#1  
قديم 06-21-2013, 02:45 PM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,413
افتراضي ابن رشد في أدبَه



للدكتور عبدالكريم خليفة

مقدمة

تهدف هذه الدراسة إلى إلقاء الضوء على جانب مهمّ من جوانب إنتاج عَلَمٍ من أعلام الفكر في حضارتنا العربية الإسلامية؛ وهذا الجانب يتمثل في "أدب" ابن رشد، وهو واحد من أشهر الكتّاب ومن أكثرهم خصباً وإنتاجاً.
وإن هذه الدراسة شائكة في نظرنا، وذلك لصعوبة الفصل بين مجال الفكر والفلسفة من ناحية، والأدب من ناحية أخرى. فإن مفاهيم الأدب وتعريفاته تتعدد وتختلف باختلاف الاتجاهات الفكرية والثقافية والاجتماعية عند الباحثين. وربما كان أهمَّ من ذلك كلّه أن نصل إلى مفهوم الأدب عند الكاتب ذاته. ليس من السهل أن تحدد مفهوم الأدب عند ابن رشد، دون النظر في فلسفته وفي مفهوم الأدب عند معلمه الأول "أرسطو".
أليس من الخطأ أن تعتبر مفهوماً واحداً للأدب، تحاول إِقحامه على جميع أنشطة الفكر الإنساني؟ ... ألا تتداخل مفاهيم الأدب هذه بألوانه ومذاهبه؟..
لا شكَّ أن هناك فرقاً كبيراً بين أدبٍ واقعيٍّ تحتل فيه جدّيّة الفكر مكانة ممتازة، وأدبٍ لاهٍ يُضفي عليه الأديب رونق النكتة والظرف.
فقد كان ابن رشد جادّاً، وكانت الدراية أغلب عليه من الرواية. وبلغت جِدّيّته إلى الحد الذي عبَّر عنه صاحب كتاب التكملة بقوله: "... وعُنِيَ بالعلم مِن صغره إلى كبره، حتى حُكيَ عنه أنه لم يدع النظر ولا القراءة منذُ عَقِلَ إلا ليلة وفاة أبيه، وليلة بنائه على أهله ... وأنه سَوَّدَ في ما صنَّفَ وقيَّدَ وألَّفَ وهذَّب واختصر نحواً من عشرة آلاف ورقة. ومال إلى علوم الأوائل، فكانت لم فيها الإمامة دون أهل عصره"(([1]ونحن لا يهمّنا في هذا المجال مدى دقة هذه الرواية، ولكنْ ما توحي به من نظرة ابن رشد الجادّة إلى الحياة وتحكيمه العقل، وذلك بغلبة الدراية عنده على الرواية...
فإذا نظرنا مثلاً إلى المساجلة الفكرية باعتبارها أحد الفنون الأدبية الراقية، ألا يحقُّ لنا أن نُصَنِّفَ في إطارها تلك المساجلة التي دارت بين ابن رشد والغزالي؟ فقد وصفها العقاد بقوله: "فلم يحفظ لنا تاريخ الفكر مساجلة بين حكيمين في قوة المساجلة التي دارت بين ابن رشد والغزالي، ومضاء سلاحها، ونفاذ حججها وبراهينها ..."(([2].
وهنا يشير الكاتب في الواقع إلى معركتين فكريتين ما زال أثرهما العميق في التفكير الفلسفي الإسلامي. فقد أثار الأولى الغزالي في كتابه: "تهافت الفلاسفة" وأثار الثانية ابن رشد بكتابه: "تهافت التهافت".
وبالرغم من أن ابن رشد قد ذاع صيته لدى الإفرنج في مجالين أساسيين من المعرفة، هما الطبّ والفلسفة، فإنّ جوانبه الفكريّة والثقافية الأخرى لم تكن أقل إشراقاً؛ فهو على حد تعبير بعض الروايات، كما سنرى فيما بعد: "كان يُفْزَع إلى فتواه في الطبّ كما يُفْزَع إلى فتواه في الفقه، مع الحظ الوافر من الاعراب والآداب"(([3].
وإِنّ الدارس للحركة العلمية في ذلك العصر، لا يَعجَب من هذا كله، فقد عاش ابن رشد في بيئة علمية عالية جمعت مشاهير عصره، يعينه على ذلك طبعٌ مؤاتٍ واستعداد فطريّ أصيل.
أمّا في مجال الحركة العلمية في الأندلس، ورغبةِ أهلها في العلم، فنحن نستذكر ما أورده المقّري، إذ قال: "وأمّا حال أهل الأندلس في فنون العلم، فتحقيق الإنصاف في شأنهم في هذا الباب، أنهم أحرص الناس على التميّز: فالجاهل الذي لم يوفّقه الله للعلم يجهد أن يتميَّز بصنعه، ويربأ بنفسه أن يُرى فارغاً عالة على الناس، لأن هذا عندهم في غاية القبح؛ والعالم عندهم معظَّمٌ من الخاصة والعامة ... فالعالم منهم بارع، لأنه يطلب ذلك العلم بباعث من نفسه، يحمله على أن يترك الشغل الذي يستفيد منه، وينفق ما عنده حتى يعلم. وكلّ العلوم لها عندهم حظّ واعتناء إلا الفلسفة والتنجيم، فإن لهما حظّاً عظيماً عند خواصّهم، ولا يُتظاهَر بها خوف العامة. فإنّه كلما قيل "فلان يقرأ الفلسفة" أو " يشتغل بالتنجيم" أطلقت عليه اسم زنديق، وقيَّدَت عليه أنفاسه. فإن زلَّ في شبهة رجموه بالحجارة أو حرقوه قبل أن يصل أمره للسلطان، أو يقتله السلطان تقرُّباً لقلوب العامة. وكثيراً ما يأمر ملوكهم بإحراق كتب هذا الشأن إذا وجدت ..."(([4].
إِنّ ظاهرة التضييق على حرية الفكر، التي أشار إليها المقّري، قد أصابت بلهيبها ابن رشد ذاته في محنته التي حلَّت به في أُخريات عمره، وإنَّ هذه الظاهرة لم تكن في الحقيقة لتقتصر على الأندلس، بل امتدّت من مشرق دار الإسلام إلى مغربه الأقصى، وذلك في فترات معيّنة.
ولو ألقينا نظرة على أحداث الفترة الزمنية التي لقي بها ابن رشد محنته، لوجدنا أمثلة كثيرة في هراة وواسط ودمشق وبغداد(([5].
اسمه ونسبه وكنيته:
هو محمد بن أبي القاسم أحمد ابن أبي الوليد محمد بن أحمد بن رشد، يكنى أبا الوليد. وهو حفيد قاضي الجماعة بقرطبة.(([6].
ولد بقرطبة سنة 520هـ، 1126م. وأدرك من حياة جَدّه شهراً سنة عشرين(([7]. وقد اشتهر في أوروبا في القرون الوسطى باسم AVEROES (([8].
نشأ ابن رشد في بيت علم وفضل، وكان أبوه أحمد بن محمد بن أحمد بن رشد أبو القاسم، قد تولَّى القضاء(([9]. وتتحدَّث المصادر عن نشأة أبي القاسم هذا، فتقول: "إنه من أهل بيت فقه وعلم"(([10]. وربما ساهمت شهرة ابن رشد الحفيد وابن رشد الجَدّ، في قلّة المعلومات التي وصلتنا عن أبي القاسم. وتوفي والد ابن رشد سنة 563هـ.(([11]. وهذا يعني أن الأديب الفيلسوف ابن رشد، قد ذاعت شهرته العلمية في حياة والده.
أما جَدُّه محمد بن أحمد بن أحمد بن رشد(([12] فُيروَى أن أصله من بلدة سرقسطة(([13]. وكان قاضي الجماعة بقرطبة، وصاحِبَ الصلاة بالمسجد الجامع بها، يكنى أبا الوليد ... وكان قطبها، عالماً حافظاً للفقه، مقدَّماً فيه على جميع أهل عصره، عارفاً بالفتوى على مذهب مالك وأصحابه، بصيراً بأقوالهم واتّفاقهم واختلافهم، نافذاً في علم الفرائض والأصول، من أهل الرياسة في العلم والبراعة والفهم مع الدين والفضل والوقار والحلم والسمت، والهدي الصالح.
ويستمّر صاحب كتاب الصلة فيقول: "سمعت الفقيه أبا مروان عبدالملك بن مسرة صاحبنا أكرمه الله، ومكانه من العلم والفضل والثقة مكانه، يقول: شاهدت شيخنا القاضي أبا الوليد، رحمه الله، يصوم يوم الجمعة دائماً في الحضر والسفر"(([14].
ولد أبو الوليد ابن رشد (الجد) في شوال سنة 450 هـ.(([15]. وقد روى عن أبي جعفر أحمد بن رزق الفقيه، وعن أبي مروان ابن سراج، وأبي عبدالله بن خيرة، وأبي عبدالله محمد بن فرج، وأبي علي الغساني، وأجاز له أبو العباس العذري ما رواه(([16].
وتَقَلَّد أبو الوليد القضاء بقرطبة، وسار فيه، على حدّ تعبير الرواية، بأحسن سيرة وأقوم طريقة، ثم استعفى عنه فأعفى؛ ونشر كتبه وتواليفه ومسائله وتصانيفه(([17]. ومن تواليفه كتاب المقدمات الأوائل كتب المدوَّنة، وكتاب البيان والتحصيل لما في المستخرجة من التوجيه والتعليل، واختصار المبسوطة، واختصار مشكل الآثار للطحاوي، إلى غير ذلك من تواليفه. ويعقّب على ذلك صاحب كتاب الصلة بقوله: "سمعنا عليه بعضها، وأجاز لنا سائرها"(([18].
ومن مؤلفاته أيضاً، "الفتاوى"(([19]. فقد جمع ابن الفران، شيخ الجامع الكبير في قرطبة، فتاوى أبي الوليد ابن رشد (الجدّ)، في كتاب خَطّي(([20]. ولا شك أن هذه المكانة العلمية الرفيعة التي كان يشغلها الجد، قد كان لها آثارها العميقة وطوابعها الواضحة في شخصية ابن رشد (الحفيد) وتكوينه العلميّ والثقافيّ. وتوفي أبو الوليد ابن رشد (الجد)، ليلة الأحد، ودفن عشي يوم الأحد الحادي عشر من ذي القعدة سنة عشرين وخمسمائة، ودفن بمقبرة العباس، وصلَّى عليه ابنه أبو القاسم، وشهده جمع عظيم من الناس؛ وكان الثناء عليه حسناً جميلاً(([21]. وهكذا فقد ولد أبو الوليد ابن رشد (الحفيد) سنة 520هـ، بقرطبة ونشأ فيها، في بيت علم وفضل، ممّا كان له أكبر الأثر في تكوينه الفكري والثقافي.
مجريات حياته:
ولد ابن رشد بقرطبة سنة 520هـ، ونشأ فيها حيث درس الفقه والطبّ وعلوم الأوائل، وتتلمذ على مشاهير علمائها ... وفي سنة 548هـ نراه في مراكش، حاضرة الدولة الموحِّديّة التي بسطت سلطانها على الأندلس والمغرب. وربما كان ابن طُفيل، المفكّر المشهور، وطبيب البلاط الموحّدي، هو الذي أشار عليه بالقدوم إلى عدوة المغرب؛ إذا قام ابن طُفيل بتقديم "ابن رشد" الشاب إلى أبي يعقوب يوسف سلطان الموحّدين؛ وتروي لنا المصادر قصّة هذه المقابلة التي كان من نتائجها حثّ ابن رشد بوضع شروحٍ مُيَسَّرة لأرسطو ...(([22].
وتعاقبت الأحداث في حياة ابن رشد ... ففي سنة 565هـ تولَّى القضاء بإشبيلية، وبعد ذلك أصبح قاضي قرطبة. وبالرغم من مشاغله الكثيرة، فقد أَلَّف أهمَّ كتبه في هذه الفترة..
وفي سنة 578هـ استدعاه يعقوب المنصور، الذي خلف أباه يوسف، لكي يصبح طبيبه بمراكش، فقد تقدمت السن كثيراً بابن طفيل. ولم يلبث ابن رشد طويلاً في البلاط الموحّدي، إذ نراه بعد فترة قصيرة يعود إلى قرطبة، لكي يشغل فيها منصب قاضي القضاة.
كان ابن رشد ذا حظوة عند خليفة الموحّدين، يعقوب المنصور في بداية الأمر، ثم ما لبث أن نقم عليه، بعد أن اتُّهم بالزندقة. فأمر الخليفة بإحراق كتب الفلسفة، ما عدا كتب الطبّ والحساب، وفرض على ابن رشد أن يقيم في "اليسانة" وهي بلد قريب من قرطبة، كانت أولاً لليهود، وأن لا يخرج عنها(([23]. وقد نقم السلطان أيضاً على جماعة أخرى من الفضلاء الأعيان، وأمر أن يكونوا في مواضع أخر، وأظهر أنه فعل لهم ذلك بسبب ما يُدَّعَى فيهم أنهم مشتغلون بالحكمة وعلوم الأوائل. وهم أبو جعفر الذهبي، والفقيه أبو عبدالله محمد بن إبراهيم، قاضي بجاية، وأبو الربيع الكفيف، وأبو العباس الحافظ الشاعر القرابي(([24].
وفي الحديث عن نهاية محنة ابن رشد ورفاقه يقول ابن أبي أصيبعة: "وبقوا مدة، ثم إن جماعة من الأعيان بإشبيلية شهدوا لابن رشد أنه على غير ما نسب إليه، فرضي المنصور عنه وعن سائر الجماعة، وذلك في سنة خمس وتسعين وخمسمائة، وجعل أبا جعفر الذهبي مزواراً للطلبة ومزواراً للأطباء(([25].
وقد أورد "رينان" قطعة من سيرة ابن رشد للأنصاري (وفق مخطوط المكتبة الإمبراطورية ملحق عربي سنة 682، ص7) جاء فيها عن محنة أبي الوليد(([26]:
"فكمدت سوق السعايات، وضرب عن كل طالب ومطلوب، والأعداء كانوا لا يسأمون من الانتظار، ويرقبون أوقات الضرار، فلما كان التلُّوم من المنصور بمدينة قرطبة، وامتدّ بها أمد الإقامة، وانبسط الناس لمجالس المذاكرة، تجددت للطالبين آفاقهم، وقوي تألبهم واسترسالهم، فأدلوا بتلك الألقيات، وأوضحوا ما ارتقبوا فيه من شنيع السوءات، الماحية لأبي الوليد كثيراً من الحسنات. فقُرِئت بالمجلس، وتُدووِلَت أغراضها ومعانيها، وقواعدها ومبانيها، فخرجت بما دلَّت عليه أسوأ مخرج. وربما ذيَّلها مكر الطالبين، فلم يكن عند اجتماع الملأ إلا المدافعة عن شريعة الإسلام؛ ثم آثر الخليفة فضيلة الإبقاء، وأَغَمد السيف التماس جميل الجزاء، وأمر طلبة مجلسه وفقهاء دولته بالحضور بجامع المسلمين، وتعريف الملأ بأنه مَرَقَ من الدين، وأنه استوجب لعنة الظالمين. وأضيف إليه القاضي أبو عبدالله ابن إبراهيم الأصولي في هذا الازدحام، ولُفَّ معه في حريق هذا الملام، لأشياء أيضاً نقمت عليه في مجالس المذاكرة، وفي أثناء كلامه مع توالي الأيام ..."، ثم يستمر الأنصاري في الحديث عن الاجتماع بالجامع الأعظم بقرطبة، إلى أن يقول: "فنالهم ما شاء الله من الجفاء، وتفرَّقوا على حكم من يعلم السرّ وأخفى؛ ثم أمر أبو الوليد بسكنى اليسانة، لقول من قال: إنه ينسب في بني إسرائيل، وإنه لا يُعْرَف له نسبة في قبائل الأندلس ..."، ثم يتابع الحديث عن ابن رشد وصاحبه الذي لفه الحريق معه فيقول الأنصاري: "وليس في زمانهما من بكمالهما ولا من نسج على منوالهما، وتفرق تلاميذ أبي الوليد أيدي سباء"(([27].
ومن الواضح أنَّ هناك أسباباً خفيَّة قد دفعت إلى نكبة ابن رشد: فالأنصاري مثلاً يواصل حديثه فيقول: "ويذكر أن من أسباب نكبته هذه اختصاصه بأبي يحيى أخي المنصور والي قرطبة". وقد أورد ابن أبي أصيبعة أسباباً أخرى. قال القاضي أبو مروان: "وممّا كان في قلب المنصور من ابن رشد أنه كان متى حضر مجلس المنصور، وتكلّم معه أو بحث عنده في شيء من العلم يخاطب المنصور بأن يقول: تسمع يا أخي. وأيضاً فإن ابن رشد كان قد صَنَّف كتاباً في الحيوان، وذكر فيه أنواع الحيوان، ونعت كل واحد منها. فلما ذكر الزرافة وصفها ثم قال: "وقد رأيت الزرافة عند ملك البربر"، يعني المنصور. فلما بلغ ذلك المنصور صعب عليه، وكان أحد الأسباب الموجبة في أنه نقم على ابن رشد وأبعده ...(([28].
وكانت هذه المحنة التي أصابت أبا الوليد، مناسبة اغتنمها خصومه للتشنيع عليه(([29].
وبعد عودة الخليفة المنصور إلى مراكش، ما لبث أن عفا عن ابن رشد ورفاقه واستدعاه إليها. ولكنْ ما لبث ابن رشد أن توفي فيها، بعد ذلك بقليل؛ فكانت وفاته كما أوردها الأنصاري، ليلة الخميس التاسعة من صفر سنة خمس وتسعين وخمسمائة بموافقة عاشر دجنبر. ودفن بجبانة باب تاغزوت. وبعد ثلاثة أشهر حمل إلى قرطبة، فدفن بها في روضة سلفه بمقبرة ابن عباس(([30].
شخصية ابن رشد وأثرها في أدبه:
كان لشخصية ابن رشد أثرها العميق في أدبه، فقد طبعته بطابَع العمق والجدية، ونأت به عن الفنون الأدبية التقليدية؛ ولا عجب إذا رأينا العقلانية والواقعية تطبعان أدبه وإنتاجه الفكري في جميع فنون المعرفة، ولذا كانت الدراية أغلب عليه من الرواية(([31].
عُني أبو الوليد ابن رشد بالعلم من صغره إلى كبره، وكانت لهذه الحياة الجادّة آثارها في تكوين شخصيته. فكان على حد تعبير بعض الروايات، على شرفه، أشدَّ الناس تواضعاً وأخفضهم جناحاً(([32]. ويورد ابن أبي أصيبعة حديثاً للقاضي أبي مروان الباجي يقول: "كان القاضي أبو الوليد ابن رشد حسن الرأي، ذكيّاً، رثّ البزّة، قويّ النفس، .."(([33].
كان لهذه المقومات الشخصية أثرها البعيد في حياة ابن رشد، وما تركته من طوابع مميّزة في أدبه. فكان إلى جانب السيرة الحميدة، قد وهب ذاته للعلم والمعرفة، وقَصَرَ حياته على خدمة وطنه.
فهذا صاحب التكملة يتحدث عن هذه الجوانب في شخصية ابن رشد فيقول: "وولي قضاء قرطبة بعد أبي محمد بن مغيث فحمدت سيرته، وتأثلت له عند الملوك وجاهة عظيمة، لم يصرفها في ترفيع حال، ولا جمع مال، إنما قصرها على مصالح أهل بلده خاصة، ومنافع أهل الأندلس عامة(([34]. وكان إلى ذلك كلّه، سمحاً كريم النفس، فكان يبذل العطاء لقُصّاده، ويُلام أحياناً على البذل لمن لا يُحبّونه ولا يَكُفّون عن اتّهامه فيقول: إنَّ إعطاء العدوّ هو الفضيلة، أما إعطاء الصديق، فلا فضل فيه. وقد أعطى مرة رجلاً أهانه، وحذَّره من فعل ذلك بغيره لأنه لا يأمن بوادر غضبه(([35].
وإذا كان ابن رشد متسامحاً في أمر نفسه، فإنه لم يكن متسامحاً في أمر غيره؛ ومن ذاك قصّته مع الشاعر ابن خروف حين هجا أبا جعفر الحميري العالم المؤدب، فقد أوجع الشاعر ضرباً، وأنذره أَلّا يعود لمثلها.
كانت شخصية ابن رشد مطبوعة على مزاج الفيلسوف الحكيم، تنأى به عن الاتجاه إلى تلك الفنون الأدبية والفنية، في الظرف والنغم والإيقاع، كما كان الشأن مع جلّة حكماء ذلك العصر وأطبائه، مثل ابن طفيل، وابن باجة، وابن زهر، وغيرهم. وهكذا كان ابن رشد يحسن المساجلة ولا يحسن المنادمة. ولا يبالي تزييف لغة "البلاط" في سبيل تحقيق لغة العلم، ورفع الكلفة من مجالس الباحثين فيه(([36]. وربما كانت هذه الصفات من الأسباب الخفيّة التي أدّت إلى التنكيل بهذا المفكر الإسلامي العظيم.
لقد أجمع أكثر الدارسين لابن رشد على وصفه بأنه "أكثر شُرّاح مؤلفات أرسطو عمقاً"(([37]. كان ابن رشد معجباً الإعجاب كله بالمعلم الأول "أرسطو".
ولكن يبقى السؤال الضخم أمام دارس أدب ابن رشد، وهو: إلى أي حدّ تأثر ابن رشد شخصياً بآراء أرسطو وفلسفته في الأخلاق والسياسة والخطابة والشعر؟ وبعبارة أخرى فنحن نتساءل إلى أي حدّ نستطيع أن نعتبر هذه الآراء تمثّل فلسفة ابن رشد واتجاهاته في فهم العلوم والآداب؟
ومما لا شك فيه أن هناك عاملين أساسين أَثَّرا في مفهومه المتميّز للأدب، وهذان العاملان هما، شخصيّته الجادة، وتكوينه الثقافي، واشتغاله بعلوم الأوائل بانصرافه إلى دراسة أرسطو والتعمّق بشرح فلسفته وآرائه.
وإن نظرة شاملة في مؤلفات ابن رشد(([38] تظهر لنا الطابع العقلاني لأدب أبي الوليد: فمؤلفاته بصورة عامة يمكن تقسيمها إلى أربعة أقسام: فهنالك شروح أو مصنّفات فلسفية وعلمية، وشروح أو مصنفات طبية؛ وكذلك هناك مصنّفات كلامية وفقهية، ومصنّفات أدبية ولغوية.
وكان مجال التأليف عند ابن رشد قد تأثر بطبيعة نظرته الفلسفية؛ فقد حرض دائماً على تأكيد ذلك المذهب الفلسفي الذي تميَّزت به الفلسفة العربية في الأندلس خاصة، والفكر العربي بصورة عامة؛ وفحواه تقسيم الأقيسة إلى ثلاثة أصناف: برهانية وجدلية وخطابية. وبناء على ذلك يقسم الناس إلى فئات أو طبقات ثلاث متقابلة: هم أهل البرهان، فالجدليون، فالخطابيون. وهو يعني بأهل البرهان الفلاسفة أو الخاصة، وبالخاطبيين جمهور الناس الغالب أو العامة، وبالجدليين طائفة من الناس هي دون الفلاسفة مرتبة، إلا أنها مع ذلك تتميّز عن الجمهور، هم المتكلمون(([39].
وربما يَسْهُل على دارس مؤلفات ابن رشد، بعد هذا، أن يصنّفها وفق هذه الأقيسة. فنحن نعتقد مثلاً أن كتابه "تهافت التهافت" هو مساجلة أدبية قام بأثنائها بفحص دقيق، وتأويل عميق متبصّر لكتاب "تهافت الفلاسفة" للغزالي. فهو ينعي بحرارة على الغزالي حين يصرِّح بأنه لم يقصد من تهافته بيان الحقّ في نفسه، وإنما قصد التشويش على الفلاسفة، ونزع الثقة بهم ...(([40]. وكذلك تستطيع أن تدرج في إطار الأدب، وفق مفهوم ابن رشد، كتابه الذي سمّاه "فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال"، وكتاب "منهاج الأدلة في علم الأصول" ... وغيرها، دون أن نضع حدّاً فاصلاً بين علم الكلام و أثره في الأدب.
أما في مجال اللغة، فقد أشارت المصادر إلى "كتابه في العربية الذي وسمه بالضروري"(([41]. وكذلك كتابه في الكلام على الكلمة والاسم المشتق(([42]. وهكذا نستطيع القول إِن مجاله الأدبي قد اتّسم بتلك المعركة الفكرية التي تركت أثراً عميقاً في التفكير الإسلامي؛ هذا مع العلم أن الفلسفة الأدبية لم تشغل سوى حيّز صغير في مذهب هذا الفيلسوف، بإزاء فلسفته المادية. فقد كان الخلاف، بينه وبين المتكلمين في الفلسفة الأدبية، شبيهاً بالخلاف بينه وبينهم في فلسفته الطبيعية(([43].
لقد كانت شخصية ابن رشد واضحة متميزة في أدبه، وفي اجتهاده الفكري، وفي فلسفته. وإِنّ تصانيفه التي وسمها بالشروح، كانت على مستويات مختلفة من حيث المنهج والغاية التي يرمي إليها. وهو في ذلك كلّه كان يميز أحياناً، حتى في هذه الشروح بين رأيه ورأي المتن الذي يشرحه.
وهكذا فإن شخصية هذا القاضي الفيلسوف، التي طُبِعت على الجِدّ، فقد تركت آثارها العميقة في مفهومه للأدب. فقد كان يتعفَّف عن حضور مجالس اللهو والطرب، مما استباحه جملة من علماء عصره وحكمائه. وقد بلغ من تعفّفه عمّا لا يراه خليقاً بعلمه ومكانه من القضاء أنه "أحرق شعره الذي نظمه في الغزل أيام شبابه". وبذلك، مع الأسف، حُرِم الدارسون من مصدر مهم من مصادر دراسة أدبه وحياته.
وفي هذا الإطار العقلاني لمفهوم الأدب، وتغليبه هذا الجانب على الجانب الفني، نورد الرواية التالية:
قال أبو الفضل التفاشي: جرت مناظرة بين يدي ملك المغرب المنصور يعقوب بين الفقيه أبي الوليد ابن رشد والرئيس أبي بكر ابن زهر، فقال ابن رشد لابن زهر في تفضيل قرطبة: ما أدري ما تقول، غير أنه إذا مات عالِمٌ بإشبيلية، فأُريدَ بَيْعُ كتبه، حُمِلَت إلى قرطبة حتى تُباع فيها، وإِن مات مطرب بقرطبة فأُريدَ بَيْعُ آلاته، حُمِلَت إلى إشبيلية(([44].
ارتباط الأدب عند ابن رشد بالحقيقة والمعرفة:
نظر ابن رشد إلى الأدب نظرة شاملة وعميقة، وقد فهم رسالته الأدبية من خلال اتجاهين أساسيين استغرقا حياته الأدبية كلّها. وهذان الاتجاهان يتميزان بالبحث عن الحقيقة وواجب الوجود، من ناحية، وعن المعرفة التي هي عبادة للخالق؛ ويلتقي ابن رشد في ذلك مع الفارابي وغيره من المفكرين الإسلاميين الذي يعتبرون البحث عن المعرفة عبادةً لله، سبحانه وتعالى، وتسبيحاً له في ملكوته. ولنستمع إلى ابن رشد في هذه العبارة التي حُذِفَت، على حد تعبير "رينان"، من شرح ما بعد الطبيعة في الطبعات اللاتينية، وقد ترجمها مسيو "منك" من العبرية.
قال: قال ابن رشد: "يقوم دين الفيلسوف الخاص على دراسة ما هو كائن؛ وذلك لأن أرفع عبادة يمكن أن يعبد الله بها، تقوم على معرفة ما صنع، لما يؤدي إليه هذا من معرفتنا إياه على حقيقته كلها. وهذا هو أصلح الأعمال عند الله ..."(([45].
اتجه ابن رشد إلى البحث عن الحقيقة، تاركاً لنا في ذلك نتاجاً خصباً وأدباً رفيعاً يقع، على حد تعبير بعض الروايات، في حوالي عشرة آلاف ورقة.
وهو في بحثه عن الحقيقة، كان له موقف متميّز عن المسائل الكبرى التي أثارت الجدل في عصره وفيما تلاه من القرون الوسطى. فقد ثار الجدل حول مسألة قِدَم العالم، ومسألة علم الله بالجزئيات، ومسألة النفس وبقائها؛ هذا فضلاً عن مسألتين أُخريين، ثار حولهما الجدل واحتدم، وهما: مسألة الصفات الإلهية، ومسألة الحقيقتين. والمسألة الأخيرة مؤداها أن حقيقة الشرع وحقيقة العلم والحكمة شيء واحد، يختلف في العبارة ولا يختلف في الجوهر. وقد شَغَلَت هذه القضية أقلام الكتّاب والمفكرين في ذلك العصر. فوضع ابن طفيل قصّته المعروفة "حي ابن يقظان"، ووضع ابن رشد كتابه الموسوم "فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال". فالفكرة التي أملت على ابن طفيل قصته، هي ذاتها التي أملت على ابن رشد كتابه. وإن الفرق بين الأسلوبين يعود إلى الفرق بين شخصيّتَي الكاتبين.
فابن طفيل، كما يبدو من أخباره وآثاره، صاحب مزاج طريف، يُحسن فنَّ المنادمة والمسامرة، في حين أن شخصية ابن رشد الجادة، ونظرته العقلانية إلى الأشياء، قد تردد أصداؤها في أدبه، مما حدا بمن ترجموا له بوصفه بأن الدراية كانت أغلب عليه من الرواية(([46]. وكان وصفه هذا في مجال الفقه، ولكنه ينسحب بطبيعة الحال على حياته الثقافية والفكرية كلها. فقد تميز ابن رشد منذ وقت مبكر في مجال الفقه، بالنظرة العقلية والقياس في الأحكام. هذا مع العلم أن محصوله في الرواية كان واسعاً. وأن المصادر تُحَدّثنا مثلاً بأنه كان يحفظ الموطّأ عن ظهر قلب(([47].
وإن نزعة التوفيق بين الشريعة والفلسفة تُعتَـبَر معقد الأصالة والطرافة في تفكيره. أما في مجال المعرفة، فلم يَتوانَ ابن رشد في البحث والتنقيب عن جميع المعارف الإنسانية دراسة وتدقيقاً وشرحاً، وفي مختلف الحقول، في الطب والمنطق والفلك والرياضيات والفلسفة وغيرها من صنوف المعارف الإنسانية.
فالبحث وراء المعرفة، في نظر ابن رشد يُقَرّبُه إلى فهم حقيقة الخالق؛ فهو عبادة وتسبيح لله في ملكوته، وبالتالي فإن هذا المسرى يؤدي به إلى فهم جوهر الدين وحقيقته، حيث يُتَمّم "الوحي" ما عجز عنه العقل. وهكذا فإن الأدب ونتاج الفكر الإنساني يرتبط في نظر ابن رشد بالحقيقة والمعرفة من حيث الغاية والهدف.
الخطابة عند ابن رشد:
وفي هذا الموضوع لا بُدَّ لنا أن نقف عند كتاب "تلخيص الخطابة"، حيث يبدأ ابن رشد الكلام فيه في كل فقرة بقولة: "قال" ثم يورد بضع كلمات من أوائل الفقرة، ويمضي بعد ذلك في الشرح، دون أن يتميز ما لأرسطو مما له هو ذاته، ويستطرد أحياناً ويأتي بكثير من الأمثلة من عنده، ولكنه في هذا كلّه يتابع ترتيب النص الأصلي لأرسطو ويتقيّد به. ويتوسع أحياناً، فيزيد كثيراً عن حجم نص أرسطو(([48]. وقد فرغ ابن رشد من كتابه هذا يوم الجمعة الثالث من شعبان من عام سبعين وخمسمائة، بقرطبة(([49].
وقد تَوَسَّع ابن رشد في إيضاح معاني أرسطو التي يذكرها النص؛ وهو يعترف في نهاية الكتاب أن ما سَجَّله لم يتعدَّ فهمه واستيعابه لهذه النصوص، إذ يقول: "وقد لخصنا منها ما تأدى إلينا فهمه، وغلب على ظننا أنه مقصوده؛ وعسى الله أن يَمنّ بالتفرغ التام، للفحص عن نص أقاويله في هذه الأشياء(([50].
وإن هذا الاتجاه يحملنا على الاعتقاد بطابع ابن رشد وشخصيته في هذه الشروح، ولا سيما في "تلخيص الخطابة"؛ فتراه مثلاً يستبدل في كتابه هذا بالأمثلة اليونانية نظائرها في اللغة العربية، متلائماً مع البيئة العربية الإسلامية التي يكتب لها ويعيش فيها؛ فيورد شواهد من الفقه والتاريخ الإسلامي واللغة العربية. وقد نجح ابن رشد نجاحاً كبيراً في تطبيق القواعد والنماذج التي ذكرها أرسطو، على اللغة العربية وتراثها، ولا سيما في المقالة الثالثة: أقسام فن الخطابة، في صفات الأسلوب ... إلخ(([51].
فإن ابن رشد يتبنَّى مذهب "المعلم الأول" أرسطو في الخطابة، كما يتبناه في الشعر، كما سنرى فيما بعد؟ "فصناعة الخطابة" تناسب صناعة الجدل، وذلك أن كلتيهما تَؤُمَّانِ غاية واحدة وهي مخاطبة الغير ... ويوجد استعمالهما مشتركاً للجميع؛ أعني أن كلّ واحد من الناس يستعمل، بالطبع، الأقاويل الجدلية والأقاويل الخطابية ...(([52]. وفي موضع آخر يقول: "وكلّ واحد من الناس يوجد مستعملاً لنحو ما من أنحاء البلاغة، ومنتهياً منها إلى مقدار ما، وذلك في صنفي الأقاويل اللذين أحدهما المناظرة، والثاني التعليم والإرشاد، وأكثر ذلك في الموضوعات الخاصة بهذه الصناعة، وهي مثل الشكلية والاعتذار وسائر الأقاويل التي في الأمور الجزئية ...(([53].
فالكلام عنده على مذهب أرسطو، مركَّب من ثلاثة: من قائل، وهو الخطيب؛ ومن مقول فيه، وهو الذي يعمل فيه القول؛ ومن الذين يوجه إليهم القول، وهم السامعون. والغاية بالقول إنما هي متوجهة نحو هؤلاء السامعين. والسامعون لا مَحالة إِمّا مُناظِر، وإِمّا حاكم، وإِمّا المقصود إقناعه ... والحاكم في الأمور المستقبلية، هو الرئيس، والحاكم في الأمور الكائنة هو الذي ينصبه الرئيس، مثل القاضي في مدننا هذه وهي مدن الإسلام. وأما الناظر فإنما يناظر بقوة الملكة الخطابية(([54].
ولنستمع لابن رشد كيف يطبِّق نظريات أرسطو في تفصيل الأقاويل الخطابية على نصوص من اللغة العربية، بل يستشهد على ذلك بآيات من القرآن الكريم. قال: والمكرور والمعاطف في الأقاويل الخطابية، هو أن يكون أول القول وآخره بلفظ واحد، أو قريب من الواحد. وهذا مثل قولهم: "القتل أنفى للقتل"، ومثل قوله تعالى: (الحاقة ما الحاقة، وما أدراك ما الحاقة)..(([55].
وهناك أمثلة كثيرة؛ بل إن المقالة الثالثة كما أشرنا سابقاً، هي محاولة جادَّة من ابن رشد، لكي يتمثَّل نظريات أرسطو في الخطابة ويطبقها على اللغة العربية وآدابها. ولنستمع إليه يقول:
"وأما الأسماء المترادفة، فصالحة جدّاً لصناعة الشعر، وقد تصح أيضاً لصناعة الخطابة. والشاعر يستعمل هذا الصنف لأسباب أخصّها به استعمالها لتصحيح الوزن والقافية، مثل قوله:
"وهِنْدٌ أتى مِن دونها النأيُ والبُعدُ"(([56].
فابن رشد يشير بهذا النص إلى بيت للحطيئة من داليّته المشهورة التي يمدح بها بغيض بن عامر، ومطلعها:
"ألا طَرَقَتْنا بعدما هجعوا هِندُ - وقد سِرْنَ خَمساً واتلأبَّ بنا نَجدُ".
وتمام البيت الذي استشهد به ابن رشد هو:
ألا حَبَّذا هِندٌ وأرضٌ بها هِندُ وهِنُدٌ أتى مِن دونها النأي والبعد
وفي حديثه عن توابع الألفاظ يقول:
"وينبغي أن تعلم أن الأخذ بالوجوه(([57] ليس له غناء في الخُطَب المكتوبة، وإنما غناؤه في المَتْلُوَّة؛ وأن عادة العرب في استعمالها قليلة. وأما من سلف من الأمم، فربما أقاموها في الأشعار مقام الألفاظ، أعني التشكيلات، ويحذفون اللفظ الدالّ على ذلك المعنى إما إرداةً للاختصار، وإِما طلباً للوزن والإلذاذ؛ وهذا لم تجر به عادة العرب. ولهذا صار ما يقول أرسطو في كثير من هذه الأشياء، كما يقول أبو نصر، غير مفهوم عندنا ولا نافع. والأخذ بالوجوه إنما هو نافع أكثر في الخطب التي تتلى على جهة المنازعة، لأنه إنما يحتاج إلى الاستعانة بجميع الأشياء المقنعة في موضع المنازعة لتحصل الغلبة.
وأمثال هذه الخطب هي الخطب التي كانت بين علي ومعاوية. وأمثال ذلك في الأشعار، كالأشعار التي كانت بين جرير والفرزدق(([58].
وهكذا فقد أضاف ابن رشد إضافات أصيلة في الشروح التي وضعها على مصنَّفات أرسطو. ولم يَكتفِ بالنقل، بل ترك آثار عبقريته الفذّة على تلك النظريات والآراء، والتي قامت بدور مهمّ في النهضة الأدبية فيما بعد.
ابن رشد والشعر:
لم يكن أبو الوليد ابن رشد شاعراً ولا ذا طبيعة شعرية، فإن اتجاهه الفكري، وما جُبِل عليه من جدّية في التفكير والسلوك، كانا ينأيان به عن حياة الفن والشعر.
ولم يكن ابن رشد في عالم الشعر، مع ذلك كله، بأقل من أولئك النجباء، الألبّاء من نظرائه من كبار الفلاسفة، والأطباء والفقهاء، كابن سيناء وابن حزم وغيرهما، في المشرق، كما هو في المغرب والأندلس؛ وقد كان الشعر في الأندلس، على حد تعبير بعض الروايات، سائراً على جميع الألسنة في الأندلس: فالشعر يجري على ألسنة الرجال كما يجري على ألسنة النساء، ويجري على ألسنة الشعراء كما يجري على ألسنة الفقهاء والعلماء. ولكنَّ شعر هؤلاء العلماء لم يكن ليتجاوز النظم والتأليف المحكم بين المقاطع والألفاظ. ونحن إذا استثنينا بعض الأمثلة القليلة، فإننا نستطيع القول: إِن جميع هؤلاء العلماء قد نظموا الشعر وانتحلوه، دون أن يكونوا ذوي شأن في مجال الغنائية أو الفن، ولكنه حلية يتَّصف بها كل نجيب. وكان ابن رشد من كبار هؤلاء النجباء الألبّاء، فلا بدّ من أن يضيف الشعر إلى جملة علومه وكفاياته.
فهذا ابن الأبار يصفه فيقول:
"وكان يُفزَع إلى فتواه في الطب كما يُفزَع إلى فتواه في الفقه، مع الحظّ الوافر من الأعراب والآداب. حَكَى عنه أبو القاسم بن الطيلسان أنه كان يحفظ شعر حبيب والمتنبي، ويُكثر التمثّل بهما في مجلسه، ويورد ذلك أحسن إيراد"(([59].
ويحدّثنا ابن سعيد، صاحب المغرب، وقد كان قريب عهد من الفترة التي عاش فيها ابن رشد، فيقول: "أدركه والدي وقرأ عليه، وقال في وصفه الشقندي: "فقيه الأندلس، وفيلسوفها الذي لا يَحتاج في نباهته إلى تنبيه". وأنشد من شعره قوله:

ما العِشقُ شأني، ولكنْ لستُ أُنكِرُهُ




كم حَلَّ عقدة سلواني تَذَكُّرُهُ


من لي بِغَضِّ جفوني عن مخبِّرة الـ




أجفان قد أظهرتْ ما لستُ أَضْمِرُهُ


لولا النُّهى لأطَعتُ اللَّحْظ ثانيةً




فيمن يَرُدُّ سنا الألحاظ مَنْظَرُهُ


ما لابنِ سِتّينَ قادَتْه لِغايَتِهِ




عشريةٌ فنأى عنه تَبَصُّرُهُ


قد كان رضوى وقاراً فهو سافيةٌ




أَلحُسنُ يورِدُه، والهون يُصدِرُهُ(([60].







وفي هذا الموضوع، يتحدث الفيلسوف الفرنسي المشهور، أرنست رينان، فيقول:
"ونعلم من ليون الأفريقي أن ابن رشد كان قد نظم عدة قصائد خلقية وغزلية، فأحرقها في مشيبه؛ وينقل ليون إلينا قطعة منها تجعلنا نفترض بالحقيقة، كون الحكمة، من بعض النواحي، لم تأت ابن رشد إلّا مع السنين ..(([61]. ومهما يكون من أمر، فقد راض ابن رشد نفسه على التوقّر فبالغ في رياضتها، وربّما دفعه ذلك إلى حرق أشعارٍ نظمها في صباه؛ وبذلك، مع الأسف، فَقَدْنا لوناً مهمّاً من نتاج عبقريته، يمكن أن يُلقي ضوءاً على حياته الخاصة ونتاجه الأدبي.
لم يكن ابن رشد ممن نَظَم الشعر وانتحله، على مذهب نظرائه من العلماء والفلاسفة، ولكنه كان له موقف من الشعر، بصورة عامة، يتداخل مع موقف أرسطو ونظريته في الشعر، والواقع أن تلخيصه "فن الشعر" لأرسطو يشهد بعلوّ كعبه في الأدب العربي، ولا سيما شعر ما قبل الإسلام.
وتجد في كل صفحة من هذا الكتاب، على حد تعبير المستشرق الفرنسي أرنست رينان، استشهاداً بعنترة وامرئ القيس والأعشى والنابغة وأبي تمام والمتنبي وكتاب الأغاني ...(([62].
ويربط ابن رشد بين الموسيقى والشعر، كما هو الأمر عند أرسطو؛ فالموسيقى بنظره تُعْنَى بتثقيف النفس وتمريسها على الفضائل الخلقية. وهو يعني بالموسيقى الأقاويل المحلية ذات اللحن، على حد تعبيره. فكانت بهذا الفن خادمة لصناعة الشعر الذي يؤثر في الصِبْيَة والأحداث أكثر من الخطابة والبرهان – وهما ضربان من ضروب الإقناع-. فإذا رقوا عن هذا الطور استُعمِلَت معهم الأقاويل الخطابية والجدلية، وفي الطور الأخير البرهانية التي يراد بها الفلاسفة أو الحكماء خاصة(([63].
فابن رشد ينظر إلى الشعر، وفق نظرة أرسطو، وذلك من خلال وظيفته في التربية وتأثيره في الناشئة؛ ومن ناحية أخرى فإنه يرى فيه صنفاً من صنوف الإقناع؛ والإقناع أحد سبيلين رئيسيين لغرس الفضائل في نفوس سكان الدولة. فالأقاويل الخطابية والشعرية يخاطَبُ بها الجمهور، وقد اعتمدها أيضاً أفلاطون في "الجمهورية" (([64].
فابن رشد يقف من الشعر من خلال وظيفته التربوية موقفاً هادفاً: فمن القصص التي، كما يقول، ينبغي نبذها ما كان حاثّاً على طلب اللذة أو على ابتغاء المال، لأنها تحول دون التمرُّس بحياة الجندية. وهذه المفاسد، كما يقول ابن رشد، يكثر ذكرها في أشعار العرب، "فلم يكن أضر من تلقينها للصبية منذ نعومة أظفارهم"؛ وهو ما درج عليه معلموهم منذ القدم(([65].
لا شك أن أبا الوليد، يقف موقفاً انتفائياً من الشعر العربي في مجال التربية. وهذا أمر ينسجم والأهداف التربوية السامية، التي رسمها منذ البداية، من وجوب غرس الفضائل في نفوس أبناء المدينة الفاضلة. ولا يمكن أن يكون هذا الموقف كُرْهاً للشعر العربي بصورة عامة، وهو الذي كان يحفظ شعر حبيب والمتنبي، ويُكْثِر التمثل بهما في مجلسه.
كان لابن رشد باع في قول الشعر، ولكنّه لم يكن يمثل جوانب عبقريته المشرقة؛ وكانت له آراء ونظرات فنية ونقدية فيه امتزجت بآراء أرسطو ونظرته للشعر امتزاجاً كلّيّاً. ونحن نعتقد أن ابن رشد قد حالفه التوفيق في مجال الشعر كما حالفه في مجال الخطابة، من حيث محاولته لتطبيق نظريات أرسطو على نماذج أصيلة في اللغة العربية وآدابها، شعراً ونثراً...
أدب ابن رشد ونزعته الإنسانية والاجتماعية:
لقد ذاع صيت ابن رشد بين "اللاتين" لأمرين: لكونه طبيباً وكونه شارحاً لأرسطو؛ بيد أن فخره شارحاً أعظم من فخره طبيباً بمراحل. فمهما يكن من شهرة نالتها "الكليات" لم تبلغ ما ناله "قانون" ابن سيناء من اعتبار بالغ(([66]. وإنما انتهى بشرحه الأكبر على تكوين قطب ثبت في الفلسفة، "فالطبيعة تفسر بأرسطو، وأرسطو يفسر بابن رشد"(([67].
وألَّفَ ابن رشد، عدا هذه الشروح، عدداً كبيراً من الكتب يَعْسُر إحصاؤها تماماً. وقد شَمَلَت مؤلفاته مختلف مجالات المعرفة الإنسانية: في الفلسفة، وعلم الكلام، والفقه، والفلك، والطب، والنحو، واللغة.
ونحن إذا تجاوزنا مفهوم الأدب من حيث هو نتاج فكري هدفه التسلية والموعظة إلى مفهوم أَعمّ، وذلك من حيث هو نتاج فكري يؤثر الكاتب من خلاله في القارئ ويحركه نحو الأفضل، نكون قد اقتربنا كثيراً لكي نصنِّف في هذا الإطار مجموعة من مؤلفات ابن رشد الأدبية، وأَهمُّها:
1- كتاب "تهافت التهافت"، وقد وضعه ابن رشد لكي يدحض به كتاب الغزالي الذي عنوانه "تهافت الفلاسفة".
2- كتاب "فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال"، وقد حاول فيه ابن رشد أن يوفِّق بين الشريعة والفلسفة.
3- كتاب "الكشف عن مناهج الأَدلَّة".
ولكي نستطيع أن نفهم اتجاهات ابن رشد في مصنَّفاته المختلفة، لا بُدَّ لنا أن نتعرف على نظرة ابن رشد للكاتب، من ناحية، ولنوعية الجمهور الذي يكتب إليه من ناحية أخرى. فالناس في نظره مختلفون حسب استعداداتهم وقدراتهم، ومن هذا التفاوت في الفِطَر والعقول، جعل الناس على حد تعبيره طوائف ثلاثاً:
1- الخطابيّون، وهم الجمهور الغالب الذي يصدق بالأدلة الخطابية.
2- أهل الجدل، ومنهم رجال علم الكلام؛ وهم الذين ارتفعوا عن العامة ولكنّهم لم يصلوا لأهل البرهان اليقيني.
3- البرهانيون، بطبعهم وبالحكمة التي أَخذوا أنفسهم بها.
وبناء على ذلك يقول ابن رشد بانقسام الشريعة على ظاهر له أهله، وهم العامة وأشباههم، وباطن له أهله، وهم ذوو البرهان(([68].
وإن نظرية ابن رشد في التعلُّم تقوم على هذه الفروق الفردية، إذ كان ينادي دائماً "بأنَّ جَعْلَ الناس شرعاً واحداً في التعلُّم خلاف المحسوس والمعقول"؛ هذه النظرية التي كانت معروفة جيداً عند الكثير من الفلاسفة قبله، مثل الفارابي وابن سيناء وغيرهما...
كان ابن رشد يرى وجوب تقيد الكاتب بنوعية الجمهور الذي يكتب إليه. فقد حرم مثلاً الحديث مع الجمهور في علم الله على النحو الفلسفي. وقد أخذ على الغزالي إثباته التأويل في غير كتب البرهان، وتقديمه ذلك إلى جمهور الناس. وشجب المتكلّمين، وبخاصة المعتزلة، أنهم بتآويلهم التي صَرَّحوا بها للجمهور، أوقعوا الناس في شتات وتباغض وحروب، ومزقوا الشرع(([69].
ولكننا نجد ابن رشد يقع في مثل هذا الطبع، فيعتذر بأن الجمهور قد عرف من أولئك الذين يلومهم هذه التآويل. فكان لا بدَّ له أن يتكلم فيها، وذلك لبيان الحق من جهة، ولدفع الأذى عن الجمهور من جهة أخرى.
وإن هذا اللون من الكتابة التي خرج بها من إطار كتب الخاصة، أهل البرهان، إلى نطاق العامة، أهل الجدل والخطابة، ليست في جوهرها سوى مساجلات ومناظرات كتابية، يحاول الكاتب دحض آراء خصومه، وإصلاح ما أفسدته، على حد تعبيره، لدى الجمهور. بل ينصّ أحياناً أن بعض الأفكار، لا سبيل إلى إنشائها في هذا الكتاب، مما يؤكد أن كتاب "تهافت التهافت"، ليس من الكتب التي تُدَّخَر للخاصة، وإنما هو كتاب للعامة، على حَدّ مفهومه؛ إذ يقول أحياناً في مناقشة بعض الموضوعات: "وهذا العلم لا سبيل إلى إفشائه في هذا الموضع"(([70].
وإن أسلوب ابن رشد في "تهافت التهافت"، يبتعد كثيراً عن الأساليب البرهانية، فقد خرج به من هذه الدائرة من حيث الهدف، ولكنه يتلوَّن أحياناً بانفعالية تُخرج الكاتب عن وقاره وموضوعيته إلى السباب والتهكم اللاذع.
فيشير إلى أبي حامد الغزالي فيقول: "فإتيانه بمثل هذه الأقاويل السفسطائية قبيح، فإنه يُظّنُّ به أنه ممن لا يذهب عليه ذلك، وإنما أراد بذلك مداهنة أهل زمانه"(([71]، وهذه تهمة، ولا شكَّ، خطيرة يوجِّها ابن رشد إلى أبي حامد. وفي موضع آخر يقول: "قلت: هذا الكلام، الذي هو جواب عن الفلاسفة، في نهاية السقوط"(([72]. وفي مكان آخر "قلت: هذا كله سفسطائي خبيث"(([73]. وكذلك: "هذا بَيِّن بنفسه؛ وقائل هذا، هو الملبس، لا الفلاسفة، فإن الملبس هو الذي يقصد التغليط لا الحق. وإذا أخطأ في الحق فليس يقال فيه: إنه ملبس"(([74]. وفي تعليق له حول بعض الأفكار يقول: "وهذا كله عند الفلاسفة هوس وتخليط"(([75]. وكثيراً ما يَتَّهم ابنُ رشد ابنَ سينا وشيعته فيقول: "فانظر هذا الغلط، ما أكثره على الحكماء؟ فعليك أن تتبين قولهم هذا: هل هو برهان؟ أم لا؟ أعني في كتب القدماء، لا في كتب ابن سينا وغيره، الذين غيَّروا مذهب القوم في العلم الإلهي، حتى صار ظنياً"(([76].
ويتهم أحياناً ابن سيناء، والفارابي أحياناً، بعدم فهم مذاهب قدماء الفلاسفة، فيقول: "قلت: هذا كله تَخَرُّص على الفلاسفة من ابن سيناء وأبي نصر، وغيره ...(([77]. وقد يهاجم الغزالي بعنف، مع دحضه لآراء ابن سينا إذ يقول: "وأما الكلام فيما صدر عنها (أي العقول) فانفرد ابن سينا بالقول الذي حكاه (أي الغزالي) عن الفلاسفة وتَجَرَّد هو للرد عليهم، ليوهم أنه ردّ على جميعهم.
وهذا، كما قال، "تَعَمُّق ممَّن قاله في الهوس"(([78]. وها هو أيضاً ينعى على الفارابي وابن سينا مقالهما، إذ يصيح مندهشاً: "والعجب كلّ العجب، كيف خفي هذا على أبي نصر وابن سينا، لأنهما أول من قال هذه الخرافات، فقلَّدهما الناس، ونسبوا هذا القول إلى الفلاسفة ..."(([79].
وإن مثل هذه الإشارات التي تنم عن أسلوب انفعالي كثيرة جداً. وهو في أسلوبه هذا قد يَعْنُف إلى حدّ السباب، ويهزأ إلى حد السخرية اللاذعة. ففي مناقشته لبعض آراء أبي حامد يقول: "فهو صادق في ذلك، إذ لم يبلغ الرجل المرتبة من العلم المحيطة بهذه المسألة. وهذا هو الظاهر من حاله فيما بعد .."(([80].
وقد وقع أبو حامد الغزالي في تيّار السباب والعنف أيضاً؛ ولنستمع إلى الغزالي وقد جاوز حدّ الانفعال إلى السباب تقريباً إذ يقول: "قال أبو حامد رادّاً على الفلاسفة:
"قلنا: ما ذكرتموه تحكُّمات، وهي على التحقيق ظلمات فوق ظلمات، لو حكاه الإنسان عن منام رآه، لاستدلَّ به على سوء مزاجه، أو أورد جنسه في الفقيهات، التي قصارى الطلب فيها تخمينات، لقيل: إنها ترَّهات، لا تفيد غلبة الظنون".
فهي على حدّ تعبير أبي حامد، تحكّمات ... وظلمات ... وترّهات ... إلخ. وعندما يناقشه ابن رشد، يقابله انفعالاً بانفعال، وانتقاصاً بانتقاص.
يقول ابن رشد في الرد على الغزالي، بعد أن أورد ما حكاه سابقاً: "قلت: "لا يبعد أن يعرض مثل هذا للجهال مع العلماء، وللجمهور مع الخواصّ، كما يعرف ذلك لهم في المصنوعات؛ فإن الصُنّاع، إذا أوردوا صفات كثيرة من مصنوعاتهم على العوام، وتضمنوا الأفعال العجيبة عنها، هزئ بهم الجمهور، وظنوا أنهم مبرسمون، وهم في الحقيقة الذين ينزلون منزلة المبرسمين من العقلاء، والجهال من العلماء. وأمثال هذه الأقاويل لا ينبغي أن نتلقى بها آراء العلماء وأهل النظر"(([81].
وهكذا فنحن نستطيع أن نصنِّف كتب ابن رشد هذه خارج دائرة الخاصة، وأنها موجهة إلى العامة من القراء. وهي بذلك تخرج من ميدان البحث الفلسفي الرصين، إلى ميدان المساجلات الأدبية وأساليبها ... لقد كتب ابن رشد مؤلفاته هذه وقد وجهها إلى العامة، وفق مفهومه، يريد إصلاح ما أفسدته أقوال السابقين. فهو يحاول إصلاح ما أفسده سابقوه بالتصريح بآراء مُفسِدة، وتآويل ضالة، تلقفها غير أهلها، فعمَّ بذلك ضررها ..."(([82].
وفي هذه المساجلة الفكرية، يقول العقاد: "فلم يحفظ لنا تاريخ الفكر مساجلة بين حكيمين في قوة المساجلة التي دارت بين ابن رشد والغزالي، ومضاء سلاحها، ونفاذ حججها وبراهينها ..."(([83].
ولم يكن ابن رشد في شروحه المشهورة وفي تصانيفه، العلمية منها والفقهية والأدبية، سوى مفكِّر عظيم يُوَجِّهُ جميع طاقاته وجهة إنسانية رفيعة، هَدَفُها الأسمى تنمية الفضائل لدى أفراد الأمة، وخلقُ مجتمع إسلامي قويم.
ونحن نلمس هذه النزعة الواقعية في مختلف مصنفاته، إلى جانب تلك النزعة الإنسانية السامية.
ونحن، إذا استثنينا بعض الإشارات المقتضبة إلى قضايا أخلاقية وسياسية، نلمحها في بعض مؤلفاته، كتهافت التهافت، والكشف عن مناهج الأدلة، وسواها؛ فقد اقتصر ابن رشد في تآليفه في الأخلاق والسياسة، على شرح الأخلاق إلى نيقوماخس. وجوامع سياسة أفلاطون ...(([84]. وقد فَصَّل ابن رشد في شروحه هذه ما فعله في شرح الخطابة والشعر. فهو لا يكتفي بشرح الجمهورية، بل يعمد إلى تطبيق بعض مبادئها على الأوضاع السياسية والاجتماعية السائدة في البلاد الإسلامية آنذاك، وخاصة الأندلس والمغرب.
فصلاح المجتمع وسعادته، هو الهدف الأسمى، الذي كان يرمي إليه ابن رشد في جميع مصنفاته، العلمية منها والفلسفية واللغوية؛ فقد ختم كتابه المشهور في ميدان الفقه "بداية المجتهد ونهاية المقتصد"، بقوله:
"وينبغي قبل هذا أن يُعْلَم أن السنن المشروعة العملية المقصود منها هو الفضائل النفسانية، فمنها ما يرجع إلى تعظيم من يجب تعظيمه، وشكر من يجب شكره. وفي هذا الجنس تدخل العبادات ... ومنها ما يرجع إلى الفضيلة التي نسميها "عفَّة" ... ومنها ما يرجع إلى طلب العدل والكفّ عن الجور ... ومنها السنن الواردة في الأعراض، ومنها السنن الواردة في جمع الأموال وتقويمها، وهي التي يُقصَد بها طلب الفضيلة التي تسمَّى السخاء، وتجنُّب الرذيلة التي تسمى البخل؛ والزكاة تدخل في هذا الباب من وجه، وتدخل في باب الاشتراك في الأموال، وكذلك الأمر في الصدقات.
ومنها سنن واردة في الاجتماع الذي هو شرط في حياة الإنسان وحفظ الفضيلة العلمية والعملية ... ومن السنن المهمّة في حيّز الاجتماع السنن الواردة في المحبّة والبغضة والتعاون على إقامة هذه السنن؛ وهو الذي يسمَّى النهي عن المنكر والأمر بالمعروف ... إلخ .."(([85].
فمن الواضح أن ابن رشد يرى أن الدين يرمي بشعائره وأوامره إلى غايات إنسانية واجتماعية رفيعة، هَدَفُها صلاح المجتمع وسعادته. وكان لابن رشد، من خلال أدبه، موقف واضح من أهم القضايا الاجتماعية والسياسية؛ فقد كان له رأي واضح في السياسة، والاجتماع، والتربية، والمرأة، وحرية الإنسان: ففي مجال السياسية، فإن نظرته كانت مبنية على فلسفة أفلاطون، وقد بسطها في شرحه "جمهورية" هذا الفيلسوف وجوهر تعاليمها، أنه يجب إلقاء زمام الأحكام إلى الشيوخ والفلاسفة ليديروها بقسط وعدل. ويجب حث الناس على الفضائل بتعليمهم البيان والعلوم التي تثقف العقل(([86].
ويتناول أبو الوليد ثلاث قضايا هي بمثابة المدخل إلى علم السياسة، وهي:
أولاً- ما هي الشروط التي ينبغي أن تتوافر لكي توجد هذه الفضائل المشار إليها ... إذ ليس الغرض من هذا العلم معرفة ماهية هذه الفضائل، كما يقول أرسطو، بل العمل بها.
ثانياً- كيف يمكنُ غرسُ هذه الفضائل في نفوس الأحداث، بحيث تنمو تدريجيّاً، وكيف تصان بعد أن تبلغ مرتبة الكمال؟ وكيف يمكن استئصالُ الشر من نفوس الأشرار.
ثالثاً- ما هي الصفات والفضائل التي تشتدُّ إذا اقترنت بفضيلة ما، وتضعف إذا اقترنت بفضيلة أخرى؟ أي كيف تؤثر هذه الفضائل إحداها في الأخرى(([87].
وكان ابن رشد يكره الاستبداد العسكري والإقطاعات العسكرية، ويرى استغناء الدولة عن القضاة والأطباء، دليلاً على انتظام شؤونها. ويقوم مَثَل الدولة على عدم الاحتياج إلى قاض، ولا إلى طبيب؛ وليس على الجيش واجب غير السهر على حرس الأمة. وما يحدث لو أكلت كلاب الراعي غنمه؟ وتُعَدُّ إقطاعات الجيش آفة الدول(([88].
وقد رأى ابن رشد أن الحاكم الظالم هو ذلك الذي يحكم الشعب من أجل نفسه لا من أجل شعبه. وأنَّ شرَّ الظلم ظلم الكهنة؛ وأن أحوال العرب في عهد الخلفاء الراشدين كانت على غاية من الصلاح، "فكأنما وصف أفلاطون حكومتهم، لما وصف في "جمهوريته" الحكومة الجمهورية الصحيحة التي يجب أن تكون مثالاً لجميع الحكومات".
ولكنَّ معاوية هدم ذلك البناء الجليل القديم، وأقام مكانه دولة بني أمية وسلطانها الشديد، ففتح بذلك باباً للفتن ما تزال إلى الآن قائمة قاعدة حتى في بلادنا هذه (أي الأندلس)."(([89]. أما موقفه من المرأة فهو يساوي بين المرأة والرجل من حيث الطبيعة فيقول: "وتختلف النساء عن الرجال درجة لا طبيعة، وهنَّ أهل لكل ما يفعل الرجال من حرب وفلسفة. إلخ ...، ولكن على درجة دون درجتهم. وهنَّ يَفُقْنَهم أحياناً، كما في الموسيقى، وذلك مع كون كمال هذه الصناعة يقوم على التلحين مِن قِبَل رجل والغناء مِن قِبل امرأة. ويدلُّ مثال بعض الدول الأفريقية على استعدادهن الكبير للحرب؛ ولا يُعَدُّ من الخوارق إمكان انتهائهن إلى الحكومة الجمهورية. أو لا يرى، كما هو الواقع، أن إناث الكلاب تحرس القطيع كما تحرس ذكورها؟ وإلى هذا أضاف ابن رشد قوله:
"لا تَدَعُنا حالنا الاجتماعية نبصر كل ما يوجد من إمكانيات في المرأة؛ ويظهر أنهن لم يخلقن لغير الولادة وإرضاع الأولاد".
وقد قضت هذه الحال من العبودية فيهن على قدرة القيام بجلائل الأعمال. ولذا فإننا لا نرى بيننا امرأة مزيَّنة بفضائل خلقية. وتمرُّ حياتهن كما تمرُّ حياة النباتات، وهن في كفالة أزواجهن أنفسهم. ومن هنا، أيضاً، أتى البؤس الذي يلتهم مدننا؛ وذلك لأن عدد النساء فيها ضعف عدد الرجال، ولا يستطعن كسب الحاجيّ بعملهن."(([90].
وتَطَرَّق ابن رشد إلى حرية الإنسان، ووصل هذا المفهوم الإنساني الرفيع بما ورد عنه في آي القرآن الكريم. فالإنسان غير مطلق الحرية تماماً ولا مقيَّدُها تماماً. وذلك أنه إذا نُظِر إليه من جهة نفسه وباطنه، فهو حُرٌّ مطلق لأن نفسه مطلقة الحرية في جسمه. ولكن إذا نُظِر إليه من جهة حوادث الحياة الخارجية، كان مقيَّداً بها، لما لها من التأثير على أعماله. "وهو يقول: "إن هذا هو السر في أن القرآن يجعل الإنسان تارة مختاراً وتارة مقيَّداً."(([91].
ويسير ابن رشد على منوال أفلاطون في قضايا التربية، فيحذِّر في مجال تربية الصغار من التمثيل بالحكايات الكاذبة "أي الأساطير" التي ترسخ في أذهانهم فَتُفسِد سريرتهم(([92]. وهو على مذهب أفلاطون بالتربية الجماعية، وحاجة الفرد لأقرانه. فقد تبيَّن أن اكتساب المرء لأي من هذه الفضائل دون معونة الأقران مستحيل، إِذ إن الإنسان يحتاج إلى من عداه، في اكتساب الفضيلة؛ فهو كائن مدني بالطبع(([93].
وفي حديثه عن الخصال المكتسبة التي ينبغي على الحاكم أو الرئيس أن يتصف بها، يرسم ابن رشد منهاجاً تربوياً واضحاً، فيما يتعلق بالرئيس، من الطفولة الأولى حتى يبلغ سن الخمسين، لأنه، على حَدّ تعبيره، يجب تفويض الحكومة إلى الشيوخ.
فبعد أن يتحدث عن الطفولة الأولى للحاكم أو الرئيس، يقول: ومنها، أي من الخصال المكتسبة، الإقبال على العلوم المختلفة والتوفُّر على دراستها. وتبدأ هذه الدراسة بعلم الحساب، فالهندسة، فعلم النجوم، فالموسيقى؛ وهي علوم لا تُطْلَب من أجل الكمال الإنساني، شيمة الطبيعيات والإلهيات، بل من أجل إعداد الفكر للإقبال على هذين العلمين ... وحين يبلغ الحكّام سنّ السادسة عشرة أو السابعة عشرة ينبغي أن يُقبلوا على تعلم الفروسية حتى سن العشرين، وعندها يأخذون بتعلم الفلسفة حتى سنّ الثلاثين. فإذا بلغوا الخامسة والثلاثين دُفِعت لهم رئاسة الجيش، طوال خمس عشرة سنة؛ فإذا بلغوا سن الخمسين، باتوا قادرين على الاضطلاع بمهام الرئاسة وإدارة شؤون الدولة...
أما التربيةُ الأخلاقيةُ لجميع المواطنين، فهي تقوم، في نظر ابن رشد، على تلقينهم الفضيلة بتعليمهم الخطابة والشعر والجدل. ولا شكَّ أن فيلوسوفنا يقصد الانتقاء في مجال الخطابة والشعر والجدل، فهي وسائل من أجل تربية الفضيلة في نفوس جميع المواطنين. ومن هنا نستطيع أن نفهم قوله عندما يُعقّب على ذلك قائلاً: "والشعر مفسد، ولا سيما شعر العرب"(([94]. فإن ابن رشد لا ينال من قيمة الشعر الفنية، ولم يهدف أن ينتقص من شعر العرب من حيث هو، ولكنه يرى أن يختار المربي من هذه الأشعار ما يكفل بتلقين الفضيلة، وتربيتها في نفوس المواطنين.
العلاقة بين الشكل والمحتوى:
يشغل الجدل، بصورة عامة، مكانة مهمة من مؤلفات ابن رشد، وهو على حد تعبير رينان: "يدخل إليه من الرشاقة ما هو ممتع. ومما كان يقع أحياناً، أن يرتقي بحماسته العلمية، وكَلَفِه بالفلسفة إلى نبرة من الخلقية، بليغة إلى الغاية. ويسود الإسهاب شروحه، ولكن بلا جفاف. وتتجلى شخصية المؤلف فيما يعرف أن يسوقه إلى المواضع المهمة من استطراد وتأملات ..."(([95].
والحقيقة أن هذه الإشارات تُكَوِّن أهم خصائص ابن رشد في أسلوب كتابته. أما جفاف أسلوبه فلا بد لنا أن نستذكر حقيقة مهمة، حيث أن طبعات كتبه في الحقيقة لا تعرض في نصوصها العربية سوى شرح قام على ترجمة عربية من ترجمة سريانية من أصل يوناني. أما في نصوصها باللغات الأجنبية فهي تقوم على ترجمة لاتينية من ترجمة عبرية. هذا مع العلم أن كثيراً من مصنفاته قد فُقِدَت أصولها العربية.
وإن الدارس لأدب ابن عربي ومصنَّفاته يمكن أن يلمح ركائز يمكن أن تُمَيِّز نظرة ابن رشد في أسلوبه، من ناحية، وفي فن الكتابة، من ناحية أخرى. فهنالك طبيعة الجمهور الذي يكتب إليه الكاتب؛ وهذه النظرة رأيناها واضحة تماماً في أبحاثنا السابقة؛ فهو ينادي بأن على الكاتب أن يكون على بصيرة من نوعية الجمهور الذي يكتب إليه، وبالتالي بنوعية الأفكار وطبيعة الأبحاث التي يقدمها إلى قرائه، وإلا وقع في خطيئة كبيرة، وأَدَّى جهده إلى الإفساد. "فليس كل صنف من أصناف الناس ينبغي أن يُسْتَعْمَل معهم البرهان، في الأشياء النظرية التي يراد منهم اعتقادها. وذلك إِمّا لأن الإنسان قد نشأ على مشهورات تخالف الحقَّ، فإذا سلك به نحو الأشياء التي نشأ عليها، سَهُل إقناعه، وإِمّا لأن نظرته ليست مُعَدَّة لقبول البرهان أصلاً، وإِمّا لأنه لا يمكن بيانه له في ذلك الزمان اليسير الذي يراد منه وقوع التصديق فيه ..."(([96].
فهو في ذلك يقول بوجود علاقة وثيقة بين طبيعة الجمهور وحقائق المعرفة التي يمكن أن تُعْرَض عليهم. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، يجعل للانفعالات النفسية دوراً مهمّاً نحو استمالة الحكام والناظرين، حيث يقول: ... الأشياء المعينة في وقوع التصديق، مثل التكلم في الخوف والرحمة والغضب، وما أشبه ذلك من الانفعالات النفسانية التي ليست مُعَدَّة نحو الأمر المقصود تبينه أولاً بالذات، وإنما هي مُعَدَّة نحو استمالة الحكام والناظرين، ولذلك كانت كأنها مُوَطِّئَة للتصديق لا فاعلة له ... (([97].
ويجعل ابن رشد للألفاظ مكانتها في زيادة التصديق؛ وإِن هذه المكانة تختلف باختلاف طبيعة المعارف، وذلك على حد تعبير ابن رشد، لأن للألفاظ في ذلك معونة في زيادة التصديق الحاصل بين البرهان وقوته، كالحال في الصنائع الأخرى، فإنها يلفى لها معونة في إيقاع التصديق المستعمل فيها وإن كانت في ذلك تختلف.
فأَقَلُّها حاجةً في ذلك صناعة الجدل، ثم من بعدها صناعة السفسطة، ثم من بعدها الخطابة، ثم من بعدها صناعة الشعر. فهاتان الصناعتان أكثر حاجةً إلى ذلك ...
وإنما صارت الألفاظ والأصوات في هاتين الصناعتين هذا الفعل من أجل أنها تخيل في المعنى رفعة أو خسة، وبالجملة أمراً زائداً على مفهوم اللفظ، مثل غرابة اللفظ، فإنها تخيل غرابة المعنى، ولذلك فخامته تخيل فخامة المعنى. والنغم كذلك يفيد فيه هذا المعنى ... وليس يَقْصد ذلك أحد عندما يتكلم على طريق الهندسة ولا على طريق العدد(([98].
فقد أدرك ابن رشد العلاقة الوثيقة بين الشكل والمحتوى، وقد اقترب في مفهوم ذلك إلى المدى الذي لا يرى منه الشكل منفصلاً عن المحتوى، بل إن الصورة مرتبطة ارتباطاً عفوياً مع المادة. فابن رشد يرى مع أرسطو أن الكون هو تغير في الجوهر، وأنه لا يتكوَّن شيء من لا شيء، بل من موضوع. وهذا على حدّ تعبير ابن رشد في تفسير ما بعد الطبيعة حيث يقول: "... المذهب الذي أخذناه عن أرسطو، وهو أن الفاعل إنما يفعل المركب من المادة والصورة، وذلك بأن يحرك المادة ويغيرها حتى يخرج ما فيها من القوة إلى الفعل ...".
إن هذه النظرة الفلسفية للعلاقة بين المادة والصورة قد انعكست تماماً في موقف ابن رشد من الأدب بصورة عامة، حيث يرى المادة متصلة اتصالاً عفوياً بالشكل، وليست منفصلة عنه. وهي النظرة التي يأخذ بها النقد الأدبي في مناهجه الحديثة.
وربما كانت هذه النظرة إلى العلاقة بين الشكل والمحتوى، بين المادة والصورة، وتطبيقها على الأدب، وفق مفهومه العقلاني له، أهمَّ قضيّتين يمكن أن يطرحهما الدارس لأدب ابن رشد. أما القضية الأخرى، فقد أشرنا إليها فيما سبق، وهي ارتباط الأدب بالحقيقة والمعرفة، في نظر ابن رشد...
ابن رشد في مجال اللغة والبلاغة والنحو:
كان للُّغة أثر كبير في تحديد فكر ابن رشد، وتطويع نظريات أرسطو وفلسفته إلى واقع الحضارة العربية الإسلامية بمفاهيمها وعقيدتها، بل إلى لغتها وأدبها.
فقد اعتذر ابن رشد عن ذكر الأمثلة اليونانية لأنه رآها مجهولة تماماً لدى القارئ العربي الذي يتوجَّه إليه، ولا تتلاءم أيضاً مع الجوّ الإسلامي الذي يكتب له ويعيش فيه؛ على أنه استبدل بهذه الأمثلة اليونانية نظائرها في الإسلام، فاستشهد بشواهد من الفقه والتاريخ الإسلامي واللغة العربية ... حيث أراد أن يطبِّق القواعد والنماذج التي يذكرها أرسطو على اللغة والأدب والخطب العربية ..(([99].
وكان ابن رشد يقول منذ البداية، بأن الشريعة الإسلامية تحضُّ من خلال الآيات القرآنية والحديث على النظر الفلسفي. وهي توجب استعمال البرهان المنطقي، على حد تعبيره، لمعرفة الله تعالى وموجوداته. ويستشهد على ذلك بآيات من القرآن الكريم، فيورد مثلاً الآية الكريمة: "فاعتبروا يا أولى الأبصار"(([100]. ويبيّن أن الاعتبار هنا ليس إلا استنباط المجهول من المعلوم، وهو القياس الفلسفي أو المنطقي المعروف(([101].
وبناء على هذا الاتجاه، فقد استخدم ابن رشد أمثلة عربية وإسلامية كثيرة في كتاب "تلخيص الخطابة" وفي كتاب "الشعر" أيضاً. وبالرغم من أنها شروح لكتب أرسطو، غير أن ابن رشد في التخليص أو التحليل يتكلَّم باسمه الخاص دائماً، فيعرض مذهب الفيلسوف مضيفاً، حاذفاً، باحثاً في الرسائل الأخرى ما تكمل به الفكرة، متَّخِذاً ترتيباً ومنهاجاً من اختياره؛ وهكذا على حدّ تعبير الفيلسوف الفرنسي "رينان": "فإن التخليصات رسائل حقيقية كرسائل أرسطو"(([102]. ففي حديثه مثلاً عن الأمور المستعملة مع الألفاظ على جهة المعونة في جودة التقسيم وإيقاع التصديق وبلوغ الغرض المقصود، وهي على حدّ تعبير ابن رشد نفسه، والتي جرت عادة القدماء أن يُسَمُّوها الأخذ بالوجوه. فيقول: "وذلك أن هذه الأشياء، لما كان من شأنها أن تميل السامعين إلى الإصغاء والاستماع والإقبال على المتكلم بالوجه، وتفريغ النفس لما يورده، استُعير لها هذا الاسم. وهذه الأشياء صنفان: إِمّا أشكال، وإِمّا أصوات ونغم...
والأشكال، بالجملة، يقصد بها أحد أمرين: إِمّا تفهيم المعنى وتخييله الموقع للتصديق، كما روي عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال في آخر خطبة: "بُعِثتُ أنا والساعة كهاتين" وأشار بإصبعيه يقرنهما ...(([103].
وتراه يخرج في شروح إلى دراسات مقارنة، فيتحدث عن موقع بعض النظرات البلاغية في أشعار الأمم، ويقارنها بما هو في لغة العرب وآدابها. فنرى ابن رشد يتحدث في موضع آخر من "تلخيص الخطابة" فيقول: "وفيها أيضاً أنها تُسْتَعمَل بضرب من الوزن في الكلام الخطبي ... وهذا الضرب من النغم ضروري في أوزان أشعار من سلف من الأمم ما عدا العرب؛ فإن من سلف من الأمم كانوا يزنون أبياتهم بالنغم والوقفات، والعرب تزنها بالوقفات فقط. ومنها أيضاً أن تُسْتَعْمَل أشعاراً في افتتاح القول وختمه ومواضع الوقف ..."(([104].
وقد نَظَر إلى البلاغة بهذه النظرة المبدعة، حيث استطاع أن يتمثَّل نظريات أرسطو من خلال نثر اللغة العربية وشعرها ... ويستخدم، وبطبيعة الحال، الاصطلاحات البلاغية التي سبقه إليها البلاغيون الأعلام قبله؛ إذ يقول مثلاً: "والاستعارة التي تكون من هذا النوع كثيرة موجودة في أشعار العرب وخطبها، والأقاويل التي يخصّها أهل لساننا من الناظرين في الشعر والبلاغة بالاستعارة هي داخلة في هذا الجنس، ولذلك يقولون: إِن المجاز استعارة وتشبيه"(([105].
وكان لابن رشد مجال واسع في التعريب، وكيفية استخدام الألفاظ للدلالة على معان مستجدَّة؛ وكذلك توليد الكلمات عن طرق الاشتقاق وغيره. فقد ذَكَرَتْ لنا المصادر المختلفة بين قائمة كتبه، كلاماً له على الكلمة والاسم المشتق(([106].
ففي حديثه عن تأثير الألفاظ والأصوات في الأقاويل يقول: "والذين وقعوا أولاً على تأثير هذه الأحوال من الألفاظ والأصوات في الأقاويل هم الشعراء، وذلك أن هذا المعنى أظهر ما يكون في الأقاويل الشعرية، مع أن الوقوف على الأقاويل الشعرية هو متقدم بالزمان على الأقاويل البلاغية ..."(([107].
ويُعَمِّق نظرته في استعمال الألفاظ في لغات مختلفة، فيقول: "وأما اللغات فهي صنفان، أحدهما ... مثل أن يستعمل الحجازي لغة حِمْيَريّة؛ والصنف الثاني أن يستعمل في مخاطبة أمة ما، لفظاً ليس من ألفاظ أهل لسانهم، وإنما هو من لسان أمة أخرى، مثل ما يوجد في لسان العرب ألفاظ كثيرة من ألفاظ الفرس والأمم المجاورة لها. وهذا يُستَعمل على وجهين: أحدهما أن يأتي بذلك اللفظ بعينه من غير أن يغيِّر بنيته وتركيبه، والوجه الثاني أن يُغَيِّره تغييراً يقرب من الأبنية المستعملة في لسانهم ليسهل بذلك عليهم النطق به؛ مثل: السِّجّيل وغير ذلك مما هو موجود في كتب اللغة(([108].
فابن رشد يقف هنا موقفاً واضحاً ومتميزاً، تجاه قضية التعريب، سواء أكان ذلك بإحياء ألفاظ ميتة، مثل استعمال الحجازي ألفاظاً حميرية، أم استعمال اللفظة الأجنبية، كما هي، وإدخالها إلى العربية، من ناحية، أو إدخالها بعد إضفاء رونق العربية عليها ... وقد أورد لفظة "السجّيل" وهي لفظة قرآنية ... وهنالك أيضاً ألفاظ موضوعة، يحدّدها ابن رشد من خلال شرحه فيقول: "وهي الألفاظ المخترعَة في لسان جنس ما، يَخترِعها أهل ذلك اللسان، على نحو التركيب الذي لحروفهم"(([109]. ويبحث "تلخيص الخطابة" اللفظة من حيثُ أصوات الحروف وتناسقها أو عدمه. وهنا أيضاً، تمتزج آراء أرسطو بآراء شارحه ابن رشد، إلى الحد الذي تَرَى فيه شخصية الشارح واضحة بارزة، وذلك من خلال تقصِّياته وإيراده الأمثلة في نطاق العربية وحروفها وأصواتها، إذ يقول:
"وأما المغَلِّطة فهي الألفاظ التي يعسر النطق بها، وذلك يعرض لأسباب: منها أن تكون تلك الحروف حروفاً يَعْسُر النطق بها، وإِن كانت قليلة؛ ومنها أن يكون سبب العسر فيها كثرة الحروف التي رُكِّبت منها، والتي يعسر النطق بها، إِمّا أن يكون من أجل مخرج الحرف نفسه وأن ينطق به وحده، مثل كثير من حروف الحلق، وإِمّا أن يكون العسر يحدث له عند تركيبه مع غيره؛ وذلك إمّا لتقارب مخارجها، وهذا هو سبب الإدغام في لسان العرب، وإِمّا لتكرارها، مثل قولهم: "قصصت أظفاري". ولذلك بعض العرب يبدلون إحدى الصادين "ياء" في مثل هذا. وربما كان السبب في ذلك تضادّ المخارج. ولذلك قَلَّ في لسان العرب اسم يوجد على وزن "فِعلى" إلا ما حكوا من "الدِفلى". وأكثر الانقلابات والتغيُّرات التي يضعها النحاة هذا هو سببها(([110].
وهنا نستبين خصائص نظرة ابن رشد في النحو، وقد كانت له مساهمة فيه. ولا عجب من ذلك، فالنحو عند أهل الأندلس، على حد تعبير المقّري "في نهاية من علوّ الطبقة، حتى أنهم في هذا العصر فيه كأصحاب عصر الخليل وسيبويه، لا يزداد مع هرم الزمان إلا جِدَّة؛ وهم كثيرو البحث فيه، وحِفْظ مذاهبه كمذاهب الفقه. وكلُّ عالِـمٍ في أيّ علم لا يكون متمكناً من علم النحو، بحيث لا تخفى عليه الدقائق، فليس عندهم بمستحقّ للتميُّز، ولا سالم من الازدراء ..."(([111].
ولم يخرج ابن رشد عن هذه القاعدة، فقد أسهم في هذا المجال بكتاب سماه "الضروريّ في النحو"(([112]. وإن هذه التسمية، تذكِّرنا بكتاب أبي بكر الزبيدي القرطبي الذي وضعه قبل ذلك بحوالي قرنين من الزمن وأطلق عليه "الواضح".
ذكرت أكثر المصادر التي أوردت مصنَّفات ابن رشد، كتابه هذا في النحو، ولكن مع الأسف لم يصل إلينا، ولا نعرف عنه شيئاً؛ فربما ما زال تائهاً في بعض الأقبية أو زوايا المكتبات، وربما فُقِدَ إلى الأبد كما فُقِدَت مصنَّفات كثيرة من هذا التراث الضخم، نتيجةَ النكبات والحروب وما حلَّ بالأندلس من استئصال لجذور حضارة عربية إسلامية أصيلة. وإنَّ التسمية بحدّ ذاتها "الضروري في النحو" توحي لنا باتجاهه العملي، في استخدام ما هو ضروري من قواعد النحو؛ وهذا الاتجاه ينسجم تماماً مع طبيعة فلسفة ابن رشد العقلانية والواقعية ... وهو في ذلك استمرار لهذه المدرسة القرطبية، التي اتّجهت اتجاهاً عملياً مناهضةً لتعقيدات النحاة وانشغالهم بجزئيات لا فائدة منها.
وجملة القول، فقد كانت لابن رشد جهود طيّبة في مجال البلاغة والنقد، وفي مجال النحو والاشتقاق، والترجمة والتعريب والشرح؛ وإن هذه المجالات لتستحقّ الدراسة المتعمقة في مصنفات الفيلسوف الإسلامي، الذي كان على حد تعبير ابن الأبار: "كان يُفْزَع إلى فتواه في الطب كما يُفْزَع إلى فتواه في الفقه، مع الحظ الوافر من الإعراب والآداب"...
خاتمة
ربما كان ابن رشد من المفكرِّين القلائل في الدنيا، الذين أهملتهم أمُّتُهم وعُنِيت بهم أمم أخرى؛ لقد تجاوزت مصنفات ابن رشد حدود الزمان والمكان، وكانت ركيزة أساسية في النهضة الأوروبية فيما بعد.
عَرَفَت أوروبا القرون الوسطى ابن رشد باسم (Averroes) وطارت شهرته لديها بالطبّ، من ناحية، وبالفلسفة من ناحية أخرى، وربما كان من الطبيعي أن لا يُعْنَى الفرنج بالجوانب الأخرى في فكر ابن رشد، في مجال الفقه واللغة والأدب. وقد بقيت جميع هذه الجوانب، مع الأسف، في زوايا الإهمال والنسيان ... ولا شكَّ أن العصور المظلمة التي توالت على الأمة العربية والإسلامية، كانت تقف وراء هذا الإهمال.
لم يكن ابن رشد فيلسوفاً وطبيباً فحسب، بل كان فقيهاً مجتهداً، كما ينمُّ عليه كتابه "بداية المجتهد"؛ كما كان أديباً كاتباً، يعالج أهم القضايا السياسية والاجتماعية والأخلاقية التي تَمَسُّ كيان أمته. وقد سار على درب صديقه "ابن طُفيل" وكثير من الفلاسفة المسلمين الذين سبقوه، في محاولة التوفيق بين الحكمة والشريعة، وبين ما يصل إليه من طريق الوحي والرسل...
ولذا فنحن نستطيع أن نعتبر بحقّ ما كتبه في "تهافت التهافت" وفي كتابه "فصل المقال" ... وكذلك في "كشف مناهج الأدلَّة ..." وغيرها، من الأدب العقلاني الرفيع الذي يحاول الكاتب فيه معالجة قضايا إنسانية واجتماعية وأخلاقية وسياسية، يهدف من ورائها إصلاح ما فسد في بنيان هذه الأمة.
ولم يقف ابن رشد عند هذه الحدود من الأدب، بل تَعدَّاها إلى قول الشعر، والإسهام في البحوث اللغوية والبلاغية، ولا سيما في مجال النحو والتعريب والاشتقاق والنقد ... إلخ ... وإِنَّ شروحه لمصنّفات أرسطو لم يكن لتقعد به عند حد النقل، بل كانت تتعداه إلى حد الإبداع في فهم فكر "المعلم الأول" وتَمَثُّله، وتطبيقه على بيئته العربية الإسلامية، ولا أدل على ذلك من تعقيبه في خاتمة كتاب "تلخيص الخطابة" بقوله: "وهنا انقضت معاني هذه المقالة الثالثة، وقد لخَّصنا منها ما تأدى إليها فهمه، وغلب على ظَنِّنا أنه مقصوده ..."(([113].

المصادر والمراجع

ابن الأبار:
ابن الأبار القضاعي البلنسي، التكملة لكتاب الصلة، ج1-2، القاهرة، 1375هـ- 1956م.
ابن أبي أصيبعة:
موفق الدين أبو العباس أحمد بن القاسم بن خليفة بن يونس السعدي الخزرجي المعروف بابن أبي أصيبعة، عيون الأنباء في طبقات الأطباء، بيروت، 1956م.
ابن الأثير:
عز الدين أبو الحسن علي بن أبي الكرم محمد بن عبدالكريم بن عبدالواحد الشيباني المعروف بابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج1-12، بيروت، 1386هـ- 1966م.
ابن بشكوال:
أبو القاسم خلف بن عبدالملك، الصلة، مصر، 1966م.
ابن تغرى بردى:
جمال الدين أبو المحاسن يوسف تغرى بردى النابكي، النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، ج1-12، القاهرة.
ابن رشد:
أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن رشد القرطبي، بداية المجتهد ونهاية المقتصد، ج1-2، القاهرة.
ابن رشد:
أبو الوليد ابن رشد، تلخيص الخطابة، تحقيق عبدالرحمن بدوي، القاهرة، 1960م.
ابن رشد:
أبو الوليد ابن رشد، تلخيص السفسطة، تحقيق محمد سليم سالم، القاهرة، 1972م.
ابن رشد:
أبو الوليد محمد بن رشد، تهافت التهافت، ج1-2، تحقيق الدكتور سليمان دنيا، القاهرة، 1964م.
ابن رشد:
أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن رشد القرطبي، رسائل ابن رشد، حيدر أباد الدكن، 1366هـ- 1947م.
ابن سعيد:
علي بن موسى، المغرب في حلى المغرب، ج1-2، مصر، 1964م.
ابن طفيل:
ابن طفيل الأندلسي، حي بن يقظان (لابن سينا وابن طفيل والسهروردي)، تحقيق أحمد أمين، القاهرة، 1959م.
ابن العماد:
أبو الفلاح عبدالحي بن العماد الحنبلي، شذرات الذهب في أخبار من ذهب، ج1-8، مصر، 1350هـ.
الأنصاري:
أبو عبدالله محمد الأنصاري، فهرست الرصّاع، تونس، 1967م.
الذهبي:
الحافظ الذهبي، العِبَر في خبر من عبر، ج1-5، الكويت، 1963م.
الضبي:
أحمد بن يحيى بن أحمد بن عميرة، بغية الملتمس في تاريخ رجال أهل الأندلس، القاهرة، 1967م.
رينان:
أرنست رينان، ابن رشد، والرشدية، ترجمة عادل زعيتر، القاهرة، 1957م.
زيدان:
جرجي زيدان، تاريخ آداب اللغة العربية، ج1-4، القاهرة.
الزركلي:
خير الدين الزركلي، الأعلام، ج1-11.
العقاد:
عباس محمود العقاد، ابن رشد، القاهرة.
الغزالي:
الإمام الغزالي، تهافت الفلاسفة، تحقيق الدكتور سليمان دنيا، الطبعة الرابعة، القاهرة، 1966م.
فرح:
فرح أنطون، ابن رشد وفلسفته، الإسكندرية، 1903م.
فخري:
ماجد فخري، ابن رشد فيلسوف قرطبة، بيروت، 1960م.
المقّري:
أحمد بن محمد التلمساني، نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب وذكر وزيرها لسان الدين بن الخطيب، ج1-10، بيروت، 1367هـ- 1949م.
موسى:
محمد يوسف موسى، بين الدين والفلسفة، القاهرة.
النباهي:
الشيخ أبو الحسن بن عبدالله بن الحسن النباهي المالقي الأندلسي، كتاب المرقبة العليا فيمن يستحق القضاء والفتيا، بيروت.
- BROCKELMAN- Geschichte d. Arab. Literatur Ers. Sup. LEIDEN. 1937.
- The Encyclopaedia of Islam. LEYDEN. 1927.
- Encyclopaedia of Religion and Ethics. Vol. I-VIII. NEW- YORK. 1962.








[1]) ) التكملة، ج2، ص554.

[2]) ) العقاد، ص55.

[3]) ) فرح، ص27.

[4]) ) النفح، ج1، ص205.

[5]) ) انظر العبر، ج4، ص285.

[6]) ) النباهي، ص111. انظر: ابن أبي أصيبعة، ص530، ج1، ص105.

[7]) ) العبر، ج4، ص287، شذرات الذهب، ج4، ص320.

[8]) ) Encyclo. Vol. ІІ, P. 410-413

[9]) ) المصدر نفسه.

[10]) ) بغية الملتمس، ص156.

[11]) ) المصدر نفسه.

[12]) ) النباهي، ص98.

[13]) ) الصلة، ج2، ص576، عن هامش الأصل، قال عمر بن دحية: أصله من بلدة سرقسطة.

[14]) ) الصلة، ج2، ص576: النباهي، ص98.

[15]) ) الصلة، ج2، ص577.

[16]) ) المصدر نفسه.

[17]) ) النباهي، ص99، الصلة، ج2، ص577.

[18]) ) الصلة، ج2، ص577.

[19]) ) الأعلام، ج6، ص210.

[20])) يوجد هذا المخطوط، على حد رواية الجامعة/ فرح أنطون، ص8 في مكتبة باريس وقد نقل إليها من دير سان فيكتور في إسبانيا.

[21]) ) الصلة، ج2، ص577.

[22]) ) انظر: Encyclo. Vol. ІІ, P. 410-413

[23]) ) انظر/ ابن أبي أصيبعة، ص532.

[24]) ) المصدر نفسه.

[25]) ) انظر: ابن أبي أصيبعة، ص532.

[26]) ) انظر: رينان، ص438- 444.

[27]) ) انظر: المصدر نفسه.

[28]) ) ابن أبي أصيبعة، ص532.

[29]) ) انظر: النباهي، ص111، رينان، ص437- 444.

[30]) ) انظر: رينان، ص442.

[31]) ) انظر: التكملة، ج2، ص554.

[32]) ) المصدر نفسه.

[33]) ) ابن أبي أصيبعة، ص531.

[34]) ) التكملة، ج2، ص554.

[35]) ) انظر: العقاد، ص19.

[36]) ) انظر: العقاد، ص26.

[37]) ) انظر: بين الدين والفلسفة، ص28.

[38])) في مؤلفات ابن رشد انظر: ابن أبي أصيبعة، ص532، 533، التكملة ج2، ص544- ص555، الذهبي، ص ، رينان، ص79- 93، وهما من أكثر القوائم ضبطاً وتفصيلاً؛ وهناك نشرة الأب "بونج" عن مخطوطات ابن رشد الموجودة في أنحاء العالم. وقد أشارت المصادر أيضاً إلى تلك القائمة المهمة التي تحوي مؤلفات ابن رشد في المخطوطة رقم (88) بمكتبة الأسكوريال بإسبانيا.

[39])) انظر: فخري، ص33.

[40])) انظر: بين الدين والفلسفة، ص197.

[41]) ) التكملة، ج2، ص554.

[42]) ) انظر: رينان، ص90.

[43]) ) انظر: فرح، ص58.

[44]) ) النفخ، ج1، ص147.

[45]) ) رينان، ص176.

[46]) ) التكملة، ج2، ص554.

[47]) ) انظر: رينان، ص63.

[48]) ) انظر: تلخيص الخطابة، ص ز.

[49]) ) تلخيص الخطابة، ص332.

[50]) ) تلخيص الخطابة، ص332.

[51]) ) انظر: تلخيص الخطابة، ص248- 332.

[52]) ) تلخيص الخطابة، ص3.

[53]) ) تلخيص الخطابة، ص4.

[54]) ) تلخيص الخطابة، ص28- 29.

[55]) ) تلخيص الخطابة، ص288.

[56]) ) تلخيص الخطابة، ص263.

[57])) وقد عرَّف "الأخذ بالوجوه" بقوله: "الأمور المستعملة مع الألفاظ على جهة المعونة في جودة التقسيم وإيقاع التصديق وبلوغ الغرض المقصود". انظر: تلخيص الخطابة، ص250.

[58]) ) تلخيص الخطابة، ص251- 252.

[59]) ) التكملة، ج2، ص554.

[60]) ) المغرب، ج1، ص104- 105.

[61]) ) رينان، ص62- 63.

[62]) ) انظر: رينان، ص63.

[63]) ) انظر: فخري، ص123.

[64]) ) انظر: فخري ص123.

[65]) ) انظر: فخري، ص126.

[66]) ) انظر: رينان، ص73.

[67]) ) المصدر ذاته.

[68]) ) انظر: بين الدين والفلسفة، ص93.

[69]) ) انظر: بين الدين والفلسفة، ص101.

[70]) ) تهافت التهافت، ج1، ص92.

[71]) ) تهافت التهافت، ج1، ص93.

[72]) ) تهافت التهافت، ج1، ص160.

[73]) ) تهافت التهافت، ج1، ص242.

[74]) ) تهافت التهافت، ج1، ص253.

[75]) ) تهافت التهافت، ج1، ص282.

[76]) ) تهافت التهافت، ج1، ص301.

[77]) ) تهافت التهافت، ج1، ص306.

[78]) ) تهافت التهافت، ج1، ص385.

[79]) ) تهافت التهافت، ج1، ص397.

[80]) ) تهافت التهافت، ج1، ص409.

[81]) ) تهافت التهافت، ج1، ص320- 321.

[82]) ) انظر: بين الدين والفلسفة، ص101.

[83]) ) العقاد، ص55.

[84]) ) انظر: فخري، ص118.

[85]) ) انظر: بداية المجتهد، ج2، ص464.

[86]) ) انظر: رينان، ص170، فرح، ص59.

[87]) ) انظر: فخري، ص122.

[88]) ) رينان، ص170، وهذا النص أورده عن طبيعيات ص31 - PRIHERM

[89]) ) انظر: رينان، ص171.

[90]) ) رينان، ص170- 171، وقد نقل النصوص من "طبيعيات" ص31، (PRIHERM)، ص48.

[91]) ) انظر: فرح، ص58.

[92]) ) انظر: فخري، ص124.

[93]) ) فخري، ص120.

[94]) ) انظر: رينان، ص170- 171.

[95]) ) رينان، ص67.

[96]) ) تلخيص الخطابة، ص11.

[97]) ) تلخيص الخطابة، ص5.

[98]) ) تلخيص الخطابة، ص253.

[99]) ) انظر: مقدمة تلخيص الخطابة، ص ي.

[100]) ) صورة الحشر، 59/2.

[101]) ) انظر: بين الدين والفلسفة، ص91.

[102]) ) رينان، ص74.

[103]) ) انظر: تلخيص الخطابة، ص250.

[104]) ) تلخيص الخطابة، ص 251.

[105]) ) تلخيص الخطابة، ص294.

[106]) ) انظر: القائمة التي أوردها رينان، ص456- 457. وفق مخطوط الاسكوريال.

[107]) ) تلخيص الخطابة، ص253- 254.

[108]) ) تلخيص الخطابة، ص257.

[109]) ) تلخيص الخطابة، ص259.

[110]) ) تلخيص الخطابة، ص258.

[111]) ) انظر: النفح، ج1، ص206.

[112])) انظر: قائمة كتب ابن رشد التي أوردها رينان، ص 456- 457 وفق مخطوط اسكوريال.

[113])) انظر: تلخيص الخطابة، ص332.
المصدر: ملتقى شذرات

__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية

الكلمات الدلالية (Tags)
محبسه, ابن, رصد


يتصفح الموضوع حالياً : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


المواضيع المتشابهه للموضوع ابن رشد في أدبَه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
والله حلوة قوي تدفع قاضي محاكمة "أبو إسماعيل" لحبسه سنة! عبدالناصر محمود شذرات مصرية 0 04-13-2014 06:55 AM
شاهد // : نص رسالة مرسى للشعب المصرى كاملة من محبسه 13-11-2013 ابو الطيب شذرات مصرية 0 11-13-2013 08:37 PM
عصام سلطان يكتب رسالة من محبسه عبدالناصر محمود مقالات وتحليلات مختارة 0 09-17-2013 07:13 AM
مبارك يقاضي طبيبا “سرب” تسجيلات له من داخل محبسه وصحيفة نشرتها عبدالناصر محمود أخبار منوعة 0 09-17-2013 07:03 AM
تويتر يستحوذ على شركة مختصه في التحليلات الإجتماعيه لبرامج التلفزيون Eng.Jordan مواقع التواصل الاجتماعي 0 02-06-2013 02:44 PM

   
|
 
 

  sitemap 

 


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 10:06 AM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.12 by vBS
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والمشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59