#1  
قديم 08-19-2014, 07:59 AM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود غير متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 56,134
ورقة محنة القاضي عياض


محنة القاضي عياض و ذبحه على يد اتباع ابن تومر*
ــــــــــــــــــــــــــ

23 / 10 / 1435 هــ
19 / 8 / 2014 م
ـــــــــــــــ


وُلد القاضي عياض سنة 476 بسبتة التي كانت وقتها تحت حكم دولة المرابطين العظيمة، وهذه الدولة كانت من أعظم الدول الإسلامية التي ظهرت في بلاد المغرب عبر عصورها جميعًا، فلقد كانت دولة مجاهدة من الطراز الأول، حققت في هذا المضمار الكثير من الفتوحات والإنجازات الخالدة، وكان لها الفضل في نشر الإسلام في غرب ووسط القارة الإفريقية، حتى أن راياتها الميمونة قد وصلت إلى منتهى نهر النيجر وبلاد الكاميرون وقلب نيجيريا، كما أنها كانت دولة بدوية ساذجة غير متلوثة بأسباب الترف المهلك، والأهم من هذا كله أنها كانت دولة سلفية المنهج والعقيدة، لا تعرف الطرق الكلامية والمذاهب البدعية إلى أهلها سبيلاً، وكان قادة وسلاطين وأمراء تلك الدولة يعظمون العلماء والفقهاء ويجلونهم، وما سقطت تلك الدولة العظيمة إلا عندما تسلل الترف والفساد إلى جنباتها.

في ظل تلك الدولة المجاهدة ، وُلد ونشأ وترعرع القاضي عياض، وفي ظلها أيضًا تعلم وتمهر وتقدم في شتى العلوم، وفي ظلها أيضًا صار القاضي عياض من أعلام العلماء وكبار القضاة، ولأن تلك الدولة لم تعمّر طويلاً فإن القاضي عياض قد شاهد تلك الدولة وهي في عنفوان شبابها، وأوج قوتها، وأقصى اتساعها، ثم رآها وهي تندحر شيئًا فشيئًا، وتظهر فيها علامات السقوط مثل الفساد والترف، ورآها أيضًا وهي تهزم المرة بعد الأخرى أمام جيوش أتباع مدعي المهدية ابن تومرت والملقبين بالموحدين، مما كان يؤذن بأفول شمس تلك الدولة وخروجها من ساحة الأحداث إلى ثبت الذكريات.

تولى القاضي عياض منصب القضاء سنة 510هـ في مدينة سبتة، وكان في الخامسة والثلاثين، وكانت أولى علامات الفساد بدأت في الظهور في جنبات الدولة المرابطية، وكانت تلك العلامة هي الوساطة والشفاعة لبعض الناس والمحسوبية لهم على حساب الآخرين فتصدى القاضي عياض لتلك الآفة، وسار في ولايته بمنتهى النزاهة والأمانة، وأبدى حزمًا في تطبيق الحدود والأحكام، واشتهر بين الناس بغزير علمه وحفظه، وصدق طريقته، ودقة فتياه، وحياديته الكاملة، حتى طارت شهرته في كل مكان.

تلك الشهرة بكل خير جعلت أمير المسلمين ـ وهو لقب سلطان المرابطين «علي بن يوسف بن تاشفين» ـ يوليه قضاء غرناطة بالأندلس، ليصلح من شأنها، نظرًا لانتشار المفاسد بين أهلها، وكثرة القلاقل والاضطرابات بها، فتولى القاضي عياض قضاء غرناطة في سنة 531هـ، فقام به خير قيام، وأعرض عن الشفاعات والمؤثرات، وردع أرباب الولايات وأتباع السلطان عن الباطل، وعزل كل من ثبتت عدم أهليته وكفايته من منصبه، فشرد كثيرًا من حاشية أمير الأندلس «تاشفين بن عليّ» عن أعمالهم ومناصبهم، فاستاء منه الأمير «تاشفين بن عليّ» وضاق به ذرعًا، خاصة والقاضي عياض يرفض رفضًا تامًا أي تدخل في عمله وأي محسوبية أو وساطة، حتى لو كانت من الأمير نفسه، فالقاضي عياض عالم رباني يؤثر الحق ومرضاة الخالق على ما سواهما، كائنًا ما كان، فسعى الأمير «تاشفين بن علي» عند أبيه أمير المسلمين «علي بن يوسف» حتى يصرف القاضي عياض عن منصبه، وبالفعل تم له مراده وعُزل القاضي عياض عن منصبه في رمضان سنة 532هـ.

لم يفت هذا العزل في عضد القاضي عياض ولم ينل من مكانته ولا قدره، فعاد إلى مدينته سبتة وعكف فيها على التدريس والفتيا ونشر العلم، ثم طلب أمير المرابطين «تاشفين بن علي» سنة 539هـ أن يلي منصب القضاء في سبتة، وكانت أحوال دولة المرابطين قد تدهورت بشدة، واكتسحت جيوش الموحدين معظم ولاياتها في المغرب فأراد «تاشفين بن علي» رجالاً صالحين وأشداء في تلك المناصب الحساسة لوقف تدهور الدولة المرابطية أكثر من ذلك، وسبحان الله، كم لله عز وجل في خلقه شئون؛ فتاشفين بن علي هو الذي اجتهد أول مرة لعزل القاضي عياض عن منصبه، وهو نفسه الذي اجتهد لإعادته لنفس المنصب، وذلك عندما احتاج لعلمه وزهده ونزاهته.

بلغ الكتاب أجله، وسقطت الدولة المرابطية العظيمة المجاهدة، لما تخلت عن أسباب قوتها وبقائها، وأخلدت إلى الأرض والترف والشهوات، وحلت محلها دولة الموحدين، وتلك الدولة كانت على النقيض من دولة المرابطين، فمؤسسها دجال ادعى المهدية اسمه «محمد بن تومرت»، وقد ابتدع لهم عقيدة خاصة بأتباعه أسماها «المرشدة» هي عبارة عن خليط من آراء المعتزلة والأشاعرة والجهمية، وقرر لهم الكثير من البدع والخرافات، وقد سلك ذلك الرجل الدجال وأتباعه مسلك القسوة المفرطة والوحشية القصوى في التعامل مع المرابطين، وسفكوا دماء مئات الآلاف من المرابطين واستحيوا نساءهم، وأبادوا مدنًا بأكملها من على وجه الأرض، حتى أن الموحدين قد قتلوا قرابة المليون مسلم من أجل إقامة دولتهم.

عندما رأى القاضي عياض تلك القسوة والوحشية الدموية المفرطة في تعامل الموحدين مع خصومهم، خاف على أهل سبتة من أن يصيبهم مثل ما أصاب أهل مدينة «سلا» المغربية الذين ذبحهم الموحدون عن بكرة أبيهم عندما حاولوا مقاومتهم، ورأى أن من المصلحة أن يدخل هو وأهل سبتة في طاعة الموحدين، حتى تستقر الأمور ويرى بهدوء وروية ما يمكن عمله بعد ذلك، وبالفعل دخل القاضي عياض وأهل سبتة في طاعة الموحدين في سنة 540هـ، وأقره الموحدون على منصب القضاء.

أخذ القاضي عياض في تسيير شئون «سبتة» حسب مقتضيات الشرع والعدل، وهو في نفس الأمر يفكر في كيفية التصرف مع هؤلاء الخوارج المبتدعين الضالين أتباع الدجال «ابن تومرت»، ثم وقعت مذبحة «مراكش» المهولة التي لم تعرف بلاد المغرب والإسلام قبلها من نظير، وذلك عندما قام الموحدون باقتحام مدينة «مراكش» عاصمة المرابطين وآخر حصونهم وذبحوا أهلها جميعًا وكانوا بمئات الألوف، واسترقوا النساء والأطفال، ثم قاموا بعد ذلك بهدم المدينة بالكلية بدعوى أنها مدينة نجسة وأهلها مشركون [كان الموحدون يصفون المرابطين بالمجسمة والمشبهة كما هي عادة أهل الزيغ والضلال في العقيدة مع أهل السنة والجماعة أتباع عقيدة السلف الصالح].

فهدموا كل شيء حتى الجوامع والزوايا والمدارس، وجعلوا المدينة قاعًا صفصفًا، فأثرت هذه المذبحة البشعة في نفسية القاضي عياض بشدة، وأيقن أنه لا سبيل للتعامل مع هؤلاء الضلال المبتدعة، وأن مصير «سبتة» سيكون كمصير «مراكش» و«سلا» و«وهران» وغيرها من البلاد والمدن التي رفضت عقيدة ابن تومرت الضالة.

قرر القاضي عياض الاتصال بزعيم المرابطين «يحيى بن غانية» وكان الوحيد الذي بقي من كبار قادة المرابطين، وقد استطاع أن يسيطر على جزر الأندلس الشرقية «ميورقة وأخواتها»، فاتصل به القاضي عياض ونسق معه من أجل القدوم إلى مدينة «سبتة» وتسليمها إليه، على أن يعمل يحيى بن غانية على مجاهدة الموحدين وتحرير مدن المغرب من نيرهم وضلالهم، وبالفعل وافق «يحيى بن غانية» على ذلك فأعلن أهل سبتة خلع طاعة الموحدين وذلك سنة 543هـ.

سارت الأمور على غير مراد القاضي عياض، إذ تخاذل يحيى بن غانية عن القدوم إلى سبتة في حين أسرع الموحدون إلى حصار المدينة بجيوش كثيفة، فخاف القاضي عياض على أهل المدينة من القتل والسبي، فخرج إلى الموحدين بنفسه، وقرر لهم أنه المسئول عما جرى، فحملوه إلى أمير الموحدين عبد المؤمن بن علي وكان وقتها في مراكش، فعفا عنه عبد المؤمن وصفح عما جرى، ولكنه طلب منه أن يقر بعصمة ابن تومرت ومهديته، ويكتب بذلك كتابًا للآفاق كلها، فعلم القاضي عياض أن الموحدين قد طلبوا منه ذلك الكتاب ليكون حجة لهم ودليلاً على باطلهم، وصك شرعية من أكبر علماء المغرب والأندلس وقتها، وعلم القاضي عياض أن حياته على المحك، وأنه إذا رفض سيقتل ولابد، وعلم أيضًا أنه لو أذعن وأعطاهم ما يطلبون لضلَّ كثير من الناس، واتبعوا الموحدين في ضلالهم وعقيدتهم المبتدعة، بل وأهدر بكتابه ذلك دماء مئات الألوف من الأبرياء الذين قتلوا ظلمًا وعدوانًا بسيوف الموحدين.

تراءت كل هذه المعطيات والنتائج في عقل القاضي عياض، فقرر التضحية بنفسه وإيثار مرضاة الله عز وجل وحده، وإيثار الحق والعلم الذي قضى عمره كله يدعو إليه ويقضي به وينشره بين الناس، وأعلنها مدوية أمام الموحدين المبتدعين؛ أنه لا عصمة لابن تومرت، ولا مهدية له، وأنه دجال ضال في باب العقائد والأقوال والأفعال، وأن دماء الأبرياء في رقبته ومسئول عنها يوم القيامة، وذلك يوم 9 جمادى الآخرة سنة 544هـ، فقام الموحدون بقتله بالرماح حتى قطعوه إربًا ثم قاموا بجمع أشلائه ودفنوها في مكان مجهول بمراكش بلا صلاة ولا غسل كأنه واحد من غير المسلمين، بل وقاموا بعد ذلك بما هو أنكى من ذلك، فأقطعوا تلك المنطقة للنصارى فبنوا بجوار قبره كنيسة وبعض الدور.

ولأن الله عز وجل ينصر رسله والذين آمنوا في الحياة والآخرة، فقد عثر على قبر القاضي عياض سنة 712هـ في عهد الدولة المرينية السنية والتي أسقطت دولة الموحدين الخبيثة، وفرح الناس والعلماء بذلك الأمر بشدة، وأمر القاضي أبو إسحاق بن الصباغ بتسوية ما حول القبر وإشهاره وإظهاره، واجتمع الناس عنده وصلوا عليه مرات كثيرة، وختموا القرآن عنده مرات كثيرة [وهذا الأمر بخلاف السنة].

والخلاصة أن القاضي عياض أعظم حفاظ المغرب والأندلس وعلمائها في عصره، وسر عظمته ليس فقط علمه الغزير وفضائله الجمة، ولكن ثباته على الحق ورغبته في إصلاح الأمة، والتصدي أمام الباطل والطغيان، حتى ولو كان ثمن ذلك الثبات هو روحه. فرحمه الله عز وجل رحمة واسعة وأجزل له المثوبة يوم الدين.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
*{أهل الحديث}
ــــــــــ
المصدر: ملتقى شذرات

رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية

الكلمات الدلالية (Tags)
لجنة, القاضي, عياض


يتصفح الموضوع حالياً : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
أدوات الموضوع

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


المواضيع المتشابهه للموضوع محنة القاضي عياض
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
ويكليكس: أبو عياض بوليس سياسي Eng.Jordan أخبار عربية وعالمية 0 04-16-2013 08:49 AM
القاضي الذكي صباح الورد الملتقى العام 0 10-16-2012 02:37 PM
من يحاكم القاضي؟ جاسم داود الملتقى العام 0 09-26-2012 02:26 AM
القاضي الفاضل ابراهيم الرفاعي أخبار ومختارات أدبية 0 06-26-2012 12:38 PM
رسالة ماجستير أدبية الخطاب النثري عند القاضي عياض. احمد ادريس دراسات و مراجع و بحوث أدبية ولغوية 0 01-20-2012 06:24 PM

   
|
 
 

  sitemap 

 


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 06:26 AM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.12 by vBS
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والمشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59