#1  
قديم 08-06-2014, 06:19 AM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 56,039
ورقة تسليم القدس بين الماضي والحاضر


تسليم القدس بين الماضي والحاضر
ــــــــــــــــــ

(د. عامر الهوشان)
ــــــــــــ


10 / 10 / 1435 هــ
6 / 8 / 2014 م
ـــــــــــــ

3809.jpg

(نحن قوم أعزنا الله بالإسلام فلا نطلب بغير الله بديلا) (كنا أذل أمة فأعزنا الله بالإسلام، ومهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله) كلمات خالدة لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه, قالها حين أراد دخول بيت المقدس, وهو يمشي وغلامه يركب على الدابة, ليعطي بذلك درسا لملوك الأرض كيف تكون القوة والهيبة مع التواضع الشديد مجتمعة في الإسلام.

لقد ظلت القدس بيد المسلمين عزيزة الجانب مهابة المكانة ذات قوة ومنعة ما دام حكامها على نهج أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه سائرون, وما دام الحكم في نظرهم تكليف لا تشريف, وأمانة ومسؤولية أمام الله تعالى عن المسلمين وأرضهم ومقدساتهم.

فلما ابتعد بعضهم عن هذا المنهج الإسلامي, وتحول الحكم إلى شهوة دنيوية, ومغانم ومطامع وأهواء يتسابق الحكام لاقتنائها وتحصيلها, ولو كان ثمن ذلك ديار المسلمين ومقدساتهم وعلى رأسها الأقصى والقدس, تهاوت القدس وسقطت بأيدي أعداء الدين من اليهود والصليبيين, بثمن بخس أحيانا وبلا ثمن في أحيان أخرى.

لقد مضت سنوات اتفاقية (يافا) العشر بين الكامل وفريدريك دون قتال يذكر بين الصليبيين والأيوبيين, نظرا لانشغال الصليبيين باضطراباتهم السياسية بعد رحيل الامبراطور عائدا إلى صقلية وبقاء عرش مملكة بيت المقدس شاغرا حتى عام 1239, وكان يمكن للمسلمين استعادة بيت المقدس من أيدي الصليبيين بسهولة بالغة, إلا أن انشغالهم بنزاعاتهم وصراعاتهم الداخلية حال دون ذلك.

بل إن مدينة القدس كانت طوال تلك الفترة دون أسوار تحميها طبقا لاتفاقية يافا التي تنص على ذلك, فلما اقترب موعد انتهاء الاتفاقية قام الصليبيون بعمليات ترميم أسوار القدس مستغلين انشغال الأيوبيين بصراعاتهم الداخلية, بالاضافة لوصول حملة صليبية فرنسية للحفاظ على سيطرتهم على القدس.

انتهز الناصر داود ملك الأردن مخالفة الصليبيين لاتفاقية يافا, وتوجه على رأس جيش ليحاصر مدينة القدس 21 يوما ويدخلها بعد ذلك عنوة عام 637 هجرية, ولتعود القدس بعد أكثر من 10 أعوام إلى قبضة المسلمين, ولكن ذلك لم يدم إلا عاما واحدا, ليسلمها الصالح اسماعيل والناصر داود للفرنجة من جديد, في مشهد يعتبر من أعجب مشاهد التاريخ.

تسليم القدس للصليبيين من جديد

مع استمرار الصراع الداخلي الشديد على الحكم والملك داخل العائلة الأيوبية, خلافا لما كان عليه الحال أيام صلاح الدين الأيوبي وأبوه وإخوته, ومع وصول نجم الدين أيوب إلى ملك مصر بعد انتزاعها من العادل بن الكامل, تحالف الناصر داود مع الصالح اسماعيل حاكم دمشق ضد الملك الصالح نجم الدين أيوب.

وفي مشهد انهزامي غريب وعجيب, عرض تحالف الصالح اسماعيل والناصر داود على الفرنجة الانضمام إليهم ضد نجم الدين أيو , مقابل تنازلات ضخمة لم يحلم بها الصليبيون يوما, فقد تنازل حلف الصالح اسماعيل للفرنجة عن أجزاء من لبنان، بالإضافة إلى حصة المسلمين في خراج مدينة صيدا, وكذلك مدينة الجليل وطبرية وعسقلان على الساحل من فلسطين، ولعل التنازل الأضخم كان عن مدينة القدس بمزاراتها كافة -ماخلا منطقة الحرم الشريف- كما شملت قائمة التنازلات عددا من القلاع المهمة التي سبق أن حررها السلطان صلاح الدين، مثل صفد وطبرية وتبنين وشقيف أرنون وهونين وتيرون.

ولم يكتف الصالح اسماعيل بهذا التنازل المهين, بل زاد عليه إصرارا عجيبا على تسليم ما تنازل عنه للصليبيين, وذلك حين رفض قائدحصن (الشقيف) الأيوبي تسليمها للصليبيين والتي كانت تعرف أيضا بقلعة (بوفور), مخالفا بذلك أوامر الصالح اسماعيل, فما كان من الأخير إلا أن استدعاه وأعدمه, ولما رفض نائب القلعة شهاب الدين أحمد الشقيفي تسليمها للصليبيين أيضا, أرسل الصالح اسماعيل جيشه لمحاصرة القلعة واستلمها من أتباعه المسلمين ليسلمها طواعية إلى الصليبيين, في مشهد أشد عجبا من مشهد تسليم الكامل للقدس من قبله.

وبالفعل دخل الصليبيون القدس عام 638 هجرية بعد عام واحد من استرجاعها منهم, وانتهكوا فيها المحرمات الإسلامية, وأقاموا على الصخرة المشرفة تحت قبة الصخرة يشربون الخمر ويرتكبون الفواحش والمنكرات, الأمر الذي أثار غيرة الأمة وعلمائها وغضبهم على الصالح اسماعيل وتصرفاته, وفي مقدمتهم العز بن عبد السلام, الذي أعلن إلغاء البيعة للصالح اسماعيل, فما كان من الأخير إلا أن نفاه إلى مصر.

وفي مشهد يعبر عن دور علماء الأمة حين يصدحون بالحق ضد من يفرط بمقدسات المسلمين من الحكام والسلاطين, وأثره على نفوس الناس والعامة والجند, انسحب جند الشام من تحالف الصالح اسماعيل والناصر داود والصليبيين, لينضموا إلى عسكر نجم الدين أيوب, ولتحل الهزيمة المنكرة بجيش التحالف الصليبي الذي كان ينوي دخول مصر وانتزاعها من يد نجم الدين أيوب.

وبدلا من استثمار هذه الهزيمة للاجهاز على الصليبيين وطردهم من بلاد الشام نهائيا, عقد نجم الدين أيوب مع الصليبيين معاهدة تضمن لهم الاعتراف بتنازلات الصالح اسماعيل, بحيث تصبح مناطق الجليل، وضاحيتا يافا وعسقلان، وكل نواحي مدينة القدس، بما فيها بيت لحم ومجدل يابا، بالإضافة إلى طبرية وصفد وقلعتي كوكب والطور، داخلة كلها في مملكة بيت المقدس اللاتينية، وأن تبقى مدن نابلس وعسقلان وبيسان والخليل وأريحا في أيدي المسلمين.

وبالطبع وافق الفرنجة على هذه الاتفاقية وكان يمكن لها أن تثبت وتستمر لولا غدر بعض فرسان الصليبيين -ممن كان يعارض هذه الاتفاقية– ومهاجمهتم نواحي فلسطين, الأمر الذي يؤكد مدى استثمار واستغلال الفرنجة لخلاف العائلة الأيوبية على الملك لصالحهم, رغم ضعفهم وخلافاتهم الداخلية الكثيرة أيضا.

ومع الاستقطاب الحاد بين طرفي الصراع في البيت الأيوبي –الصالح اسماعيل والناصر داود من جهة ونجم الدين أيوب من جهة أخرى– حاول الطرفان خطب ود الصليبيين, وعرض كل منهما التنازل عن القدس مع إعطائهم الحق بممارسة شعائرهم الدينية داخل الحرم الشريف, الأمر الذي لم يفعله الكامل من قبل في اتفاقية يافا, وقد فضل الصليبيون التحالف مع ملوك الشام (الصالح اسماعيل والناصر داود) وحينها استنجد نجم الدين أيوب بالخوارزمية, الذين استطاعوا استعادة القدس من أيدي الصليبيين ودخولها في 642 هجرية 1244م, والتي لم تخرج بعدها من أيدي المسلمين إلا بعد انهيار الخلافة العثمانية ودخول فترة الاحتلال الانكليزي عام 1917 م.

تسليم القدس في العصر الحديث

لم تسلم القدس من التنازلات في العصر الحديث بنفس أساليب تسليمها من قبل, والتي ترتكز على قاعدة ضعف المسلمين بسبب صراعاتهم الداخلية على الملك والسلطة والحكم, ولو كان ذلك على حساب المقدسات والحرمات, من خلال سياسة التفاوض والاتفاق مع العدو الحقيقي ضد الأخ والصديق.

وإذا أضفنا إلى ذلك ازدياد ضعف المسلمين في مقابل نمو قوة الغرب والصليبيين بسبب النهضة الصناعية, إضافة إلى بعد المسلمين عن التمسك بدينهم, وانبهار كثير من مثقفيهم بالحضارة الغربية وانجذابهم إليها, وتأثرهم إلى حد كبير بثقافتهم وطريقة حياتهم العلمانية, ناهيك عن تغول التآمر اليهودي الغربي على الإسلام والمسلمين, من خلال المؤامرات التي تهدف إلى المزيد من تمزيقهم وتخلفهم, فإن التنازل عن المقدسات والحرمات يصبح أكثر احتمالا ووقوعا من ذي قبل, وهو ما حصل بالفعل.

لقد بدأ مسلسل التنازلات عن القدس بعد أن انخدع بعض العرب بوعود بريطانيا المعسولة لهم بإنشاء دولتهم العربية لإغرائهم بدخول الحرب العالمية الأولى معهم ضد العثمانيين, وما إن وضعت الحرب أوزارها بنصر حلفاء الغرب وسقوط الخلافة العثمانية, حتى تقاسمت بريطانيا وفرنسا الدول العربية بينهما ضمن اتفاقية سايكس بيكو, بعد إعطاء اليهود وعدا بجعل فلسطين وطنا لهم, من خلال وعد بلفور المشؤوم عام 1917م.

وظهرت أولى بوادر التنازل عن فلسطين بشكل عام في مؤتمر باريس 1919م, والتي وافق فيها العرب على اعتبار فلسطين تحت وضع عالمي, وليس بالضرورة تابعة للدولة العربية الجديدة, ثم كان التخلي الثاني عن القدس وفلسطين في حرب 1948, فبينما كانت أمريكا وبريطانيا تدعم اليهود بكافة أنواع الأسلحة للسيطرة على فلسطين إبان الانسحاب البريطاني المعلن منها في 15/5/1948, كانت جيوش الدول العربية ترفض دخول الحرب إلا بعد تاريخ 15/5, رغم علم الجميع أن الانكليز يسلمون اليهود جميع القرى والبلدات التي يخرجون منها.

وقد حمل المجاهد الفلسطيني المعروف عبد القادر الحسيني اللجنة العسكرية العربية المسؤولية التاريخية عن سقوط القدس, جراء امتناعها عن تزويده وأتباعه بالسلاح, وقد قال وقتها الحسيني لهذه اللجنة: (إذا تقاعستم عن تزويدنا بالسلاح الآن فإنكم ستحتاجون إلى عشرة أضعاف هذه الأسلحة بعد ذلك ولن تتمكنوا من هؤلاء اليهود, وإني أحملكم سلفا مسؤولية ضياع القدس ويافا وحيفا ..).

ولعل من أهم وقائع تسليم القدس في عام 1948 هو قرار جيوش الدول العربية وقف إطلاق النار في 22/5, بينما كانت القوات العربية والإسلامية تحاصر 100 ألأف يهودي بالقدس, ولتضيع فرصة ثمينة لاستعادة القدس وفلسطين بالكامل من يد اليهود, حيث يقول القائد الإنكليزي (كلوب باشا): (لو سمح العرب لقواتهم في 15/5 باتمام العمل ومتابعة القتال لنجحوا على الأرجح في اجتياح الدولة اليهودية الجديدة).

ثم توالت بعد ذلك تنازلات العرب عن قضية القدس وفلسطين من خلال اتفاقيات السلام التي وقعت مع اليهود, سواء اتفاقية كامب ديفيد عام 1978 بين اليهود ومصر, أو اتفاق أوسلو عام 1993 بين اليهود ومنظمة التحرير الفلسطينية, أو وادي عربة عام 1994 بين اليهود والأردن.

وما مشاهد المفاوضات العبثية التي تجري في هذه الأثناء بين قيادات فتح واليهود إلا مظهرا جديدا للتفريط بالقدس وتسليم المدينة المقدسة, تحت غطاء مفاوضات حل الدولتين التي ما زال البعض مخدوعا بها حتى الآن رغم مرور عشرات السنين على انطلاق المفاوضات النهائية المزعومة.

لم تنته قصة تسليم القدس بعد ولن تنتهي ما دام في الأمة نماذج من هذا النوع, ممن ابتعد عن منهج الإسلام, واستبدل محورية مبادئه وأحكامه التي من المفروض أن يدور في فلكها كل حاكم أو سلطان في ديار الإسلام, إلى جعل أهوائه وشهواته هي المحور الذي يدور حولها كل شيء, لتتحول المقدسات والمحرمات عنده حينئذ إلى مجرد سلعة يمكن المساومة والتنازل عليها في سبيل المحافظة على المصالح الشخصية الضيقة.

--------------------------------------
المصدر: ملتقى شذرات

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 08-14-2014, 10:03 AM
الصورة الرمزية زهير شيخ تراب
زهير شيخ تراب غير متواجد حالياً
كاتب وأديب قدير
 
تاريخ التسجيل: Jun 2012
الدولة: سوريا دمشق
المشاركات: 459
افتراضي

بارك الله بك على هذا الموضوع
__________________
رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية

الكلمات الدلالية (Tags)
الماضي, القدس, تصميم, والحاضر


يتصفح الموضوع حالياً : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
أدوات الموضوع

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


المواضيع المتشابهه للموضوع تسليم القدس بين الماضي والحاضر
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
رسالة إلى الماضي جاسم داود الملتقى العام 0 11-02-2013 05:03 PM
رسالة إلى الماضي جاسم داود الملتقى العام 3 06-10-2012 12:07 AM
درس تصميم عمق البحر Eng.Jordan الصور والتصاميم 0 04-11-2012 01:06 PM
تذكّر أن الماضي قد ولّى Eng.Jordan الملتقى العام 0 03-13-2012 03:01 PM
المعلم بين الماضي والحاضر Eng.Jordan الملتقى العام 0 03-10-2012 04:02 PM

   
|
 
 

  sitemap 

 


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 02:18 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.12 by vBS
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والمشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59