته كثيرة في النحو واللغة والأدب وغيرها وأكثرها مطبوع. وله مقصورة مشهورة في مدح آل ميكال. وله أيضا ديوان شعر مطبوع.
(5) فيهما: ملقى، وضبطت فيهما بفتح الميم.
(1/394)
________________________________________
[109/ب]
وأستجير من ذنوب أثقلت … ظهري وأوهى ثقلها منه القوى
280 وأقعدتني مقعدا قد غضّني … كأنّني منه على جمر الغضا
يا أكرم الخلق علاه وندا … يا سيّد الرّسل الكريم المنتمى
يا صاحب الحوض الذي من أمّه ... يظفر بورد لم تكدّره الدّلا
باع المعالي (1) واشترى غيّ الهوى ... يا نعم ما باع وبئس ما اشترى!
فكم أضاع في الدّنا سبل الهدى ... وكم أطاع في الهوى غيّ الصّبا
285 فكن شفيعي يوم لا يغني امرءا ... ما ضمّ من مال الدّنا وما حوى
يا ربّ بالمختار من أرومة ... قصّر عنها كلّ أصل قد زكا
ومن له كلّ فخار انتمى ... ومن به كلّ نبي اقتدى
خذ بيدي وامنن بلطف منك في ... ديني ودنياي وجد لي بالرّضا
واغفر بعفو منك ما اجترمته ... واصفح عن الزلاّت يا ربّ العلا
290 واجل صدا قلبي وهب لي توبة ... أمحو بها آثام قلب قد قسا
_________
(1) ورد هذا البيت والذي بعده في هذا الموضع في النسختين.
(1/395)
________________________________________
فلست ألفى لسواك راجيا … ومن سواك يا إلهي يرتجى؟
وارحم محمّدا وآل بيته … وصحبه الغرّ الكرام المنتمى
صلّ صلاة منك تترى أبدا … عليه ما هبّت على الرّوض الصّبا

صاحبنا الفقيه الأستاذ النحوي المقرىء
عبد الله بن محمد البكري.
[كنيته:]
يكنى: أبا محمد، وهو من أهل فاس. وبها رأيته وصحبته، وأصل سلفه من الأندلس. وبالأندلسي يعرف.

حاله:
له معرفة بالعربية، وثقوب ذهن في الطريقة الأدبية. قد أخذ من المنطق بأوفى سهم، وضرب في الفصاحة بسهم. وحوى الجود والعفاف [110/أ] وقنع في دنياه بالكفاف!
أنشدني لنفسه:
رعيا لبدر قد ثوى بالحشا … ربّاه (1) مستنشقه ان مشى (؟)
قد غالني واستلّ من لحظه … نبلا فصاد القلب هذا الرّشا
اللّحظ منه فاتر باتر … والحسن من نشأته قد نشا

صاحبنا الفقيه الأستاذ النحوي المقرىء محمد بن عمر بن توقرت الموحد التينملي:
[كنيته:]
يكنى: أبا عبد الله وهو من أهل فاس. وبها رأيته وصحبته.
_________
(1) كذا فيهما.
(1/396)
________________________________________
ويعرف بالمصمودي وكان والده عمر يكتب للوزير أبي زيان فارس ابن ميمون بن ودرار الحشمي ولحقته ورأيته. وأبو عبد الله هذا توفي في إبان الشبوبيّة، وله اثنتان وعشرون سنة.

حاله رحمه الله:
هو بحر الآداب، ورئيس النحو والحساب، وأما القراءات فبز فيها أهل عصره، كما كان في النبلاء وحيد مصره، عفّ الإزار، جم الحيا والوقار. كنت قد أنشدته بيتين أنشدنيهما لنفسه شيخنا الفقيه القاضي الفرضي أبو علي الحسن بن عثمان بن عطية الوانشريسي. وسبب نظمه للبيتين أنه بلغه عن بعض الطلبة أن أحدهم نظم أبياتا في غاية اللحن والكسر فاستهزؤوا به وسخروا منه، فخاطبهم بالبيتين ليكفوا عن ذلك، وهما:
كفّوا عن اللهو والمزاح … وامضوا على الجدّ والصّلاح
فالجدّ أهل لكلّ خير … يقود للنّجح والفلاح
فلما سمعهما مني استحسنهما، ونظم أبياتا وبعثها مع نثر له إلى شيخنا القاضي أبي علي المذكور، وهي:
دعوت للخير والفلاح … إذ قلت كفّوا عن المزاح
وذاك أقصى مدى المعالي … ورتبة الرّشد والنّجاح
[110/ب]
وبعض أهل اليراع يلهو … وليس [في] ذاك من صلاح
فعش هنيئا قرير عين … ما اعتقب اللّيل مع صباح
ولما وقفت على البيتين ورأيتهما في البراعة توأمين، حملتني دعابة
(1/397)
________________________________________
الأدب، واستهواني عند سماعهما الطرب، على أن قلت ما جمعت فيه بين (الحسنتين فلم ينتج كالشذرتين) (1) على أني لو كنت أشعر من العرجي وأحفظ من الأصمعي، وأبلغ من عبد الحميد وأجمع للحكم من لبيد، لقصرت عن ذلك المنهج، ولقيل لي «ليس هذا عشّك فادرج»! لكن الإغضاء من شيم الأصدقاء.
فلا غرو أن يغضي الكريم إذا رأى ... مساوىء خل فالكريم الذي يغضي!
والسّلام.

صاحبنا الفقيه الكاتب أبو العباس أحمد بن الشيخ الصوفي الصالح أبي عبد الله محمد الأنصاري الخزرجي الشهير بالدباغ (*)
هو من أهل فاس. ونسبه في الخزرج؛ ينتمي لقيس بن سعد بن عبادة الأنصاري الخزرجي. ورأيته بفاس، وصحبته، وكان يكتب الخراج بفاس. وامتدح ابن عمّنا الرئيس إسماعيل بن الأمير فرج بن أمير المسلمين إسماعيل عم أبينا بن جدّنا الرئيس أبي سعيد فرج بن جدّنا الأمير إسماعيل بن جدّنا الأمير يوسف الشهير بالأحمر بن جدّنا السلطان المنصور محمد بن أحمد بن محمد بن خميس بن نصر الخزرجي بقصائد بديعة عارض بها قصائد أبي القاسم ابن هانئ الأندلسي، وانقطع بها إلى ابن عمّنا المذكور.
_________
(1) العبارة مطموسة تقريبا في «ط»، وهي هكذا في «م» على أن الإعجام غير ظاهر واقرأ أيضا «الخستين. . . الشدرتين؟».
(*) ترجم له ابن الاحمر في نثير الفرائد «376»، وقال فيه «وهو شيخي الذي به تعلمت». وأورد له شعرا في هذا الكتاب في الباب الأخير قاله في السيف الذي بصومعة جامع القرويين بفاس.
(1/398)
________________________________________
حاله-سلمه الله تعالى-:
هو فارس هذا الميدان، وإنسان عين الزمان. له نظم رائق جمع فيه بين الجزالة والحلاوة، ونثر فائق عليه رداء الطّلاوة. وباع عظيم في نقد الأدب، ومشاركة [في] (1) فنون شتى من الطّلب. وغزله ألذّ من الماء القراح، ومدحه أمضى من السيف [111/أ] في الكفاح. قد أقرّ له بالتقدّم [في] القريض، كل من نشر لواءه العريض، لو رآه العماد، والصّاحب بن عبّاد لسلّما إليه في فصاحة لسانه وبلاغة بيانه، ولشغفا به وكانا من جملة أخدانه. وماذا عسى أن يحدث لساني، أو يكتبه (2) بناني من وصف حاله، وكريم خلاله. وذاك بحر، ليس له قعر! وأثبت هنا من نظمه ما يدلّك على حسن فهمه.
كنت قد طلبت منه شيئا من شعره الذي امتدح به ابن عمّنا الرئيس إسماعيل فبعث به إليّ، وجاوبني بقوله:
«الجلال الذي يقصر عنه الواصف ولو أطال، والجمال الذي يأوي إليه المعتفي والخائف فيبلغان الآمال. جلال مولانا الرئيس أبي الوليد إسماعيل ابن مولانا الرئيس أبي الحجاج يوسف بن مولانا السلطان أمير المسلمين القائم بإذن الله أبي عبد الله محمد بن مولانا علم الأمراء ووالد الملوك الكبراء الرئيس الأمير أبي سعيد فرج بن مولانا الأمير أبي الوليد إسماعيل بن مولانا الأمير أبي الحجاج يوسف الشهير بالأحمر بن مولانا السلطان أمير المؤمنين المنصور بالله أبي بكر محمد بن أحمد بن محمد بن خميس بن نصر الخزرجي الذي ملك عنان الفضائل المأثورة، ورفع لواء المخايل المشكورة. واحتوى على غرر الشمائل المبرورة، قطب الرئاسة الذي عليه
_________
(1) لم تظهر الكلمة في النسختين.
(2) في «ط» تكتبه.
(1/399)
________________________________________
مدار أفلاكها، ودرّة المجد الذي بها فخار أسلاكها. لا بل حدقة المعاني وإنسانها، وحديقة السّيادة وبستانها. من إذا ذكر رائق الآداب فنسيج وحده، وإذا ردّد فائق الأحساب فأبيه وجدّه. المنتمي من العصبة القحطانيّة إلى أكرمها نجارا، وأعّزها جوارا. وأعلاها مآثر وأغمرها إيثارا. الآخذ من طرفي الرياسة من سيف وقلم، والمستولي على كلتا السّجيّتين من حلم وكرم. بيد أنه من بيت الملوك الرّحب الفنا، الجليّ السّناء والسّنا. الذي شمخت ذروته، ورسخت بنيته. وقامت على تقوى الله دعائمه، وعظمت في ذاته [سجاياه (1) [111/ب] و. . .].
ملك قطعت دابر الشّرك تدابيره الصائبة. وذبّت عن الملّة الحنفيّة ذباباته القاضبة (2).
ملك خبت نار النّفاق مهابة … لجلاله لمّا بدت أعلامه
ألبسته بنو نصر آل الأحمر حمر المطارف. وأمّدته بسوابغ الخيرات من تالد وطارف. فشامته جلّة الملوك برقا يخيل.
وأعدّته لكافّة شؤونها أسنى معوّل وأوفى متكل. ومن هذا البيت الكريم بيت أسلافه، فلا يتعدى بالمدح لخلافه، ولا يعدل به عن أوصافه.
بل يستعمل فيه الفكر، على كل من نظم أو نثر. على أنه لو مدحه شاعر كنده، وبذل نظامه جهده؛ وعمد تلقاء ذلك ابن العميد، وقدامة وعبد الحميد؛ لما حصلوا منه على غاية، ولا تواصلوا إلى نهاية. لكنه بفضله يقبل ما يسنح، ويغضي فيستملح.
_________
(1) كلمتان مطموستان إلا بعض الأحرف، تبينت الاولى وغمت علي الثانية.
(2) فيهما: القاضية. ونرجح ما أثبت.
(1/400)
________________________________________
وقد بلغني-أبقى الله جنابه منيع الحمى، رفيع المنتمى-أنه شرع في تأليف كتاب ترجمه ب‍ «أسنى الوسائل في مختار الشعر والرسائل» يحتوي على غرر ما تخير ونقد، وأورده على ثاقب ذهنه فورد. كل ذلك مما أحدثه أهل العصر، من بديع نظم وبليغ نثر.
وأنه عند تصفحه أشعار الناس، وعرضها على ذكائه الذي عجزت عن لحاقه فطرة إياس؛ ووقفت دونه وقوف الطامع بين الرجاء والياس. وكان من بعض ما اقتضته حقيقة تأويله، وعقدت بصحته جملة تفصيله؛ أن يجعل أشعاري من أحظى الأشعار لديه، وأرفعها وأعزها عليه. وليس ذلك لغرابة في ألفاظها ومعانيها، لكن لقرابة لا يمكنه إلا صلة رحمها وتدانيها. وذلك أنه لما نظر بعين فطنته، وميز بذكائه وسالم فطرته؛ تبين أنها من الفائق الذي لا يلحق، والشاهق الذي لا يطرق. ولعمري إنها لذلك، وإن قصرت عن شأو الشعراء نظاما، وضعفت عن ذلك [112/أ] المسلك حلولا وإلماها، فقد أحرزت بممدوحها جلالا وإعظاما؛ ومالت به في دوحة البلاغة غصنا ناعما، وطلعت في سماء البراعة بدرا تماما. ولا غرو أن المنازل تشرف بسكانها، وتغلو وترخص بجيرانها. وعلى هذا الدأب دأب، وإلى هذا المذهب ذهب وبه تمذهب.
والله تعالى يبقي بركته ويديم عافيته. ويتمم ما جنحت إليه طباعه، وسارع إلى تهذيبه من التواليف الشريفة والتصانيف المنيفة يراعه.
والسلام الأتم يعتمد كماله، ورحمه الله وبركاته. من معظم قدره أحمد ابن محمد الدباغ.
(1/401)
________________________________________
أنشدني لنفسه-نسأ الله في أجله-يمدح ابن عمنا الرئيس أبا الوليد إسماعيل ابن الأمير أبي سعيد فرج بن أمير المسلمين أبي الوليد إسماعيل عمّ أبينا ابن جدّنا الرئيس الأمير أبي سعيد فرج بن جدّنا الأمير يوسف الشهير بالأحمر ابن جدّنا أمير المؤمنين المنصور بالله أبي بكر محمد بن أحمد بن محمد بن خميس بن نصر الخزرجي:
عجبا أيتّخذ السّلوّ خليلا ... من ليس يأمل أن يبين نحولا
جهل العواذل ما به فتجاذبوا ... طرف الحديث عليه والتّأويلا
هيهات لو صحّت بصائرهم لما ... قالوا تسلّى حين صار عليلا!
دع ما ادّعوه وخذ حقيقة أمره ... ومن الدّليل تفهّم المدلولا
5 لو كان يركن للسلوّ لما بكى ... شوقا وحنّ صبابة وغليلا
واستطرف السّقم المبرّح مطرفا ... واستعذب التّعذيب والتّنكيلا!
والسّقم أفضح فاضح لذوي الهوى ... وكفى بذلك شاهدا مقبولا
يا أيّها المعذور في شأن الهوى ... هنّئت، إنّي لم أزل معذولا!
(1/402)
________________________________________
أنا من عهدت، أخو الهوى وخدينه ... ما زلت معروفا به مسئولا
[112/ب]
10 لم أمنح السّلوان بعض وفاي (1) لا ... وأبيك ما خنت الغرام فتيلا
ولربّما أصبحت مشغوفا بمن ... يمسي ويصبح بالجفا مشغولا
وسنان بتّ به سمير كواكب ... يطوي السّماء بها الدّجى ترحيلا
وكأنّه تاج لمفرق بدرها ... وكأنّها نظمت له إكليلا
في ليلة قصرت على أبراجها ... أنسا، وحلّت عقد صبري طولا
15 رقّ السّها فيها لما لاقيته ... وجدا فأخفاه ضنى وذبولا
[لا يبعد] (2) الله التي تركت دمي ... أسفا على أطلالها مطلولا
وتحمّلت وهي العليمة أنّ لي ... قلبا فويق حمولها محمولا
_________
(1) في «ط» وفاي. وصورة الصفحة مضطربة في «م» وتقرأ «ذماي» أيضا.
(2) موضع البيت مخروم في «ط» ولم تظهر الكلمة الأولى في «م». وقريب أن تكون مثل «حفظ» و «رعى» أو «لا يبعد» المؤدية معنى الدعاء، المقصود منه العتاب الخفيف.
(1/403)
________________________________________
أتبعتها يوم استقّلت عيسها ... دمعا يسحّ ولا عجا مشغولا
فمتى ظمت روّيتها، أو أظلمت ... أجّجت دون مطيّها قنديلا!
20 يا هذه إن كنت ظاعنة فلا ... تستثقلي جسدا غدا مهزولا
أو ليس أضحى في قبابك قلبه ... ملقى، وأمسى عقله معقولا؟!
ولئن بخلت فما عليك ملامة ... حق لمثلك أن يكون بخيلا!
ما لي وللدّعج المراض تنوشني ... وأبيت ولهانا بها مخبولا؟!
وأخاف آراما برامة رتّعا ... وأخال منها كل شعب غيلا!
25 حتى كأني نجل إسماعيل قد ... رميت جزيرته بإسماعيلا
ملك ألان الدّهر بعد قساوة ... وأعاده بعد الجماح ذلولا (1)
ملك براه الله يكفل خلقه ... وكفى به كهفا لهم وكفيلا
ملك إذا ما حلّ أرضا ظنّه ... -لجلاله-سكانها جبريلا!
_________
(1) في القصيدة مبالغات مغرقة عجيبة. وسنكتفي هنا بهذه الإشارة.
(1/404)
________________________________________
حتى إذا فاضت (1) أنامله ندى ... قالوا أتاح الله ميكائيلا!
30 وإذا امتطى منه المطهّم قال من ... شهد الوغى عاينت عزرائيلا!
[113/أ]
راقبه يوم الرّوع إذ تنبو الظّبا ... وترى الأسنّة عطّلت تعطيلا
والجوّ قد ضرب الظلام عليه من ... نسج القتام سرادقا وسدولا
وعلى متون الجرد كلّ سميدع ... قد عاد من بعد المضاء كليلا
لترى المهابة والجلالة والعلا ... والبأس والإنعام والتّفصيلا (2)
35 هذا ابن وحي الله تأخذ هديها ... معه الملائك بكرة وأصيلا
ذو (3) النّور توليه النبوّة والعلى ... شكرا كنائله الجزيل جزيلا
لا مثل يوم فيه يوم أدلّة ... يهدي إلى المتفقّهين عقولا
في موسم البحر الشنيع يروقني ... وأغضّ طرفا عن سناه كليلا
_________
(1) فيهما: فاظت، ونرجح ما أثبت.
(2) كذا بالصاد المهملة.
(3) كذا!
(1/405)
________________________________________
والجوّ يعثر في الأسنّة والظّبا ... والأرض راجفة تميل مميلا
40 والخافقات على الوشيج كأنّما ... يطلبن عند المعصرات ذحولا
والأسد فاغرة تمطّى بينها ... والدّهر يندب شلوه المأكولا
والشّمس حاسرة القناع وودّها ... لو تستطيع القرب والتّنقيلا
وعلى أمير المؤمنين غمامة ... نشأت تظلّل تاجه تظليلا
نهضت بثقل الدّر ضاعف نسجها ... وجرت عليه عسجدا محلولا
ذعرت مواكبه الجبال فأعلنت ... هضباتها التّكبير والتّهليلا
أمديرها من حيث دار لطالما ... زاحمت تحت ركابه جبريلا!
قد ضمّ قطريها العجاج فما ترى ... بين السّنان وكعبه تحليلا
رفعت له فيها قباب لم تكن ... ظعنا بأجراع الحمى وحمولا
وتباشر الفلك المدار كأنّما ... يبغي بهنّ إلى السّماء رحيلا
(1/406)
________________________________________
50 يدني إليها البخت كلّ عذافر ... يهوي إذا سار المطيّ ذميلا (1)
تتعرّف الهضب المواثل حوله ... نسبا، وينكر «شدقما» * و «جديلا»
[113/ب]
وتجنّ منه كل وفرة لبدة ... ليثا، ويحمل كلّ عضو فيلا!
وتظنّه متخبّطا من كبرة ... وتخاله متنّمرا ليصولا
وكأنّما الجرد الجنائب خرّد ... سفرت تشوق متيّما متبولا
55 يبدو عليها للمعزّ تواضع ... فيكون أكثر مشيها تعجيلا (2)
ويحلّ عنها قدره حتّى إذا ... راقته كانت نائلا مبذولا
من كلّ يعبوب يجيد فلا ترى ... إلا قذالا ساميا وتليلا
وكأنّ بين عنانه ولبانه ... رشأ، يريغ إلى الكناس، خذولا
_________
(1) البخت: الإبل الخراسانية. والعذافر العظيم الشديد من الإبل.
(*) فيهما.
(2) كلمة غير ظاهرة في الأصلين، وهذه أقرب قراءة واقرأ أيضا تحجيلا.
(1/407)
________________________________________
لو تشرئب له عقيلة ربرب ... ظنّته جؤذر رملها (1) المكحولا
60 جذلان أقبل ماشيا متنصيّا ... عدوان أدبر خاضبا إجفيلا (2)
تتبيّن اللحظات فيه مواقعا ... فتظنّ فيه للغرام محيلا
تستنزل الأروى (3) على صهواته ... ويبيت في وكر العقاب نزيلا!
يهوي بأمّ الخشف (4) بين فروجه ... ويقيّد الأدمانة العطبولا
صلتان (5) يعنق في البروق لوامعا ... ولقد يكون لأمّهنّ سليلا
يستقرب الشأو البعيد مسابقا ... ويجىء سابق حلبة مشكولا
هذا الذّي ملأ القلوب مهابة ... هذا الذي ترك العزيز ذليلا!
فإذا نظرت نظرت غير مشبّه ... إلا التفاتك راية ورعيلا
_________
(1) في «ط» وصلها.
(2) الإجفيل: الظليم ينفر من كل شيء. والخاضب: الظليم إذا أكل الربيع فاحمر ظنبوباه.
(3) الأروى ج الأروية: أنثى الوعول.
(4) الخشف: ولد الظبي أول ما يولد.
(5) الصلتان: النشيط، الحديد الفؤاد من الخيل.
(1/408)
________________________________________
إن تلتفت فكرادسا ومغانيا ... أو تستمع فتغمغما وصهيلا
يوم تجلى الله في ملكوته ... فرآه في المرأى الجليل جليلا
70 وتحلّت الدّنيا بسمطي درّها ... فرأيتها شخصا لديك جميلا
حليّت فيه بمقلة فمنحته ... نظرا بيوم غيره مشغولا
ورقيت منبرك المعلّى واجفا ... من تحت عقد الرّايتين مهولا
[114/أ]
مسدول ستر جلالة أنطقته ... فرفعت عن حكم البيان سدولا
وقضيت حقّ العام مؤنفا وقد ... ودّعت عاما للجهاد محيلا
75 وشفعت في وفد الحجيج كأنّما ... نفّلتهم إخلاصك المقبولا
وصدرت تحبو الناكثين مواهبا ... هزّت قؤولا للسّماح فعولا
وهي الجرائم والرّغائب ما التقت ... إلا لتصبح قادرا ومنيلا
(1/409)
________________________________________
قد جدت حتى أمّلتك أميّة ... لو أنّ وترا لم يضع تأميلا!
عجبا لمنصلك المقلد كيف لم ... تسل النّفوس عليك منه مسيلا
80 لم يخل جبّار الملوك بذكره ... إلا تشحط في الدّماء قتيلا
وكأنّ أرواح العدا شاكلنه ... فإذا دعا لبّى الكميّ عجولا!
وإذا استضاء شهابه بطل رأى ... صور الوقائع حوله تخييلا
فإذا رأيناه رأينا علّة ... للنّيّرات، ونيّرا معلولا
بك حسنه متقلدا، وبهاؤه ... متنكبا، رمضاؤه مسلولا
85 فإذا غضبت علته دونك ربدة ... يغدو لها طرف النّهار عجيلا
وإذا انطويت على الرّضا أهدى إلى ... شمس الظهيرة عارضا مصقولا
سمّاه جدّك ذو الفقار وإنّما ... سمّاه من عاديت عزرائيلا!
كتب الفرند عليه بعض صفاتكم ... فعرفت فيه التّاج والإكليلا
(1/410)
________________________________________
قد كان ينذر بالوعيد لطول ما ... أصغى إليك، ويعلم التأويلا
90 وكأن به لم يبق وترا صائلا (1) ... في كربلاء ولا دما مطلولا
أو ما سمعتم عن وقائعه التي ... لم تبق إشراكا ولا تبديلا
سارت به شنع (2) القصائد شرّدا ... فكأنّما كانت صبا وقبولا
حتى قطعن إلى العراق الشام عن ... عرض وجزن الى الفرات النّيلا
[114/ب]
طلعت على الطّلقاء بالسّير التي ... سيرتها غررا لكم وحجولا
95 أجلين من فكري إذا لم يسمعوا ... لسيوفهنّ المرهفات صليلا
ولقد هممت بأن أفكّ قيودها ... لمّا رأيت المحسنين قليلا
حتى رأيت قلائدي منحولة ... والقول في أمّ الكتاب مقولا
ولئن سلمت لأجلينّ لعزها ... ميدان يشفي مقصرا ومطيلا
_________
(1) في «م» صائلا وفي «ط» سائلا.
(2) كذا فيهما. قال في القاموس «المشنوع: المشهور».
(1/411)
________________________________________
حتى كأني ملهم وكأنّها … سور أرتّل آيها ترتيلا
100 ولقد ذعرت لما رأيت فغودرت … تلك المهّندة الرّقاق فلولا
ولقد رأيتك لا بلحظ عاكف (1) … فرأيت من شيم النّبي شكولا
ولقد سمعتك لا بسمعي هيبة … لكن وجدتك جوهرا معقولا
أبني النّبوة هل تغادر آية … ويقال فيكم غير ما قد قيلا
إنّ الخبير بكم أبان بفضلكم … غيبا وأنزل فيكم التّنزيلا
105 وأتاكم القدس الذي لم يؤته … بشرا وأنفذ فيكم التفصيلا
إنّا استلمنا ركنكم ودنوتم … حتى استلمتم عرشه المحمولا
فوصلتم ما بينه وأمدّكم … برهانه [بفنائه] (2) موصولا
ما عذركم ألا تطيب فروعكم … ولقد رسختم في السماء أصولا
أعطتكم شمّ الأنوف مقادة … وركبتم ظهر الزّمان ذلولا
110 خلّدتم في العبشميّة لعنة … خلقت-وما خلقوا لها-تعجيلا!
راعتهم بكم البروق كأنّما … جرّدتموها في السّماء نصولا
فيمن تظنّون الأئمّة منهم … إن حصلت لعناؤهم تحصيلا
من أهل بيت لم ينالوا (بغية؟) … من فاضل عدلوا به مفضولا
لا تعجلوا إني رأيت أناتكم … وطأ على كتد (3) الزّمان ثقيلا
[115/أ]
115 أمتوّج الخلفاء حاكمهم وإن … كان القضاء بما تشاء كفيلا
_________
(1) كذا ورد الشطر فيهما. قلت: وانظر البيت التالي.
(2) كلمة لم تتبين بوضوح، والمثبت قريب من الرسم.
(3) الكتد: مجتمع الكتفين من الإنسان.
(1/412)
________________________________________
والكتب لولا أنّما لك شهّد … ما فصّلت آياتها تفصيلا
الله يجزيك الذّي لم يجزه … -فيما هديت-الجاهل الضّليلا
ولقد براك فكنت موثقه الذي … أخذ الكتاب وعهده المسؤولا
حتى إذا استرعاك أمر عباده … أدنى إليك أباك إسماعيلا
120 من بين حجب النور حيث تبوّأت ... آباؤه ظلّ الجنان ظليلا
وورثته البرهان والتّبيان … والقرآن والفرقان والإنجيلا
وعلمت من مكنون علم الله ما … لم يؤت جبريلا وميكائيلا
لو كنت آونة (1) مبشّر أمّة … نشرت لمبعثك القرون الأولى!
أو كنت نوحا منذرا في قومه … ما زادهم بدعائه تضليلا
125 لله فيك خفيّة لو أعلنت … أحيا بذكرك قاتل مقتولا!
لو كان آتى الخلق ما أوتيته … لم يخلق التّشبيه والتّمثيلا!
لولا حجاب دون علمك حاجز ... وجدوا إلى علم الغيوب سبيلا!
لو لم تكن (2) سبب النّجاة لأهلها ... لم يغن إيمان العباد فتيلا
لولاك لم يكن التّفكر واعظا … والعقل رشدا والقياس دليلا
130 لو لم تعرّفنا بذات نفوسنا … كانت لدينا عالما مجهولا
_________
(1) كذا في النسختين.
(2) فيهما «يكن» ونرجح ما أثبت.
(1/413)
________________________________________
لو لم يفض لك في البريّة ما حل ... كانت مفوّفة الرّياض محولا
لو لم يكن فيك اعتبار للورى ... خلوا فلم يكن الدّليل دليلا!
نبّه لنا قدرا نغيظ به العدا ... فلقد تجهّمنا الزّمان خمولا
لو كنت قبل نكون جامع شملنا ... ما نيل من حرماتنا ما نيلا!
[115/ب]

شيخنا الفقيه عبد الغفار بن موسى البوخلفي (1):
[كنيته:]
يكنى: أبا محمد. وهو من أهل فاس. وبها رأيته، وأجازني في التاريخ والآداب.

حاله-رحمه الله تعالى-:
هو فقيه نبيه، ومعظّم عند الناس ووجيه. حافظ للتواريخ القديمة والحديثة، يستعذب المجالس له نظمه وحديثه. قد انقادت له أزمة مطايا الإنشاء، فيصوغ (2) منها ما يحب وما يشاء. وميدان الفصاحة عنه غير ممنع، إذ لا يتكلم أكثر أوقاته إلا بكلام مسجع. وكان قد رأى
_________
(1) سيذكره ابن الأحمر مرة أخرى في الباب الثاني عشر. وقد قال فيه هناك «شيخنا الفقيه المتفنن».
(2) رسمت الكلمة في الأصلين «فيضوغ» مشددة الواو.
(1/414)
________________________________________
غزالا ذكره أيام غزله، وأنهضه الى عصر التصابي بدوله، فأنشد مرتجلا، وفي ذلك الغزال متغزلا!
وشادن مثل وجه البدر غرّته ... سبى فؤادي فما أبقى ولا تركا
جسمي له دارة والقلب مركزه ... فحيثما دار كانت مهجتي فلكا
له لحاظ تصيد العاشقين ولم ... تخف عقابا بما صادت ولا دركا
وثغره كوميض البرق تبصره ... يلوح من شفتيه كلّما ضحكا!
فاعجب لظبي غدا للأسد مقتنصا ... مستعملا من ظبا ألحاظه شركا
أهوى رضاه وأهوى أن يعذّبني ... فمسلكي في هواه حيثما سلكا!
وأتى يوما لدار بعض أصحابه ليستدعيه، إلى أدب يرويه، أو خبر طيب يعيه، فخرج إليه وقد اشتد نار ولوعه، وهو يؤجّجها بفض دموعه! فتعجب مما دهاه من الداهية الدّهماء، ومن النار المتأججة بالماء، فسأله عن لوعته، فأخبره بعظيم فجعته، لما أصيب بولده محمد الملقب بأبي نور؛ الذي يحسده الغصن في تمايله ويظل البدر منه غيور (1)،
_________
(1) كذا لضرورة السجع!
(1/415)
________________________________________
فاسترجع ثم قال ليسليه، من الكرب الذي انغمس فيه، ويؤدي من حق التعزية ما يجب للمؤمن من حق أخيه:
[116/أ]
ما المرء في هذه الدّنيا بمسرور ... فيا أخا الحزم صبرا عن أبي نور
واعلم بأنّ سهام الموت صائبة ... تقضي على آمر منّا ومأمور
وقل كقول رسول الله محتسبا (1) ... نعم، وما إن بقول الرسل من زور:
إنّ الفؤاد لمحزون وليس لنا ... إلا رضى الله لا نرضى بمحذور

شيخنا الفقيه الأستاذ النحوي المقرىء محمد بن محمد بن محمد ابن داود الصنهاجي (*):
[كنيته:]
يكنى: أبا عبد الله، ويدعى بأبي المكارم منديل؛ ويعرف بابن آجروم. وهو من فاس، وبها رأيته، وأخذت عنه العربية. وأجازني إجازة عامة.
_________
(1) يعزيه، ويطلب إليه التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم في موقفه ومقالته صلوات الله عليه في «إبراهيم» ابنه يوم استأثر الله به.
(*) هو ابن صاحب (الآجرومية) المشهورة في النحو. وكان «حافظا للطريقتين التاريخية والأدبية» وفي أخباره أنه كان يقرأ مقامات الحريري في بعض محاضراته الأدبية كما ذكر ابن الاحمر أيضا. وكانت وفاته سنة 772.
(1/416)
________________________________________
وأبوه أبو عبد الله محمد كان فقيها متفننا، أستاذا، نحويا، لغويا، مقرنا، شاعرا، بصيرا بالقراءات. ولم يكن في أهل فاس في وقته أعرف منه بالنحو (*).
ومن قوله في (من) حلق رأسه:
ما شانه شينا حلاقة رأسه … بل زاد أضعافا بذاك جماله
فالبدر أضوأ ما يكون إذا نأت … عنه السّحاب ويستبين كماله
والشمع أنور ما يكون ضياؤه … للناظرين إذا يقطّ ذباله
ومحمد (1) والد محمد كان فقيها، فرضيا، صالحا، ورعا.
وشيخنا محمد بن محمد بن محمد-المدعو بمنديل هذا-كنت أحضر حلقته حين كان يقرىء مقامات الحريري بجامع القرويين من فاس أنا وابن عمي الرئيس إسماعيل. وكان يحضر في جملتنا شاب وسيم من أبناء مرين وهو عمر بن عبد المؤمن بن عمر الينجناسني. وكان شيخنا منديل هذا يميل إليه (2) ويظهر أنه خلي. . . فكتبت له بقولي:
من مبلغ الأستاذ عنّا أنّه ... شغل الخواطر، والنواظر سهّدا
جئنا لنقتبس الهدى من نوره ... لمّا أضاء بقطرنا وتوقّدا
_________
(*) قال فيه أحمد بابا في نيل الابتهاج «الأستاذ النحوي، صاحب المقدمة في النحو» ومولده سنة 672 ووفاته 723 بفاس. وكان عالما بالقراءات.
(1) جد المترجم به.
(2) هذه القطعة والتالية لها تدخل في مداعباتهم. نثير الجمان-27
(1/417)
________________________________________
فإذا به-والله يجزل أجره! - ... يجلو فتون السّحر في بيت الهدى
[116/ب]
ومن العجائب أنّه ذو فطنة ... وأراه عن فهم الفتون تبلّدا
وبزعمه لم يهو إلاّ روضة ... أدبيّة قد راد منها موردا
وأنا أقول بضدّ ما قد قاله ... والحقّ ليس بممكن أن يجحدا!
وبعث له ابن عمنا الرئيس-سميي-معرّضا بذلك الوسيم بقوله:
أبا المكارم ذا الأحاجي والحجا ... وابن الجهابذ جلّة النّفّاذ
لا أعتبنّ على الصّبابة بعد أن ... فتكت ظبا الألحاظ في أفلاذ (1)
ولقيت من عمر الذي لا قيته ... ولطالما أكثرت منه عياذي!
أومى إليّ بمقلة ريميّة … قد عزّني وزري لها وملاذي
فرجعت عن دين الملام لأجلها … وعجبت كيف تصبرّ الأستاذ!

حاله-رحمه الله-:
كان حسن المشاركة في العربية، حافظا للطريقتين التاريخية والأدبية.
_________
(1) كذا فيهما، واقرأ أيضا: أفلاذي.
(1/418)
________________________________________
حسن المخايل، لطيف الشمايل. مع ذكاء لا يوجد في سواه، وكلام أحلى من الشهد في الأفواه. ونظم كالقلائد، في أجياد الخرائد: ونثر بارع مستعذب، أرق من مرّ النسيم وأطيب، بل هو أحلى من الشهد وأعجب!.
أنشدني لنفسه في الفخر والتعريض لبعض أهل العصر:
من المشيب على فوديه يشتعل ... فكيف باللهو في دنياه يشتغل؟!
وكيف يحرص في طول المقام بها ... من كان يعلم أن لا بدّ يرتحل
صحّ الذّي خرّج الشيخان من نبأ ... عن النّبيّ وما في قوله خطل
إن الفتى إن يشب مسودّ مفرقه ... تشبّ منه اثنتان: الحرص والأمل
[117/أ]
5 إنّي لأعجب ممنّ ساءه عمر ... وسرّه أنّ أمر النفس ممتثل
لكنّ أعجب منه مبتغي رتب ... ولا لديه بها علم ولا عمل!
شتّان ما بين من رقّاه محتده ... وخامل كسل أودى به الكسل
قل للمناوي بإفك المين من حسد ... أيستوي الكحل في العينين والكحل؟!
(1/419)
________________________________________
نحن الألى فرعوا للمجد ذروته ... وفي ظلال تلاع العزّ قد نزلوا
10 إن كان ذو نهل للعلم أو علل ... فعن أبي كان ذاك النّهل والعلل
لم نتّكل في ارتفاع الصيّت قطّ على ... إشادة الصّوت من زيد-كما اتكّلوا-
ولم نبع أجر تعليم القرآن (1) بما ... يفنى من السّوم في الدّنيا-كما فعلوا-
يقرّ بالفضل إنصافا لصاحبه ... ويسبق السّيف في أعدائنا العذل
وليس ظهري لباغي الضّيم محتملا ... كما سوانا إليه-الدّهر-يحتمل
15 لا نبتغي غير هذا في الدّنى صفة ... قفوا لشنشنة دانت بها الأول
ما طلب أصل له فالفرع يتبعه ... وليس عن طبعها الأشياء تنتقل
لو أسقيت بمجاج النّحل حنظلة ... لم يعذب الطّعم منها ذلك العسل
بسيبويه نسينا كلّ فائدة ... في صنعة النّحو لا «الكرّاس» و «الجمل»
وفي مسائل «إيضاح» لنا وضحت ... من التّصرّف شمس بيتها الحمل
_________
(1) اقرأ «القران» بنقل حركة الهمزة إلى الراء.
(1/420)
________________________________________
20 وعندي «حرز الأماني» شاهد فطن ... إذ أحرزت بحمانا تلكم السّبل
وكم لنا في «عروض الشعر» من نكت ... يدري بذلك عنا «الزّحف» و «العلل»
«بالشعر» نفعل إن نشرع أسنّته ... ما ليس تفعله الخطّية الذّبل
إن كنت تجهل هذا فلتعد نظرا ... ما العالمون كمن للشّيء قد جهلوا!
وطلب منه صاحبنا الفقيه أبو العلى إدريس بن أبي زيد التونسي [117/ب] (1) أن يصنع (غداء) لكسكسو (2)
_________
(1) سقط من نسخة دار الكتب المصرية المرموز لها عندنا في هذا الكتاب ب‍: «م» الورقتان 117 و 118 ونحن نستدركهما هنا من نسخة الرباط «ط» ومما يؤسف أن هاتين الورقتين في نسخة الرباط قد أصيبتا بتآكل شديد، وثقوب كثيرة بفعل الأرضة. وها أنذا أستدرك من الورقتين ما أمكنت قراءته، أو استجلاؤه. ويظهر أن سقوط الورقتين من نسخة دار الكتب المصرية حديث لأن أرقام صفحات المخطوطة المعلمة بقلم الجرافيت (قلم الرصاص) متسلسلة إلى الورقة 116 ثم تبدأ من 119.
(2) من الطريف أن في الورقتين حديثا عن «الطعام» المشهور عند المغاربة والأندلسيين، المعروف ب‍ «الكسكسو». وهو طعام يهيأ من السميد المفتول «المعالج مسبقا على هيئة خاصة» والمطيب «المطبوخ» في قدر خاص مكون من جزأين، يتسرب البخار من أدناهما إلى أعلاهما-من ثقوب في القسم الأعلى-لينضج السميد. وفي القدر الأدنى اللحم، مع خضار الموسم، ولكنها تحتوي أساسا على البطاطس والجزر «الأحمر» واللفت. واللفت المشار إليه في الأبيات التالية هو نوع خاص له شكل الجزر ويميل إلى الغلظ عنه، =
(1/421)
________________________________________
(فصنعه) له، وأحضره بين يديه في منزله و (طلب؟) منه أن يحضر معهم صاحبنا الفقيه أبو عبد الله الماجري المغيلي. فبعث شيخنا منديل إليه [ببطاقة دعوة فيها] (1):
. . .
فإنّ عندي أبا العلى وله … إرادة أن يراك في الوقت
قد جعلت القرى لمقدمه … الكسكسو بالقديد واللّفت
(لو جئت) مستعجلا لتجمع من … حضورنا مطلبين في سمت
سمعك للحين من قصائدنا ... والأكل أكل (الحضور؟) للسحت!
فأتى أبو عبد الله الماجري-أكرمه الله تعالى-وقد نظم أبياتا للجواب أسرع من طرفة العين، والتزم فيها التجنيس بين كل قافيتين، فقال:
يا من بآدابه البديعة قد ... أخمل ذكر البديع والبستي (2)
_________
= أبيض اللون، له مذاق جيد إذا نضج. وعلى الرغم من أن المواد الأولية التي تستخدم في تحضير الطعام-الكسكسو-واحدة إلا أنهم يتفننون في إعداده. ولكل منطقة عندهم طريقة في التفنن وفي الإضافات عليها من أبزار وخضار وأعشاب وبيض وعسل الخ. ولشيوع هذا النوع من الأكل أخذ اسم «الطعام» في بعض المناطق، كالذي أعرفه في «وهران» والمغرب الجزائري. وأما «المغربية» التي تصنع في بعض البيوت الشامية فشبيهة من بعيد بالكسكسو، وليست بذاك!
(1) عبارة مقدرة لم يظهر أثرها، لتآكل نحو ثلاثة أسطر من الصفحة، وتكون القطعة الشعرية ناقصة بيتين أو ثلاثة ابيات.
(2) بديع الزمان الهمذاني، وأبو الفتح البستي.
(1/422)
________________________________________
وسيّدا (1) من يشم شمائله ... يقل فرى (؟) ذا الجمال والبست
لبّيك يا من دعا أحبّته ... ل‍ «كسكسو» بالقديد واللّفت
قد كنت عقلي (2) ب‍ «كسكسو» وأنا ... ألفت من نهمتي أخو لفت 3
وقد قلى ذكر (3) القديد فإن ... حمّ لقاه فغاية البخت
وكدت لمّا سمعت ذا فرحا ... (أطير؟) (4) يا سيّدي من البخت
فليهننا عندكم تألفّنا ... مؤمّنا من غوائل الشّت
نقطف من دوحة المنى ثمرا ... أحلى وأغلى من الحلى السّت!
قوله «قد كست عقلي» أي رفعته، من قولهم «كاس الفرس» إذا رفع إحدى قوائمه. . . (5). وقوله: «أخو لفت» من قولهم لفثّ فلانا ألفته إذا (لويته وصرفته) (6).
_________
(1) في الأصل: وسيد، ونرجح ما أثبت.
(2) رسمها في الأصل «عقلى».
(3) كذا ورد في الأصل.
(4) في الأصل «ان ص» مهملة.
(5) كلام لم يظهر وفي القاموس «كاس البعير: مشى على ثلاث قوائم وهو معرقب».
(6) كلام لم يظهر.
(1/423)
________________________________________
وأنشدني (1) لنفسه (في؟) منديل بن زنبق:
. . . فاعمل على. . . فإنك ميت … حين ابتليت بخطة «العقار»
وكان العقار المذكور قدم صاحب الصلاة، فعاجلته قبل تمام الشهر الوفاة. وقدم ابن زمور بعده، ثم عزل قبل أن يأخذ للأمر عدة.
ولما عزل ابن زمور، ورجع بعده منديل بن زنبق قال فيه صاحبنا الفقيه أبو العلى إدريس ابن أبي زيد التونسي:
إن ابن زنبق جار في أحكامه … وسطا (على) الفقراء والضعفاء
فالله ينزع عنه ستر مصانه … نزع الدّنانر من يد السّفهاء
(فرميت) سهمي في صميم فؤاده … والحتف يصحب أسهم الشعراء
فعزل بعد أيام قلائل.
وطلبت من شيخنا منديل هذا أن يبعث لي بشعر أبي بحر صفوان بن إدريس (2) في رثاء الحسين بن علي-رضي الله عنهما- وأرسلت له في ذلك أبياتا من قولي، وهي:
_________
(1) سقط قبل هذه العبارة سطران. وسقط من النص بضع كلمات مع البيت من الشعر. وما جاء في النصوص بين قوسين معقوفين فهو مقترح لإتمام سياق الكلام، وما جاء بين قوسين هلالين فهو قراءة متبينة تبينا جزئيا.
(2) أبو بحر صفوان بن إدريس التجيبي المرسي 560 - 598، شاعر، كاتب، أندلسي له شعر ونثر. وهو صاحب كتاب زاد المسافر وغرة محيا الأدب السافر. وله قصيدة اشتهرت عندهم في رثاء الحسين بن علي. (انظر مقدمة زاد المسافر بتحقيق عبد القادر محداد-طبع الجزائر-وأبو البقاء الرندي-من تأليفي-سلسلة الذخائر العدد 2).
(1/424)
________________________________________
أيّها الأستاذ يا من … هو قوت للقلوب
والسّريّ النّدب ذو الـ … ـمجد وذو الفضل الرّحيب
ابعثن لي بقريض … لأبي بحر الأديب
في رثا المولى حسين … ذي العلى الأزكى الحسيب
دمت (في كل) جديد … آمنا (ضر) الكروب
فجاوبني بقوله (. . .) (1):
شعر صفوان بن إدريـ … ـس أخي (الفهم؟) العجيب
يندب المولى حسينا … بنحيب ووجيب
سلم الله عليه … في شروق وغروب
(فجزى) الرّحمن خيرا … من رثاه من أديب!
وأنشدني لنفسه يعزي الفقيه القاضي الخطيب الرئيس الكاتب صاحب القلم الأعلى أبا القاسم محمد بن الفقيه الصالح أبي زكريا يحيى الغساني البرجي الأندلسي (2) في بنت توفيت:
تأسّ أبا القاسم في الذي … أصبت به من ممات البنات
بقول النّبي عليه السّلام … دفن البنات من المكرمات
_________
(1) في الصفحة سطران لم يظهرا. وأحد السطرين كما يبدو مطلع المقطوعة.
(2) قال ابن الخطيب في ترجمته في الإحاطة إنه فاضل مجمع على فضله، حسن الخط والشعر والكتابة. وذكره في شعراء الكتيبة الكامنة ووصفه بالشعر والخطابة. وعدّه ابن الأحمر في مستودع العلامة في شيوخه. غادر المترجم الأندلس، وخدم في دولة أبي عنان المريني كاتبا للعلامة وتولى قضاء فاس. (انظر في ترجمته: الإحاطة 2:215 ونيل الابتهاج 266 والكتيبة الكامنة 520 ومستودع العلامة 56 والتعريف 64).
(1/425)
________________________________________
فذيل عليها صاحبنا الفقيه الكاتب أبو عبد الله محمد بن حزب الله الطائي الوادي آشي بيتا لأجل التجنيس، وكان كثيرا ما يعني به، فقال:
وقد كنت تخشى بها المكر من ... غوائل صهر، فها المكر مات!
وهذا المعنى نظير قول أبي القاسم السّجزي من شعراء اليتيمة (1).
يا ماكرا بي وبخلانيه ... مهلا فما المكر من المكر مات
عليك بالصحّة فهي التي ... تحيا فتحييك إذا المكر مات!
وأنشدني لنفسه يمدح أمير المؤمنين (المتوكل على الله) أبا عنان المريني ملك المغرب-رحمه الله تعالى- (. . .) (2) ومنها:
*ألا لله هاتيك الليالي* (3)
كأن الشمع سهم من نضار … يقدّ الدّجن أو عصب يمان
كأن ذبالها لسن الأفاعي … إذا نضنضن أو قلب الجبان
كأن القطر منها دمع ثكلى … تواتر، أو نثار من جمان. . .
[119/أ]
كأنّ الزّهر زهر غبّ قطر … تبسّم ثغره بالأقحوان. . .
كأنّ الشّمس مشرقة محيّا … أمير المؤمنين أبي عنان!
_________
(1) أبو القاسم محمد بن محمد السجزي. والبيتان في اليتيمة 4:237 (طبعة الشامي).
(2) هذا هو المتبين من القصيدة المذكورة، وهي في المخطوطة في نحو عشرين بيتا. ولم يتضح أولها.
(3) ورد هذا البيت قبل أبيات التشبيه وسقط عجزه
(1/426)
________________________________________
وأخبرني أنه اجتمع مع بعض أصحابه ليلة إعراس عند بعض إخوانه، فاستبطأهم الطعام فقال:
يا معرسا عرس الجمال بخدّه … روضا بهار (رائع) وشقيق
بادر-فديتك-للذين دعوتهم … بالمرجفين: الطّست والإبريق!

صاحبنا الأستاذ النحوي المقرىء (اللغوي) علي بن محمد بن
عمر الصنهاجي:
[كنيته:]
يكنى: أبا الحسن، وهو من أهل فاس. وبها رأيته وصحبته، ويعرف بالقصار.

حاله:
هو واسطة عقد النحويين، وصدر أولي المعرفة من اللغويين.
وفصيح الأذكياء، ووحيد النبلاء. وهو فرد في (رفع؟) النادرة، وصاحب فكاهة متبادرة.
وكان قد قلب-وهو واقف في صلاة التراويح-بجامع الأندلس من فاس. وكان قد وقع بينه وبين شيخنا الأستاذ النحوي منديل بن آجروم (وحشة) في شعبان أربع وأربعين وسبع مئة. فلما بلغ لابن آجروم شيخنا عنه (أنه قلب) أدركته عليه [119/ب] فرقة الصحبة والمودة وكتب إليه متفجعا لما اتفق عليه، بأبيات وهي:
أبا حسن إني وحقّك في كرب ... لما قد دهاك الدّهر من حادث القلب
وقد ساءني-والله-منذ سمعته ... فلا أذني سرّت بذاك ولا قلبي
(1/427)
________________________________________
ففي كبدي للحزن نار تأجّجت ... ومن مقلتي للدّمع سكب على سكب
لو انّ الأسى يجدي على كلّ فادح ... لكنّا لزمناه على ذلك الخطب
ولكنّ أمر الله في الخلق نافذ ... ولا وزر عن كلّ ما خط في الكتب
وخير الأمور الصّبر عند ملمّة ... عليك به، تعطى الثّواب من الرّبّ
وكن حذرا (1) مما يضرّك قربه ... وبعدك عنه فاجعلن عوض القرب
فكم ذي قلى غرّتك منه صداقة ... يقدّ أديم العرض بالهجر والعتب
وربّ خليل خلتموه أخا قلى ... ينيلكم محض الوداد بلا خبّ
أبا حسن هذي وصيّة ناصح ... محبّ فخذها بالقبول وبالحبّ
وعد للذي قد كان قبل من الصّفا ... فروض ودادي فيك ما زال ذا خصب!
فجاوبه بقوله:
خليلي يا منديل من دون ما ريب ... أتتني قواف عن ودادكم تنبي
_________
(1) في «ط» حاذرا.
(1/428)
________________________________________
وهذا هو المعتاد منكم، جزيتم ... على رعي ودّي ما تشاؤون من ربي
أخو المرء من يرعى المودّة نائيا ... وليس عجيبا أن تراعى مع القرب
مؤاخاتنا لا يعتريها تقاطع ... وفرض اعتقاد لا يصير إلى النّدب
5 فتبّا لمن كان انقطاع إخائنا ... على يده لا زال في الويح والتبّ
أقول لصحبي ما قضى الله كائن ... رضيت بفعل الله من سهل او صعب
قضى الله لمّا أن تجاور نوننا ... لباء الأعادي أن يسكّن بالقلب!
فروّعني من بعد ما كنت آمنا ... ولولا بقاء العمر حان بها نحبي!
[120/أ]
فقمت سريعا مستغيثا بسبّه ... وما نلت في ذاك المقام سوى السّبّ
10 إذا كان ذا بالمسجد الجامع الذّي ... يصلّى به ماذا يكون لذى الدّرب؟!
فيا ليت شعري ما دعاه لفعله ... وهل لمنوني جاء أم سلب الثّوب؟!
(1/429)
________________________________________
ويا ليت شعري هل فعلت له أذى ... فعاملني من أجل ذلك بالضّرب
وهل كان ذاك الفعل منه تعمّدا ... فآخذ حذري بالسّنان وبالعضب
حمدت إله العرش إذ خاب سعيه ... وإذا لم يضرني ما دهاه من الخطب
15 وما أسفي إلا الّذي قد جهلته ... وجهلي به-والله-قد زاد في كربي
وتالله إني ما ظننت بخاطري ... عدوّا يرى من بعض ما يشتهي رعبي!
فإنّي لم أعرف أخا الضّغن والقلى ... ولا مال طبعي بالإخاء لذي خبّ
وما ذاك إلا من ذنوب تقدّمت ... وسطّرها الأملاك في الصحّف والكتب!
فيا ربّ إني آيب لك تائب ... فحطّ بها الأوزار يا قابل التّوب
20 عليك سلام الله-منديل-ما بدت ... لنا منك أبيات تدلّ على الحبّ!
(1/430)
________________________________________
الشيخ الفقيه الصوفي محمد بن أحمد بن شاطر الجمحي (*)
[كنيته:]
يكنى أبا عبد الله، وأدركته، ورأيته، وصحبته بفاس. وهو من أهل مراكش، وأصل سلفه من الأندلس واستوطن مدينة فاس. وبها توفي-رحمه الله تعالى-.

حاله-رحمه الله تعالى-:
هو الذي زهرت في روضات العرفان أزهار علومه، وبهرت في دوحات الإحسان آثار فهومه. وهو رئيس المتصوفين، وصدر أعلام المحققين.
وبحر الجلالة الذي لا يكرع في عبابه، وهزبر الذكاء الذي لا يقرع ببابه.
لا تلقاه إلا ذاكرا، ولا تراه إلا شاكرا. سريع الدمعة، مجانب للسمعة، ذو بلاغة وفصاحة، وصاحب حكم وفصاحة. مليح الشّيبة، حسن الحضور والغيبة.
أنشدني لنفسه يتغزل [120/ب] وقالها في صباه في (من) اسمه سعد:
يا سعد صل دنفا بوصلك مغرما … أعيى الأواسي طبّه بل أعجما
ما ضرّ لو رحم ****** فربما … أحيا العليل بوصله يا نعم ما
يا ريم عزّ طلابه قسما بما … لو نبتغي نفقا له أو سلّما
قطب المحاسن فرقد قمر السما … الشمس أنت ففقت رقت الأنجما!
_________
(*) ترجم له ابن الخطيب في الإحاطة، وأحمد بابا في نيل الابتهاج 248 والمقري في نفح الطيب 5:248 قال وكان حيا سنة 757. ونقل لسان الدين عن المقري (الجد) أن ابن شاطر رزق بصحبة الصالحين حلاوة القبول، فلا تكاد تجد من يستثقله قال، قلت له يوما: كيف أنت؟ فقال: محبوس في الروح! وقال: الليل والنهار حرسيان أحدهما أسود والآخر أبيض وقد أخذا بمجامع الخلق يجرانهم إلى يوم القيامة، وإن مردنا إلى الله تعالى.
(1/431)
________________________________________
صاحبنا الفقيه العدل محمد بن أحمد بن ابراهيم بن موسى الكومي
[كنيته:]
يكنى أبا عبد الله. وهو من أهل تازا (1). ورأيته بفاس، وبها توفي.
وأخبرني أنه من ولد أمير المؤمنين عبد المؤمن بن علي الموّحد؛ ويعرف بالنّيار. وبرز عدلا بسماط شهود مدينة فاس.

حاله:
هو خازن العلم وواعيه، الذي توفرت لديه دواعيه. ورئيس العدالة ومبداها، ومعدن المروءة ومنتهاها. الباسط جناح الود للإخوان، ورافع جناح العتب عمن أساء إليه بما سوّل له الشيطان. ظهر له في الآداب باع أي باع، وكان لمحاسنه جلاّء ولثناياه طلاّع. وقاد أعنته وأزمّته، وتقلد حسامه وامتطى صهوته.
أنشدني لنفسه يداعب. .
الآن آنت توبة للتّائب … من بعد ما اخضرّ النبات بشارب
كلا وقد خلع العذار خلائعا … ما العذر فيه براجع أو آيب
يا معرضا عنّا ومالك أن ترى … أبد الزمان القلب فيك براغب
ومعرّضا بمنابه ومتابه … ما هذه حال المنيب التائب
لو كان ذا قبل العذار فربما … أخفيت تزوير المقال الكاذب
فمتاب من ظهر النبات بخدّه … كمغرغر أبدى المتاب بحاجب
_________
(1) قال في الاستبصار 186 «إن آخر بلاد المغرب الأوسط وأول بلاد المغرب تازا. وهي جبال عظيمة حصينة كثيرة التين والأعناب وجميع الفواكه. . .» وانظر الروض المعطار 128.
(1/432)
________________________________________
[121/أ] وأخبرني-رحمه الله تعالى-أنه اجتمع ببلده تازا مع الفقيه ابن الملون وعبد الحق الزيات في بستان لنزهة فتذاكروا أمر رجل من أهل تازا يتشبّه بالفقيه الأستاذ المقرىء أبي العباس أحمد بن محمد بن علي الزّواوي (1) في قراءته وملبسه وعمّته. فأنشد أحد الرجلين على لسان المتشبّه:
أنا الزّواوي وهذا مكتبي … لحرفة التّعليم والتأدّب
لا أمنع التعليم من يرغبه … وأجدر العلم الذي لم يرغب!
عندي-فديت-لحية طويلة … سوداء تحكي ليلة المكتئب
وشارب يجري لعابي تحته … كالماء يبدو من خلال الطّحلب
وحاجبان أكحلان اقترنا … خلتهما بعض حواشي الحجب!
وعمّة كبيرة هائلة … كهالة قد أحدقت بكوكب
يقول بعض الناس فيها أصطب (2) … والله ما في عمّتي من أصطب
وطيلسان حسن خلّفه … من بعده بعض قضاة المغرب
ودرّة كذنب السرحان في … طول، وفي عرض، وفي تقلّب
تلحق سوطي من غدا مقتربا … وتلحق الكرّة من لم يقرب
لا غضب يميل بي ولا رضى … إني لممزوج الرّضى بالغضب!
وزاد عليها صاحبنا أبو عبد الله هذا-وما أحسن زيادته-:
وفي الرّقا عندي كلام عجب … نقلت ذاك من صحيح الكتب
_________
(1) المقرىء الشهير في زمانه أبو العباس الزواوي. ذكره ابن خلدون في شيوخه وقال فيه «إمام المقرئين بالمغرب» انظر التعريف 20، ونفح الطيب 6:172.
(2) الأصطبة: مشاقة الكتان.
(1/433)
________________________________________
كم بيضة للفطم قد كتبتها … وكم رقيت من نفاس صعب
فسهلت عسر النّفاس رقوتي … وبيضتي قد فطمت كل صبي!
وكان عند شهود فاس في وقته اصطلاح، يسمون الدرهم بالغزّي- بسكون اللام، وضم الغين المعجمة وكسر الزاء المعجمة-على جهة المداعبة فإذا [121/ب] لقي أحدهم صاحبه يقول له: هل جاءك اليوم الغزّي، أو: رأيته؟ وأنشدني في ذلك-لنفسه-:
أعرض الغزّيّ عني … هكذا ما كان ظنّي!
ما على الغزّيّ لوم … وكذا بلّغه عني
كلّ من تلقى معنّى … فإلى الغزّيّ يعني
يقرب الغزّيّ طورا … وبه طورا يغنّي
منشدا في كل وقت: … «يا حبيب القلب: صلني!»
وكان الفقيه العدل الخطيب أبو يحيى بن عبد الله بن عبد الواحد بن محمد بن أبي الصّبر الجاناتي يساق له كل يوم غداؤه لحانوته بسماط شهود فاس: إمّا كنثاء (1) وإما حريرة (2)، فقال له في ذلك:
اسقني شربة لذيذة طعم ... ليس فيها كرويّة وخميره
ولتكن بالفتات والبيض حسوا ... إن طعم الفتات أحسن سيره
_________
(1) لم يظهر إعجام الكلمة في «ط».
(2) الكنثاء: هكذا وردت وهي كما يظهر من السياق طعام فضله الشاعر على الحريرة. أما هذه فأشبه بالحساء، تصنع في بلاد المغرب-وكانت كما ترى من طعام أهل الأندلس- ولا زالت تصنع عند أهل المغرب الأقصى معالجة بالخميرة لتعطيها مذاقا خاصا طيبا.
(1/434)
________________________________________
لا حساء ولا حريرة قمح ... إن طبعي يمجّ شرب الحريره!
وقعدت أنا معه في حانوته بسماط شهود فاس لعلم أقتنيه، فتكلمت معه بحثا في مسألتين: فقهية وأدبية، فرزقني الله عز وجل حسن الفهم فيهما، واستحن ذلك مني-رحمه الله-فقال لي جليسه الفقيه العدل أبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن بلال الأشعري بعد أن قبّل رأسي: بارك الله في عمرك يا سيدي الرئيس على براعة فهمك.
أنا أمدحك الساعة بأبيات. فقلت له: افعل. فما كان إلا يسيرا وقد نطق بهذا الكلام، الذي حسبه نظام! وهو خارج على الوزن والمعنى في غاية اللحن والفساد، ودفعه إلي، وهو في ذاك في غاية العجب به وهو:
هنيئا لكم يا بني خزرج … أنتم السّادة الخميرا
فإنّ منكم السلطان المؤيّد … الرئيس ابن الأحمرا
فإنّ من أوصافه له ... وجه حسن ولحية معتدلة للقصرا
[112/أ]
إذا شئت أن تراه وغاب عنك … وجهه فانظر إلى القمرا
لكن في ليلة في الشهر … خصّت ليلة أربعة عشرا
فواجب عليّ أن أذكر من … بعض أوصافه لولا ما كنت أخضرا
ولكن أقول قدر جهدي وأتمنّاه … في برّ الأندلس سلطانا مؤمّرا!!
ويستحقّ والله ذلك ويستأهـ … ـله فهو الملك المعنبرا!
(1/435)
________________________________________
فحين قرأتها ضحكت من لحنها وفسادها الخارج عن الحد، ومن استحسانه لها. ونظمت على البديهة بيتين معرضا له بفسادها، ولعله أن يرجع عن تعجبه بها فلم يفهمها، لجهله بل تمادى على حاله، وهما:
بشعرك يا أيّها الأشعري … تفوق ابن أوس مع البحتري
فحيّاك ربّ العلا من فتى … من اللّحن في شعره قد بري!
ولما قرأ أبياته صاحبنا الفقيه أبو عبد الله هذا نسخها وقال على البديهة يخاطبه ويصف فسادها:
فبيت طوله سبعون شبرا … تخيّله-رشاء حول بير
وبيت لا يجاوز ربع شبر … كهدب الثّوب أو عرف الحمير!
وذاعت أبياته-بزعمه-بسماط شهود فاس. واستنسخها أكثرهم فلما بلغت إلى صاحبنا الفقيه العدل القارىء أبي زيد عبد الرحمن بن محمد المليلي بعث إليه ببيتين له وهما:
ألا قل لشاعرنا الأشعري … شعرت وليتك لم تشعر!
تخيّلت نظمك إذ جاءني … خراء بحانوتكم قد خري
وزاد عليهما الفقيه أبو محمد عبد الغفار البوخلفي:
أو الرّيح لمّا سرت دائما … على الخلق من فمك الأبخر!
...

الفقيه الصوفي محمد بن [122/ب] أحمد المكودي رحمه الله:
[كنيته:]
يكنّى أبا عبد الله. وهو من أهل فاس، وبها رأيته. وكان من أولي الثروة بها. وكان أبوه أحمد يستخدمه الملوك من بني مرين في شهادة الولاية المخزنية، وأبو عبد الله هذا توفي بفاس في سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة.
(1/436)
________________________________________
حاله-رحمه الله-:
هو رافع راية الأدب في عصره، ومن بزّ بالثروة أعلام مصره.
وله معرفة بالطريقة الصوفية، وسلوك في معانيها الجليلة. وكان وجيها عند الملوك، ومعظما عند المالك والمملوك.
أنشدني لنفسه:
سرت والدّجى لم يبق إلا يسيرها ... نسيم صبا يحيي القلوب مسيرها
ومرّت بنا من نحو رامة نفحة ... أعادت مرير العيش حلوا مرورها
تنشّقتها مستمنحا عرف عرفها ... فعبّر عن طيب ****** عبيرها
أسرّت بقلبي من سريرة حبّه ... حديثا سرى منه لنفسي سرورها
5 فلله ما أندى على القلب سيرها ... وأطيب ما أدّى إليه سفيرها
ولم ندر إذ ملنا نشاوى بروحها ... أريح شمال أم شمول نديرها!
سقى سفح ذياك الحمى بسوافح ... من الدّمع آثار الدّموع منيرها
عهدنا ظباء الإنس فيه سوانحا ... وأصيدها للصّائدين نفورها
(1/437)
________________________________________
وحيّا الحيا بالخيف دارا منيفة ... زهت بقصور الشّهب عنها قصورها
10 فكم ليث غيل غاله سرب غيلها ... ومن ذي غرار قد سباه غريرها!
وكم في ذراها من دم طلّ ثاره ... لذي فتن سحر العيون مثيرها
وكانت لأرباب الصّبابة والصّبا ... عراصا تفدّى بالنّفوس عصورها!
وكانت ليالينا بها كلآلئ ... تروق النّهى آصالها وبكورها
فمسرحنا عند الرّواح مرادها ... وموردنا عند الغدوّ غديرها
[123/أ]
15 وبين ظلال الضال منها مقيلنا ... إذا ما حكى نيران هجر هجيرها
وبين جنّي النّور من سمراتها ... جنى الأنس من نجوى نوار سميرها
فآها عليها من معاهد لم تدع ... سوى حرق، بالذّكر يذكى زفيرها
وما راعني إلا دعاة ببينهم ... يشبّه عندي بالنّعيّ بشيرها
سروا بقلوب العاشقين وخلّفوا ... جسوما كأطلال الرّبوع صدورها
(1/438)
________________________________________
20 كأن قلوبا في حماهم حوائما ... خوافق طير فارقتها وكورها
كأن المطايا وسط لجّة آلها ... سفائن تبدو كالشّراع خدورها
وفي الكلّة الحمراء حوراء لو بدت ... لثكلى لولّى ثكلها وثبورها
ممنّعة ليست لها من سوى القنا ... خيام ومن بين الصّفاح ستورها
فما بسوى صدق الغرام أرومها ... ولا بسوى زور الخيال أزورها!
وأنشدني-أيضا-لنفسه:
وجدي بكم ليس يبقى، لا ولا يذر ... والصّبر عنكم على حكم النوى صبر
يا غائبين ومالي غيرهم وطر ... أهكذا تنقضي الأيام والعمر
ولا-للقياكم عين ولا أثر
سقيا لعهد ليالينا التي انصرمت ... كانت لآلئ في سلك المنى التأمت
حلّت عراها يد الأيام فانفصمت ... كنّا فرائد في عقد قد انتظمت
فأصبح العقد منا وهو منتثر
(1/439)
________________________________________
أسراركم في صميم القلب مودعة ... مصونة وعن الواشي ممنّعة
ومذ بعدتم فما في العيش منفعة ... يا ليت شعري والآمال مطمعة
هل يستعيد ليالي وصلنا القدر
يا ليت شعري هل للملتقى سبب ... بهائم ماله في غيركم أرب؟ (1)
[123/أ]
. . . المنسدل الأطناب. ومعدن الندى الأصلي المنسكب السحاب. القاضي الفقيه الأوحد، الذي فضائله لا تجحد، الحافل. الكامل، الصدر، العدل النزيه، السليم الصدر. علم الأعلام، حجة الإسلام أبي محمد الأوربي (*) خصهم الله من المسرات بأضفاها ***ابا، وفتح بهم إلى السّعود بالصعود أبوابا:
ومن مثل قاضيهم ندى وتكرّما ... وهل هو إلا النّيل نائله غمر
فشتّان ما بين البحار وبينه ... فمورده عذب وموردها مرّ!
_________
(1) تنقطع المسمطة هنا. وتبدأ في الورقة التالية رسالة يبدأ أولها من وسط السطر. وظاهر أن الرسالة غير تامة، ذهب منها جزء من أولها. وهذه الحال في النسختين. غير أن ناسخ «ط» ترك نصف صفحة، ولعله فعل ذلك ليستدرك تتمة المسمطة وأول الرسالة. وما ندري أكان هذا الفراغ تعيينا لحجم الكلام الناقص أم تقديرا.
(*) الفقيه العالم قاضي الجماعة أبو محمد عبد الله الأوربي، الفاسي (701 - 782). ذكره أبو زكريا السراج في فهرسته، وابن الأحمر أيضا في فهرسته. ونقل عنهما أحمد بابا في نيل الابتهاج.
(1/440)
________________________________________
جعل الله تعالى في عمره البركة، وقرن له بالسعد كل سكون وحركة. فلقد أحسن إلينا وجاد، وأنعم علينا فأجاد. فانتظم شملنا بإحسانهم الغمر واتسق. وانعطفت علينا مواهبهم الجزيلة عطف بيان ونسق. فأصبح -بحمد الله-ما رسمه خط الفيض في صفحات نفوسنا ممحوا براحة البسط والعافية، وأمست رسوم الاحتياج دارسة عافية. ولنرجع مع أخينا في الله -عز وجل-إلى الكلام الأول الذي هو المقصود وعليه العمل والمعول.
فنشهد الله لقد فاق نظم الحريري في رصفه ووصفه دركي؛ لاشتماله من جواهر العلوم على أعظمها خطرا، وانطوائه من رقوم الأدوات على أشرفها نظرا.
فلله دركم لقد بلغتم من الشعر الرائق اللائق بالمحل ما كان له أهلا! فلكم من الغارات على الأشعار ومبانيها، والفصول المستوحاة ومعانيها المحل الأعلى.
فمثلكم من برز في ميدان المسابقة بالرسائل، وهز خطّية الخط لالتئام المؤاخاة وسائل. ودل سائله على كنز الندى ومعدن الجدا فنجح دالّ وسائل. فالدال على الخير كفاعله. فلا خاب ببركة الله قصد لمنيله ونائله.
لأنت أجلّ أخ يعتقد … وأذكى أديب بهذا البلد
فرد مورد العين فيمن ورد … ودع كل من قام أو من قعد
ولا تلتفت غير من بابه (؟) … به العزّ يبلغه من قصد (1)
وكن حازما واختلس وافترس … فما الافتراس يخاف الأسد
ويعلم تعالى لمبادرتنا بالجواب على مكاتبكم آكد في النفس من اجتذاب النفس الذي به حياتها وقيامها، ومنه غذاؤها وقوامها. ولقد شرعنا فيه ساعة إراءته كراهية التكاسل عن التراسل، والتراخي عن القيام بحق التواخي فاقتضبناه في غاية الاستعجال، واختصرناه كراهية التطوال. وانتقينا درره من اللغة الفصيحة استثقال الأجنبية. ونزهناه عن المعاني الغامضة واللغات الوحشية، اقتفاء لآثار الفصحاء من الأوائل والأواخر. واقتداء بما أشار إليه الشاعر:
_________
(1) هكذا فيهما.
(1/441)
________________________________________
تخيّر لنظمك سهل الكلام … وجنّبه حوشيّه والسلام
فخير الكلام الجليّ الذي … إذا قيل لم يفتقر للكلام!
فلكم الفضل في الإغضاء لعجالة هذه المكاتبة، فهي على وجه المباسطة والمداعبة. فمداعبتكم عندنا أحلى من مجاج النحل، وأشهى من بواكر النخل وكيف لا؟ وقد جمعنا الله-سبحانه-على مراضيه (1) وأسعدنا بما قضاه. ونرجو أن يسعدنا بما هو قاضيه، فتثلج صدور لانتظام سلكنا وانتظام إخائنا الصريح، وتلهج قلوب لخلوص ودادنا الذي حديثه من الحسن الصحيح. وبنعمة يبلى الجديدان ولها جدة. وتنضب الموارد، وهي من فيض فضل الله تعالى مستمدة. وهذا آخر الكلام، وعليكم معادا منّا السلام.

صاحبنا الفقيه محمد بن يوسف بن أحمد بن محمد بن يوسف (*):
[كنيته:]
يكنى أبا عبد الله، ويعرف بالشبوكي، ورأيته، وصحبته:
ونسبه-حسبما نقلته من خطه على متن كتاب، وأخبرني به هو، وسمعته أيضا بفاس من بعض الناس-هو: محمد بن يوسف بن أحمد بن محمد بن يوسف ابن عمران بن عبد الرحيم بن نوح بن شعيب بن تملي بن أبي محمد بن حيان بن فضل بن طاهر بن مطهر بن حمود بن زياد بن محمد بن الحسن بن علي بن أبي طالب. ويعرف بالشبوكي. «وشبوكة» قرية بينها وبين مدينة فاس
_________
(1) حقها أن تكون «مرتضاه» أو ما يشبه.
(*) نقل المقري في أزهار الرياض 1:291 - 294 ترجمة الشبوكي، وأورد قصيدته المذكورة هنا. ونص على أنه نقل عن كتاب ابن الأحمر. ووهم حين قال إنه نقل ترجمة الشبوكي وشعره عن «نثير فرائد الجمان» فإنه لم يترجم له في ذلك الكتاب ولم يورد ذكره. وقد فصلت في هذه المسأله في دراستي عن الكتابين.
(1/442)
________________________________________
ثلاثة أيام (1). وأخبرني أن جده عبد الرحيم أتى من المشرق إلى المغرب واستوطن بشبوكة، وهو شريف، ويوسف أبوه كان-رحمه الله-جميل الوجه جدا، شاعرا مجيدا، فقيها، وبرز عدلا بسماط شهود فاس. واستخدمه أمير المؤمنين المتوكل على الله أبو عنان المريني شاهدا في دار صناعته. وأحمد والد يوسف كان فقيها صوفيا. ومحمد والد أحمد كان فقيها صالحا. ويوسف والد محمد كان فقيها عالما صالحا مكاشفا، مجاب الدعوة من أهل الطبقة العليا في الصلاح.
وأبو عبد الله-هذا-كتب الوثيقة بشهود فاس.

حاله-أكرمه الله-:
هو فارس القريض، وحامل لوائه الطويل العريض. وله وجه وسيم، وحياء جسيم وسمو همة لا يبلغها إنسان، ولا سمع بمثلها في سالف الأزمان! ويؤثر مغالبة نفسه على هواه. ويختار مهيع السمو على ما سواه.
أنشدني لنفسه (*) يمدح أمير المسلمين أبا فارس عبد العزيز المريني بعد قتله لوزيره المتغلب على أمره عمر بن عبد الله علي الياباني (2)، ويحرضه على قتل الشيخ أبي
_________
(1) في إحدى نسخ أزهار الرياض ثلاثة أميال.
(*) وردت القصيدة في أزهار الرياض للمقري 1:292 - 293، وسنقابل النصين إتماما للفائدة.
(2) كان عمر بن عبد الله وزيرا قويا متنفذا، أدار شؤون البلاد مدة وتسلط على سلاطين بني مرين، حتى تخلص منه السلطان عبد العزيز (انظر العبر لابن خلدون 7:319 وروضة النسرين لابن الأحمر:33).
(1/443)
________________________________________
ثابت عامر بن محمد بن علي الهنتاتي (1) صاحب جبل هنتاتة من حوز مراكش؛ حين خرج عليه به السلطان المعتمد على الله أبو الفضل محمد بن أخي السلطان عبد العزيز هذا:
أبان في حبّه ما قال عاذله … دمع جرى فوق صفح الخدّ هامله
فبات من وطأة التفريق ذا وجل … يستنجد الصّبر عونا وهو خاذله
صب إذا ما بدا بالرّقمتين له … وميض برق الحما هاجت بلابله
[125/أ]
يبكي لمنزل أنس بان آهله … وظاعن عنه قد شطّت منازله
5 يا حسن عصر بهم قضيته زمنا … رقّت حواشيه إذ راقت (2) أصائله
كأن صوب دموعي بعد بعدكم (3) … سيب المليك إذا وافاه سائله
عبد العزيز الذي عزّت بدولته … صنائع الحق والتاحت دلائله
وأصبح الملك في أمن وفي دعة … من بعد ما كان غالته غوائله
عادت بعيد عنا (4) منه نضارته … فعاد يافعه واشتد كاهله
كالرّوض باكره طل على ظمأ … وجاده بعد ذاك الطلّ وابله
هو الإمام الذّي من أمّ ساحته … جادت عليه بجدواها أنامله
ومن تخلّف جهلا عن إجابته … سارت إليه على علم صواهله
قل للّذي عنه أقصته جرائمه … وعقلته عن العليا معاقله
_________
(1) من رجال الدولة المرينية، وشيخ هنتاتة من قبائل المصامدة وانظر الاستقصا للسلاوي الناصري 4:52 - 54 في تفصيل خبر خروج عامر الهنتاتي ونهايته.
(2) في الأزهار: رقت.
(3) في الأزهار: بعدهم.
(4) في الأزهار: بعيد لنا.
(1/444)
________________________________________
زر حضرة الملك الميمون طالعه … تحظ بما أنت في دنياك آمله
15 فطبعه الصّفح والمعروف شيمته … والحلم والصّون والتّقوى شمائله
وابلغ جميع العدى أن سوف يشملهم ... من الظّبا كلّ ماضي الحدّ قاصله
هذا المليك أتاهم في كتائبه … لنسخ آجالهم تنضى رواحله
بكلّ خرق طويل الباع متّئد … مقصّر عمر من تلقى مناصله
وجحفل فيه سمر الخطّ مشرعة … قد حجّبت أنجم الشّعرى قساطله
20 سيعلم الغمر عقبى ما جناه إذا … كلّت مواضيه وانفضّت كلاكله
وحاط بالجبل البحر المحيط ولا. . . … حت فوق أرؤسهم منه جداوله
فانهض إليهم أمير المؤمنين فقد ... أعطيت كلّ المنى فيما تحاوله
من ذا ينازل جيشا أنت قائده … يوم الكريهة أو من ذا يناضله
ألا ترى المائق الرّعديد حين عتا … وأضمر المكر صادته حبائله
[125/ب]
25 ظن الظّنين بأن يسمو ويعلو في … دنيا سمت وعلت فيها بواطله
فغادرته الصعاد الزرق منجدلا … فوق الصّعيد تناجيه جنادله
دنياه تضحك من أحواله عجبا … به وفي الحيّ تبكيه أرامله
فليهن دين الهدى من بعد مدته … أن صرت يا ذا المحيّا الطّلق كافله (1)
لم ينتصب قطّ في الدّنيا لواء علا … إلا ومن آل «عبد الحق» حامله
30 مولاي! مولاي! دم ما عشت مصطحبا ... علا وفخرا وعزّا لا تزايله
إن سار جيشك فالتأييد يقدمه … والنّصر عاجله يعفوه آجله
_________
(1) كذا في الأصلين وفيه إقواء.
(1/445)
________________________________________
صاحبنا الفقيه العدل إبراهيم بن علي العباسي:
[كنيته:]
يكنى أبا إسحاق. وأدركته، ورأيته بفاس، وصحبته.
ومسقط رأسه مدينة فاس، ووالده وسلفه من الاندلس.
ونسبه هو إبراهيم بن علي بن عبد الله بن سعيد بن عبد الله بن علي بن العباس ابن محمد بن القاسم بن عبد الرحمن بن إبراهيم بن محمد بن علي بن القاسم بن علي بن سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب.
وأبوه علي هو القادم من غرناطة على فاس. وكان يكتب في الحضرة السلطانية الأحمرية النصرية بالأندلس لأمير المسلمين أبي عبد الله محمد بن أمير المسلمين أبي الوليد إسماعيل عم أبينا بن جدنا الرئيس الأمير أبي سعيد فرج بن جدنا الأمير أبي الوليد إسماعيل بن جدنا أبي الحجاج يوسف الشهير بالأحمر بن جدنا أمير المؤمنين المنصور بالله أبي بكر محمد بن أحمد بن محمد بن خميس بن نصر الخزرجي. وكان فقيها، متفنّنا، فاضلا، من أهل الخير والدين. وعبد الله والده كان فقيها. وسعيد والد عبد الله كان فقيها خطيبا.
وصاحبنا إبراهيم-هذا-هو الآن عدل بسماط شهود فاس.

حاله-سلمه الله-:
له منظر وسيم، وذكاء جسيم. وهبّ نسيم براعته فرق وراق. وتفتقت أزاهر نبله ساطعة الإشراق. مع مالديه من المعرفة بالأدب، وإصابته في فنون شتى من الطلب.
(1/446)
________________________________________
كتبت له-لوداد بيني وبينه-بقولي:
يا ابن عم النبي أحمد إني … فيك ذو لوعة وحق عليّ!
وودادي إليك من أجل ما قد … حزته من قرابة للنبيّ
فجاوبني بقوله:
يا سليل الملوك من آل نصر … وبني كل سؤدد خزرجيّ
إن تكن رقت ناظريّ وسمعي … بقريض مبرز أحمريّ
فلقد رعت يا أبا الصّدق مني … مقولا فاعترته خجلة عيّ
فلئن عاقني قصور فعذري … -إن تأمّلت-أيّ عذر جلي
وأنشدني-لنفسه-على لسان محبرة:
نزلت من الإنسان منزل عقله … ومنزل عقل المرء منه جنانه
أترجم عنه باليراعة مثلما … يترجم عمّا في الضمير لسانه
ويبقى على مرّ الزمان محبّرا … بياني عنه وهو يفنى بيانه
وأنشدني-أيضا، لنفسه-في إنجاز الوعد:
طوّلت مطلي يا أسنى الكرام وفي … إنجاز وعدك لي سؤل ومرغوب
وأعلم بان كثير المطل يصحبه … بغض وأن وفاء العهد محبوب!
وأنشدني-أيضا، لنفسه-مداعبا بعض أصحابه، كان يكثر في شعره من اسم «الدست»:
أيا ماجدا لولاه ما عرف النّدى ... ولا الجود والجدوى ولا شرف الدّست
(1/447)
________________________________________
فقد طالما جرّبت دهري وأهله ... وخالطت أخلاط الأنام ومارست
فما ظفرت كفّاي منهم بطائل ... خلا أنني استيأست منهم وأيأست
[126/ب]
ويمّمت علياك التي هي ملجأ ... وغاليت في الأمداح فيك ونافست
فقلّدت أجياد القصائد من حلا ... ثنائك تقليدا جميلا وألبست

صاحبنا سعيد بن إبراهيم السدراتي رحمه الله تعالى:
[كنيته:]
يكنى أبا عثمان، وأدركته، وصحبته، وامتدحني، وأفدته في الطريقة الأدبية. وهو من فاس، ويعرف ب‍ «شهبون الأديب»، وكان شعره وسطا وأبرع ما كان نظمه في الزّجل؛ ظهر له فيه-بفاس-باع مديد. وقد وافقني على قولي هذا الفقيهان الأديبان المحدّثان: شيخنا الأستاذ النحوي منديل بن محمد بن آجروم، وصاحبنا أحمد بن محمد الدباغ، وشهدا له بالإجادة في الزجل. ومن شهد له هؤلاء: (1) البليغان العالمان فهو مقدم!

حاله-رحمه الله-:
هو رئيس الأدباء، ونخبة الألبّاء، إلى إجادة في نظم الزجل أذهبت عنه في الشعر الخجل! وأورثت مضاهيه فيه الوجل. ونجم في التوشيحه، ولم تكن قريحته في نظمها بشحيحه! ونظمه في القريض وسط، وفهمه فيه مرتبط.
_________
(1) كذا فيهما.
(1/448)
________________________________________
أنشدني-لنفسه-في الجد:
أناديك جهرا كي (. . . .) (1) عندي: ... وليس مرادي عنك يخفى ولا قصدي
وإنّ أموري لم تغب عنك ساعة: ... علمت الذي أخفي، فكيف الذي أبدي؟!
• • •
... وكان صاحبنا الأخلص الحسيب أبو محمد عبد الله بن محمد بن خنوست قد مرض، فسرت إلى منزله أعوده صبيحة يوم الأحد العاشر لشهر رمضان سنة ست وستين وسبع مئة؛ فأتى سعيد هذا إلى منزلي بفاس، فسأل عني، فقيل له قد مشى يعود صاحبه عبد الله. فقصد إلى باب صاحبنا أبي محمد عبد الله، المريض، وجلس بإزائه ينتظرني، فلما خرجت سلم علي، ودفع إلي ببيتين ارتجلهما من حينه في مدحي، وقال لي: يا مولاي! (تصفحهما) (2) ولك الفضل في قبولهما والصفح عن نقدهما:
يا ابن أسمى الملوك صيتا وقدرا ... وأخا الفضل والرّفيع المقام
إن أتيت العليل يوما تراه ... عاد في صحّة من الأسقام!
وامتدحني-أيضا-بقوله:
نشرت فيكم-بني نصر- … لأبي الصّدق راية النّصر
أيّ شهم وأي صنديد
حاز إرث السّماح والجود
شيّد المجد أيّ تشييد
_________
(1) فراغ في الأصلين.
(2) الكلمة غير واضحة، وأرجح ما أثبت.
(1/449)
________________________________________
لم تحد عنه ألسن الشّكر … فهو في الدّهر طيب الذكر
ثاقب الذّهنّ وافر العقل
عالم بالعلوم والنّقل
جعل النّصر منه في النّصل
ضيّق الحزم واسع الصّدر … بارع الحسن باسم الثّغر
أيّ بدر بطالع السّعد
صعدت منه رتبة المجد
لم تحد راحتاه عن رفد
صادق الوعد سابق الفجر … جالب النّفع دافع الضرّ!
رافع الحقّ باسط العدل
قاهر الظّلم قاتل المحل
مانع البغي مانح البذل
مذهب الضّيم عاجل البرّ … ناجح الفعل ذاهب العسر
يا أبا الصّدق أنت مولانا
كم نوال بذلت أغنانا
رقت حسنا وفقت إحسانا
لك جود كوابل القطر … ومقام أربى على النّسر
***
(1/450)
________________________________________
الباب الثاني عشر
فيما قيل من الشعر في السّيف
الذي بصومعة جامع القرويين من مدينة فاس
وها أنا أثبت-هنا-جملة من مقطعات لشعراء مدينة فاس في السيف الذي بمنار جامع القرويين، مع جملة من كلامي في تاريخ السيف المذكور؛ فنقول:
اجتمع في شهر ربيع الآخر من عام أربعة وستين وسبع مئة بجامع القرويين من مدينة فاس جماعة من طلبتها الأذكياء، وأدبائها النّبلاء وكنت في جملتهم؛ أسمع كلامهم. فتكلّموا في السيف الذي بأعلى الصومعة، ولم [127/ب] جعل هنالك. فقال قائل: جعل طلّسما على البلد، لما كان عليه الناس حينئذ من الافتئات على الأمراء، وقلة الانقياد. ولأجل ذلك لا يبيت إنسان بها إلا مغموما! وقال الآخرون غير ذلك (1). وأنا أذكر إن شاء الله حقيقة الأمر فيه. ثم آتي بعد ذلك بجملة ما قالوه في ذلك من الشعر مرتبا حسب ما وقع لا على مراتب القوم ومنازلهم.
اعلم-وفقك الله-أن أصحاب التاريخ قالوا إنه لما تم العمل في بناء الصومعة على
_________
(1) هكذا وردت العبارة فيهما.
(1/451)
________________________________________
يد الأمير أحمد بن أبي بكر بن أحمد بن أبي بكر بن أبي سعيد الزّناتي-وكان عاملا (1) لأمير المؤمنين الناصر لدين الله، القائم بأمر الله عبد الرحمن بن محمد الأموي المرواني الخليفة الأندلسي-على مدينة فاس، وكان من أهل الفضل والدين، وذلك في شهر ربيع الأول من خمس وأربعين وثلاث مئة؛ جعل في أعلى الصومعة قبّة صغرى، ووضع في ذروتها تفافيح مموّهة بالذهب في زجّ من حديد. وركب في الزج سيف أمير المؤمنين إدريس بن أمير المؤمنين إدريس بن عبد الله بن حسن بن أمير المؤمنين الحسن بن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب-كرم الله وجوههم-الذي أسس المدينة.
وسبب جعله هنالك أن الأمير أحمد بن أبي بكر لما فرغ من بناء الصومعة اختصم إليه بعض حفدة أمير المؤمنين إدريس في السيف، وطلب كل واحد أن يمتاز به ويحوزه لنفسه، وطال النزاع فيه. فقال لهم الأمير أحمد: هل لكم أن تسلموه لي وتتركوا النزاع فيه؟ فقالوا له: ما تصنع به؟ قال لهم:
أجعله في أعلى هذه الصومعة تبركا به، وليكون لكم ذكر بسببه. فقالوا له:
قد وهبناه لك طيّبة به نفوسنا؛ فجعله في ذروتها.
ولنرجع الآن لسرد أقوالهم المنظومة فيه. فكان أول من فتح فيه باب القول للشعراء شاعر هذا الأوان، وحائز خصل السبق بهذا الميدان صاحبنا

الفقيه الكاتب أبو العباس أحمد بن يحيى بن عبد المنان الخزرجي
_________
(1) ثار أحمد بن أبي بكر الزناتي ضد حامد بن حمدان الهمذاني، وأرسل في طاعة عبد الرحمن الناصر خليفة قرطبة (300 - 350) وأشهر خلفاء بني أمية في الأندلس. وزاد هذا الوالي في جامع القرويين بفاس بمساعدة قرطبة. ونصب منبر أموي رائع في المسجد أيام هشام المؤيد وبسعي من الحاجب المنصور بن أبي عامر. (راجع في ذلك روض القرطاس 34 وتأسيس فاس 57 والعبر 4:140 - وكتاب جامع القرويين للدكتور عبد الهادي التازي ج 1:56 - 61).
(1/452)
________________________________________
[128/أ] وكان نظمه قد تقدم التاريخ بمدة، فقال:
أنكر السّيف بالمنار بفاس … قائل إنّ ذاك داعي اغتمام
لا يرعك الحسام سلّ عليها … جنّة الخلد تحت ظلّ الحسام

[الفقيه المتفنن النحوي أبو عبد الله محمد بن موسى بن ابراهيم الماجري]
ثم تلاه صاحبنا الفقيه المتفنن النحوي أبو عبد الله محمد بن موسى بن ابراهيم الماجري فقال:
يقولون زجرا إن فاسا قضى لها ... بذلّتها سيف المنار المشيّد
لقد أخطؤوا في زجرهم ضلّ سعيهم! ... هل العزّ إلا تحت ظلّ المهند؟!

[أبو المكارم منديل بن محمد بن محمد بن داود بن آجروم الصنهاجي]
ثم تلاه شيخنا الفقيه الأستاذ النحوي المقرىء المصنف أبو المكارم منديل بن محمد بن محمد بن داود بن آجروم الصنهاجي، فقال:
شاموا بفاس سيف إدريسهم … فوق منار لا لأمر مخوف
بل أشعروا بقول خير الورى: … جنّتكم تحت ظلال السّيوف
عيّن شيخنا منديل في هذين البيتين صاحب السيف، ونفى قول من قال إنه طلسم. وأتى بالحديث على ما هو عليه لم يغير فيه إلا يسيرا، وهو «جنتكم». وإنما لفظ الحديث «الجنة تحت ظلال السيوف» (1). وذكر فيه خير الورى: صلى الله عليه وسلم. ولم يسقه غير سياق أنه حديث، ومع ذلك فغيّر كثيرا وهو أول من ذكر اسم (إدريسنا) (2).
_________
(1) اخرج البخاري هذا الحديث في صحيحه 2:208 وفيه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال. واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف».
(2) هو إدريس الثاني، بن إدريس الأول مؤسس دولة الأدارسة الشريفية بالمغرب الأقصى. وبدأ بناء جامع القرويين بفاس سنة 245 هـ‍.
(1/453)
________________________________________
[الفقيه أبو عبد الله محمد بن محمد بن عبد الرحمن المعروف بالربيب:]
وقال صاحبنا الفقيه أبو عبد الله محمد بن محمد بن عبد الرحمن المعروف بالربيب:
وسيف منار بفاس غدت … محاسنها دانيات القطوف
فيا زاجر الغمّ: عفو الإله … وجنّته تحت ظلّ السّيوف
وقال أيضا فيه:
وما خصّ إدريس المنار بسيفه … لغم ولكن كي يعمّ نداؤه
مشيرا: أجيبوا داعي الله تأمنوا … ومن لم يجب داعيه: هذا جزاؤه!
وقال أيضا فيه:
سرّ فاس لفارس (1) قد بدا في … وضع إدريس بالمنار حسامه
فهم العزّ للنّداء فأورى … ناره معلما وشال علامه!
هذه الزيادة التي زاد في هذه المقطوعة الثالثة-وهي ذكر العلام والفنار- اللذين أمر بهما أمير المؤمنين المتوكل على الله أبو عنان فارس المريني سنة تسع وخمسين وسبع مئة هو أول من نبه عليها من أصحابنا؛ إلا ما رأيته بخط

[الفقيه الكاتب التاريخي أبي عبد الله محمد بن عبد الرحمن الخزرجي المعروف بالتاوري]
شيخنا الفقيه الكاتب التاريخي أبي عبد الله محمد بن عبد الرحمن الخزرجي المعروف بالتاوري من بيتين في ذلك المعنى غير منسوبين:
نور به علم الإيمان مرتفع … للمهتدين به للحقّ إرشاد
يأتون من كل أوب نحوه فلهم … لديه للرّشد إصدار وإيراد

[الفقيه العدل القارىء أبو زيد عبد الرحمن بن محمد الصنهاجي المليلي]
وأنشدني فيه صاحبنا الفقيه العدل القارىء أبو زيد عبد الرحمن بن محمد الصنهاجي المليلي لنفسه:
_________
(1) هو فارس أبو عنان المريني سلطان المغرب.
(1/454)
________________________________________
ألمم بفاس ولا تسمع لقائلهم ... «سيف المنار كساها ثوب مكتئب»
أما ترى الشّمس راقت تحت كاتبها ... و «السيف أصدق أنباء من الكتب»؟
يقول: كما أن الشمس لا يضرّها كونها تحت الكاتب، كذلك فاس لا يضرها كونها تحت السيف بل هي أحق بذلك لكون السيف أشرف من قلم الكاتب بدليل قول حبيب:
«السّيف أصدق أنباء من الكتب»

[أحمد بن محمد الأنصاري الخزرجي المعروف بالدباغ]
وأنشدني فيه صاحبنا الفقيه الكاتب أبو العباس أحمد بن محمد الأنصاري الخزرجي المعروف بالدباغ لنفسه-شاعر ابن عمنا الرئيس أبي الوليد إسماعيل-رحمه الله تعالى-:
سيف إدريس بالمنار بفاس … ليس للغمّ لا ولا للمخافه
إنّما كان وضعه السّيف فيها … معلما أنها مقرّ الخلافه!
[129/أ]
وهذا معنى حسن، إلا أن نسبة وضع السيف لإدريس ليس كذلك، (إنما وضعه) (1) الأمير أحمد بن أبي بكر بن أحمد بن أبي سعيد الزناتي المذكور (2).

[أبو الوليد إسماعيل بن الأمير أبي سعيد فرج الشهير بالأحمر]
وأنشدني فيه ابن عمنا الرئيس أبو الوليد إسماعيل بن الأمير أبي سعيد فرج بن أمير المسلمين أبي الوليد إسماعيل بن جدنا الرئيس الأمير أبي سعيد فرج بن جدنا الأمير أبي الوليد إسماعيل بن جدنا الامير أبي الحجاج يوسف
_________
(1) لم تظهر في «م».
(2) زاد في صفحة 452 «أبا بكر» بين أحمد وأبي سعيد.
(1/455)
________________________________________
الشهير بالأحمر بن جدنا أمير المؤمنين المنصور بالله أبي بكر محمد بن أحمد ابن خميس بن نصر الخزرجي، لنفسه:
وما السّيف في رأس المنار لذلة … بفاس ولكن أمره أيّما أمر!
رآها ابن إدريس مقرّ خلافة … فجرّده عزما لأملاكها الغرّ
وهذا المعنى الذي ذكر ابن عمنا (1) أبو الوليد الرئيس هو نفس ما قاله شاعره أبو العباس الدباغ المذكور. ولقد أحسن ابن عمنا في مخالفته له في الوزن والقافية، وذلك مما يحسن الأخذ!

[أبو الفضل محمد بن باشر التسولي]
وأنشدني أيضا فيه صاحبنا أبو الفضل محمد بن باشر التسولي لنفسه -رحمه الله تعالى-:
قل لمن أنكر الحسام بفاس … وادّعى الغمّ قول ذي تجريح
سيف إدريس في المنار شهير … شهرة الدين بالأذان الفصيح
وقول أبي الفضل «قل لمن أنكر الحسام. . . البيت» اهتدمه من قول شيخنا لأستاذ النحوي منديل بن آجروم، في قصيدته الفتوحية:
قل لمهيار (2) إن شممت شذاها … قول مستخبر أخي تجريح
أين هذا الشذى من القيصو ... م والرّند والغضا والشّيح
وقصيدة [129/ب] شيخنا (هذه في ذكر) (3) متنزهات باب الفتوح من مدينة فاس، وهي:
أيّها العارفون قدر الصّبوح … جدّدوا أنسنا بباب الفتوح
جدّدوا ثمّ أنسنا ثم جدّوا … نسرح الطّرف في مجال فسيح
_________
(1) انظر ترجمته في هذا الكتاب (الورقة 20).
(2) مهيار الديلمي الشاعر العباسي (000 - 428).
(3) لم تظهر العبارة بوضوح في الأصلين لوقوعها في أعلى الصفحة فيهما.
(1/456)
________________________________________
حيث شابت مفارق اللوز نورا … وتساقطن كاللّجين الصّريح
وبدا منه كلّ ما احمرّ يحكي … شفقا مزّقته أيدي الرّيح
وكأنّ الذي تساقط منه … نقط لحن من دم مسفوح
وإذا ما وصلتم للمصلى … فلتجلّوا مواضع التّسبيح
وبطيفورها فطوفوا لكي ما … تبصروا من ذراه كلّ السطوح
ولتقيموا هناك لمحة طرف … لتردّوا بها ذماء الرّوح
ثم حطّوا رحالكم فوق نهر … كلّ في وصفه لسان المديح
فوق حافاته حدائق خضر … ليس عنها لعاشق من نزوح
وكأنّ الطيور فيها قيان … هتفت بين أعجم وفصيح
وهي تدعوكم إلى قبّة الجو. . … ز هلمّوا الى مكان مليح!
فيه ما تشتهون من كلّ نور … مغلق في الكمام أو مفتوح
وغصون تهيج رقصا متى ما … سمعت صوت كل طير صدوح
فأجيبوا دعاءها أيّها الشّر. . . … ب وخلّوا مقال كلّ نصيح
واجنحوا للمجون فهو جدير … وخليق من مثلكم بالجنوح
واخلعوا ثمّ للتّصابي عذارا … إن خلع العذار غير قبيح!!
وإذا شئتم مكانا سواه … هو أجلى من ذلكم في الوضوح
أجمعوا أمركم لنحو خليج … جاء كالصّلّ من قفار فيح!
عطّرت جانبيه كفّ الغوادي … بشذا عرف زهرها الممنوح
[130/أ]
قل لمهيار إن شممت شذاها … -قول مستخبر أخي تجريح-:
أين هذا الشّذا الذكي من القيـ … ـصوم والرّند والغضا والشّيح؟!
(1/457)
________________________________________
حبّذا ذلك المهاد مهادا … بين دان من الرّبا ونزوح
ثمّ من ذلك المهاد أفيضوا … نحو هضب من الهموم مريح
فيه للحسن دوحة وزوايا … وانشراح لذي فؤاد قريح
وحجار تدعى حجار طبول … غير أن التّطبيل غير صحيح!
تنشر الشمس ثمّ كلّ غدو … زعفرانا مبلّلا بنضوح
و «سبو» (1) من هناك يسبي عقولا ... ويجلّي لحاظ طرف طموح
وعيون بها تقرّ عيون … وكلاها يأسو كلوم الجريح
فرشت فوقها طنافس زهر … ليس كالعهن نسجها والمسوح
كلما مرّ فوقهنّ طليح … عاد من حسنهن غير طليح
فانهضوا أيها المحبّون مثلي … لنرى ذات حسنها الملموح
هكذا يربح الزّمان وإلا … كلّ عيش سواه غير ربيح!

[ابن باشر]
وأنشدني أيضا ابن باشر، فيه، لنفسه:
قل للذي أنكر السّيف الذي اشتهرا ... على المنار فما أبدعت تنكيتا
من خالف الصّلوات الخمس يعل به ... «إنّ الصّلاة كتاب كان موقوتا»
وقوله في هذه القطعة «إن الصلاة كتاب كان موقوتا» هذا المصراع كله لأبي العلاء المعري، وهو قوله:
_________
(1) نهر سبو أو وادي سبو ينبع من جبال الأطلس الأوسط، ويصب في المحيط الأطلسي ويمر بالقرب من فاس فيسقي أراضيها، ويصب قرب مدينة القنيطرة.
(1/458)
________________________________________
أعدّ من صلواتي حفظ عهدكم … إنّ الصلاة كتاب كان موقوتا
وهذا-عند أهل البلاغة-يسمّى التضمين. وهو عندهم نوعان: نوع ينبه فيه على البيت المضمن أو المصراع أنه للغير، ونوع يؤتي به من غير تنبيه [130/ب] هكذا وهو أحسن النوعين (1). وفرق بين أن يكون البيت شهيرا (فلا يحتاج) إلى تنبيه، أو غير شهير فيحتاج إلى التنبيه.
وأنشدني أيضا لنفسه على لسان السيف:
وليس ارتفاعي في المنار لكربة ... ولكنّه كي يعلم الحقّ جاهله
أحضّ على الخمس التّي فاز أهلها ... ومن حاد عن أوقاتها أنا قاتله!
وقوله (2): «ومن حاد عن أوقاتها أنا قاتله» ليس كذلك، لأنّ مؤخر الصلاة عن أوقاتها لا يقتل، وإنما يقتل جاحدها.

[شيخنا الفقيه الكاتب مسعود بن أبي القاسم بن أبي طلاق]
وأنشدني فيه شيخنا الفقيه الكاتب مسعود بن أبي القاسم بن أبي طلاق لنفسه، مخالفا لما أصّلوه، ومثبتا لما أنكروه:
قالوا بجامع فاس سيف إدريسا … وكلّهم قائل زورا وتلبيسا
ما جعله غير طلسم لساكنها … لكي ينال بها الأحزان والبوسا!

[الأستاذ النحوي أبو زيد عبد الرحمن بن علي
ابن صالح المكودي]
وأنشدني فيه صاحبنا الأستاذ النحوي أبو زيد عبد الرحمن بن علي ابن صالح المكودي، لنفسه ردا على شيخنا ابن أبي طلاق، وموافقا للجمهور في المساق:
_________
(1) هنا كلمة لم تظهر في الأصلين.
(2) لم يظهر قبل (قوله) في «م» كلام. وفي «ط» إما ان.
(1/459)
________________________________________
قال قوم سيف المنار بفاس … هو طلّسم ذلّة وهوان
أخطؤوا ليس ذاك إلا لعزّ … بهرت منه سائر البلدان!

[أبو العلى إدريس بن يحيى ابن محمد بن عمر بن رشيد الفهري]
وأنشدني (1) فيه صاحبنا الفقيه العدل أبو العلى إدريس بن يحيى ابن محمد بن عمر بن رشيد الفهري لنفسه:
سلّ إدريس بالمنار حساما … منبئا، ذاك، عن شديد العقاب
داعيا للصلاة إن لم تجيبوا … فحقيق الجزاء ضرب الرّقاب!
وانظر قوله: «إن لم تجيبوا» فيه تحريز حسن، وهو الذي أشرنا إليه من جحدها بخلاف قول القائل: «ومن حاد عن أوقاتها أنا قاتله». وهو نفس ما قاله صاحبنا الفقيه [131/أ] محمد بن محمد بن عبد الرحمن المذكور (2).
إلا أن في هذه المقطوعة ترجمة القول في لزوم ما لا يلزم، وهو من البراعة (؟).

[الفقيه المتفنن أبو محمد عبد الغفار البوخلفي:]
وأنشدني فيه شيخنا الفقيه المتفنن أبو محمد عبد الغفار البوخلفي:
ذكرت ولم أكن للذّكر ناسي … عجائب سيف إدريس بفاس
فلم يك بالمنار سدى، ولكن … ليدفع عن حماها كلّ باس

[أبو محمد بن علي الفخار، شهر بالحياك:]
وأنشدني فيه أبو محمد بن علي الفخار، شهر بالحياك (3):
شهرة المشرفي فوق المنار … عزّة للورى ودين النبي
سيف إدريس محمد للأعادي … وانتصار الملوك بالمشرفيّ
_________
(1) هو حفيد محمد بن عمر بن رشيد صاحب الرحلة.
(2) هنا نصف سطر غير ظاهر في «م» وممحو تماما في «ط».
(3) في نيل الابتهاج 216 ترجمة لمحمد بن أحمد الحباك. وفي الروض الهتون 61 ترجمة لمحمد بن سعيد الحباك. كلاهما بالباء الموحدة. قلت اسم الشاعر في النسختين الحياك بالياء المثناة.
(1/460)
________________________________________
إلا أن قوله: «فوق المنار» فيه عيب من جهة النقد يسمى التجميع (لأن سامعه) (1) أولا يقدر أن قافية البيت مثل قافية المصراع، فيجدها على خلافه.

[الأديب أبو عثمان سعيد بن إبراهيم السدراتي شهر بشهبون:]
وأنشدني فيه لنفسه الأديب أبو عثمان سعيد بن إبراهيم السدراتي شهر بشهبون:
لإدريس سيف أظهر الدّين والهدى ... بأفق منار للأذان تشيّدا
فمن ظنّ أن الذّلّ أورثنا به ... فهل ذلّ إلا ظالم ضلّ واعتدى؟!
ولقد أحسن في قوله: «ذل .. وضل» حيث أتى بهذا التجنيس المسمى عندهم بالتجنيس المضارع.
قال إسماعيل، مؤلف هذا الكتاب:
«انتهى نثير الجمان في شعر من نظمني وإياه الزمان. وإذ قد فرغت من تأليف كتابي هذا، وكان وبلي فيه رذاذا، إذ لذت بجانب مغناه لواذا، جعلت العذر عن القصور فيه عياذا. ورغبت ممن تصفحه أن يسقط العتاب، ويعود إلى الإعتاب، فإني لست برب هذا (الشأن؛ ولا من فرسان) (2) [هذا الميدان] (3).
_________
(1) مستدرك من «ط».
(2) هذه العبارة من «ط».
(3) زيادة مقترحة.
(1/461)
________________________________________
تعليقات
1 - عنوان الكتاب الأصلي-كما هو مثبت على الغلاف-نثير الجمان في شعر من نظمني وإياه الزمان. وقد أضفت إليه على سبيل الإيضاح والبيان عنوانا رديفا هو «أعلام المغرب والأندلس في القرن الثامن» جعلته وصفا للحال بالإضافة إلى أنه عنوان فارق. ذلك أنني كنت حققت كتاب ابن الأحمر الآخر المسمى «نثير الجمان في نظم فحول الزمان»؛ فأردت أن يكون صنيعي هذا فرقا وتنبيها.
2 - ذكرت في مقدمة التحقيق وصف المخطوطين المعتمدين، وهما مخطوطا الكتاب المعروفان لدينا. وأثبتّ في حواشي الكتاب تفاصيل دقيقة لأوصاف المخطوطين التفصيلية وما كان بينهما من اتفاق واختلاف. وصلتي بالكتاب قديمة، فقد نسخت الكتاب لتحقيقه على نسخة دار الكتب المصرية أيام طلب العلم في القاهرة، وشرعت في تحقيقه. ثم توقفت لما قرأت مقالة في مجلة البحث العلمي تصف مخطوطة الخزانة الملكية في الرباط من نثير الجمان هذا. إلى أن تسنى لي الرجوع إلى نسخة الرباط ثم مراجعتها على الأصل مباشرة؛ فراجعت العمل، وبدأته من أوله في شيء كثير من الصبر، والعكوف على حل المشكلات.
والنص المحقق من الكتاب هو أفضل ما استطعت-بجهدي المتواضع-أن أصنعه. وإنما أبرزت هذا العمل لأن فيه مادة أدبية وتاريخية وافرة تهم المشتغلين بأدب المغرب والأندلس وتسد ثغرة هامة في هذا الباب. ولا شك في أن في هذا الكتاب تراجم ونصوصا لا يمكن أن يستغني من يؤرخ للأدب الأندلسي أو للأدب المغربي عن الرجوع إليها والاستفادة منها.
(1/463)
________________________________________
ونتمنى أن تسمح الأيام بظهور نسخة أصلية قريبة من النسخة الأم لتكون الفائدة من الكتاب كاملة.
3 - هذا العمل في الكتاب-الذي تطاول سنين متفرقة-اضطرني إلى استخدام المراجع المتوفرة حيث أقيم. وتنقل الكتاب معي بين القاهرة ودمشق ووهران والجزائر والرباط. وكنت في بعض الأحيان أعود إلى الكتاب الواحد في غير طبعة. وعلى الرغم من التنسيق الأخير، فإنني أخشى من هفوات يسيرة يند عنها القلم، وتسقط إلى العمل.
وفي الكتاب بعض التراجم التي لم أجد في مراجعي التي توفر لي الرجوع إليها معلومات إضافية عنها، أرسلتها إرسالا، وأكثرهم من أصحاب ابن الأحمر وتلامذته. ولا غرابة في أن يكون كتابه هذا مرجعا رئيسا لتراجمهم. وأنا -على كل حال-في حاجة إلى ملاحظات الأساتذة والزملاء المهتمين بالدراسات المغربية والأندلسية؛ وإلى آرائهم وحسن عونهم.
4 - اعتمدت في تحقيق النص على ما ورد في الأصلين، والتزمت الرواية فيهما، فإذا وجدت نقولا في كتب أخرى قابلت عليها. وعمدت إلى إثبات ما في النص على حاله، إلا اذا رجحت قراءة المرسوم على وجه خاص، إذا كان الرسم يمكّن من ذلك.
5 - في صفحة 121 السطر 6 «نلت» كذا قرأتها. وفي ص 232 أحمد ابن محمد بن عبد المنان وإن كان الأرجح لدي أنه هو نفسه أحمد بن يحيى (انظر ترجمته). وأورد المؤلف في ص 275 اسم عبد الله بن يوسف بن محمد الينجاسني بالياء، ثم أورده في ص 276 بالواو هكذا الونجاسني. وقد اجتمع لدي قدر يلحق بصفحة الخطأ والصواب أثبته فيها.
(1/464)
________________________________________
فهرس المصادر والمراجع (*)
ابو المطرف بن عميرة المخزومي-د. بنشريفة-المغرب
الإحاطة في أخبار غرناطة-ابن الخطيب-مصر جزآن
الإحاطة-بتحقيق أ. عنان-الجزء الاول
الاستبصار-لمجهول-ط الاسكندرية.
الاستقصا في أخبار المغرب الأقصى-الناصري السلاوي-الطبعة الثانية-
أزهار الرياض في أخبار عياض للمقري-السقا ورفاقه-
الأعلام-خير الدين الزركلي-الطبعة الثانية
أعمال الأعمال-لسان الدين بن الخطيب-قسم الأندلس-تحقيق: ل. بروفنسال
الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني-طبعة دار الثقافة-بيروت
ألف باء لأبي الحجاج البلوي-جزآن-ط القاهرة.
الإيضاح للقزويني (بعناية محي الدين عبد الحميد) -القاهرة.
إيضاح المكنون لإسماعيل باشا البغدادي
البداية والنهاية لابن الأثير-ط القاهرة
بغية الرواد-يحيى بن خلدون-3 أجزاء-الجزائر.
بغية الوعاة للسيوطي الطبعة الثانية-القاهرة.
البلاغة تطور وتاريخ-د. شوقي ضيف-دار المعارف بمصر.
البيان النبوي-د. عدنان زرزور-دمشق.
تاج المفرق بتحلية علماء المشرق-لأبي البقاء البلوى- (مخطوطة خاصة)
تاريخ الأدب العربي-بروكلمان (النسخة الألمانية)
تاريخ ابن خلدون-العبر-7 أجزاء ط القاهرة.
_________
(*) لم أثبت المعاجم المعتمدة، وإن كان اعتمادي-في الأكثر-على القاموس.
(1/520)
________________________________________
تاريخ الطبري-تاريخ الرسل والملوك 10 أجزاء-القاهرة.
تاريخ قضاة الأندلس-المرقبة العليا للقاضي أبي الحسن النباهي-تحقيق ل. بروفسال-القاهرة.
تاريخ النقد الأدبي في الأندلس-د. محمد رضوان الداية-بيروت
التبيان لابن الزملكاني-ط بغداد
تحرير التحبير لابن أبي الإصبع-ط القاهرة-بعناية حفتي شرف.
التسهيل لعلوم التنزيل-لابن جزي-تحقيق د. عدنان زرزور ود. محمد رضوان الداية-طبع بيروت.
التعريف بابن خلدون-بقلمه-ط القاهرة-بتحقيق محمد بن تاويت الطنجي.
تفسير القرطبي-الجامع لعلوم القرآن-20 جزءا-ط القاهرة.
التلخيص للقزويني-ط القاهرة.
جذوة الاقتباس لابن القاضي-ط المغرب.
جمهرة أنساب العرب لابن حزم-دار المعارف بمصر-
جنى الجنتين للمحبي-ط القاهرة-
خزانة الأدب للبغداي-الطبعة الأولى-وط السلفية-وط هارون.
درة الحجال في أسماء الرجال-ابن القاضي-ط القاهرة.
الدرر الكامنة لابن حجر-ط القاهرة.
الديباج المذهب لابن فرحون (ط ابن شقرون-القاهرة).
ديوان الأعشى-ط القاهرة-تحقيق د. حسين.
ديوان امرىء القيس-ط القاهرة-بشرح الأعلم الشنتمري.
ديوان أمية بن أبي الصلت-تحقيق د. السطلي.
ديوان البحتري (القاهرة) تحقيق الصيرفي.
ديوان بشار بن برد-ط القاهرة-تحقيق ابن عاشور.
(1/521)
________________________________________
ديوان أبي تمام-القاهرة-تحقيق د. عزام
ديوان جرير-تحقيق الصاوي بمصر-
ديوان-شعر-النابغة الجعدي-ط دمشق.
ديوان ابن الجياب (مخطوطة خاصة).
ديوان حسان بن ثابت (ط البرقوقي بمصر).
ديوان ابن خاتمة-تحقيق د. الداية-دمشق.
ديوان لسان الدين بن الخطيب-الجزائر.
ديوان الخنساء ط بيروت.
ديوان دعبل الخزاعي-تحقيق د. الأشتر.
ديوان ابن الرومي (ط الكيلاني-القاهرة).
ديوان زهير بن أبي سلمى-ط دار الكتب المصرية-
ديوان سحيم عبد بني الحسحاس (ط دار الكتب المصرية).
ديوان طرفة بن العبد-سلفسون-باريس
ديوان العباس بن الأحنف (ط الجوائب).
ديوان العباس بن مرداس (جمع الأستاذ الجبوري-بغداد).
ديوان ابن الفارض-ط مصر-بلا تاريخ-
ديوان كثير عزة بتحقيق د. إحسان عباس-بيروت.
ديوان كعب بن زهير (ط دار الكتب المصرية).
ديوان محمد بن عمار المهري (ط بغداد).
ذكريات مشاهير المغرب-الأستاذ كنون-بيروت
رحلة أبي البقاء البلوي-تاج المفرق.
رفع الحجب المستورة عن محاسن المقصورة-الشريف الغرناطي-ط مصر رقم الحلل في نظم الدول-ابن الخطيب-تونس.
(1/522)
________________________________________
الروض المعطار للحميري-تحقيق د. عباس-بيروت.
روضة النسرين لابن الأحمر-المطبعة الملكية بالرباط-
ريحانة الكتاب ونجعة المنتاب لابن الخطيب-مخطوطة القاهرة-
سلوة الأنفاس-للكتاني-
السيرة النبوية لابن هشام-السقا ورفاقه.
شجرة النور الزكية لمحمد مخلوف-القاهرة-
صحيح البخاري-فتح الباري.
صحيح مسلم بشرح النووي.
العقد لابن عبد ربه-أحمد أمين ورفاقه-القاهرة.
العمدة في صناعة الشعر ونقده لابن رشيق-ط الخانجي.
فهرس الفهارس والأثبات لعبد الحي الكتاني-ط مصر.
الكامل للمبرد-مطبعة نهضة مصر-
الكتيبة الكامنة لابن الخطيب-د. إحسان عباس بيروت.
كشف الخفا ومزيل الإلباس للعجلوني ط مصر
لسان الدين بن الخطيب-الأستاذ عنان-القاهرة
كناسة الدكان لابن الخطيب-القاهرة-
اللمحة البدرية في الدولة النصرية-المطبعة السلفية بمصر-
المرقبة العليا-تاريخ قضاة الأندلس.
مستودع العلامة-لابن الأحمر- (ط المغرب).
مشاهدات لسان الدين-ط مصر بعناية د. العبادي
معجم البلدان لياقوت-ط بيروت
معجم الشعراء للمرزباني-عبد الستار فراج.
معجم المؤلفين-كحالة-دمشق.
معجم الأنساب والأسرات الحاكمة-لزامباور-القاهرة- (مترجم).
(1/523)
________________________________________
معجم ما استعجم للبكري (تحقيق السقا) مصر.
المعلقات بشرح التبريزي-مصر.
معيار الاختبار للسان الدين بن الخطيب (مصر).
المقاصد الحسنة للسخاوي
النبوغ المغربي للأستاذ عبد الله كنون-بيروت-
نثير فرائد الجمان لابن الأحمر (د. الداية) ط بيروت-
نفاضة الجراب لابن الخطيب (ط القاهرة).
نفح الطيب للمقري-تحقيق د. إحسان عباس-بيروت.
نقد الشعر لقدامة-ط الآستانة-.
نهاية الاندلس-أ. عنان-الطبعة الثانية.
النهاية في غريب الحديث لابن الأثير-الطناحي ورفيقه-مصر.
نيل الابتهاج لأحمد بابا (على ذيل الديباج).
هدية العارفين-إسماعيل البغدادي-استانبول-.
(1/524)
________________________________________
للمحقق
* في سلسلة دراسات أندلسية:
1 - تاريخ النقد الأدبي في الأندلس (دراسة) -دار الأنوار (بيروت)
2 - المعيار في أوزان الأشعار لمحمد بن عبد الملك الشنتريني-الطبعة الأولى- دار الأنوار (بيروت-دمشق) الطبعة الثانية-المكتب الاسلامي بدمشق.
3 - مختارات من الشعر الأندلسي-الطبعة الأولى-المكتب الإسلامي-دمشق- الطبعة الثانية (المكتب الإسلامي بدمشق).
4 - ديوان ابن خاتمة الأنصاري (تحقيق) صدر عن وزارة الثقافة بدمشق.
5 - الإنصاف بذكر أسباب الخلاف لابن السّيد البطليوسي (تحقيق) نشر دار الفكر بدمشق.
6 - شرح مشكل شعر المتنبي-لابن سيدة الأندلسي (تحقيق) نشر دار المأمون بدمشق.
7 - ديوان أبي إسحاق الإلبيري-تحقيق-نشر مؤسسة الرسالة (بيروت-دمشق).
8 - أعلام المغرب والأندلس وهو كتاب «نثير الجمان في شعر من نظمني وإياه الزمان» لابن الأحمر.
-تحقيق-نشر مؤسسة الرسالة (بيروت)
9 - ديوان ابن عبد ربه (جمع وتحقيق) -مؤسسة الرسالة
(1/525)
________________________________________
* في سلسلة الذخائر:
1 - ابن خفاجة (دراسة) نشر المكتب الإسلامي-دمشق.
2 - أبو البقاء الرندي (دراسة) نشر مؤسسة الرسالة (بيروت).
3 - ابن زيدون (دراسة) نشر مؤسسة الرسالة (بيروت).

* في المكتبة الأندلسية:
1 - إحكام صنعة الكلام لابن عبد الغفور الكلاعي (تحقيق) نشر دار الثقافة-بيروت.
2 - نثير فرائد الجمان لابن الأحمر- (تحقيق نصر أندلسي) +دراسة عن المؤلف وأدبه وكتابه-دار الثقافة-بيروت-.

* بالاشتراك مع الأستاذ الدكتور عدنان زرزور
1 - الجمان في تشبيهات القرآن لابن ناقيا البغدادي (تحقيق) نشر وزارة الأوقاف بالكويت.
-الطبعة الثانية-نشر مؤسسة الرسالة-بيروت
2 - تفسير ابن جزي الغرناطي-تحقيق-نشر مؤسسة الرسالة-بيروت

* أعمال أخرى
1 - أعلام الأدب العباسي (تراجم واختيارات) نشر دار الفارابي-دمشق
2 - ابن زيدون (محاولة لإعادة النظر في دراسة شخصيته وشعره) بحث قدم إلى مهرجان ابن زيدون في ذكراه الألفية بالرباط (المغرب)
-منهج جديد لدراسته.
(1/526)
________________________________________


http://www.shamela.ws
تم إعداد هذا الملف آليا بواسطة المكتبة الشاملة
المصدر: ملتقى شذرات

__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية

الكلمات الدلالية (Tags)
أعمال, المغرب, الثامن, القرن, والأندلس


يتصفح الموضوع حالياً : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
أدوات الموضوع

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


المواضيع المتشابهه للموضوع أعلام المغرب والأندلس في القرن الثامن
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
تظاهرات في المغرب إحتجاجا على صفقة القرن عبدالناصر محمود أخبار عربية وعالمية 0 02-11-2020 07:23 AM
العثمانيون والأندلس "الحقائق الغائية" عبدو خليفة شذرات إسلامية 0 01-30-2017 12:42 AM
فاجعة الثامن من آذار عبدالناصر محمود مقالات وتحليلات مختارة 0 03-12-2015 08:34 AM
بحوث المؤتمر العلمي الثامن للإعجاز العلم.. احمد ادريس كتب ومراجع إلكترونية 0 04-10-2013 01:29 PM
الدرس الثامن في الايفون Eng.Jordan الحاسوب والاتصالات 0 04-14-2012 07:59 PM

   
|
 
 

  sitemap 

 


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 11:07 AM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.12 by vBS
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والمشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59