#1  
قديم 02-03-2012, 02:37 PM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,392
افتراضي بعض مؤثرات رواية "الجريمة والعقاب" لدوستيفسكي في رواية نجيب محفوظ "اللص والكلاب"


بعض مؤثرات رواية
"الجريمة والعقاب" لدوستيفسكي
في رواية نجيب محفوظ "اللص والكلاب"


د ممدوح ابو لوي

صدرت رواية "اللص والكلاب" في عام 1961 أيّ بعد ثورة 23 تموز بتسع سنوات وبعد صدور رواية دوستيفسكي "الجريمة والعقاب" بخمسة وتسعين عاماً لأنّ الرواية الروسيّة المذكورة صدرت في عام 1866.
1-صدرت الروايتان في مرحلتين تاريخيتين متشابهتين فلقد صدرت الأولى بعد إلغاء نظام القنانة بموجب القانون الذي أصدره القيصر في شباط عام 1861 وبموجبه حصل الفلاحون على حريتهم الجزئية ويعد هذا القانون الجديد ثورة ولكن قام بها القيصر نفسه متفادياً، بذلك الثورة كان يمكن أن تنفجر وتقضي على حكمه وامتيازات الاقطاع المستفيدين من الحكم فأقدم القيصر على ثورةٍ أجراها بنفسه لكي يتخلص من ثورةٍ كان يمكن أن يقوم بها الشعب نفسه.
ولو أنّها قامت لاقتلعت النظام من جذوره، إذن صدرت رواية دوستيفسكي (1821-1881) في بداية مرحلة تاريخية جديدة في حياة الشعب الروسي.
وكذلك فلقد صدرت رواية نجيب محفوظ في بداية مرحلةٍ جديدةٍ في حياة الشعب العربي في مصر، وهي المرحلة التي أعقبت الثورة التي أطاحت بالنظام الملكي وأعلنت أنّ تحقيق الاشتراكية من بين أهدافها وأن ثروات البلد موزعة بشكلٍ غير عادلٍ ولا بد من إعادة توزيع هذه الثروات توزيعاً يضمن لأغلبية السكان حياة كريمة وقسمه عادلة من ثروات مصر.
وبكلمةٍ واحدةٍ نادت في تلك الفترة شريحة كبيرة من مثقفي مصر بتطبيق الاشتراكية.
وكذلك كان الأمر في الفترة التي كتب بها دوستيفسكي روايته ففي تلك الفترة كانت تنظيمات سياسية كثيرة في روسيا تنادي بالنظام الاشتراكي.
2-فما هو موقف دوستيفسكي من الاشتراكية؟ وكيف طرح هذا الموضوع في روايته؟ وما موقف نجيب محفوظ من الاشتراكية؟ وكيف عالج الموضوع في روايته؟
أمّا موقف دوستيفسكي من الاشتراكية فنستطيع أن نعرفه من سيرة حياته ومن خلال إطلاعنا على مقالاته الاجتماعية التي نشرها في مجلاتٍ ثلاث وهي "العصر" و"الزمن" و"يوميات كاتب".
وكذلك نستطيع أن نعرف موقف الكاتب المذكور من خلال قراءتنا لأعماله الإبداعية وهي الروايات والقصص القصيرة، التي تركها لنا وتأتي رواية الجريمة والعقاب في مقدمة رواياته الفكرية.
أما موقفه من الفكر الاشتراكي في تلك الفترة التي كتب فيها الرواية المذكورة فهو يشكك في صحة هذا الفكر.
وهناك من يرى أنّ دوستيفسكي يدين الممارسات الخاطئة باسم تطبيق الاشتراكية ولكن الحقيقة أن دوستيفسكي يدين الاشتراكية والاشتراكيين وليس فقط الممارسات الخاطئة ولا يكتفي بإدانة الأساليب التي قد يمارسها بعض الاشتراكيين إلا أنّه يدين الاشتراكية بحدّ ذاتها. مع احترامه العظيم لبواعثها.
وقد يتساءل البعض هل يعقل هذا، بعد أن انضم دوستيفسكي في فترةٍ معينةٍ من حياته لمنظمة اشتراكيةٍ متطرفة وقضى فترةً من حياته بسببها في السجن وحكم عليه بالإعدام؟ وكاد أن ينفذ حكم الإعدام ورأى الموت بأم عينيه وبعد ذلك حكم عليه بالأعمال الشاقة في سبيريا، مدة عشرة أعوام ونفذ الحكم. قضى منها أربعة أعوام في الأعمال الشاقة، وستة أعوام في الجندية بعيداً عن الأوساط الأدبية. يجيب دوستيفسكي عن هذا التساؤل بأنّه بعد تنفيذه الأعمال الشاقة بدلّ معتقداته.
أمّا نجيب محفوظ ذلك الكاتب الذي لا تشبه سيرة حياته حياة دوستيفسكي فهو يحبّ الحياة الهادئة ولا يريد أن يبدّل فيها شيئاً حتى إنّه رفض السفر إلى السويد لتسلم جائزة نوبل للآداب في عام 1988 لكي لا يغير ولو ليومٍ واحد شيئاً من نظام حياته الرتيب، وكلف أفراد أسرته بالسفر إلى السويد لتسلّم جائزة نوبل أي أنه لم يتسلم الجائزة بنفسه، لكنه أعطاها لأسرته وبذلك فإن حياته الهادئة الرتيبة، تختلف عن حياة دوستيفسكي المتقلبة والصاخبة والمتناقضة.
أمّا موقف نجيب محفوظ من الاشتراكية فهو لا يختلف كثيراً عن موقف دوستيفسكي الذي يدين الاشتراكية بحدّ ذاتها، ولا يعقل أنه يدين فقط الممارسات الخاطئة باسم الاشتراكية، لأنّه لو كان كذلك لما اختلف عن الماركسيين، لأنّ ماركس (1818-1883) نفسه أدان ممارسات المتطرفين الفوضوية لبعض التنظيمات الاشتراكية. ولينين نفسه انتقد مثل هذه الممارسات في كتابه "مرض اليسارية الطفولي في الشيوعية" ولكان موقف دوستيفسكي من أخطاء الشيوعيين متطابقاً مع موقف كارل ماركس (1818-1883) وفلاديمير لينين
(1870-1924) إلا أنّه ليس كذلك لأنه يدين الاشتراكية نفسها ولا يكتفي بإدانة بعض أساليب تطبيقها.
3-بنيت رواية "الجريمة العقاب" على أساس حوارٍ بين مؤلفها وبين أحد كبار الاشتراكيين الروسي آنذاك وهو تشير نيشيفسكي (1828-1889) ولقد بدأ دوستيفسكي حواره مع تشير نيشيفسكي في روايته السابقة في القبو التي صدرت في عام 1864 واستمر يحاوره في رواية الجريمة والعقاب التي صدرت بعد عامين من صدور رواية "في القبو".
كان تشير نيشيفسكي يرى ضرورة بناء المجتمع على أساس معطيات العلم والعقل ويرى ضرورة تجاهل العواطف الإنسانية وكلّ ما له علاقة بالقلب وكان يرى أنّ هذا البناء يمكن تحقيقه ومن الضروري الوصول إليه.
كان دوستيفسكي يرى أن الحياة الإنسانية لا يمكن أن تبنى على أساس العلم والعقل وحدهما، لأنّ السلوك الإنساني لا يخضع دائماً للعقل وإنّما ينبع أحياناً من القلب، وتحركه أحياناً دوافع اللاشعور التي لا يستطيع العقل والعلم معرفتها وبالتالي لا يعرفان كيفية التحكم بها والسيطرة عليها.
ويؤمن دوستيفسكي بأنّ الإنجازات العلمية، حتى زمننا الحاضر لم تتمكن من معرفة كلّ شيء عن النفس البشرية ولن تعرف عنها في المستقبل، لأنّ سلوك الإنسان غامض وسيبقى غامضاً.
ويتابع دوستيفسكي جدله مع تشير نيشيفسكي، ويرى أنّ المجتمع الذي يبنى على معطيات العقل والعلم وحدهما، هو مجتمع لا أخلاقي وأنّ الإنسان الذي يتصف بالوجدان والضمير لا يقبل أن يبنى المجتمع دون الأخذ بعين الاعتبار عواطف القلب وعالم اللاشعور وحول هذا الجدل تدور رواية "الجريمة والعقاب".
4-اسم بطل الرواية راسكو لنيكوف كان قبل قيامه بجريمته طالباً في الجامعة، بكلية الحقوق ولا بأس بالإشارة إلى أنّ رؤوف علوان أحد الشخصيات الرئيسية في رواية اللص والكلاب أيضاً كان طالباً في كلية الحقوق.
وما حاجة الكاتبين إلى هذا الاختصاص؟ أي لماذا جعل نجيب محفوظ أحد أبطال روايته، وهو المحرض على السرقة طالباً في كلية الحقوق؟ لأنّ الموضوع في الرواية يدور حول الجريمة والعقاب ولهذا الموضوع صلة وثيقة بالعلوم التي يدرسها طلاب كلية الحقوق.
راسكو لنيكوف مثقف قرأ الكثير من الكتب ويستطيع أن يقوم بالترجمة كما هو واضح من أحداث الرواية، وكما أنه قبل إقدامه على جريمة القتل والسرقة والنهب نشر مقالة هامة في جريدة "الحديث الدوري" وكانت رأس الخيط الذي عرف من خلاله المحقق بور فيري بتروفتش. أنّه هو القاتل والسارق وكان يعطي دروساً خصوصية بهدف الحصول على النقود، وبطل رواية "اللص والكلاب" أيضاً مثقف ولنر ماذا يقول عن نفسه مخاطباً رؤوف علوان الذي شجعه في الماضي على السرقة: "أنا مثقف وتلميذ قديم لك قرأت تلالاً من الكتب، بارشادك وطالما شهدت لي بالنجابة."(1) .
إذاً هو يعتبر نفسه مثقفاً، ويقول إنّه قرأ تلالاً من الكتب.
5-راسكو لينكوف لص غير عادي أقدم على السرقة والنهب والقتل، قتل العجوز المرابية وأختها.
وسعيد مهران بطل رواية اللص والكلاب أيضاً لص غير عادي أقدم على عدد من السرقات، ولكنه مثل راسكو لينكوف لص غير عادي، لأنّه لا يريد السرقة من أجل الحصول على المال بقدر ما يريد إعادة توزيع الثروات بشكلٍ عادلٍ ومعقول.
6-إنّ الدوافع التي دفعت راسكو لينكوف بطل رواية الجريمة والعقاب شبيهة بالدوافع التي كانت وراء جرائم وسرقات سعيد مهران بطل رواية "اللص والكلاب" إنّ أسباب قيام راسكو لينكوف بجريمته كثيرة جداً ولا تحصى وتكاد تكون غيبية أو قدرية، وكأن القدر أراد أن يقوم هذا الشاب بالذات بهذه الجريمة، ولننظر إلى الدوافع: إن دوافع قتل العجوز لدى راسكو لينكوف موجودة منذ الصفحة الأولى من الرواية.
فيذهب في الفصل الأول ليرى بيت العجوز المرابية وليعرف كيفية تنفيذ الجريمة أمّا في الفصل الثاني فيتعرف على أسرة مارميلادوف، إذ تضطر ابنة مارميلادوف إلى بيع جسدها من أجل الحصول على النقود، لأنّ الفتاة الشريفة لا تستطيع أن تكسب مالاً كثيراً إذا كانت شريفة، وذهبت وباعت جسدها لأنّ أخوتها الصغار لم يذوقوا طعم الغذاء خلال ثلاثة أيام ولا بأس بالإشارة إلى أنّ أخوتها هم من زوجة أبيها، فهي ضحت بنفسها من أجل صغار امرأة أبيها.
إذن هذا هو الدافع الأول وهو تخليص أسرة مارميلادوف، وابنته بالذات من الوضع المهين المذل، فلذلك فهو يحتاج إلى نقود العجوز المرابية، لإنقاذ ابنة مارميلادوف وأسرته بكاملها من البؤس والفقر والحرمان.
أمّا الدافع الثاني فكانت الرسالة التي استلمها من والدته وتتحدث فيها عن وضع أخته دونيا التي تعمل خادمة في بيت سفيد ريغالوف، ومحاولة هذا الأخير الإساءة إليها وقد طردتها صاحبة البيت وحرمت من تربية الأطفال ومن التدريس مع أنها بريئة ومظلومة وبعد ذلك تقدم لطلب يدها محامٍ اسمه لوجين، ووافقت على الرغم من أنّها غير مقتنعة به، فشعر أخوها راسكو لنيكوف بأنّ هذا الزوج الشرعي لا يختلف كثيراً عن بيع الجسد الذي أقدمت عليه صونيا مارميلادوف، تلك أقدمت على هذا العمل المهين لتنقذ الأطفال من الموت جوعاً، ودونيا تقدم على الزواج من هذا المحامي المتقدم في السن، والوصولي لتنقذ أسرتها من الفقر، فرأى راسكو لنيكوف ضرورة قتل العجوز المرابية لتخليص أسرته وأسرة مارميلادوف من العوز والحرمان والجوع بنقود العجوز المرابية.
الدافع الثالث هو الحديث الذي دار بين ضابطٍ وطالبٍ وسمعه راسكولينسكوف قال الطالب عن العجوز المرابية، إنها غنية ولا تقرض من المال إلا مبلغاً يساوي ربع قيمة الرهن وتتقاضى فائدة شهرية عن أموالها مقدارها خمسة في المائة بل وسبعة وعندها أخت غير شقيقة تستغلها العجوز كما تستغل الناس كلّهم ولقد أوصت بأموالها بعد موتها لأحد الأديرة، وذلك من أجل الصلوات الدائمة على روحها، وطلب الطالب من الضابط أن يفكر قليلاً بالمعادلة التالية: هناك من جهة أولى امرأة عجوز غبية سخيفة شريرة خبيثة مريضة لا قيمة لها ولا فائدة منها لأحد بل هي ضارة لجميع الناس ولا تعرف لحياتها هدفاً، وستموت في القريب ميتتها الطبيعية.
"وهناك من جهة ثانية قوى فتية شابة نضرة تضيع لأنّها محرومة من المساعدة وتعد بالألوف في كلّ مكانٍ إن ثمّة مئة أو ألف عملٍ خيرٍ أو مبادرة رائعة يمكن التحريض عليها أو إصلاح حالها بمال العجوز، وبهذا المال الموقوف على ديرٍ.
إنّ ثمة مئاتٍ وربما ألوفاً من الأفراد الذين يمكن وضعهم بهذا المال على الطريق القويم. إن ثمة عشراتٍ من الأسر يمكن إنقاذها بهذا المال من الفقر المدقع والتحلل الأخلاقي والدمار والفساد ومستشفيات الأمراض التناسلية فماذا لو قتلت هذه العجوز وأخذ مالها ثم وقف على خدمة الإنسانية بأسرها، على خدمة قضية جميع البشر؟ ماذا؟ ألا تعتقد أنّ جريمة طفيفة كهذه الجريمة ستمحوها ألوف الأعمال الخيرة؟
إننا بقتل فرد واحد نستطيع أن ننقذ حياة ألوفٍ غيره من الفسق والفساد والتحلل يموت واحد ليعيش مئات، مسألة حسابية"(2) .
ويجيبه الضابط بأنّ نظام الطبيعة يحميها ويرد الطالب يجب تقويم نظام الطبيعة وإلا غرقنا في الأوهام والأباطيل وأعجبت راسكو لينكوف هذه المعادلة الحسابية، واقتنع بها وعرف بالصدفة أنّ العجوز ستكون وحيدة في اليوم التالي في تمام الساعة السابعة، وبذلك حدد ساعة الصفر وهي بالفعل ساعة الصفر، لأنّ دوستيفسكي يرمز بشخصية العجوز المرابية إلى النظام القديم الفاسد المهترئ والذي سيموت حتماً بشكل طبيعي.
وترمز شخصية راسكو لنيكوف إلى المستقبل أو إلى الجيل الثائر الذي يقضي على الماضي ويدمره ليبني على أنقاضه المستقبل العادل.
وبذلك فإنّ ساعة قتل العجوز تعني ساعة القيام بالثورة الاشتراكية، التي تحقق العدل وتعيد توزيع الثروات المادية توزيعاً عادلاً وإنّ المعادلة التي يطرحها الطالب على الضابط والتي تقول بإن قتل عجوز مرابية شريرة، لتخليص بأموالها آلاف الناس المظلومين، هي المعادلة ذاتها التي نادى بها الاشتراكيون، وهي القضاء على مصالح الإقطاع والرأسماليين من أجل إنصاف العمال والفلاحين المظلومين والذين يشكلون الأغلبية الساحقة من أبناء المجتمع.
وتتطلب الثورة الفكر والسلاح، وكما رأينا فإن الحديث الذي دار حول هذه المعادلة قد جرى بين طالبٍ وضابط ويجسّد الطالب القوة الفكرية التي تحتاج إليها الثورة أما الضابط فيرمز إلى قوة السلاح، التي لا يمكن للثورة أن تستغني عنها.
7-هذه هي بعض الدوافع التي بررت قيام راسكو لنيكوف بالجريمة وهي في مجملها تنادي برفع الظلم عن المذلين والمهانين في المجتمع، فهل هذه الدوافع تشبه تلك التي دفعت سعيد مهران في رواية "اللص والكلاب"، إلى القيام بالسرقة؟ ولنرجع إلى الرواية المذكورة.
إنّ ظروف الحياة الصعبة، والحاجة الماسة هي التي أجبرت سعيد مهران: على السرقة ولم تكن الحاجة وحدها هي السبب في إقدام سعيد مهران على السرقة، فكانت هناك مبررات فكرية أقنعه بها رؤوف علوان الطالب في كلية الحقوق الذي شجعّه على قراءة كتبٍ كثيرة تدين الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية وتنادي بإعادة أرزاق المقهورين في المجتمع لأنّ الأغنياء سلبوا أرزاق الفقراء، وتقضي العدالة بسلب الأغنياء، لإعادة الحق إلى نصابه، إنّ سعيد مهران يعبّر، كما يقول عن مطالب الملايين فيقول: "ومأساتي الحقيقية أننّي رغم تأييد الملايين أجدني، في وحدة مظلمة بلا نصير، ضياع غير معقول"(3) .
ولقد قال رؤوف علوان وهو المنظّر في هذه الرواية عن سعيد مهران: "سيكون ممن يقوّضون الأركان"(4) .
فإذن يدور الحديث حول هذا النظام، وليس حول سرقةٍ فرديةٍ، ويصف سعيد مهران كلمات رؤوف علوان بأنها تدلّ على أنّه "الطالب الثائر، الثورة في شكل طالب"(5) .
وتوصل إلى نتيجةٍ مفادها أنّ السرقات الفردية لا قيمة لها، لا بدّ من التنظيم(6) . لاحظوا بأن الحديث يدور حول ضرورة التنظيم، وكما نعلم فإنّه جزء لا يتجزأ من الفكر الاشتراكي قال رؤوف علوان: "أليس عدلاً أنّ ما يؤخذ بالسرقة فبالسرقة يجب أن يسترد؟"(7) .
ويقول أيضاً مخاطباً سعيد مهران: "المسدس أهم من الرغيف يا سعيد مهران، المسدس أهم من حلقة الذكر التي تجري إليها وراء أبيك.. ماذا يحتاج الفتى في هذا الوطن؟.. إلى المسدس والكتاب، والمسدس يتكفل بالماضي والكتاب بالمستقبل، تدرب واقرأ.(8) .
ويتابع قوله: "سرقت؟ هل امتدت يدك إلى السرقة حقاً؟ برافو، كي يتخفف المغتصبون من بعض ذنبهم، إنّه عمل مشروع يا سعيد"(9) .
واضح من هذا الكلام، أنّ الحديث يدور حول قلب النظام، وليس حول السرقة بحدّ ذاتها، والسارق هنا ومعلمه مثقفان الأول قرأ تلالاً من الكتب، والثاني خريج كلية الحقوق، وصحفي كبير أو أصبح صحفياً كبيراً فيما بعد.
وبذلك فإنّ الدوافع التي دفعت راسكو لينكوف وسعيد مهران للسرقة متشابهة فهي الحاجة الشخصية والنظرية التي تنادي بقلب النظام الفاسد وإقامة النظام العادل على أنقاض الماضي.
8-إن مكان أحداث رواية دوستيفسكي المذكورة، ومعظم رواياته الأخرى هو العاصمة بطرسبرج.
وكذلك الأمر بالنبسة لرواية نجيب محفوظ، تجري الأحداث في رواية "اللص والكلاب" في القاهرة عاصمة مصر، وكذلك تجري فيها أحداث معظم رواياته.
9-أمّا الزمان فأحداث رواية "الجريمة والعقاب" تجري في شهر تموز، تبدأ الرواية بالعبارة التالية" في الأيام الأولى من شهر تموز في أثناء حرٍ شديد للغاية"(10) .
وتجري أحداث رواية "اللص والكلاب" في الشهر ذاته، نستدل على ذلك من أنّ بطل الرواية أخلي سبيله من السجن بمناسبة عيد ثورة 23 تموز وبعد إخلاء سبيله، تجري أحداث الرواية، وتبدأ رواية اللص والكلاب بالعبارة ذاتها تقريباً التي بدأت بها رواية "الجريمة والعقاب" ولكن الجو غبار فائق، حر لا يطاق"(11) لا أدري لماذا أختار الكاتبان شهر تموز زمناً لأحداث روايتيهما، يبدو أن الحر برأيهما تأثيراً على حدوث بعض الجرائم.
10-يقتل راسكو لينكوف العجوز عن عمدٍ وسابق إصرار وقصد دون أن يقرّعه ضميره، وهي برأيه تستحق الموت.
ولكن ما الذي حدث؟ لقد عادت أختها في اللحظة الأولى التي تلت تنفيذ جريمة قتل العجوز، فتزعزع إيمانه بصحة نظريته، لأنه أراد أن يقتل الظالمين فقط فقتل معهم الأبرياء.
أراد أن يقتل فقط العجوز فاضطر لقتل أختها أيضاً. ويريد دوستيفسكي أن يقول في ساعة قيام الثورة ضد الظالمين، تهرق دماء كثيرة بريئة تهرق دماء أولئك الذين من أجلهم وباسمهم قامت الثورة.
والشيء الثاني الذي أراد دوستيفسكي أن يقوله هو أن الإنسان لا يستطيع أن يعيش بالعقل والعلم وحدهما، لأنّك إذا عشت بالعقل وحده، وقلت إن اثنين زائد اثنين يساوي أربعة فهذا صحيح إذا درسنا الحساب، ولكن هذه المعادلة ليست دائماً صحيحة في الحياة لأن الحياة أوسع من الحساب.
خطط راسكو لنيكوف تخطيطاً واضحاً وسليماً وصارماً، كي يقتل العجوز وحدها فاضطر لقتل أختها لأنّ الحساب لا يثبت مصداقيته دائماً في الحياة، ومن هنا نجد مفاجآت كثيرة، في روايات دوستيفسكي. لأنّ الحياة تخرج خارج دوائر المخططات كافة، وأنت كإنسان، تقرر شيئاً، ولكن هناك قوى أقوى من الإنسان نفسه، أيضاً تقرر أشياء أخرى ولا يحسب الإنسان لها حساباً، ولذلك فلا بدّ من العيش ليس بالعقل والعلم وحدهما، وإنما أيضاً بالقلب وبالعواطف.
ولهذا يعاني أبطال دوستيفسكي الذين يعتنقون الفكر المادي الكثير من الإحباط والفشل.
11-حدث مع سعيد مهران بطل رواية "اللص والكلاب" الأمر ذاته الذي حدث مع راسكو لينكوف. لقد أراد سعيد مهران قتل عليش سدره، لأنّه تزوج امرأته في أثناء اعتقاله، فقتل بالخطأ شخصاً آخر لايعرفه أبداً وهو شعبان حسين. وهو عامل فقير بمحل الخردوات، بعد ذلك أراد قتل معلمه، والطالب الثائر سابقاً. والصحفي الوصولي حالياً، لكنه أخطأ. فقتل البواب المسكين، البريء الضعيف وكما يقول سعيد مهران نفسه فإنه أراد زلزلة الكون من أساسه، فلم تصل يده إلا إلى الأبرياء.
12-إنّ الأمر الثاني الذي جعل كلاً من راسكو لينكوف وسعيد مهران، يعيدان النظر في أفكارهما هو أنّ الناس الذين حملا السلاح من أجلهم وباسمهم، يدينون سلوكيتهم.
لا يستطيع راسكو لينكوف وسعيد مهران الانسجام مع أقرب الناس إليهما، ففي رواية "الجريمة والعقاب" يلتقي راسكو لينكوف، بعد تنفيذه جريمة قتل العجوز وأختها يلتقي أخته وأمّه، وعلى الرغم من طول الفراق الذي طال مدة ثلاث سنوات، وهو الابن الوحيد والأخ الوحيد، وهو متعلم، وذكي وجميل الطلعة وتحبّه أمه حبّاً لا يوصف، فلنر كيف التقى بوالدته، كما يصف اللقاء دوستيفسكي: "كانت أمه وأخته تنتظران منذ ساعةٍ ونصف ساعةٍ، ولقد بكت المرأتان كلتاهما وعانتا عذاباً شديداً، خلال مدة الانتظار هذه، التي دامت ساعة ونصف ساعة.
فلما ظهر راسكو لينكوف استقبلتاه بصيحات فرحٍ وحماسةٍ واندفعتا كلتاهما نحوه، لكن راسكو لينكوف لبث جامداً كجثة.
إنّ فكرة مفاجئة لا تطاق قد نزلت عليه نزول الصاعقة، حتى أنّ ذراعيه لم ترتفعا لمعانقتهما فإنّه لم يكن يملك من القوة ما يمكنه من ذلك.
شدتّه الأمّ والأخت إلى صدريهما، وأغرقتاه بالقبل، وكانتا تضحكان وتبكيان في آنٍ واحدٍ، فتقدم خطوة وترنح، ثم هوى على الأرض مغشيا عليه"(12) لا يستطيع راسكو لينكوف الجلوس والتحدث مع أقرب الناس إليه، مع أنّهم لا يعرفون شيئاً عن جريمته ولا يتوقعون أنّه يستطيع الإقدام على جريمة قتلٍ.
وبعد ذلك ينوي الابتعاد نهائياً عن أمّه وأخته ويقول لهما:
"أقصد.. حين جئت إلى هنا.. كنت أريد أن أقول لك يا أماه ولك أيضاً يا دونيا أن من الأفضل أن نفترق بعض الوقت. أنا أحس بأنّني مريض، أنا لست هادئ البال سأرجع في المستقبل سوف أجيء بنفسي، حين.. حين يصبح ذلك بالإمكان، لن أنساكما وسأظل أحبّكما دوماً... ذلك ما كنت قد قررته. وقد قررته واعياً كل الوعي، مدركاً كلّ الإدراك!.. أريد أن أكون وحيداً مهما يحدث لي، سواء أهلكت أم لم أهلك! أرجو أن تنسياني نسياناً تاماً، ذلكم أفضل.. لا تسألا عني، لا تستطلعا أخباري سوف أجيء من تلقاء نفسي متى وجب أن أجيء.. أو سوف أدعوكما إلي، ولعل كلّ شيء سيبعث بعثاً جديداً، حينذاك، أمّا الآن فاعدلا عن رؤيتي وتنازلا عن لقائي، إذا كنتما تحبانني، وإلا شعرت نحوكما بكره وبغضٍ، إننّي أحس بهذا.. وداعاً"(13) .
إذن يصرح راسكو لينكوف بأنّه يشعر بكراهية تجاه أقرب الناس إليه، أمّه وأخته وذلك بعد اقدامه على جريمة القتل والسرقة.
وكذلك يدينه صديقه الوحيد رازو ميخين حين يقول لراسكو لينكوف: "لا يمكن أن يكون هذا تفكيرك"(14) .
حدث الأمر ذاته، الذي حدث مع راسكو لينكوف، مع سعيد مهران إنّ نجيب محفوظ قلب الأحداث رأساً على عقب فهنا ليس سعيد مهران هو الذي لا يريد أن يرى أقرب الناس إليه وإنّما أقرب الناس إليه لا يريدون رؤيته، لنرجع إلى الرواية، إنّ سعيد مهران يتعطش لرؤية ابنته الوحيدة سناء، ويخطط للانتقام من زوجته التي استغلت فترة توقيفه، التي دامت مدة أربعة أعوام لتتزوج من صديقه، وبعد إخلاء سبيله يتوجه مباشرة لرؤية ابنته، ويذكرها بالكلمات التالية: "وسناء إذا خطرت في النفس انجاب عنها الحر والغبار والبغضاء والكدر وسطع الحنان فيها، ماذا تعرف الصغيرة عن أبيها؟.. أربعة أعوام لم تغب عن باله، وتدرجت في النمو وهي صورة غامضة، فهل يسمح الحظ بمكانٍ طيب يصلح لتبادل الحبّ ينعم في ظله بالسرور المظفر، ومن خلال هذا الكدر المنتشر لا يبسم إلا وجهك يا سناء"(15) واستطاع الوصول إلى بيت عليش سدرة الشخص، الذي تزوّج امرأة سعيد مهران والذي تعيش معه ابنته التي يبلغ عمرها ست سنواتٍ.
وسمح له برؤية ابنته، فظهرت البنت كما يقول نجيب محفوظ.. فالتهمتها روحه، وجعلت تقلب الوجوه بغرابة، وفي وجهه خاصة باستنكارٍ شديدٍ لشدة تحديقه ولشعورها، بأنّها تدفع نحوه وإذا بها تفرمل قدميها في البساط، وتميل بجسمها إلى الوراء، لم ينزع منها عينيه ولكن قلبه انكسر، انكسر حتى لم يبق فيه إلا شعور بالضياع، كأنّها ليست بابنته"(16) .
فطلب منها الجميع أن تسلّم على أبيها، وقال لها أبوها ثلاث مرات أنا بابا لا تخافي، إلا أنّها هربت وصرخت ماما، حاول أن يقبّلها ولكنه لم يستطع تقبيل سوى ساعدها المتحرك في عصبيةٍ غير راحمةٍ.
هكذا استقبلته ابنته الطفلة بعد أن خانته زوجته ولم يبق له أمل في الحياة.
وأرى أنّ مشهد لقاء راسكولينيكوف بأمّه وأخته مشابه لمشهد لقاء سعيد مهران بابنته إلا أنّ الأمر معكوس.
فهناك الأخت والأم مشتاقتان لرؤية راسكو لنيكوف السارق والقاتل والثائر أمّا هو فلا يريد رؤية أحد على الرغم من أنّه لم ير والدته وأخته منذ ثلاث سنواتٍ.
أمّا في رواية نجيب محفوظ فسعيد مهران يريد أن يرى ابنته الوحيدة ولكنها تخافه وترفض التقرب منه، رغم تشجيع الآخرين لها. وهو الذي سرق ونهب من أجلها ومن أجل الفقراء، أمّا هي فرفضته دون تردد. وهكذا فإنّ هذه الطفلة البريئة بعفويتها تدين أباها وتعبر عن هذه الإدانة بخوفها منه كما أدان أقرب الناس راسكو لينكوف مثل صديقه وأمّه وأخته فيما بعد مما يجبره على التفكير في مدى صحة ثورته وسلوكيته.
13-هذا هو موقف الأقرباء فما هو موقف الأعداء؟ أو ما هو موقف راسكو لنيكوف في "الجريمة والعقاب" وسعيد مهران في "اللص والكلاب" من الأعداء؟
وهل الأعداء، أو الذين يظن راسكو لنيكوف بأنّهم أعداؤه هم بالفعل، أبعد الناس عن سلوكيته وتفكيره أم يجد بأنّ أفكارهم لا تختلف كثيراً عن أفكاره، بل هي نفسها؟ وكيف حدث هذا مع راسكو لنيكوف ومع سعيد مهران؟
يجد راسكو لنيكوف بعد إقدامه على جريمته، أنّ أعداءه بالفكر يعتنقون أفكاراً قريبة جداً من أفكاره.
ووجد أنّ الذين يحاربهم يفكرون بالطريقة ذاتها، التي يفكر بها. فما جدوى هذه الحرب؟ إنّه أقدم على جريمته، من أجل إصلاح المجتمع، فوجد أنّ الذين يحاربهم يهدفون مثله إلى إصلاح المجتمع، ولديهم استعداد للإقدام على جريمة القتل، إن تطلب إصلاح المجتمع ذلك. ولكنّ لكل واحدٍ طريقته في إصلاح المجتمع.
فعلى سبيل المثال، تصله رسالة، في بداية الرواية من والدته تبين فيها أنّ الشخص الذي تعمل في بيته أخته دونيا حاول الوصول إلى حبّها، مع أنّه متزوج وعنده أطفال، كما أنّ محامياً اسمه لوجين طلب يدها ورأى راسكو لنيكوف في هذين الشخصين عدوين لدودين مع أنه لا يعرفهما فيحاول الأول الوصول إلى أخته، والاحتيال عليها. أمّا المحامي الذي يزيد عمره عن خمسةٍ وأربعين عاماً فيتقدم للزواج منها مع أنّه لا يحبّها ولا تحبّه، لكنه أراد أن يتزوج من إنسانة فقيرة لكي يتحكم بها أيّ أنّه يريد شراءها باسم الزواج.
ويقول راسكو لنيكوف لأخته: "إذن أنت تبيعين نفسك بالمال إذن أنت تتصرفين تصرفاً دنيئاً على كلّ حال"(17) .
وبعد أن التقى راسكو لنيكوف بالمحامي لوجين وجد أن نظرتهما إلى الحياة تلتقيان في نقطة حساسة، وهي أنهما يفكران بإصلاح المجتمع.
ويتم إصلاح المجتمع بنظر لوجين حين يجني كلّ فردٍ من أفراده الخير لنفسه وبما أنّ المجتمع مكون من الأفراد فإذا سعى كلّ فردٍ لخير نفسه، فيعم الخير للمجتمع كلّه. لننظر إلى قول لوجين حول هذا الموضوع:
قالوا لنا حتى الآن: "أحبّ قريبك، فلنفرض أننّي أحبّبته، فما الذي يترتب على ذلك؟ يترتب عليه أن أشطر معطفي شطرين، فأعطيه أحدهما فنصبح كلانا عاريين، نصف عري، وفقاً لما يقوله المثل الروسي: "من طارد أرنبين في آن واحدٍ لم يدرك أيّاً منهما. أمّا العلم فإنّه يقول: أحبّ نفسك قبل سائر الناس لأن كل شيء في العالم قائم على المنفعة الشخصية، فإذا لم تحب إلا نفسك صرفت شؤونك على نحو ما يجب أن تصرفها، ودبرت أمورك كما ينبغي أن تدبرها فبقي معطفك كاملاً سليماً لم يمزق.
وتضيف الحقيقة الاقتصادية إلى ذلك أنّه كلما ازداد وجود الثروات الفردية، في المجتمع.. ازدادت الأسس التي يقوم عليها المجتمع متانةً وصلابةً وازدادت ثروة المجتمع.
معنى هذا أننّي حين أجني خيراً لنفسي وحدي، فإنّما أحصّل في الوقت نفسه خيراً لجميع الناس"(18) .
ويسأله راسكو لنيكوف قد تصطدم مصالح الفرد مع مصالح فرد آخر أو مصالح مجموعة من الأفراد، فما العمل في مثل هذه الحالة: ويجيب لوجين أنّه مستعد للقتل إن اضطر في سبيل تحقيق مصالحه الخاصة، ويقدم بالفعل لوجين على أعمالٍ سافلةٍ في سبيل الوصول إلى مصالحه.
نجد في نظرية لوجين الأنانية الفردية الباردة العاقلة الهادئة نقاطاً مشتركة مع نظرية راسكو لنيكوف فهو يسعى لتحقيق المصلحة العامة، ولكن عبر تحقيق مصلحته ومستعد للإقدام على جريمة القتل إذا تطلبت مصلحته ذلك وبهذا أيضاً يشترك مع راسكو لنيكوف في جريمة القتل.
أمّا الشبيه الحقيقي لراسكو لنيكوف فهو سفيدريغاليوف الذي لا يتردد في الإقدام على جريمة القتل مثل راسكو لنيكوف.
ولكن الفرق بينه وبين راسكو لنيكوف أنّه يقدم على هذه الجريمة دون ترددٍ وبلا شعورٍ بالخوف أو تقريع الضمير، ولديه الاستعداد الكامل لمساعدة الفقراء بأمواله، دون تفكيرٍ طويلٍ ودون فلسفة ونظريات وحسابات وبهذا فإن هاتين الشخصيتين تشبهان شخصية راسكو لنيكوف ولقد اكتشف راسكو لنيكوف ذلك، مع أنّه كان في البداية يظن أنهما ألد أعدائه.
14-في رواية "اللص والكلاب" نجد حالة مشابهة للحالة التي ذكرناها إذ أنّ اللص سعيد مهران يعتبر أغلبية الناس كلاباً، هكذا يعتبر زوجته السابقة نبوية سليمان، وهكذا يعتبر زوجها الحالي عليش سدرة ويعتبر الصحفي الكبير رؤوف علوان كلباً. إنّهم كلاب ولكنهم في الوقت ذاته لصوص فلقد استطاع الصحفي أن يحصل على بيتٍ كبيرٍ بأساليب مشبوهة فهو لص وكذلك استطاع عليش سدرة، أن يسرق منه أمواله وزوجته وابنته فهو لص أيضاً.
إذن ينقسم معظم أبطال الرواية المذكورة إلى لصوص وكلاب.
ولكن من الواضح أنّ الكلاب هم أيضاً لصوص في الوقت ذاته.
أمّا سعيد مهران فهل هو لص فقط؟ أم هو لص وكلب في الوقت ذاته؟ إذا كانت الكلاب تطارد اللصوص فهو مطارد كلص ولكنه في الوقت ذاته يطارد الآخرين ككلبٍ. وهكذا يختلط الأمر، فالكلاب هم في الوقت ذاته لصوص واللصوص في الوقت ذاته كلاب ولقد شعر سعيد مهران بوجود شبهٍ بينه وبين الصحفي رؤوف علوان، ورأى أن اسمه يشبه اسم هذا الصحفي فاسم رؤوف علوان على وزن سعيد مهران.
يبرر سعيد مهران السرقة، ولكنه عندما سرقه تلميذه عليش سدره فأخذ منه ابنته وزوجته وأمواله، التي حصل عليها بالنهب والسرقة، اتهمه باللصوصية فهو يبرر السرقة عندما يسرق هو الآخرين أما عندما يتعرض هو نفسه للسرقة فهذه جريمة، فهو الجلاد والضحية في الوقت ذاته.
ويتضح الأمر أيضاً، عندما يتعرض الصحفي الكبير رؤوف علوان للسرقة، وكان رؤوف علوان يبرر السرقة والنهب ويعتبر السرقة عملاً مشروعاً وعظيماً وضرورياً.
أمّا عندما تعرض نفسه للسرقة فلم يرحم السارق الذي كان سعيد مهران نفسه مع أنّه دربّه وشجعه في الماضي على السرقة والنهب.
وكأن نجيب محفوظ يريد أن يقول إنّ بعض الاشتراكيين، مع الاشتراكية ما دامت تعطيهم، وتأخذ من الآخرين أمّا إذا انعكس الأمر فهم أعداؤها.
وهكذا نجد في هذه الرواية أنّ الأعداء متشابهون، كما وجدنا في رواية "الجريمة والعقاب" فهناك راسكو لنيكوف يشبه لوجين ويشبه سفيدريغالوف.
وهنا يشبه سعيد مهران كلاً من عليش سدرة ورؤوف علوان فالكلب يشبه اللص وكذلك يشبه اللص الكلب.
15-يعذب راسكو لنيكوف شعوره بأنّه مطارد، إنّه يطارد نفسه بنفسه، وكذلك يطارده القضاء بالأضافة إلى تقريع الضمير.
يتعذب سعيد مهران لشعوره بأنّه مطارد وأنّه محاصر من جميع الجهات بالكلاب وبأنّ دم الأبرياء الذين قتلهم يلاحقه، أضف إلى الصحافة ورجال الأمن.
16-يعتنق راسكو لنيكوف نظرية خاطئة وكذلك يعتنق سعيد مهران نظريةً خاطئة ويزيد من ضياعهما، أنّ هذه النظرية المستوردة التي لم تنبت في تربة الوطن وصلت إلى الوطن مشوشة، وزاد في تشويشها الجوع الذي يعاني منه راسكو لنيكوف وكذلك الفقر الذي يعاني منه سعيد مهران.
ولكن الفرق بين وضع راسكو لنيكوف وبين وضع سعيد مهران أنّ يد المساعدة الاجتماعية مدت إلى راسكو لنيكوف فوقفت إلى جانبه والدته وأخته والمحقق وصونيا مارميلادوف التي لم تتركه وحيداً في الأعمال الشاقة التي حكمت عليه المحكمة بها، بل ذهبت معه وشاركته آلامه.
أما سعيد مهران فكان وحيداً.
17-إذا تأملنا في أسر أبطال دوستيفسكي وأبطال نجيب محفوظ أقصد في هاتين الروايتين، نجد أنّ أسر الأبطال ممزقة، راسكو لنيكوف وحيد لم ير أمه وأخته منذ أكثر من ثلاث سنوات، فقير وكذلك سعيد مهران وحيد لا نعرف إلا القليل عن أسرته فهو ابن بوابٍ في مدينة الطلبة.
وكذلك رؤوف علوان يعيش بلا أسرة أمّا أبطال رواية دوستيفسكي مثل لوجين، غير متزوج، كذلك سفيدريغالوف أرمل ومتهم بجريمة قتلٍ أمّا صونيا مارميلادوف فتعمل بالدعارة.
يبدو أنّ لهذا الوضع الأسري الممزق علاقة بالجريمة التي يقدم عليها أبطال الروايتين.
18-في نهاية رواية "الجريمة والعقاب" لا يجد راسكو لنيكوف شخصاً يستطيع أن يبوح له بسره سوى صونيا مارميلادوف، التي ضحت بحياتها وبشرفها من أجل إنقاذ أطفال زوجة أبيها من الجوع. فقدّمت له كلّ ما تستطيع أن تقدمه وساعدته على البعث الروحي وسارت معه إلى الأعمال الشاقة.
وفي نهاية رواية "اللص والكلاب" لم يجد سعيد مهران بيتاً يأوي إليه سوى بيت نور التي تعمل بالدعارة فقدمّت له المساعدة المؤقتة.
وهكذا فإنّ نهاية الروايتين متشابهة. يلجأ راسكو لنيكوف إلى صونيا مارميلادوف التي تعمل بالدعارة وكذلك يلجأ سعيد مهران إلى نور التي أيضاً تعمل بالدعارة. هناك شخصية يلجأ إليها أيضاً سعيد مهران وهو الشيخ علي الجنيدي الذي يصلي ويتعبد ربه كثيراً.
فهاتان الشخصيتان في رواية "اللص والكلاب" وهما نور والشيخ علي الجنيدي تقعان خارج إطار تقسيم أبطال الرواية الآنفة الذكر إلى لصوصٍ وكلابٍ.
فهل يوجد شبيه بشخصية الشيخ في رواية "الجريمة والعقاب"؟
إنّه أولاً ليس شيخاً بالمعنى المعروف، فهو يصلي في بيته وليس في المسجد.
لا توجد في رواية "الجريمة والعقاب" شخصية رجل دين إلا أنّ صونيا مارميلادوف تلك الإنسانة التي تؤمن بنظرية مفادها إذا أردت إصلاح المجتمع، فيجب أن تضحي بنفسك في سبيل الآخرين فلا يجوز قتل الأقلية من أجل الأكثرية كما آمن راسكو لنيكوف ولا يجوز السعي لتحقيق المصلحة الأنانية، الفردية الذاتية وبذلك نصل إلى المصلحة العامة كما آمن لوجين.
ولا يجوز العيش دون هدف، كما عاش سفيدريغالوف، وإنّما يجب برأي صونيا مارميلادوف التضحية بالنفس من أجل الأطفال، ومن أجل الآخرين.
وتقرأ هذه الإنسانة التي امتهنت الدعارة، الكتب المقدسة، وبذلك فهي تجمع المتناقضات، تضحي بنفسها من أجل الآخرين ولذلك تمتهن الدعارة، وبالوقت ذاته لا تكف عن الصلاة وقراءة الكتاب المقدس.
في حين أنّ نور التي التجأ إليها سعيد مهران، في أيامه السوداء كانت إنسانة غير متناقضة مع ذاتها فهي تحبه ولذلك استقبلته، لكنها غير متدينةٍ ولعل نجيب محفوظ لم يجرؤ على أن يجعل من المومس إنسانةً متدينة تخاف اللّه أكثر مما يخافه معظم أفراد المجتمع العاديين، وتبعث في النفس الاحترام والتقدير، فأخذ صفة التدين هذه، وأعطاها لشخصيةٍ مستقلةٍ وهي شخصية الشيخ علي الجنيدي.
أمّا دوستيفسكي فأقدم على هذا العمل الشجاع، وذلك على ما يبدو لأنّ المجتمع الروسي يتقبل مثل هذه الشخصية بشيء من التسامح أكثر من المجتمع الشرقي.
19-إنّ الروايتين المذكورتين روايتان فكريتان ونفسيتان في الوقت نفسه، ولقد صوّر دوستيفسكي عالم اللاشعور عند بطله، وكذلك فعل نجيب محفوظ فلجأ كلّ منهما إلى عالم الأحلام، حيث يتحرر بطل الرواية من قيود الذات العليا، التي تخضع لها تصرفات المرء في حالة اليقظة أمّا الأحلام فتقع تحت سيطرة عالم اللاشعور وكانت الأحلام في الروايتين متشابهة فهي عبارة عن كوابيس يراها البطل وبعد استيقاظه، يحمد الله على أنّ هذا كله كان في الحلم وليس في اليقظة.
ولقد ذكر فرويد 1856-1939 أحد زعماء علم النفس روايات دوستيفسكي، أكثر من مرة في كتابه" تفسيير الأحلام" "1900".مشيراً إلى أنّه استفاد من إنجازات دوستيفسكي في مجال علم النفس.
نعود إلى الأحلام التي رآها راسكو لنيكوف في "الجريمة والعقاب" والتي رآها سعيد مهران في "اللص والكلاب" فنجد أنّها متشابهة.
يذكر دوستيفسكي في روايته حلمين رآهما راسكو لنيكوف قبل إقدامه على جريمة القتل يجد نفسه في الحلم الأول طفلاً، يشهد جلد فرسٍ في القرية، يجلدها صاحبها بالسوط، وبقضيب الحديد حتى الموت.
واستيقظ راسكو لنيكوف وتنفس ملء رئتيه وقال: "الحمد لله على أنّ هذا لم يكن إلا حلماً!"(19) .
وأمّا الحلم الثاني فيرى نفسه فيه "في مكان ما بإفريقيا في مكان ما بمصر في واحة من الواحات. القافلة تستريح، الجمال راقدة بهدوء، وسكون ومن حوله حلقة من أشجار النخيل يأكل الناس كلهم، أما هو فلا يزيد على أن يشرب ماءً من جدولٍ يجري هناك على مقربة منه مصطخباً.
ما أعظم الانتعاش الذي يشعر به المرء حين يشرب هذا الماء الأزرق البارد العجيب الذي يسيل بين الحصى المتعدد الألوان فوق الرمل الملتمع بلمعان الذهب!"(20) إنّ الحلم الأول كابوس أمّا الثاني فيذكّرنا بحلم البشرية بالحياة الهادئة التي كانت تعيشها الإنسانية في المجتمعات الأولى اللاطبقية.
يستلهم نجيب محفوظ هذين الحلمين ويجعل منهما حلماً واحداً.
فلقد حلم سعيد مهران بأنّه يجلد في السجن، رغم حسن سلوكه، و"حلم بأنّهم عقب الجلد مباشرة سقوه حليباً، ورأى سناء الصغيرة تنهال بالسوط على رؤوف علوان"(21) .
إذن في حلم راسكو لنيكوف تجلد الفرس، أمّا في حلم سعيد مهران فيجلد في السجن وتجلد ابنته معلمه رؤوف علوان وكما نلاحظ يوجد شبه بين الحلمين وبعد ذلك يرى سعيد مهران نفسه في حلقة الذكر، التي يتوسطها الشيخ عليّ الجنيدي، ويذكّره سعيد مهران "بالنخلة والدوم والأيام الجميلة الماضية"(22) .
ألا يذكّرنا هذا الجزء من حلم سعيد مهران بحلم راسكو لنيكوف الثاني حين يتذكر الأيام الجميلة الماضية حين شرب من الجدول الماء العذب في مكانٍ ما في مصر، تحت أشجار النخيل.
أمّا نهاية حلم سعيد مهران فتشبه نهاية الحلم الأول الذي رآه راسكو لنيكوف، إذ قال له الشيخ علي الجنيدي:
"نمت نوماً طويلاً ولكنك لا تعرف الراحة كطفل ملقى تحت نار الشمس، وقلبك المحترق يحن إلى الظل ولكن يمعن في السير تحت قذائف الشمس"(23).
20-شعور راسكو لنيكوف وسعيد مهران بالعظمة: يقول نجيب محفوظ في روايته عن سعيد مهران:
"واشتد به الدوار فقضى بأنّه عظيم بكلّ معنى الكلمة، عظمةً هائلة، ولكنها مجللة بالسواد، عشيرة للمقابر ولكن عزتها ستبقى بعد الموت، وجنونها تباركه القوة السارية في جذور النبات وخلايا الحيوان وقلب الإنسان"(25) .
ويقول عن نفسه: "إنّ من يقتلني إنما يقتل الملايين، أنا الحلم والأمل وفدية الجبناء، وأنا المثل والعزاء والدمع الذي يفضح صاحبه"(25) .
وهكذا فإنّ سعيد مهران رغم الجوع والتشرد والمطاردة وتمزق أسرته، يشعر بالعظمة والعزة والكبرياء ويعبر مؤلف الرواية عن هذا الشعور، وعبر سعيد مهران عن إحساسه المذكور.
وفي رواية "الجريمة والعقاب" نجد الحالة ذاتها عند راسكو لنيكوف فهو متخم بالنظريات والثقافات ولكنه يعاني من الجوع والمطاردة والتمزق هناك تناقض بين وضعه كمثقف وبين حالة جسده الذي يتألم بسبب الجوع.
ومع هذا كلّه يشعر بالعظمة ويقارن نفسه بأولئك الذين قلبوا وجه التاريخ مثل نابليون بونابرت(1769-1821) .
يقول راسكو لنيكوف مخاطباً صونيا مارميلادوف: "لقد أردت أن أصبح نابليون ومن أجل هذا إنّما قتلت فهل فهمت الآن؟... لقد ألقيت على نفسي في ذات يوم هذا السؤال: ما عسى كان يحدث لو أنّ نابليون مثلاً وجد في مكاني؟ لاشك في أنّه إذا لم يعرض له أيّ حلٍ آخر، كان سيقتل العجوز دون ترددٍ ودون تفكيرٍ. هكذا خرجت أنا من التردد بين الإقدام والإحجام فقتلت مقتدياً بذلك الرجل الذي هو حجة نعم، على ذلك النحو جرت الأمور"(26) إذن يقارن راسكو لنيكوف نفسه بنابليون ويشعر بجنون العظمة، ذلك الشعور نفسه الذي أحس به سعيد مهران في رواية "اللص والكلاب" ويستنتج راسكو لنيكوف أنّ الفرق بين أمثاله وبين أمثال نابليون بونابرت أنّ الأخير عديم الوجدان لأنه يقتل ويأمر بالقتل دون تردّد في حين أنّه أيّ راسكو لنيكوف أقدم على قتل عجوز شريرة فلم يتخلص من تقريع الضمير.
ويتابع قوله: "لئن ظللت أعذب نفسي طوال تلك الأيام كلّها بالتساؤل عن نابليون أكان يقتل العجوز أم لا، فإنّ معنى ذلك أننّي كنت أشعر شعوراً واضحاً بأننّي لست نابليون"(27) .
واضح أنّ راسكو لنيكوف يريد السلطة والقضاء على الشر في العالم يقول:
"لقد أحسست يا صونيا أنّ السلطة لا توهب إلا لمن يجرؤ على أن يطأطئ ليتناولها تكفي الجرأة، الجرأة كل شيء! ووافتنى عندئذٍ لأول مرةٍ في حياتي فكرة، لا شك أنّها لم تخطر ببال أحدٍ.. ما من أحدٍ قد تجرأ ولا يتجرأ، حين رأى بطلان العالم أن يمسك الشيطان من ذيله ببساطةٍ فيرسله إلى جهنم أمّا أنا، أمّا أنا... فقد أردت أن أجرؤ فقتلت..!.. ذلك هو السبب الذي جعلني أقتل"(28) .
إذن أراد أن ينتزع الشر من جذوره ويقضي عليه، ليبني عليه المجتمع العادل أو المجتمع الاشتراكي الذي نادى به بيلنيسكي (1811-1848) ، ودبرولوبوف (1839-1961) وغيرهما من الفلاسفة الروس في القرن التاسع عشر.
ويذكر بطل آخر من أبطال الرواية الذي يصرح علانية بأنّه اشتراكي، اسم هذا البطل ليبزيا تنيكوف الذي يقول: "إنّه ليخطر ببالي أحياناً أننّي إذا تزوجت زواجاً حراً أو زواجاً شرعياً فلربما أجيء لامرأتي بعشيق، متى تأخرت عن إتخاذ عشيق من تلقاء نفسها ولأقولن لها عندئذٍ:
"يا صديقتي أنا أحبّك ولكنني أريد بالإضافة إلى ذلك أن تحترميني إننّي أحرص على هذا، إليك عشيقاً! "ألست على حق؟ ألست على حقٍ!"(29) .
هكذا وصلت الآراء الاشتراكية حول الأسرة إلى الناس البسطاء، فطالبوا بالفساد الأخلاقي وأستطيع أن أقول بأن فريدريدك انجلس في كتابه "أصل الأسرة والملكية- الخاصة والدولة"(1884) يرى أن الملكية الخاصة، هي السبب في نشوء الأسرة وأنّ الأسرة ستزول متى زالت الملكية الخاصة ومتى اختفى حق الإرث ومع أنّ فردريك انجلس (1820-1895) يقدّم معلومات تاريخية قيمةً، إلا أنّها في نهاية المطاف ضارة باستقرار الأسرة.
21-تشبه بداية رواية "اللص والكلاب" بداية "الجريمة والعقاب" فلقد ذهب راسكو لنيكوف إلى العجوز لمعرفة مدى إمكانية القيام بالجريمة.
أمّا في اللص والكلاب فيقول سعيد مهران إنّه في هذه المرة جاء فقط ليجس الحصون، وكذلك فإنّ نهاية رواية "اللص والكلاب" تشبه نهاية رواية "الجريمة والعقاب" في الأولى يستسلم سعيد مهران وفي الثانية يبعث راسكو لنيكوف بعثاً روحياً أي كأنّه يستسلم لشعور كلٍّ منهما بأنّ الطريق التي سلكاها وعرة.
ولذلك فإنّ الروايتين يغلب عليهما الطابع المأساوي مع أنّ نهاية "الجريمة والعقاب" تصطبغ ببعض التفاؤل إذ تتزوج دونيا من رازوميخين، ويصدق المحقق مع راسكو لنيكوف ومع الطابع المأساوي لرواية "اللص والكلاب" إلا أنّنا نشعر أحياناً ببعض التفاؤل في أقوال علي الجنيدي الذي يطالب بالطهارة والقراءة بمعنى الإدراك والفهم الصحيح للواقع.
خاتـــمة
في نهاية هذا البحث أريد العودة إلى النقطة التي بدأت بها بحثي. وهي هل رواية "الجريمة والعقاب" موجهة ضد الفهم الخاطئ للاشتراكية؟ كما يرى بعض النقاد؟ ولكنني من أجل الإجابة عن هذا التساؤل، أريد أن أطرح التساؤلات التالية، إذا كان الأمر كذلك، لماذا منعت مؤلفات دوستيفسكي خلال فترة طويلة من النظام الاشتراكي في روسيا؟ لماذا لم تدرس رواياته في المدارس الثانوية إلا في الفترة الأخيرة؟ لماذا منعت رواية الشياطين (1872) ؟ لماذا لم يذكره قائد الثورة الاشتراكية الأولى في العالم فلاديمر لينين في مؤلفاته التي بلغت خمسة وخمسين مجلداً، مع أنّه كتب الكثير من الدراسات عن الأدباء الروس؟
لماذا لا توجد في مكتبة لينين البيتية مؤلفات دوستيفسكي؟ لا توجد روايات دوستيفسكي في مكتبة لينين الخاصة في بيته، مع أنّها، مكتبة غنيّة.
واضح أن الاشتراكيين، فهموا دوستفيسكي، على أنّه أحد أعدائهم ولذلك حاربوه أحياناً، وتجاهلوه أحياناً أخرى.
ولكن إذا كان دوستيفسكي في المرحلة الثانية من إبداعه عدواً للفكر المادي الاشتراكي، فهل هو نصير للفكر المثالي؟ هل هو نصير للفكر المسيحي إذ أن الفكر المسيحي هو أحد فروع الفكر المثالي، لأنّه ليس مادياً ويجيب عن هذا التساؤل كتاب أصدره أحد المدافعين عن الكنيسة الرسمية الروسية، مؤلف الكتاب كونستانتين ليونتيف (1831-1891) وعنوانه "مسيحيونا الجدد" صدر في القرن التاسع عشر، ويسخر فيه من موقف دوستيفسكي وتولستوي من الدين ويتهمهما باعتناق الفكر الاشتراكي(30) فماهو فكر دوستيفسكي بعد أن اتهمه المؤمنون بالإلحاد والملحدون بالإيمان والتقدميون بالرجعية، والرجعيون بالتقدمية، وقدّم هؤلاء كلّهم براهين، من مؤلفات الكاتب، تثبت صحة آرائهم، لماذا جمعت مؤلفاته هذه التناقضات؟
يجيب عن هذا التساؤل كتاب أصدره الناقد الروسي الشهير ميخائيل باختين (1895-1975) ، إذ يقول في كتابه مسائل إبداع دوستيفسكي الذي صدر لأول مرة في عام 1929 وصدرت الطبعة الرابعة في 1979 يقول إن دوستيفسكي قدّم لنا شكلاً جديداً من الرواية، وهي الرواية ذات الأصوات المتعددة.
أي أنّنا نجد في هذه الرواية أفكاراً متصارعة فيما بينها، وتتصارع في عالم البطل الواحد، وعلى قدم المساواة ولا يتدخل الكاتب لصالح هذه الفكرة، أو تلك بل يعرضها كما هي، معتبراً أنّ الخير والشر موجودان في داخل النفس البشرية ومنذ أقدم العصور وأنّ المادة والروح، أو الجسد والروح، لا غنى لأحدهما عن الآخر وأن الصوت المادي، هو صوت الجسد الذي عبّر عنه الشيطان إذ قال للمسيح: حوّل الحجر إلى خبزٍ وأجابه المسيح، الذي برأي دوستيفسكي يعبّر عن صوت الروح! ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان. فتحويل الحجر إلى خبز ليس بالعمل السيء ولكن الإنسان يحتاج بالإضافة إلى احتياجاته الجسدية والمادية، إلى تلبية الحاجات الروحية.
وموقف دوستيفسكي في نهاية المطاف أقرب إلى الفكر الروحي منه إلى الفكر المادي.
ولكن ما هو موقف نجيب محفوظ؟ إنّه من الناحية الفنية ينتمي إلى المدرسة الواقعية النقدية، مثل دوستيفسكي لكنني لا أظن أنّ رواياته أيضاً ذات أصواتٍ متعددةٍ لكنها بالتأكيد كما أوضحنا استفاد من انجازات دوستيفسكي، إلا أنّه يبقى كاتباً عربياً أصيلاً وعظيماً استطاع أن يرقى بالرواية العربية إلى مستوى العالمية، وأن يحصل على جائزة نوبل للآداب عام 1988 وعلى جائزة الدولة التقديرية، وعلى جائزة الدول المطلة على البحر المتوسط، وموقفه من الاشتراكية يشبه موقف دوستيفسكي بأنه مع وضد في الوقت ذاته مع الايجابيات وضد السلبيات.



 المصادر حسب تسلسل ورودها
1-نجيب محفوظ، اللص والكلاب. القاهرة. مكتبة مصر. ص35
2-فيدور دوستيفسكي، الجريمة والعقاب، موسكو. دار رادوغا 1989 الجزء الأول، ترجمة الدكتور سامي الدروبي ص132
3-اللص والكلاب مصدر سابق ص110
4-المصدر نفسه ص98
5-المصدر نفسه
6-المصدر نفسه ص99
7-المصدر نفسه ص90
8-المصدر نفسه ص48
9-المصدر نفسه ص48
10-الجريمة والعقاب مصدر سابق المجلد الأول ص14
11-اللص والكلاب مصدر سابق ص7
12-الجريمة والعقاب مصدر سابق والمجلد الأول ص366-367
13-الجريمة والعقاب مصدر سابق المجلد الثاني ص64-65
14-الجريمة والعقاب مصدر سابق المجلد الأول ص490
15-اللص والكلاب ص8
16-المصدر نفسه ص14
17-الجريمة والعقاب المجلد الأول ص435
18-الجريمة والعقاب المجلد الأول ص284-285
19-المصدر السابق ص121
20-المصدر السابق ص136
21-اللص والكلاب ص64
22-اللص والكلاب ص64
23-اللص والكلاب ص66
24-اللص والكلاب ص120-121
25-اللص والكلاب ص120
26-الجريمة والعقاب الجزء الثاني ص249-250
27-الجريمة والعقاب الجزء الثاني ص257
28-الجريمة والعقاب الجزء الثاني ص255
29-الجريمة والعقاب الجزء الثاني ص182
30-كونستانتين ليونتيف، مسيحيونا الجدد، موسكو، 1882 ص18-19.



المصدر: ملتقى شذرات

__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية

الكلمات الدلالية (Tags)
محفوظ, لدوستيفسكي, مؤثرات, اللص والكلاب, الجريمة والعقاب, بعض, رواية, نجيب


يتصفح الموضوع حالياً : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
أدوات الموضوع

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


المواضيع المتشابهه للموضوع بعض مؤثرات رواية "الجريمة والعقاب" لدوستيفسكي في رواية نجيب محفوظ "اللص والكلاب"
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
باولو كويلو "مؤلف رواية الخيميائي" يتضامن مع معاذ الكساسبة Eng.Jordan الأردن اليوم 0 02-02-2015 07:15 PM
قراءة في رواية "ذاكرة الماء" Eng.Jordan دراسات و مراجع و بحوث أدبية ولغوية 0 02-28-2013 03:01 PM
اتجاهات نقد رواية نجيب محفوظ Eng.Jordan دراسات و مراجع و بحوث أدبية ولغوية 0 11-26-2012 09:03 PM
الراوي المُلتبس في رواية " فسوق" لعبده خال Eng.Jordan أخبار ومختارات أدبية 0 04-18-2012 08:46 AM
مؤثرات أدب دوستيفسكي في رواية " قلب الليل "لنجيب محفوظ Eng.Jordan دراسات و مراجع و بحوث أدبية ولغوية 0 02-03-2012 02:39 PM

   
|
 
 

  sitemap 

 


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 08:22 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.12 by vBS
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والمشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59