#1  
قديم 09-11-2012, 01:10 PM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,392
افتراضي أدب السيرة الذاتية autobiography


أدب السيرة الذاتية : autobiography من فنون الأدب التوثيقي وهو سيرة شخصية بضمير المتكلم أو ضمير الغائب، يرويها صاحبها بنفسه مثل الأيام لطه حسين، وقد يلعب فيها الخيال دورا مثل اعترافات جان جاك روسو، وقد تنصب على التجربة الروحية والتحليل النفسي الاستبطاني مثل اعترافات القديس أوغسطين، وقد تكون صادمة مثل يوميات أندريه و (مذكرات لص) لجان جينيه..
وفي الأدب العربي هناك أمثلة بقلم نجيب محفوظ والعقاد والمازني وهيكل.


الذاتية autobiography 45.gif

د. محمّد الباردي



عندما تتكلّم الذّات



السّيرة الذّاتيّة

في

الأدب العربيّ الحديث

منشورات اتحاد الكتاب العرب

دمشق ـ 2005

مقدّمة


عندما ظهر كتاب "الأيّام" لطه حسين، انشغل النّاس بالقضايا الاجتماعيّة والثّقافيّة التي طرحها ولم ينشغلوا بالقضايا الفنيّة الّتي أثارها. فما أثار فضول النّاس هو تلك الصّورة الّتي رسمها مؤلّف الكتاب لنفسه وقد أضحى كاتبا معروفا ومفكّرا مشاكسا ولم يتأمّلوا في الأسلوب الذّي لـه كتب طه حسين أيّامه التي عاشها، فما همّهم أن يكون الكتاب رواية أو قصّة أو ترجمة ذاتيّة بقدر ما همّهم هذا الصّوت الّذي لا يكاد ينفصل عن المؤلّف والّذي يكشف عن حياة مثيرة تحمل على الإعجاب والإشادة. وقد كان كتاب الأيّام "كتابا خطيرا. وقد كان أثره في الأدب العربي الحديث أشبه بأثر اعترافات روسو في الأدب الفرنسي في القرن التّاسع عشر. إذ وضع حجر الزّاوية لجنس أدبيّ جديد، هو ما سيسمّى اصطلاحا "سيرة ذاتيّة". ومنذ ظهور "الأيّام" بدأت تظهر مجموعة من النّصوص في السّيرة الذّاتيّة ظهورا محتشما. لقد كان كتاب الأيّام كتابا إشكاليّا ولكنّ النّصوص التي ظهرت بعده في مصر أو في البلاد العربيّة الأخرى لم تحسم في الإشكاليّات الفنيّة الّتي يطرحها هذا الجنس الأدبي النّاشئ. وسيظلّ هذا الجنس الأدبي في حالة التكوّن باحثا عن مقوّماته الفنيّة التي يمكن أن تضع الحدود بينه وبين الأجناس السّرديّة الأخرى. وما أكثرها!شأن الرّواية المذكّرات واليوميّات والرّسم الذّاتي وأدب الوقائع.
إنّ المشهد الّذي يمكن رسمه عن هذا الجنس الأدبي قوامه نصوص أدبيّة عديدة ومتنوّعة وما يفرّق بينها لا يقلّ عمّا يجمع بينها. إنّها فسيفساء من النّصوص السّرديّة تحكي حياة مؤلّفيها وتحتاج إلى التّصنيف والتّحديد والتّعريف. وهو ما يطمح هذا الكتاب المتواضع إلى تحقيقه.
ـ ما مفهوم السّيرة الذّاتيّة في الأدب العربي الحديث؟
ـ ما هي الإشكاليّات الفنيّة التي يطرحها هذا الجنس الأدبي النّاشئ؟
ـ ما هي إنشائيّته ومقوّماته الفنيّة؟
ـ ما هي أشكاله الكتابيّة؟
تلك هي المسائل المركزيّة التي يطرحها هذا الكتاب ويسعى إلى اقتراح إجابات لها. ولتحقيق ذلك كان لابدّ من الاستناد إلى منهج علمي صارم استقيناه من إفادتنا من بعض الدّراسات الإنشائيّة في الثّقافة الأوروبيّة.
فلعلّ هذا الكتاب يريح ولو قليلا من يرغب في المعرفة ويطرح السّؤال.





1.1. هل يمكن أن نعتبر السّيرة الذّاتيّة جنسا أدبيّا مستقلاّ وقائما بذاته؟ إنّه لسؤال إشكاليّ حقّا. فمنذ سنة 1970 أعلن Jean Starobiniski أنّه "ينبغي أن نتجنّب الحديث عن أسلوب أو حتّى عن شكل مرتبطين بالسّيرة الذّاتية، إذ لا وجود في هذه الحالة لأسلوب أو لشكل ينبغي الالتزام بهما" (1) وقد يدعّم السّؤال مشروعيّته عندما نتامّل خانة الأشكال ذات العائلة الأجناسيّة الواحدة فيصعب التميّيز العلمي المقنع والنّهائي بين السّيرة الذّاتيّة والمذكّرات وبينها وبين السّيرة والرّواية الشّخصيّة وقصيدة السّيرة الذّاتيّة واليوميّات الخاصّة والرّسم الذّاتي أو المقالة فضلا عن علاقة السّيرة الذّاتيّة بالرّواية، فقد نجد عنصرا مفارقا في علاقة هذا الشّكل بالشّكل الآخر ولكنّ الحدود الفاصلة قد لا تبدو مطلقة ونهائيّة بقطع النّظر عن النّظريّة الّتي تبيح التّداخل بين الأجناس الأدبيّة وتشكّك في الحدود الفاصلة بينها(2).
و مع ذلك سعى منظرو الأدب إلى رسم هذه الحدود الفاصلة بين السّيرة الذّاتيّة والأجناس السرديّة القريبة منها ولعلّ أوشج هذه الأجناس قربي ما يعرف بالمذكّرات فكثيرا ما استعمل هذا المصطلح بمعنى السّيرة الذّاتيّة وكثيرا ما وشّحت كتب السّيرة الذّاتيّة بعبارة "مذكّرات" وبها تعقد مع المتلقّي ميثاق قراءة ولكنّه ميثاق زائف لأنّ الحدّ الفاصل بين السّيرة الذّاتيّة والمذكرات قائم. فالسّيرة الذّاتيّة، على خلاف المذكّرات تروي أحداثا شخصيّة وتنأى عن سرد الأحداث العامّة في حين تركّز المذكّرات عادة على تدوين الأحداث دون التّعليق على الحياة الشّخصيّة لكاتب المذكّرات.
و يتّخذ التّعامل مع الزّمن المروي معيارا للفصل بين السّيرة الذّاتيّة واليوميّات. فالسّيرة الذّاتيّة وهي أعرق من اليوميّات الخاصّة ترتبط أحيانا كثيرة بفترة محدودة من حياة الكاتب في حين تتّصل اليوميّات الخاصّة بالماضي القريب. ولئن سلك الجنسان اتّجاها زمنيّا واحدا ينطلقان من الحاضر إلى الماضي ومن لحظة الكتابة
إلى لحظة التّجربة فإنّ المساحة الزّمنيّة الّتي تفصل بين زمن الكتابة وزمن التّجربة تكون في السّيرة الذّاتيّة أوسع منها في اليوميّات. كما يعدّ التّعامل مع المرجع وجها من وجوه الاختلاف بين الجنسين الأدبيين، فالإحالة المرجعيّة في اليوميّات تمتاز بالدقّة نظرا لقرب لحظة التّدوين من لحظة التّجربة في حين تتعرّض الإحالة المرجعيّة في السّيرة الذّاتيّة إلى ضرب من التّشويش والاضطراب فلا سلاح لكاتب السّيرة الذّاتيّة سوى ذاكرته والذّاكرة معرّضة لآفة النّسيان وهو "غربال لا يمرّ من ثقوبه إلاّ ما هو جوهريّ" على حدّ عبارة جوليان قرين (Julien Grean ).
و تختلف السّيرة الذّاتيّة عن السّيرة في أكثر من وجه. فموضوع السّيرة الذّاتيّة وكاتبها لا يزال على قيد الحياة يظلّ مطروحا في حين يحسم كاتب السّيرة في موضوعه ويقول الكلمة الفصل كما تتّسم كتابة السّيرة بنزعة تاريخيّة لا تخلو من موضوعيّة لأنّ المواد الّتي يستعملها كاتب السّيرة شأنها شأن المواد الّتي يستعملها المؤرّخ منفصلة عن الذّات الكاتبة في حين يمتح كاتب السّيرة الذّاتية من ينبوعه الذّاتي والشّخصي المتمثّل في ذكرياته الخاصة فتجيء الكتابة مغرقة في "الأنا" سابحة في الذّات لا معيار موضوعيّا للنّظر في مصداقيّتها وصحّتها وذلك لاختلاف الغاية الّتي يسعى كلا الجنسين الأدبيين إلى تحقيقها. فإذا كان كاتب السّيرة الذّاتيّة يرغب في الانتصار على الموت إذ هو يسعى إلى توثيق حياته الماضية وإخراجها من الإهمال والنّسيان، فإن كاتب السّيرة يؤكّد فعلا أنّه استطاع أن يغلب الموت، فهو عندما يدوّن حياة شخصيّة أدبيّة أو فكريّة أو سياسيّة يقدّم الدّليل القاطع على أنّ ذكرى تلك الحياة الّتي عاشها قد استمرّت بعد فناء الجسد، إضافة إلى أنّ كاتب السّيرة وهو يكتب سيرته يظلّ منسجما انسجاما فكريّا كاملا إذ لا يعيش الإشكاليّة الزّمنيّة الحادّة الّتي يتعرّض لها كاتب السّيرة الذّاتيّة، ذلك أنّ كاتب السّيرة الذّاتيّة وهو يكتب يظلّ يسبح عكس مجرى حياته إذ يعود إلى الماضي البعيد وأمواج الحاضر المتلاطمة تعترض سبيله في حين يظلّ كاتب السّيرة قادرا على ترتيب حياة صاحب السّيرة ويخضعها لمعايير موضوعيّة تفصل بين المراحل وتزيح المواجهة بين الماضي والحاضر.
و تظلّ العلاقة بين السّيرة الذّاتيّة والرّواية أكثر التباسا فكثيرا ما ننظر إلى الرّواية على أنّها في وجه من وجوهها جنس سير ذاتيّ. وظهرت أجناس وسيطة بين الرّواية والسّيرة الذّاتيّة شأن رواية السّيرة الذّاتيّة
roman autobiographique والسّيرة الذّاتيّة الرّوائيّة romanciée auto biographie والسّيرة الذّاتيّة ذات الاسم المستعار وهي جميعها توظّف أساليب سرديّة متشابهة سعى منظّرو الأدب إلى البحث عن الحدود الفاصلة للتّمييز بينها. ويظلّ ميثاق القراءة المعيار الأساسي للتّمييز بين الرّواية والسّيرة الذّاتيّة فالميثاق الروائي يظهر في لبوس الخيال ويظهر الميثاق السير الذّاتي في لبوس الحقيقة (3).
2.1. ومع ذلك ورغم هذا الجهد العلمي الكبير الّذي بذله الإنشائيون تظلّ الحدود الفاصلة بين السيرة الذّاتيّة والأجناس السرديّة القريبة منها زئبقيّة فكثيرا ما تتداخل هذه الأجناس وتصبح بمثابة الأواني المستطرقة عندما تستعير من بعضها بعض أساليبها الإنشائيّة وتقنياتها الفنية.
و قد اختصّ الإنشائي الفرنسي فيليب لوجون Philippe Lejeune في البحث في السّيرة الذّاتيّة فقد أصدر كتابه "الميثاق السير الذّاتي Le Pacte autobiographiqueعام 1975 وكان من قبل قد أصدر مؤلّفه الهام " السّيرة الذاتيّة في فرنسا L autobiographie en France عام 1971 ثمّ أصدر كتابين آخرين هما أنا هو آخر Je est un autre عام 1980 و"أنا أيضا" Moi aussi عام 1986 وقد عرّب المغربي عمر حلي فصلين من كتاب "الميثاق السير ذّاتي”. وهما الميثاق السير ذّاتي والسيرة الذاتيّة والتّاريخ الأدبي وأصدرهما في كتاب عنوانه "السّيرة الذاتية – الميثاق والتاريخ الأدبي" لكنّ فضل فيليب لوجون إلى جانب الجهد العلمي الّذي بذله يتمثّل في أنّه أعاد النّظر في أطروحته المتعلّقة بجنس السيّرة الذّاتية في كتابه الأخير: أنا أيضا، ونقد منهجه في كتاب "الميثاق السير ذاتي” واعتبره منهجا لا يخلو من دغمائية إذ فاق طموحه العلمي طبيعة النّصوص الأدبيّة الّتي أخضعها للإجراء المعرفي عندما خرج بتعريف علمي للسيرة الذّاتيّة مفاده أنّها "حكي استيعادي نثري يقوم به شخص واقعي عن وجوده الخاصّ وذلك عندما يركّز على حياته الفرديّة وعلى تاريخ شخصيّته بصفة خاصّة " ووضع حدودا أربعة للسّيرة الذّاتيّة باعتبارها جنسا قائما بذاته وهي: (1) شكل اللّغة فالسيّرة الذاتيّة هي قصّة نثريّة.
(2) الموضوع المطروق: وهي تروي حياة فرديّة وتاريخ شخصيّة معينة.
(3) موقع المؤلّف إذ لا بدّ من التّطابق بين المؤلّف والسّارد.
(4) تطوّر الحكي باعتباره حكيا استعاديّا ضرورة.
(5) وبذلك حوّل دراسة الأدب إلى ما يشبه المعادلات العلميّة الصّارمة تنفي الاختلاف والتنوّع والفرضيّات الممكنة وتعوزها المرونة اللّازمة الّتي يجب أن تنظر إلى الإبداع الأدبي على أنّه متطوّر وغير قارّ.
فهل ينفي غياب حدّ من هذه الحدود تصنيف أثر ما ضمن خانة السّيرة الذاتيّة، ثمّ كيف يتحقّق هذا الحدّ أو ذاك وكيف ندرك على سبيل المثال التّطابق القائم بين المؤلّف والسّارد أو بين السّارد والشّخصيّة عندما لا يصرّح الكاتب، صاحب السّيرة الذّاتيّة باسمه الحقيقي في مؤلّفه. إنّها لدغمائيّة يعترف بها هذا الإنشائي ذاته ويبرّرها طموح علمي مشروع إلى الحسم في علاقات التّشابه الممكنة بين السّيرة الذّاتيّة والأجناس الأدبيّة القريبة منها. ذلك أنّ المؤلّف اتّخذ من هذه المعايير الخمسة حدودا صارمة للتميّز بين الأجناس السّرديّة ذات الصّلة فهو يعتبر المعايير الخمسة الّتي ذكرناها محددة لجنس السّيرة الذّاتية ولكنّ غياب معيار واحد منها أو اكثر يخرج الأثر الأدبي من خانة ليلقي به في خانة جديدة على هذا النّحو.
إنّ غياب المعيار الثّاني المتمثّل في الموضوع المطروق (حياة فرديّة وتاريخ شخصيّة معيّنة ) يخرج الأثر الأدبي من السّيرة الذّاتيّة ويضعه في خانة المذكّرات ذلك أنّ المذكّرات لا تنشغل بالحياة الشخصيّة والفرديّة بل بالحياة العامّة وإذا
انتفى التّطابق الكامل بين السّارد والشّخصيّة المركزيّة فإنّ الأثر الأدبي السّردي يتحوّل إلى سيرة ذلك أنّ السّارد في السّيرة مغاير للشّخصيّة موضوع السّيرة وإذا انتفى التّطابق بين المؤلّف والسّارد وهو المعيار الثّالث المحدّد لجنس السّيرة الذّاتيّة يتحوّل النصّ إلى الرّواية الشّخصيّة وإذا انتفى المعيار الأوّل الّذي ينصّ على أنّ اللّغة المستعملة هي قصّة نثريّة يدخل النصّ المعنى خانة "قصيدة السّيرة الذّاتيّة" إذ تكون حكاية شعريّة وليست نثريّة. وبانتفاء المعيار الخامس الّذي يشترط المنظور الإستعادي للحكي في السّيرة الذّاتيّة يدخل النصّ المعني خانة اليوميّات الخاصّة ذلك أنّ اليوميّات تنشغل بالحاضر والآني وتتقلّص أو تكاد المسافة الفاصلة بين لحظة الكتابة ولحظة التّجربة وإذا انتفت الحكاية (معيار 1) وخلا النصّ من منظوره الاستعادي (معيار5) يكون النصّ المعني رسما ذاتيّا أو مقالة.
لقد فسّر المؤلّف ذاته هذه الدّغمائيّة الّتي وقع فيها وأرجعها إلى خلل في المنهج الّذي اتّبعه فهو قد أشار إلى المفارقة الّتي وقع فيها حين ادّعى أنّه سيتعامل تعامل الملاحظ مع المدوّنة الّتي اعتمدها في دراسته متّبعا طريقة تجريبيّة استقرائيّة ولكنّه أخلف وعده وخان المنهج الّذي كان ينوي اتّباعه عندما أقام هذه الحدود الدّغمائيّة وصاغ هذا القانون النّظري الّذي يفتقر للدقّة.
3.1. وعندما صدر كتاب السّيرة الذّاتيّة عن المنشورات الجامعيّة الفرنسيّة عام 1979 انطلق مؤلّفه جورج ماي(6) من موقف نقدي خفي لفيليب لوجون ولمنهجه في كتاباته عن السّيرة الذاتية عندما أكّد "أنّ المنهج السويّ المتمثّل في الانطلاق من تعريفات إنّما يتّصل بمجال العلوم الصّحيحة وعلى وجه الخصوص بمجال الرّياضيات والأدب غير الهندسة " (7) فقد اعتمد منهجا استقرائيّا تمثّل في مائة نصّ يمكن أن تنتسب إلى السّيرة الذّاتيّة للوصول إلى مقولات تتعلّق بالجنس في علاقته بالأجناس الأخرى وما يلفت الانتباه في هذا الكتاب هو أنّ مؤلّفه تجاوز المعايير الإنشائية التي سجنت فيليب لوجون وأدخل ظواهر ثقافيّة واجتماعيّة لتعيين ما يتعلّق بهذا الجنس الأدبي الحديث ولكنّه مع ذلك لم يُلْزمْ نفسه ولا قرّاءه بتعريف دقيق وحدّ صارم لهذا الجنس الّذي يعتبره في طور النّشأة بل اكتفى بحصر خصائصه العامّة والنسبيّة بمقارنته ببعض الأجناس السرديّة الّتي تنتسب إلى الخانة ذاتها وها هو في خاتمة كتابه يذكّر بمنهجه في التّعامل مع هذا الجنس الأدبي "إنّ القرّاء الّذين كانوا يعلّلون النّفس بأن يجدوا في هذا الكتاب أحكاما قاطعة وحقائق مطلقة ووصفات وقواعد سيصابون دون شكّ بخيبة أمل. فبعد أن بحثوا دون طائل في بداية الكتاب عن ذلك الضّرب من النّظريّة الّتي يطلق عليها اسم التّعريف، وجدوا قسمين ربّما بدا لهم أن كلّ واحد منهما يتفنّن على طريقته ليثبت اللاّأدرية الّتي تبسط ظلالها على الكتّاب. ذلك أنّ القسم الأوّل يركّز على دراسة الحالات الاستثنائيّة أكثر من دراسة القواعد، أي ما شذّ عن قاعدة السّيرة الذّاتيّة بوصفها تتويجا لحياة أو لعمل شهير وما شذّ عن قاعدة السّيرة الذّاتيّة بما هي عمل ينجزه المرء زمن الكهولة وحتّى زمن الشّيخوخة وما شذّ عن الحديث السّير الذّاتي بضمير المتكلّم، وما شذّ عن نظام التّتابع الزّمني. أمّا القسم الثّاني فبدل أن يفضي بنا إلى رسم الحدود الصّارمة الّتي تفصل بين السّيرة الذّاتيّة والأجناس المجاورة لها، نجده على نقيض ذلك يؤكّد أنّه لا يوجد بين السّيرة الذّاتيّة والمذكّرات أو بين السّيرة الذّاتيّة والرواية خطّ فاصل بيّن وأنّ المسألة مسألة نسب ودرجات" (8).
4.1. تتأتّى كلّ الإشكاليات والقضايا الّتي تطرحها السّيرة الذّاتيّة باعتبارها جنسا قائما بذاته ذا إنشائيّة خاصّة من حداثة هذا الجنس في الأدب العالمي. فهو باعتباره جنسا سرديّا قد ظهر بعد الرّواية وبالتّالي قد استفاد من إنجازات الرّواية الفنيّة استفادة كبيرة ممّا أحدث تداخلا بين الجنسين بلغ حدّ الالتباس لدى بعض كتّاب السّيرة الذاتية وهو كذلك جنس أدبيّ ارتبط بالثّقافة الغربيّة، بل قل إنّه نتاجها وثمرتها رغم النّصوص التّراثيّة الّتي يشير إليها بعض الدّارسين العرب بحثا عن أصول عربيّة إسلاميّة لهذا الجنس الأدبي المستحدث (9).
وقد كانت السّيرة الذّاتيّة شكلا من أشكال التّعبير تختصّ به الثّقافة الغربيّة فالأسباب الّتي أباحت ظهور هذا الجنس الأدبي هي أسباب دينيّة واجتماعيّة تتّصل بالمجتمع الغربي ذلك أنّ محاسبة النّفس والإيمان بالأخوّة بين البشر وبتساوى النّفوس كلّها في القيمة الّتي تدعو إليها المسيحيّة سهّلت ظهور بعض السّير الديّنية الشّهيرة في القرنين السّابع عشر والثّامن عشر الميلاديين (10) كما ساعدت على إنتاج ضرب من التلقّي يقبل على هذه الآثار. فنجاح اعترافات روسو يتمثّل في استجابتها إلى أفق تلق مستجيب لمحاسبة النّفس وتعريتها وفضحها طلبا للعفو والمغفرة لكنّه كذلك أفق انتظار، صاغه مجتمع متطوّر انفتح على الفردانيّة الّتي اتّخذت صيغة جديدة، منذ بدايات الرّومنطيقيّة المشيدة بالفرد والممجّدة للأنا. و قد ظهر المصطلح بداية في صيغة انقليزيّة autobiography ويُرْوى أنّ أوّل من استعمل هذا المصطلح هو الشّاعر الإنقليزي روبار سون ماي Robert Son May في مقال لـه صدر عام 1809، لكن بعضهم يرجّح أسبقيّة استعمال المصطلح للألماني ف.شليفل Fréderic Schlegel عام 1798 وخلاصة الآراء أنّ المصطلح انتشر في أهمّ اللّغات الأوروبية في حدود عام 1800 لكنّ استقرار المصطلح لا ينفي اختلاف الكتّاب والنقّاد في مفهوم السّيرة الذّاتيّة. فقد ظهرت في أوروبا مجموعة من الأعمال الهامّة تاريخيّا شأن كتابات سان أوقوستان St Augustin في القرن الرّابع الميلادي وأبيلار Abélard في القرن الثّاني عشر الميلادي وشارل الرّابع Charles IV في القرن الرّابع عشر الميلادي وجان جاك روسو JJ Rousseau في القرن الثّامن عشر الميلادي ولكن ظهور اعترافات جان جاك روسو كان حدثا هامّا في تاريخ هذا الجنس الأدبي. فقد "كان هذا الحدث المشهود بداية السّيرة الذّاتيّة في فرنسا وفي أهمّ الثّقافات الأوروبيّة بل وينبغي أن نضيف إليها الأمريكيّة أيضا" على حدّ عبارة جورج ماي (11) وقد اعتمد هذا الحدث الأدبيّ للتّأريخ لنشأة السّيرة الذّاتيّة باعتبارها جنسا أدبيّا متكاملا إذ بثّ وعيا جماعيّا بالجنس الجديد يمكن أن نؤرّخ لـه منذ نهاية القرن الثّامن عشر الميلادي (12) بيد أنّ تاريخ السّيرة الذّاتيّة في الأدب العربي الحديث لا يختلف عن تاريخ الأجناس السرديّة الأخرى شأن الرّواية والقصّة القصيرة، فهي جنس مستحدث ظهر بعد الرّواية ونتج عن عامل المثاقفة بحكم العلاقة الوطيدة بين الثّقافة الأوروبية والثّقافة العربيّة. وقد سعى إبراهيم عبد الدّائم منذ زمن متقدّم نسبيّا أن يؤصّل هذا الجنس السّرديّ في التّراث مؤكّدا أنّ السّيرة الذّاتيّة وإن لم يُعْرَفْ مصطلحها إلاّ حديثا ذات جذور تاريخيّة تعود إلى مؤلّف ابن خلدون.. "التّعريف بابن خلدون ورحلته شرقا وغربا " (13) وقد جارته في ذلك الباحثة التّونسيّة فوزيّة الصفّار فهي ترى أنّ القدماء لم يكونوا "يعرفون هذا المصطلح رغم أنّهم دوّنوا حياتهم في صفحات تنتمي إلى ما نسمّيه اليوم بالتّرجمة الذّاتيّة، ويمكن أن نسوق بعض الأمثلة لذلك، منها "مذكّرات الأمير عبد اللّه الموسومة بكتاب "التّبيان" لصاحبها عبد اللّه بن بلقين بن باديس بن حبوس بن زيري ويعتبر هذا الكتاب وثيقة تصوّر الوضع الاجتماعي والسياسي في الأندلس قبل واقعة الزلاّقة وضعف الحكم الإسلامي أمام تحدّيات النّصارى" (14) وذكرت أيضا كتاب " الاعتبار " لأسامة بن منقذ واعتبرته كتابا تراثيّا من كتب السيرة الذّاتيّة (14).
و مهما كان الأمر فإنّنا نعتقد أنّ السّيرة الذّاتيّة باعتبارها جنسا حديثا مفهوما ومصطلحا لم يتعاطها العرب إلاّ في عشرينات القرن العشرين ويعدّ كتاب "الأيّام" لطه حسين النصّ الأدبي الأوّل المتمثّل لمفهوم السّيرة الذّاتيّة وإشكاليّتها وقضاياها. فقد كان إلمامه بالثّقافة الغربيّة ولا سيّما الثقافة الفرنسيّة عاملا مساعدا على تأليف النص.ّ فلا شكّ أنّ طه حسين كان قد اطّلع على اعترافات جان جاك روسو وعلى يوميّات أندري جيد وذكرياته وغيرها من مؤلّفات السّيرة الذّاتيّة الشّهيرة في الثّقافة الفرنسيّة.
و قد اعتمدنا في هذه الدّراسة مدوّنة موسّعة هي: كتاب الأيّام لطه حسين وقد صدر جزؤه الأوّل عام 1929 وكتاب "أنا" لعبّاس محمود العقّاد (1964) وقصّة حياة لإبراهيم عبد القادر المازني (1934) وحياتي لأحمد أمين (1950) وسبعون لميخائيل نعيمة (1959ـ 1960) وثلاثيّة حنّا مينه: بقايا صور (1975) المستنقع1977) القطاف (1986) والخبز الحافي (1982) وزمن الأخطاء
(1992) لمحمّد شكري وسنين الحبّ والسّجن لعبد الله الطّوخي (1994) ورجع الصّدى لعروسي المطوي
(1991) وأوراقي حياتي لنوال السّعداوي (200ـ 2001) وذكريات الأدب والحب لسهيل إدريس (2002) ومجرّد ذكريات لرفعت سعيد (1989) وسيرة حياتي لعبد الرّحمان بدوي (2000) وخارج المكان لإدوارد سعيد
(2000) ورحلة جبليّة رحلة صعبة لفدوى طوقان (1989) وتربية عبد القادر الجنابي (1995).
إنّ كلّ هذه المؤلّفات سير ذاتيّة كاملة لأصحابها وهي مؤلّفات تمثّل أجيالا مختلفة من الكتّاب ونحن نعتقد أنّ في تحليلها مسحا لمسيرة هذا الجنس الأدبي وتطوره في الأدب العربي الحديث.


الإحالات

1) L' autobiographie, Gallimard, Paris 1970 p.84
2) انظر جيرار جينات، مدخل إلى جامع النصّ، تعريب التونسي عبد الرّحمن أيّوب، توبقال للنّشر 1986.
3) للتعمّق في هذه المسألة، انظر جورج ماي، السّيرة الذّاتيّة، تعريب التّونسيين عبد الله صولة ومحمّد القاضي بيت الحكمة تونس 1972.
4) عمر حلي، المركز الثّقافي العربي، ط1، 1994.
5) انظر فيليب لوجون autobiographique Le Pacte منشورات Seuil باريس 1975 ص 14
6) 1979Geaorges May, L autobiographie, P U F Paris
7)جورج ماي السّيرة الذّاتيّة تعريب عبد الله صولة ومحمّد القاضي، بيت الحكمة 1992 ص 15
8) نفس المرجع، ص 219
9) تقول فوزيّة الصفار "لم يكن القدماء يعرفون هذا المصطلح رغم أنّهم دوّنوا حياتهم في صفحات تنتمي إلى ما نسمّيه بالتّرجمة الذّاتيّة، هذا من حيث الشّكل" التّرجمة الذّاتيّة في الأدب العربي الحديث: كتاب سبعون لميخائيل نعيمة نموذجا، تونس 1999 ص 17 وتورد في هذا السّياق أفكار الكاتب المصري إبراهيم عبد الدّائم.
10) انظر جورج ماي ص 29
11) " " ص27
12) لمزيد التعمّق في هذه الأراء راجع جورج ماي، السّيرة الذّاتيّة ص 23 ـ 31
13) انظر يحي ابراهيم عبد الدّائم "التّرجمة الذّاتيّة" في الأدب العربي الحديث " مكتبة النّهضة المصريّة، القاهرة 1975 ص 37
14) انظر فوزيّة الصفّار، ص 16




المصدر: ملتقى شذرات

__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
  #2  
قديم 05-26-2013, 11:22 AM
الصورة الرمزية كمال بن عجاج
كمال بن عجاج غير متواجد حالياً
عضو جديد
 
تاريخ التسجيل: Jan 2013
المشاركات: 15
افتراضي



كنت أتنمنى تحميل الكتاب وأكون شاكر لكم
__________________
صورة أسلامية
رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية

الكلمات الدلالية (Tags)
السيرة الذاتية


يتصفح الموضوع حالياً : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
أدوات الموضوع

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


المواضيع المتشابهه للموضوع أدب السيرة الذاتية autobiography
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
السيرة الذاتية لاعضاء حكومة النسور Eng.Jordan الأردن اليوم 0 03-30-2013 09:49 PM
حكم وأقوال واقتباسات عن السيرة الذاتية Eng.Jordan الملتقى العام 0 11-19-2012 12:29 PM
نماذج لكتابة السيرة الذاتية Eng.Jordan الملتقى العام 0 10-30-2012 02:59 PM
السيرة الذاتية Curriculum Vitae Eng.Jordan الملتقى العام 0 10-30-2012 02:30 PM
السيرة الذاتية وحقائقها في التاريخ Eng.Jordan كتب ومراجع إلكترونية 0 01-10-2012 10:08 AM

   
|
 
 

  sitemap 

 


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 10:46 AM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.12 by vBS
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والمشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59