#1  
قديم 09-20-2014, 08:37 AM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود غير متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 56,103
ورقة اللغة والاستبداد


اللغة والاستبداد
ــــــــــ

(د. فؤاد بو علي)
ــــــــــ

25 / 11 / 1435 هـ
20 / 9 / 2014 م
ــــــــــــ

والاستبداد 19-9-2014.jpg


ما علاقة اللغة بالاستبداد؟وهل يمكن الحلم بتنمية اللغة وتطويرها في جو القمع والتحكم؟
أم أن اللغة شأن عرضي خارج أجواء التجاذب السياسي والفكري؟
في الوقت الذي يحشد العالم الغربي وأذنابه القوات لضرب العراق وسوريا، وفي أوج الأزمة التي حرقت بلاد الشام وغيبت معالمها الحضارية والإنسانية؛ يصل هذا الخبر: "وزير التربية في الحكومة السورية يشرف على فعاليات المسابقة الوطنية للتمكين للغة العربية في دورتها الخامسة التي تقيمها منظمة اتحاد شبيبة الثورة بالتعاون مع وزارة التربية، مشيرًا إلى أهمية تفعيل اللغة العربية في الميدان التربوي عن طريق الإخلاص في تدريسها، وغرس محبتها وأهميتها في نفوس الطلاب والطالبات من قبل المعلمين والمعلمات...". وتسائل نفسك: هل الحديث عن سورية الجريحة التي يقتل الناس فيها لمجرد التعبير والتظاهر، أم عن سورية المتخيلة التي عاش ويعيش نظامها في أوهام السلطنة والمنعة المتوهمة؟
الخبر مفرح لبعض المنافحين عن العربية، وقد تجد من يطبل للأمر ويتغنى به دفاعًا عن لغة الضاد، وعن منجزات النظام السوري المؤمن، عن حق، بجوهرية العربية في بناء الأمة..

لكن هل تستقيم النهضة اللغوية المنشودة مع القمع والقتل والتضييق على الحريات؟
هل يمكن الحديث عن التمكين للغة في جو الدم والقتل والاستبداد؟
الأمر لا يتوقف في سورية؛ إذ يمتلئ الفضاء الإعلامي بدعوات وأخبار عن ندوات ومؤتمرات تعقد في ربوع الوطن العربي، تحت رعاية أمير أو ملك أو حاكم أو وزير، وتنظم تحت إشراف مؤسسات عربية حكومية أو أكاديمية أو أهلية أو منظمة من منظمات العمل العربي المشترك، وتخرج جلها بتوصيات وقرارات هامة، وبعضها يصل إلى درجات عليا من التنفيذ، ويتفق المجتمعون المنتقون من بلاد كل العرب على مخطط نهضوي للخروج من حالة الوهن اللغوي. لكن كل شيء يبقى خارج دائرة التأثير في مسار التغيير، ويبدأ النقاش الأزلي عن الخلل، وجلد الذات، هل المشكلة في اللغة أم في مستعمليها أم في مُسيّري الشأن العام؟ وقد يستمع حاكم لفكرة عن انتمائه العربي، خاصة حين يحتضن أحد هذه الأنشطة، فيثور ويرغد ويطالب بالاهتمام بلغة أجداده، وقد ينشئ لذلك مؤسسات ومراكز ومجامع، ويتحرك الأمر لمدة محددة، ويبقى الحال على ما هو عليه، وعلى لقاء في العام المقبل.
هكذا هي الصورة العامة للحالة العربية، لا يمكن فصل السياسي عن اللغوي، ولو عاش الكواكبي إلى وقتنا؛ لغير قوله في طبائع الاستبداد: "المستبد لا يخشى علوم اللغة، تلك العلوم التي بعضها يقوِّم اللسان وأكثرها هزل وهذيان يضيع به الزمان، نعم لا يخاف علم اللغة إذا لم يكمن وراء اللسان حكمة حماس تعقد الأولوية، أَو سحر بيان يحل عقد الجيوش". فقد أثبتت الأحداث أن السؤال اللغوي يأتي في عمق الاهتمام السلطوي، فاللغة مظهر من مظاهر السلطة، وتجل من تجليات تدبيرها.
ويمكن البقاء في النموذج السوري؛ ففي سنة 2003 حين تحسنت العلاقة مع فرنسا صارت اللغة الفرنسية لغة إجبارية بخمس حصص في الاسبوع في سوريا، وبعد اغتيال الحريري في 2004 تعقدت العلاقة مع فرنسا، فتم تقليص حصص لغة موليير إلى حصتين لنفس المنهاج كاملاً، وحين تطورت العلاقة مع تركيا في 2010 أحدث قسم اللغة التركية في الجامعة. أما اللغة الفارسية، عنوان العلاقة مع إيران، فكانت تعلم كمادة في قسم اللغة العربية بالاختيار مع العبرية أو السريانية، ثم تم تخصيص قسم كامل للغة الفارسية، وقريبًا جدًا سيتم تعليمها بالمدارس. وهكذا غدت اللغة صورة لتقلبات السياسة والتحالفات الاستراتيجية، وأصبحت عنوان الانتماءات القطرية للدول، وما قيل عن سوريا يصدق على كل الدول في تعاملها مع اللغات الكولونيالية.
يخطئ من يتصور تطويرًا للغة الضاد واعتمادًا لجوهريتها في ظل أنظمة شمولية ترى اللسان جزءًا من تدبيرها اليومي لمسار إخضاع المجتمع لإرادة النخبة المتحكمة. فاللغة قضية حرية، لذا كان عنوان الاستبداد السياسي هو الإجهاز على مقومات الأمة المشكلة لعمقه الحضاري وتقديم قيم بديلة تضمن له حصاره لمطامح المواطنين بشعارات الحداثة والعلمنة، فكانت العربية على الدوام لغة التخلف والتأخر، ويطلق العنان لدعاة العامية والفرنكفونية، وبتعبير الرئيس التونسي الدكتور المرزوقي: "من بين أخطاء الاستبداد وخطاياه (باستثناء واحد هو الاستبداد السوري) اعتبار العربية غير قادرة على أن تكون لغة العلم، والحال أنه لا توجد أمة ازدهرت بلغة غيرها". لذا كانت العربية دومًا محاصرة، وعندما يختار الشعب يختار العربية والانتماء العربي في واقع الحرية والديمقراطية. لذا يتعمد الاستبداد توجيه الاهتمام اللغوي نحو فرض رؤية معينة لأجيال المستقبل تؤمن لها الدوام ورضا الخارج. فهل مفاجئًا أن يكون دومًا ملف التعليم خارج الاستشارة الشعبية؟ وهل غريبًا أن تتعثر كل مشاريع الإصلاح اللغوي وتتجمد مؤسساته؟ وهل صادمًا أن تكون اللغة سرًا من أسرار الدولة يلجأ فيه إلى الحكم بدل الشعب؟ إنه الخوف من اللغة التي يمكن للمجتمع الاحتماء بها والتعبير بها عن مكنوناته ومايخالجه، مع ما يتبع ذلك من دمقرطة وحرية وتنمية. لذا كان انهيار حلم الرئيس التونسي بموقع للغة الضاد في جيل العرب الجدد مع الأجواء الانقلابية، إيذانًا بإنقلاب على مقدرات الأمة المختلفة. فمضمون التحول الديمقراطي الذي هبت نسائمه على الوطن العربي لا يمكنه أن يتحقق دون تحقيق إصلاح لغوي يوازي الإصلاح السياسي، فحين يختار الشعب بكل حرية ودون رقابة مسبقة أو توجيه سلطوي فإنه سيختار العربية وعمقه العربي الإسلامي. لذا تبقى كل الآمال التي تنبعث من هنا وهناك، من هذا المؤتمر وذاك، من هذا اللقاء وذاك، مجرد استهلاك للزمن وتوظيف للباحثين لا أثر له في مستقبل الإنسان العربي.
في التجارب العالمية تحضراللغة دومًا باعتبارها جوهر الإصلاح السياسي، فالنظام القائم على الحقوق وفتح الفضاءات الإعلامية والسياسية والاجتماعية أمام جميع المواطنين يفرض معالجة القضية اللغوية، ليست باعتبارها قضية ثانوية يترك بسببها أبناء الوطن في فوضى وتجاذبات هوياتية، كأنها شأن فوقي، بل ينبغي أن تعد جزءًا من وجود الدولة والشعب، والاستبداد ليس مجرد شكل من أشكال الحكم؛ بل هو منطق في التفكير أيضًا قد يعتمده حتى من يتغنى صباح مساء بالحرية والحقوق والديمقراطية.
ففي ندوة نظّمها المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية خلال شهر رمضان حول "القانون التنظيمي الخاص بترسيم الأمازيغية"؛ دعا أحد المتدخلين إلى جعل هذا القانون فوق السلطتين التشريعية والتنفيذية، ومن المعلوم أن الأمازيغية قد دبرت على الدوام بمنطق التحكم بعيدًا عن المجتمع وخياراته، وحين يستشار الشعب تثور ثائرة المنتمين للحركة الأمازيغية، كما هو حال الرجة التي أحدثوها خوفًا من نتائج الإحصاء العام للسكان. والمتأمل في مسار الأمازيغية وطريقة تدبيره منذ فرض الحرف وصولاً إلى الترسيم يلاحظ مسارًا جوهره تغييب للمجتمع وفرض لرؤية أحادية في النقاش اللغوي، وهذا لا يعني أن الأمازيغية ليس لها وجود، بل طريقة تدبيرها على الدوام هي طريقة تحكمية الاستبداد، وفي منطق التحكم يكون الرفض النفسي هو رد المجتمع قبل أن يكون له رد آخر حين تتاح أمامه الفرصة.
اللغة شأن مجتمعي، وينبغي أن تدبر في ظل شروط الحرية والاختيار الشعبي، وكيفما كان إيماننا بلغتنا ودفاعنا عنها، لا يمكن لها أن تأخذ موقع الريادة إلا إن كانت شأنًا مجتمعيًا ديمقراطيًا، لأن المجتمع هو الفيصل في النهاية.

----------------------------------------------------
المصدر: ملتقى شذرات

رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية

الكلمات الدلالية (Tags)
اللغة, والاستبداد


يتصفح الموضوع حالياً : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
أدوات الموضوع

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


المواضيع المتشابهه للموضوع اللغة والاستبداد
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
معركة اللغة في مصر عبدالناصر محمود شذرات مصرية 0 07-21-2014 04:16 AM
تعريف اللغة ام زهرة دراسات و مراجع و بحوث أدبية ولغوية 0 12-03-2013 06:57 PM
بحث عام عن اللغة العربية ام زهرة دراسات و مراجع و بحوث أدبية ولغوية 0 10-31-2013 10:46 PM
أسلوب التعلّم عند دارسي اللغة العربية: طلاب كلية اللغة العربية في جامعة الإنسانية بقدح نموذجاً Eng.Jordan بحوث و مراجع و دراسات تربوية واجتماعية 0 06-16-2013 10:09 AM
اللغة الفارسية توفيق بن علو الملتقى العام 0 06-11-2012 02:29 PM

   
|
 
 

  sitemap 

 


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 09:22 AM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.12 by vBS
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والمشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59