#1  
قديم 11-02-2014, 07:39 AM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود غير متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 56,139
ورقة الأيديولوجية السياسية الأمريكية


الأيديولوجية السياسية الأمريكية : محدداتها.. اتجاهاتها الرئيسية.. وتأثيرها على السياسة العامة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(أ.د عبد الله جمعان محمد الغامدى)
____________________

9 / 1 / 1436 هــ
2 / 11 / 2014 م
ــــــــــ

الأيديولوجية السياسية الأمريكية 710521102014025022.jpg


مقدمة
---

لقد جانب الصواب أولئك الذين أطلقوا شعار "نهاية الأيديولوجية" منذ منتصف الخمسينات. فعلى الرغم من إصرار البعض (مثل بيل، وليبست، وفوكوياما) على الادعاء بنهاية الأيديولوجية أو ضعف تأثيرها، إلا أن الواقع يشير إلى عكس ذلك. فجميعنا لدينا تصورات مختلفة عن العالم الذي نعيش فيه؛ وعن طريق تلك التصورات نحاول أن نفهم ما يدور حولنا. كذلك لدينا ميل وتحيز إلى أولئك الذين يشاركوننا الإيمان بنفس القيم والمثاليات. ومع أن القوة والتأثير تعتبر محور اهتمام السياسة إلا أن السياسة تهتم أيضاً بالأفكار، فالصراع بين الناس ليس مجرد صراع على المصالح الشخصية. فالناس قد يختلفون بحدة أيضاً حول ماهية المجتمع الفاضل. ومنذ الثورتين الأمريكية والفرنسية فإن الخلاف الأيديولوجي بين الليبراليين والمحافظين حول هذا الموضوع قد احتل مركز الصدارة في الديمقراطيات الغربية عموماً والديمقراطية الأمريكية على وجه الخصوص وقد أصبح هذا الخلاف الأيديولوجي أكثر وضوحاً في الولايات المتحدة منذ بداية الثمانيات مع صعود الأيديولوجية اليمينية المحافظة. وفى هذا الصدد يؤكد غسان سلامة: أن وصول رونالد ريجان إلي البيت الأبيض في أوائل الثمانينات لم يكن أمراً عاديا ً نتيجة تنافس بين شخصيتين، وحزبين، تشهده الولايات المتحدة كل أربع سنوات منذ نشأتها. إذ كان أيضا انتصاراً لا سابق له لتيار أيديولوجي قوي النبرة صدامي، متشعب المدارس، غنى بالوسائل، يسمى أحيانا: "باليمين الجديد" أو بتيار "المحافظين الجدد"، وأيضاً ب "التيار القومي الجديد"، (سلامة1981).

يهدف البحث إلى تعميق فهمنا للأيديولوجية السياسية الأمريكية، وذلك من خلال التركيز علي العوامل المكونة لتلك الأيديولوجية واتجاهاتها الرئيسية ومدي تأثيرها علي السياسة العامة للولايات المتحدة.

تعريف الأيديولوجية:
-------------

نشأ مفهوم الأيديولوجية مع الثورة الفرنسية (1789). وينظر علماء الاجتماع اليوم إلى الأيديولوجية بأنها تمثل وحدة نسقيه أو نظامية للمبادئ تربط المدركات الحسية للعالم بقيم أخلاقية صريحة (1962،Bell). فهي التي توضح للمجتمع بجلاء ما هي الأشياء القيمة التي تجب المحافظة عليها ، وما هي الأشياء التي يجب أن تتغير(1983 Macrides).

بشكل عام، يمكن تعريف الأيديولوجية بأنها تلك المنظومة العامة للمعتقدات والقيم حول المجتمع الإنساني فهي أولا ً: عامة لأن منظومة المعتقدات الشخصية البحتة لا يمكن اعتبارها أيديولوجية لآن الأيديولوجية لابد وأن تكون لها هوية عامة متجاوزة كل ما لدي الأفراد . وهي ثانيا ً : منظومة لأن الأيديولوجية تنطوي علي مجموعة من الأفكار المنظمة .وهي ثالثا :تقوم علي معتقدات وقيم .. وذلك لآن الأيديولوجية تحتوي علي تصور عام لكل ما هو كائن . وما ينبغي أن يكون . وأخيراً : فهي ترتبط بالفعل حيث تقدم تحليلاً ورؤية للمجتمع القائم ، كما أنها توفر مثاليات أخلاقية بهدف الوصول إليها .وباختصار فإن الأيديولوجية يمكن تمييزها عن مجموعة الأعراف والتقاليد مثلا ً من خلال الرغبة القوية لدي معتنقيها لتغيير أو تحوير العالم طبقا ً لقيمهم السياسية. ومع ذلك فإنه يمكن أن تقوم جماعات متباينة ضمن المجتمع السياسي الواحد تحت ظروف معينه بتحدي الأيديولوجية السائدة وخلق أو تطوير أيديولوجيات مناهضة تهدف إلي التشكيك في شرعية الوضع القائم والرغبة في تعديله.

الأيديولوجية السياسية الأمريكية:
----------------------

تتميز الولايات المتحدة عن غيرها من الدول -التي قامت علي تراث عرقي مشترك- في كونها وإلي درجة كبيرة تمثل أمة من المهاجرين من بلاد وثقافات مختلفة، ومن اجل ذلك التنوع . فإنه كان لابد أن يبحثوا عما ينمي وحدة البلاد وهويتها، وأن يطوروا نوعا ً من الرباط فيما بينهم يستطيع أن يتجاوز اختلافاتهم العرقية والثقافية. وقد وجد الأمريكيون ذلك الرباط فيما أصبح يعرف بالأيديولوجية الليبرالية الكلاسيكية، والتي كانت ولا تزال تؤثر بشكل كبير في المجتمع الأمريكي. وتقوم علي خمسة معتقدات أو التزامات متداخلة ومتفاعلة..وهي:

1. الفردية: وتعني أن الهدف من وجود المجتمع والسياسات هو تحقيق وحماية الحقوق الفردية في الحياة، والحرية ،وتحقيق السعادة لكل مواطن.

2. الحرية: أي إعطاء الفرصة للأفراد لصنع خياراتهم في ظل أدني حد ممكن من التدخل الحكومي.

3. المساواة: ضمان المساواة الفعلية في الفرص للأفراد، وأن كل فرد يستحق فرصة متساوية للمنافسة علي العمل، والدخل، والمكانة، والقيم الاجتماعية الأخرى.

4. الملكية الخاصة: يحدد الأفراد من خلالها مواقفهم وشخصياتهم وحماية أنفسهم وتحديد مواقعهم في المجتمع.

5. الديمقراطية: النظام السياسي يقوم على سيادة اختيار الأفراد، فلكي يكون الأفراد أقوياء وحقوقهم مصونة فإن الحكومة يجب أن تكون مقيدة الصلاحيات بشكل كبير.

محددات الأيديولوجية السياسية الأمريكية:
-------------------------

تعتبر عملية تحديد العوامل المكونة لأيديولوجية ما مسألة صعبة ولا تخلو من المجازفة ويصبح الأمر أكثر صعوبة عندما يتعلق بالأيديولوجية الأمريكية. وذلك لأن مثل تلك العوامل عادة ما تكون غير واضحة وغالبا ً ما تكون هناك صعوبة في التمييز بين الأسباب ونتائجها ، ومع ذلك فإن أي محاولة لاستكشاف القوى التي ساهمت في صياغة الأيديولوجية السياسية الأمريكية يمكن أن تكون ذات فائدة في تعميق فهمنا لها. ويبدو أن هناك خمسة عوامل رئيسية قد ساهمت بشكل أو بآخر في صياغة وبلورة الأيديولوجية السياسية الأمريكية.

1- التراث البيوريتاني – الكالفني:
---------------------

كانت الدفعات الأولي من المستوطنين الذين نزلوا علي الساحل الشرقي للولايات المتحدة مدفوعة بالحصول عل مكان يستطيعون فيه ممارسة شعائرهم الدينية بحرية بعيدا ً عن الاضطهاد الديني الذي شهدوه في مواطنهم السابقة. حيث أسس البيوريتان مستوطنة خاصة بهم في ماساشوستس ، بينما أقام الرومان الكاثوليك في مستوطنة ماريلاند واستقر أوائل طائفة الكويكرز في مستوطنة بنسلفانيا.

ويبدوا أن الطائفة البيوريتانية الأكثر تماسكا ً اجتماعيا ً. وذات الخلفية الكالفنية، كانت الأكثر أهمية من بين تلك الطوائف حيث كان لها التأثير الأكبر علي المجتمع الأمريكي. فقد انتشرت أفكارهم الكالفنية مع بعض التعديلات الطفيفة وعمت أجزاء واسعة من المجتمع الأمريكي عن طريق نظام المدارس الفعال الذي أقاموه. ولكي ندرك مدي التأثير البيوريتاني – الكالفني علي المجتمع الأمريكي ، فلابد أن ندرك أن تلك الطائفة تميزت عن غيرها من الطوائف الأخرى ( التي كانت قدرية إلي حد كبير ) في تركيزها علي إبراز قدرة الإنسان في التأثير علي مجريات حياته ؛1966 Heiment ( 1962 Schlatter . باختصار .. كانت تلك الطائفة تؤمن بأن الإيمان بالإله يجب أن يترافق مع الإيمان بالقدرة الإنسانية ،حيث إن الإنسان يعتبر مسؤلا ًعن استخدام وتطوير الخصائص والقدرات التي منحها له الخالق . ولذلك بذل أوائل المستوطنين البيوريتان جهودا ً كبيرة لبناء مجتمع ناجع ومكافح .

علي الرغم من أن المجتمع الأمريكي في الوقت الحاضر يبدو أنه يركز علي العمل أكثر من ممارسة الشعائر الدينية إلا أن كلا الاتجاهين لا يزالان ملحوظين في الحياة الأمريكية . فحتي أولئك البعض من الأمريكيين غير المؤمنين بالدين، لازالوا يرون أنه من الضروري الاستناد إلي مبررات أخلاقية ودينية لأفعالهم الشخصية والوطنية .

2- تجربة الحدود المفتوحة أثنا فترة التكوين :
-----------------------

لعل أحد أهم العوامل الرئيسية وراء تمييز الشعب الأمريكي عن الشعوب الأوروبية ، كما يؤكد تيرنرTurner ، يعود بالدرجة الأولي إلي فترة التوسع الاستيطاني باتجاه الغرب لإخضاع القارة الأمريكية التي أعقبت نيل الاستقلال خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر ، والتي استمرت حتى تمت السيطرة علي تلك الأراضي الشاسعة الممتدة حتي المحيط الهادي. وقد تركت تلك التجربة أثرا ً عميقا ً في نسق القيم الأمريكية إذ شجعت الجهود الفردية ، ومهدت للديمقراطية السياسية والاقتصادية ، كما عملت علي تسهيل مهمة الإنعتاق من التقاليد وحطمت روح المحافظة ، وخلقت في الأمريكيين نوعا ًمن تقدير المصير في الشؤون المحلية مقرونا ً باحترام السلطة الوطنية . وقد خلقت تلك التغيرات في المواقف الأساسية مواطنين أمريكيين بنظام قيم لم يكن ليتبلور إلا من خلال تجربة الحدود المفتوحة تلك ( 1968 , Turner ) .

كان لبيئة الحدود تلك أثر هام تمثل في رغبة المستوطنين في الانتقال المستمر إلي مناطق ما وراء الحدود بحثا ً عن فرص جديدة أكثر إغراء مما كان له دور في خلق الشخصية التحركية غير المرتبطة بمكان معين والتي لازالت تميز المواطن الأمريكي حتي اليوم. يقول نيفينز وكوماجر: لم تحل سنة 1830م حتي كان ما يزيد عن نصف الأمريكيين قد نشأوا في بيئة غابت عنها تقاليد وعادات العالم القديم، أو بقيت جد ضعيفة. كان علي الرجال في الغرب أن يعتمدوا علي جهودهم ، فلم تكن قيمتهم تقاس بحسبهم، ولا بالأموال الموروثة، ولا بسنوات الدراسة، وإنما بما كانوا يفعلون ... هذه المساواه في الفرصة الاقتصادية نمت شعورا ً بالمساواة الاجتماعية والسياسية أتاحت لمن فطروا علي القيادة فرصة التقدم بسرعة (محمد خليل، 1990م).

3- غياب الطبقة الأرستقراطية:
---------------------

يعتبر غياب أي دور مؤثر للطبقة الأرستقراطية في مسيرة بناء الولايات المتحدة من أهم الخصائص المميزة للمجتمع الأمريكي عن غيره من المجتمعات وبخاصة المجتمعات الأوروبية . ويشترك معظم المهاجرين الأوائل تقريبا ً أنهم كانوا ينتمون إلي الطبقات الفقيرة في مجتمعاتهم الأصلية إذ إن البحث عن فرص جديدة أو الهرب من الاضطهاد كان الدافع الرئيسي وراء قدوم أولئك إلي العالم الجديد. وبالإضافة إلي الأفارقة السود الذين ***وا إلي هناك رغما ً عنهم وكانوا أكثر فقرا ً ولا يملكون حتي حريتهم الخاصة. وقد ساهمت مثل تلك الحالة في بناء شخصية أمريكية نشيطة ومتحمسة للوطن الجديد . وحلت المنافسة الفردية علي الفرص المادية محل الطبقة كمعيار للمقارنة بين الأفراد . وأصبحت الإنجازات المادية هي الطريقة الشائعة لإثبات الوجود والتفوق علي الآخرين والوصول إلي الطبقة العليا للمجتمع الأمريكي بعيدا ً عن الخلفية الأرستقراطية أو عراقة النسب.

4- توافر الفرص الاقتصادية :
---------------

تمتعت الولايات المتحدة بفرص اقتصادية كبيرة قل نظيرها في بلدان أخرى. ففي أعقاب الاستقلال كانت هناك الأراضي الشاسعة غرب الحدود والتي ساهم استغلالها في توفير الأرض الزهيدة الثمن والفرص المتزايدة لبناء حياة جديدة. وتميزت تلك المناطق بوجود ثروات طائلة. حيث كان لاكتشاف الذهب والفضة فيها بكميات كبيرة في تحقيق الثراء السريع لأعداد كبيرة من الأفراد . وقد كان من أهم أثار توافر تلك الفرص تشجيع التنافس المادي بين الأفراد وإضعاف الروابط العرقية والطبقية حيث وجد الفرد أنه ليس بحاجة إلي دعم ومساندة أي طبقة أو جماعة لتحسين أوضاعه المعيشية. وغرست فيهم روح التفاؤل والاعتماد علي النفس والتحرر من القيود وبخاصة قيود السلطة الحكومية . وبالتالي نشأ لدي الفرد الأمريكي مشاعر عدم الارتياح وعدم الثقة في السلطة السياسية. كما أفرزت تلك الظروف تعلق الفرد الأمريكي بالحرية والديمقراطية. وقد كان للإنتاجية العالية للاقتصاد الأمريكي دور لايقل أهمية في تقليل حدة التوتر بين الجماعات عن طريق حصرها في التنافس حول المصادر الحكومية التي تتميز بأن إشباع حاجات أحد الأطراف لايتم بالضرورة علي حساب الآخرين حيث كان ولازال بالإمكان إشباع عدد كبير من المطالب المتنافسة عن طريق توسيع حجم المصادر الحكومية إلي القدر الذي يسمح بقسمتها بين الأطراف المتنافسة في المجتمع.

5- ظاهرة التنقل أو الهجرة:
-----------

علي الرغم من انتهاء تجربة الحدود باستكمال استيطان الغرب الأمريكي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، إلا أنه من الملاحظ أن تلك التجربة قد تركت أثارها واضحة ليس فقط على سكان تلك المناطق. وإنما علي المجتمع الأمريكي ككل وتمثل ذلك في نزعة المواطن الأمريكي إلى الترحال المستمر من منطقة إلي أخرى، وعدم الارتباط بمكان إقامة واحدة سعيا ً وراء الحصول على أفضل الفرص الممكنة لتحسين أوضاعه الحياتية. فقد كانت الرأسمالية الحديثة التي أنتجتها الولايات المتحدة تتطلب الاستغلال السريع للمصادر الجديدة والتخلي عن تلك التي لم تعد عوائدها كافية. كذلك كان لحركة التنقل تلك دور مهم في إعاقة نمو طبقة ارستقراطية، ولم تعد ملكية الأراضي معيارا ً للمكانة الاجتماعية وحل محلها ملكية الأشياء المنقولة مثل القدرات والثروة.

الاتجاهات الرئيسية للأيديولوجية الأمريكية:
----------------------------

علي الرغم من أن الغالبية العظمي من الأمريكيين تعتنق الأيديولوجية الليبرالية الكلاسيكية، إلا أن هناك اختلافات رئيسية بين تلك الغالبية حيال التفسيرات المعطاة لتلك القيم. في ضوء تلك التفسيرات برز على الساحة الأمريكية اتجاهان رئيسيان هما الاتجاه الليبرالي والاتجاه المحافظ. ويشترك إتباع كلا الاتجاهين في احترام شرعية النظام السياسي القائم. وهناك أيضا ً اتفاق عام على القبول بالنظام الرأسمالي الأمريكي كنظام اقتصادي وبنظام السوق كأداة رئيسية لتوزيع السلع والخدمات الاقتصادية. وفي الواقع فإن التمييز بين الاتجاه المحافظ والاتجاه الليبرالي في الوقت الحاضر يكتنفه الكثير من الغموض. حيث يمكن القول إن الفرق الجوهري ما بين الليبراليين والمحافظين لا يتعلق بمسألة هل ينبغي للحكومة أن تكون قوية أو ضعيفة، وإنما يتعلق أكثر بمسألة متى ينبغي أن تكون قوية ومتى ينبغي لها أن تكون ضعيفة.

أولا ً: الاتجاه الليبرالي:
--------------

يقوم هذا الاتجاه على افتراض عقلانية الأفراد والإيمان بقدرتهم على تجاوز الصعاب في طريق التقدم دون اللجوء إلي العنف. وتعود جذور هذا الاتجاه إلى أفكار الفيلسوف الانجليزي جون لوك (1632–1704) الذي طور نظريته المعروفة بالنظرية العقدية للدولة، والتي أكد من خلالها أن الدولة تكتسب شرعيتها من قبول المحكومين بها، ويكون هدفها الأساسي حماية حقوق الأفراد في الحياة والحرية والتملك.

أما الليبرالية الأمريكية في الوقت الحاضر فإنها تختلف اختلافا ً عما كانت عليه في القرن التاسع عشر. فقد شهد الاتجاه الليبرالي تغيرا ً ملحوظا ً منذ نهاية الحرب الأهلية وخلال فترة الثورة الصناعية وما بعدها. حيث شهدت تلك الفترة حدوث أزمات اقتصادية كبيرة تأثر بها الفلاحون على وجه الخصوص نتيجة لانخفاض أسعار المحاصيل الزراعية وارتفاع معدلات الفائدة. وقد أدت تلك الأزمات الاقتصادية إلي تبلور حركتين ليبراليتين جديدتين هما: حركة الإصلاح الشعبي، والحركة التقدمية.

وقد أنشأت الحركة الشعبية حزبها الخاص بها، وكان من أهم مطالبها العمل على تحقيق مزيد من الديمقراطية الحكومية من خلال إتباع أسلوب الاقتراع السري والانتخاب المباشر لأعضاء مجلس الشيوخ. ومع أن الحزب الشعبي لم ينجح في إزاحة أي من الحزبين الرئيسيين إلا أن أفكاره قد أثرت كثيرا ً في برامج الحزب الديمقراطي خلال القرن العشرين، مثل حظر عمل الأطفال، وتقديم تعويضات للعمال المتضررين. وقد كان للصعود المتنامي لكل من الحركة الشعبية والحركة التقدمية دور هام في إضعاف الاتجاه الليبرالي التقليدي القائم على الحد من دور الحكومة وخاصة في المجال الاقتصادي. حيث أصبح الليبراليون ينظرون للحكومة المركزية على أنها وسيلة مهمة للحفاظ علي مصالح الأكثرية من استغلال الأقلية. فقد استخدم روزفلت في الثلاثينات من القرن الماضي مصطلح الليبرالية ليشير إلى برنامجه السياسي (العهد الجديد)، الذي دعا فيه إلي دور أكثر فعالية للحكومة المركزية في النشاط الاقتصادي، وتقديمها المساعدة لبعض الجماعات مثل تنظيمات العمال لتمكينها من تعزيز قدرتها التفاوضية في مواجهة أصحاب رأس المال (1987 Wilson,).

تأثر الاتجاه الليبرالي سلبا ً نتيجة لمواقفه المؤيدة لقرار مشروعية حق الإجهاض، والمناهضة للتدخلات العسكرية الأمريكية في الخارج ومعارضتهم زيادة حجم الإنفاق العسكري خاصة في أوساط أولئك الذين رأوا فيه موقفا ً متخاذلا ً. ونتج عن ذلك ظهور حركة جديدة عرفت بالليبرالية المحدثة من أهم أهدافها تحويل اهتمام الاتجاه الليبرالي من هدف توزيع الثروة إلى هدف خلق الثروة.

ثانيا ً:الاتجاه المحافظ:
------------

بالمقارنة مع الثقة الليبرالية في قدرة الأفراد علي تجاوز الصعاب، فإن الاتجاه المحافظ يقوم على الشك وعدم الثقة في الفرد ولذلك يهتم المحافظون بإبراز قيمة التقاليد والممارسات كمرشد وموجة للمستقبل. ويستمد الاتجاه المحافظ أفكاره من كتابات المفكر البريطاني أدموند بيرك (1729 – 1797) وخاصة كتابة المعنون: "ملاحظات عن الثورة الفرنسية"، والذي صدر كردة فعل للتجاوزات التي أحدثتها الثورة الفرنسية ولرفضها للتقاليد القائمة. وقد كان المحافظون في الأيام الأولي للجمهورية الأمريكية متحمسين ومؤيدين لوجود حكومة قوية مركزية بقيادة النخبة المثقفة الثرية يمكنها الحفاظ على الحقوق الأساسية للإنسان. وقد شهد الاتجاه المحافظ تغيرات جذرية نتيجة للآثار التي أحدثتها الثورة الصناعية التي أعقبت الحرب الأهلية مثل مبدأ عدم التدخل الحكومي في النشاط الاقتصادي نتيجة لفقدانهم الثقة في الحكومة المركزية، وخاصة بعد أن فشلوا في الإبقاء علي حكم النخبة بعدما أصبح حق التصويت مباحا ً. ومنذ ذلك الوقت بدأ أنصار هذا الاتجاه في التركيز علي ضرورة تحجيم الحكومة المركزية عن طريق الدعوة إلى منح الولايات مزيدا من الصلاحيات. كما أصبح المحافظون أكثر تفضيلا ً للسوق الحرة من السوق المنظمة، وأكثر ميلا ً إلي تقديم حقوق الولايات علي حقوق الحكومة القومية. وشهد الاتجاه المحافظ تطورا ً ملحوظا ً بعد اعتناقه للفردية الاقتصادية التي طورها هربرت سبنسر، والتي كانت تعرف بالدارونية الاجتماعية والتي اتخذت من نظرية البقاء للأصلح شعارا ًلها. حيث كانت تري أن الناجحين –بفضل نجاحهم ذاته– هم أصلح من سواهم، وبذلك فهم أحري من سواهم بالبقاء ومواصلة الحياة، وأن الخاسرين قد خسروا نظرا ً لعدم صلاحيتهم أصلا ً وأن ذلك في صالح المجتمع ككل (1982 Rossiter).

ومنذ بداية السبعينات برز علي الساحة الأمريكية حركة سياسية جديدة عرفت بالمحافظة المحدثة، والتي تختلف عن الاتجاه المحافظ التقليدي في دعمها لحكومة رفاهية معتدلة (كبرامج الضمان الاجتماعي والتأمين ضد البطالة والرعاية الصحية) لأن ذلك سيعزز من ولاء المواطنين للنظام الرأسمالي القائم.

الاتجاهات المناهضة للأيديولوجية السائدة:
ـــــــــــــــــــــ

أولا ً: اليسار الجديد:
--------------

كان أول ظهور لاتجاه اليسار الجديد خلال الستينات من هذا القرن. ويركز على أهداف اجتماعية جديدة أطلق عليها (القيم ما بعد المادية) المساواة الاجتماعية، وحماية البيئة، ومناهضة الطاقة النووية، والمساواة الجنسية، وحقوق الإنسان. حيث أصبح المنتمون لهذا الاتجاه أكثر اصرارا ً علي المشاركة السياسية. وانعكس ذلك في حركات الاحتجاج الواسعة ضد التمييز العنصري، والتظاهرات ضد التوسع في استخدام الطاقة النووية. وينحدر المنتمون لهذا الاتجاه في الغالب من الشباب الأكثر تعليما ً وثراء الذي يشكلون اليوم ما يسمي بالطبقة المتوسطة الجديدة.

ثانيا ً: اليمين الجديد:
-------------

ظهر هذا الاتجاه في نهاية السبعينات وأوائل الثمانينات الميلادية ردة فعل للمطالب التي نادي بها أنصار اليسار الجديد خلال الستينات. حيث حاول اليمينيون الجدد إعادة التأكيد على أهمية القيم التقليدية اليهودية المسيحية في المجتمع الأمريكي في وجه التحديات المتزايدة لها من قبل اليسار الجديد. ويري اليمينيون الجدد أن هدفهم يتلخص في تخليص المواطن الأمريكي من طغيان المجتمع القائم على مبدأ الجماعية الذي ينادى بسيطرة الدولة على جميع الأنشطة الاقتصادية بالإضافة إلى إيقاف تيار الانحلال الأخلاقي وتحديد ما هو ضروري لوضع أمريكا مرة أخرى على الطريق الإلهي (1980، Falwell)0

بدأت شعبيته في التضاؤل منذ نهاية الثمانينات نتيجة لغياب رونالد ريجان عن الساحة السياسية وتورط عدد من زعماء هذا الاتجاه وبخاصة من زعماء الكنيسة البروتستانتية لسلسلة من الفضائح الجنسية.

ثالثاً: الحريون المؤيدون لمذهب الحرية (The Libertarian) أوالليبرتيريان:
----------------------------------------------

يشترك الحريون مع أسلافهم الليبراليين الكلاسيكيين في الاعتقاد بضرورة تحجيم دور الدولة إلي أضيق الحدود الممكنة، ويؤيد أنصار هذا الاتجاه انتهاج مبدأ العزلة في السياسة الدولية ويدعون إلي عدم التدخل في شؤون الدول الأخرى، حيث يعتقدون أن الأحلاف العسكرية والمساعدات العسكرية تؤدي فقط إلي زيادة احتمالية الحرب والتي بدورها تؤدي إلي تعزيز سلطة الحكومة. ولحزب "الحريون" إسهامات هامة بالفكر والرأي فيما يتعلق بالدولة وبالمسؤوليات المحلية. حيث يعارضون هؤلاء أي تدخل حكومي في حياة الأفراد باعتباره يمثل خرقا ً وامتهانا ً للحرية الفردية. وبذلك فإن معارضتهم لمثل تلك التدخلات تمتد لتشمل كل القواعد واللوائح والرخص التي تضعها الحكومة، بما في ذلك منح الترخيص للأطباء والصيادلة بمزاولة مهنتهم. فهم يسعون نحو إيجاد اقتصاد محرر من جميع القيود والعوائق، فضلا عن مطالبتهم بإلغاء معظم الأعباء الضريبية وكل العقوبات المتعلقة بما يسمونه بـ (الجرائم غير الجنائية). مثل تلك المخلة بالآداب العامة كممارسة البغاء والشذوذ الجنسي والقمار والمخدرات (1980 Clark).

وعلي الرغم من أن حزب الحريون لايزال من الأحزاب الصغيرة إلا أن أفكاره قد أثرت بشكل ملحوظ علي سياسات الحزبين الرئيسيين في البلاد اللذين تبنينا كثيرا ً منها في برامجهما الحزبية في الفترة الأخيرة.

أثر الأيديولوجية السياسية علي السياسة العامة:
------------------------------

يزعم تشارلز اندرسون Anderson أن العملية السياسية تعكس جزئيا ً الاختيارات الأيديولوجية والقيمية للقادة السياسيين. فالمعتقد بنظره يوجه الأفعال السياسية كما يضفي الشرعية على قرارات القادة السياسيين. إلا أن هناك عددا ً آخر من المتغيرات غير المعتقدات الأيديولوجية عن الحرية والمساواة تلعب دورا ً مؤثرا ً في تشكيل وتوجيه السياسة العامة. وعلي الرغم من صعوبة تقدير حجم تأثير الأيديولوجية السياسية على السياسة العامة بدقة: إلا أنه لا ينبغي اغفال الدور الذي يمكن أن تلعبه في توجيه السياسة العامة حيال الحريات المدنية وتوزيع الثروة (1979 Anderson,). وقد أنعكس ذلك الغموض الأيديولوجي على السياسة العامة في الولايات المتحدة. ومن ثم، فإن رسم السياسة العامة يتبلور من خلال التسويات أو الحلول الوسط والمساومات بين الجماعات المختلفة المكونة لنسيج المجتمع الأمريكي. كما انعكس هذا الوضع علي النظام الحزبي في الولايات المتحدة، حيث فشلت الأحزاب ذات الأيديولوجيات المتطرفة سواء إلى اليسار أم إلى اليمين في تعزيز موقعها على الساحة السياسية الأمريكية وبقيت هامشية وعديمة التأثير. وهذا يفسر مثلا ً غياب أي وجود ملموس للأحزاب الاشتراكية أو القومية كما هي الحال في القارة الأوربية، كما أن الحزبين الرئيسيين قد تأثرا أيضا بتلك الأيديولوجية التصالحية.

يعتبر المحافظون أكثر ميلا ً إلي تبني موقف متشكك ومرتاب نسبيا ً في التعامل مع الدول الأجنبية.أي أن لديهم نظرة عدائية للعالم، لأنهم يعتبرون الصراع أمرا ً حتميا ً. وتبعا ً لذلك فإنهم يميلون إلي تعزيز القدرة العسكرية للولايات المتحدة للحفاظ علي السلام انطلاقا ً من مقولة :"إن أفضل السبل للمحافظة علي السلام يتمثل في الاستعداد للحرب". أما النهج الليبرالي فيعتقد الليبراليون أن الناس أخلاقيون في الأصل وقادرون عل حل خلافاتهم بطرق عقلانية . ولذلك فالحرب بالنسبة لهم تعتبر حالة استثنائية ، وأن السلام والتعاون منسجمان مع الطبيعة الإنسانية، وأن أفضل السبل للحفاظ علي السلم الدولي يتمثل في التعرف علي أسباب الحرب والعمل علي القضاء عليها.

الخاتمة:
-----

مع أن الولايات المتحدة لم تشهد صراعا ً أيديولوجيا ً حادا ً كالذي يميز المجتمعات الأوروبية إلا أن ذلك لا يعني أن السياسة الأمريكية ليست متأثرة بالأيديولوجية . فعلي الرغم من تقارب وجهات النظر بين الاتجاهين الليبرالي والمحافظ حيال معظم القضايا المطروحة إلا أن الفترة الأخيرة قد شهدت بعض التباين حيال عدد من القضايا وخاصة ً تلك المتعلقة بالسياسة الخارجية والسياسة الاقتصادية.

------------------------------------------
المصدر: ملتقى شذرات

رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية

الكلمات الدلالية (Tags)
الأمريكية, الأيديولوجية, السياسية


يتصفح الموضوع حالياً : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
أدوات الموضوع

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


المواضيع المتشابهه للموضوع الأيديولوجية السياسية الأمريكية
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
حظر الأنشطة السياسية والدينية عبدالناصر محمود شذرات مصرية 0 09-02-2014 04:09 PM
خطيئة الفاتيكان السياسية – الدينية عبدالناصر محمود مقالات وتحليلات مختارة 0 05-27-2014 06:38 AM
الاحزاب السياسية في العالم العربي محمد خطاب الكاتب محمد خطاب ( فلسطين) 0 12-29-2013 10:16 PM
نظرات نقدية في أسس الأيديولوجية الليبرالية الغربية عبدالناصر محمود رواق الثقافة 0 05-18-2013 04:41 PM
الفقيهة.. السياسية يقيني بالله يقيني شذرات إسلامية 11 01-25-2012 01:33 AM

   
|
 
 

  sitemap 

 


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 03:09 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.12 by vBS
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والمشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59