#1  
قديم 12-04-2014, 09:13 AM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود غير متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 56,039
ورقة علاقة العُبّاد بالعلماء


علاقة العُبّاد بالعلماء
ــــــــــ

(أ.د/ الشريف حاتم بن عارف العوني)
ــــــــــــــــــ


12 / 2 / 1436 هــ
4 / 12 / 2014 م
ــــــــــ

العُبّاد 4-12-2014.jpg

علاقة العُبّاد بالعلماء
-------------

(صفحة من التوتّر الخفي في واقعنا الإسلامي)
---------------------------



وسوف نستعرض هذا الموضوع الشائك المذكور في عنوان هذا المقال من خلال سيرة أحد عُبّاد السلف، ومن خلال صفحات متناثرة في سيرته، ولكن اجتماعها يبيّن علاقة العُبّاد بالعلماء في الموقف من الحُكّام الذين لديهم ظلم، وفي نظرة العباد للعلماء في تناول العلماء مباحات النِّعم:

- بدءًا من مفارقة مواقف هؤلاء العباد لمواقف العلماء في التعامل مع الحُكَّام وطريقة معالجتهم لقضايا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
- وانتهاء بتقويم هؤلاء العباد لمواقف العلماء، والتي قد تصل حد اتهامهم بالخيانة والممالأة للحكام وأنهم (علماء سلطان) كما يقال اليوم!
- مرورًا بلوم العباد العلماءَ وانتقاصهم لأخذهم من متاع الحياة الدنيا بما لا يحرم عليهم من زينتها ونعائمها.
وتم اختيار هذه السيرة لأنها سيرةٌ تُـمثّل نموذجًا من نماذج علاقة العُبّاد بالعلماء، تلك العلاقة التي لم تَـخْلُ في كثيرٍ من الأحيان من بعض الاختلاف بين الطائفتين، بل من شيءٍ من النفرة الطبيعية في كثير من الأحيان، والتي قد تخرج أحيانًا أخرى عن حدها الطبيعي!

ولهذا الاختلاف والتوتّر بين العباد والعلماء أثره البالغ في حياة الأمة وفي تصوراتها الدينية؛ لأنها تصدر من القادة الدينيين للأمة (علمائها وعُبادها)، خاصة وهي صفحات متكررة في تاريخنا الإسلامي، وفي واقعنا المعاصر، تكرّرًا لا يكاد يمكن أن يخلو منه زمانٌ أو مكان.

فأحببت أن ألقي ببعض الأضواء على هذه العلاقة التي يشوبها توتر يخفيه العلماء عن عموم المسلمين، وربما أخفاه العباد عنهم كذلك، خشية إساءة الظن بمن جَنّدوا أنفسَهم لله تعالى تَعَلُّـمًا لشريعته وتعليما (العلماء) وعبادةً وتَزهُّـدًا (العُـبّاد)! وقصدتُ من إلقاء هذا الضوء بيانَ أمرٍ لم أعد أرى في إخفائه فائدة، بل إن إخفاءه مما يزيد من تفاقم الخلل في الواقع الإسلامي؛ لقلة العلماء جدا ولضعفهم، ولكثرة الوعاظ الذين تلبّسوا لباس العباد، فلا كان الوُعاظ في زكاء نفوس العباد الأوائل، كما لم يكن العلماء بقوة علماء السلف في قدرتهم على حماية المجتمع المسلم من الانحراف الديني والأخلاقي والفكري!! فأصبح الخلاف بين هاتين الطائفتين أشدّ مما كان عليه وأعمق أثرًا وأكبر خطرًا، ولم يعد إخفاؤه عن عموم المسلمين إلا (كما يُقال) كإخفاء النعامة رأسها في التراب!

وليس المقصود بهذا الموضوع ومن تعميم العنوان فيه تعميمَ الصورة، لكن المراد به التنبيه إلى موضوع تكثر فيه الغفلة حتى من بعض جلة العباد وسادة أهل الصلاح تجاه أئمة العلم! وإن كان لا يعمهم جميعهم ولا شك.

فإلى سيرة هذا العابد، وما يتعلق بموقفه من جِلّة علماء عصره، و نظرته إليهم وتقويمه لسلوكهم مع الحكام ولأخذهم من الدنيا ما يُباح لهم:

وعابدنا هو: أبو عبد الرحمن عبد الله بن عبد العزيز بن عبد الله بن عمر بن الخطاب العدوي العُمري المدني (ت184هـ)، كان من أشهر عُباد المدينة المنورة، مذكورًا عند الخاصة والعامة في زمنه بالفضل والعبادة، وله جماهيريةٌ واسعة جدا بين المسلمين، وكان من شدة تعبّده أنه آل به الأمر أنه اعتزل الناس في البادية، حتى لُقّب بالبدوي.

ولعظيم مكانته عند العلماء في الزهد والعبادة كان إمامُ مكة فقهًا وحديثا سفيانُ بن عيينة (ت198هـ) يجعله هو المقصود بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «يُوشك أن يضرب الناسُ أكبادَ الإبل، يطلبون العلم، لا يجدون عالمًا أعلمَ من عالم أهل المدينة». بل كان سفيان بن عيينة إذا جُودِل في ذلك، وإذا ذُكر له الإمام مالك بن أنس وأنه هو المقصود بهذا الحديث، يقول معترضًا: «إنما العالم من يخشى الله، ولا نعلم أحدا كان أخشى لله من العمري». في حين أن عامة العلماء نزّلوا هذا الحديثَ على إمام دار الهجرة مالك بن أنس (ت 179هـ)، وهو بذلك أحرى وأحق بلا شك. حتى قال ابن عبد البر معلقا على كلام سفيان بن عيينة: « ليس العمري ممن يلحق في العلم والفقه بمالك، وإن كان شريفًا سيدًا عابدًا».

ولقد كان العُمري العابد هذا من الأمّارين بالمعروف النهّائين عن المنكر، وكان لا يهاب الأمراء والسلاطين في ذلك.

وله قصص تدل على قوته في الحق مع هارون الرشيد، منها أنه رآه مرة في الحج في المسعى، فصاح به يناديه: يا هارون، فلما نظر إليه الرشيد، قال له: لبيك يا عم، فقال له: ارق الصفا، فلما رقيه، قال: ارم بطرفك إلى البيت، فقال الرشيد: قد فعلت، فقال له: كم هم (يعني عدد الحجاج)؟! قال: ومن يحصيهم؟! قال العمري: فكم في الناس مثلهم؟ قال: خلق لا يحصيهم إلا الله، فقال العمري للرشيد: اعلم أيها الرجل أن كل واحد منهم يُسأل عن خاصة نفسه، وأنت وحدك تُسأل عنهم كلهم، فانظر كيف تكون؟ فبكى هارون، وجلس، وجعلوا يعطونه منديلًا لدموعه. ثم قال العمري للرشيد: أو أخرى أقولها؟ فقال الرشيد: قل يا عم، قال: والله إن الرجل ليسرف في ماله فيستحق الحجر عليه، فكيف بمن يسرف في مال المسلمين؟! ثم مضى، وهارون يبكي.

حتى جاء في أخباره أن هارون الرشيد كان يقول: إني لأحب أن أحج كل سنة، ما يمنعني إلا رجل من ولد عمر ثَمَّ، يُسمعني ما أكره!!

وبلغ من جماهيريته أن كان الرشيد يخافه، كما يخاف الجيوش الغازية! فقد جاء في أخباره أنه خرج مرة إلى الرشيد ليعظه، فلما نزل الكوفة، زحف عسكر الدولة إليها، يقول الراوي: حتى لو كان نزل بهم مائة ألف من العدو ما زادوا على ذلك، من هيبته وشعبيته. ثم رجع العمري، ولم يستطع الوصول إلى الرشيد.

ويروي أحد علماء مكة الثقات وهو محمد بن حرب المكي, قال: قدم علينا العمري الزاهد، فاجتمعنا عليه، وأتاه وجوه أهل مكة، فرفع رأسه، فلما نظر إلى القصور المحدقة بالكعبة، نادى بأعلى صوته: «يا أصحاب القصور المشيدة، اذكروا ظلمة القبور الموحشة. يا أهل التنعم والتلذذ، اذكروا الدود والصديد وبلى الأجسام في التراب».

ولقد بلغت شدة عابدنا هذا في الإنكار وحماسته فيه أن كان في مرحلة من عمره ثائرًا على الحكام، فهو أحد من شارك في ثورة النفس الزكية (محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب ت145هـ)، وذلك في زمن أبي جعفر المنصور. بل لقد شارك فيها هو وثلاثة من أبنائه، هم: عبد الله، وإسحاق، ومحمد. مما يدل على أنه حين مشاركته فيها كان قد تجاوز سن الشباب وفورة حماسته، وأنه قد قارب الأربعين من عمره أو جاوزها، ومع ذلك كان يؤزّه الحماسُ إلى الثورة وإلى الإنكار المسلّح!

بل لقد جاء عابدُنا مرةً إلى الإمام مالك بن أنس (إمام دار الهجرة) - رحمه الله - يُـحرّضُه على الثورة، بصيغة سؤال (كعادة بعض المتظاهرين بالاستفتاء اليوم)! حيث قال له: يا أبا عبد الله، قد نرى هذه الأحكام التي قد بُـدّلت، أفيسعنا مع ذلك التَّخَلُّفُ عن مجاهدة من بدَّلَـها؟! فقال له الإمام مالك: إن كان معك اثنا عشر ألفا مثلك، لم يسعك التخلف عن ذلك , وإن لم يكن معك هذا العدد من أمثالك، فأنت في سعة من التخلف عن ذلك.

ويعني الإمام مالك بذلك حضه على تصحيح فقهه، وأن يكون مبنى النظر عنده هو موازنة المفاسد والمصالح، لا أن يثور فتؤدي ثورته إلى مفسدة أكبر من مفسدة الظلم الواقع.

وإنما جعل الإمام مالك عدد الاثني عشر ألفا حدًّا لذلك أخذًا مما يُروىٰ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لن يُغلب اثنا عشر ألفًا من قِلّة». وبغض النظر عن صحة الحديث، وعن صحة الاستدلال، فهو استدلالٌ قائمٌ على بيان تحريم إثارة فتنة غير محسوبة العواقب، تزهق فيها الأنفس، وتُستباح الحرمات، ويضيع معها الأمن، ويفقد فيها الناسُ ما لم يكن مفقودا قبلها.

ومع ما لدى هذا العابد القدوة (في عبادته) من حماسة في إنكار مظالم الحكام؛ إلا أنه لم يكن يحمل غِلًّا عليهم، ولا كان يعاديهم للدنيا، بل بلغ من صدق نيته في النصح لهم أنه كان يدعو لهم.. لا عليهم!

فقد جاءه مرة أحد أمراء العباسيين وهو موسى بن عيسى العباسي (ت183)، فقال له: ينتهي إلى أمير المؤمنين هارون الرشيد أنك تشتمه وتدعو عليه، فبأي شيء استبحت ذلك يا عُمَري؟! فقال له: أما شتمه: فهو والله أكرم عليّ من نفسي؛ لقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما في الدعاء عليه: فوالله ما قلتُ: اللهم إنه قد أصبح عبئًا ثقيلًا على أكتافنا لا تطيقه أبداننا، وقذى في جفوننا لا تطرف عليه جفوننا، وشَجًى في أفواهنا تَسُفُّه حلوقنا، فاكفنا موتَه، وفَـرِّقْ بيننا وبينه، ولكن قلتُ: اللهم إن كان يُسمى بالرشيد لرشد فأرشده، أو لغير ذلك فراجع به، اللهم إن له في الإسلام على كل مؤمن حقا، وله بنبيك قرابة ورحما، فقربه من كل خير، وباعده من كل سوء، وأسعدنا به، وأصلحه لنفسه ولنا. فقال ذلك الأمير: يرحمك الله أبا عبد الرحمن! كذلك يا عمري الظن بك.

وأحب هارون مرةً أن يمتحن ولاءه وعدم طمعه في الحكم، فأرسل إليه اثنين من دهاة أصحابه، فخرجوا إليه وهو معتزل ببادية الحجاز، فأتياه على زي الأثرياء مركبًا وثيابًا وطِيبًا، فجلسا إليه، وهو في مسجد له، فقالا له: يا أبا عبد الرحمن، نحن رسل من خلفنا من أهل المشرق، يقولون لك: اتق الله ربك، فإذا شئت فقم (يعنون بالثورة وطلب الحكم). فأقبل عليهما، وقال: ويحكما! فيمن؟! ولمن؟! قالا: أنت، فقال: والله ما أحب أني لقيت الله بمحجمة دم امرئ مسلم، وإن لي ما طلعت عليه الشمس. فلما أيسا منه، أرادا أن يُغوياه بالمال، يشتريا به ذمته، باسم الهدية، فرفضه رفضًا قاطعًا، ورده عليهم.

وقد يُظن أن بين دعائه للرشيد وعدم طمعه في الحكم (من جهة) وخروجه في ثورة النفس الزكية (من جهة أخرى) تناقضًا؛ إذ كيف يدعو لمن يرى الخروج عليه؟! ولكن الذي يبدو لي: أن خروجه مع النفس الزكية كانت تجربة من تجاربه العملية، قاده إليها حماسه غير المنضبط، ولا بُدّ أنها كانت تجربة قاسية في درسها؛ لأنها انتهت بعكس ما كان يرجوه. ثم بعد هذه الثورة بخمس وعشرين سنة، عقل عابدنا من التجارب ما عقل، وصقلته الحياة بخبرة الأيام. فثورة النفس الزكية كانت سنة 145هـ في زمن أبي جعفر المنصور (ت158هـ)، وجاء بعده المهدي (ت169هـ)، وبعده ابنه الهادي (ت170هـ)، وبعده أخوه هارون الرشيد (ت193هـ). فبين خروجه مع النفس الزكية وأول خلافة الرشيد خمس وعشرون سنة، وهي سنوات تكفي للتعليم واكتساب التجارب! كما أن وفاته في خلافة الرشيد سنة 184هـ، مع خطاب الرشيد له ومناداته بـ(يا عمّ)، مما يدل على كبر سنه في زمن الرشيد. فمثله أهلٌ لأن تكون التجارب قد عركته، والأخطاء قد أكسبته الحكمة.

وهكذا يتضح شيءٌ من التوازن في سيرة هذا التقي العابد، من جهة أنه قد اكتسب من أخطاء حماسته ومن عمر الشيوخ حكمةً تمنعه من التسرّع في الفتنة، بحجة الإصلاح.

كل ما سبق هو مما يبين سيرة هذا العابد في ذات نفسه، ولم يدخل في بيان علاقته بعلماء عصره، وبنظرته إليهم.

ونبدأ الآن بذكر شيء مما يوضّح تلك العلاقة، ومبدأ بموقفه من جلة أئمة الإسلام في عصره في موقفهم من مُباحات المتع الدنيوية:

فقد جاء في أخباره أنه كتب مرة إلى الإمام مالك (ت179هـ)، وإلى قرينه ابن أبي ذئب (158هـ)، وإلى غيرهما من علماء المدينة، بكُتبٍ أغلظَ لهم فيها، حتى كان مما قال لهم في تلك الكُتب: «أنتم علماء تميلون إلى الدنيا، وتلبسون اللين، وتدعون التقشف».

فما كان من ابن أبي ذئب إلا أن أجابه بكتاب أغلظ له فيه الجواب، وعامله فيه بالمثل. وأما الإمام مالك فأجابه برفق، جوابَ فقيهٍ (كما قيل في وصف جوابه)!

وقد حُفظ لنا نص جواب الإمام مالك بحمد الله تعالى، حيث كتب إليه الإمام مالك بما يلي: «إن الله عز وجل قَسَم الأعمالَ كما قسم الأرزاق، فَـرُبَّ رجلٍ فُتح له في الصلاة ولم يُفتح له في الصوم، وآخر فُتح له في الصدقة ولم يُفتح له في الصيام، وآخر فُتح له في الجهاد ولم يُفتح له في الصلاة. ونَشْرُ العلم وتعليمُه من أفضل أعمال البرّ، وقد رضيتُ بما فَتح الله لي فيه من ذلك. وما أظن ما أنا فيه بدون ما أنت فيه، وأرجو أن يكون كلانا على خير، ويجب على كل واحد منا أن يرضى بما قُسم له , والسلام».

ولا شك أن هذا الجواب هو النموذج المثالي لردّ العالم على العابد: إذ إن العالم لا ينفكّ يُعلِّم، حتى مع من أزرى به وأغضبه!

أما موقف ابن أبي ذئب، فهو نابعٌ من شخصيته الشديدة، ومن حدة طبعه. فابن أبي ذئب لم يكن بأقل من العمري العابد في الصدع بالحق والإنكار على الحكام، ولذلك كان الإمام أحمد بن حنبل لميله النفسي إلى شخصية ابن أبي ذئب يُفضِّله على الإمام مالك وعلى عبد العزيز بن أبي سلمة ابن الماجشون (وهما أجل علماء المدينة في عصرهما) في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى بلغ بالإمام أحمد أن يقول عن ابن أبي ذئب: «كان رجلا صالحًا، صاحبَ أمرٍ بالمعروف، وكان أكثرَ من مالك وعبد العزيز بن أبي سلمة، كان أكثرَ في اللسان من مالك، كان مالكٌ قطيعَ اللسان».

يعني الإمام أحمد الثناءَ على ابن أبي ذئب في الأمر بالمعروف والصدع بالحق أمام الحكام، وأنه كان أكثر قيامًا بذلك من الإمام مالك ومن ابن الماجشون! بل يصف الإمام أحمد الإمام مالكا بهذا الوصف الشديد، وهو أنه كان قطيعَ اللسان أمام الحكام!!

ومع فضيلة الصدع بالحق والجهر به لكننا لا يمكن أن نُغفل فضيلة الصبر على نشر العلم، وكلنا يعلم ما فُتح للإمام مالك فيه، مما لم يُفتح بعُشر معشاره لابن أبي ذئب! ولعل الإمامَ مالكًا لو سار مسيرة ابن أبي ذئب لما تمكّنَ من نشر علمه الذي تتفيأ الأمةُ في ظلاله إلى اليوم!! ولعل ابن أبي ذئب وأمثاله (كسفيان الثوري) لو كانوا قطيعي اللسان (حسب تعبير الإمام أحمد) لساءت أحوال الأمة أكثر، ولما وصلنا من علم الإمام مالك ما وصلنا أيضًا بسبب سوء الحال وزيادة البعد عن العدالة!

وأعني بذلك التأكيد على فكرة الإمام مالك: أن الأمة تحتاج لكل الطاقات الإصلاحية المختلفة، ولا ينبغي لهذه الطاقات أن تتصارع، بل عليها أن تجعل من سعيها إلى الإصلاح من وجوهه المختلفة وباجتهاداته المتعدّدة مشتركًا إصلاحيا يمنع من التفرق والتعادي!

ولكن يبدو أن عابدنا العُمري كان غليظًا على العلماء، يبدو أن قصور علمه عن علم العلماء ضَيّـقَ عليه آفاقَ النظر وسعةَ أبواب الاجتهاد وتَعدُّدَها، فصار لديه نفرة من أهل العلم!!

حتى إن الإمام مالك أرسل إليه مرة متلطّفًا معه، يطلب منه عدم الخروج إلى البادية معتزلًا، يقول له في رسالته: «إنك بَدَوْتَ، فلو كنتَ عند مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم». فانظروا ماذا كان جواب هذا العابد التقي على الإمام مالك، كتب يقول للإمام مالك: «إني أكره مجاورةَ مثلك، إن الله لم يَـرَكَ مُتغَـيِّـرَ الوجهِ فيهِ ساعةً قطُّ »!!

بمثل هذا الجواب الجافي يضرب وجه تلطف الإمام مالك معه!!!

وحاشا الإمام مالكا مما نسبه إليه!! وعفا الله عن عابدنا هذه الجفوة منه مع الإمام!!

لكن هذا المشهد أحد المشاهد التي ما زالت تتكرر، حتى إني لما قرأتُ هذا الجواب شعرت أني قد سمعت مثله وقرأت نحوه مرات، من شبابٍ متحمّس ومن جهلةِ عُبّادٍ ومن مُغْترّي الوُعّاظ تجاه بعض أهل العلم!!

لقد صرنا نسمع عن البرود الديني من مدعي الحرارة، ويعني هؤلاء المدّعون بـ(البرود) انضباطَ العلماء في الإنكار بضوابط الإنكار:

- من عدم جواز الإنكار في مسائل الاختلاف المعتبر، التي يزعج الغلاة تذكيرهم بها وباعتبار الخلاف فيها.
- ومن عدم جواز تكفير من لا يجوز تكفيره من أهل الشهادتين.
- ومن عدم جواز الطائفية: وهي ظلم المسلم المخالف لنا في بعض قطعيات الدين تأولًا.
- ومن عدم جواز إنكارٍ يجرّ إلى مفسدة أعظم من المنكر نفسه.
ونحو ذلك من ضوابط الإنكار.

أعيدوا النظر في هذه العبارة، وتذكّروا فيمن قيلت! وممن قيلت!!: «إني أكره مجاورة مثلك، إن الله لم يرك مُتغَـيِّـرَ الوجهِ فيهِ ساعةً قطُّ»!!

لقد كانت هذه العبارة القاسية سببًا لتعليق الإمام الذهبي عليها بقوله: «هذا على سبيل المبالغة في الوعظ، وإلا فمالكٌ من أقول العلماء بالحق، ومن أشدهم تَغيُّـرًا في رؤية المنكر».

وصدق الإمام الذهبي، فللإمام مالك من مواقف الصدع بالحق ما لا يُـجهل، حتى كان ذلك سبب ضربه بالسياط في زمن أبي جعفر المنصور.

وهو القائل للمهدي العباسي لما طلب منه أن يأتيه ليحدّث ابنيه الهادي والرشيد، وامتنع من ذلك: يا أمير المؤمنين! العلم يُؤتَى أهلُه!!

والإمام مالك هو القائل: «دخلت على المنصور، وكان يدخل عليه الهاشميون، فيقبلون يده ورجله، وعصمني الله من ذلك».

وهو القائل: «والله ما دخلت على ملك من هؤلاء الملوك، حتى أصل إليه، إلا نزع الله هيبته من صدري».

مع ذلك كله ومع شهرته من سيرة الإمام مالك التي لا تخفى يُوصف الإمامُ مالكٌ من الإمام أحمد بأنه قطيع اللسان! ويُوصف من العمري العابد بـأنه لم يره الله تعالى متغيرَ الوجهِ فيه ساعةً قط!!

إن مثل هذا التباين في المواقف لا يعدو أن يكون ناشئًا من تباين الشخصيات، ولا يعدو كونَه أيضًا اختلافَ اجتهادٍ في تقدير المصالح والمفاسد. ولذلك كان ينبغي أن يحفظ العلماءُ حقوقَ بعضهم فيه، وكان يجب أن يحفظ العُـبّادُ للعلماء حقَّهم الحصريَّ فيه، بل أن يوكلوه إليهم!

ومع ذلك كله: فقد بقي الإمام مالكٌ الإمامَ مالكًا، وما هبط بكونه عند الإمام أحمد قطيع اللسان، ولا بكونه عند العمري العابد لم يره الله تعالى متغيرَ الوجهِ فيه ساعةً قط!

وبقي الإمام أحمد هو الإمام أحمد، وما هبط بكونه أخطأ في شدة عبارته عن الإمام مالك!!

وبقي العمري العابدُ عابدَنا القدوة، وما هبط عن اعتقادنا فيه وحبنا له وإجلالنا لقدره ولغيرته على الدين، رغم تطاوله على الإمام مالك وخطيئته في تلك العبارات عنه؛ لأننا نُقدِّرُ اختلافَ الطبائع في الناس، ونزن السيئات بالحسنات، فنغمر قطراتها في بحرها، ولا ننتظر العصمةَ في قُدواتنا من أهل العلم والعبادة، فهم بشر يصيبون ويخطئون، فنتبعهم في صوابهم، ونعذرهم في غلطهم، ونرجو مثوبتهم في حالتي الصواب والخطأ.

ولم تنته مواقف العُـبّاد من العلماء عند لومهم على استمتاعهم بمباحات الدنيا، ولا عند سوء ظنهم بهم في موقفهم من الـحُكّام، بل ربما تجاوز ذلك إلى الإنكار عليهم كثرة انشغالهم بالعلم!! نعم.. بالعلم!!

فانظروا موقف العمري العابد تجاه علم الإمام سفيان بن عيينة (سيّد فقهاء أهل مكة ومحدثها)، وتذكّروا أن سفيان بن عيينة هو الذي كان يُعظّم العمريَّ غايةَ التعظيم، حتى كان يفضله في العبادة والخشية على الإمام مالك!!

فقد قال سفيان بن عيينة: «دخلت على العمري الرجل الصالح، فقال لي: ما أحدٌ يدخل عليَّ أحبّ إليَّ منك، وفيك عيبٌ، قلت: ما هو؟! قال: تحب الحديث، أما إنه ليس من زاد الموت».

ويقصد بـ(الحديث) عناية سفيان بن عيينة بالسنة النبوية جمعًا ونقدًا وتحديثًا!! وأي شرفٍ وفضلٍ وأجرٍ أعظم من مثل ما كان عليه سفيان بن عيينة؟! وأي زادٍ للموت ينفع صاحبه أكثر من صدقة جارية بالعلم والهدى والنور الذي بلّغه سفيان بن عيينة؟! لقد مات العمري، وما يكاد يسمع به أحد، وبقي علم سفيان بن عيينة يملأ الصحائف، ويستهدي به الضالون، ويستنير به السائرون؛ فما أكثر ما نجد في كتب العلم «قال سفيان بن عيينة» و«حدثنا ابن عيينة»، وهذا أول حديث في صحيح البخاري، حديث: «إنما الأعمال بالنيات»، يرويه الإمام البخاري عن شيخه الحميدي عن شيخه سفيان بن عيينة!!

وهكذا يعظ العلماءَ علمُهم، فيتواضعون للعُبّاد، كتواضع سفيان بن عيينة للعمري العابد، ويثنون عليهم، ويعتذرون لهم، كاعتذار الإمام مالك له لما عاتبه العمري على عدم تركه مباحات الدنيا. في حين نجد عبادةَ العابد في كثير من الأحيان لا تعظه في التواضع للعلماء، ولا تُبيّنُ له أعذارَهم، ولا توسِّعُ له نظره إلى أسبابِ اختلافِ اجتهادهم عن اجتهاده!

وهكذا يتضح فضل العلماء على فضل العُبّاد!

وهكذا نختم هذه الصفحة من تراثنا ومن سير علمائنا وعُبادنا على أمل أن نعود إليها في مرات أخرى، مستلهمين العبر من حياة قدواتنا وأهل الفضل فينا: من صواباتهم (وهو الأغلب) ومن أغلاطهم (وهي الأقل)، وما اعتبارُنا من أغلاطهم بأقل فائدةً من صواباتهم!!

رحم الله علماءنا وعُبادنا وغفر لنا ولهم وألحقنا جميعًا بالصالحين من عباده!!

--------------------------------------------
المصدر: ملتقى شذرات

رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية

الكلمات الدلالية (Tags)
العُبّاد, بالعلماء, علاقة


يتصفح الموضوع حالياً : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
أدوات الموضوع

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


المواضيع المتشابهه للموضوع علاقة العُبّاد بالعلماء
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
علاقة الصوم بنشاط المخ عبدالناصر محمود شذرات إسلامية 0 07-03-2014 04:11 AM
علاقة المعنى بالإعراب Eng.Jordan أخبار ومختارات أدبية 1 04-17-2013 11:04 PM
اكتشف أن زوجته على علاقة بآخر ؟ جاسم داود شذرات إسلامية 0 04-26-2012 03:12 AM
ما علاقة القمر بالحجامة ؟؟ Eng.Jordan رواق الثقافة 0 03-01-2012 05:44 PM
حمل علاقة الذات بالصفات مهند دراسات ومراجع و بحوث اسلامية 0 01-11-2012 04:52 PM

   
|
 
 

  sitemap 

 


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 06:52 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.12 by vBS
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والمشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59