#1  
قديم 03-09-2013, 05:30 PM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,392
افتراضي صناعة البيئة الثقافية للخوف



حمل المرجع من المرفقات


د. فؤاد ابراهيم


ما هي ثقافة الخوف، وكيف غدت موضوع بحث من لدن طيف واسع من علماء الانثروبولوجيا والسيسيولوجيا والسياسة؟ باختصار، إننا نقع في خضم ظاهرة ملتهبة ترتطم بمجمل حركتنا وانشغالاتنا الذهنية والنفسية. ولا يمكن أن نفسّر هذه الظاهرة مالم نعتقد جزماً بوجودها، ولكي نمتلك فكرة عامة عنها لابد من تعريف مكوّناتها. إن أول سؤال يدهمنا هو كيف يتحول الخوف الى ثقافة؟
الثقافة، بحسب تعريف ادوار برينت تيلور عام 1871 في كتابه (الثقافة البدائية)، هي (مجموعة معقّدة تشمل المفاهيم والمعارف والمعتقدات والفنون والقوانين والاخلاق والاعراف وجميع القدرات الاخرى والعادات التي يكتسبها الانسان بوصفه عضواً في المجتمع)[1]. فالثقافة بحسب فرويد ذات طبيعة شمولية، وأنها تنصب في الانسان بكامله[2]. وعليه فليس هناك ثقافة فردية يمكن إنتاجها خارج فضاء المجتمع، فالانسان هو "حيوان اجتماعي" بحسب ارسطو.
أما الخوف فهو أداة يستشعر الفرد عبرها بالمعاناة في القلب، ويستدمجها في نفسه، ويستوعبها. إنه قناة الطاقة التي تأخذ المعاناة عبرها طريقها الى القلب البشري. يبقى، أن تأثيرها لايشبه السهم ولكنها متراكمة في الخاصيّة، فهي لا تتم لمرة أو دفعة واحدة ولكنها تتكشف بصورة ثابتة، كما يذهب الى ذلك ثيودور أدورنو.
ثقافة الخوف، مصطلح مقترح في العديد من الطروحات السيسيولوجية التي تجادل بأن مشاعر الخوف والقلق تهيمن في الخطاب والعلاقات العامة المعاصرة، وتتغير بحسب علاقة أحدهما بالآخر كأفراد وكهيئات ديمقراطية. وبالرغم من أن كل هذه الطروحات قد تقدّم حسابات مختلتفة لمصادر وتداعيات الاتجاه الذي يرومون التوسل به لوصف هذه الحالة، فإن جميع هذه الطروحات تتقاسم المطلب الجوهري وهو أن ثقافة الخوف هي الى حد ما ظاهرة جديدة بدلالات شديدة الاهمية والخطورة.
لقد أصبج الخوف كحالة عاطفية وأونتولوجية غريزية رفيقاً حاضراً بسطوة في حياتنا اليومية. وكما يقول الشاعر نزار قباني:
ليس جديداً خوفنا
فالخوف كان دائماً صديقنا
من يوم كنا نطفة
فى داخل الأرحام

لقد باتت الكرة الارضية كوكب الخوف الملتهب بظواهر مثيرة للفزع، بعد أن أخذت أشكالاً إجتماعية وسياسية معقدة تتمظهر في مجتمع المخدرات ومجتمع المباحث والمخابرات ومجتمع لوردات الحرب وباعة أسلحة الدمار الشامل.

يحدد هيدغر السمة الخاصة للخوف في (تحديد ما يخاف أمامه وما يخاف من أجله)، الإنسان الخائف والقلق يجد نفسه (مكبّلاً) بما يشعر بنفسه فيه وفي مسماه لينقذ نفسه أمام هذا ـ أمام (هذا) الشيء المتعين، لا يشعر بالأمان أمام ماهو (آخر) أي إجمالاً يفقد صوابه[3].
هذا التصور للخوف، وهو موضوع دراسات علمية، نجده أحياناً مبهماً في منشأه وأصل وجوده، فليست مصادر الخوف واقعية أحياناً، وبحسب باري جلاسنر في (ثقافة الخوف) إننا نخاف من أشياء هي في الغالب غير ضارة، ولكن خطورة الخوف تكمن في ما ينجبه من تصورات متشائمة تمسك بخناق مواقفنا، بما تجعلنا في حالة عجز تام عن حل مشكلاتنا[4]..

خصائص ثقافة الخوف
1ـ أنها ذات صفة جماعية، لا يقصد بها فرد ولا جماعة دون غيرها، بل هي الثقافة المتفشية في كل قلب ينبض وكل ذي روح. فثقافة الخوف أخذت معنى جماعياً ولم تعد ذات طابع إفرادي كما كانت النظرة الى مفهوم الثقافة حتى نهاية القرن الثامن عشر.
لم يعد الخوف مجرد إحساس فردي مستقل يضطرم غريزياً لمواجهة أخطار مباشرة تتربص بالوجود البيولوجي للفرد، بل بات مندكاً في نسيج الوعي الجماعي للبشر، وتتجلى تمظهراته في أنماط العلاقة السائدة، ولغة التخاطب اليومية، ومنهجية التعامل بين مكوّنات المجتمع. فهنا تضمحل كينونة الفرد لتنصهر في الكيان المجتمعي الكبير الذي يقع تحت وطأة ماكينة ثقافة الخوف بطريقة جبروتية. يتعرض الافراد، خلال عمل الماكينة، لمسخ شامل للهوية، والتفكير، والمشاعر والقيم الانسانية، ليكون الخوف وحده قبطان السفينة، والموت حارساً عليها، والمجتمع مجرد كتلة بشرية مخطوفة على متنها.
فالفرد يعاد صياغته من خلال دمجه في المجتمع الخاضع تحت تأثير إشعاعات ثقافة الخوف، فلا يعود فرداً سوّياً مستقلاً بل هو جزء من مسخ جماعي، يكتسب خصائص المجتمع الممسوخ، يفكر كل فرد فيه كما يلبس وينطق ويهجس بطريقة واحدة، إنها أوركسترا الخوف التي تعزف لحناً موحداً لخدمة القائد الملهم.
في السياسة، يتولّد تواطىء عفوي بين المجتمع والسلطة السياسية على ممليات ثقافة الخوف، والتي تؤول مفضياتها الى تركين أسس الاستبداد بكافة أشكاله المفزعة. ثقافة تتفشى في البيت والشارع ورياض الاطفال والمدارس والجامعات والجوامع والمؤسسات التجارية والاعلامية والأندية وشبكات النخب الفكرية والصفوة الاجتماعية وصولاً الى القيادة السياسية. فمطلوب من الجميع أن يمتثل لعبادة الخوف على طريقته طالما أن العبادة ستكون خالصة لوجه السلطان، تحقيقاً لمقولة الناس على دين ملوكها.
وكما يقول نزار:
هذا له زاوية يومية..
هذا له عمود..
والفارق الوحيد فيما بينهم..
طريقة الركوع..
والسجود..
2ـ أنها طغيانية، يراد منها تحقيق درجة اكتساحية قصوى في التغلغل والتداول اللحظي بحيث تستحوذ بصورة دائمة ومتصلة على مجمل الانشغال الذهني والمشهد العام.
يرى جلاسنر بأن نجاح الخوف يعتمد ليس على القدرة في التعبير عنه فحسب، ولكن أيضاً على كيف يعبّر عن الهواجس الثقافية العميقة. ويسوق مثالاً على ذلك بأن الحرب في العالم كانت ناجحة لأنها مدمغة في مخاوف الشعب سابقاً من النازية والحرب العالمية الثانية، وراهنا من الارهاب وبخاصة عقب حوادث الحادي عشر من سبتمبر 2001.
واذا كنا فيما مضى نجهل الكثير عن الكوارث الطبيعية والبشرية بفعل ضعف التواصل، فإن الثراء الاتصالي الذي حققه الانترنت والتلفزيون الفضائي ينقل اليناً معلومات عن دفعات هائلة من الجرائم الفردية والمنظمة وعمليات السطو والكوارث بكافة أشكالها بصورة لحظية.
إن إنتاج الخوف ، عبر قنوات البث الاعلامي، يهيمن على مجمل فروع الصناعة، فقد أصبح الخوف مفتاحاً لتكنولوجيا السلطة. وفي الوقت نفسه، فإن سيرورة انتاج الخوف قد غيّرت مفهومنا للخطر وكذا طريقتنا في التعامل مع الخوف. إن آلة الخوف في حالة إزدهار، فالجيل المتواصل من مصادر ومضامين الخوف قد منحها وضع السيرورة التاريخية، المشفوعة بطلب متحوّل لوسيلة فهم، وسيطرة ومحو للاخطار الجديدة.
يعتقد باري جلانسنر بأن أي تحليل لثقافة الخوف يتجاهل الاعلام الخبري يعتبر ناقصاً. إن تأثير وسائل الاعلام (التلفزيون الفضائي بدرجة أساسية) كونه يجعلنا نشعر بأننا نعيش في عالم خطر للغاية، ويجب علينا حماية أنفسنا
[1] Edward Burnett Tylor, Primitive Culture, vol. I: The Origins of Culture (New York: Harper and. Row, 1958); orig. publ. 1871; Chapter 1.see: http://www2.truman.edu/~rgraber/cultev/tylor.html. accessed on January 31, 2006

[2] لويس دولّلو، الثقافة الفردية والثقافة الجماهيرية، ترجمة خير الدين عبد الصمد، دمشق 1993 ص 103

[3] ـ مارتان هيدجر، الفلسفة في مواجهة العلم والتقنية، ترجمة د. فاطمة الجيوشي، دمشق ـ 1998، ص 13 ـ 14

[4] - Barry Glassner, The Culture of Fear, op.cit, p.208
المصدر: ملتقى شذرات

الملفات المرفقة
نوع الملف: doc 4.doc‏ (203.5 كيلوبايت, المشاهدات 5)
__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
  #2  
قديم 03-09-2013, 05:31 PM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,392
افتراضي

(بالسلاح، وتكثيف الرقابة البوليسية والاعتقالات، والتي هي من شأنها إشعار الناس بعدم الامن حين يرون كثافة تواجد رجال الامن والشرطة بزيهم العسكري في الشوارع العامة.

باري جلانسنر يوجّه أصابع الاتهام الى وسائل الاعلام الاميركية في تغذية ثقافة الخوف، والتي تسعى الى استقطاب جمهور المشاهدين والقراء من خلال تقديم أحداث تجمع بين الرعب والاثارة.


يعتقد جلانسنر وهو محق في ذلك بناء على مقولة للرئيس الاميركي ريتشارد نيكون بان البشر ينفعلون بالخوف أكثر من الود، ويعلق قائلاً بأن إثاره الخوف لدى أفراد المجتمع يضمن ولائهم بصورة أسهل بكثير من محاولة العمل على استقطاب تأييد المواطنين. مع اختلافنا في ربط الولاء بالخوف،


وفى بعض الاحيان فان تفشى مشاعر الهلع لدى المواطنين الامريكيين يمنع المؤسسات الحاكمة والمواطنين من قبول فكرة تصحيح اية اخطاء مرتبطة بالمخاوف التى قد لا تستند الى اى اساس، بل ان انتشار الخوف بين الامريكيين ادى الى اجهاض الجهود الرامية الى استصدار قوانين منع انتشار الاسلحة النارية.

وحتى على المستوى الاقتصادي، فإن صناعة الخوف او اختلاقه بات تجارة مربحة للغاية بالنسبة لبعض المؤسسات الاقتصادية أو السياسية، بل إن وجود بعضها مرتبط بإستمرار حالة الهلع، كما هو شأن عقد صفقات الاسلحة الضخمة، واعلان حالة الطوارىء والاحكام العرفية التي تشكل بحد ذاتها بيئة خصبة لثقافة الخوف.

بالنسبة لبعض الجماعات الدينية فإن تفشي ثقافة الخوف يعيد إحياء الافكار المسيائية السكاتولوجية التي تبشر بظهور المهدي المنتظر والمسيح عيسى بن مريم، حيث أن العقيدة الشيعية التقليدية تقوم على أن ظهور المهدي تهدف الى (ملء الارض قسطاً وعدلاً بعد أن ملئت ظلماً وجوراً)، كمقدمة لانقشاع ثقافة الخوف، وتبدد سحب الكآبة. في مقابلها هناك جماعات دينية تروّج لثقافة الخوف من خلال الاستعانة ببعض الروايات الدينية المتطرفة التي تقول بأن تفشي الانحراف والظلم والخراب كعلامات لظهور المصلح المهدي عند المسلمين والمسيح عن النصارى، وبعضها قد يميل الى حث الجماعات على الاسهام في المزيد من الاقترافات وارتكاب الرذائل والجريمة من اجل تسريع عملية ظهور المصلح، وتوفير الشروط الاجتماعية لظهوره.


يعتقد جلانسنر بأن ثمة دوراً مشبوهاً تزاول عن عمد وسائل الاعلام الاميركية لاقناع المواطنين بأن الموت يحيق بهم من جميع الاتجاهات بدءاً من ركوب السيارة وحتى تناول الطعام. ولحظ بأن الغرض من تضخيم هذه الحوادث لاستغلالها بطريقة خاطئة، حيث يقع المواطن الاميركي ضحية نظرية المؤامرة.


فقد اظهرت استطلاعات الرأى ان حوالى %75 من الامريكيين يشعرون بمخاوف غامضة لا يعرفون مصدرها، اذ ان كل شئ تقريبا اضحى يمثل لهم باعثا على القلق والارتياب، ويؤكد الامريكيون انهم يعيشون فى ظروف استثنائية عصيبة، بالرغم من الاراء التى تزعم سيطرة الولايات المتحدة على مقدرات العالم، ولكنها مع ذلك تعجز عن توفير الامان لشعبها فى الداخل،

بل ان النخبة الحاكمة تتآمر على الشعب الامريكى فى سبيل تعظيم مصالحها الضيقة، وذلك من خلال العمل على الترويج لثقافة الرعب وقد تجسِّد ذلك فى الاقبال على الروايات التى تتحدث عن عالم الرعب بكل ما ينطوى عليه من مفارقات وغرائب ولذا لم يعد امرا مثيرا للدهشة ان تحقق رواية هارى بوتر باجزائها المتعددة.. اعلى نسبة مبيعات فى الولايات المتحدة بالرغم من انتماء المؤلفة الى بريطانيا، ايضا تشهد الولايات المتحدة اقبالا غير مسبوق على انتاج الافلام التى تجسد مشاهد الرعب والمعارك الهائلة من نوعية افلام يوم الاستقلال وعلى النار وغيرهما من الاعمال التى حصدت ارباحا تقدر بمئات الملايين من الدولارات.

وفيما يبدو كمحاولة هروبية من الواقع بات المجتمع الامريكى يدمن الاحساس بالخوف كتراث عزيز لا يسهل التفريط فيه، لدرجة ان ايا من المصنفات الفنية او العلمية التى لا تتصل بهذه الظاهرة لا يكتب لها الرواج فى الولايات المتحدة، مهما كانت درجة الاتقان والرصانة التى تتميز بها هذه الاعمال.

فالمرء الغني عندنا يجني المال ولا يصرفه وهو متذرع بأن القرش الأبيض هو لليوم الأسود لأن الحياة ليست مستقرة في بلادنا الشرقية كلها فالغني يمكن أن يصبح فقيراً بين ليلة وضحاها

(إن الشيء الوحيد الذي علينا الخوف منه هو ذلك الخوف مما يصنعه الخوف) حسب مقولة منقولة عن الرئيس روزفلت عام 1933. ويشير كيرتشوف وكيرت باك الى أن (الاعتقاد بتهديد ظاهر يجعل من المحتمل شرح وتبرير احساس شخص ما بعدم الارتياح). فالخوف من الخوف يثير فزعاً أشد من الخوف ذاته.
إن التغطية الاعلامية تزيد في عدد الناس المصابين بأعراض تغذي التغطية الاعلامية.. فالخوف يخلق شيئاً ما نخاف منه. الخوف، بحسب باري جلاسنر، يدمّر تفاؤلنا ويجعلنا نعتقد بأننا غير قادرين على حل مشكلاتنا[1].
وينقل باري جلاسنر عن البروفسور Esther Madriz في كلية هنتر الاميركية بانه أجرى مقابلة مع نساء في مدينة نيويورك حول مخاوفهن من الجريمة فكانوا يرددون عبارة (شاهدت ذلك في الاخبار). ويعلق هنتر على ذلك بأن الاعلام الاخباري لديه مصدر لخوفهم وسبب يجعلهم يعتقدون بأن تلك المخاوف واقعية. وفي سؤال استطلاعي على المستوى الوطني حول السبب الذي يجعل الافراد المشاركين في الاستطلاع بأن البلاد لديها مشكلة جريمة خطيرة، نقل 76 بالمئة منهم قصصاً شاهدوها في وسائل الاعلام، و22 بالمئة فقط رووا تجاربهم الشخصية.

قام البروفسوران Robert Blendon و John Young من جامعة هارفارد بتحليل سبعة وأربعين مسحاً حول استعمال المخدرات أجريت مابين عامي 1978 و1997، اكتشفا بأن اخبار الصحافة أكثر من التجربة الشخصية تزوّد الاميركيين بالمخاوف المسيطرة عليهم. فهناك 8 من أصل عشرة يقولون بأن مشكلة المخدرات لم تسبب مشاكل في عوائلهم، وأن الغالبية العظمى تروي تجربة مباشرة قليلة حول مشاكل ذات علاقة بمشكلة المخدرات. إن القلق المنتشر على نطاق واسع حول مشاكل المخدرات تنبعث حسب الباحثين من المخاوف في الاعلام الخبري وبخاصة التلفزيون. إن البرامج الخبرية المتلفزة تعيش على المخاوف.

أكثر من خمس مائة قصة نشرت في الصحف حول العنف في مواقع العمل خلال 1994 و1995، وكثير منها يتضمن إحصائيات مفزعة للغاية: 2.2 مليون شخص تعرضوا للاعتداء في العمل كل عام، وأن القتل هو السبب الرئيسي للموت في العمل بالنسبة للنساء وهو السبب الثالث بالنسبة للرجال.
نشر احصائيات حول الأمراض وعدد المصابين بها تثير دون ريب حالة هلع وتدخل ضمن صناعة بيئة ثقافية للخوف. في عام 1996 قام كاتب أميركي يدعى بوب جارفيلد باستعراض مقالات حول الامراض الخطيرة المنشورة خلال عام واحد في صحيفة الواشنطن بوست ونيويورك تايمز ويو اس أيه توداي. وتوصل الى أنه بالاضافة الى 59 مليون أميركي مصاباً بأمراض في القلب، هناك 53 مليون مصاب بالصداع النصفي، و25 مليون مصاباً بهشاشة أو ترقق العظام osteoporosis، الى جانب 16 مليون مصاباً بداء السمنة او زيادة الوزن obesity، و3 ملايين مصاباً بالسرطان، وفوق ذلك فإن كثيراً من الاميركيين يعانون من أكثر من مرض معيق المرتبط بالمفاصل (10 ملايين مصاباً) وإصابات في المخ (2 مليون مصاب). حين تجمع تلك التخمينات، يقرر جارفيلد بأن 543 مليون أميركي هم مرضى خطرين، وهو رقم صادم لأمة يبلغ تعداد سكانها 266 مليون. ويعلق على ذلك (إما أن نكون كمجتمع متشائمين أو أن هناك شخصاً ما يرسم صورة مضخمة).

إن القلق إزاء الاخطار الحقيقية، حين يتجاوز حدوده المعقولة يسبب ضرراً فادحاً، كما هو شأن الخوف من بعض الامراض مثل (السرطان، وانفلونزا الطيور، والايدز..). فحين يصدر تقرير طبي يفيد بأن نسبة الاصابة بمرض سرطان الثدي بين النساء في سن الاربعينات تتراوح مابين 1ـ 10 فإن ذلك من شأنه صناعة بيئة هلع من الموت الوشيك لدى النساء في هذا السن وصاعداً.
فنطاق المخاوف الصحية لا حدود له، وأن أرقاماً كهذه بلا شك ترسم صورة سوداوية وتبعث على الهلع. لقد بات الخوف مكوّناً جوهرياً في ثقافة الاستهلاك، فالاخبار المثيرة للفزع تدفع الناس لمشاهدة التلفاز وشراء الصحف، ونلحظ ذلك أيضاً في الاقبال الواسع على أفلام الرعب.. إن الاسواق تستقبل الخائفين من انعدام بعض السلع للتبضع، وتتفشى عدوى الخوف في أوقات الحروب.
في القرن الماضي، كانت الحرب الباردة خاضعة تحت تأثير الخوف من قيامة نووية. فالخوف هو وارث خوف آخر، فالخوف من الحرب النووية المتخّيلة تستعيد وتطوّر وتحتل الخوف من الآثار المدمرة للحرب العالمية الثانية وتحديداً مشهد القاء القنبلتين الذريتين على هيروشيما وناجازاكي في اليابان. والآن يعاد انتاج الخوف في صيغة أشد خطورة وإنتشاراً من خلال الحديث عن تسونامي إرهاب أصولي يشنّه أناس مدججون بأشد الاسلحة فتكاً ويستعلمونها بطريقة سادية وجنونية.

3ـ أنها واحدية المصدر والتوجيه، حيث لا فسحة للتعدد أو التنوع، فوحدها ثقافة الخوف المراد ترسيمها ليكون تداولها مشروعاً، فيما يغدو غيرها إلحاداً وكفراً، وجريمة يعاقب عليها القانون، فهي بهذا المعنى إقتلاعية وإقصائية.
يتقمص أورويل دور صنّاع ثقافة الخوف ليخاطب قراءه بلغتهم (كل شيء في داخلك سيموت، لن تعود قادراً على الحب، والصداقة أو التمتع بالحياة أو الضحك أو التعجب أو الشجاعة أو الاستقامة، إنك ستكون كصَدفة فارغة، سنعصرك حتى تصبح كالجيفة الخالية من كل شيء ثم نملأك بأنفسنا)[2].
4ـ تعطيلية، بمعنى الارتهان الجماعي لصنّاع ثقافة الخوف ومصادرها، والاستقالة أمام الواقع، والانغماس في الراهن مع تخصيب أفق المجهول وعنصر المفاجأة ومداهمة اللامتوقع.
لقد نبّه جورج أورويل على مكمن خطورة ثقافة الخوف في سياق فحصه لمكوّناتها وأغراضها، حيث حددها بصورة مكثّفة في التفكير المزدوج الذي يفرز ثنائيات متضادة: المعرفة والجهل، الصدق والكذب، الايمان وعدم الايمان، المنطق وضد المنطق، الديمقراطية والاستبداد، الذاكرة والنسيان. هو هذا التفكير المزدوج المطلوب إستعماله بحسب كل حالة، وهو يلخًّص عقيدة الحاكم المستبد في مواطنه: (ان عليك ان تهزم نفسك قبل ان يصبح بامكانك ان تكون سليم العقل)[3].
إن العقل السليم هنا هو ما يسهب الروائي السوري سعد الله ونوس في تعريته في مسرحية (يوم من زماننا)، حين ينتج العقل مضاداته عبر سلسلة ثنائيات متضادة، حيث يبدو هذا العقل مركزاً للتفكير في الشيء ونقيضه، فهو مع الحرية وضدها، ومع المنطق ونقيضه، فهو عقل مصمم كي يكون مأجوراً دائماً لخدمة أغراض السلطة، وفي الوقت نفسه قادر على تكييف نفسه بصورة تلقائية مع متغيرات الواقع، كي يستعير من محفوظاته المنصوبة من خارجه ما يناسب كل مستجد. بل هو عقل أيضاً قادر بصورة مذهلة على أن يمنطق تحوّلاته من موقف الى نقيضه، بل وأن يسبغ على القيم الفاسدة وشاحاً قدسياً حين يبتكر لكل مفردة قبيحة مقابلها الجميل، فحتى الفساد يصبح مبرراً حين يستبدل عنوانه الى الربح، تماماً كما اسدلت سواتر على قيم عديدة في ثقافتنا اليومية على الاستبداد والحكم الفردي والقمع ومصادرة الحريات وانعدام التعددية الحزبية بإسم الوحدة الوطنية ومقاومة الاستعمار ووحدة القيادة ضد مؤامرات الخارج والعملاء في الداخل. هذا العقل هو الذي أوصل فاروق، أستاذ الرياضيات في رواية (في يوم من زماننا) الى إعلان التمرد على عقله المفصوم والفرار من عذاب تلك الثنائية المعيقة التي تجعل من الولاء للسلطان القيمة النهائية والوحيدة، فقد حسم فاروق قراره لابطال مغنطة ثقافة الخوف واختار الموت بديلاً عن (التعريص مع دولة هذه الايام)[4]. لقد قرر فاروق أن يتحرر من النفاق الخلاّق ونزع قناع الزيف المتعدد بحسب تعدد المواقف.
إن الهزّت الارتدادية العنيفة لثقافة الخوف تتجاوز بالتأكيد حافات المجتمع الواقع ضمن مجال تأثير تلك الثقافة، وتستوعب الدولة بكاملها، فالخوف يسري في أحشاء رجل السلطة بنفس القدر الذي يطال رجل الشارع، فالكل في الخوف سواء، وإن كان الخوف مخلوقاً سلطوياً بإمتياز. ثقافة الخوف هذه ترهن أفراد السلطة والمجتمع الى نوع من العلاقة المهجوسة بكل ما تنذر به من مفاجئات أو ما يختمر في أذهان ضحاياها على كونها كذلك، فالانحباس في اللامرئي والغائب والمستور يهيمن بسطوة على شبكة العلاقات الداخلية بين فئات المجتمع وبينها وبين السلطة. هذه بيئة الخوف التي تفرض أعرافها في مقابل القانون الناظم لكل علاقات سويّة، ومستقرة. وفي مثل هذه البيئة يصبح التراكم الرهابي بالغ الثراء وغزير الانتاجية، حيث الخوف يولد من رحم خوف آخر، لينضاف الى أشكال أخرى من الخوف لتتظافر سوية في صناعة بيئة خصبة لثقافة الخوف، فالخوف في البيت يلتقي بالخوف في الشارع والمدرسة والسوق والمؤسسة والجامع والجامعة وصولاً الى تلبيد الفضاء العام بكل محتوياته بخوف مطبق، لتلتقي في مصب واحد هو تصنيم السلطة المهيمنة صانعة الخوف الأكبر.

[1] -Barry Glassner, ibid, p.208

[2] جورج أورويل، رواية 1984، ترجمة أحمد عجيل طبعة بغداد 1990 ص 340

[3] جورج أورويل، رواية 1984 ترجمة أحمد عجيل طبعة بغداد 1990 ص ص 174، 289

[4] سعد الله ونوس، الاعمال الكاملة، يوم من زماننا، دمشق 1996، المجلد الثاني ص 284
__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية

الكلمات الدلالية (Tags)
للخوف, البيئة, الثقافية, صناعة


يتصفح الموضوع حالياً : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
أدوات الموضوع

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


المواضيع المتشابهه للموضوع صناعة البيئة الثقافية للخوف
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
الشباب والرأسمالية الثقافية عبدالناصر محمود بحوث و مراجع و دراسات تربوية واجتماعية 0 09-24-2016 07:46 AM
الرأسمالية الثقافية! عبدالناصر محمود الملتقى العام 0 07-10-2016 06:44 AM
مخاطر العولمة على الهوية الثقافية عبدالناصر محمود بحوث ودراسات منوعة 0 12-29-2014 09:05 AM
مراكز إيران الثقافية بؤر للتمدد الشيعي عبدالناصر محمود مقالات وتحليلات مختارة 0 09-03-2014 07:35 AM
البصيرة الثقافية عبدالناصر محمود رواق الثقافة 0 05-11-2013 06:05 PM

   
|
 
 

  sitemap 

 


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 01:14 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.12 by vBS
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والمشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59