#1  
قديم 12-31-2012, 07:52 PM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,392
افتراضي أصول الإنسان محفوظة في جيناته




إن تاريخ البشرية مدوَّن في جيناتنا، ولكن تفسيرات
الرسائل الدفينة فيها مازالت متناقضة.
<A .سانشز-مازاس>

أين ومتى ظهر الإنسان الحديث؟ في إفريقيا، أم في آسيا، أم في عدة قارات في آن معا، قبل000 100سنة أو أكثر؟ وهل حل هذا الإنسان محل الجماعات البشرية السابقة أو اختلط بها، وبشكل خاص مع إنسان نياندرتال Neandertal؟ لقد كانت إجابات علماء الأحافير (المستحاثات) متباينة وخاضعةلما تكشف عنه الأحافير الجديدة، كما أنها لم تلق إجماعا حقيقيا من قبل هؤلاء العلماء. وقبل خمسة عشر عاما فقد هؤلاء العلماء احتكارهم للبحث عن الأصول، وتدخَّل في الأمر علماء الوراثة «القادرون على إنطاق» الدنا (DNA)، مؤكدين أن علمهم الدقيق سيحمل لنا أخيرا براهين نهائية يتعذر دحضها، براهين لم يتمكن علم الأحافير paleontology من طرحها (انظرالشكل1). وفي بداية عام2001 كان الإعلان الأول عن التوصل إلى معرفة سَلْسَلة كامل الجينوم (المجين) البشري، فهل برهنوا على أن جيناتنا لا تمتلك سرا؟ كلا، لأنه عندما حاول علماء الوراثة إعادة صياغة تاريخ جنسنا البشري، وصلوا إلى نتائج متناقضة ومختلفة ظاهريا. فعلى سبيل المثال، إذا قلنا إننا انحدرنا جميعا من امرأة كانت تعيش قبل000 200سنة ومن رجل كان يعيش قبل000 50سنة، كما تشير الدراسات الوراثية، فكيف إذًا كان الالتقاء بينهما؟ من أجل التوفيق بين النتائج أعد علماء الوراثة تفسيرات قابلة للنقاش أحيانا. وفي خضم هذا الغموض، كيف يمكن تمييز الغث من السمين؟

خلال العقود الأخيرة تعددت الدراسات الوراثية، وفي الوقت نفسه تطورت طرق تنفيذها. ومن الملاحظ اليوم أنه يجب إجراء فرز للنتائج المطروحة، بحيث يُحتفظ ببعضها ويستبعد بعضها الآخر، وإن كان يخدم في إجراء اختبارات جديدة. لقد أوضحت النتائج الموثوقة التنوعَ الوراثي الحالي والعوامل المرتبطة به، ولكنها لم تخص إلا جزءا صغيرا من الجينوم البشري. ويجب ألا تفسر التعابير التاريخية للجماعات إلا بحذر؛ فهي لا تسمح لنا من جهة بالحكم الفاصل بين السيناريوهين المقترحين من قبل علماء الأحافير، ولا تسمح من جهة أخرى باستبعاد التغيرات المحتملة لهذين السيناريوهين.

سيناريوهان لتفسير بدء ظهور الإنسان(**)
بحسب السيناريو الأول فإن الإنسان العاقل العاقل Homo sapiens sapiensكان قد ظهر في جماعة وحيدة اعتبرت بشكل عام من الإفريقيين(1). فقبل نحو000 200سنة وحتى000 100سنة خرج الإنسان العاقل العاقل من إفريقيا وهاجر إلى بقية أنحاء العالم (انظر الشكل 2)؛ وحل مكان الإنسان المنتصب Homo erectus والإنسان العاقل القديم archaic Homosapiens وإنسان نياندرتال، من دون أن يكون هناك اختلاط وراثي بالممثلين الباقين لهذه الأنماط من البشرية. لقد اندثرت فروع السلالة البشرية كافة باستثناء فرع واحد، وهو الفرع الذي يخص الإنسان الحديث، وهذه هي نظرية «الإحلال» (الاستبدال)(2).

وبحسب السيناريو الثاني؛ نشأ الإنسان العاقل العاقل نتيجة الانتحاءات التطورية القديمة، وظهر على قارات متعددة في آن واحد. ولقد تطورت السلالة البشرية في إفريقيا حتى ظهر الإنسان المنتصب (الذي يعود ظهوره إلى نحو1,8 مليون سنة)، وتمايزهذا الأخير تدريجيا إلى أن وصل إلى شكل الإنسان العاقل القديم (وذلك بين نحو000 400 و 000 100سنة)، ثم تطور إلى الإنسان العاقل العاقل بشكل مستقل في إفريقيا عن بقية القارات التي استوطنها (انظر الشكل 2)، أما في أوروبا وغربي آسيا فقد كان إنسان نياندرتال شكلا بدائيا للإنسان العاقل العاقل. وهكذا نجد أن السمات المميزة والمختلفة للجماعات البشرية الحالية قد تطورت بشكل متواز خلال حقبة زمنية موغلة في القدم، سبقت ظهور الصفات الشكلية (المورفولوجية) الحديثة على وجه الدقة. وهذه هي نظرية «تعدد الأقاليم»(3).

كيف تدخل علماء الوراثة في مناقشة أصل الإنسان؟ تدخلوا من خلال دراسة التنوع الوراثي للجماعات البشرية الحالية (لن نتطرق الآن إلى الدراسات الحديثة للدنا الأحفوري، ولكننا سنعود إليها لاحقا). وبالنسبة إلى هذه الجماعات وُجد أن الجينة ذاتها أو حتى الجزء ذاته من الدنا يظهر بعدة أشكال، وأن الجينات المغايرة (الألائل alleles) تُظهر كذلك تنوعا (في حالةالجينات المكودة، تكود الألائل پروتينات وظيفية تكون مختلفة بعضها عن بعض، ومع ذلك تؤمن الوظيفة نفسها). إن هذا التنوع في الواقع هو نتيجة طفرات في الدنا كانت قد حدثت في الماضي، وتراكمت مع مرور الزمن، وأصبحت متكررة الحدوث نوعا ما في الجماعات البشرية. ومن المفيد هنا تحديد كمية الطفرات المتراكمة في تسلسلات الدنا لأفراد مختلفين موجودين حاليا، مما يسمح بعرض تاريخ تعاقب هذه التسلسلات من جهة، ومن جهة أخرى يسمح بتقدير مدى اختلاف تكرار الألائل بين الجماعات المتنوعة الحالية، مما يمكّن من إعادة صياغة التاريخ الوراثي لهذه الجماعات.

الإنسان SCI2002b18N11-12_H10_002023.jpg
الشكل 1: الكريات الحُمْر (في الأعلى، إلى اليمين) ومستضداتها، الدنا الميتوكوندري (في الأعلى، إلى اليسار) المنقول من الأم، ثم الصبغي الجنسي Y (المقابل) المنقول من الأب، قد استخدمها علماء الوراثة من أجل عرض تاريخ الإنسان الحديث وأصله، وفي الأسفل الأحافير (المستحاثات) البشرية التي كان لها الدور الحصري سابقا في هذه الدراسات

لقد درس علماء الوراثة هذا التنوع على المستوى العالمي، والمقصود هنا الجماعات البشرية المنتشرة على كوكب الأرض. وتتلخص الطريقة المثلى في اختيار عينة تتكون من بضع مئات من الأفراد، ضمن الحدود المتاحة، من بين المجموعات التي كانت أسلافها قد استقرت في المكان نفسه قبل أمد بعيد. وبالمقابل، تغيرت معايير تحديد الجماعات من دراسة لأخرى، وكذلك تمثيل العينات التي خفضت أحيانا إلى نحو عشرة أفراد بالنسبة إلى التحاليل الطويلة الأمد.

المعالم البيولوجية(***)
ثمة عملان متقاربان متزامنان هما: دراسة المنظومات الوراثية «التقليدية» المسؤولة عن صفات سهلة البلوغ، عن طريق تقانات التحاليل الدموية البسيطة من جهة، ومن جهة أخرى القيام بدراسة مباشرة للدنا. قبل عام 1980 لم تجر دراسة الجينات بشكل مباشر بطريقة تحليل الدنا (إذ لم تسمح التقانة المستخدمة حينذاك بتنفيذ ذلك). ولكن البحث انصب على دراسة تعبير هذه الجينات في خلايا الدم وخلايا النُّسُج الأخرى، مثل دراسة الزمر الدموية (ABO) وعامل الريزوس Rhesus والأضداد antibodies التي ينتجها الكائن الحي، أو جزيئات HLA الخاصة بالجهاز المناعي. جرت دراسة التنوع الوراثي انطلاقا من تلك الصفات التي يفترض أنها تعكس في الواقع الاختلافات الجزيئية. لقد أحصيت كل الصور المغايرة الخاصة بالصفة الواحدة داخل أفراد الجماعة البشرية الواحدة. فعلى سبيل المثال: تم حساب تكرار كل صورة مغايرة في الزمر الدموية؛ إذ إن مثل هذه الصور المغايرة تشكل الملامح العامة profile لوراثة الجماعة، ثم تقارن بملامحتنوع الجماعات المختلفة.

واليوم تُقابَل هذه الدراسات وفق المنظومات الوراثية التقليدية (التي مازالت مستمرة) مع دراسة المنظومة الوراثية التي يمكن الحصول عليها فقط من خلال تحليل الدنا على مستوى الجماعات. وفي الواقع، منذ عام 1980 تحققت معرفة الاختلافات الوراثية بوساطة إنزيمات التحديد restriction enzymes التي تقطِّع عادة جزيء الدنا في مواقع خاصة منه.ويطلق على هذه الأمكنة «مواقع التحديد». كما أن وجود مثل هذه المواقع أو غيابها على امتداد جزيء الدنا يختلف من شخص لآخر، إذ تقوم إنزيمات التحديد بإنتاج شدف من الدنا بأطوال مختلفة بحسب الشخص. وفي عام 1990 أصبحت التقانات المستخدمة في التحاليل الوراثية أكثر إتقانا، مما سمح للباحثين بتنسيق النوكليوتيدات وترتيبها إلى وُحَيْدات تشكل جزيء الدنا؛ أي أصبح بالإمكان معرفة التنوع الوراثي بشكل أدق (حتى بين نوكليوتيد ومجاوره).

وطوال عشرات السنين تضاعف عدد الأبحاث التي تستخدم هذه الطرق المتباينة؛ فما النتائج التي قدمتها؟ لقد قام فريق من الباحثين بإشراف <A.لانگاني> [في جنيف] وفريق البحث Luca Cavalli-Sforze الذييقوده <C.L.سفورزي> [في جامعة استانفورد] بدراسة المنظومات سالوراثية التقليدية، وتوصلوا إلى نتيجتين مهمتين، هما: أن الاختلافات الوراثية بين الجماعات تنطوي على التباعد الجغرافي فيما بينها، كما ترتبط بالاختلافات اللغوية. وهكذا نجد أن الاختلافات الوراثية بين الجماعات، على مستوى كوكب الأرض، ترتبط بشكل أساسي بتباعدها الجغرافي؛ أي إذا كانت الجماعات تعيش في أمكنة متقاربة فإن الاختلافات الوراثية فيما بينها تكون قليلة (انظر الشكل 3). وتنسجم هذه النتائج مع أثر عامل الانعزال الجغرافي (البعد)، وهذا ما اقترحه في عام 1970 الباحث <G.ماليكو> [وهوأحد كبار المختصين في علم وراثة الجماعات]. وقد تطابقت أفكاره مع آراء علماء الوراثة الذين يعتقدون أن الجماعات البشرية تمايزت بشكل متدرج خلال هجراتها، بدءا من جماعة سليفة وحيدة، بعد أن تبادلت الجينات بقدر كبير بسبب تجاورها. وعلى العكس، إذا كان الإنسان الحديث قد ظهر في عدة قارات لا نلاحظ لديه مثل هذا الارتباط بين البعد الجغرافي والمسافة الوراثية؛ لأن جماعاته المتميزة التي هاجرتْ بعضها باتجاه بعض، كانت في الأصل تنطوي على اختلافات وراثية واضحة، على الرغم من تجاورها الجغرافي. وهكذا نجد أن مثل هذه النتائج مازالت تستند إلى نظرية «الإحلال» ولكنها لا تشير إلى أن الجماعة السليفة إفريقية.

إضافة إلى ذلك، ففي القارة الإفريقية على الأقل، ترتبط الاختلافات الوراثية بالاختلافات اللغوية؛ إذ يوجد في هذه القارة أربع عائلات لغوية كبيرة وهي (انظر الشكل 4): عائلة النيجرذكونگو التي تتحدث لغة البانتو(4) Bantou والعائلة الآفرو-آسيوية Afro-asiatique والعائلة النيليةـالصحراوية nilo-saharienne وعائلة خوازان Khoisan التي تعيد تجميع اللغات «بالنقر»(ظهرت اللغة في البداية على شكل قرقعات قبل إصدار بعض الأصوات). وقد أظهرت الدراسة أن الجماعة التي تتحدث لغة البانتو تكون أقرب وراثيا إلى جماعة أخرى تتحدث نفس اللغة، وإن كانت الجماعة الأخيرة تبعد عن الأولى مئات الكيلومترات؛ في حين لا ترتبط جماعة لغة البانتو بصلة قرابة مع جماعة اللغة الآفرو-آسيوية رغم قربها الجغرافي منها. وهكذا نجد أن التمايزات الوراثية بين الجماعات ما هي إلا نتاج الانتشار الجغرافي للجماعات التي تتحدث هذه اللغات. وبحسب الفرضيات فإن الأَعمار التي يقدرها علماء الآثار واللغات لا تزيد على أكثر من000 20عام؛ أي إن التنوع الوراثي في إفريقيا هو أكثر حداثة من ظهور الإنسان الحديث. وهذا يفترض أن جماعات الإنسان العاقل العاقل انتشرت في وقت متأخر لتحل مكان الجماعات الأكثر قدما والتي لم تترك إلا القليل من بقاياها الوراثية. واستكمالا للسابق، تكون هذه الدراسة منسجمة مع نظرية الإحلال؛ أي استبدال للجماعة السليفة التي لا تكون بالضرورة إفريقية الأصل. ويُقترح في هذا الشأن أن إفريقيا أعيد استيطانها في مرحلة أكثر حداثة، من قبل جماعة أصيلة تعود إلى شرق إفريقيا(5).

الإنسان SCI2002b18N11-12_H10_002024.jpg الإنسان SCI2002b18N11-12_H10_002025.jpg
الشكل 2: قادت دراسة الأحافير إلى صياغة عدة سيناريوهات تتعلق بظهور الإنسان الحديث، ومن بينها سيناريوهان أساسيان: الأول يسمى «الإحلال» (الاستبدال) والآخر يسمى «تعدد الأقاليم». في السيناريو الأول (اليمين) ظهر الإنسان الحديث بصورة فريدة في «إحدى القارات»، ثم هاجر بعد ذلك إلى القارات الأخرى ليحل مكان الجماعات الأقدم منه التي كانت تعيش هناك. وقد ظهر هذا السيناريو كأحد التفسيرات المحتملة بأن أصل الإنسان الحديث يعود إلى إفريقيا الشرقية. والتواريخ تنطبق على أقدم الأحافير المكتشفة حتى اليوم في العالم. وفي السيناريو الثاني (في اليسار) يرجع الإنسان الحديث (بالأحمر) الذي ظهر بشكل متدرج في عدة قارات، بدءا من الإنسان المنتصب Homo erectus (بالبرتقالي)، ثم الإنسان العاقل القديم archaic Homo sapiens (بالأزرق) المحلي. وفي أوروبا، سيغدو إنسان نياندرتال Neandertal (بالأخضر) أيضا شكلا بدائيا للإنسان العاقل العاقل Homo sapiens sapiens.

مستجدات جزيء الدنا الميتوكوندري(****)
يُعد الباحثان <R.كان> و<A.ولسن> [من جامعة بركلي] أول من حصل على نتائج حول تحليل الدنا الميتوكوندري البشري، وكان ذلك في عام 1987. لقد درسا الدنا الموجود في الميتوكوندرات (المُتَقَدِّرات) mitochondria(وهي عُضَيات موجودة في سيتوپلازم الخلايا، تؤمن عمل ما يسمى السلسلة التنفسية الخلوية). ويختلف هذا الدنا عن الدنا الموجود في نواة الخلية الذي يتشكل من اجتماع نواة البيضة مع نواة النطفة، في حين يأتي الدنا الميتوكوندري من البيضة فقط (إذ إن ما يخترق البيضة عند الإلقاح هو نواة النطفة فقط المحتوية على الدنا النووي الأبوي، في حين يبقى السيتوپلازم الخاص بالنطفة المحتوي على الميتوكوندرات خارج البيضة). وبفضل هذا الدنا الميتوكوندري أعاد علماء الوراثة إنشاء سلسلة النسب الأمومية من دون وجود صعوبات ترتبط باختلاط جينات الأبوين. إضافة إلى ذلك، يكون جزيء الدنا الميتوكوندري أصغر بكثير من الدنا النووي ويسهل الحصول عليه كمادة للدراسة بسبب وجود المئات من الميتوكوندرات في الخلية الواحدة.

لقد درس فريق <كان> و<ولسن> الدنا الميتوكوندري لدى 147 شخصا يعود أصلهم إلى خمس مناطق جغرافية متميزة هي: إفريقيا، آسيا، أوروبا، أستراليا، وغينيا الجديدة. وقد أوضحت نتائج التحليل أن عدد أنماط الدنا الميتوكوندري المختلفة هي 133، وهذا يساوي تقريبا عدد الأفراد المدروسين، وأن الاختلافات بين أفراد المنطقة الواحدة تكون أحيانا أكثر من تلك الموجودة بين أفراد منطقتين متميزتين. وهكذا لم يستطع علماء الوراثة إثبات الملامح الوراثية لمجموعات المناطق الخمس السابقة الذكر ومقارنتها، كما كانوا يفعلون في دراسة المنظومات الوراثية التقليدية. فقد اقتصروا على مقابلة زوج بزوج من تسلسلات الدنا للأفراد المنحدرين من مناطق جغرافية متميزة.

وانطلاقا من هذه البيانات أنشأ علماء الوراثة شجرات النسب، فجمعوا كل البيانات والنتائج وحصلوا على شجرة نسب تضم شعبة خاصة بتسلسلات إفريقية حصرا، وقد انفصلت عن فرع مركزي يتكون من تسلسلات إفريقية وغير إفريقية في آن معا (انظر الشكل5). وتشكل هذه النتيجة نقطة الانطلاق نحو الفرضية: الخروج من إفريقيا Out of Africa، التي تسمى أحيانا «نظرية حوّاء الإفريقية» Eve africaine؛ فالمجموع الوراثي للدنا الميتوكوندري يعود على وجه الاحتمال إلى أصل إفريقي، وأن كل البشرية الحالية (العائدة إلى الإنسان العاقل العاقل) قد نشأت عن جماعة سليفة إفريقية. ويقدم الأفارقة اليوم أكبر تنوع وراثي مقارنة بالجماعات البشرية للقارات الأخرى، وهذا ما أوضحه فريق أبحاث جامعة بركلي نتيجة دراستهم للبشرية الأكثر إيغالا في القدم. ولقد انضم كثير من علماء الوراثة إلى هذه الاستنتاجات، وكذلك بات علماء الأحافير الذين كانوا يدافعون عن نظرية الإحلال، يرحبون بحماسة بنتائج الوراثة الجزيئية.

لقد قدر فريق أبحاث جامعة بركلي أيضا عمر السليف المشترك للتسلسلات المدروسة. ولتحقيق ذلك استخدم علماء الوراثة ما يسمى فرضية «الساعة الجزيئية» molecular clock، وبحسبها تتراكم الطفرات mutationsبشكل منتظم تقريبا مع الزمن، على الأقل بالنسبة إلى الجينات الحيادية إزاء الانتقاء الطبيعي natural selection، بمعنى أن تلك الجينات لا تقدم شيئا لحاملها أو تؤخره. ومن أجل حساب نَظْم (إيقاع) حدوث الطفرات، تُجرى مقارنة التسلسلات البشرية بالتسلسلات في دنا الرئيسيات (مثل قردة الشمپانزي)، ثم يُقسم عدد الاختلافات على الزمن الواقع بينهما (أي زمن تباعد النوعين)، والمفترض أنه معروف. وبفضل هذه المقاربة حُسب عمر السليف المشترك لتسلسلين يخصان شخصين مختلفين. لقد قدر فريق أبحاث جامعة بركلي أن طفور الدنا الميتوكوندري يجري بإيقاعية تعادل %4/21 كل مليون سنة، ولذا يستنتج العلماء أن تسلسلات الدنا المدروسة في السليف تعود في الواقع إلى نحو000 200 سنة.

الإنسان SCI2002b18N11-12_H10_002026.jpg
الشكل 3: على مستوى كوكب الأرض، تكون المسافة الوراثية بين الجماعات البشرية مرتبطة بالمسافة (البعد) الجغرافية. نلاحظ على شجرة النسب (بالأحمر) تسْع مجموعات سكانية حالية أُعيد تركيبها انطلاقا من التنوع الوراثي الذي لوحظ على شدف من الدنا تسمى شدف التحديد، وأن طول الفروع يتناسب مع المسافة الوراثية بين هذه المجموعات السكانية. وهذه المسافة الوراثية تكون متناسبة تقريبا مع البعد الجغرافي.

وفيما يخص النتائج السابقة فإنها تبقى قابلة للنقاش، لكونها لا تمتلك أي دليل إحصائي؛ إذ انطلاقا من البيانات نفسها يمكن الوصول إلى سلالات لا تفرق بين أنماط الدنا الإفريقي ودنا الجماعات الأخرى، وكلها محتملة.

نظريةٌ موضع جدال(*****)
يؤكد علم تطور السلالات phylogeny انتقالَ الجينات إلى ذرية الأشخاص وليس إلى ذرية الجماعات؛ إذ إن نمطي شجرة النسب لا يلتقيان؛ فتاريخ البشرية متشابك وكثير التعقيد في الجماعات (انظر الشكل6). هذا من جهة، ومن جهة أخرى فقد أوضحت طرق تحليل السلالات كيفية إعادة تشكيل التطور الوراثي للأنواع التي ابتعدت عن السليف المشترك من دون أن يكون هناك تقاطع فيما بينها؛ أي إن هناك أحداث انشقاق هي التي تتدخل في هذا النمط من سلسلة النسب؛ إذ إن تاريخ الجماعات البشرية يشمل أيضا اندماجات عند حدوث تبادل الجينات، وقت هجرة الجماعات المختلفة التي سبق انفصال بعضها عن بعض. إن أشجار النسب عند الجماعات تضم تشعبات إضافية بين فروعها تنطبق في واقع الأمر على الاندماجات الجينية؛ ولذا فإن علينا الاعتراف بأن إمكانية إعادة بناء أشجار النسب تكاد تكون مستحيلة.

فضلا عن ذلك، فإن درجة التنوع الوراثي المرتفعة لدى جماعةٍ ما لا تشير بالضرورة إلى أنها الأقدم؛ فالجماعة الكبيرة عدديا هي التي تتراكم فيها الطفرات بشكل يزيد على ما يحدث في الجماعة الأقل عددا أو المحدودة العدد في نفس المدة الزمنية. ولعل إفريقيا كانت مجرد القارة الأكثر ازدحاما بالسكان في عصور ما قبل التاريخ، ولم تكن الأرض التي نشأت فيها البشرية.

أخيرا أعيد طرح التساؤل حول غياب أثر الانتقاء (الانتخاب) الطبيعي في الدنا الميتوكوندري. وافترض علماء الوراثة، لضرورات دراسية، أن الدنا الميتوكوندري كان حياديا. وإذا لم يكن ذلك واقع الحال، فيجب عندئذ قياس أو تحديد أثر العوامل البيئية في تطوره، بهدف إعادة صوغ تاريخ الجماعات الذي مازال غير ممكن.

ويضاف إلى هذه السلسلة من الاعتراضات أن مفهوم حوّاء الإفريقية مثير للحيرة؛ إذ يفيد بأن كل النساء انحدرن من امرأة واحدة كانت موجودة قبل000 200سنة، وأن تحليل الجينات المتغايرة (الألائل) يشير إلى أنها انحدرت كلها من جينة تعود إلى السليف المشترك لشخص عاش قبل000 200سنة، ولكن هذا الشخص لم يكن سليفا لكل الجماعات البشرية الحالية. وفي الواقع إن هناك سليفا مشتركا لكل قطعة من الجينوم البشري، وكذلك للأشخاص الحاملين له. وقد عاش هؤلاء على الأرجح في أمكنة وأزمنة مختلفة (انظر الشكل 7).

كما أثارت أعمال<كان> و<ولسن> العديد من نقاط النقد، فإن من تلوهما تابعوا دراسة الدنا الميتوكوندري محاولين تجاوز مختلف أسباب الأخطاء المحتملة الحدوث. وقد تابع پابو وزملاؤه [من معهد ماكس پلانك في ميونيخ] دراسة جزيء الدنا الميتوكوندري بكامله (وقرؤوا كل النوكليوتيدات). وتناولت دراسات أخرى عملية فك تشفير نوكليوتيدات شدفتين صغيرتين (مفرطتي التغاير)، من شدف الدنا الميتوكوندري. وبحسب رأي علماء الوراثة العاملين في مؤسسة ماكس پلانك، فإن الشدفتين المذكورتين تطفران بشكل سريع جدا لا يسمح بتكوين رأي في السلالات التطورية.

وفي الواقع، فإنه استنادا إلى تسلسلات الدنا الميتوكوندري القصيرة هذه، يكون احتمال إعادة اكتشاف التسلسل البدئي بعد بضع طفرات، احتمالا جديرا بالاهتمام. وقد اعتمدت هذه الدراسة الحديثة لتطور السلالات على تحليل 53 جزيئا كاملا للدنا الميتوكوندري تعود إلى أشخاص ينتمون إلى جميع أنحاء العالم. وهذا يتوافق مع وجود عدة فروع إفريقية، انفصلت عن الفرع الأساسي المكون من فروع إفريقية وغير إفريقية. ويعود عمر جذر شجرة النسب هذه إلى000 170سنة، في حين يعود عمر جذعها (الذي ليس بالضرورة إفريقيا صرفا) إلى000 52 سنة. وقد فُسرت هذه النتائج بحسب إحدى صيغ نظرية «الخروج من إفريقيا»، التي تفيد بأن الإنسان الحديث كان ظهوره في إفريقيا، ولكن تطوره حدث خلال حقبة زمنية طويلة، قبل أن يغادر القارة أول مرة قبل أكثر من000 50 سنة.

إن هذه التواريخ تقترب من بداية العصر الحجري القديم الأعلى الذي غالبا ما يعد عصر الثورة الثقافية الأولى، نظرا لظهور الأدوات المصنعة وأول الأعمال الفنية فيه. وبالمقابل فإن هذا التفسير المستند فقط إلى البيولوجيا الجزيئية يتعارض مع وجود البقايا الأحفورية للإنسان الحديث التي يعود قدمها إلى000 100سنة في منطقة الشرق الأدنى(6) (في منطقتي سخول Skuhl وقفزة Qafzeh)، وإلى000 67سنة في الصين (في منطقة ليوجايانگ Liujiang)، وإلى 000 60 سنة في أستراليا (في بحيرة مونگو Mungo). إضافة إلى ذلك، فإن هذا التحليل الجديد عرضة إلى النقد السابق ذاته، وبخاصة أن شجرة الجينات ليست شجرة للجماعات البشرية.

نظرية الاندماج(******)
استخدم الباحثان<L.إكسكوفييه> و<S.شنايدر> [من جامعة جنيف] مقاربة أخرى تستند إلى ما يسمى «نظرية الاندماج»، التي تُظهر سلسلة النسب لعينة الجينات البشرية حتى السليف المشترك. ومصطلح الاندماج coalescence يشكل مرجعا يعيد صفحات الماضي؛ إذ يندمج نسلان في شخص واحد، لأن هذا الشخص ينقل على الأقل نسختين للجينة نفسها إلى ذريته. إن زمن حدوث الاندماج يعادل متوسط عدد الأجيال اللازم لاندماج نسلين في الجماعة بطريق المصادفة. وقد صاغ<J.كنگمان> [من جامعة أكسفورد] نظرية الاندماج عام 1982 وأظهر أن سلسلة النسب لعينة من الجينات يمكن أن توصف كاحتمال تطوري عشوائي، ولا ترتبط بسرعة تراكم الطفرات، ولكنها ترتبط فقط بالعامل الديموغرافي (السكاني). فهي ترتبط مثلا بحجم الجماعة؛ أي إن احتمال اندماج جينتيْن في الذرية السابقة يكون كبيرا كلما كانت الجماعة صغيرة. وعلى العكس فإن احتمال اندماج جينتيْن يكون صغيرا كلما كانت الجماعة كبيرة. وإذا طبقنا المقاربة ذاتها على السلالات السابقة، فسنرى أن زمن الاندماج يكون أطول في الجماعة الكبيرة.

وترتبط سلسلة النسب لعينة من الجينات أيضا بعدد المنحدرين من الشخص نفسه. فإذا كان العدد متغيرا بشكل كبير فهذا يعني أن أشخاصا معينين لا ينقلون جيناتهم، في حين ينقل الآخرون كثيرا من النسخ إلى سلالتهم. إضافة إلى ذلك، إذا كان عدد الأشخاص المشاركين في التكاثر منخفضا، يكون زمن الاندماج أقل عند هذه الجماعة البشرية، مقارنة بجماعة حصل جميع أفرادها على العدد نفسه من الأطفال. وهكذا نجد أن سلسلة النسب ترتبط بعوامل ديموغرافية، ويمكن اعتمادها في صياغة التاريخ الديموغرافي لهذه الجماعات. وبهذه النظرية نصل إلى تتبع انتشار الجماعات البشرية، حتى أنه يمكن تحديد تاريخها.

الإنسان SCI2002b18N11-12_H10_002027.jpg الإنسان SCI2002b18N11-12_H10_002028.jpg
الشكل 4: في إفريقيا، ترتبط المسافة الوراثية بالمسافة اللغوية. وثمة أربع عائلات لغوية متعايشة مدونة في يسار الشكل وهي: الآفرو-آسيوية، النيلية-الصحراوية، خوازان، النيجر-كونگو. وهناك جماعات تتحدث لغات متقاربة جدا وتعيش أحيانا على مبعدة بضع مئات من الكيلومترات، ومع ذلك تظهر على الخريطة الوراثية (في الأعلى) متقاربة فيما بينها أكثر من مجاوريها جغرافيا: الجماعات الممثلة هنا بنقاط تكون متقاربة بقدر ما تكون المسافة الوراثية التي تفصل بينها ـ بحسب الجينات المكودة للأضداد المحللة في هذه الدراسة ـ قليلة.

وتناول فريق جامعة جنيف في دراسته الدنا الميتوكوندري عند 67 جماعة بشرية منتشرة في أنحاء العالم. فتبين أن الانتشار الأقدم لها حدث في شرق إفريقيا قبل000 110سنة، في حين تعود الانتشارات اللاحقة إلى نحو000 70سنة، وقد كانت في إفريقيا الجنوبية وآسيا الشرقية وأوقيانوسيا Oceania (7)، وتعود إلى نحو000 57سنة في أمريكا، وإلى نحو000 42 سنة في أوروبا والهند والشرق الأدنى. وتقترب هذه التواريخ من تواريخ فترات الاستيطان الأولى لهذه القارات من قِبَل الإنسان الحديث، التي تستند في تقديراتها إلى اكتشاف أقدم الأحافير التي عرفت حتى اليوم (انظر الشكل 2)، ولكنها تحدد الانتشار الديموغرافي والجغرافي لهذه الجماعات البشرية، ولا تحدد ظهورها.

في الدراسات الوراثية، ينبغي التحفظ عند النظر في التواريخ السالفة الذكر؛ فهي تستند إلى نظرية «الساعة الجزيئية» التي تفترض أن إيقاعات تراكم الطفرات ثابتة ومعروفة، بيد أن هناك مشكلتين على الأقل يمكنهما أن يحرفا تقديرات تلك الإيقاعات. المشكلة الأولى تتعلق بالتنوع الوراثي الذي يكون أكبر بين الشمپانزي منه بين البشر؛ إذ يحتمل أن تتغير النتيجة بشكل كبير بحسب الشمپانزي المختار للدراسة وبحسب التسلسل في حمضه النووي الذي جرى تحليله بهدف معرفة عدد الطفرات لديه منذ حدوث التباعد بين الإنسان والشمپانزي. إضافة إلى ذلك، لا يُعرف تاريخ حدوث التباعد بين الإنسان والشمپانزي إلا بصورة تقريبية؛ إذ يعتقد أنه يرجع إلى خمسة ملايين سنة، ولكن تبيّن بعد الاكتشافات الأحفورية الحديثة التي تمت في إفريقيا، أن هذا التباعد يمكن إرجاعه إلى عهد أقدم من ذلك.

الإنسان SCI2002b18N11-12_H10_002029.jpg
الشكل 5: وُضعت شجرة النسب الأولى بناء على التحليل المباشر للدنا لعينات من جماعات بشرية من العالم أجمع، وهي تميز بين عدة أنماط من الدنا التي تعود إلى أصل إفريقي، إضافة إلى أنماط أخرى تُصادَف في دول العالم (بما في ذلك إفريقيا). وبرغم التفسيرات التي جرت فإن مثل هذه الدراسات لم تبرهن على الأصل الإفريقي للإنسان الحديث.

الإنسان SCI2002b18N11-12_H10_002030.jpg
الشكل 6: يختلف تاريخ الجينات عن تاريخ الجماعات البشرية. لقد تراكبت imbricated شجرة النسب لجينة (مُوَرِّثة) خاصة (بالأزرق) في شجرة الجماعات (اللون الوردي). وثمة جينة أخرى مختلفة النسب عن السابقة تقع في داخل شجرة الجماعات نفسها. لقد انتقلت الجينات إلى أنسال الجماعة نفسها، أو إلى أنسال جماعة أخرى مختلفة، عن طريق تبادل الجينات وقت الهجرات؛ فعلى العكس من أشجار الجينات، تتضمن أشجار الجماعات فروعا أفقية بين الفروع الرئيسية، التي لا يمكن إعادة تكوينها بناء على الأنسال الوحيدة للجينات.

لقد عرضنا بشكل عام، دراستين للمنظومات الوراثية التقليدية وثلاث دراسات للدنا الميتوكوندري، وقد توافقت جميعها حول النقطة الآتية: إن القارة الإفريقية ليست متجانسة من الناحية الوراثية، ومع ذلك فإن هذه النتيجة تقدم لنا تفسيرات متعددة، مما يؤدي إلى استمرار الشكوك في معرفة مكان أصل الإنسان الحديث، وفي معرفة تواريخ التمايز الوراثي للجماعات البشرية.

أسرار الصبغي الجنسي Y(*******)
من أجل تبديد الشكوك السابقة، تخلى علماء الوراثة عن تناول الدنا في دراستهم ولجؤوا في كثير من المختبرات إلى دراسة منظومات وراثية أخرى تتعلق بالصبغي الجنسي Y، عوضا عن الدنا الميتوكوندري. وهذا الصبغي يحدد الجنس الذكري على الخريطة الوراثية، وهو لا ينتقل إلا بوساطة الرجل (يوجد عند الرجل زوج من الصبغيات الجنسية المختلفة وهو XY، في حين نجد عند المرأة الصبغيين XX). وتتكامل دراسة الصبغي Y مع دراسة الدنا الميتوكوندري الذي تنقله النساء فقط.

وتظهر أعمال<P.أندرهِل> وزملائه [من جامعة استانفورد] أن السليف المشترك لجينات الصبغي Y يعود إلى000 59سنة، وهي مدة تقل كثيرا عن قِدَم جينات الدنا الميتوكوندري (التي يعود قدمها إلى المدة الواقعة بين 000 100و000 200 سنة). ومن أجل إعطاء التفسير المناسب لهذه النتائج، تقدم فريق الباحثين من كاليفورنيا بالسيناريو الآتي: لقد ظهر الإنسان الحديث في إفريقيا في المدة الواقعة بين000 130و 000 70سنة، وذلك من خلال الوثائق الأحفورية، وقد هاجر إلى القارات الأخرى قبل000 59 سنة، وهذا ما أكدته دراستهم التي تناولت الصبغي Y.

ولكن التفسير السابق يبقى قابلا للنقاش من جديد، لأن كل جينة تمتلك على الأرجح سليفا مشتركا من عمر مختلف. إضافة إلى ذلك، اعتبر <أندرهِل> وزملاؤه ـ لأغراضهم الدراسية ـ أن الصبغي Y لم يتأثر بالانتقاء الطبيعي، وهو أمر يبدو غير محتمل. وهكذا نجد، كما هي الحال بالنسبة إلى الدنا الميتوكوندري، أن تاريخ انتشار البشرية الذي يستند إلى دراسة الصبغي Y مازال غير مؤكد.

وفي دراسة أخرى على الصبغي Y أجراها الباحث<M.هامر> [من جامعة أريزونا] اقترح سيناريو آخر يدشن نظرية «الخروج من إفريقيا والعودة ثانية» Out of Africa and back again؛ فالإنسان الحديث هاجر من إفريقيا، وتمايز وراثيا إلى عدة سلالات في القارات الأخرى، ثم عادت مجموعة من الشعوب الآسيوية إلى إفريقيا. وهذا ما يفسر التنوع الوراثي الكبير الحالي للسلالات الإفريقية. وقد حصلت هذه الهجرة إلى إفريقيا قبل نحو000 30 سنة.
إن ما يدهش للوهلة الأولى في تفسيرات<هامر>، أنها لم تعد منفردة أو منعزلة. فهناك أعمال أخرى تمت على جينات أخرى مسؤولة عن تركيب الهيموگلوبين (خضاب الدم)، أشارت إلى أن جزءا على الأقل من الجينات البشرية الحديثة كانت من مصدر آسيوي قديم. وتبدو الجماعات الآسيوية الحالية متنوعة وراثيا بقدر الجماعات الإفريقية، وهذا الأمر هو الذي أفقد الجماعات الإفريقية صفة الأقدمية. كما أظهرت دراسة الصبغي الجنسي X أن السليف المشترك للجينات المدروسة يعود إلى نحو 1.8 مليون سنة. وبحسب الدراسة نفسها فإن البشرية كانت قد قُسِّمت إلى فئات من الجماعات المتمايزة وراثيا قبل000 200 سنة.

وأخيرا، فإن دراسة شدفة طويلة من الدنا غير مكودة (أي شدفة لا تنتج پروتينات وتكون على الأرجح حيادية ولا تخضع لأثر الانتقاء الطبيعي) أظهرت أن درجة التنوع الوراثي كانت متقاربة بين الإفريقيين وغير الإفريقيين، وأن عمر السليف المشترك للتسلسلات المدروسة يعود إلى 1.3 مليون سنة. وبالنسبة إلى هؤلاء الباحثين، فإن هذه النتائج رسخت نظرية «تعدد الأقاليم»؛ لأن جينات الجماعات الحالية تطورت خلال أزمنة طويلة جدا سبقت ظهور الإنسان الحديث.

ونشير هنا إلى أنه من خلال دراسة الدنا الميتوكوندري أمكن الكشف عن أكبر تنوع وراثي في إفريقيا، في حين أغرقت دراسة الدنا النووي علماء الوراثة في الشك من جديد بدلا من تعزيز نظرياتهم.

الإنسان SCI2002b18N11-12_H10_002031.jpg
الشكل 7: تعود الجينات المستقلة إلى «أسلاف» مشتركة مختلفة. والأفراد الذين يحملونها يكونون على الأرجح قد عاشوا في أمكنة وأزمنة مختلفة. وفي هذا المثال، فإن سلسلة نسب جينات الدنا الميتوكوندري التي تنتقل عن طريق الأم حصرا، وسلسلة نسب جينات الصبغي Y التي تنتقل عن طريق الأب فقط، تعود إلى سليفين مشتركين ليس لهما عمر واحد. ومع ذلك، فإن السلسلتين تنسجمان مع سلسلة نسب الأفراد الثلاثة.

الدنا الآحفوري (********)
لقد حصلت ثورة صغيرة في نهاية التسعينات من القرن الماضي، عندما نجح الباحث پابو وزملاؤه في استخلاص الحمض النووي من بقايا أحفورة بشرية، وتحليل التسلسلات التي أصابها التلف قليلا أو كثيرا. وكانت أولى النتائج للدنا الميتوكوندري لإنسان نياندرتال المكتشف في منطقة فيلدهوفر Feldhofer بألمانيا (يعود قدمه إلى ما بين000 35 و 000 70سنة) ولاثنين من أقرانه. وكانت التسلسلات متباعدة divergent كثيرا (من 25 إلى 26 نوكليوتيد) عن التسلسلات البشرية الحالية. وقد خلص علماء الوراثة إلى القول إن النياندرتاليين لا يشكلون جزءا من أسلافنا.

ولكن ظهرت مرة أخرى الشكوك حول مصداقية هذه الاستنتاجات؛ إذ إن دراسة تسلسلات الدنا لإنسان مونگو Mungo (وهو الإنسان العاقل العاقل الأسترالي الذي يعود إلى000 60 سنة) تظهر تباعدا أكبر في جدول التسلسلات عما هو لدى البشر الحاليين (من 11 إلى 12 نوكليوتيد)، كما بيّن فريق أبحاث يقوده<A.ثورن> [من جامعة كانبيرا]. وإذا ما أخذنا بالمقاييس السابقة فيجب أن نستبعد ـ بحسب المعايير الوراثية ـ إنسان مونگو من شجرة نسبنا، في حين نعرف أنه يشكل جزءا منها بحسب صفاته الشكلية (إنسان مونگو لا يتميز من الإنسان الحالي في شيء). ومن ثم فإن الاستدلال خطأ، وإن استبعاد إنسان نياندرتال من سلالاتنا (وفقا لاستنتاجات سابقة) وُضِع موضع تساؤل. ولقد استنبط سابقا احتمال أن يكون النياندرتاليون أيضا جزءا من أسلافنا. وتبقى فرضية وقوع التهجين بين النياندرتاليين والإنسان العاقل العاقل المتعاصريْن فرضية غير مستبعدة. من جهة أخرى لا يمكننا تحديد إن كانت المجموعتان شكلتا أنواعا متميزة استنادا إلى المسافة الجزيئية الوحيدة بين تسلسلات الدنا الخاصة بهما.

لقد تراكمت في السنوات الأخيرة الدراسات الوراثية، ولكن الأسئلة التي طرحتها كانت غالبا سيئة في عرضها، وكانت الوسائل التي استخدمها علماء الوراثة للرد عليها غير كافية. لقد كانت المشكلات المنهجية تتكرر دوريا، كغياب الصفة التمثيلية للبيانات (انخفاض عدد عينات الدنا مع تزايد دفْع التحليلات) أو كغياب الدليل الإحصائي (بصفة عامة، يمكن أن تؤدي البيانات ذاتها إلى الآلاف من أشجار النسب المختلفة). ولا بد من ملاحظة أن تحاليل جينات متميزة، وكذلك الطرق المختلفة لتحليل الجينات نفسها، تقودنا إلى تفسيرات مختلفة.

يبدو لنا أخيرا أن «نظرية الإحلال» هي الأكثر احتمالا، ولكننا نظن أنها لا تنطوي بالضرورة على الأصل الإفريقي للإنسان الحديث؛ لأن أكثر التنوع الوراثي الإفريقي ظهرعلى جينات محددة يمكن شرحها بعوامل ديموغرافية. ويبقى السؤال: لماذا لم يطرح للدراسة ظهور الإنسان الحديث في منطقة الشرق الأدنى؟ من الغريب أن هذه المنطقة كانت مبعدة من الدراسة، مع أنه ظهرت فيها بقايا أحفورية للإنسان الحديث لا تقل قدما عما ظهر في إفريقيا.

على كل حال، إن السيناريوهين الأساسيين اللذين يقترحهما علماء الأحافير غير مستبعدين أيضا. فتاريخ البشرية يتكون من هجرات وانتشارات وتكيفات وانقراضات واختلاطات بين الجماعات المختلفة. وإن المدة بين000 100و000 200 سنة، التي مرت على ظهور الإنسان الحديث كانت كافية لخلط الجينات بعضها ببعض. كما أن التحاليل العديدة والمتوازية على المنظومات الوراثية المستقلة، وكذلك تطبيق طرائق متكاملة على عينات تمثل الجماعات المختلفة، يمكن أن يساعدنا على توضيح شجرة نسبنا.
المؤلفة
Alicia Sanchez-Mazas
باحثة في علم الوراثة في مختبر الوراثة والقياسات الحيوية بجامعة جنيف.
مراجع للاستزادة
A. SANCHEZ-MAZAS, L. GRAVEN et B. PELLEGRINI, Genetique, linguistique et prehistoire du peuplement sub-saharien, Bulletin du Centre Genevois d'Anthropologie, vol. 3, pp.3-21, 1991-1992.
L. L. CAVALLI-SFORZA, P. MENOZZI, et A. PIAZZA, The History and Geography of Human Genes, Princeton University Press, New Jersey, 1994.
B. PELLEGRINI, L'Eve imaginaire : les origines de l'homme, de la biologie d la paleontologie, Payot & Rivages, Paris, 1995.
A. LANGANEY, J. CLOTTES, J. GUILAINE, D. SIMONNET, La plus belle histoire de l'homme: comment la Terre devint humaine. Seuil, Paris, 1998.
Pour la Science No. 298

(*) LES ORIGINES DE L’ HOMME, AU COEUR DE SES GÉNES
(**)Deux scénarios pour une apparition
(***)Les Traceurs Biologiques
(****)Les Révélations de I' ADN mitochondrial
(*****)Une théorie contoversée
(******)La théorie de coalescence
(*******)Les secrets du chromosomeY
(********)L'ADN fossile

(1) [انظر: «مستحاثات بشرية من إفريقيا ترجع إلى نحو أربعة ملايين سنة»،مجلة العلوم، العدد 5(1997)، الصفحة 11].
(2) théorie du remplacement
(3) théorie de multirégionaliste
(4) وهي مجموعة من اللغات الإفريقية ينطق بها السكان القاطنون جنوبي خط يمتد من الكاميرون إلى كينيا. (التحرير)
(5) [انظر: «قصة الجانب الشرقي: أصل الجنس البشري»،مجلة العلوم ، العدد 2 (1995) ، الصفحة 12].
(6) [انظر: «الإنسان الحديث في بلاد المشرق»، مجلة العلوم، العدد 1 (1995) ، الصفحة 30].
(7) مجموعة الجزر الواقعة في جنوب وغرب ووسط المحيط الهادئ، وتشمل: ميلانيزيا وميكرونيزيا وپولينيزيا. وقد تمتد التسمية لتشمل أيضا أستراليا ونيوزيلندا وأرخبيل الملايو. (التحرير)

المصدر: ملتقى شذرات

__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية

الكلمات الدلالية (Tags)
مدفوعة, أسوأ, الإنسان, جيناته


يتصفح الموضوع حالياً : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
أدوات الموضوع

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


المواضيع المتشابهه للموضوع أصول الإنسان محفوظة في جيناته
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
أصول التربية Eng.Jordan بحوث و مراجع و دراسات تربوية واجتماعية 0 03-09-2013 06:55 PM
الإنسان البصري الإنسان السمعي الإنسان الحسي Eng.Jordan الملتقى العام 0 04-16-2012 08:15 PM
هل السنة النبوية محفوظة من الضياع ؟ جاسم داود شذرات إسلامية 1 02-14-2012 05:07 PM
أصول الخطايا يقيني بالله يقيني شذرات إسلامية 7 02-10-2012 02:49 AM
حوار مع مسؤل اردني مهند الملتقى العام 0 01-11-2012 06:17 PM

   
|
 
 

  sitemap 

 


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 10:15 AM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.12 by vBS
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والمشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59