#1  
قديم 06-05-2013, 09:30 AM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,392
افتراضي اللغَة العربيّة بَين الأصالة والإعجاز والحَداثة


د. عمَر موسى باشا

أبرز ما يلاحظ أن الاهتمام باللغة العربية بدا واضحاً كل الوضوح في المؤسسات العلمية والثقافية والأكاديمية. بله المقالات المنشورة في المجالات الفكرية والثقافية في عالمنا العربي.‏

بيد أن تساءلت منذ البدء عن البواعث الكامنة وراء الاهتمام بالعامية لدى بعض المفكرين، ومما استرعى انتباهي أن الأمم الأخرى لا تهتم باللهجات الدارجة في الحديث والحوار، ولا تعطيها مثل ما نعطيها من أهمية. وإنما نرى تقدس اللغة الوطنية على اختلاف المذاهب والاتجاهات. فالمعروف عن الكاتب الفرنسي الكبير أناتول فرانس أنه كان ذا فكر تقدمي، وأن الكاتب والناقد الفرنسي المشهور موريس باريس كان من أنصار الكثلكة، فلما سألوه (1): "أفلا ترى مبادئ أناتول فرانس وغلوه في الإشتراكية..؟" أجابهم: "قولوا فيه من هذه الجهة ما شئتم، إلا أنه حفظ اللغة".‏

إن حفظ اللغة هو الأصل في كل العصور، وعند كل الأمم، وهذا هو هدف كل مفكر وأديب وناقد، مهما اختلفت الآراء وتباينت المذاهب، ذلك لأن اللغة تمثل الفكر القومي في حقيقة الأمة، وحفظ لغتها، إنما هو التقديس لتراثها، ومن المأثور قول الرسول الكريم (2): "أحبوا العرب لثلاث: لأني عربي، والقرآن عربي، وكلام أهل الجنة عربي،".‏

قد نتساءل عن سبب التسمية بلغة الضاد، فهل كان نسبة إلى حرف الضاد الذي يستثقل الأعاجم لفظه مفخماً، أم أن ذلك يرجع إلى لفظ مُضر، وأبرز ما في هذا اللفظ توسط الضاد، وهي أحد الحرف التسعة عشر المجهورة، والمعروف أن ثلاثة منها حيز واحد، وهي الجيم، والشين، والضاد، وهذه الحروف الثلاثة هي الحروف الشجرية.‏

كان لابد لي من العودة إلى نقطة البدء في ماضي اللغة العربية، وذلك لمعرفة ما طرأ عليها من الانحراف واللحن والتطور، وهذا يتطلب منا الوقوف عند التعريف اللغوي والتطور الاصطلاحي.‏

يقول صاحب اللسان ابن منظور (3):‏

"واللغة اللسن، وحدُّها أنها أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم، وهي (فُعلةٌ) من (لغوت) أي تكلمت، أصلها (لُغوة). وقيل أصلها (لُغَي) أو (لُغوٌ)، والهاء عوض، وجمعها (لُغىً). وفي المحكم: الجمع (لغات) و(لُغون)... والنسبة إليها (لُغويّ)، ولا تقل: (لَغويٌ)..".‏

ولابد لنا من الوقوف على ما جاء في المحكم من جمع اللغة جمعاً مؤنثاً، وجمعاً ملحقاً بالجمع المذكر السالم، على غير ما هو معروف في شروطه، ولعل اللغويين كانوا يعتقدون أن هذا الحمل مقبولاً، ذلك لأن اللغة خاصة بالعقلاء، وعلى هذا حملت هذا المحمل، لأن الإنسان هو الحي الناطق بين الكائنات جميعاً، وهو وحده المتميز باللغة المنطوقة، ذات المغزى والدلالة.‏

وتطورت لفظة اللغة، واشتُقت منها اشتقاقات مختلفة بحكم طبيعتها التوليدية والحركية والذاتية، فقد نُقل عن أبي سعيد قوله (4): "إذا أردت أن تنتفع بالأعراب فاستلغهم، أي أسمع من لغاتهم من غير مسألة".‏

ومن ذلك قول الشاعر:‏

وإني، إذا استلغاني القوم في السُّرى برمت فألفوني بسركِ أعجما‏

ويطلق اللغو على النطق مطلقاً، فيقال: "هذه لغتهم التي يلغون بها" أي ينطقون ومن ذلك قولهم: (لغوى الطير) أي أصواتها، و"الطير تلغي بأصواتها" أي تنغِّم، ويطلق لفظ (اللغوى) على لغط القطا، فمن ذلك قول الراعي يصف طير القطا:‏

صفر المحاجر لغواها مبينة في لجة الليل لمَّا راعها الفزع‏

كما فرَّق بين الصوت والنغم في لغو الطائر، فيقال: "سمعت لغو الطائر ولحنه" أي صوته ونغمه، وفي هذا التفريق دقة اللغة في تحديد هذا المفهوم. ومن المأثور اللغوي قول العرب: "اسمع لغواهم، ولا تخف طغواهم"، أي طغيانهم..‏

ولو رجعنا إلى القرآن لوجدنا أن لفظ اللغة لم يستخدم في هذا المعنى الاصطلاحي، وإنما استخدم بمعنى (اللغو)، وهو ما لا يُعتد به من كلام وغيره، كما وردت بمعنى الإثم في الحلف والإيمان، أو هو ما لا يعقد عليه القلب.‏

أما اللفظ المأثور المعتمد في القرآن فهو (اللسان) إذ وردت خمس عشرة مرة مفردة، منها ثلاث مرات نصت فيها على ذكر اللسان منعوتاً بأنه عربي:‏

في قوله (5): "وهذا لسان عربي مبين"، وقوله (6): "لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين" وقوله (7): وهذا كتاب مصدِّق لساناً عربياً". والملاحظ أن لفظ النعت بـ (العربي) اقترن بالنعت الثاني (المبين) في مرتين.‏

أما استخدام لفظ اللسان جمعاً فقد ورد عشر مرات في القرآن كما هو في أصل الوضع اللغوي أو الاصطلاحي.‏

وليس من باب المصادفة استخدام ابن خلدون لفظ (اللسان) المنعوت بـ (العربي) في مقدمته مرات كثيرة كما استخدمت في الأسلوب القرآني، والأمر بنفسه عند الأرسوزي فهو يفضل كلمة (لسان) عندما يكون الحديث عن اللغة العربية "لأن العربي خص لهجته، بحق، (لسان). هذا الكلمة المؤلفة من الحروف الرشيقة (ل، س، ن).. وأطلق على اللهجات كلمة (لغة) من لغا يلغو، وما يتضمن حرف الغين من غموض وإبهام). تلك هي صورة عن لفظتي (اللغة) و(اللسان) من خلال القرآن والمعجمات العربية والمصادر اللغوية كما رسمناها قبل التحدث عن الفصاحة في اللسان العربي.‏

أفصح اللغات‏

إن الذي أقف عنده بعد هذا المطاف اللغوي هو رأي اللغويين العرب في أهمية اللغة العربية، وإيمانهم أنها أفصح اللغات كلها: أصلاً، ومفهوماً، واصطلاحاً، وتقويماً لها بالمقارنة مع سائر اللغات الأخرى في العالم، فلا عجب إن رأينا الزمخشري يعد "لغة العرب أفصح اللغات، وبلاغتها أتم البلاغات" (8). كما أبرز ابن خلدون أهمية اللغة العربية بقوله (9): تفاوتت طبقات الكلام في اللسان العربي بحسب تفاوت الدلالة على تلك الكيفيات... فكان الكلام العربي لذلك أوجز وأقل ألفاظاً وعبارة من جميع الألسن". وليس من العبث اللفظي قوله (10): "وكانت الملكة الحاصلة للعرب من ذلك أحسن الملكات وأوضحها إبانة عن المقاصد لدلالة غير الكلمات فيها على كثير من المعاني"، وقوله (11): "ولا يوجد ذلك إلا في لغة العرب". فلا نستغرب بعد هذا كله إن رأينا العتابي، وهو أبلغ من عرفتم العربية فصاحة وبياناً يقول معرضاً بالعجم: "اللغة لنا والمعاني لهم"، فاللغة تتضمن حكماً المعاني التي تعبر عنها، والهدف من هذا القول أن اقتصار الأعاجم على المعاني إنما هو إشارة إلى أن اللغات الأخرى لا يمتلك فصاحة التعبير اللغوي الذي يمتلكه العربي، فالمعاني مطروحة على الطريق، كما يقول الجاحظ، وإنما العبقرية في الأسلوب اللغوي المتبع.‏

أما المحدثون من اللغويين العرب فقد أشار بعضهم إلى عبقرية اللغة العربية، فيمن هؤلاء الرافعي الذي وصفها بقوله (12): "إن هذه العربية بنيت على أصل سحري، يجعل شبابها خالداً عليها، فلا تهرم ولا تموت، لأنها أعدت من الأزل فلكاً دائراً للنيِّرين الأرضيين العظيمين: كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن ثم كانت فيها قوة عجيبة من الاستهواء كأنها أخذة *****، لا يملك معها البليغ أن يأخذ أو يدع".‏

ومنهم الأرسوزي الذي رأى في العربية عبقرية الأمة، فقال (13): "إن لغتنا التي هي أبلغ مظهر لتجلي عبقرية أمتنا، هي مستودع لتراثنا".‏

فعلام اعتمد هؤلاء اللغويون القدماء والمحدثون في تفضيل اللغة العربية على لغات العالم: فصاحة، وأصالة، وعبقرية؟؛ وهل كانوا مطلعين على اللغات العالمية ليقرروا مثل هذا الحكم في قدسية العربية وتفردها بالإعجاز والاتساع؟ في العودة إلى الجاهلية الأولى ما يوضح لنا الإجابة عن التساؤل السابق، فمن المعروف أن الفصاحة مختلفة بين القبائل قبل الإسلام، فهناك لغة العالية، والمقصود باللغة هنا اللهجة، وهي لغة قريش، وهي التي تعد أفضل اللهجات، وتقاس فصاحة كل لهجة بمقدار بعدها عن اللغات المجاورة للأمم الأخرى، من الرومية والفارسية والحبشية وغيرها.‏

أطوار ثلاثة‏

يتضح أن العربية مرت في ثلاثة أطوار: طور الأصالة التراثية، وطور الوحدة والإعجاز، وطور التوليد والحداثة.‏

ويتمثل الطور الأول في مرحلتين: أولاهما مرحلة التكوين، وثانيتهما مرحلة التوحيد. ففي المرحلة التكوينية هذا الفيض من التراث اللغوي والثراء التعبيري، وكانت الجاهلية الجهلاء الأولى، وصراع اللهجات العربية بين القبائل في شمال الجزيرة العربية وجنوبها، وشرقها وغربها، والارتحال المتبادل بين هذه القبائل طلباً للمرعى وألكلأ، أو طلباً للتجارة في رحلة الشتاء والصيف، ذخيرة التراث اللغوي الجاهلي وجوهر الأصالة اللغوية.‏

وضَّح الرافعي أهمية القبائل العربية، في هذا الثراء اللغوي، فقال: (14)‏

"لقد كانت القبائل العربية مادة هذه اللغة، وسبب اتساعها واستفاضتها، وكان فحول الشعراء من الجاهلية كأن كل واحد منهم قبيلة في التفنن والإبداع: مجازاً، واستعارة، وبديعاً. ثم جاء القرآن الكريم فكان الغاية كلها، ثم تتابع الشعراء، والكتَّاب، والأدباء، فمن لم يزد منهم على الموجود لم ينقص منه".‏

إن هذا التباين بين لهجات القبائل قبل الإسلام واستمراره حتى بدء الدعوة، هما من شواهد الأصالة التراثية، والعجيب حقاً أن نرى العربي القرشي يفقه سائر لهجات القبائل العربية الأخرى، بحكم عمله التجاري، وقد يجهل بعضهم من غير قريش اللهجات الأخرى. روي عن الرسول الكريم أنه قال لأبي تميمة الهجيمي: "إياك والمخيلة!، فقال: يا رسول الله، نحن قوم عرب، فما المخيلة؟ فقال، عليه الصلاة والسلام: "سبل الأزار"، كما قال له علي (ر) وقد سمعه يخاطب وفد بني فهد: "يا رسول الله، نحن بنو أب واحد، ونراك تكلم وفد العرب بما لا نفهم أكثره، فقال: أدبني ربي فأحسن تأديبي".‏

فلا تستغرب بعد هذا كله إن رأينا الرسول الكريم يخاطب قبائل العرب بلهجاتهم الخاصة بهم.‏

كتب إلى وائل بن حجر الكندي، أحد أقيال حضرموت، الكتاب التالي: "إلى الأقيال (16) العباهلة (17)، والأرواع (18) المشابيب (19)..".‏

وفيه:‏

"وفي التِّيعة (20) شاة، لا مُقورة الألياط (21)، ولا ضناك (22)، وانطوا الثبجة (23)، وفي السيوب (24) الخُمس، ومن زنى مم بكر (25)، فاصقعوه (26) مائة، واستوفضوه (27) عاماً، ومن زنى مم ثيِّب، فضرجوه بالأضاميم (28)، ولا توصيم (29) في الدين، ولا غُمَّة في فرائض الله تعالى، وكل مسكر حرام، ووائل بن حجر يترفل (30) على الأقيال".‏

ولهذا الكتاب روايات أخرى، فيها زيادات غريبة.‏

كما كتب الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم إلى أهل همدان كتاباً آخر يقول فيه: "إن لكم فِراعها (31) ووهاطها (32)، وعزازها (33) تأكلون علافها (34)، وترعون عفاءها (35)، لنا من دفئهم وصِرامهم (36)، ما سلَّموا بالميثاق والأمانة، ولهم من الصدقة الثلب (37)، والناب (38)، والفصيل والفارض (39)، والداجن (40) والكبش الحوَري (41)، وعليهم فيها الصالغ (42)، والقارح (43)".‏

هذان النصان السابقان يمثلان حال اللغة العربية القديمة في مرحلة الأصالة الأولى، وكان لقبيلة قريش الفضل في التوحيد اللغوي قبل الإسلام، لكن ذلك لم يتم بسرعة.‏

والمؤكد لنا أن العامل التجاري كان الأصل، فذلك لأن قبيلة قريش كانت تعمل في التجارة، إيلافهم رحلة الشتاء والصيف، بله لفظ قريش المشتق من التقريش، ومن أبرز معانيها التجارة، ولتجمعهم إلى الحرم، أو لأنهم كانوا يتقرشون البيَّاعات فيشترونها..." (44). وذكر أنها سميت بذلك نسبة إلى "قريش بن مخلد بن غالب بن فهر، وكان صاحب غيرهم، فكانوا يقولون: قدمت عير قريش، وخرجت عير قريش"، والمعروف عن هذه القبيلة المتاجرة أنهم كانوا إذا خرجوا للتجارة علَّقوا عليهم المقل (45) ولحاء الشجر حتى يُعرفوا، فلا يقتلهم أو يتعرض لهم أحد. فلا نستغرب إن رأينا الرسول القرشي يعرف لهجات العرب ويخاطب كل قبيلة بلهجتها الخاصة بها.‏

ومن شواهد الأصالة اللغوية، ومميزاتها ظاهرة الإعراب الموجودة في اللغة كما لاحظنا في شتى اللهجات العربية القديمة، وقد تحدث المستشرق الألماني يوهاز فك عن هذه الظاهرة المميزة مطولاً في كتابه (العربية)، وأشار إلى أنها احتفظت بهذه السمة العريقة، وقال (46): "لقد احتفظت العربية الفصحى، في ظاهرة التصرف الإعرابي، بسمة من أقدم السمات اللغوية التي فقدتها جميع اللغات السامية ـ باستثناء البابلية القديمة ـ قبل عصر نموها وازدهارها الأدبي، وقد احتدم النزاع حول غاية بقاء التصرف الإعرابي في لغة التخاطب الحي".‏

كما تحدث المستشرق الألماني شبيتالر عن العربية الفصحى وعلاقتها باللهجات القبلية المختلفة، وقدرتها على استيعابها وتمثلها واحتفاظها بما تستسيغه من أساليب وتستحسنه من ألفاظها، ومما قاله (47):‏

"وهذه اللغة الفصحى تعد ـ كما يقول (بريتوريوس Pratorius) لغة فنية خالصة، وتعلو بما لها من طبيعة مميزة على كل اللهجات، غير أنها إذ تجري على ألسنة المتحدثين بهذه اللهجات، فإنها لم تخل من تأثير تلك اللهجات فيها باستمرار، ولعلها اختلفت من جهة إلى أخرى تبعاً لذلك، غير أن الجهود المنظمة، والعاملة على طرد القاعدة للغويين المتأخرين استطاعت طمس هذه الاختلافات طمساً تاماً".‏

وإطراد القاعدة هنا إشارة هامة إلى مذهب اللغويين والنحاة المتأخرين، ذلك أنهم آثروا اختيار الوجوه الشائعة الأصيلة في اللغة كما عرفتها العربية في عصر أصالتها من خلال شواهدها الشعرية والقرآنية وخطبها الجاهلية المسجعة..، وقد أشار المستشرق شبيتالر إلى هذه الحقيقة معتمداً على ما أورده الباقلاني في كتابه المعروف بـ (إعجاز القرآن)، ومما قاله (48).‏

"أما هذه العربية نفسها، فهي تلك القديمة الحقيقية التي تعود إلى ما قبل التاريخ، والتي ترفعت عن لهجات الخطاب منذ زمن، ورويت لنا كابراً عن كابر، في نصوص محددة تماماً هي تلك اللغة التي يمكن أن تعرّف بقول الباقلاني: أشعار أهل الجاهلية، وكلام الفصحاء والحكماء من العرب، كلام الكهان وأهل الرجز والسجع وغير ذلك من أنواع بلاغتهم وصنوف فصاحتهم".‏

كما تحدث الأرسوزي عن نشأة اللغة من الطبيعة الخارجية وعلاقتها بالأمة، فقال (49):‏

"إن اللسان العربي، وهو بدائي وعضوي البنيان، يكشف عن صورة الأمة التي أنشأته، ويهدينا إلى شمول الوصفية كافة مظاهرها، إذ كان العرب في جاهليتهم يسمون تقسيمات الزمان بحالات المكان الملتبسة فيها، وبتجليات أمتهم التي يترافق ظهورها تاريخياً معها، فأطلقوا على أيام الأسبوع أسماء: (أول)، (أهون)، (جبار)، (ديَّار)، (مؤنس)، (عروبة)، (تيار) (50)... وكانوا يطلقون في ذلك العهد على شهور السنة الأسماء الآتية: (مؤتمر)، (ناجر)، (خوَّان)، (صوّان)، (رنِّي)، (أثدة)، (عادل)، (ناطل)، (واغل)، (ورنة)، (يوك)."‏

وخلص، بعد استعراضه طائفة أخرى من الألفاظ، إلى أن المجتمع العربي انحدر في اتجاه تلك الشعوب المتجمدة، واستبدل هذه الأسماء بأخرى دخيلة على الذوق العربي، وهي السبت والأحد والاثنين..".‏

يتضح مما تقدم معنا أن التقريش المضري، والقرشية الجاهلية كانا من أهم العوامل في حركة التوحيد اللغوي التلقائي قبل الإسلام، فاكتملت مرحلة الأصالة التراثية، وبدأت بواكير مرحلة النضح والإعجاز اللغوي بظهور الإسلام، وكان القرآن المعجزة الكبرى التي حققها اللسان العربي المبين عبر عصوره المديدة، في قمة عطائه الإنساني، ولذلك عده الأرسوزي أسمى المظاهر التي تجلت فيها وجهة نظر الأمة العربية (52).‏

وهكذا آضت اللغة العربية المضرية، بيد أنها احتفظت بما استساغته من الأنماط التعبيرية، واستعذبته من اللهجات القبلية، كما توضح لنا ذلك في القراءات القرآنية على اختلاف حروفها ووجوهها، فكان الناس يقرؤون في الحجاز بقراءتي نافع وابن كثير، ويقرؤون في الشام بقراءة ابن عامر، ويقرؤون في العراق بقراءات عاصم، وحمزة،.والكسائي، وأبي عمرو.‏

اعتمدت هذه القراءات المأثورة والموثقة، وقد أشار أبو علي الفارسي (المتوفي سنة 377 هـ)، وهو من نحاة البصرة، إلى ذلك في كتاب (الحجة في علل القراءات السبع) فقال (53):‏

"هذا كتاب نذكر فيه وجوه قراءات القراء الذين ثبتت قراءاتهم في كتاب أبي بكر أحمد بن موسى بن العباس بن مجاهد (المتوفى سنة 324 هـ) المترجم بمعرفة قراءات أهل الأمصار والحجاز والعراق والشام).‏

والملاحظ من خلال المسائل التي أوردها وناقشها واحتج لها أنه كان يضع في الحسبان ما يسميه بقياس العربية.‏

قال أبو علي: (54): "ما رواه عن الكسائي في إمالة مثل (الأبرار) و(الأشرار)، ونحو ذلك مما تكرر فيه الراء مستقيم في قياس العربية ظاهر الوجه". وقال أبو علي (55):‏

"وما ذهب إليه الكسائي من ترك الفصل بين الفعل الذي قبله واو أو فاء، وبين ما ليس قبله من ذلك هو الوجه في قياس الرواية.‏

هذا يؤكد أن اللغة العربية كانت تحرص على الأخذ بما تختاره وتجده مستساغاً في قياس العربية، ظاهر الوجه، موثوق الرواية.‏

يضاف إلى أن الاختيار في صناعة اللغة يعتمد على مفاهيم نقدية خاصة توائم أذواق العصر، وتلائم المتطلبات الجديدة، وذلك في حلبة التراث والأصالة. وليس من باب المصادفة أن يضع أحمد بن فارس (المتوفى سنة 395 هـ) كتابيه (الحبير المذهب) و(متخيَّر الألفاظ)، والمتخير مجمل من الحبير. يقول في كتابه الثاني (56): "هذا كتاب (متخير الألفاظ)، مفردها ومركبها، وإنما نحلتُه هذا الاسم لما أودعته من محاسن كلام العرب، ومستعذب ألفاظها، وكريم خطابها، منظوم ذلك ومنثوره، ولم آل جهداً في الانتقاء والانتخاب والتخيُّر.."..‏

وكان اعتماد ابن فارس على نظريته في كلام العرب، "فالكلام ثلاثة أضرب: ضرب يشترك فيه العلية والدون، وضرب هو الوحشي، كان طباع قوم، فذهب استعماله بذهابهم، وبين هذين ضرب لم ينزل نزول الأول، ولا ارتفع ارتفاع الثاني، وهو أحسن الثلاثة في السماع، والذهاب على الأفواه، وأزينها في الخطابة، وأعذبها في القريض، وأدلها على معرفة من يختارها" (57).‏

وخلص ابن فارس بعد هذا التقسيم الثلاثي لضروب الكلام إلى التحدث عن شرائط الإبداع في الأدب من خلال الاختيار اللغوي، فقال (58): "إن أول ما يجب على الكاتب والشاعر اجتباء السهل من الخطاب، واجتناب الموعر منه، والأنس بأنيسه، والتوحش من وحشيه فهذا زمان ذلك".‏

واختتم كلامه بقوله: "ولن يتسنم أحد ذروة البلاغة مع التكلف للفظ الغَلِق، والتطلب للخطاب المستغرب".‏

فساد اللسان العربي‏

يتضح مما تقدم أن اللغة العربية امتدت عبر الأقطار والأصقاع خلال الفتوح العربية وانتشار الإسلام في المشارق والمغارب، وأدى إلى دخول كثير من الأمم في المجتمع العربي، وهذا التلاقي الحضاري في إطار هذا الاتساع الجديد كان عاملاً من العوامل الجوهرية في فساد اللسان العربي والخلل اللغوي الذي تسرب إلى العربية، وهي قمة الإعجاز، ففسدت الملكة العربية نطقاً، وتعبيراً ومنهجاً ومضموناً. ومن هنا تبدأ معركة الفساد والخلل بعد الأصالة والإعجاز في القرن الثالث الهجري.‏

تطرق المستشرق يوهان فك إلى ظهور (العربية الدارجة) وحددها في أواخر القرن الثالث الهجري، فقال (59): "وبهذا توطد تماماً الحد الفاصل بين العربية الفصحى التي صارت منذ ذلك العهد لغة العلم والأدب، والعربية المولدة الدارجة، حوالي نهاية القرن الثالث، حتى في الأوساط المثقفة كذلك".‏

كما عقد المستشرق المذكور فصلاً عن اللحن ومفهومه ومشتقاته، فقال (60): "يتطلب معنى اللحن اللغوي أن يكون الصواب متقدماً عليه، وكلاهما يمكن حصوله وتصوره إذا تجاوز التفكير في اللغة خطوات نشأتها الأولى، بيد أن مثل هذا التفكير والتأمل في نشوء اللغة كان بعيداً كل البعد عن عرب البادية قبل الإسلام".‏

هكذا بدأ اللحن والفساد اللغوي يشيع ويزداد منذ مطلع القرن الرابع الهجري، وتولدت عنه الازدواجية اللغوية، وغدت اللهجات العامية تواجه العربية الفصحى، والملاحظ أنه لم يتيسر لها أن تقف أمامها، ذلك لأن اللغة العامية الدارجة لا تمتلك أصالة الفصحى ومقوماتها التراثية العريقة، ومن الطبيعي أن تتراجع أمامها عبر العصور المديدة.‏

تحدث ابن خلدون عن معنى الفساد في اللسان العربي، فقال (61):‏

"ولهذا كانت لغة قريش أفصح اللغات العربية وأصرحها، لبعدهم عن بلاد العجم من جميع جهاتهم، ثم من اكتنفهم من ثقيف، وهذيل، وخزاعة، وبني كنانة، وغطفان وبني أسد وبني تميم. وأما من بعد عنهم من ربيعة، ولخم، وجذام، وغسان، وإياد وقضاعة، وعرب اليمن المجاورين لأمم الفرس، والروم والحبشة، فلم تكن لغتهم تامة الملكة بمخالطة الأعاجم، وعلى نسبة بعدهم من قريش كان الاحتجاج بلغتهم في الصحة والفساد عند أهل الصناعة العربية..".‏

هذا النص على غاية من الأهمية، فابن خلدون يعتقد أن اللغات كلها ملكات شبيهة بالصناعة، إذ هي ملكات في اللسان للعبارة عن المعاني وجودتها وقصورها بحسب تمام الملكة أو نقصانها (62)، وخلص بعد ذلك إلى لغة قريش المضرية، ووضعها موضعها من الفصاحة، فكانت لغة العالية عند العرب.‏

ـ 2 ـ‏

خصائص وإعجاز‏

يتضح أن العربية ذات خصائص متميزة من القدم والأصالة والاتساع والاشتقاق، ويكفي أن نرجع إلى القسم الثاني من فقه الثعالبي لنجد أنه عقد فصلاً في تبيان خصائص كلام العرب، وبيان أسرار العربية، ومعرفة مجاري كلامها، وهذا الفصل على غاية من الأهمية لأنه يبرز لنا بشكل تطبيقي مشفوع بالشواهد المأثورة دقائق ما في العربية.‏

وليس من باب المصادفة أن يكرر قوله مثلاً (63): "العرب تقدم عليها [أي الكناية"> توسعاً واقتداراً واختصاراً وثقة بفهم المخاطب"، و"العرب تبتدئ بذكر الشيء"، و"العرب تقول"، و"تقول العرب"، و"العرب تفعل ذلك"، و"للعرب كلام تخص به"، و"في خصائص كلام العرب"، و"من سنن العرب" وقد تكررت إحدى وثلاثين مرة، و"العرب تضيف، و"العرب تسمي" و"العرب تزيد". من ذلك قوله:(64) " وللعرب فعل لا يقوله غيرهم." ويكفي أن نقف عند هذا القول تمثيلاً لما قدمنا لنبرز إيمان العرب بخصائص لغتهم :" تقول.. ( عاد فلان شيخاً) وهو لم يكن قط سيخاً وعاد الماء آجناً وهو لم يكن كذلك قال الهذلي:‏

أطعتُ العرِسَ في الشهوات حتى أعادتني أسيفاً عبد غيري‏

ولم يكن قبل أسيفاً حتى يعود إلى تلك الحال، وفي كتاب الله: (يخرجونهم من النور إلى الظلمات)، وهم لم يكونوا في نور من قبل. ومثله قوله، عز وجل: ?ومنكم من يردُّ إلى أرذل العمر?، وهم لم يبلغوا إلى أرذل العمر، فيُردوا إليه".‏

يتضح مما تقدم أن العربية تتميز بوجود خصائص ذاتية في طبيعة بنيتها التكوينية، وقد اصطلح اللغويون على تسمية هذه الخاصة بـ (السنن اللغوي العربي) اعتماداً على ما أورده الثعالبي من الاقتدار والتوسع والاختصار والثقة بفهم المخاطب.‏

يمكننا بعد أن توضحت لنا هذه النظرية العربية في السنن اللغوي أن نقرأ أنه المعجزة الكبرى في اللسان العربي المبين، ذلك لأنه سر وجود الأمة العربية، وسر خلودها الكبرى في اللسان العربي المبين، وجود الأمة العربية، وسر خلودها الحضاري، وإعجاز القرآن العربي، هو آية الإعجاز الكبرى الكامنة في إعجازها اللغوي.‏

يقول الإمام على (ر) في خطبة له، (66): "وإن الله، سبحانه، لم يعظ أحداً بمثل هذا القرآن، فإنه حبل الله المتين، وسببه الأمين، وفيه ربيع القلب، وينابيع العلم، وما للقلب جلاء غيره..".‏

هذا النص لعلي على غاية من الأهمية، ذلك لأنه يبرز لنا المفهوم اللغوي للغة القرآن، وأضاف إلى التعريفات السابقة لدى اللغويين واللسانيين المفهوم الاصطلاحي مقترناً بالمفهوم الذاتي والوجداني والإنساني.‏

الإعجاز اللغوي‏

الملاحظ أن تقديس العرب للغتهم إقرار بالمعجزة اللغوية، وهذا الإعجاز سر من أسرارها، والقرآن، بلا ريب، آية هذا الإعجاز، ولو أننا استعرضنا لغات العالم جميعاً، وما طرأ عليها من تطور وتبدل لأدركنا أن العربية تجاوزت هذه المراحل، بسبب سبقها التكويني والحضاري، حتى استقامت على هذا النمط، لتكون "رمزاً لغوياً لوحدة عالم الإسلام في الثقافة والمدنية" (67).‏

ورب قائل يقول: "إن عدم التطور هو الجمود، وعدم القدرة على الاستجابة لمتطلبات الحياة، وهذا القول حجة على من لم يطَّلع على سر أعجازها وعبقريتها. كما أن طبيعة التطور كامن في بنيتها التكوينية، فهي تتطور تطوراً داخلياً ذاتياً، ذلك لأنها تستطيع التكيف لكل متطلبات الحياة والعلم والفكر بما تمتلكه من الاشتقاقات والأوزان والأنماط الخاصة بها، وهي ذات طابع عام يستوعب كل طارئ، وكل مستحدث مبتكر، شأنها في ذلك شأن الماء الراكد الساكن، لكن ركود الماء وسكونه لا ينفي وجود التيارات الداخلية فيه، ولا تنعدم في أعماقه التفاعلات الحياتية.‏

يضاف إلى ذلك أن اللغويين العرب يرون أن الاهتمام باللسان العربي واجب مقدس تحتمه الواجبات القومية والدينية، ذلك أن "من أحب الله أحب رسوله..، ومن أحب النبي العربي، أحب العرب، ومن أحب العربي، أحب اللغة العربية، وعني بها وثابر عليها، وصرف همته إليها" كما يقول الثعالبي (68).‏

ولم يقتصر على ما ذكرناه، وإنما أبرز لنا وظائفها مستطرداً ذاكراً أنها "أداة العلم، ومفتاح التفقه في الدين، وسبب إصلاح المعاش والمعاد، ثم هي لإحراز الفضائل، والاحتواء على المروءة وسائر أنواع المناقب كالينبوع للماء والزند للنار ولم يكن في الإحاطة بخصائصها، والوقوف على مجاريها ومصارفها، والتبحر في جلائلها ودقائقها، إلا قوة اليقين في معرفة إعجاز القرآن، وزيادة البصيرة في إثبات النبوة الذي هو عمدة الإيمان، لكفى بهما فضلاً يحسن أثره، ويطيب في الدارين ثمره..." (69).‏

وقرن الأمة باللغة، فقال (70) "والعرب خير الأمم، والعربية خير اللغات والألسنة".‏

المنهج اللغوي العربي‏

يجب ألا يغيب عن أذهاننا أن صفة التقديس والإعجاز لم تمنع اللغويين من النظر في بنية اللغة تهذيباً وتثقيفاً وتشذيباً واختباراً، وتبيان ما هو صالح مقبول، وما هو وحشي مستكره، وهذا الجانب على غاية من الأهمية، ذلك لأنه يبعد عنها سمة الجمود، وتبقى بذلك حية في الفكر وعلى اللسان، وهذا يؤكد ما ذكرته من طبيعة التطور الداخلي.‏

إن الملاحظ أنه ما استشرى الفساد اللغوي في اللسان العربي، في أي عصر من عصوره، إلا تصدى لتلافيه ورأب صدعه كبار العلماء والأدباء والمفكرين على اختلاف نزعاتهم، وإصلاح الخلل الطارئ، واللحن الفاشي، وهذا ـ في اعتقادنا ـ عام حاسم أسهم بشكله الفعال في حفظ اللغة، كما أنها ـ بطبيعة الحال ـ تمتلك التفاعل الذاتي والحركة النبيوية، مما يساعدها على تطورها وتكيفها، وفي هذين الأمرين سر خلودها وبقائها.‏

أكد هذا المعنى الزمخشري في خطبة أساسه، واستطرد بعد حديثه عن "النبي العربي المفضل باللسان، الذي استخزنه الله الفصاحة، والبيان" فقال (71).‏

"من كانت مطامح نظره، ومطارح فكره الجهات التي توصل إلى تبين مراسم البلغاء، والعثور على مناظم الفصحاء، والمخايرة بين متداولات ألفاظهم، ومتعاورات أقوالهم، والمغايرة بين ما انتقوا منها وانتخلوا، وما انتفوا عنه فلم يتقبلوا، وما استركُّوا واستنزلوا، وما استفضحوا واستجزلوا، والنظر فيما كان الناظر فيه على وجوه الإعجاز أوقفَ، وبأسراره ولطائفه أعرفَ، حتى يكون صدر يقينه أثلج، وسهم احتجاجه أفلج، وحتى يقال: (هو من علم البيان حظيٌ، وفهمه فيه جاحظيٌ).."‏

يؤكد رأي الزمخشري، وهو من مخضرمي القرنين الخامس والسادس الهجريين، أن اللغويين واللسانيين العرب كانوا ذوي طبع متحرر مرن، يأخذون بالسائد الشائع على رأي الجمهور، ضمن هذا المنهج اللغوي العربي، فلم يجمدوا عند المأثور والمنقول من وجوه اللغة، ولم تمنعهم آيات الإعجاز، وإنما رأيناهم يتمثلون البلاغة اللغوية، فيضعون لها أسسها الجديدة تدعيماً، متابعين سنة التطور اللغوي الذاتي، وهذا الأمر يتجاهله أرباب الحداثة من دعاة العامية، فينعتون العربية بالعقم والجمود، لأنها ـ في اعتقادهم ـ لا تستجيب لمتطلبات المجتمع العربي.‏

إن الزمخشري وهو من المولدين المتأخرين، كان صاحب نظر لغوي ثاقب، فلم يمنعه تأخره الزمني عن إدراك الحاجة إلى تدبر اللغة، وضرورة الانتقال من التراث المأثور إلى الاصطلاحات المستجدة، وإقامة الربط بين الحقيقة والمجاز، والطبيعة والبلاغة، والأصالة والإعجاز، فقدم بذلك عملاً لغوياً جباراً، وقد أبرز أهمية عمله اللغوي بقوله (72):‏

"وهو كتاب.. فُلِيَت (73) له العربية، وما فصح من لغاتها، وملح من بلاغاتها، وما سمع من الأعراب في بواديها، ومن خطباء الحلل في نواديها، ومن قراضبة (74) نجد في أكلائها ومراتعها، ومن سماسرة تهامة في أسواقها ومجامعها..".‏

وواضح من قوله في خطبته أنه يؤمن بالتطور وجمع اللغة من مختلف مصادرها، بعد خمسة قرون تقريباً من نزول القرآن، ويمكن أن نجمل منهج الزمخشري بالخصائص التالية:‏

أولها: الاختيار مما وقع في عبارات المدعين، وانطوى تحت استعمالات المفلقين، أو ما جاز وقوعه فيها، وانطواؤه تحتها.‏

ثانيها: التوقيف على مناهج التركيب والتأليف، وتعريف مدارج الترتيب والترصيف، بسوق الكلمات المتناسقة، والاستكثار من كلم النوابغ.‏

ثالثها: تأسيس قوانين فصل الخطاب، والكلام الفصيح بإفراد المجاز عن الحقيقة، والكناية عن التصريح.‏

واختتم الزمخشري منهجه بقوله: "فمن حصَّل هذه الخصائص، وكان له حظ من الإعراب الذي هو ميزان أوضاع العربية ومقياس...، وأصاب ذرواً (75) من علم المعاني، وحظي برشَ من علم البيان، وكانت له قبل ذلك كله قريحة صحيحة، وسليقة سليمة، فحل نثره، وجزل شعره، ولم يطل عليه أن يناهز المقدَّمين"...‏

والملاحظ أن الزمخشري يتبنى الإقرار بالتطور الذاتي، ويؤمن ببلوغ الإبداع والابتكار في كل زمان ومكان، وليس ذلك مقصوراً على القدماء السابقين، أو على عصر الاحتجاج، وإنما نراه يحث ويشجع على ذلك، ويشترط لأجل ذلك بعض الشروط التي ذكرناها من قبل، ويمكن لكل من فقه سر العربية أن يتفق على السابقين المتقدمين.‏

ولابد لنا، بالإضافة لما تقدم، من بحث الآثار اللغوية المتمثلة في الاتساع والشمولية في هذا الدفق اللغوي الجديد بعد اتساع الفتوح شرقاً وغرباً فكثرت المترادفات وفشا اللحن بسبب ترك الإعراب، وأدى ذلك بالتالي إلى فساد اللسان العربي .‏

اهتم الجاحظ بهذه الظاهرة ولعلها كانت مظهراً من مظاهر الشعوبية اللغوية في عصر، إن صح التعبير. ففي حديثه العابر عن لثغة واصل بن عطاء، ذكر أنه "كان إذا أراد أن يذكر (البر) قال: (القمح)، أو (الحنطة)، والحنطة لغة كوفية، والقمح لغة شامية"... (76).‏

واستطرد بعد ذلك، فتحدث عن الفصحى، والجاري في اللغة على أفواه العامة، وذكر أن أهل الأمصار إنما يتكلمون على لغة النازلة فيهم من العرب، ولذلك تجد الاختلاف في ألفاظ من ألفاظ أهل الكوفة والبصرة والشام ومصر (77) وخلص إلى القول متحدثاً عن الفصحى والجاري من اللغة على أفواه العامة (78):‏

"وقد يستخف الناس ألفاظاً ويستعملونها، وغيرها أحق بذلك منها، ألا ترى أن الله، تبارك وتعالى، لم يذكر في القرآن (الجوع) ألا في موضع العقاب، أو في موضع الفقر المدقع، والعجز الظاهر، والناس لا يذكرون (السغب) ويذكرون (الجوع) في حال القدرة والسلامة...".‏

كما أورد ذكر (المطر)، وأشار إلى أن القرآن لا يلفظ به إلا في موضع الانتقام، والعامة وأكثر الخاصة لا يفصلون بين ذكر (المطر) وذكر (الغيث)، وذكر (الأبصار)، و(الأسماع)، و(السموات) و(الأرضين)، وقال: "والجاري على أفواه العامة غير ذلك، لا يتفقدون من الألفاظ ما هو أحق بالذكر. وأولى بالاستعمال...، والعامة ربما استخفت أقل اللغتين وأضعفها، وتستعمل ما هو أقل في أصل اللغة استعمالاً، وتدع ما هو أظهر وأكثر..".‏

هذه هي بواكير فساد اللسان العربي، وظواهر اللحن اللغوي، كما لاحظها الجاحظ، وأدى هذا التطور الطارئ: من استخدام العامة الألفاظ في ما وضعت له، وإهمال الإعراب والحركات، إلى فشوّ الخلل اللغوي في اللسان العربي. كما أشار إلى أن هذا التداخل كان قديماً جداً قبل الإسلام، فقال (79): "ألا ترى أن أهل المدينة لما نزل فيهم ناس من الفرس في قديم الدهر علقوا بألفاظ من ألفاظهم...". ثم استطرد: "ولو علق لغة أهل البصرة إذ نزلوا بأدنى بلاد فارس، وأقصى بلاد العرب كان ذلك أشبه، إذ كان أهل الكوفة قد نزلوا بأدنى بلاد النبط، وأقصى بلاد العرب".‏

فلا غرابة بعد ذلك كله، إن رأينا تقويم أهل مكة للغة أهل البصرة كما في الخبر الذي رواه الجاحظ في أبي سعيد (80).‏

"قال أهل مكة لمحمد بن المناذر الشاعر: ليست لكم، معاشر أهل البصرة، لغة فصيحة، إنما الفصاحة لنا أهل مكة، فقال ابن المناذر: أما ألفاظنا فأحكى الألفاظ للقرآن، وأكثرها له موافقة، فضعوا القرآن بعد هذا حيث شئتم"...‏

أمران لابد لنا من تبيانهما من خلال أقوال الجاحظ: أولهما إشارته إلى اللغة العربية (في قديم الدهر) وصراعها مع اللغات الأخرى، وثانيهما أن كل قبيلة كانت تضع في الحسبان لغة القرآن، وأنها أقرب ما تكون إليه، وأن التقويم اللغوي أصبح يعتمد على الموازين القرآنية، بعداً أو قرباً.‏

وإذا كان الأمر على هذه الحال بين أهل مكة وأهل البصرة، فهذا شامل كل مكان بلغته اللغة العربية، ولذلك كان لابد للجاحظ وغيره من المفكرين واللغويين من السعي لسلوك طريق يحفظ للعربية تراثها وأصالتها وسلامتها، ويبعد عنها عوامل فشو اللحن والفساد اللغوي.‏

التربية اللغوية‏

هكذا اهتم الجاحظ بأمر اللحن والفساد، فاتجه إلى بعث الأصالة العربية، وذلك بالاعتماد على التربية اللغوية لأهميتها في تقويم اللسان العربي وصونه من طوارئ الدخيل، فقال (81):‏

"وكانوا يروون صبيانهم الأرجاز، ويعلمونهم المناقلات، ويأمرونهم برفع الصوت وتحقيق الإعراب، لأن ذلك يفتِّق اللهاة، ويفتح الجرم (82)، واللسان إذا أكثرت تقليبه رق ولان، وإذا أطلت إسكانه جسأً (83) وغلظ".‏

كان الجاحظ يهدف في هذا المنهج اللغوي التربوي تأثيل الأصالة التراثية في النطق العربي، ذلك لأنها ترسخ أدوات اللغة، وتجنب المتحدث أساليب العامة في أخذ الضعيف، وتبنى الدخيل، بالإضافة إلى استساغة اللحن الذي يزيد في طغيان الفساد اللغوي بين الناس.‏

ومن المؤكد في نظرنا أن الجاحظ قد وضع كتابه الجامع (البيان والتبيين) لكي يكون تثقيفاً للسان العربي، وإبعاده عن عيوب النطق من الحصر والعي وغيرهما، بالإضافة إلى منع تسرب الفساد الطارئ بحكم التفاعلات اللغوية الدخيلة.‏

كما تعرّض الأرسوزي للانحرافات العامية القديمة كالعلاقة بين الصيغ المثالية والانحرافات التي تعتريها على اعتبار أن اللغة العربية هي الأصل واللغات السامية الأخرى انحرافات مختلفة في أشكال عامية موغلة في قدمها (84) هذا يعني أن الأرسوزي يعتقد أن اللغات السامية الأخرى هي انحرافات عامية قديمة السامية الأخرى، وذلك في حديثه عن علاقة اللغة ذات الأصول في الطبيعة باللغات السامة الأخرى هي جداً، وبتعبير آخر إنها تطورات عامية منذ أقدم العصور للغة العربية الأصل، فهو إذاً ينفي اللغات السامية ليقول بالأصل الواحد وهو اللغة العربية الأم، وبدعة اللغات السامية بدعة استشراقية محدثة.‏

ابن خلدون واللسان العربي‏

تطورت اللغة بعد العصور العباسية، واتسع مفهومها، وتعددت علومها، فسماها ابن خلدون (علوم اللسان العربي)، وجعل أركانه أربعة، وهي اللغة والنحو والبيان والأدب، وذكر أن معرفتها ضرورية لكل إنسان ومتأدب دفعاً لفساد اللسان، وهو يرى أن "علم النحو أهم من اللغة" لأنه الوسيلة، وهي الهدف، ومن المهم أن نوضح آراءه لأنها تمثل المرحلة الانتقالية من الأصالة والإعجاز إلى الحداثة والخلل.‏

وضَّح ابن خلدون أهمية علم النحو، وأبرز مميزاته التي لا نجدها في لغة أخرى، ومما قاله (85):‏

"إن اللغة في المتعارف هي عبارة المتكلم عن مقصوده، وتلك العبارة فعل لساني، فلابد أن تصير ملكة متقررة في العضو الفاعل لها وهو اللسان، وهو في كل أمة بحسب اصطلاحاتهم، وكانت الملكة الحاصلة للعرب من ذلك أحسن الملكات وأوضحها، إبانة عن المقاصد لدلالة غير الكلمات فيها على كثير من المعاني من المجرور، أعني المضاف، ومثل الحروف التي تفضي بالأفعال إلى الذوات من غير تكلف ألفاظ أخرى. وليس يوجد إلا في لغة العرب".‏

ولاشك أن ملاحظته الدقيقة هذه في إبراز بعض خصائص اللغة التي لا نجدها في غير لغة العرب، وإشارته إلى استخدام الأفعال وتغير مقاصدها بإدخال الحروف عليها، مما يؤكد أهمية هذه الصفة المعروفة في أساليب اللغة العربية، وأذكر أن عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين عرض لذلك في حديثه عن الأسلوب العربي وأهمية استخدام الحروف الداخلة على الأفعال تعدية أو تبيان مقاصد الأفعال وتحدث عن علم اللغة فعرّفه بقوله (86):‏

"هو بيان الموضوعات اللغوية، وذلك أنه لما فسدت ملكة اللسان العربي في الحركات المسماة عند أهل النحو بالإعراب، استنبطت القوانين لحفظها.. ثم استمر ذلك الفساد بملابسة العجم ومخالطتهم، حتى تأدى الفساد إلى موضوعات الألفاظ، فاستعمل كثير من كلام العرب في غير موضوعه عندهم، ميلاً مع هجنة المستعربين في اصطلاحاتهم المخالفة لصريح العربية..".‏

كان ابن خلدون على بينة من فشو العامية المخالفة لصريح العربية، ولم يكتف بذلك، وإنما حاول أن يقدم لنا آراءه في رأب هذا الصدع، وعقد لذلك فصلاً في تعليم اللسان المضري. كما أشار إلى الأمر نفسه في حديثه عن علم الأدب، فقال (87):‏

"هذا العلم لا موضوع له، يُنظر في إثبات عوارضه أو نفيها، وإنما المقصود منه عند أهل اللسان ثمرته في فنَّي المنظوم والمنثور على أساليب العرب".‏

وتحدث ثانية عن فساد اللسان العربي، ووضح عوامله، وظهور اللحن، وضعف الأصالة، ثم عقد فصلاً خاصاً بذلك، ذكر فيه أن "اللغات كلها ملكات شبيهة بالصناعة، إذ هي ملكات في اللسان للعبارة عن المعاني وجودتها وقصورها، بحسب تمام الملكة أو نقصانها" (88).‏

واستطرد بعد ذلك إلى نظريته في فساد اللسان العربي بسبب فساد الملكة العربية لمخالطة الأعاجم من الأمم، فقال (89): "وهذا هو معنى ما تقوله العامة من أن اللغة للعرب بالطبع، أي بالملكة الأولى التي أخذت عنهم،ولم يأخذوه عن غيرهم، ثم أنه فسدت هذه الملكة لمضر بمخالطتهم الأعاجم، وسبب فسادها أن الناشئ من الجيل صار يسمع في العبارة عن المقاصد كيفيات أخرى غير الكيفيات التي كانت للعرب... فاختلط عليه الأمر، وأخذ من هذه وهذه، فاستحدث ملكة، وكانت ناقصة عن الأولى، وهذا معنى فساد اللسان العربي".‏

والأخطر من هذا كله اعتقاده أن لغة العرب في عصره كادت تصبح لغة أخرى لما وجده فيها من اللحن والفساد، وخلص إلى القول (90):‏

"وإنما وقعت العناية بلسان مضر لما فسد بمخالطتهم الأعاجم حين استولوا على ممالك العراق والشام ومصر والمغرب، وصارت ملكته على غير الصورة التي كانت أولاً فانقلب لغة أخرى".‏

ولكن العربية بقيت تحفظ أصالتها اعتماداً على المأثور من القرآن والحديث والتراث، ولم تكن العامية لتستطيع إفساد ذلك فاحتفظت اللغة بقدسيتها، وآية ذلك كله طبيعتها الذاتية في بنيتها التكوينية.‏

فلا نستغرب أن رأينا ابن خلدون يعقد لها فصلاً خاصاً بها، ذكر فيه أن لغة أهل الحضر والأمصار لغة قائمة بنفسها، وهي مخالفة للغة مضر. يقول (91):‏

"إن عرف التخاطب في الأمصار وبين الحضر ليس بلغة مضَر القديمة، ولا بلغة أهل الجيل، بل هي لغة أخرى قائمة بنفسها، بعيدة عن لغة مضر، وعن لغة هذا الجيل العربي الذي لعهدنا، وهي عن لغة مضر أبعد، فأما أنها لغة قائمة بنفسها، فهو ظاهر يشهد له ما فيها من التغاير الذي يعد عند صناعة أهل النحو لحناً، وهي مع ذلك تختلف باختلاف الأمصار في اصطلاحاتهم، فلغة أهل المشرق مباينة بعض الشيء للغة أهل المغرب، وكذا أهل الأندلس معهما، وكل منهم يتوصل بلغته إلى تأدية مقصوده والإبانة عما في نفسه".‏

تلك هي حال اللغة العربية في عصر ابن خلدون، ولكن هذا لم يمنع العلماء من تبيان عوامل هذا الفساد، وخاصة النحاة منهم، فقد أبدى ضيقه من تشددهم في هذا المضمار، ويبدو أنه لم يكن على وفاق معهم.‏

كما ارتأى ضرورة الاهتمام بتعلم اللسان المضري، أبرز طرائق هذا التعليم لتأصيل الملكة المضرية، وذلك عن طريق استظهار النصوص العربية الأصيلة المأثورة والمنقولة من القرآن الكريم والحديث الشريف، وكلام السلف، ومخاطبات الفحول العرب في أشعارهم وأسجاعهم، وكان يشفعها بالنصوص الجيدة من إنشاء المولدين والمتأخرين والمحدثين، واشترط لقبولهم الالتزام بالأصول العربية في اللغة الفصحى، والتقييد بأساليب وطرائقها واشتقاقاتها.‏

ـ 3 ـ‏

موقف الحداثة من الفصحى والعامية‏

لابد من الإشارة إلى أنه لا انفصام بين القديم والجديد، فالعروة الوثقى تجمعهما، وهذا ما أشار إليه القدماء من النقاد، فقد ذكر ابن حجة (92): "ليعلم من تنزه في هذه الحدائق الزاهرة أن ما ربيع الآخر من ربيع الأول ببعيد، وإذا تحقق أن لكل زمان بديعاً تمتع بلذة الجديد".‏

لا انفصام إذاً بين شهر وشهر، وعام وعام، وزمن وزمن، فلكل قديم جديد، ولا يتكون الجديد إلا من القديم، وعلى هذا المفهوم نستطيع فهم قول أمين الخولي: "قتل القديم فهماً أول كل جديد".‏

ومن هذا المنطلق التطوري نستطيع مناقشة مفهوم الحداثة، فهي متجددة في كل عصر بالضرورة الجدلية المسيطرة على كل مظاهر الحياة والفكر الإنساني.‏

نخلص إلى القول: إن مفهوم الحداثة لا يعني قصداً وبالضرورة الحرب على التراث والثورة على كل تليد، بيد أننا نلاحظ في خضم الحداثة تيارين متعارضين في إطار اللغة:‏

أولهما: الحداثة الإيجابية، وتتمثل في العربية الفصحى.‏

ثانيهما: الحداثة السلبية، وتتمثل في العامية الدارجة.‏

إن هموم العربية اليوم هي ذات الهموم التي بحثناها من قبل، فهناك في المشرق والمغرب على السواء نزعات مختلفة من العاميات الدارجة واللهجات المحلية الموجودة في مختلف الأصقاع العربية، بيد أن الفرق بين الحاضر والماضي أن السابقين الماضين لم يتبنوا الشعوبية العامية لتصبح لغة منفصلة في كل قطر على حدة.‏

أما دعاة هؤلاء الشعوبية الجديدة فهم يختلفون بين معتدل ومتطرف، بعضهم من موضع المسؤولية الفكرية، منهم أحمد لطفي السيد، وسعيد عقل، والأب مارون غصن، ويوسف الخال، وشعراء الزجل بشكل عام، وعلى رأسهم ميشال طراد، ومؤيدو الأدب الشعبي، وعلى رأسهم الدكتور عبد الحميد يونس، وعبد الرحمن بشناق.‏

كما وضحنا أن تيار العامية الذي توضحت بواكيره في مطلع هذا القرن قد عارضه تيار عربي أشد منه وأقوى، وذلك بظهور الأعلام الكبار من المصلحين الذين كانوا ينادون بالإصلاح السياسي والاجتماعي والديني، واقترن الفكر القومي باللغة العربية الفصحى.‏

من هؤلاء المصلحين الذين جعلوا العربية الدعامة الأساسية لبناء المجتمع العربي والإسلامي، محمد بن عبد الوهاب، وجمال الدين الأفغاني، والسيد أمير علي، وخير الدين باشا التونسي، وعلي باشا المبارك، وعبد الرحمن الكواكبي، والشيخ محمد عبده، وتكلل جهد هؤلاء المصلحين في هذا العصر بظهور كثير من العلماء واللغويين والأدباء الذين تصدوا للشعوبية الجديدة في الطعن على اللغة العربية ونعتها بالجمود، والمناداة بتقبل العامية كظاهرة واقعية موجودة في الحياة الاجتماعية، والمناداة بتقبل العامية ومؤاخاتها لتكون على قدم المساواة مع العربية الفصحى.‏

تمثل لنا ذلك كله في مصر والشام معاً في وقت واحد ومنطلق واحد، وتكمن وراءه عوامل خارجية لتمزيق الأمة العربية في هذه المرحلة الخطيرة من تطوراتها السياسية والاجتماعية والحضارية.‏

لقد ناضل الغيورون على الفصحى نضالاً جباراً، وتصدوا لظاهرة الدعوة إلى استقلال كل قطر بلغته العامية، فتساءل الرافعي قائلاً (93): "من ذا الذي يرضى أن يجعل لكل أرض عربية لغة عربية قائمة بنفسها، ولكل مصر أدباً على حياله، ولكل طائفة من الكتَّاب كتابه وحدها؟! ومن ذا الذي فعل ذلك أو حاوله في التاريخ الإسلامي كله على طول ما امتد وتساوق؟!".‏

والملاحظ أن دعاة المؤاخاة اللغوية والازدواجية العامية كانوا من ذوي المكانة الهامة في المؤسسات الثقافية المصرية، نخص بالذكر منهم أحمد لطفي السيد باشا. وكان مديراً للجامعة المصرية، ورئيساً لمجمع اللغة العربية في القاهرة آنئذ.‏

اعتمد في آرائه على تبني تمصير اللغة العربية، فتصبح مصرية متميزة، وذلك عن طريق تبني العامية المصرية. وصف الرافعي ذلك في مقالة له نشرت سنة 1912 في مجلة (البيان) بعنوان (تمصير اللغة) (94):‏

"نريد بهذا التمصير ما ذهبت إليه أوهام قوم فضلاء يرون أن تكون هذه اللغة التي استُحفظوا عليها مصرية بعد أن كانت مضرية".‏

والمعروف أنه كان يقول بالإصلاح بين العامية والفصحى على طريقة تجعل هذه تغتمر تلك، وتحيلها إليها (95)، وكان "يرى أخذ أسماء المستحدثات من اللغة اليومية، وأمرارها على الأوزان العربية بقدر الإمكان، فإن لم يكن لها ثمة أسماء، فمن معاجم اللغة وكتب العلم... فإن لم يصب ذلك في هذه أيضاً، وضع لها الواضع ما شاء".‏

واستطرد فقال:‏

"وأن في استعمال مفردات العامة وتركيبها إحياء للغة الكلام، والباسها لباس الفصاحة، إذ يكون من ذلك رفع هذه اللغة إلى الاستعمال الكتابي، والنزول من اللغة المكتوبة إلى التخاطب والتعامل".‏

وأخطر ما في هذه الآراء دعوته إلى تبنى مفردات العامة وأساليبها، وجعلها بمنزلة اللغة الفصيحة، إحياء لها، فنهبط بالفصحى، ونرفع العامية. والغريب بعد هذا كله أنه يستدرك زاعماً أنه يريد أن يرضى لغة القرآن، فينادي بالصلح بين العامية والعربية، وإنهاء هذه الحرب اللغوية (96):‏

"إذا أردنا الصلح بين اللغتين، فأقرب الطرق لهذا الصلح أن نتذرع إلى إحياء العربية باستعمال العامية، ومتى استعملناها في الكتابة اضطررنا إلى تخليصها من الضعف، وجعلنا العامة يتابعون الكتَّاب في كتاباتهم."‏

إن هذا الصلح المقترح غريب كل الغرابة، فهو ينادي داعياً إلى تبني العامية واستخدامها في الكتابة، وذلك سعياً وراء إحياء العربية بمؤاخاة العامية، وهذا مخالف لأبسط القواعد المنطقية.‏

عاصر الرافعي هذه الأحداث كلها، ونشر عدة مقالات، منها مقالة في مجلة البيان سنة 1911 بعنوان (الرأي العامي في العربية الفصحى)، ومما قاله في وصف حال اللغة وإهمالها (97): "لقد أهملنا اللغة ثم أهملناها حتى صارت معنا إلى حال من الجفوة جعلتها كالواغلة علينا، والغريبة من نقص فهمنا فيها بحيث نضطر إلى التماس شيء غيرها نفهمه، فصار إصلاح اللغة كأنه دربة لإفسادنا وإفسادها، فيما نتوهم دربة لإصلاحنا".‏

كان الهدف من ذلك كله تمصير اللغة العربية في أرض الكنانة، وذلك لكي تطبق النظرية العرقية الفرعونية التي ظهرت في مصر، وهي تحت نير الاحتلال، لعزلها عن الأمة العربية.‏

كما تصدى الرافعي أكثر من مرة، وفي أكثر من مقالة، يدافع عن العربية إيماناً منه أنها تستهدف الجملة القرآنية، ووقف إلى جانبه الأمير شكيب أرسلان، فنشر مقالة سنة 1025 في مجلة الزهراء بعنوان (ما وراء الأكمة)، وخاطبه في ختام مقالته بقوله (98):‏

"فأما الفئام الأخرى ممن عجز عن الفصيح فأبغضه، وممن يستأنس بالركيك، لأنه هو الشيء الوحيد الذي يقدر عليه، فهذه خطبها يسير، وقلعتها أوهى من أن يحمل...عليها".‏

لقد ارتبطت اللغة بالأمة والقرآن، ومن خلال هذا المنطلق يمكن أن نفسر كثيراً من التيارات المؤيدة أو المعترضة على اللغة الفصحى. يقول الرافعي (99): "إنما اللغة مظهر من مظاهر التاريخ، والتاريخ صفة الأمة، والأمة تكاد تكون صفة لغتها لأنها حاجتها الطبيعية التي لا تنفك عنها، ولا قوام لها بغيرها... وإن في العربية سراً خالداً هو هذا الكتاب المبين القرآن الذي يجب أن يؤدى على وجهه العربي الصريح، ويحكم منطقاً وإعراباً.."‏

ثم خلص إلى القول (100): "إنما القرآن جنسية لغوية تجمع أطراف النسبة إلى العربية، فلا يزال أهله مستعربين به متميزين بهذه الجنسية حقيقة أو حكماً.. ولولا هذه العربية التي حفظها القرآن على الناس، وردها إليهم، وأوجبها عليهم،... لما تماسكت أجزاء هذه الأمة..".‏

ولم ينس خلال ذلك أن يندد بهؤلاء الداعين لذلك بقوله (101): "وهم إنما خلطوا عملاً صالحاً، وآخر سيئاً، وإنما يؤتون من حساب العربية الفصحى لغة أثرية، لا تمادّ الزمن، ولا تشايع روح التاريخ... وهذا، ولا جرم، ضرب من الجهل العلمي، ولو هم فقهوا سر العربية، ووقفوا على طرق تركيبها، وجاذبوا من أزمَّتها، وصرّفوا من أعنتها واكتنهوا محاسنها الفطرية التي خرجت بها من ثلاثمائة تركيب إلى ثمانين ألف مادة.. لعرفوا كيف يتسببون للإصلاح اللغوي الذي ينشدونه، وكيف يكشفون لفظ الإصلاح عن معنى غير فاسد كما ذهبوا إليه..".‏

ظهر في بلاد الشام المجمع العلمي العربي، وكان الهدف من إنشائه الاهتمام باللغة العربية وبعث تراثها القومي، وذلك منذ الربع الأول من هذا القرن، ولا شك في أن علماء الشام أسهموا بشكل فعال في اليقظة العربية، وإحياء لغة العرب، ولاشك في أن بلاد الشام لم تشهد في هذه المرحلة حرباً لغوية كما حدث في مصر في الفترة نفسها، وربما كان لهؤلاء العلماء أكبر الأثر في تأثيل العربية.‏

ويمضي الجيل الأول من علماء المجمع العلمي العربي، ويأتي الجيل الثاني، ومن هؤلاء العالمان اللغويان: عبد الله العلايلي، وزكي الأرسوزي.‏

أصدر العلايلي كتابة (مقدمة لدرس لغة العرب) 1938، أي قبل نصف قرن من الزمن تقريباً، وقد أشار فيه إلى أهمية اللغة العربية أصالة ومنهجاً ومستقبلاً، وأنها لغة تطورية، بمعنى أنها ترافق الحياة من ألف ماضيها إلى ياء مستقبلها، وفي قدرتها الاشتقاقية سر من أسرار هذا التطور، وفي تهذيبها المحدث للدكتور أسعد علي اقتراحات لفقه لغة تطوري يجمع أصالة العربية وتفتحات الألسنيات الحديثة، ويمكن الإطلاع على خلاصة هذه الآراء في المقدمة وتهذيبها في الفصل الختامي للتهذيب (نقد فقه اللغة) (102). والملاحظ أنه خصص الباب الثاني بكامله للتحدث عن (معقول العرب ومستقبل العربية) (103)، والباب الثالث بعنوان (داء العربية ودواؤها) (104).‏

وقد أبرز العلايلي الخطر الذي يتهدد مستقبل اللغة، وعد اللغويين مسؤولين عن مستقبل التطور اللغوي، ويقع ذلك على كاهلهم وحدهم، ومما قاله:‏

"ولقد آن أن نأخذ بمذهب الجد، وإلا وضعنا العربية في موضع قلق، لا يتسع لها، ولا تقوم فيه. ونحن إذا كنا نجد من مثقفة الجيل تريثاً وانتظاراً للنتائج التي ضمنتها لهم الجامع، فإن ناشئة الجيل سيلقون بكل ذلك، حيث لا يركنون إليه، ولا يأبهون، وسيقدمون على مقدم خطر جداً، يعرّض العربية للتلاشي السريع، أو للانقلاب المطلق الذي يجعل منها لغتين: لغة القرآن، ولغة تبتدئ في حدود القرن العشرين تتفاوت كلتاهما تفاوتاً ويكون لا أقل في أساليبه ومفرداته من اللاتينية والفرنسية".‏

وفي اعتقادي أن العلايلي كان هنا متشائماً في تصوره لواقع اللغة العربية، وذلك لأننا لسنا أمام لغتين، كما يخيل إليه بالنسبة لمستقبل اللغة العربية، ولسنا نخاف عليها من طوارق الأحداث المستقبلية، ذلك لأنها استطاعت أن تروض ما اعترضها مما هو أشد خطراً من ذلك. يؤيد ما أذهب إليه قول المستشرق جاك بيرك. صاحب كتاب (العرب من الأمس إلى الغد) (105):‏

"إن العرب، في ظل الاستعمار لجؤوا لحماية هويتهم وأصالتهم إلى اللغة العربية، أو بالحري إلى اللغة العربية القديمة، ومن هنا نلمس قوة وصلابة قيم ومزايا اللغة العربية التي ناضلت بنجاح، لا ضد غزو اللغات الغربية المسلحة بقدرة عملية على الإيصال، وحسب، وإنما كذلك ضد اللهجات المحلية العامية التي حاولت الاستعمار تغذيتها لزرع الفرقة والتجزئة".‏

وهكذا يؤكد هذا المستشرق ارتباط الدعوة العامية وتبنيها بالاستعمار الذي يغذيها للنجاح في سياسة التفريق والتجزئة الإقليمة.‏

أما الأستاذ الأرسوزي فقد كانت نكبة اللواء السليب، وضياع الأرض، وكبت اللغة العربية في أرضها العربية الطيبة مصدر ثورته اللغوية والفكرية الكبرى على الطغيان، فلقد كان اعتماده أصلاً على فلسفة اللغة وعلاقتها بالمجتمع العربي، ولابد لكل مصلح من الإنطلاق من المفهوم اللغوي أولاً للوصول إلى التحرر الاجتماعي في إطار الصعيد الإنساني.‏

بحث الدكتور خليل أحمد آراء هذا المفكر اللغوي المصلح، وذكر أنه "مشهور كأحد زعماء الإصلاح الاجتماعي في القرن العشرين، لكنه مغمور كفقيه لغوي.." والمعروف أنه ابتدأ بنشر أبحاثه اللغوية منذ سنة 1938.‏

كما ذكر أنه (106) "ذو مدرسة متميزة في فقه اللغة وقواعدها، يفسر اللغة تفسيراً اجتماعياً، غايته بعث الأمة العربية، وبناء الإنسان فرداً ومجتمعاً".‏

وخلص الباحث إلى أنه أحيا شرح آراءه اللغوية في كتابيه، الأول بعنوان: (العبقرية العربية في لسانها)، والثاني بعنوان (اللسان العربي)، يضاف إليهما رسالة في اللغة.‏

والمعروف أن نظريته تعتمد على جدلين (107).‏

الجدل الأول: أن المعنى (الإله) يتجلى في الحياة، وأن الحياة تتجلى في الأمة، وأن الأمة تتجلى في العبقرية، وأن العبقرية العربية تتجلى في لسانها.‏

الجدل الثاني: أن دراسة اللغة العربية أو اللسان العربي، تبعث عبقرية الأمة، وأن بعث الأمة يبعث الحياة، وأن بعث الحياة ارتقاء إلى المعنى، والمعنى هو القادر على كل شيء".‏

وخلص الدكتور خليل ليقرر أهمية اللسان العربي عند الأرسوزي على صعيدين اثنين (108):‏

الصعيد الأول: دور اللسان في بناء الإنسان من الناحية العربية والاجتماعية، وقد أبرز ذلك في المميزات الأربع التالية:‏

آ ـ طابع اللسان العربي التربوي.‏

ب ـ طابعه الفلسفي.‏

ج ـ طابعه الأخلاقي.‏

د ـ طابعه الشعري.‏

الصعيد الثاني: دور اللسان العربي في بناء الإنسان من الناحية الإنسانية والكونية.‏

ولابد لنا من وقفة قصيرة في الصعيد الأول لأهمية ذلك في هذا البحث، ذلك لأن الأرسوزي يؤمن بقدسية اللسان العربي وأصالته (109).‏

"فلما كان هذا اللسان بدئياً، لسان آدم (المعنى متجلياً في الوجود)، فقد استكمل كافة شروط الأصالة".‏

كما أبرز الأرسوزي أهمية هذا اللسان بقوله (111):‏

"إن اللسان العربي بمبدئه (المعنى)، وتجلياته (الأصوات)، وهو على غرار البدن شجرة سحرية نامية، جذورها في الملأ الأعلى (المعاني) وتجلياتها في الطبيعة".‏

***‏

يتضح مما تقدم معنا أن الحداثة في موقفها من اللغة العربية الفصحى قد شهدت ثلاثة مذاهب: مذهب الأصالة التراثية، ومذهب العامية الدارجة، ومذهب الإزدواجية المرحلية.‏

يمثل المذهب الأول، وهو المذهب القومي العربي السائد، تيار العربية الفصحى وقد تمثل بظهور الأعلام من المصلحين والمفكرين واللغويين الذين يرون أن وحدة العرب في وحدة لغتها، فهي اللغة القومية.‏

ويمثل المذهب الثاني، وهو مذهب الشعوبية اللغوية الجديدة، تيار الدعوة العامية، تهدف إلى إيجاد عدة لغات إقليمية في الوطن العربي آخذين بعين الاعتبار اللغة المحكية الدارجة، ولدعاتها أهداف مستقبلية تسعى إلى تمزيق الأمة العربية بإفساد اللسان العربي. ويمثل المذهب الثالث، وهو مذهب الازدواجية والمؤاخاة بين الفصحى والعامية كظاهرة واقعية موجودة في المجتمع العربي، وجهتين: وجهة نظر إيجابية ووجهة نظر سلبية في وقت معاً، من هؤلاء الازدواجيين وديع ديب في قوله (112).‏

"لتبق... اللغة العامية حيث هي، فلن يكون باستطاعتها أن تتغلب على الفصحى في المجالات البعيدة. فلا يزعجك هذا الازدواج في اللسان العربي. إن وجود العامية في نظري سبب من أهم أسباب إعزاز الفصاحة. ناهيك من أنه ليس من لغة حية في العالم إلا ولها عامية تزاحمها إلى محجة البيان، بيد أنها ستبقى في المؤخرة لانحرافها ذات اليمين وذات الشمال".‏

والغريب حقاً في هذا القول، أنه يقيم الصلة بين وجود العامية وإعزاز الفصاحة، وهذا التناقض لا يسوّع ذلك، ولا يسمح بوجود هذا الازدواج.‏

ومن أرباب هذا المذهب أحمد لطفي السيد، وقد أوردنا في هذا الصدد آراءه من قبل، ومما قاله (113):‏

"إن ما استعملته العامة، إنما هو قرارات الأمة في هذه الكلمات التي لا تريد النزول عنها وأن الطريقة الوحيدة لإحياء اللغة هي إحياء لغة الرأي العام من ناحيته، وإرضاء لغة القرآن من ناحية أخرى".‏

ومنهم عبد الرحمن بشناق، عضو مجمع اللغة العربية الأردني، فقد تحدث في ندوة حول (اللغة العربية في مواكبة النهضة الحديثة) (114) عن وجود لغتين لنا، و"لغتنا الحقيقية الفعلية هي العربية العامية، وليست الفصحى" (115)، وذكر "أنها الشكل الحقيقي للغة العربي"، وخلص إلى القول (116): "ولكن أهمية القرآن الكريم لنا من الناحية الروحية واللغوية قد منعتنا من استعمال اللغة العامية كلغة أدب... لقد ألفينا أنفسنا بين لغتين: الفصحى، ولغة عامية، لا نعيرها كبير اهتمام...، حتى غدت قفراً بلقعاً... بل جعلنا لغة القرن السادس الميلادي، وما طرأ عليها من تنوع وإثراء بعد انتشار الإسلام شرقاً وغرباً لغة أدبنا العربي بلا منازع" (117).‏

ومنهم المستشرق الروسي الدكتور غريغوري شرباتوف، عضو مجمع اللغة العربية المراسل في القاهرة، فقد ألقى محاضرة في (مزايا الاشتقاق في الفصحى والعامية) دراسة مقارنة "عرض فيها لطبيعة اللغة العربية التي تتميز بالتطور الداخلي للألفاظ، أي بالاشتقاق بينما تُرى في اللهجات، أي العاميات، نزعة شديدة الوضوح نحو التطوير الخارجي للكلمات، أي باستعمال اللواحق، وهذا ما يسمح بالاعتقاد بأن هناك ميلاً عن الاشتقاق نحو استعمال اللواحق في تطور الألفاظ". كما أورد المستشرق المذكور بعض الشواهد من العاميات العربية في أقطار عربية مختلفة.‏

إن الدعوة إلى تبنى اللواحق أو السوابق، كما هو الحال في بعض اللغات الأخرى، والدعوة إلى إهمال الاشتقاق الذاتي وإبطاله، وهو الحركة التطورية للغة العربية، تؤديان بنا إلى الانسلاخ في المستقبل عن لغتنا الفصحى انسلاخاً كلياً، لأن في ذلك التحطيم الطوعي للغة العربية.‏

أدرك هذه الحقيقة الجوهرية المستشرق الألماني يوهان فك في كتابه القيم بعنوان (العربية) ودراسته العميقة في اللغة والأساليب واللهجات العربية.‏

والمهم أنه أبرز المؤثرات الغربية عند بعض دعاة الإصلاح المصريين الذين طالبوا بتمصير اللغة العربية، ووجهوا انتقاداتهم إلى اللغة العربية الفصيحة نفسها، وتحدثوا عن صبغ التعليم اللغوي بصبغة جديدة، توائم قواعد التربية اللغوية الحديثة (118).‏

وخلص المؤلف إلى قوله (119): "وقد كان لزاماً على العربية الفصيحة أن تقضي على تلك الحركة، لا لأن انتصارها قد لا يبقى أثراً للنحو العربي، بل لما هو أهم من ذلك، وهو أن الحركة المذكورة تراعي اللهجة المحلية رعاية قوية، يتعسر أو يتعذر معها استخدام اللغة الجديدة رباطاً عاماً لكل البلدان الناطقة بالعربية وبهذا يمتد الإشكال، ويخرج من الدوائر اللغوية الضيقة إلى دوائر الثقافة الإسلامية عامة".‏

كما أبرز المستشرق المذكور أهمية العربية الفصحى على الصعيد العربي الإسلامي، فقال (120):‏

"إن العربية الفصحى لتدين حتى يومنا هذا بمركزها العالي أساسياً لهذه الحقيقة الثابتة، وهي أنها قد قامت في جميع البلدان العربية، وما عداها من الأقاليم الدارجة في المحيط الإسلامي، رمزاً لغوياً لوحدة عالم الإسلام في الثقافة والمدنية".‏

ذلك كله من البواعث التي كانت هدفاً لإنشاء المجامع العلمية العربية، وعلى رأسها المجمع العلمي العربي في دمشق، وقد استطاعت أن توجه اللغة العربية في محجتها الصحيحة الواضحة، بله المصلحين واللغويين الذين كانوا يبذلون جل اهتمامهم لخدمة هذه اللغة، فألِّفت الكتب لحفظها وبيان ما وقع فيها من الأخطاء الشائعة، نذكر منها، على سبيل المثال، كتاب (معجم الأخطاء الشائعة) لمحمد العدناني، فقد ذكر في تقديمه (121):‏

"إنني لا أرى المجد اللغوي أقل من المجد السياسي للأمة الصاحية حديثاً من سباتها العميق كأمتنا العربية؛ لذا أنصح أن يوجهوا.. اهتماماً كبيراً إلى تقوية الفصحى، والإقلال من اللغة العامية... وضبط معظم الكتب والمجلات بالشكل التام حتى تصبح اللغة ملكة لدى القراء".‏

إن الدعوة إلى خلق الملكة هو ما نادى به ابن خلدون من قبل، فنعتها بالملكة المضرية، ووضح الأساليب الواجبة في تكوين هذه الملكة اللغوية؛ والجديد في هذا القول أنه أضاف الضبط اللغوي فيما يكتب وينشر ويذاع، ولا خوف على العربية إطلاقاً،فقد أبرز المستشرق الألماني يوهان فك جبروت التراث العربي الحضاري في قوله (122):‏

"ولقد برهن جبروت التراث العربي الخالد التاليد على أنه أقوى من كل محاولة إلى زحزحة العربية الفصحى عن مقامها المسيطر".‏

إنها عربيتنا الفصحى بين ماضيها وحاضرها ومستقبلها، وبين مضريتها، وازدواجيتها وعاميتها، وبين أصالتها وإعجازها وحداثتها، وبين روادها وأنصارها وأعدائها.‏

هذه هي العربية المعجزة صامدة مع الزمن، إنها الكلمة الطيبة، والحرف الرمز، أصلها راسخ في جبروت هذا التراث العربي، وفرعها شامخ في السماء.‏

مصادر البحث ومراجعه:‏

1 ـ أحمد بن فارس.‏

ـ متخير الألفاظ. تحقيق الأستاذ هلال ناجي. منشورات المكتب الدائم لتنسيق التعريب ـ بغداد 1970 م.‏

2 ـ الأرسوزي (زكي).‏

ـ المؤلفات الكاملة ـ مطابع الإدارة السياسية ـ المجلد الأول والمجلد الثاني 1972 ـ 1973 دمشق.‏

3 ـ الثعالبي (أبو منصور عبد الملك بن محمد).‏

ـ فئة اللغة وسر العربية ـ المكتبة التجارية الكبرى بالقاهرة.‏

4 ـ الجاحظ (عمرو بن بحر).‏

ـ البيان والتبيين تحقيق عبد السلام محمد هارون ـ مكتبة الخانجي بمصر ـ الطبعة العربية 1395 هـ ـ 1975 م.‏

5 ـ الحسن بن أحمد الفارسي.‏

ـ الحجة في علل القراءات السبع ـ دار الكاتب العربي القاهرة 1385 هـ ـ 1965 م.‏

6 ـ خليل أحمد‏

ـ دور اللسان في بناء الإنسان ـ دار السؤال ـ دمشق 1401 هـ ـ 1981 م.‏

8 ـ الزمخشري‏

ـ أساس البلاغة ـ تحقيق عبد الرحيم محمود، تقديم‏

ـ أمين الخولي ـ مطبعة أورفاند 1972 هـ ـ 1953 م‏

9 ـ علي (د. أسعد).‏

ـ تهذيب المقدمة اللغوية للعلايلي ـ دار السؤال بدمشق 1882.‏

11 ـ مصطفى صادق الرافعي‏

ـ إعجاز القرآن ـ المطبعة الرحمانية 1345 هـ 1926 م القاهرة.‏

ـ تحت راية القرآن ـ المكتبة التجارية الكبرى 1383 هـ 1963 م القاهرة ـ الطبعة الخامسة.‏

10 ـ محمد العدناني‏

ـ معجم الأخطاء الشائعة ـ مكتبة لبنان 1973 م‏

12 ـ ابن منظور (محمد بن مكرم).‏

ـ لسان العربي ـ دار صادر ودار بيروت 1371 هـ ـ 1955.‏

14 ـ يوهان فك.‏

ـ العربية. دراسة في اللغة واللهجات والأساليب.‏

ترجمة الدكتور رمضان عبد التواب ـ مكتبة الخانجي بمصر 1400 هـ ـ 1980 م.‏

13 ـ وديع ديب‏

ـ نحو جديد ـ دار ريحاني للطباعة والنشر ـ بيروت 1959.‏

الحواشي:‏

(1) انظر مقالة شكيب أرسلان بعنوان (ما وراء الأكمة) وقد وجهها لمصطفى صادق الرافعي، ونشرتها الزهراء. تحت راية القرآن، ص 31 ـ 39.‏

(2) ابن منظور: لسان العرب، ج 1 ص 77، المقدمة، وفد ورد هذا الحديث عند ابن عساكر في ترجمة زهير بن محمد بن يعقوب.‏

(3) المصدر السابق، مادة (لغا) ج 15 ص 251، 252‏

(4) المصدر السابق.‏

(5) النحل / 103.‏

(6) الشعراء / 195.‏

(7) الأحقاف / 12.‏

(7) المؤلفات الكاملة، المجلد الأول، ص 81، 82.‏

(8) أساس البلاغة، مادة (لغو)، ص 410، 411.‏

(9) مقدمة ابن خلدون، ص 556.‏

(10) المصدر السابق، ص 546.‏

(11) المصدر السابق، ص 546.‏

(12) تحت راية القرآن، بين القديم والجديد، ص 29.‏

(13) المؤلفات الكاملة، المجلد الأول، ص 297.‏

(14) تحت راية القرآن، ص 22.‏

(15) تحت راية القرآن، ص 22.‏

(16) الأقيال: جمع قيل، وهو الملك من ملوك حمير وحضرموت.‏

(17) العباهلة: المقرون على ملكهم فلم يزالوا عنه.‏

(18) الأرواع: الذين يروعون بالهيبة والجمال.‏

(19) المشابيب: جمع مشبوب، وهو الجميل الزاهر اللون‏

(20) التيعة: أربعون شاة، وتطلق على أدنى ما تجب فيه الصدقة من الحيوان.‏

(21) المقورة الألياط: أي المسترخية الجلود.‏

(22) الضناك: السمينة الموثقة الخلق، والمراد أن شاة الصدقة لا تكون من المهازيل، ولا من الكرائم، بل تكون وسطاً، وهو المقصود بقول (وانطو الثبجة). أي أعطوها بلغتهم.‏

(23) الثبجة: أي الوسط، ومنه ثبج البحر.‏

(24) السيوب، جمع سيب، وهو العطية، والمراد به الركاز، وهو دفين الجاهلية.‏

(25) مم بكر ثيب، ومم ثيب، وهي لغتهم.‏

(26) فاصقعوه، وهو من الصقع، وهو الضرب.‏

(27) الاستيفاض: النفي والتغريب.‏

(28) الأضاميم: الحجارة الصغار.‏

(29) التوصيم: الفترة والتواني.‏

(30) يترفل: يترأس.‏

(31) الفِراع: مجاري الماء إلى الشِّعب.‏

(32) الوهاط، والوهاد، بمعنى واحد، وهي ضرب من الأراضي المنخفضة وغيرها.‏

(33) عزازها: الأرض الصلبة.‏

(34) العِلاف: جمع العَلف.‏

(35) العفاء: ما ليس فيه مِلك.‏

(36) الدفء والصرام: أي الإبل والغنم.‏

(37) الشِلب: البعير الهرم الذي تكسرت أسنانه.‏

(38) الناب: الناقة الهرمة، والنيب: النوق.‏

(39) الفارض: المسن من الأبل.‏

(40) الداجن: الدابة التي تآلف البيوت.‏

(41) الحوري: أي المنسوب إلى الحوراء، وهي كية مدورة أي المكوي.‏

(42) الصالغ من البقر والغنم الذي كمل، وانتهت سنة في السنة السادسة.‏

(43) القارح: من ذي الحافر بمنزلة البازل من الإبل.‏

(44) القاموس المحيط (مادة قرش).‏

(45) المقل: ثمر الدوم.‏

(46) العربية، ص 15.‏

(47) مقدمة (العربية)، ص 9.‏

(48) مقدمة (العربية)، ص 8.‏

(49) دور اللسان لخليل أحمد، ص 106.‏

(50) المؤلفات الكاملة للأرسوزي، المجلد الثاني ص 188.‏

(51) في لسان العرب: "المفضل: كان العرب تقول في الجاهلية للمحرم (مؤتمر) ولصفر (ناجر)، ولربيع الأول (خوان) مادة (نجر).‏

(52) دور اللسان، ص 106.‏

(53) الحجة، ج 1، ص 4.‏

(54) المصدر السابق، ج 1، ص 302.‏

(55) المصدر السابق ج 1 ، ص 308.‏

(56) متخير الألفاظ، ص 59.‏

(57) المصدر السابق، ص 59.‏

(58) المصدر السابق، ص 59.‏

(59)العربية، ص 149.‏

(60) المصدر السابق، ص 243.‏

(61) مقدمة ابن خلدون، ص 555‏

(62) المصدر السابق، ص 554.‏

(63) فقه اللغة، ص 479.‏

(64) المصدر السابق، ص 577، 578.‏

(65) المصدر السابق، ص 479.‏

(66) نهج البلاغة، ص 254.‏

(67) العربية لوهان فك، ص 242.‏

(68) فقه اللغة، ص 2.‏

(69) المصدر السابق، ص 3.‏

(70) المصدر السابق ص 3.‏

(71) أساس البلاغة، خطبة المؤلف، ص: ك.‏

(72) أساس البلاغة، ص: ك، ل.‏

(73) فليت: في اللغة: فلى يفلي الشعر أي تدبره، وفتش عن معانيه وغريبه.‏

(74) القراضبة: الصعاليك، جمع قرضوب.‏

(75) ذرو: ظرف، وعنده ذرو من كذا، أي عنده حظ.‏

(76) البيان والتبين، ج 1 ص 17.‏

(77) المصدر السابق، ج 1 ص 18.‏

(78) المصدر السابق، ج 1 ص 20.‏

(79) المصدر السابق، ج 1 ص 19.‏

(80) المصدر السابق، ج 1 ص 18 ـ 19.‏

(81) المصدر السابق، ج 1 ص 272.‏

(82) الجرم: الحلق.‏

(83) جسأ: صلب ويبس.‏

(84) في فلسفة اللغة للأسوزي، ص 36: ودور اللسان، ص 179.‏

(85) مقدمة ابن خلدون، ص 546.‏

(86) المصدر السابق، ص 548.‏

(87) المصدر السابق، ص 553.‏

(88) المصدر السابق، ص 553.‏

(89) المصدر السابق، ص 555.‏

(90) المصدر السابق، ص 556.‏

(91) المصدر السابق، ص558.‏

(92) خزانة الأدب (تقديم أبي بكر)، ص 5.‏

(93) تحت راية القرآن، ص 22.‏

(94) المصدر السابق، ص 51.‏

(95) تحت راية القرآن، ص 51.‏

(96) المصدر السابق، ص 52.‏

(97) المصدر السابق، ص 39.‏

(98) المصدر السابق، ص 31، 39، الفئام: الجماعة من الناس، ولا واحد له من لفظه، وتجمع على فؤم.‏

(99) المصدر السابق، ص 46.‏

(100) المصدر السابق، ص 47.‏

(101) المصدر السابق، ص 49، 50.‏

(102) تهذيب المقدمة اللغوية للعلايلي، ص 300.‏

(103) تهذيب المقدمة اللغوية للعلايلي، ص 125، 186.‏

(104) المصدر السابق، ص 187، 248.‏

(105) تهذيب المقدمة اللغوية، ص 33.‏

(106) دور اللسان في بناء الإنسان، ص 322.‏

(107) المصدر السابق، ص 87، 88.‏

(108) المصدر السابق، ص 148، 174.‏

(109) المؤلفات الكاملة، المجلد الأول، 219.‏

(110) في دور اللسان توضيح لهذا اللفظ "عن نشأة اللسان، فهو بدائي، وبدئي، وأصيل، ويعني بالبدء أن اللغة نسيج وحدها، فريد ة ليست لها مثيل بين لغات العالم، ويعني بالأصالة أنها طبيعية منذ فجر تكونها حتى تكونها حتى غاية مرتقاها" ص 129.‏

(111) المؤلفات الكاملة، المجلد الأول ص 367.‏

(112) نحو جديد، ص 12.‏

(113) الرافعي: تحت راية القرآن، 51.‏

(114) الموسم الثقافي الأول لمجمع اللغة العربية الأردني، ص 137 ـ 143.‏

(115) المصدر السابق، ص 137.‏

(116) المصدر السابق، ص 139.‏

(117) مجلة مجمع اللغة العربية لمجمع اللغة العربية الأردني، العدد 27 سنة 1405 هـ ـ 1985 م.‏

(118) العربية ليوهان فك، ص 241.‏

(119) المصدر السابق، ص 242.‏

(120) المصدر السابق، ص 242.‏

(121) معجم الأخطاء الشائعة، ص 5.‏

(122) العربية ليوهان فك، ص 242.



مجلة التراث العربي-مجلة فصلية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب-دمشق العدد 23 - السنة السادسة - نيسان "ابريل" 1986 - شعبان 1406
المصدر: ملتقى شذرات

__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية

الكلمات الدلالية (Tags)
الأصالة, اللغَة, العربيّة, تزين, والحَداثة, والإعجاز


يتصفح الموضوع حالياً : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
أدوات الموضوع

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


المواضيع المتشابهه للموضوع اللغَة العربيّة بَين الأصالة والإعجاز والحَداثة
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
أطوار خلق الإنسان في القرآن بين الإعجاز التربوي والإعجاز العلمي ام زهرة شذرات إسلامية 2 11-24-2013 12:15 AM
تجديد الدين بين الأصالة والعصرانية عبدالناصر محمود مقالات وتحليلات مختارة 0 11-13-2013 08:35 AM
ازدواجيَّـة اللغَة للدكتور محمد راجي الزغول Eng.Jordan دراسات و مراجع و بحوث أدبية ولغوية 0 06-21-2013 04:53 PM
الأصالة والتواصل قراءة في تاريخ الفينيقيين وحضارتهم Eng.Jordan كتب ومراجع إلكترونية 0 04-19-2012 12:39 PM
دولة الإمارات العربيّة المتحدة Eng.Jordan الملتقى العام 0 03-19-2012 07:37 PM

   
|
 
 

  sitemap 

 


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 10:56 AM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.12 by vBS
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والمشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59