#1  
قديم 11-14-2016, 02:58 PM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,392
افتراضي كيف أحالتنا المدينة إلى غجر في أزقتها الطارئة؟


كيف أحالتنا المدينة إلى غجر في أزقتها الطارئة؟

أبوظبي ـ حسين جمو

عندما يحمل القارئ أي كتاب بين يديه، فإن من الفروض الأولى التي عليه القيام بها النظر إلى تاريخ صدور الكتاب. ولعل كتب الروايات الأدبية والشعر يتفادى هذا الاختبار كونها أشبه بالعروس التي شربت من ماء الخلود. لكن أكثر الكتب التي تتعرض لمقصلة تاريخ الصدور هي الكتب التي تتحدث عما سيحدث مستقبلا، ليس من زاوية النبوءات كما لدى نوسترادموس أو كتب الفلك فقط، بل أيضا تلك التي تستند في طرحها المستقبلي على علم الاجتماع الذي يبدو عليه التراجع والتقهقر مؤخرا نظرا للتطورات الفائقة السرعة التي تطرأ على سلوكيات البشر، خاصة خلال العشرين عاما الماضية.

ربما كانت المقدمة السالفة مدخلاً غير ناجح للحديث عن مضمون كتاب «صدمة المستقبل « لعالم الاجتماع الأميركي آلفن توفلر، لكنه مدخل لا بد منه حتى في حالته السيئة. الكتاب صدر في بداية السبعينات من القرن الماضي، وصدرت طبعته العربية الأولى عام 1974 عن الجمعية المصرية لنشر المعرفة والثقافة العالمية، وترجمه محمد علي ناصيف، وصدرت طبعة ثانية للكتاب عام 1990، ويقع في 515 صفحة. البيانات الأولية هذه ليست في صالح اقتناء الكتاب للوهلة الأولى إلا لنوعية القراء الذين يبحثون عن الكيفية التي كان ينظر بها عالم اجتماع إلى المستقبل قبل أربعين سنة من الآن. ورغم أن معظم العارفين يحصرون التطورات الفائقة السرعة في تاريخ البشرية بالعقدين الأخيرين ابتداء من انهيار الاتحاد السوفياتي على الصعيد السياسي وظهور الانترنت وانتشاره بأوسع صورة خلال العقد الماضي، إلا ان النظرة الاستشرافية التي تحدّث عنها توفلر بتفصيل يضع من يبحثون عن الاجابات على مفترق طرق في ما يخص مفهوم الزوالية في الحياة المعاصرة. فبعد التشخيص لا بد من موقف تجاه الظواهر الجديدة التي يجد علم النفس حتى الآن صعوبة في التعامل معها وتقديم استشارات منطقية بشأنها.

الزوالية كما يشخصها توفلر تعني أن علاقة الانسان بالأشياء أصبحت تدوم فترة أقل. وأصبحت هناك «ثقافة التخلص من الأشياء» بدءا من المناديل وانتهاء بالمسكن والبيئة المادية كالعمران التي أصبحت أكثر تلاشيا و«ذات قابلية غير مسبوقة إلى الزوال». اعتمد توفلر قبل أربعين عاما على بيانات واحصاءات بالكاد كانت تلاحظ على نطاق محدود مثل نمط الأكل السريع والاتجاه إلى الايجارية التي هي أحد روافد الاتجاه العام إلى تقصير مدى العلاقة بين الانسان وبيئته المادية.

أين نحن الآن مما كتبه توفلر؟ لعل المقاربة البديهية تؤدي بنا حاليا إلى أن ما بنى عليه توفلر نظريته بالاعتماد على عينات محدودة من المجتمع أصبحت عامة ويمكن ان توجد في اماكن كانت عبارة عن بادية غير قابلة للرفاهية عندما كان توفلر يعكف على كتابة بحثه قبل أكثر من أربعة عقود، وأول هذه الأماكن هي مدن منطقة الخليج العربي التي كانت قبل أربعة عقود يعيش سكانها على وقع كلام يتم تداوله ويرددونه عن أبنية اسمنتية سيتم تشييدها. البعض كان يصدق والبعض الأخر كان يرى في ذلك ضربا من الخيال الذي لا يستطيع استيعابه . لننظر إلى مدينة مثل أبوظبي أو دبي اليوم، فمن وجهة نظر التاجر والرأسمالي فإن معجزة حقيقية تم تحقيقها دون ان نخوض حاليا في ملابسات الأزمة المالية لأن القصد هو الشكل الذي أصبح عليه «المكان» خلال عقود قليلة وليس مقدار الثروة وديمومتها. سنرى أن هذه المدن تغيرت إلى الأبد، ولا ننسى ما قاله كريستوفر رايت، من معهد دراسات العلم في النواحي الانسانية قبل أربعة عقود:« عندما تتغير الأشياء من حولك، فإن تغيرا موازيا يحدث في داخلك». ولنا ان نتساءل هنا هل المجتمع المحلي في المدن الخليجية على صلة وثيقة بمجتمع ما قبل النفط؟ هذا السؤال من اختصاص علماء الاجتماع الذين، إذا أرادوا إجابة دقيقة فلا بد ان يتصادموا مع مفهوم التطور القائم على التجديد. وهنا نتساءل: هل حقا نحن بحاجة لاستعادة شيء من تعاسة الماضي لنقوى على الحياة بدون الأزمات الكبرى التي تنخر الشخصية الانسانية في ظل اقتحام الزوالية حياتنا المعاصرة؟

العلاقات الاجتماعية بحد ذاتها طالها الزوال السريع، مثل ارتفاع معدلات الطلاق، وارتفاع عدد العلاقات العاطفية التي يخوضها كل منا في حياته لدرجة عدم قدرة الذاكرة على تذكر كل ملامح الشخص الذي كنا على علاقة حميمة معه. أضف إلى ذلك ما يمكن تسميته حديثا بالانفصال الجيلي. قبل عقود، وحسب المعطيات الاجتماعية من الذين عاصروا تلك الفترات، كان فارق السن بين الزوج والزوجة (عندما يكون سبع سنوات على سبيل المثال) فإن الوصول إلى نقطة التعادل الثقافي والتعادل في الخبرة لا تستغرق وقتا طويلا ليبدأ الطرفان بالحياة كفريق ثنائي وكأنهما ولدا في اليوم نفسه. اليوم، بالنسبة للفئة الشبابية التي عمرها 28 سنة، من الصعوبة عليهم التوافق مع فئة العشرين عاما، بل إن هناك اختلافا قيميا بينهما يطال كلا من مفهومي الثقافة والسخافة في الوقت ذاته، أي طريقة الحياة بكل أوجهها. وكملاحظة مبدئية في سبيل التوضيح يمكن لنا بناء هذا التصور على فرضية هي بحاجة لدراسات احصائية: بالنسبة لاستخدام الانترنت فإن فئة الـ 28 يعود استخدامهم للانترنت إلى ما قبل ثماني سنوات او عشر سنوات للمحظوظ ممن امتلك هذه الوسيلة للتواصل في منطقة الشرق الأوسط، ونحن هنا نتحدث عن انتشارها في النطاق الأوسع. وإذا جئنا لفئة الـ 20 عاما فإن استخدامهم للانترنت يعود أيضا لنفس الفترة الزمنية حيث انتشر الانترنت على نطاق واسع بعد عام 2000 في المنطقة، فيكون فارق الاستخدام ما يقارب الثماني سنوات. الفئة الأولى استخدمتها وهي في سن العشرين، اما الثانية فيعود استخدامها الافتراضي للانترنت إلى سن الـ 12 او 13، وهذا احد أوجه تفسير عدم التوافق الاجتماعي بين هاتين الفئتين على غير ما جرت عليه العادة قبل عقود. نحن هنا امام سبع او ثماني سنوات كفارق عمري كانت كافية لانتاج مفهوم مغاير للحياة لكل فئة.

الملاحظ أن الجيل الأصغر أكثر تبنيا للزوالية دون محاولة نقدها ووضعها على محك المساءلة في ظاهرة ربما أفرغت مفهوم «الاستجابية الاجتماعية التي طرحها عالم الاجتماع أنتوني جيدنز في كتابيه «عام جامح» و «بعيدا عن اليمين واليسار: مستقبل السياسات الراديكالية»، فنحن هنا لسنا امام استجابية تتضمن أي مساءلة للجديد، بل في تقبل طوعي في تبنيها وانفصال طوعي عن نمط الحياة التي كانت سائدة حتى قبل سنوات عديدة فقط، فالزوالية هنا طالت الماضي ذاته، لكن إلى أين سيأخذنا هذا الاقبال الأعمى على المستقبل؟

ربما يستغل بعض الأصوليين مثل هذا التساؤل لطرح رؤاهم المنغلقة كحل للخلل الحاصل حاليا في التقادم السريع لكل شيء نعيشه حاليا. لكن من الصعب عليهم تقديم رؤية سليمة بالاعتماد على معادلات الحياة المعاصرة. بل ربما تكون بعض طروحاتهم الخرقاء سببا في تبرير البعض للعصرنة المتحللة من «الثبات» في كل نواحيها والسير في موجة «الزوالية» والاسهام فيها. أو ربما يجدها بعض أصوليي الحداثة كدليل على الحرب الخاسرة لمن يسائل بعض المنتجات الاجتماعية للمدينة المعاصرة. لكن المؤكد ان الموقف بحاجة لصياغة نوع من المساءلة لفكرة اتجاه التطور وليس الاحتفاء بتقدمية التطور. على صعيد الفنون، يمكن لأي شخص أن يقارن بين الفنون الرائعة التي كانت تخرج من المنازل سابقا ومقارنتها بالواقع الحالي للفنون البسيطة المنزلية. وكأبسط مثال يمكن ان نذكر التطريزات اليدوية التي كانت تقوم بها الأمهات على مخدات نومنا، ولوحات الخرز التي كان يتم تعليقها على أحد جدران المنزل، او المحافظ القماشية التي كانت توضع فيها الأدوات الصغيرة على الحائط بقرب الأبواب. قد يعبّر بعض القراء عن امتعاضهم من الأمثلة البسيطة ويراها لا تستحق الذكر، لكن لنا ان نسأله هنا : عندما تنتقل للعيش في مكان جديد وحي جديد، ما هي أقدم قطعة تمتلكها يحين موعد انتقالك القادم لمنزل آخر؟ وما هي عدد القطع التي تتخلص منها؟ وما هي الجدوى من الاحتفاظ بلوحة جدارية رخيصة مصنوعة في الصين؟ وهل يؤذيك تحطم هذه اللوحة عندما يكسرها طفلك الذي يعبث بأثاث المنزل؟ هل يمكن ان تورث دمية اشتريتها من السوق لابنك؟ وما هو أقدم شيء يمكن ان تحتفظ به لنفسك من كل ما تشتريه؟ الاجابة عن هذه التساؤلات تكشف عن الزوالية التي غزت حياتنا لدرجة نشعر وكأنها من سنن الحياة. وفي خلفية المشهد تكمن الشركات التي تجني الأرباح من إقبالنا دون مساءلة على كل ما هو قابل للزوال السريع. في مدينة مثل أبوظبي، يكون من الطبيعي جدا على أي شخص يعيش فيها أن يكون غيّر مكان سكنه ثلاث مرات في العام الواحد على أقل تقدير، مثل هذا الانتقال السريع بين الأماكن يخلق حتى علاقات زائلة بل لا جدوى منها، فما الداعي لتكوين علاقة مع البائع في البقالية أسفل المنزل او مع مبدل أسطوانات الغاز أو الرجل الذي يجلس يوميا على الرصيف المؤدي لمكان السكن؟ وهل هناك أي معنى لو سألناه عن احواله واحوال ابنته المريضة الراقدة في المستشفى؟

يرى توفلر اننا نعيش حياة غجرية في أكثر المدن تطورا خلال تاريخ البشرية، إذ ليست هناك أي حاجة لتكوين علاقات لن تدوم، مؤقتة وظرفية وقائمة على المنفعة المتبادلة، خدمة مقابل الدفع . وبالنتيجة، لا يمكن تأسيس أي علاقة مع المكان وعناصره. شارع المطار ليس أكثر من مكان ننتظر الوقت الذي نغادره لمكان آخر. هذا حال كل المدن حاليا، وإذا ما عدنا إلى آلفن توفلر نجد انه يطرح تساؤلا من صميم المشكلة عندما يذكر ان المسافر من بلده قبل عقود كان يعود بعد خمس سنوات ويعرف إلى أين هو عائد، اليوم لا يعرف المسافر من مدينته بعد خمس سنوات ما هو الشكل الذي أصبحت عليه مدينته، وما إذا كان الشارع الذي سار فيه آخر مرة وهو يحمل حقيبة السفر ما زال موجودا.

هذه الظواهر الخطيرة في الطابع الزوالي لحياتنا بمختلف جوانبها هو ما يطلق عليه توفلر «صدمة المستقبل» ويضع شرطا لتفاديها في غاية العسر والصعوبة وهو الوعي بمفهوم الزوال. ويمكن ان نضيف أيضا أن الوعي بالفن ذاته يمكن ان يجنب الفرد هذه الصدمة الاستهلاكية التي تجني منها الشركات الرأسمالية أرباحا طائلة هي الأخرى زائلة. ولعل الاشكالية الكبيرة في طرح مفهوم مقاومة الزوالية هو تقاطعها في نقطة البحث عن «نوع من الثبات» في علاقاتنا مع الكائنات والأشياء مع طروحات أصولية كما أسلفنا، لكنه تقاطع وهمي زائل إذ لا يمكن ان يكون الفن بمفهومه الشامل متحالفا مع الجمود. هي دعوة لاعادة النظر في حياتنا لمعرفة كم تغيرنا خلال سنوات قليلة، وحجم القلق الذي ينتاب انسان المستقبل في ظل هذا الواقع الذي بدأ يمتلك قدرة دفع ذاتية. وما نطرحه مرتبط بكل جوانب الحياة التي نعيشها، شامل لدرجة أنها لا تستثني الأحذية التي نضعها في أقدامنا التي إذا بقيت صالحة للاستخدام بعد ثلاث سنوات فإن ذلك مدعاة للفخر والانحناء لايطاليا.

نوافذ
المصدر: ملتقى شذرات

__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية

الكلمات الدلالية (Tags)
أحالتنا, أزقتها, المدينة, الطارئة؟


يتصفح الموضوع حالياً : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
أدوات الموضوع

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


المواضيع المتشابهه للموضوع كيف أحالتنا المدينة إلى غجر في أزقتها الطارئة؟
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
نخاولة المدينة المنوّرة عبدالناصر محمود شذرات إسلامية 0 09-27-2014 07:28 AM
المدينة المنورة .. يثرب Eng.Jordan رواق الثقافة 0 03-24-2013 02:32 PM
أفارقة في المدينة الوجود الإفريقي في المدينة المنورة في القرن العاشر الهجري السادس عشر الميلادي Eng.Jordan بحوث ودراسات منوعة 0 11-15-2012 07:16 PM
صحيفة المدينة أول دستور فى التاريخ تراتيل شذرات إسلامية 0 01-29-2012 11:40 PM

   
|
 
 

  sitemap 

 


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 01:56 AM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.12 by vBS
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والمشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59