#8  
قديم 01-20-2015, 09:02 AM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود غير متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 56,039
ورقة البدعة وأثرها في الانحراف في الاعتقاد

البدعة وأثرها في الانحراف في الاعتقاد
ـــــــــــــــــــ

(فضيلة الشيخ. عبدالله بن سليمان المنيع)
ــــــــــــــــــــ

29 / 3 / 1436 هــ
20 / 1 / 2015 م
ــــــــــــ



الحمد لله حمداً كثيراً كما هو أهله، وكما ينبغي لكمال وجهه، والصلاة على رسوله الهادي إلى صراطه المستقيم بالحكمة والبصيرة، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن اقتفى أثره واستن بسنته وسلك سبيله إلى يوم الدين، وبعد .

إن الله بفضله ورحمته وشمول رعايته خلقه قضى بإنقاذ عباده من مكايد الشيطان ومخططاته، فأرسل رسوله محمداً -صلى الله عليه وسلم- على فترة من الرسل وبعد أن تحولت الديانات السماوية بفعل الأحبار والرهبان إلى ديانات ممسوخة يمجها العقل وتأباها الفطر السليمة سواءً ما كان منها متعلقاً بعلاقة العبد بربه أو ما كان متعلقاً بعلاقة العباد مع بعضهم، فجاء -صلى الله عليه وسلم- رحمة للعالمين بشيراً ونذيراً وسراجاً منيراً ورسولاً عاماً للثقلين الجن والإنس، مؤيداً بكتاب كريم من رب رحيم، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فيه العظة والعبرة، وفيه الحكمة والموعظة، وفيه الوعد والوعيد، والترغيب والترهيب، وفيه التشريع الضامن لأحسن علاقة بين العبد وبين ربه، وبين العباد فيما بينهم، ضمن لهم الحفاظ على كامل الحقوق الأساسية - الدين والنفس والعقل والمال والعرض - وعلى كامل ما تفرع عنها مما يعود عليها بالكمال ورفع الحرج .
جاء -صلى الله عليه وسلم-كماوصفه ربه : { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } [التوبة : 128]، فبلغ - صلى الله عليه وسلم- رسالة ربه وأمانة من أرسله، ونصح -صلى الله عليه وسلم- للأمة النصح الكامل، ما من خير إلا دل الأمة عليه وما من شر إلا حذرها منه، فانقاد لدعوته -صلى الله عليه وسلم- صفوة مختارة من عباد الله، آمنوا بالله، وأخلصوا دينهم لله وجاهدوا مع رسول الله حق الجهاد مضحين في سبيل الله بأموالهم وديارهم وأهليهم، حتى دخل الناس في دين الله أفواجاً، وحطم -صلى الله عليه وسلم- الأصنام التي حول الكعبة وهو يقول { وقُلْ جَاءَ الحَقُّ وزَهَقَ البَاطِلُ إنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً } [الإسراء : 81] .
وكان -صلى الله عليه وسلم- مدركاً أن الشيطان حريص على نقض ما أبرمه - صلى الله عليه وسلم- من وحدة إسلامية ترجع في حياتها وفي تكييف علاقاتها إلى كتاب الله وإلى سنة رسول الله، وأن مداخل الشيطان على عباد الله مختلفة ومتنوعة، فمن كان إيمانه ضعيفاً انقض عليه بخيله ورجله في التشكيك وطرح الشبهات في أصول الإيمان وفروعه حتى يرتد عن دين الله بالكفر والإلحاد والزندقة . وإن كان إيمانه قوياً لا مدخل عليه في التشكيك والزعزعة دخل عليه من باب الابتداع ومن باب الغلو في الدين وأتباعه كما هي حاله لعنه الله مع الأحبار والرهبان من اليهود والنصارى حيث انقادوا لوساوس الشيطان ومكايده وضلالالته، فحرفوا كتب الله، وغيروا مقتضيات شرعه، حتى صارت ديانات ممسوخة ليس لها عند الله القبول، قال تعالى : { ومَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ } لقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مدركاً طرق غواية الشيطان وإضلاله فركز -صلى الله عليه وسلم- لحماية هذا الدين على أمرين : أحدهما : التحذير من الغلو والإفراط في الدين ومجاوزة الحد في المدح والثناء إذا كان ذلك لغير الله، ففي الصحيحين عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : إن رسول الله-صلى الله عليه وسلم- قال : «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله » .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن رسول الله-صلى الله عليه وسلم- قال : « إياكم والغلو فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو» رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه .
ولمسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم- : « هلك المتنطعون » قالها ثلاثاً . وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن أم سلمة ذكرت لرسول الله-صلى الله عليه وسلم-كنيسة رأتها بأرض الحبشة وما فيها من الصور، فقال : « أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد الصالح بنوا على قبره مسجداً، وصوروا فيه تلك الصورة، أولئك شرار الخلق عند اله » .
ولهما عنها قالت : لما نزل برسول الله-صلى الله عليه وسلم- طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها فقال وهو كذلك : « لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد » - يحذر ما صنعوا - ولولا ذلك لأبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً .
ولمسلم عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله-صلى الله عليه وسلم-يقول : « ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك » .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : إن رجلاً قال للنبي -صلى الله عليه وسلم- : ما شاء الله وشئت، قال .« أجعلتني لله نداً قل ما شاء الله وحده » . رواه النسائى وابن ماجه .
ولأبي داود عن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال : جاء أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم- فقال : يا رسول الله نهكت الأنفس وجاع العيال وهلكت الأموال فاستسق لنا ربك فإنا نستشفع بالله عليك وبك على الله.
فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: « سبحان الله سبحان الله، فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه ثم قال: ويحك أتدري ما الله ؟ إن شأن الله أعظم من ذلك، إنه لا يستشفع بالله على أحد » .
ولأبي داود بسند جيد عن عبد الله بن الشخير رضي الله عنه قال : انطلقت مع وفد بني عامر إلى رسول الله-صلى الله عليه وسلم-فقلنا : أنت سيدنا . فقال : « السيد الله تبارك وتعالى ». فقلنا : وأفضلنا فضلاً وأعظمنا طولاً . فقال : «قولوا بقولكم أو بعض قولكم ولا يستجرينكم الشيطان » .
فهذه الأحاديث وغيرها من عشرات الأحاديث ومئات أمثالها كلها تؤكد حرص رسول الله-صلى الله عليه وسلم- على سلامة أمته من وساوس الشيطان وخواطره وإيحاءاته وهمزاته، وتحذر هذه الأمة أن يدخل الشيطان عليها مع مداخله على من سبقها من الأمم من يهودية ونصرانية وغيرهما، فإن أكبر باب للشيطان للضلالة والإضلال هو باب الغلو والابتداع . فلقد نهى -صلى الله عليه وسلم- أصحابه أن يتجاوزوا الحد في إطرائه ومدحه وتعظيمه، وحمى جناب التوحيد من أن تدنس مقتضياته أو تطمس معالمه، وأوضح في أكثر من مقام أن ضلال من قبلنا من اليهود والنصارى وغيرهم كان بسبب غلوهم في أنبيائهم وصالحيهم حيث كانوا يتخذون المساجد على قبورهم، فيعظمونها على سبيل العبادة، وكانوا بذلك شرار الخلق عند الله، وكانوا بذلك أبعد الخلق عن الله، وكانوا بذلك أولياء الشيطان وحزبه . { أَلا إنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ } .
ومع هذا الحرص الشديد من رسول الله-صلى الله عليه وسلم-وتناقل علماء السنة الآثار الواردة في ذلك عنه -صلى الله عليه وسلم- وإشاعتها بين عباد الله إلا أن الشيطان كان دائب الحركة في سبيل الغواية والضلال والإضلال، وقد وجد له من الصوفية والمتصوفة، من اتخذهم له أولياء واتخذوه لهم وليًّا فغلوا في دين الله، وشرعوا من الدين مالم يأذن به الله، فاعتقدوا النفع والضر عند غير الله، والمنع والعطاء لدى غير الله، لدى مشايخ الطرق وأدعياء التصوف والدجل والشعوذة أحياء وأمواتاً، وصرفوا للمخلوق مما هو محض حق الخالق حقوقاً لا تصح نسبتها إلا لله فهذا البوصيري يقول :
يا أكرم الخلق ما لي من أوذ به سواك عند حلول الحادث العم
فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم
وهذا البرعي يقول :
يا سيدي يا رسول الله يا أملي يا موئلي يا ملاذ يوم تلقاني
فأنت أقرب من ترجى عواطفه عندي وإن بعدت داري وأوطاني
وهذا البكري يقول :
وناده إن أزمة أنشبت ظفارها واستحكم المعضل
عجل بأذهاب الذي اشتكى فإن توقفت فمن أسأل ؟ !
وهذا رابع يقول :
يا سيدي يا صفي الدين يا سندي يا عمدتي بل وا ذخري ومفتخري
فإنني عبدك الراجي بودك ما أملته يا صفي السادة الغرر
وبالرغم من حركات الشيطان في الغواية والإضلال، وقدرته على اصطفاء مجموعة من عباد الله ليكونوا أعواناً في الضلال والإضلال؛ إلا أن الله يأبى إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون، فلقد وعد الله تعالى بحفظ كتابه من التحريف والتغيير والتبديل، وتم وعد الله فلقد مضى على نزوله أكثر من أربعة عشر قرناً وهو محفوظ بكل وسائل الحفظ سراجاً منيراً ومحجة بيضاء، كما أن الله تعالى قيض لسنة رسوله (ص) رجالاً أتقياء أذكياء صالحين نقلوها إلى الأمة الإسلامية نقية صافية وبذلك تحقق قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : « تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك » ؟ وقوله : « تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا، كتاب الله وسنة رسوله » الأمر الثاني من الأمرين اللذين ركز عليهما -صلى الله عليه سلم- في حماية الدين : الابتداع في الدين .
لقد عرَّف العلماء البدعة بأنها طريقة محدثة في الدين يضاهي بها أحد مقتضياته، إلا أن هذه المضاهاة تنطلق من معقول بشري محدود ليس له القدرة على استطلاع حكمة الله في تشريعه، ولا علم الله بما تصلح به أمور عباده، يأتي العقل البشري فيرى حسناً ما ليس بالحسن ويظن نقصاً فيما فيه الكمال، فيقول اجتهاداً أو انسياقاً وراء هوى أو إغواء شيطان ما ليس في الدين في شيء مما هو محض الإحداث والابتداع .
لقد كان -صلى الله عليه وسلم- حريصاً كل الحرص على تجنيب أمته شر الابتداع فأكثر من ذم الابتداع وحض الأمة على التمسك بسنته -صلى الله عليه وسلم- فقال : « عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار » .
وقال : « من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد » وفي رواية : « من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد » - وقال : « إن أحسن الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي رسول الله، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة » .
ولم يكن منه -صلى الله عليه وسلم- إلا أن التشريع مكتمل فما من خير إلا ودل الأمة عليه، وما من شر إلا حذرها منه، وقد حكى الله سبحانه وتعالى كمال الدين فقال : { اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ورَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً } فلقد وقف -صلى الله عليه وسلم- يوم عرفة في حجة الوداع ومعه جمع كبير من أصحابه، فذكرهم ووعظهم وبين لهم ما على العبد من حقوق لله وحقوق لعباده، وكان -صلى الله عليه وسلم- في كل أمر يقوله لهم : « ألا هل بلغت اللهم فاشهد » ؟ ثم انتقل -صلى الله عليه وسلم- إلى الرفيق الأعلى بعد أن بلغ الرسالة أتم بلاغ، وأدى الأمانة أتم أداء .، ونصح للأمة النصح البالغ، وبين لهم حبائل الشيطان ووساوسه وخواطره ومكائده ومداخله على العباد .
لا شك أن الابتداع الطريق القصير إلى تشويه الدين وطمس معالم الإشراق فيه، والتحكم على الله وعلى رسوله، والاشتراك مع الله تبارك وتعالى في التشريع بما لم يأذن به الله، وفضلاً عن هذا الأثر السيء للابتداع فإنه يستلزم أموراً مهينة أهمها ما يلي :
أولاً : القول بلسان المقال أو بلسان الحال : أن الدين ناقص وأن هناك جوانب تكميلية ينبغي الأخذ بها تكملة للدين، وفي هذا رد قوله تعالى . { اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ورَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً } كما أن فيه تكذيباً لقول رسول الله-صلى الله عليه وسلم- : « تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك » ؟ فإن من يبتدع يعترف أن لا سند لبدعته من كتاب ولا سنة، ولكنه يدعي أنها عمل صالح . فما صلاح عمل لم يأمر به الله ولم يفعله رسوله الله ؟ ! وما صلاح عمل يراد به إكمال ما أكمله الله على أتم وجه ورضيه ؟ ! ولكنها وساوس الشيطان وهمزاته .
ثانياً : إن الابتداع يستلزم القدح في إبلاغ رسول الله رسالة ربه، فلقد أرسل الله رسوله بالهدى ودين الحق، وأمره بإبلاغ الرسالة، قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وإن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ } فبلغها –صلى الله عليه وسلم- أتم بلاغ . فإذا كان المبتدع يرى في بدعته الخير والعمل الصالح، ويعترف أن لا سند لبدعته من كتاب ولا سنة ولكنها حسنة في نفسها - حسب زعمه - فإن هذا يعني أن رسول الله-صلى الله عليه وسلم-حاشاه وكلا - بين أمرين : إما أن يكون جاهلاً بما ينفغ الأمة وأن هناك جملة من جوانب الخير لا يعلمها فجاء معاصرو القرون المتأخرة فأخرجوها للأمة وأضافوها إلى الدين، أو أن يكون - صلى الله عليه وسلم- يعلم حسن هذه الأعمال المبتدعة، إلا أنه كتمها عن الأمة وهذا يعني تخونه والقدح في أدائه رسالة ربه، وكلا الأمرين شر وقدح في شهادة أن محمداً رسوله، ورسول الله-صلى الله عليه وسلم- مبرأ عنهما معاً .
ثالثاً : إن في الابتداع مخالفة صريحة لأوامر رسول الله-صلى الله عليه وسلم-، فإنه -صلى الله عليه وسلم- أكد ضرورة التمسك بسنته والابتعاد عن الابتداع والإحداث في الدين، كما أكد أن الإحداث في الدين مردود ولا شك إن مخالفته -صلى الله عليه وسلم- مظنة الفتنة . قال تعالى : { فَلْيَحْذَرِ الَذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } .
ولقد فهم أصحاب رسول الله-صلى الله عليه وسلم- وتابعوهم هذا الفهم، ففي الجامع لأبي بكر الخلال أن رجلاً جاء إلى مالك بن أنس فقال : من أين أحرم ؟ قال: من الميقات الذي وقت رسول الله-صلى الله عليه وسلم-وأحرم منه . فقال الرجل : فإن أحرمت من أبعد منه ؟ فقال مالك : لا أرى ذلك . فقال الرجل : ما تكره من ذلك ؟ قال : أكره عليك الفتنة . قال : وأي فتنة من ازدياد الخير ؟ فقال مالك : فإن الله تعالى يقول : { فَلْيَحْذَرِ الَذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } ؟ وأي فتنة أكبر من أنك خصصت بفضل لم يخص به رسول الله- صلى الله عليه وسلم-وفي رواية : وأي فتنة أعظم من أن ترى أن اختيارك لنفسك خير من اختيار الله واختيار رسوله ؟ !
لقد حرص أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على تبليغ الأمة سنة رسول الله من قول أو فعل أو تقرير، وبالغوا في التحذير عما يخالفها من قول أو فعل مهما كان ذلك وعلى أي وجه يكون، ولم يفرقوا في الإنكار بين ما ظاهره الحسن وما ظهر سوءه، فلم يقولوا بتقسيم البدعة إلى حسنة وسيئة، بل اعتبروا البدعة أمراً منكراً وزوراً من القول والعمل، وقولاً على الله بلا علم، وتشريعاً من الدين بما لم يأذن به الله، حجتهم في ذلك الإيمان بأن الله أكمل دينه وأن رسوله - صلى الله عليه وسلم- بلغ رسالة ربه وأدى أمانته وبين لعباد الله خصائص دينهم ومقتضيات أعمالهم وأن الأخذ بالبدعة يعني مناقضة ذلك الإيمان باعتبار أن البدعة في ظن مبتدعيها والآخذين بها إكمال نقص في الدين، كما أن حجتهم كذلك الامتثال للانتهاء عن الابتداع مطلقاً مهما كان وعلى أي سبيل يقع، يستوي في ذلك حسنة وسيئة للعموم في نفي البدع والابتداع، فقد حذر -صلى الله عليه وسلم- عن الابتداع بلفظ العموم فقال : « من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد » ؟ وبلفظ الاختصاص والحصر فقال : « إياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة » .
ومن حججهم رحمهم الله في رد الابتداع إدراك أن الابتداع باب الشيطان إلى الغواية والإضلال والضلال، فمنه دخل على الأمم السابقة يضلهم ويمنيهم ويغويهم ويزين لهم أبواب الابتداع حتى غيروا كتب الله وحرفوها . وبدلوها فأحلوا ما حرم الله وحرموا ما أحل الله .
أدرك أصحاب رسول الله ذلك وكانوا حربًا على البدع والابتداع والإحداث والمحدثات، وفيما يلي مجموعة من الآثار الواردة عن أصحاب رسول الله في محاربة البدعة .
فقد روى محمد بن وضاح القرطبي في كتاب البدع والنهي عنها بإسناده فقال : بلغ ابن مسعود رضي الله عنه أن عمرو بن عتبة- في أصحاب له - بنوا مسجداً بظهر الكوفة، فأمر عبد الله بذلك المسجد فهدم، ثم بلغه أنهم يجتمعون في ناحية من مسجد الكوفة يسبحون تسبيحاً معلوماً، ويهللون ويكبرون، قال : فلبس برنسًا ثم انطلق فجلس إليهم فلما عرف ما يفعلون رفع البرنس عن رأسه ثم قال : أنا أبو عبد الرحمن، ثم قال : لقد فضلتم أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- علماً أو لقد جئتم ببدعة ظلماً، قال : فقال عمرو بن عتبة : واللهِ ما فضلنا أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم- علماً ولا جئنا ببدعة ظلماً، ولكننا قوم نذكر ربنا، فقال : بلى والذي نفس ابن مسعود بيده لئن أخذتم آثار القوم لتسبقن سبقاً بعيداً، ولئن حُرْتُم يميناً أو شمالاً لتضلن ضلالاً بعيداً .
وذكر بإسناده عن بعض أصحاب عبد الله بن مسعود قال : مر عبد الله برجل يقص في المسجد على أصحابه وهو يقول : سبحوا عشراً، وهللوا عشراً، فقال عبد الله : إنكم لأهدى من أصحاب رسول الله-صلى الله عليه وسلم-أو أضل، بل هذه، بل هذه، يعني : أضل .
وروى بإسناده عن أبان بن أبي عياش قال : لقيت طلق بن عبد الله بن كرز الخزاعي فقلت له : قوم من إخوانك من أهـل السنة والجماعة لا يطعنون على أحد من المسلمين، يجتمعون في بيت هذا يوماً وفي بيت هذا يومًا، ويجتمعون يوم النيروز والمهرجان ويصومونهما، فقال طلق : بدعة من أشد البدع والله لهم أشد تعظيماً للنيروز والمهرجان من غيرهما ثم استيقظ أنس بن مالك فوثبت إليه فسألته كما سألت طلقاً فرد عليَّ كما رد علي طلق كأنما كانوا على ميعاد .
وروى بإسناده قال : ثوب المؤذن في المدينة في زمان مالك، فأرسل إليه مالك فجاءه فقال له مالك : ما هذا الذي تفعل ؟ قال : أردت أن يعرف الناس طلوع الفجر فيقوموا . فقال له مالك . لا تفعل، لا تحدث في بلدنا شيئاً لم يكن فيه، قد كان رسول الله-صلى الله عليه وسلم-بهذا البلد عشر سنين، وأبو بكر وعمر وعثمان فلم يفعلوا هذا، فلا تحدث في بلدنا مالم يكن فيه . فكف المؤذن عن ذلك، وأقام زماناً ثم إنه تنحنح في المنارة عند طلوع الفجر فأرسل إليه مالك فقال : ما هذا الذي تفعل ؟ قال : أردت أن يعرف الناس طلوع الفجر . فقال : ألم أنهك لا تحدث عندنا مالم يكن ؟ ! فقال : إنما نهيتني عن التثويب، فقال له مالك : لا تفعل . فكف أيضاً زماناً، ثم جعل يضرب الأبواب، فأرسل مالك إليه فقال له : ما هذا الذي تفعل ؟ فقال : أردت أن يعرف الناس طلوع الفجر، فقال له مالك : لا تفعل، لا تحدث في بلدنا مالم يكن فيه .
وقد ذكر الشاطبي رحمه الله تفسير التثويب الذي نهى عنه مالك رحمه الله بأن المؤذن كان إذا أذن فأبطأ الناس قال بين الأذان والإقامة : قد قامت الصلاة حي على الفلاح . وذكر الشاطبي في كتابه الاعتصام قال : وقال ابن حبيب أخبرني ابن الماجشون أنه سمع مالكاً يقول . من أحدث في هذه الأمة شيئاً لم يكن عليه سلفها فقد زعم أن رسول الله-صلى الله عليه وسلم-خان الدين لأن الله تعالى يقول : { اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ورَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً } وأختتم هذا البحث بما روى أبو داود والترمذي عن أبي نجيح العرباض بن سارية رضي الله عنه قال : وعظنا رسول الله-صلى الله عليه وسلم- موعظة وجلت منها القلوب وذرفت منها الدموع فقلت : يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا، قال : «أوصيكم بتقوى الله عز وجل، والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة » . قال الترمذي : حديث حسن صحيح .

وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .

-------------------------------------
رد مع اقتباس
  #9  
قديم 01-20-2015, 09:09 AM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود غير متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 56,039
ورقة تعظيم الآثار رؤية شرعية(1 - 2)

تعظيم الآثار رؤية شرعية(1 - 2)
ــــــــــــــــــ

(. د. محمد بن عبد الله الهبدان)
ـــــــــــــــ

29 / 3 / 1436 هــ
20 / 1 / 2015 م
ـــــــــــ




الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد :

فتعظيم الآثار ظاهرة قديمة، تأخذ صوراً وأشكالاً متعددة عند كثير من الشعوب والأمم، وقد درجت بعض الدول في العصور المتأخرة على إحياء آثارها التاريخية لأسباب سياسية واقتصادية، ونشطت كثير من المنظمات الدولية في رعاية تلك الآثار ودعوة الدول إلى العناية بها .
وبعد حادثة تحطيم الأصنام التي جرت في أرض أفغانستان كثر حديث الساسة والمنظمات الدولية والقنوات الإعلامية عن الآثار التاريخية وضرورة العناية بها، فكتبت هذه الدراسة المتواضعة توضيحاً للمنهج الشرعي الصحيح، وبياناً للحق مستعيناً بالله - تعالى - فأقول، وبالله التوفيق :
تعريف الآثار لغة واصطلاحاً :

1 - تعريف الأثر لغة[1] :
-------------------
الهمزة والثاء والراء، لها ثلاثة أصول : تقديم الشيء، وذكر الشيء، ورسم الشيء الباقي .
فالأول وهو تقديم الشيء : كأن تقول افعل يا فلان هذا آثِراً ما، أي : إنْ اخترت ذلك الفعل فافعل هذا إما لا . قال ابن الأعرابي : معناه : افعله أوَّلَ كلِّ شيء .
والثاني وهو ذكر الشيء : ومنه قول ابن عمر - رضي الله عنهما - : « ما حلفت بعدها آثِراً ولا ذاكراً » فقوله : آثِراً : أي مخبراً عن غيري أنه حلف به .
والثالث وهو رسم الشيء الباقي : قال الخليل : والأثر بقية ما يرى من كل شيء، وما لا يرى بعد أن تبقى فيه علقة . والآثار الأثر، كالفلاح والفلح، والسداد والسدد، قال الخليل : أثر السيف ضربته، وتقول : من يشتري سيفي وهذا أثره، يضرب للمجرب المختبر .
وقال الأصفهاني : أثر الشيء : حصول ما يدل على وجوده، يقال : أَثَر وإثْرٌ، والجمع : الآثار، قال - تعالى - : { ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِرُسُلِنَا } ( الحديد : 27 )، { وَآثَاراً فِي الأَرْضِ } ( غافر : 21 ) .
ومن هذا يقال : للطريق المستدَل به على مَنْ تقدم : آثار، نحو قوله - تعالى- : { فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ } ( الصافات : 70 )، { قَالَ هُمْ أُوْلاءِ عَلَى أَثَرِي } ( طه : 84 ) .
2 - تعريف الآثار اصطلاحاً :
من خلال البحث لم أجد أحداً عرَّف الآثار، ومجمع اللغة العربية عرَّف علم الآثار بقوله : علم الوثائق والمخلفات القديمة[2] .
وهذا التعريف قاصر؛ إذ لا يتناول المواقع التي لا يوجد فيها أمور عينية، وهي من الآثار .
ويمكن أن يقال في تعريفها بأنها : ما يدل على أثر مَنْ سلف من الأمم .
منهج الرسول صلى الله عليه وسلم ومن بعده وموقفهم من الاهتمام بالآثار :
من خلال تتبع بعض الأحداث يتبين لنا منهج رسول الله، فمن ذلك :
1 - الأماكن التي زارها النبي قبل البعثة وبعد البعثة لم يرد دليل واحد على أن النبي قصد زيارتها أو أمر بزيارتها أو حث على الاهتمام بها، ونحو ذلك . قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - : « فإن النبي بعد أن أكرمه [الله] بالنبوة لم يكن يفعل ما فعله قبل ذلك من التحنث في غار حراء أو نحو ذلك، وقد أقام بمكة بعد النبوة بضع عشرة سنة، وأتاها بعد الهجرة في عمرة القضية، وفي غزوة الفتح، وفي عمرة الجعرانة ولم يقصد غار حراء، وكذلك أصحابه من بعده، لم يكن أحد منهم يأتي غار حراء .. »[3] ويقول أيضا : « وكذلك قصد الجبال والبقاع التي حول مكة غير المشاعر؛ عرفة و مزدلفة و منى مثل جبل حراء والجبل الذي عند منى الذي يقال إنه كان فيه قبة الفداء ونحو ذلك؛ فإنه ليس من سنة رسول الله زيارة شيء من ذلك بل بدعة »[4] .
2 - عندما فتح النبي مكة وطاف بالكعبة كسر الأصنام التي حول الكعبة كلها كما جاء في حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِي اللَّه عَنْه - قَالَ : دَخَلَ النَّبِيُّ مَكَّةَ وَحَوْلَ الْكَعْبَةِ ثَلاثُ مِائَةٍ وَسِتُّونَ نُصُباً فَجَعَلَ يَطْعَنُهَا بِعُودٍ فِي يَدِهِ وَجَعَلَ يَقُولُ صلى الله عليه وسلم : { جَاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ البَاطِلُ إِنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً } ( الإسراء : 81 )[5] وهذه الأصنام تعتبر من الآثار التي يحافظ عليها في مثل هذا الزمن؛ فلماذا لم يحافظ عليها الرسول صلى الله عليه وسلم ويعتني بها، ويجعلها في متحف ونحوه ؟ ! !
وعلى هذا المنوال سار أتباعه الكرام، وإليك البيان :
لقد كان هدي السلف الصالح الاهتمام بالآثار الفعلية والقولية من أقوال المصطفى صلى الله عليه وسلم وأفعاله، ولا أدل على ذلك من هذه الكتب التي تزخر بالكثير من الآثار الفعلية والقولية .. فأفنوا أعمارهم من أجل المحافظة عليها، وقطعوا القفار وكابدوا مشقة الأسفار؛ وواصلوا الليل بالنهار؛ كل ذلك جمعاً لآثار النبي المختار صلى الله عليه وسلم وتدوينها ليعمل بها .. وبلغ من حرصهم على تتبع آثار النبي صلى الله عليه وسلم القولية والفعلية أن يُنقَل لنا حتى شؤون النبي صلى الله عليه وسلم الزوجية في غسله ووضوئه، في أكله وشربه، وفي نومه واستيقاظه .. في كل شيء .. هذا كان ديدنهم، وتلك كانت همتهم . ولم يكن معروفاً عنهم تتبع الآثار المكانية والعينية والاهتمام بها وتشييدها أو عمل مزارات . يقول الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله - : « ومعلوم أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - ورضي الله عنهم - أعلم الناس بدين الله وأحب الناس لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأكملهم نصحاً لله ولعباده ولم يحيوا هذه الآثار، ولم يعظموها، ولم يدعوا إلى إحيائها .. ولو كان إحياؤها أو زيارتها أمراً مشروعاً لفعله النبي صلى الله عليه وسلم في مكة وبعد الهجرة أو أمر بذلك أو فعله أصحابه أو أرشدوا إليه .. »[6] .
ومما يدل على ذلك :
1 - موقفهم من الآثار الموجودة في مكة و المدينة وبيت المقدس : فلم يعرف أن أحداً منهم زار تلك الآثار أو تتبعها وأمر بتشييدها، بل كانوا يسدون هذا الباب؛ فإن المسلمين لما فتحوا تُستَر، وجدوا هناك سرير ميت باق ذكروا أنه « دانيال » ووجدوا عنده كتاباً فيه ذكر الحوادث، وكان أهل تلك الناحية يستسقون به، فكتب في ذلك أبو موسى الأشعري إلى عمر، فكتب إليه أن يحفر بالنهار ثلاثة عشر قبراً، ثم يُدفَن بالليل في واحد منها ويعفَّى قبره؛ لئلا يفتتن الناس به[7] ولذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - : « لم تَدَعِ الصحابة في الإسلام قبراً ظاهراً من قبور الأنبياء يفتتن به الناس؛ ولا يسافرون إليه ولا يدعونه، ولا يتخذونه مسجداً؛ بل قبر نبينا صلى الله عليه وسلم حجبوه في الحجرة، ومنعوا الناس منه بحسب الإمكان، وغيره من القبور عفوه بحسب الإمكان؛ إن كان الناس يفتتنون به، وإن كانوا لا يفتتنون به فلا يضر معرفة قبره .. »[8] .
وفي بعض الأحايين تحصل مناسبة لزيارة تلك الأماكن الأثرية ومع ذلك لا يزورونها كما حصل لعمر ابن الخطاب وابنه عبد الله - رضي الله عنهما – فقد زارا بيت المقدس ولم يأتيا الصخرة ولا غيرها من البقاع[9]، بل إذا خشيت الفتنة أمروا بإزالتها كما أمر عمر بقطع الشجرة التي حصلت تحتها بيعة الرضوان .
2 - وجود الأهرامات في مصر : فبعد دخول الفتح الإسلامي بقيادة عمرو بن العاص - رضي الله عنه - لم تذكر كتب التراجم والسير والتاريخ أن أحداً منهم زار تلك الأهرامات مع أنها تعتبر معلماً من معالم مصر فضلاً عن الاهتمام بها وتشييدها .
وكم هم العلماء الذين رحلوا إلى مصر لطلب العلم والحديث ! ! فهل نقل أن أحداً منهم زار تلك الآثار ؟ ! ! فهذا الإمام الشافعي و العز بن عبدالسلام و ابن خزيمة و أبو حاتم وغيرهم كثير .. وقد سئل الزركلي عن الأهرام وأبي الهول ونحوها : « هل رآها الصحابة الذين دخلوا مصر ؟ فقال : كان أكثرها مغموراً بالرمال ولا سيما أبا الهول »[10] .
بل إن كثيراً من هذه الآثار لم تكتشف إلا أخيراً؛ فمعبد أبي سمبل مثلاً الذي يعد من أكبر معابد الفراعنة كان مغموراً بالرمال مع تماثيله وأصنامه إلى ما قبل قرن أو نصف قرن تقريباً، وأكثر الأصنام الموجودة في المتاحف المصرية في هذا الوقت لم تكتشف إلا قريباً .
« ومما يدل دلالة واضحة على عدم الاهتمام بها أن بعض تلك الآثار يعلو عليها التراب، يقول ياقوت الحموي : وفي سفح أحد الهرمين صورة آدمي عظيم مصبغة وقد غطى الرمل أكثرها »[11] مما يدل على أنها مهملة .
وأشد من ذلك صدور محاولات عدة من الولاة لهدمها كالمأمون[12] والملك العزيز الأيوبي[13] . وقد ذكر ابن خلدون أن الخليفة الرشيد حاول كسر إيوان كسرى على ضخامته مع أن بعضهم أشار عليه بتركه؛ لا من أجل التفاخر به؛ ولكن من أجل أن يستدل به على عظم ملك آبائه الذين سلبوا الملك لأهل ذلك الهيكل[14]؛ ومع ذلك لم يستجب فقام بمحاولة تكسيره - رحمه الله - .
وقال أبو علي الأوقي : سمعت أبا طاهر السِّلَفي[15] يقول : « لي ستون سنة بالإسكندرية ما رأيت منارتها إلا من هذه الطاقة، وأشار إلى غرفة يجلس فيها »[16] . مع أنها معلم من معالم الإسكندرية .
ولكن بدأ هذا النوع ينمو ويسري في بلاد المسلمين كلها وهو : العناية بالآثار، وعمل المزارات لها وارتيادها، والاهتمام بها، والحفاظ عليها، بل هذا يعتبر من أبرز اهتمامات وزارات السياحة، وإدارات الآثار .
بيان أن الاهتمام بالآثار من عادة غير المسلمين :
من المعلوم أن الدول الغربية هي التي شجعت على ظهور مثل هذا الاهتمام لتحقيق مطامعها في الشرق الإسلامي .. فها هو ( جب ) يقول بصراحة تامة : « وقد كان من أهم مظاهر فرنجة العالم الإسلامي تنمية الاهتمام ببعث الحضارات القديمة التي ازدهرت في البلاد المختلفة التي يشغلها المسلمون الآن، فمثل هذا الاهتمام موجود في تركيا وفي مصر وفي إندونيسيا وفي العراق وفي فارس، وقد تكون أهميته محصورة الآن في تقوية شعور العداء لأوروبا، ولكن من الممكن أن يلعب في المستقبل دوراً مهما في تقوية الوطنية الشعوبية وتدعيم مقوماتها » [17] .
وهذا التصريح يعلل لنا عطف حكومات الاحتلال الغربية على كل مشاريع الحكومات الوطنية في الشرق الإسلامي والعربي منه خاصة التي من شأنها تقوية الشعوبية فيها وتعميق الخطوط التي تفرق بين هذه الأوطان الجديدة، مثل الاهتمام بتدريس التاريخ القديم على الإسلام لتلاميذ المدارس وأخذهم بتقديسه، والاستعانة على ذلك بالأناشيد، ومثل خلق أعياد محلية غير الأعياد الدينية التي تلتقي قلوب المسلمين ومشاعرهم على الاحتفال بها، ومثل العناية بتمييز كل من هذه البلاد بزي خاص ولا سيما غطاء الرأس مما يترتب عليه تمييز كل منها بطابع خاص، بعد أن كانت تشترك في كثير من مظاهره [18] .
وحتى يحصل لهم ما يريدون، ويتحقق لهم ما يشتهون « أعانت الدول المحتلة كُلاً في منطقة نفوذه على تدعيم قداسة هذه الأوطان الجديدة في نفوس الناس بأسلوب علمي منظم، وذلك بمساعدتها على إحياء التاريخ القديم لكل قطر من هذه الأقطار، ونشط الحفر للبحث عن آثار الحضارات القديمة السابقة على الإسلام في كل من العراق و سوريا و لبنان و فلسطين وشرق الأردن ومصر؛ لتوهين عرى الجامعة العربية، ولتشتيت القلوب التي ألف بينها الإسلام وجمعها على لغة واحدة؛ فاستيقظت العصبيات الجاهلية، وراح كل بلد يفاخر البلاد الأخرى بمجده العريق، وشغلت الصحف بالكلام عن الكشوف الأثرية الجديدة وما تدل عليه من حضارات البابليين والآشوريين والكلدانيين والحثيين والفينيقيين والفراعنة .
وكانت أصابع الغربيين واضحة في هذه الجهود؛ فقد عاش المسلمون دهوراً وهم غافلون عن هذه الآثار القديمة لا يعيرونها التفاتاً، ولا يتحدثون عنها حين يتحدثون إلا كما يتحدثون عن قوم غرباء من الكفرة أو العتاة، لا يثير الحديث عنهم شيئاً من الحماس أو الزهو في نفوسهم، وظلوا على هذه الحال حتى بدأ الغربيون بالكشف عن كنوزهم ولفت أنظارهم إليها منذ اتجهت مطامعهم إلى بلادهم .
وللأوروبيين في ذلك أسلوب خبيث ماكر؛ فهم يبدؤون التنقيب ببعوث من علماء الآثار الغربيين، حتى إذا حققوا ما يهدفون إليه من اهتمام كل بلد من هذه البلاد بتراثه القديم وتحمسه له وغيرته عليه، ورأوا أن هذه الغيرة تدفعه إلى منافسة الأجانب في هذا الميدان الذي يعتبر نفسه أوْلى به وأحق، بوصفه وارث هذه الحضارة، عند ذلك يتخلون عن مهمتهم ويتركونها في رعايته، مطمئنين إلى أنه سيوالي السير في الخطوط التي رسموها له .
الأدلة على هذا الأسلوب الخبيث كثيرة لا تعوز الباحث؛ فقد بلغ من اهتمام الأوروبيين بنبش هذا التاريخ القديم واتخاذه أساساً لتدعيم التجزئة الجديدة للوطن العربي أن عصبة الأمم قد نصَّت في صك انتداب بريطانيا إلى فلسطين على الاهتمام بالحفريات، وذلك في المادة ( 21 ) التي تنص على : « أن تضع الدولة المنتدبة وتنفذ في السنة الأولى من تاريخ تنفيذ هذا الانتداب قانوناً خاصاً بالآثار والعاديات ينطوي على الأحكام الآتية .. »، وكذلك كان شأن الفرنسيين في سوريا ولبنان، فقد كان أول ما اهتم به الفرنسيون أن ألَّفوا في خلال الحرب العالمية الأولى لجاناً في دمشق و بيروت لكتابة تاريخ الشام، فكتبوا منه بعض تاريخ لبنان وأهملوا تاريخ سوريا، ثم لم يلبث الآباء اليسوعيون في بيروت أن كلفوا ثلاثة من رهبانهم الفرنسيين سنة 1920م بكتابة هذا التاريخ، بعد أن قسموه إلى ثلاثة عصور : العصر الآرامي والفينيقي، والعصر اليوناني والروماني، والعصر العربي .
ومما لا تخفى دلالته في هذا الصدد أن الثري الأمريكي اليهودي الأصل روكفلر ( ابن روكفلر الكبير ) صاحب الملايين، قد أعلن سنة 1926م عن تبرعه بعشرة ملايين دولار أمريكي لإنشاء متحف للآثار الفرعونية في مصر، يلحق به معهد لتخريج المتخصصين في هذا الفن، واشترط لمنح هذه الهبة أن يوضع المتحف والمعهد تحت إشراف لجنة مكونة من ثمانية أعضاء ليس فيها إلا عضوان مصريان فقط، على أن تظل هذه اللجنة هي المسؤولة عن إدارة المتحف والمعهد لمدة ثلاث وثلاثين سنة .
وقد استرد الثري الصهيوني الأمريكي هبته وقتذاك، بعد أن أرسل مندوباً يمثله من علماء الآثار الأمريكيين المعروفين وهو الأستاذ بْرِسْتِدْ ومعه أحد محاميه، وذلك لرفض الحكومة شرط إشراف الأجانب الفني على المعهد، وقد كان واضحاً من تحديد صاحب الملايين مدة الإشراف بثلاث وثلاثين سنة أنه يهدف إلى خلق جيل من المتعصبين للفرعونية ثقافياً وسياسياً، ومصلحة الصهيونية في ذلك ظاهرة؛ لأنها إذا نجحت في سلخ الدول العربية عن عروبتها فقد سلختها من إسلامها، وإذا انسلخت هذه الدول من إسلامها ومن عروبتها أمن اليهود كل معارضة لاستقرارهم في فلسطين، وعاشوا مع جيرانهم في هدوء يمكن لهم من الإعداد لوثبة جديدة يأكلون فيها جيرانهم النائمين؛ لأن معارضة الدول العربية لمطامع اليهود في فلسطين إنما تستند إلى الإسلام والعروبة، فإذا انسلخ المصريون مثلاً من الإسلام والعروبة ولبسوا ثوب الفرعونية مات الحافز الذي يدفعهم إلى مجاهدة اليهود ومعارضة دولتهم في فلسطين؛ إذ يصبح اليهود والعرب لديهم عند ذلك سواء » [19] .
وقد وضح الشيخ صالح الفوزان - حفظه الله - أن إحياء الآثار القديمة تعتبر من دسائس الأعداء فقال : « ومن دسائس هذه المنظمات الكفرية دعوتها إلى إحياء الآثار القديمة والفنون الشعبية المندثرة حتى يشغلوا المسلمين عن العمل المثمر بإحياء الحضارات القديمة والعودة إلى الوراء وتجاهل حضارة الإسلام، وإلا فما فائدة المسلمين من البحث عن أطلال الديار البائدة ! والرسوم البالية الدارسة ! وما فائدة المسلمين من إحياء عادات وتقاليد أو ألعاب قد فنيت وبادت ! في وقت هم في أمسّ الحاجة إلى العمل الجاد المثمر، وقد أحاط بهم أعداؤهم من كل جانب واحتلوا كثيراً من بلادهم وبعض مقدساتهم ! إنهم في مثل هذه الظروف بحاجة إلى العودة إلى دينهم وإحياء سنَّة نبيهم، والاقتداء بسلفهم الصالح حتى يعود لهم عزهم وسلطانهم، وحتى يستطيعوا الوقوف على أقدامهم لرد أعدائهم، وأن يعتزوا برصيدهم العلمي من الكتاب والسنة والفقه، ويستمدوا من ذلك خطة سيرهم في الحياة، ويقرؤوا تاريخ أسلافهم لأخذ القدوة الصالحة من سيرهم، أما أن ينشغلوا بالبحث عن آثار الديار، وإحياء الفنون الشعبية بالأغاني والأسمار، وإقامة مشاهد تحاكي العادات القديمة؛ فكل ذلك مما لا جدوى فيه، وإنما هو استهلاك للوقت والمال في غير طائل، بل ربما يعود بهم إلى الوثنية، والعوائد الجاهلية » [20] .

أسباب الافتتان بالآثار :
--------------
إن الله - تعالى - أرسل الرسل، وأنزل الكتب تبياناً لأهم قضية خُلقت الخلائق من أجلها ألا وهي قضية التوحيد والنهي عن الشرك، وقد ركز القرآن والسنة في بيان هذه القضية ووضحها غاية الإيضاح، وبينها غاية البيان حتى غدت من ضروريات هذا الدين التي لا يمكن جهلها، ولكن لما اشتدت غربة الإسلام وتباعد عصر النبوة؛ انتشر الشرك في الأمة وعظم الخطب في آثار الأنبياء والصالحين، وأصبحوا يعتقدون فيهم الاعتقادات الباطلة، والخرافات الساقطة، فلما كان ذلك كذلك احتاج الأمر إلى دراسة الأسباب التي جعلت الكثير من أفراد الأمة يفتنون في مثل هذه الآثار، حتى يتم علاجها وإيجاد الحلول المناسبة لهذه القضية الجلل « لأن معرفة المرض وسببه يعين على مداواة أصحابها وإزالة شبهاتهم » [21] وهذه الأسباب متفاوتة من جهة تأثيرها على الناس ومتعددة، وسأذكر إن شاء الله - تعالى - بعض هذه الأسباب مقدماً الأهم فالأهم، فأقول وبالله التوفيق :
السبب الأول : الجهل بحقيقة هذا الدين :
لقد كان الناس قبل البعثة في جاهلية جهلاء، وضلالة عمياء، حتى جاءهم بمن أخرجهم من ظلمات الجهل، إلى نور العلم، جاءهم خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم جاءهم ليعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم : { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ } ( آل عمران : 164 ) . فما مات صلى الله عليه وسلم حتى بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وتركها على المحجة البيضاء، ثم قام أصحابه بتبليغ رسالته لمن بعدهم فكانوا أعلم الناس بنبيهم صلى الله عليه وسلم ثم حمل عنهم العلم مَنْ بعدهم، وهكذا كل جيل يحمل العلم عن سلفه، وفي هذا كله لا يزال العلم ينقص، ويكثر الجهل كلما امتد الزمان؛ وذلك مصداقاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم : « يقبض العلم ويظهر الجهل والفتن » [22] .
وقد حصل بالفعل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم فقد انتشر « الجهل بحقيقة ما بعث الله به رسوله، بل جميع الرسل من تحقيق التوحيد، وقطع أسباب الشرك، فقلّ نصيبهم جداً من ذلك، ودعاهم الشيطان إلى الفتنة، ولم يكن عندهم من العلم ما يُبطل دعوته، فاستجابوا له بحسب ما عندهم من الجهل، وعصموا بقدر ما معهم من العلم » [23] بل وصل الأمر عند بعض دهماء الأمة إلى جعل المعروف منكراً والمنكر معروفاً؛ ولذا يقول ابن القيم - رحمه الله - : « قد غلب الشرك على أكثر النفوس لظهور الجهل، وخفاء العلم، فصار المعروف منكراً، والمنكر معروفاً، والسنة بدعة، والبدعة سنة، ونشأ في ذلك الصغير وهرم عليه الكبير، وطمست الأعلام، واشتدت غربة الإسلام، وقلّ العلماء، وغلب السفهاء، ولكن مع هذا لا تزال طائفة من العصابة المحمدية بالحق قائمين، ولأهل الشرك والبدع مجاهدين إلى أن يرث الله سبحانه الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين » [24] .
وقد بين ابن الجوزي - رحمه الله - أن « الباب الأعظم الذي يدخل منه إبليس على الناس هو الجهل، فهو يدخل منه على الجهال بأمان، وأما العالم فلا يدخل إلا مسارقة » [25] . وقال القرافي المالكي « .. أصل كل فساد في الدنيا والآخرة إنما هو الجهل؛ فاجتهد في إزالته عنك ما استطعت، كما أن أصل كل خير في الدنيا والآخرة إنما هو العلم؛ فاجتهد في تحصيله ما استطعت والله - تعالى - هو المعين على الخير كله » [26] .
وهذا الجهل الذي وقعت به الأمة ناتج والله أعلم عن أمرين :
الأول : الإعراض عن الكتاب، والسنة تعلماً وتعليماً، وتدبراً وتفهماً لما فيهما :
فمن أعرض عن السنة اشتغل بالبدعة، « وأما من أصغى إلى كلام الله بقلبه، وتدبره وتفهمه، أغناه عن السماع الشيطاني الذي يصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وينبت النفاق في القلب، وكذلك من أصغى إليه وإلى حديث الرسول صلى الله عليه وسلم بكليته، وحدّث نفسه باقتباس الهدى والعلم منه لا من غيره أغناه عن البدع والآراء والتخرصات والشطحات والخيالات التي هي وساوس النفوس وتخيلاتها، ومن بَعُدَ عن ذلك فلا بد له أن يتعوض عنه بما لا ينفعه، كما أن من غمر قلبه بمحبة الله - تعالى - وذكره، وخشيته، والتوكل عليه، والإنابة إليه، أغناه ذلك عن محبة غيره وخشيته والتوكل عليه، وأغناه أيضاً عن عشق الصور، وإذا خلا من ذلك صار عبد هواه، أي شيء استحسنه ملكه واستعبده .
فالْمُعْرِض عن التوحيد مشرك، شاء أم أبى، والمعرض عن السنة مبتدع ضال، شاء أم أبى .. والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم » [27] .
الثاني : أنهم حملوا نصوص الكتاب والسنة على أناس قد مضوا، وأما هم فغير مخاطبين بهما؛ وهذا ما يتصوره « أكثر الناس، [حيث] لا يشعرون بدخول الواقع تحته، وتضمنه له، ويظنونه في نوع وفي قوم قد خلوا من قبل ولم يعقبوا وارثاً، وهذا هو الذي يحول بين القلب وبين فهم القرآن، ولعمر الله إن كان أولئك قد خلوا فقد ورثهم من هو مثلهم أو شر منهم أو دونهم، وتناول القرآن لهم كتناوله لأولئك، ولكن الأمر كما قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه- : « إنما تُنقَض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية »، وهذا لأنه إذا لم يعرف الجاهلية والشرك، وما عابه القرآن وذمه وقع فيه وأقره، ودعا إليه وصوَّبه وحسَّنه وهو لا يعرف أنه هو الذي كان عليه أهل الجاهلية أو نظيره أو شر منه، أو دونه فينقض بذلك عرى الإسلام عن قلبه .. » [28] .
وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ - رحمه الله - : « .. ومن الأسباب المانعة عن فهم كتاب الله أنهم ظنوا أن ما حكى الله عن المشركين، وما حكم عليهم ووصفهم به خاص بقوم مضوا، وأناس سلفوا وانقرضوا، ولم يعقبوا وارثاً، وربما سمع بعضهم قول من يقول من المفسرين : هذه نزلت في عباد الأصنام، هذه في النصارى، هذه في الصابئة؛ فيظن الغُمْر أن ذلك مختص بهم، وأن الحكم لا يتعداهم، وهذا من أكبر الأسباب التي تحول بين العبد وبين فهم القرآن والسنة »[29] .
السبب الثاني : علماء الضلال :
من أسباب انتشار الفتنة بآثار الأنبياء والصالحين علماء أهل الضلال، وهؤلاء ابتليت الأمة بهم حتى وصل الأمر ببعضهم - كما قال شيخ الإسلام - أنهم : « يُصنِّفون لأهل السيف والمال من الملوك والوزراء في ذلك، ويتقربون إليهم بالتصنيف فيما يوافقهم .. » [30]، وقد صنف شيخ الرافضة ابن النعمان المعروف عندهم بالمفيد كتاباً سماه : « مناسك المشاهد » جعل قبور المخلوقين تحج كما تحج الكعبة البيت الحرام الذي جعله الله قياماً للناس، وهو أول بيت وضع للناس فلا يطاف إلا به، ولا يُصلى إلا إليه، ولم يأمر الله إلا بحجه [31] . وهؤلاء الذين صنفوا هذه الكتب لهم أغراض فاسدة؛ منها التقرب إلى الأئمة، ومنها إضلال الأمة .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - : « وهذا إنما ابتدعه وافتراه في الأصل قوم من المنافقين والزنادقة ليصدوا به الناس عن سبيل الله، ويفسدوا عليهم دين الإسلام، وابتدعوا لهم أصل الشرك المضاد لإخلاص الدين لله .. ولهذا صنف طائفة من الفلاسفة الصابئين المشركين في تقرير هذا الشرك ما صنفوه، واتفقوا هم والقرامطة الباطنية على المحادة لله ورسوله حتى فتنوا أمماً كثيرة وصدوهم عن دين الله . وأقل ما صار شعاراً لهم تعطيل المساجد وتعظيم المشاهد؛ فإنهم يأتون من تعظيم المشاهد وحجها والإشراك بها ما لم يأمر الله به ولا رسوله صلى الله عليه وسلم؛ بل نهى الله عنه ورسوله عباده المؤمنين . وأما المساجد فيخربونها؛ فتارة لا يصلون جمعة ولا جماعة بناءً على ما أصلوه من شعب النفاق، وهو أن الصلاة لا تصح إلا خلف معصوم، ونحو ذلك من ضلالتهم .. » [32] . بهذا تعرف مدى تأثير هؤلاء العلماء في انتشار الفتنة بآثار الأنبياء والصالحين .
السبب الثالث : الأئمة المضلون :
لا يشك عاقل في خطر الأئمة المضلين، وكما قيل : الناس على دين ملوكهم، وقد حذر صلى الله عليه وسلم الأمة منهم بقوله كما في حديث ثوبان - رضي الله عنه - : « إنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين » [33]، وعن زياد بن حدير قال : قال لي عمر : هل تعرف ما يهدم الإسلام ؟ قال : قلت : لا، قال : يهدمه زلة العالم، وجدال المنافق بالكتاب، وحكم الأئمة المضلين » [34] .
فمثلاً القبة التي على الصخرة لم تكن موجودة في عهد الصحابة رضي الله عنهم كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - بل كانت مكشوفة حتى تولى عبد الملك بن مروان الملك فبنى القبة على الصخرة وكساها في الشتاء والصيف ليرغب الناس في زيارة بيت المقدس [35] . وقال في موضع آخر : « وظهر في ذلك الوقت تعظيم الصخرة وبيت المقدس ما لم يكن المسلمون يعرفونه بمثل هذا، وجاء بعض الناس ينقل الإسرائيليات في تعظيمها » [36] .
وذكر الشيخ أحمد بن عبد الحميد العباسي رحمه الله المتوفى في القرن العاشر الهجري في كتابه : « عمدة الأخبار في مدينة المختار » أنه لما كان عام ثمان وسبعين وستمائة هجرية أمر السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون الصالحي والد السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون ببناء قبة على الحُجرة الشريفة، ولم يكن قبل هذا التاريخ عليها قبة ولها بناء مرتفع وإنما كان حظير حول الحجرة الشريفة فوق سطح المسجد، وكان مبنياً بالآجر مقدار نصف قامة بحيث يميز سطح الحجرة الشريفة على سطح المسجد، وكان مبنياً بالآجر فعملت هذه القبة الموجودة اليوم .. » [37] .
والمشاهد لم تكن معروفة في العصور المفضلة، ولكن ظهرت وكثرت في دولة بني بويه، لما ظهرت القرامطة بأرض المشرق والمغرب وكان بها زنادقة كفار، مقصودهم تبديل دين الإسلام، وكان في بني بويه من الموافقة لهم على بعض ذلك [38]، وفي دولتهم أظهر المشهد المنسوب إلى علي - رضي الله عنه - بناحية النجف ذ .
السبب الرابع : الشبهات التي يتمسكون بها في تسويغ فعلهم :
ومن الأسباب التي أدت إلى الاهتمام بآثار الأنبياء والصالحين بعض الشبهات التي يتشبث بها أصحاب الأهواء والشهوات، وهي شبه كبيت العنكبوت في الضعف والوهن، وكما قيل :
حجج تهافت كالزجاج تخالها حقاً وكل كاسر مكسور [40]
فمن تلك الشبهة مثلاً قولهم : « إن من التماثيل ما يعد أصناماً وما لا يعد كذلك، والأولى هي التي تعبد من دون الله ومن ثم فتحريمها مقطوع به على المسلمين، أما التماثيل التي لا تعبد فوصفها بأنها أصنام فيه افتئات ينبغي أن يتنزه عنه العقل الرشيد »، واستدل على هذا التفريق بقوله الله - تعالى - : { يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ } ( سبأ : 13 ) فسليمان - عليه السلام - كانت تصنع له التماثيل، وذكر أنها صور الأنبياء والعلماء [41] .
والجواب على هذا :
أولاً : أن ما فُرِقَ به بين التمثال والصنم لا دليل عليه لعموم النصوص الشرعية؛ فالحكم واحد؛ سواء جعل للعبادة أو لم يجعل لما رواه الترمذي ( 2806 ) وصححه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أتاني جبريل فقال : إني كنت أتيتك البارحة فلم يمنعني أن أكون دخلت عليك البيت الذي كنت فيه إلا أنه كان في باب البيت تمثال الرجال، وكان في البيت قرام ستر فيه تماثيل، وكان في البيت كلب؛ فمُرْ برأس التمثال الذي بالباب فليقطع فليصيَّر كهيئة الشجرة، ومُرْ بالستر فليقطع ويجعل منه وسادتين منتبذتين يوطآن، ومُرْ بالكلب فيخرج . ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم » . « ومن المعلوم أن هذا التمثال الذي في بيت النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن متخذاً للعبادة، ولا يشك في ذلك مسلم؛ ومع ذلك فقد أمره جبريل بإزالته . وروى مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا تدخل الملائكة بيتاً فيه تماثيل أو تصاوير » [42] .
أما استدلاله بالآية فقد وضح الإمام القرطبي - رحمه الله - في تفسيره وغيره أن هذه الآية تدل على أن تصوير التماثيل كان مباحاً في ذلك الزمان، ونسخ بشرع محمد صلى الله عليه وسلم [43] . والنصوص في تحريم صناعة التماثيل المجسمة كثيرة جداً لا يتسع المقام لذكرها وهذا قول جماهير العلماء قاطبة، بل نقل كثير من المالكية الإجماع على ذلك [44] .
السبب الخامس : الغلو في التعظيم [45] :
من الأسباب التي أدت إلى انتشار الفتنة بآثار الأنبياء والصالحين هو الغلو في التعظيم، وقد جاءت النصوص الكثيرة في التحذير من هذا الداء العضال على سبيل العموم سواء كان ذلك في جانب العقيدة أو العبادة، يقول الله - تعالى - : { قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الحَقِّ } ( المائدة : 77 )، وقوله سبحانه : { يَا أَهْلَ الكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الحَقَّ } ( النساء : 171 )فهاتان الآيتان وإن كان الخطاب موجه فيهما إلى أهل الكتاب فإن أمة محمد صلى الله عليه وسلم تدخل فيهما تبعاً [46] لأنها قد نُهيت عن اتخاذ سبيلهم والسير على منوالهم واتباع نهجهم، وهذا واضح غاية الوضوح لمن تتبع الأدلة واستقرأها [47] .
وجاء في حديث الفضل بن العباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إياكم والغلو في الدين؛ فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين » [48] . قال شيخ الإسلام رحمه الله : « وهذا عام في جميع أنواع الغلو في الاعتقادات والأعمال، وسبب هذا اللفظ العام رمي الجمار وهو داخل فيه مثل الرمي بالحجارة بناءً على أنها أبلغ من الصغار، ثم علله بما يقتضي مجانبة هديهم أي هدي من كان قبلنا إبعاداً عن الوقوع فيما هلكوا به، وأن المشارك لهم في بعض هديهم يخاف عليه من الهلاك » [49] .
وقد بين شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى - أن سبب شرك بني آدم هو الغلو في تعظيم قبور الصالحين فقال : « والشرك في بني آدم أكثره عن أصلين : أولها : تعظيم قبور الصالحين، وتصوير تماثيلهم للتبرك بها، وهذا أول الأسباب التي بها ابتدع الآدميون، وهو شرك قوم نوح .. » [50] . وقد ذكر ابن القيم أن من أعظم مكائد الشيطان التي كاد بها أكثر الناس، وما نجا منها إلا من لم يرد الله - تعالى - فتنته « ما أوحاه قديماً وحديثاً إلى حزبه وأوليائه من الفتنة بالقبور، حتى آل الأمر فيها إلى أن عُبد أربابها من دون الله، وعُبدت قبورهم، واتخذت أوثاناً، وبنيت عليها الهياكل وصورت صور أربابها فيها، ثم جعلت تلك الصور أجساداً لها ظل، ثم جعلت أصناماً، وعبدت مع الله - تعالى -، وكان أول هذا الداء العظيم في قوم نوح، كما أخبر - سبحانه - عنهم في كتابه، حيث يقول : { قَالَ نُوحٌ رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَاراً * وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً * وَقَالُوا لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدًّا وَلاَ سُوَاعاً وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً * وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً } ( نوح : 21-24 ) . قال غير واحد من السلف : « كان هؤلاء قوماً صالحين في قوم نوح عليه السلام، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم » . فهؤلاء جمعوا بين الفتنتين : فتنة القبور، وفتنة التماثيل، وهما الفتنتان اللتان أشار إليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته عن عائشة - رضي الله عنها - : « أن أم سلمة - رضي الله عنها - ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم كنيسة رأتها بأرض الحبشة، يقال لها مارية، فذكرت له ما رأت فيها من الصور، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أولئك قوم إذا مات فيهم العبد الصالح، أو الرجل الصالح، بنوا على قبره مسجداً، وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله » [51] . فجمع في هذا الحديث بين التماثيل والقبور، وهذا كان سبب عبادة اللات؛ فقد روى ابن جرير بإسناده عن سفيان عن منصور عن مجاهد { أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى } ( النجم : 19 ) قال : « كان يلت لهم السويق فمات، فعكفوا على قبره » . وكذلك قال أبو الجوزاء عن ابن عباس رضي الله عنهما : « كان يلت السويق للحاج » .
فقد رأيتَ أن سبب عبادة وَدّ، و يغوث و يعوق و نسر واللات، إنما كانت من تعظيم قبورهم، ثم اتخذوا لها التماثيل وعبدوهم كما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم .. » [52] .
السبب السادس : الحرص على تحصيل المال والجاه :
من أسباب الاهتمام بآثار الأنبياء والصالحين ونحوها الحرص على الحصول على الأموال والجاه والشرف والمكانة بين الناس؛ فمن ذلك ما ذكره عبد القدوس الأنصاري أن الحجر الذي جلس عليه النبي صلى الله عليه وسلم في مسجد بني ظفر [53] رآه في خزانة زجاجية عالية بمدخل دار الكتب المصرية، وعلم من المدير العام لها أن شخصاً من أهل المدينة نقله إلى مصر فيما بعد وباعه إلى الدار بثمن كبير ! ! ! [54] .
يقول العلامة الشوكاني - رحمه الله تعالى - : « وربما يقف جماعة من المحتالين على قبر وي***ون الناس بأكاذيب عن ذلك الميت ليست***وا منهم النذور ويستدروا منهم الأرزاق ويقتنصوا النحائر ويستخرجوا من عوام الناس ما يعود عليهم، وعلى من يعولونه، ويجعلون ذلك مكسباً ومعاشاً وربما يهولون على الزائر لذلك الميت بتهويلات، ويجعلون قبره بما يعظم في عين الواصلين إليه، ويوقدون في المشهد الشموع، ويوقدون فيه الأطياب ويجعلون لزيارته مواسم مخصوصة يتجمع فيها الجمع الجم، فيبهر الزائر، ويرى ما يملأ عينه وسمعه من ضجيج الخلق وازدحامهم وتكالبهم على القرب من الميت والتمسح بأحجار قبره وأعواده، والاستغاثة به والالتجاء إليه، وسؤاله قضاء الحاجات ونجاح الطلبات، مع خضوعهم واستكانتهم وتقريبهم إليه نفائس الأموال، ونحرهم أصناف النحائر » [55] .
السبب السابع : التأثر بأصحاب الديانات الضالة :
من أسباب الاهتمام بالآثار اختلاط المسلمين بأصحاب الديانات الأخرى من يهود ونصارى وغيرهم، وهؤلاء عندهم اعتقادات وأباطيل كثيرة، تأثر بها بعض ضعاف المسلمين، فتعظيم القبور كان موجوداً عند اليهود والنصارى، وفي النصارى أكثر وأشد؛ قال صلى الله عليه وسلم : « لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما صنعوا » [56]، ولأن النصارى يعيشون بين المسلمين أكثر من غيرهم من أهل الديانات الأخرى كان التأثر بهم أكثر؛ فشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - يذكر أن كثيراً : « من جهال المسلمين ينذرون للمواضع التي يعظمها النصارى، كما قد صار كثير من جهالهم يزورون كنائس النصارى، ويلتمسون البركة من قسيسيهم ورهابينهم ونحوهم » [57] .
ولو تأملت بعض ما يفعله القُبوريون لعلمت أنه امتداد لعادات وثنية كانت سائدة قبل الإسلام : « وأول هذه العادات : تقديس الأولياء، تلك العادة التي لقيت رواجاً سريعاً وعميقاً في نفوس المصريين لارتباطها بطبيعتهم منذ فجر التاريخ؛ ففكرة تشييد المساجد الجميلة فوق أجساد الموتى وتقديسهم تتصل بجذور الفكر الديني المصري منذ العصر الفرعوني، ولا سند لها في القرآن والسنة .. » [58]
يقول الشيخ محمد رشيد رضا معقباً على ما ادعاه أحد مشايخ القبورية في تسويغ اتخاذ القبور والأضرحة واسطة للشفاعة : « هذا عين ما كان يحتج به المشركون الأولون وحكاه الله - تعالى - عنهم ... وهو ما يفعله بعض النصارى عند قبور القديسين » .
ويقول أيضاً : « ولا تظنوا أن الهندوس ليس عندهم كهنة يتأولون لهم بدعهم الوثنية كما تأول هذا العالم الأزهري .. واحتج لهم بأنهم كأنجاس الهند المنبوذين، ليس لأحدهم أن يتقرب إلى الله - تعالى - بنفسه، بل لا بد له من أحد هؤلاء المعتقدين ليقربه إليه زلفى » [59] .
ويقول الشيخ أبو الحسن الندوي : « وكل ما كان يدور حول قبور الأولياء والمشايخ كان تقليداً ناجحاً للأعمال والتقاليد التي كانت تنجز في معابد غير المسلمين وقبور المقدسين عندهم؛ فالاستغاثة منهم والاستعانة بهم، ومد يد الطلب والضراعة إليهم كل ذلك كان عاماً شائعاً بينهم ... » [60] .
ويذكر الشيخ محمد رشيد رضا صورة من هذا التشابه، فيقول : « في بنارس [في الهند] قبر أبي البشر آدم - عليه السلام -، وقبر زوجه وقبر أمه ! ويقال : « إنهم يعبرون بأمه عن الطبيعة »، وقبور قضاته، وهي تحت قباب مصفحة بالذهب كقبة أمير المؤمنين علي في النجف، وقباب غيره .. وجميع هذه القبور تعبد بالطواف حولها، والتمسح بها، وتلاوة الأدعية والأوراد عندها، كغيرها من تماثيل معبوداتهم، مع الخشوع وبذل الأموال والنذور لها ولسدنتها وكهنتها، فلا يحسبن الجاهل بالتاريخ وبعقائد الملل والنحل أو التعبدات فيها أن علماء وثنيي الهند يعتقدون أن هذه الأشياء تنفع وتضر بنفسها، وأنهم ليس لهم فلسفة في عبادتها » [61] .
بهذا يتبين أن اختلاط المسلمين بغيرهم، ومساكنتهم لهم ودخول كثير منهم في الإسلام مع بقاء بعض العادات الجاهلية سبب من الأسباب التي أدت إلى انتشار الاهتمام بالآثار .
هذه بعض الأسباب التي أدت إلى انتشار الاهتمام بالآثار والبحث عنها في بلاد الإسلام حتى عمت البلوى بها في كل مكان حتى لا تكاد ترى من يسلم من ذلك إلا من وفقه الله لسلوك سبيل المؤمنين الموحدين .
فنسأل الله - تعالى - أن يصلح حال الأمة، وأن يزيل عنها الغمة، وينصر السنة ويقمع البدعة؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه، وهو حسبنا ونعم ال**** .

---------------------------------------------
(1) انظر : مقياس اللغة (1/53)، لسان العرب (4/5)، مفردات ألفاظ القرآن، ص 62 .
(2) المعجم الوجيز، ص 5 .
(3) مجموع الفتاوى (11/18) .
(4) مجموع الفتاوى (26/144) .
(5) أخرجه البخاري (2478) .
(6) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (3/ 338 339) .
(7) مجموع الفتاوى (27/ 170 171) بتصرف، وقد ذكرها أيضا بسياق أتم في (27/270)، وقال: « رواه يونس بن بكر في : (زيادات مغازي ابن إسحاق) عن أبي خلدة خالد بن دينار حدثنا أبو العالية قال » ثم ذكر الخبر .
(8) الفتاوى (27/271) .
(9) انظر : اقتضاء الصراط المستقيم 2/809 .
(10) شبه جزيرة العرب (4/1188) .
(11) معجم البلدان (5/400) وما بعده، وانظر : الموسوعة العربية العالمية (1/98) .
(12) انظر : مقدمة ابن خلدون ص 346، معجم البلدان (5/400) وما بعده تحفة النظار في رائب الأمصار وعجائب الأسفار (1/57 58) لابن بطوطة وقد بين سبب امتناع الخليفة عن الهدم؛ وهو بسبب إشارة بعض مشايخ مصر .
(13) انظر : التاريخ المنصوري (1/5) .
(14) انظر : مقدمة ابن خلدون، ص 346 .
(15) قال الذهبي في ترجمته في السير : هو الإمام العلاَّمة المحدِّث المفتي، شيخ الإسلام شرف المعمرين أبو طاهر أحمد بن محمد الأصبهاني الجرواني السير (21/5) .
(16) سير أعلام النبلاء (21/22) .
(17) انظر : أساليب الغزو الفكري، ص 78 .
(18) الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر (2/141) .
(19) الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر (2/137140)، محمد محمد حسين .
(20) الخطب المنبرية (3/85 86) .
(21) الرد على البكري، لشيخ الإسلام ابن تيمية، ص 80 .
(22) أخرجه البخاري في كتاب العلم، ح/ 85، مسلم في كتاب العلم، ح/ 157 .
(23) إغاثة اللهفان (1/214) .
(24) زاد المعاد، (3/507) .
(25) تلبيس إبليس، ص 130 .
(26) الفروق (4/265) .
(27) إغاثة اللهفان (1/214) بتصرف يسير .
(28) مدارج السالكين (1/343 344) .
(29) تحفة الطالب والجليس في كشف شبه داود بن جرجيس، ص 59 60 .
(30) الاستقامة (1/43) .
(31) انظر : منهاج السنة النبوية لشيخ الإسلام (1/476) .
(32) مجموع الفتاوى، (4/517) .
(33) رواه أحمد، ورقمه (21359)، والترمذي (2229) وقال (حسن صحيح)، و أبو داود
(4252) .
(34) سنن الدارمي، (216) .
(35) انظر : مجموعة الرسائل الكبرى 2/62 .
(36) الاقتضاء 2/810 .
(37) ص 124، وانظر رياض الجنة في الرد على أعداء السنة، للشيخ مقبل الوادعي، ص 272 وما بعده .
(38) انظر : مجموع الفتاوى (27/176) .
(39) انظر : المرجع السابق (27/466) .
(40) قاله الخطابي في الرد على المتكلمين، انظر نقض المنطق ص 26، ومجموع الفتاوى 4/ 28، و الحموية، ص 114 .
(41) مقال في صحيفة الشرق الأوسط، لفهمي هويدي بتاريخ 24/11/1421هـ .
(42) رواه مسلم عن أبي هريرة في كتاب اللباس والزينة، ح/ 2112 .
(43) انظر : الجامع لأحكام القرآن (14/174) .
(44) انظر : أحكام التصوير في الفقه الإسلامي، ص 208 .
(45) انظر في هذا : الفتاوى (17/460)، و (27/124)، جامع الرسائل (2/53) .
(46) فقد بوب البخاري - رحمه الله - في صحيحه باب (ما يكره من التعمق والتنازع والغلوّ في الدين والبدع لقوله - تعالى - : [ قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الحَقِّ ] (المائدة : 77) : « واستدلاله أي البخاري بالآية ينبني على أن لفظ أهل الكتاب للتعميم ليتناول غير اليهود والنصارى، أو يحتمل على أن تناولها من عدا اليهود والنصارى بالإلحاق)، وانظر مقاصد الشريعة الإسلامية، ص60، لمحمد الطاهر عاشور .
(47) انظر في ذكر الأدلة التي تأمر بمخالفة الكفار والنهي عن التشبه بهم اقتضاء الصراط المستقيم، ص 12، وما بعده .
(48) أخرجه النسائي، ورقمه (3057)، و ابن ماجه (3029)، وأحمد (1/215، 347)، و الحاكم (1/466)، وابن خزيمة (4/274)، و ابن حبان، ورقمه (1011)، والحديث صححه الحاكم وابن خزيمة وابن حبان وشيخ الإسلام ابن تيمية، كما في الاقتضاء ص 106، وقال : « هذا إسناد صحيح على شرط مسلم »، وصححه من المعاصرين العلامة الألباني في السلسة الصحيحة، ورقمه (1282) .
(49) نقلاً من تيسير العزيز الحميد، ص 275، ويوجد نحوه في الاقتضاء (1/289) .
(50) الرد على المنطقيين، ص 285، الفتاوى (17/460) .
(51) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة، ح/ 434، مسلم في كتاب المساجد، ح/ 528 .
(52) انظر : إغاثة اللهفان (1/183 184) بتصرف واختصار وانظر زاد المعاد (3/458) .
(53) ولا يعني هذا التسليم بصحة أن هذا الحجر هو الذي جلس عليه النبي صلى الله عليه وسلم .
(54) آثار المدينة المنورة، ص 131 .
(55) الدر النضيد، ص 93 94 .
(56) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة، ح/ 435، 436، مسلم في كتاب المساجد، ح/ 531 .
(57) مجموع الفتاوى 27/461 .
(58) الطرق الصوفية بين الساسة والسياسة، ص 128 .
(59) مجلة المنار ج 3، م33، ص 216 218 .
(60) عن : الكشف عن حقيقة الصوفية لأول مرة في التاريخ، ص 780 .
(61) مجلة المنار ج 3، م33، ص 216 218، نقلاً من مجلة البيان عدد 131، ص 81 .

------------------------------------------
رد مع اقتباس
  #10  
قديم 01-20-2015, 09:14 AM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود غير متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 56,039
ورقة كرامات الأولياء بين أهل السنة ومخالفيهم (1/2)

كرامات الأولياء بين أهل السنة ومخالفيهم (1/2)
ـــــــــــــــــــــــ

(عبد اللطيف بن محمد الحسن)
ــــــــــــــ

29 / 3 / 1436 هــ
20 / 1 / 2015 م
ـــــــــــ




الحمد لله، وصلى الله وسلم على نبيه ومصطفاه، وآله وصحبه، وبعد :

فإنه لما صحت أفهام سلف الأمة - من الصحابة ومن اتبعهم بإحسان - وأحسنوا العبادة وما أراد الله منهم، انصرفت عنايتهم لما كُلّفوا به، فحرصوا على ما ينفعهم غاية الحرص، ولم يأبهوا بما يشغلهم عن ذلك ويلفت قلوبهم إلى سواه، فقلّ كلامهم، وبلغوا من العمل منتهاه .
ولما كثر الكلام، وقل العمل، وزاد الانحراف حدة عظمت المخالفة في أمور؛ منها ما حصل في مفهوم الأولياء وكراماتهم، وشرّق الناس في أمر الكرامات وغربوا، حتى صارت تشكو من الأحوال الآتية :
1- استفحال أمر الصوفية في المبالغة في الكرامات، وما يسمونه بالكشف والإلهام، حتى أتوا فيها بما ينافي الشرع والعقل؛ ويظهر هذا جلياً لمن نظر في كتبهم مثل : (الطبقات الكبرى) للشعراني، و (جامع كرامات الأولياء) لابن الملقّن، و (كرامات الأولياء) للنبهاني ونحوها . والخطير في الأمر تصديق عامة الناس من السذج والبسطاء والمغفلين لمثل هذه الخرافات المنكرة، حتى صارت تصوغ عقول كثير من الناس، وأصبحت معياراً للاستدلال، وطريقاً للتعبد .
2- توسّع أهل الكلام (الأشاعرة والماتريدية) من وجه آخر، وتجويزهم أن تصل كرامات الأولياء إلى حدّ معجزات الأنبياء .
3- إنكار معتزلة الأمس، ومعتزلة اليوم (العقلانيين) للكرامات .
4- تلبيس أهل ***** والشعوذة بخوارقهم على العامة، وادعاؤهم أنها كرامة !
ويبقى أهل السنة بوسطيتهم يقفون في أمر الكرامات موقفاً وسطاً يتميزون به، سيراه القارئ الكريم مدعّماً بالأدلة، محلىً بالأمثلة والضوابط والفوائد .
ولا بد من الكلام أولاً عن مفهوم الأولياء . والله المعين . معنى الولاية :
قال ابن فارس : (الواو واللام والياء أصل صحيح يدل على قرب . من ذلك الولْي : القرب . يقال : تباعد بعد ولْي، أي : بعد قرب . ومن الباب المولى : المعتِق والمعتَق والصاحب والحليف وابن العم والصاحب والجار، كل هؤلاء من الولْي وهو القرب، وكل من ولي أمر آخر فهو وليه)[1] .
(والوَلاية : النصرة، والوِلاية : تولي الأمر . وقيل : الولاية والولاية نحو : الدّلالة والدّلالة، وحقيقته : تولي الأمر، والولي والمولى يستعملان في ذلك)[2] .
أما الولاية الشرعية فأمرها غاية في الوضوح، قال الله - تبارك وتعالى - : { أَلا إنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ البُشْرَى فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ } [يونس : 62 - 64] فكل مؤمن تقي هو ولي لله - تعالى - بالمعنى الشرعي، ويدخل في ذلك الأنبياء - صلوات ربي وسلامه عليهم - فهم سادة الأولياء . لكن الأولياء في الاصطلاح يراد بهم مَنْ سوى الأنبياء، فيمكن أن يقال إن الولي هو : كل مؤمن تقي ليس بنبي .
والإيمان عند أهل السنة قول وعمل، وهو قول القلب وعمله، وقول اللسان، وعمل الجوارح .
وقول القلب هو الاعتقاد الجازم، وعمله قيامه بالعبادات القلبية كالإخلاص والمحبة والخوف والرجاء .
والتقوى : فعل ما أمر الله به ورسوله، وترك ما نهى عنه، وإذا قرنت مع البر (كانت التقوى اسماً لتوقي جميع المعاصي، والبر اسماً لفعل الخيرات)[3] .
قال ابن رجب : (فظهر بذلك أنه لا طريق توصل إلى التقرب إلى الله - تعالى - وولايته ومحبته سوى طاعته التي شرعها على لسان رسوله -صلى الله عليه وسلم-؛ فمن ادعى ولايته والتقرب إليه ومحبته بغير هذه الطريق تبين أنه كاذب في دعواه، كما كان المشركون يتقربون إلى الله - تعالى - بعبادة من يعبدون من دونه)[4]. وقال ابن حجر : (المراد بولي الله المواظب على طاعته، المخلص في عبادته)[5] .
وأولياء الله على مرتبتين :

إحداهما : مرتبة من تقرب إلى الله بأداء الفرائض، وهذه درجة المقتصدين أصحاب اليمين .
وثانيتهما : من تقرب إليه بعد الفرائض بالنوافل، وهذه درجة السابقين المقربين، وقد ذكر الله تلكما الدرجتين ودليل الصنفين في سورة الواقعة والرحمن والإنسان والمطففين وفاطر[6] فقال : { فَأَصْحَابُ المَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ المَيْمَنَةِ } [ الواقعة : 8] . ثم قال : {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ المُقَرَّبُونَ } [الواقعة : 10، 11] .
والحاصل أن الولاية مرتبة في الدين عظيمة لا يبلغها إلا من قام بالدين ظاهراً وباطناً بفعل المأمورات وترك المنهيات؛ فهي درجة عالية لا يُصعد إليها إلا بسلّم الشريعة؛ بل من اعتقد ولاية من يترك الواجبات ويفعل المحرمات فهو كافر مرتد؛ لتكذيبه الآية[7] .
والولاية لها جانبان : جانب يتعلق بالعبد : وهو القيام بالأوامر، واجتناب النواهي، ثم التدرج في مراقي العبودية بالنوافل، وجانب يتعلق بالرب - تعالى - : وهو محبة هذا العبد ونصرته وتثبيته على الاستقامة، أما الكرامات فهي أمر إضافي وليست شرطاً في الولاية[8] - كما سيأتي - .

فضل الولاية والأولياء :

يكفي الأولياء ما جاء في الآية من تولي الله لهم، ونصرتهم وتأييدهم ومعونتهم وإصلاح أحوالهم، وأنه لا خوف عليهم مما أمامهم في الآخرة، ولا هم يحزنون على ما خلفهم من الدنيا، وأن لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة .
هنيئاً لهم، يوفقهم الله بهدايته وتسديده، ويحوطهم بحمايته ونصرته . قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : (إن الله قال : من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليّ عبدي بشيءٍ أحب إليّ مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذ بي لأعيذنه، وما ترددت عن شيءٍ أنا فاعله ترددي عن نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته)[9] . (وهذا أصح حديث يروى في الأولياء)[10] . وقد ذُكر فيه المقتصدون والسابقون، أما الظالم لنفسه بالإصرار على الذنوب فلا يكون ولياً حتى يتوب .

الولاية لا تستلزم العصمة :

الولي بَشَرٌ يجوز عليه ما يجوز على الناس من الغلط والسهو والظن الخاطئ ونحو ذلك، ولا يقدح ذلك في ولايته خلاف ما زعمت الصوفية من أن القلب إذا كان محفوظاً كانت خواطره معصومة من الخطأ ! فإنه ليس في النصوص ما يدل أو يشير إلى ذلك، بل نصوص الشريعة وإجماع العلماء على خلاف ذلك، قال - تعالى - : { وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ * لَهُم مَّا يَشَاءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ المُحْسِنِينَ * لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأََ الَذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ الَذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ } [الزمر : 33 - 35]، فأثبت لهؤلاء المتقين المحسنين ذنوباً، وأنه يغفرها لهم، ولم تكن تقواهم مستلزمة لعصمتهم من الذنوب .
وأيضاً : فـ (إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه)[11] ، وهو من سادات الأولياء، ومع ذلك لم يكن يركن إلى ما يلقى في قلبه؛ بل يعرضه على الكتاب والسنة، ويدع ما خالفهما، وعلى هذا النهج مشى الركب . قال أبو سليمان الداراني : (إنه يقع في قلبي النكتة من نكت القوم، فلا أقبلها إلا بشاهدين : الكتاب والسنة)[12] .
وخطأ الولي في اجتهاده العلمي ليس نقصاً في ولايته إذا كان ممن استفرغ جهده في البحث والاستدلال، وخطؤه مغفور له، وهو مأجور غير مأزور . قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : (إذا حكم الحاكم فأصاب فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر)[13] .

الولاية عند الصوفية :

اختص الصوفية بمفهوم آخر للولاية؛ حيث زادوا على الحدّ الشرعي فقال أبو القاسم القشيري : (الولي له معنيان : أحدهما : فعيل بمعنى مفعول، وهو من يتولى الله - سبحانه - أمره . والثاني : فعيل، مبالغة من الفاعل، وهو الذي يتولى عبادة الله وطاعته، فعبادته تجري على التوالي من غير أن يتخللها عصيان، وكلا الوصفين واجب حتى يكون الولي ولياً)[14] . وقوله هذا تأسيس للقول بعصمة الولي . وعرفه الجرجاني بمثل تعريف القشيري، وقال الجرجاني أيضاً : (الولاية هي : قيام العبد بالحق عند الفناء عن نفسه)[15] . وهذا يشير إلى الفناء أو الحلول .
ويمكن تلخيص انحرافات الصوفية - التي خالفوا بها الكتاب والسنة – في مفهوم الولي في نقاط عدة[16] :
1- زعمهم أن الولي يتطور ويتشكل ويتواجد في أماكن مختلفة في آن واحد .
قال الشعراني في ترجمة الشيخ حسين أبي علي : (كان هذا الشيخ من كُمّل العارفين وأصحاب الدوائر الكبرى، وكان كثير التطورات : تدخل عليه الأوقات تجده جندياً، ثم تدخل عليه فتجده سبعاً، ثم تدخل فتجده فيلاً، ثم تدخل عليه فتجده صبياً، وهكذا)[17] .
2- أن ما يتخيله الولي ويتصوره في خياله فإنه يقع كما تخيّل . كما حكى الشعراني عما حصل للجوهري، حين غطس في البحر وتخيل أنه تزوج عراقية فأنجبت له أولاداً، فأتته بعد مدة بأولادها منه[18] .
3- دعواهم عصمة الولي وأنه لا يجوز الإنكار عليه ولو خالف الشريعة . فقد نقل الشعراني عن علي الخواص قوله : (إياك أن تصغي لقول منكر على أحد من طائفة العلماء أو الفقراء، فتسقط من عين رعاية الله - عز وجل -) ثم قال : (وإنما نهى القوم عن المنازعة؛ لأن علومهم مواجيد لا نقل فيها) ثم وصفها بكونها
(وراثة نبوية)[19] .
4- أن الولاية تكون بأيدي الأولياء الكبار يهبونها لمن شاؤوا . يقول الدباغ : (يقدر الولي على أن يكلم أحداً في أذنه، ولا يقوم عنه حتى يكون هو والولي في المعارف على حد سواء)[20] . وهذا يبين وجهاً من مخالفتهم في كيفية اكتساب الولاية، كما قالوا باكتسابها بالتخلي والرياضة ونحو ذلك .
5- زعمهم أنهم يقابلون النبي -صلى الله عليه وسلم- يقظة، ويتلقون عنه التشريع، ويسألونه عن الحلال والحرام، وصحة الحديث وضعفه [21] .
6- ادعاؤهم أن للولاية خاتماً كما للنبوة خاتم، وهي فكرة صوفية اخترعها الحكيم الترمذي، وطورها الصوفية بعده حتى جعلوا لكل زمان خاتماً، ومنهم من جعل لولاية الخصوص خاتماً، وخاتماً لولاية العموم، فلا ولي بعده ! [22] .
7- نسبتهم إلى الأولياء صفات الربوبية من علم الغيب، والتصرف في الكون . وانظر مثلاً ما حكاه الشعراني عن إبراهيم الجعبري من اطلاعه على خفايا من أحوال الناس [23] . وقد حكى الشعراني عن الجعبري أنه كان يُضْحِك ويُبْكِي من حوله إذا شاء، وأنه حبس بول ناس ثم أطلقه ![24] . ونقل عن محمد الحضري أنه يقول : (الأرض بين يدي كالإناء الذي آكل منه، وأجساد الخلائق كالقوارير أرى ما في بواطنهم)[25] . ونقل عن الشربيني أنه كان يقول للعصا التي كانت معه : (كوني إنساناً فتكون إنساناً، ويرسلها تقضي الحوائج ثم تعود كما كانت)[26] .


كرامات الأولياء :

تعد الكرامة نوعاً من خوارق العادات . والعادة هي : (الحالة المتكررة على نهج واحد، كعادة الحيض في المرأة)[27] . وخرق العادة إنما يكون بتمزيقها ووقوعها على خلاف الحال المعهودة المألوفة التي استقر وقوعها عليه[28] .
وخوارق العادات قد تكون باستغناء الإنسان عن الحاجات البشرية كالطعام والشراب بأن تحصل له بسبب غير معتاد، أو تكون بأن يعلم شيئاً فيراه أو يسمعه، وليس في إمكان البشر سماعه أو رؤيته عادة، وهذا المسمى : الكشف أو المكاشفة، وقد تكون بحصول الأثر في الأشياء مما ليس في قدرة البشر فعله في العادة، كوجود ضوء من غير مصدره، ومن هذا إجابة الدعوة .
إن تمام الغنى والعلم والقدرة - التي تكون الخوارق من جنسها - إنما هو لله - تعالى - وهو الذي يخرق العادة لمن شاء، ولذا نفاها نوح - عليه السلام - عن نفسه، وأمر الله نبيه محمداً -صلى الله عليه وسلم- أن ينفيها عن نفسه، فقال - تعالى - : {قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إنِّي مَلَكٌ } [الأنعام : 50][29] .
كما أن تلك الخوارق منها ما يكون محموداً إذا أعان صاحبه على البر والتقوى، كمعجزات الأنبياء وكرامات الصالحين لحجة في الدين أو حاجة بالمسلمين، ومنها ما يكون مذموماً حيث كان عوناً على الظلم والفجور، كخوارق *****ة والفجرة، وما لم يكن من هذا ولا ذاك كأن كان عوناً لصاحبه على قضاء حاجته فإنه المباح، ثم إن استُغل في خير أو شر صار محموداً أو مذموماً[30] .

تعريف الكرامة :

الكرامة لغة : مصدر (كَرُم)، أو اسم مصدر من (كرّم) أو (أكرم) . و (الكاف والراء والميم : أصل صحيح، له بابان؛ أحدهما : شرف الشيء في نفسه، أو شرف في خلق من الأخلاق)[31] . ويظهر أن الكرامة من الباب الأول لشرفها في ذاتها، وصاحبها كريم من الباب الثاني لشرفه في خلُقه مع الخالق - تعالى – ومع الخلق أيضاً . والكرامة من الكرم، وهو : ضد اللؤم ونقيضه[32] ، والكرامة : اسم يوضع للإكرام، كما وضعت الطاعة في موضع الإطاع [33] .
أما اصطلاحاً : فلم ترد الكرامة بهذا اللفظ في الكتاب ولا السنة ولا كلام الصحابة، وقد سماها الله - عز وجل - آية، فقال بعد ذكر كرامة أهل الكهف في ازورار الشمس عن كهفهم المفتوح جهتها : { ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ } [الكهف : 17] فهي آيات وبراهين على قدرة الله، ودالة على كرامة صاحبها وإنما سميت بهذا تمييزاً لها عن المعجزة، وهذا التفريق في اللفظ إنما قال به كثير من المتأخرين[34]، ثم شاع، وصار هو المقول به في عامة أقوال العلماء .
وحيث وجد الخارق للعادة نظرنا فيمن وقع له؛ فإن كان مؤمناً تقياً، وكان هذا الفعل الخارق مما يصلح ظهوره على يد الولي : عددنا ذلك كرامة، وعلى ذلك فيمكن تعريفها بأن يقال : هي (أمر خارق للعادة يجريه الله على يد ولي – ليس بنبي - علم الولي بذلك أم لا)[35]، ومنه يظهر أن شروط الكرامة هي :
1- وجود أمر خارق للعادة .
2- ظهورها على يد ولي، وإلا لم تكن كرامة، بل استدراجاً .
3- كون هذا الولي ليس نبياً .
4- كون هذا الخارق مما يصلح أن يكون كرامة لولي، فلا يشتمل على معصية، أو باطل[36] .
ولا يشترط عدم التحدي، ولا كونها لحجة أو حاجة [37]، ولا علم صاحبها بها .
الفرق بين الكرامة والمعجزة :
كرامات الأولياء من باب معجزات الأنبياء، والاختلاف بينهما في الدرجة، ويظهر الفرق بينهما في الأوجه الآتية :
الأول : الكرامة لا تصل إلى درجة معجزات الأنبياء، كما أن أصحابها - الأولياء - لا يصلون في الفضيلة والثواب درجات الأنبياء؛ فللأنبياء معجزاتهم الكبرى التي لا يظهر مثلها على يد أحد من الأولياء أو الشياطين، وهي من الأدلة على صدقهم، فلا يمكن أن تختلط بأحوال غيرهم، قال ابن تيمية - رحمه الله - :
(فلا تبلغ كرامات أحد قط إلى مثل معجزات المرسلين)[38] .
ولكن هناك خوارق أقل درجة تسمى صغرى، وهي من التوابع والنوافل، ولا يعتمد عليها استقلالاً في صدق الأنبياء، وهي التي يجوز أن يظهر مثلها على يد الأولياء كرامة لهم، ودلالة على صدق النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي تبعوه؛ فهذه الدرجة من المعجزات التي يحصل مثلها للإنس أو الجن لا تكون وحدها آية للنبي؛ فإن الله أيد نبوتهم بتلك المعجزات الكبرى التي لا يقدر عليها إنس ولا جن[39] .
وهذه - بحمد الله - قاعدة واضحة للتمييز بين المعجزة والكرامة، يشهد لها قول النبي -صلى الله عليه وسلم- : (ما من الأنبياء نبي إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة)[40] . (والمعنى أن كل نبي أعطي آية أو أكثر من شأن من يشاهدها من البشر أن يؤمن به لأجلها)[41] .
وبهذا يتبين خطأ قول من قال بأن كل ما كان معجزة لنبي جاز أن يكون كرامة لولي[42] .
الثاني : أن المعجزة تقع للنبي مقترنة بدعوى النبوة، وليست كذلك كرامة الولي .
الثالث : أن المعجزات من الدلائل على صدق النبي وتأييد الله له، وتأتي لحاجة الخلق وهدايتهم، وتحصل للأنبياء وهم عالمون بوقوعها، كما يجب عليهم إظهارها، خاصة إذا توقف إيمان الناس عليها، ولا يشترط كل ذلك في الكرامة .

الفرق بين الكرامات والأحوال الشيطانية :

وإذا اعتبرنا المعجزات والكرامات من باب واحد، وجعلنا النبوة أساساً للتفريق بين الكرامات والأحوال الشيطانية[43] سهل الأمر جداً، وتبين الفرق بينهما في الأمور الآتية :
1- أن الكرامات سببها الولاية الحقة لله - تعالى - وهي الإيمان والتقوى [44]، فلا عبرة بالخوارق بدون ذلك، إنما هي من الشيطان .

قال الشافعي - رحمه الله - : (إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء، أو يطير في الهواء، فلا تغتروا به حتى تعرضوا أمره على الكتاب والسنة)[45] . ومن النكت المليحة لأبي يزيد البسطامي قوله : (لله خلق كثيرون، يمشون على الماء، لا قيمة لهم عند الله، ولو نظرتم إلى من أعطي من الكرامات حتى يطير، فلا تغتروا به، حتى تروا كيف هو عند الأمر والنهي وحفظ الحدود والشرع)[46] .
2- أن الكرامات قائمة على الصدق، بخلاف تلك المخاريق المبنية على الكذب : { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ } [الشعراء : 221، 222] .
3- أن الخوارق الشيطانية في حقيقتها هي تصرفات من جنس تصرفات الجن والإنس، تفعلها الشياطين في غيبة عن أعين الإنس؛ من نقل شيء أو قتل أو أذى ونحوه، وليس فيها تحويل جنس إلى جنس، ولا ما يختص الرب بالقدرة عليه، ولا ما تختص به الملائكة فأين هذا من تكثير الماء القليل، بحيث يفيض حتى يصير بذاته كثيراً [47] .
4- أن الكرامات هبة من الله، أما الخوارق والأحوال الشيطانية فتحصل بالتعلم والرياضة ودعاء الجن والشياطين، والتقرب إليهم[48] .
5- أن أولياء الله يحاولون إخفاء الكرامة، ولا يلتفتون إليها، ويعلمون أنها نعمة يجب شكرها، ويخشون أن تكون ابتلاء لا يثبتون فيه، ومن كان هذا حاله فلا يتصور منه أن يجعل الكرامات ميدان منافسة، فيسعى إلى إبراز كراماته، وإبطال كرامات غيره .. وأصحاب الأحوال الشيطانية على خلاف هذا تماماً، بل لا يظهرونها - غالباً - إلا في حضرة الناس، ويتحدى بعضهم بعضاً فيها، بغرض إبراز المهارات في الخديعة والمكر، فيقع بينها من التعارض الشيء الكثير[49] .
6- أن كرامات الأولياء أمر ثابت في النصوص الشرعية وواقع الصالحين، بخلاف تلك الأحوال الإبليسية التي يُبطل أثرها الذكر والقرآن . وشتان بين ما يخنس بتلاوة القرآن ويبطل أثره أو يضعف، وبين ما يقويه القرآن، ويزيده نوراً[50] !

الإلهام والفراسة من كرامات الأولياء :

الإلهام لغة :

(يدل على ابتلاع شيء ومن هذا الباب : الإلهام، كأنه شيء ألقي في الروع فالتهمه، قال الله - تعالى - : { فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } [الشمس : 8])[51] والإلهام : (إيقاع شيء في القلب، يطمئن له الصدر، يخص الله به بعض أصفيائه)[52] .
والملهم هو : المحدّث، المُفْهَم، الذي يصدق ظنه في الأشياء، تتكلم الملائكة على لسانه، فيجري عليه الصواب من غير قصد منه، ويطلق على ذلك المكاشفة .
و (المكاشفة الصحيحة : علوم يحدثها الرب - سبحانه وتعالى - في قلب العبد، ويطلع بها على أمور تخفى على غيره، وقد يواليها، وقد يمسكها عنه بالغفلة عنها)[53] .
دليل الإلهام : قول النبي -صلى الله عليه وسلم- : (لقد كان فيمن قبلكم ناس محدّثون، فإن يكن في أمتي أحد فعمر)[54] .
ولا يعدو الإلهام أن يكون فتحاً من الله - تعالى - على عبد من عباده المؤمنين بما يوافق الحق الذي أنزله في كتابه وعلى لسان نبيه -صلى الله عليه وسلم-، كالرؤيا الصالحة فيها كشف للنائم، وإطْلاع له على شيء مما لم يقع بعد . مصداقه حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- : (لم يبق من النبوة إلا المبشرات) قالوا : وما المبشرات ؟ قال : (الرؤيا الصالحة)[55] .
والإلهام - على منزلته - لا يمكن أن يكون مكملاً لنقص في الدين، أو محدِثاً لحكم جديد فيه، كما هو الحال تماماً بالنسبة للرؤيا؛ فإن من رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- في المنام فأمره بأمر وجب عليه أن يعرضه على الشرع؛ لأن (كل من كان من أهل الخطاب والمكاشفة لم يكن أفضل من عمر، فعليه أن يسلك سبيله في الاعتصام بالكتاب والسنة تبعاً لما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم-، لا يجعل ما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- تبعاً لما ورد عليه)[56] .
ومن الإلهام : ما وقع للصديق - رضي الله عنه - في موقفه يوم قتال أهل الردة، حين خالفه كثير من الصحابة، فقال : (والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة؛ فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عَناقاً كانوا يؤدونها إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لقاتلتهم على منعها)[57]، حتى شرح الله صدور أصحابه لما أراه من الحق، ومنها : تسيير جيش أسامة الذي عقده النبي –صلى الله عليه وسلم- قبيل وفاته .
وقال عمر - رضي الله عنه - : (وافقت الله في ثلاث، - أو وافقني ربي في ثلاث - قلت : يا رسول الله ! لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى، وقلت : يارسول الله ! يدخل عليك البر والفاجر، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب، فأنزل الله آية الحجاب، قال : وبلغني معاتبة النبي -صلى الله عليه وسلم- بعض نسائه، فدخلتُ عليهن، قلت : إن انتهيتن، أو ليبدلن الله رسوله خيراً منكن، حتى أتيتُ إحدى نسائه قالت : يا عمر ! أما في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما يعظ نساءه حتى تعظهن أنت ؟ فأنزل الله : { عَسَى رَبُّهُ إن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ ... } [التحريم : 5])[58] . ومن إلهاماته : اختياره قتل أسارى بدر .

ب - الفراسة :

يراد بالفراسة في اللغة معنى ذا جانبين؛ أحدهما أخص من الآخر، وهما :
1- المعرفة بالأمور، والخبرة بالأحوال، من خلال النظر المحكم فيها .
2- المهارة في تعرف بواطن الأمور من ظواهرها[59] .
ويمكن تعريف الفراسة في الاصطلاح بأنها : نور يقذفه الله في قلب عبده المؤمن الملتزم سنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، يكشف له بعض ما خفي على غيره، مستدلاً عليه بظاهر الأمر، فيسدد في رأيه، دون أن يستغني بذلك عن الشرع .
والفراسة المقصودة هنا الفراسة الإيمانية، وهي غير فراسة الرياضة، والفراسة الخلقية، بل هي (على حسب قوة الإيمان، فمن كان أقوى إيماناً فهو أحدّ فراسة)[60] (فمن غرس الإيمان في أرض قلبه الطيبة الزاكية، وسقى ذلك الغراس بماء الإخلاص والصدق والمتابعة، كان من بعض ثمره هذه الفراسة)[61] .
والسبب أن (هذه الفراسة نشأت له من قربه من الله - تعالى - فإن القلب إذا قرب من الله انقطعت عنه معارضات السوء المانعة من معرفة الحق وإدراكه، وكان تلقيه من مشكاة قريبة من الله بحسب قربه منه، وأضاء له من النور بقدر قربه، فرأى في ذلك ما لم يره البعيد والمحجوب) كما ثبت في حديث الأولياء، (وليس هذا من علم الغيب، بل علام الغيوب قذف الحق في قلب قريب منه)[62] .
وللفراسة من الفوائد :

1- الانتفاع بالمواعظ، والاستفادة من الحوادث والعبر، قال - تعالى – بعد أن ذكر قصة إهلاك قوم لوط - : { إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ } [الحجر : 75] أي : الناظرين المتفرسين المتفكرين المعتبرين .
2- دقة الحكم بين الناس وخاصة من القضاة، وحفظ الحقوق، وتحقيق المصالح العامة، التي يهدف الشرع إلى تحقيقها[63] .
3- تولية الأكفاء في رعاية مصالح الأمة .
4- توقع الأحداث قبل وقوعها، فتؤخذ لها العدة والحيطة، فتُتّقى الشرور وتدفع المفاسد .
ومن الفراسة : ما وقع لعمر حين (دخل عليه نفر من مذحج، فيهم الأشتر النخعي، فصعّد فيه البصر وصوبه وقال :أيهم هذا ؟ قالوا : مالك بن الحارث، فقال : ما له قاتله الله ؟ إني لأرى للمسلمين منه يوماً عصيباً .
وهذا عثمان بن عفان - رضي الله عنه - دخل عليه رجل من الصحابة وقد رأى امرأة في الطريق فتأمل محاسنها، فقال له عثمان : يدخل عليّ أحدكم وأثر الزنى ظاهر على عينيه ؟ ! فقلت : أوَحيٌ بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ؟ فقال : لا، ولكن تبصرة وبرهان وفراسة صادقة)[64] .

-----------------------------------------------------
(1) معجم مقاييس اللغة، 6/141، وانظر : القاموس المحيط، ص 1732، ومختار الصحاح، ص 736 (الصاحب الأولى بمعنى المالك، والصاحب الأخرى بمعنى الرفيق) .
(2) مفردات ألفاظ القرآن، للراغب الأصفهاني، ص 885 .
(3) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للشيخ عبد الرحمن السعدي، ص 120 .
(4) جامع العلوم والحكم، 2/336 .
(5) فتح الباري، 11/342 .
(6) انظر : جامع العلوم والحكم، 2/335 337، وانظر الفرقان، ص 22 .
(7) انظر : أولياء الله عقلاء ليسوا مجانين، لابن تيمية : 21، 22 .
(8) انظر : مقدمة تحقيق كرامات أولياء الله للالكائي، لأحمد سعد حمدان، ص 7 .
(9) رواه البخاري، الفتح، 11/348 349 .
(10) الفرقان، ص 9، 30 .
(11) الحديث رواه الترمذي، ح/3682، وهو صحيح .
(12) انظر : الفرقان، ص 48 59، وما بعدها .
(13) أخرجه البخاري، ح/7352 .
(14) الرسالة القشيرية : 520 521، وانظر : 667 .
(15) التعريفات، ص 310 .
(16) انظر : تقديس الأشخاص في الفكر الصوفي، محمد أحمد لوح : 1/ 55 93 .
(17) الطبقات الكبرى، 2/87 .
(18) المرجع السابق .
(19) الطبقات الكبرى، 1/10 .
(20) الإبريز من كلام سيدي عبد العزيز، لأحمد بن المبارك، 175، نقلاً عن تقديس الأشخاص، 1/75 .
(21) انظر : الطبقات الكبرى في ترجمة أبو المواهب الشاذلي؛ حيث ذكر له لقاءات كثيرة، 2/67 81، 75 .
(22) انظر : تقديس الأشخاص، 1/79، وما بعدها .
(23) المرجع السابق، 1/203، 204 .
(24) المرجع السابق .
(25) المرجع السابق، 2/107 .
(26) المرجع السابق، 2/136 .
(27) المعجم الوسيط، ص 635 .
(28) انظر : النبوات، لابن تيمية، 34، 35 .
(29) انظر : الصفدية : 183، وقاعدة في المعجزة من الكرامات : 8، كلاهما لابن تيمية، وشرح الطحاوية لابن أبي العز : 2/746 .
(30) انظر : النبوات : 27، 28، وشرح الطحاوية : 2/747 .
(31) انظر : معجم مقاييس اللغة (كرم) .
(32) انظر : القاموس المحيط (كرم) .
(33) انظر : لسان العرب، مادة (كرم) .
(34) انظر : النبوات، ص 15، وقاعدة في المعجزات والكرامات، ص 7 .
(35) تعريف مقتبس من كتاب : تقديس الأشخاص، محمد أحمد لوح، 2/ 278، 288 .
(36) انظر : الموافقات للشاطبي : 2/278 .
(37) انظر : النبوات، ص 18، 19، وشرح الواسطية، لهراس، 168، والفتاوى، 11/274 .
(38) النبوات، ص 4 .
(39) انظر : النبوات، ص 333، 335، والموافقات للشاطبي : 2/ 259، 262 .
(40) رواه البخاري، ح/4981، (الفتح، 8/618) .
(41) النبوات، ص 4 .
(42) وهم عموم الأشاعرة، كما سيأتي .
(43) كما فعل ابن تيمية - رحمه الله -، انظر : موقف ابن تيمية من التصوف، د أحمد بناني، 232 .
(44) انظر : الموافقات : 2/272 والنبوات، ص 20 .
(45) تفسير ابن كثير، قاعدة في المعجزات والكرامات .
(46) سير أعلام النبلاء، 13، 88، والحلية : 10/40 .
(47) انظر : النبوات، ص 20 23 .
(48) انظر : تقديس الأشخاص، 2/283 .
(49) انظر : السابق، 2/283، والفتاوى، 11/295 .
(50) انظر : تقديس الأشخاص، محمد أحمد لوح، ص 285 .
(51) معجم مقاييس اللغة، لابن فارس، مادة (لهم)، 5/217 .
(52) المعجم الوسيط، لعدة مؤلفين، مادة (لهم) 2/742 .
(53) مدارج السالكين، 3/233 .
(54) رواه البخاري، ح/3689 .
(55) رواه البخاري، ح/6990 .
(56) ابن تيمية، في الفتاوى، 13/74، وانظر : الموافقات : 2/272 .
(57) أخرجه البخاري، ح/6925 والعناق : الأنثى من ولد المعز وهي السخلة .
(58) رواه البخاري، ح/4483 .
(59) انظر : المعجم الوسيط، مادة (فرس)، 2/681 .
(60) مدارج السالكين، 2/504 .
(61) انظر : السابق، 2/515 .
(62) الروح لابن القيم، ص 532 .
(63) انظر : الطرق الحكمية، لابن القيم : 32، 33، 37 .
(64) الروح، لابن القيم، ص 532 537، وانظر : هذه الأمثلة وغيرها كثير في : الطرق الحكمية، ص 33 وما بعدها .
---------------------------------
رد مع اقتباس
  #11  
قديم 01-20-2015, 09:20 AM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود غير متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 56,039
ورقة كرامات الأولياء بين أهل السنة ومخالفيهم (2-2)

كرامات الأولياء بين أهل السنة ومخالفيهم (2-2)
ـــــــــــــــــــــــــ


(عبد اللطيف بن محمد الحسن)
ــــــــــــــ

29 / 3 / 1436 هــ
20 / 1 / 2015 م
ـــــــــــ



في الحلقة الأولى : تقدم الكلام عن مفهوم الولاية والأولياء بين أهـل السنة والمتصوفة، ومفهوم الخوارق والكرامات وما تتميز به عن الأحوال الشيطانية، ثم الإلهام والفراسة والرؤى .
وتمام الحديث : شرح موقف أهل السنة والجماعة من الكرامات مُدعَّماً ببعض الأدلة والأمثلة والضوابط والفوائد، وتبع ذلك ذكر مواقف المخالفين من المنكرين للكرامات، أو المتوسعين فيها المتفلتين من الضوابط الشرعية .

عقيدة أهل السنة في الكرامات :
-----------------

من عاد إلى كتب أهل السنة وجد موقفهم من الكرامة وسطاً بين إنكار الجافين، وتوسع الغالين . قال الطحاوي عن الأولياء : (ونؤمن بما جاء من كراماتهم وصح عن الثقات من رواياتهم)[1] . وقال ابن تيمية : ( ومن أصول أهـل السنة والجماعة : التصديق بكرامات الأولياء وما يُجري الله على أيديهم من خوارق العادات في أنواع العلوم والمكاشفات، وأنواع القدرة والتأثيرات، كالمأثور عن سالف الأمم في سورة الكهف وغيرها، وعن صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين وسائر قرون الأمة، وهي موجودة فيها إلى يوم القيامة)[2] .
و (لقد تواترت نصوص الكتاب والسنة والوقائع قديماً وحديثاً على وقوع كرامات الله لأوليائه المتبعين لأنبيائه)[3] والأدلة كثيرة . منها : ما ذكره الله من مجيء الرزق لمريم؛ لا من بشر، وكذا إنبات الرطب وإجراء النهر لها؛ ولم يكن شيء منها قبل ذلك، ومنها : ازورار الشمس عن أهل الكهف، فلا تصيبهم مع أنهم في مكان منفتح انفتاحاً واسعاً، ومنها : ما وقع لسارة رضي الله عنها من حملها بإسحاق في سن اليأس، ومنها : إحضار الذي عنده علم من الكتاب عرش بلقيس إلى سليمان عليه السلام[4] وكذا : كفّ يد الظالم عن سارة، ومنها : نجاة أصحاب الغار من الصخرة التي انطبقت عليهم، ومنها : تكلُّم الغلام في المهد، ومنها : عجز الملك عن قتل الغلام حتى قال : بسم الله رب الغلام[5] .
ومن الكرامات الواقعة للصحابة رضي الله عنهم : أن عبد الله بن حرام والد جابر رضي الله عنهما توقّع مقتله في أول من يقتل يوم أحد، فحصل ذلك ودفن مع عمرو بن الجموح رضي الله عنهما فأخرجه جابر بعد ستة أشهر فإذا هو كيوم دُفن غير أذنه، ثم دفنه في قبر وحده[6] .
وعن أنس أن رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خرجا من عند النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة ومعهما مثل المصباحين بين أيديهما، فلما افترقا صار مع كل واحد منهما واحد حتى أتى أهله[7] .

ضوابط قبول الكرامة :
-------------
أ - ضابط عام في الكرامات :

ليس من منهج الإسلام التعويل على الكرامات، وجعلها شرطاً للإيمان؛ فقد عاب الله على المشركين لما طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم آيات خارقة، فقال - تعالى - : { وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا} [الإسراء : 90]، إلى قوله تعالى : {قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا } [الإسراء : 93] فقد كانت معجزاته صلى الله عليه وسلم معتمدة على الحجة والبرهان، وأجلُّها القرآن الكريم أعظم معجزة أعطيت لنبي، وهي أنفع المعجزات .
ولذا كانت حياته صلى الله عليه وسلم تجري موافقة للمألوف جرياً على العادة مع كونه أعظم الخلق وأشرفهم -صلى الله عليه وسلم-؛ فكان يأخذ بالأسباب كما فعل يوم الهجرة[8] . وهذه خاصية الدين والمنهج الذي يصلح للبقاء، خلافاً لما يظنه كثير من الناس من أن الأولياء يجب أن يتصرفوا في هذا الكون ويُعْطَوا مفاتيحه ![9] .

ب - ضوابط من تقع له الكرامات :
---------------------
أولاً : أن يكون من وقعت له من عباد الله المؤمنين . ( فمن لم يكن له مصدقاً فيما أخبر به ملتزماً طاعته فيما أوجب وأمر به في الأمور الباطنة التي في القلوب والأعمال الظاهرة التي على الأبدان لم يكن مؤمناً فضلاً عن أن يكون ولياً لله، ولو حصل له من خوارق العادة ما عسى أن يحصل؛ فإنه لا يكون مع تركه لفعل المأمور وترك المحظور - من أداء الواجبات من الصلاة وغيرها بطهارتها وواجباتها - إلا من أهل الأحوال الشيطانية المبعدة لصاحبها عن الله المقربة إلى سخطه وعذابه )[10] .
ثانياً : أن لا يجزم في كل خارق يحصل له أنه كرامة؛ بل الواجب عليه أن يعرض أقواله وأفعاله على الكتاب والسنة، فإن كانت موافقة لها فهي حق وصدق وكرامة من الله - سبحانه - وإن كانت مخالفة لشيء من ذلك فليعلم أنه مخدوع ممكور به، قد طمع منه الشيطان فلبَّس عليه[11] .
ثالثاً : أن لا يدعي صاحبها الولاية؛ لتعذر الجزم بقبول العمل، كما وصف الله - عز وجل - حال أوليائه المؤمنين المتقين، فقال : {والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون } [ المؤمنون : 60] . وقد سألت عائشة - رضي الله عنها - النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية فقالت : أَهُمُ الذين يشربون الخمر ويسرقون ؟ قال : (لا، يا بنت الصديق؛ ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون، وهم يخافون ألا يُقبَل منهم، أولئك يسارعون في الخيرات )[12] .
ثم إن في ادعاء الولاية تزكية للنفس وذلك منافٍ لحال الولاية .
رابعاً : أن لا تكون الكرامة غايته، يطلبها ويسعى في حصولها؛ فهو خلاف حال السلف .

ج - ضوابط الكرامة ذاتها :
------------------

أولاً : أن لا تشتمل الكرامة على ترك شيء من الواجبات، أو فعل شيء من المحرمات، أو التزام شيء من العبادات لم يرد فيه نص شرعي؛ وذلك لأن الولي إنما نال الكرامة بطاعته وإيمانه؛ فلا يمكن بحال أن تكون تلك الكرامة سبباً لتركه شيئاً مما نالها به، ثم إن المحرَّم خبيث، والله لا يكرم عبده بخبيث؛ كما أن من دلائل الولاية الوقوف عند النصوص الشرعية فلا يكون ولياً لله من أحدث في دين الله - تعالى - ما ليس منه .

قال ابن الجوزي - رحمه الله : (قد لبَّس إبليس على قوم من المتأخرين فوضعوا حكايات في كرامات الأولياء ليشيدوا - بزعمهم - أمر القوم؛ والحق لا يحتاج لتشييد بباطل ) ثم ساق قصة تُروى عن سهل بن عبد الله فيها أن أحد الأولياء اشترط عليه أن يرمي ما معه من الزاد حتى يعطيه نور الولاية فتكون له خوارق العادات، ففعل، إلى أن قال سهل : فغشيني نور الولاية ! ثم علَّق ابن الجوزي بقوله : (ويدل على أنها حكاية موضوعة قولهم : (اطَّرِحْ ما معك)؛ لأن الأولياء لا يخالفون الشرع، والشرع نهى عن إضاعة المال)[13] كما أمر بفعل الأسباب .
ومثال ذلك أيضاً : من تحمله الجن فيحج مع الناس بلا إحرام ولا مرور بميقات .. خداعاً من الجن له .
ثانياً : ألا تشتتمل على ما عُلِم في الشريعة عدم وقوعه، كدعوى لقيا النبي صلى الله عليه وسلم يقظة، وكأن يرى شخصاً على صورة نبي أو ملك أو صالح يقول له : قد أبحت لك الحرام، وأحللت لك الحلال، أو أسقطت عنك التكاليف .

قال الشاطبي : (مخالفة الخوارق للشريعة دليل على بطلانها في نفسها، وذلك أنها قد تكون في ظواهرها كالكرامات، وليس كذلك؛ بل من أعمال الشيطان . كما يُحكى عن عبد القادر الجيلاني أنه عطش عطشاً شديداً، فإذا سحابة قد أقبلت وأمطرت عليه شبه الرذاذ حتى شرب، ثم نودي من سحابة : (يا فلان ! أنا ربك، وقد أحللت لك المحرمات) فقال له : (اذهب يا لعين) . فاضمحلت السحابة . وقيل له : بِمَ عرفت أنه إبليس ؟ قال : بقوله : (قد أحللت لك المحرمات ) . هذا وأشباهه لو لم يكن الشرع حَكَماً فيه لما عرف أنها شيطانية)[14] .

ثالثاً : ألا يستعين بالكرامة على معصية الله - عز وجل - فإن أكمل الكرامات ما كان معيناً على طاعة الله - عز وجل - أما الكرامة والكشف والتأثير إن ( لم يكن فيه فائدة كالاطّلاع على سيئات العباد، وركوب السباع لغير حاجة، والاجتماع بالجن لغير فائدة، والمشي على الماء مع إمكان العبور على الجسر فهذا لا منفعة فيه لا في الدنيا ولا في الآخرة، وهو بمنزلة العبث واللعب )[15] .
رابعاً : ثبوتها : قال الطحاوي : (ونؤمن بما جاء من كراماتهم، وصح عن الثقات من رواياتهم)[16] . وقد يتعسر ذلك كثيراً بعد انقطاع عصر الرواية، ولقلة من يعتمد عليه في نقل الأخبار في الأعصر المتأخرة .

فوائد الكرامة :
----------

الفائدة الأولى : دلالتها على قدرة الله وكمال مشيئته وعلى كمال علمه وكمال غناه .
الثانية : أن وقوع الكرامات للأولياء في الحقيقة معجزات للأنبياء، والمعجزات فيها دعوة للإيمان، والكرامات تدل على صحة الدين الذي جاء به الرسل[17] .
الثالثة : أن الكرامات من البشرى المعجلة في الدنيا المذكورة في آية الأولياء : {لهم البشرى في الحياة الدنيا} [يونس : 64] . وهي (كل أمر يدل على ولايتهم وحسن عاقبتهم، ومن ذلك الكرامات)[18] .
الرابعة : تقوية إيمان العبد وتثبيته، قال الله - تعالى - : {إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا ... } [الأنفال : 12] ولهذا قلَّت الكرامات في عهد الصحابة، وكثرت بعدهم؛ وذلك لقوة إيمانهم، وضعف من بعدهم بالنسبة إليهم، وذلك أن الصحابة شاهدوا التنزيل وعايشوا النبي صلى الله عليه وسلم، ومن بعدهم آمن بالغيب فاحتاج إلى شيء يزيد يقينه[19] .
الخامسة : إقامة الحجة على العدو، كما حصل لخالد - رضي الله عنه – في شرب السم، وكقصة أبي مسلم الخولاني[20] . وفي هذا نصرة لدين الله ورفعة لكلمته إحقاقاً للحق وإبطالاً للباطل، كما حصل لأصحاب الكهف .
السادسة : إكرام من الله - تعالى - لعباده لصلاحهم وقوة إيمانهم، كما حصل لمريم من الرزق[21] .
السابعة : قضاء حاجة صاحب الكرامة أو حاجة غيره، وإنقاذه أو إنقاذ غيره، كما حصل لسعد - رضي الله عنه - في قصة مرورهم على الماء، وكما حصل لسارية حيث نُجِّي الجيش عامة، وليس هو وحده .
الثامنة : ابتلاء من وقعت له الكرامة أيشكر أم يكفر ؟ أيتواضع لله أم يغتر بعمله فيهلك ؟
التاسعة : في وقوع الكرامة لناس دون آخرين ابتلاء لمن لم تقع لهم : هل الكرامة غايتهم من الاستقامة ؟ وهل يثبتون بلا كرامة أم يتزعزع إيمانهم ؟

العمل بمقتضى الكرامات :
-------------
من فوائد الكشف والإلهام والفراسة والرؤى - وهي من الكرامات - : تحصيل الخير وتوقي الشر قبل وقوعه .
وشرط ذلك : ألا يعارض العملُ - بناءً عليها - حكماً شرعياً ولا قاعدة دينية، ومثاله : لو شهد شاهدان عدلان في أمر، فرأى القاضي في منامه النبي صلى الله عليه وسلم يقول له : (لا تحكم بهذه الشهادة؛ فإنها باطل)، فإنه لا يجوز له العمل بمقتضى هذه الرؤيا؛ لأنها تهدم قواعد الشريعة . وكذا : لو حصلت له مكاشفة بأن الماء الذي يريد الوضوء به مغصوب أو نجس، فإنه لا يتركه ويتيمم؛ لأن فتح هذا الباب يبطل العمل بالظاهر، ويلغي الشريعة .

وقد ذكر الشاطبي - رحمه الله - أوجهاً مما يسوغ العمل بالخوارق على وفقها، منها :
1- أن يكون في أمر مباح، كأن يرى رؤيا بأن فلاناً سيأتيه في وقت ما، فيتأهب لاستقباله، لكن لا يعامله إلا بما هو مشروع .
2- أن يكون العمل عليها لفائدة يرجو نجاحها، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أنه يراهم من وراء ظهره؛ لفائدة إقامة الصفوف، وأخرى هي تقوية إيمان من سمعه .
3 - أن يكون فيه تحذير أو تبشير ليستعد ويتأهب .
وقال : ( إنما ذكرت هذه الأوجه الثلاثة لتكون مثالاً يحتذى حذوه، وينظر في هذا المجال إلى جهته)[22] .
أعظم الكرامة لزوم الاستقامة :
------------------

ليس وقوع الخارق أمراً لازماً للولي، فكم من الأولياء الصادقين – من الصحابة فمن بعدهم - قلم تقع لهم خوارق ! وكم من *****ة والمبطلين من وقعت لهم الخوارق !
ولا شك أن الخوارق ابتلاء للعبد من جنس النعم، وليس حصولها برهاناً على فضل الرجل عند الله، ولا عدمها دليلاً على هوانه . قال الله - تعالى - : { فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن . وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن . كلا } [الفجر : 15 - 17] .
لكن الكرامة الحقة - التي بها نجاة العبد - إنما هي استقامته على أمر الله - عز وجل - حتى يأتيه اليقين .
قيل لأبي محمد المرتعش : ( فلان يمشي على الماء ! قال : عندي أن من مكّنه الله من مخالفة هواه فهو أعظم ممن يمشي على الماء !)[23] .
للاستقامة لا طالباً للكرامة؛ فإن نفسك متحركة في طلب الكرامة، وربك يطلب منك الاستقامة . قال الشيخ السُهروردي في عوارفه : وهذا أصل كبير في الباب؛ فإن كثيراً من المجتهدين المتعبدين سمعوا عن سلف الصالحين المتقدمين وما مُنحوا به من الكرامات وخوارق العادات؛ فنفوسهم لا تزال تتطلع إلى شيء من ذلك، ويحبون أن يرزقوا شيئاً منه، ولعل أحدهم يبقى متهماً لنفسه في صحة عمله؛ حيث لم يحصل له خارق [24] ، ولو علموا بسر ذلك، لهان عليهم الأمر، فيُعلم أن الله يفتح على بعض المجاهدين الصادقين من ذلك باباً . والحكمة فيه أن يزداد بما يرى من خوارق العادات وأمارة القدرة يقيناً، فيقوى عزمه على الزهد في الدنيا والخروج عن دواعي الهوى، فسبيل الصادق مطالبة النفس بالاستقامة؛ فهي كل الكرامة )[25] .
ولا شك أن من أعظم الكرامات : ما أكرم الله به سلف الأمة وعلماءها والمجددين والمصلحين فيها؛ حيث بارك في أوقاتهم، وأعمارهم، وأعمالهم؛ فكتب بعضهم ما يعجز غيره على نسخه في مدة عمره[26] ، وكان لعلومهم من الأثر ما نراه إلى يومنا هذا، وكتب الله لها البقاء والنماء، وكم كان للمصلحين من الأثر، وكم يترتب على مواقفهم الحميدة من آثار تجنيها الأمة طيلة سنين أو قرون ! وتأمّل قوله - تعالى - في فضل من آتاهم العلم : { يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولوا الألباب } [البقرة : 269] .
فأين هذا ممن تكون كرامته : الإكرام بمال، أو طعام، أو كشف في حادثة، أو قدرة على أمر ؟ !
ومن أوجه تفضيل الاستقامة على الكرامة :
1 - أن الدين لا يُنال إلا من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم، واختصاصه به يفضله على بقية الخوارق .
2 - أن الدين لا يعمل به إلا المؤمنون، أما الخوارق فإنها لهم ولغيرهم .
3 - أن العلم بالدين والعمل به ينفع صاحبه ولا يضره، وقد يقع له من حصول الخارق مضرة من عُجْبٍ ونحوه .
4 - أنه يدفع مضرة الدنيا والآخرة من غير حاجة إلى كشف .
5 - أن الكشف والتأثير قد يكون فيه فائدة وقد لا يكون .
6 - أن الدين إذا صح أوجب خرق العادة إذا احتاج إليه صاحبه؛ لقول الله - تعالى - : { ومن يتق الله يجعل له مخرجا . ويرزقه من حيث لا يحتسب ... } [الطلاق : 2، 3] .
7 - أن الدين هو إقامة حق العبودية، وهو فعل ما وجب عليك، وأما الخوارق فهي من حق الربوبية؛ إذ لم يؤمر العبد بتحصيلها وفعلها[27] .
المخالفون لأهل السنة في الكرامات :
وهم فئتان : متوسعون في إثبات الكرامة، ومنكرون لوقوع ما سوى المعجزات . فأما المتوسعون فهم : الأشاعرة والماتريدية والصوفية والرافضة .

الأشاعرة والماتريدية :
------------

خالف الأشاعرة أهل السنة في بعض تفاصيل مسائل النبوات والمعجزات والكرامات . ومن ذلك : ( قولهم : إن كرامات الأولياء ليست من آيات الأنبياء ) وهذا راجع إلى مذهبهم ( في شروط المعجزة؛ حيث جعلوا منها : أن تقارن دعوى النبوة، وهذا مخالف لمذهب الجمهور الذين جعلوها من آيات الأنبياء؛ لأنها مستلزمة لنبوتهم وتصديقهم فيها، ولولا تصديقهم للأنبياء واتباعهم لهم، لم تكن لهم كرامات )[28] .
وزعم الباقلاني أن ( الخوارق تدل على الولاية بالإجماع، مع تجويزه ظهورها فيه على أيدي الكفرة و*****ة . وهذا تناقض )[29] .
ومما غلط فيه الأشاعرة والماتريدية[30] : زعمهم : أن كل ما وقع معجزة لنبي جاز وقوعه كرامة لولي [31]، وهذا توسع في إثبات الكرامة، وهو مردود بكون ( معجزات الأنبياء التي هي دليل صدقهم لا يجوز أن يأتي بها أحد غيرهم لا من المخالفين، ولا من الموافقين؛ لأن المعنى في إعجازها أنها لا تتكرر لغيره ممن ليس في منزلته؛ لأنها إذا أتت على يد غيره لا تصلح أن تكون شاهدة على صدقه هو فقط؛ لأن أساس هذه الشهادة هو عجز غيره عن الإتيان بمثل ما أتى به حتى تبقى حاملة أسرار الإعجاز كلها )[32] .

الصوفية والكرامات :
--------------
غلا الصوفية في أمر الخوارق، فشرَّقوا فيها وغرَّبوا، ولعل أهم ما يميزهم عن أهل السنة - في هذا الباب - أمور أهمها[33] :
أولاً : اعتبار الخوارق معياراً للولاية، وأن من لا كرامة له لا ولاية له . قال الشعراني في ترجمة محمد الغمري عن قوله : ( وكان سيدي أحمد لا يأذن قط لفقير [ لمريد أو صوفيٍ ] أن يجلس على سجاده إلا إن ظهرت له كرامة )[34] .
ثانياً : الشغف بالخوارق، وتفسير كل خارق أو أمر غريب بأنه كرامة حتى صارت همهم، قال ابن الجوزي : ( عن إبراهيم الخراساني أنه قال : احتجت يوما إلى الوضوء، فإذا أنا بكوز من جوهر، وسواك من فضة رأسه ألين من الخز، فاستكت بالسواك، وتوضأت بالماء، وتركتهما وانصرفت) ثم علق عليها ابن الجوزي فقال : (في هذه الحكاية من لا يوثق بروايته، فإن صحت دلت على قلة علم هذا الرجل؛ إذ لو كان يفهم الفقه علم أن استعمال السواك الفضة لا يجوز؛ ولكن قلَّ علمه فاستعمله، وإن ظن أنه كرامة، والله - تعالى - لا يكرم بما يمنع من استعماله شرعاً )[35] .
ثالثاً : لما جعل الصوفية الكرامة أساس الولاية حرصوا على جمع الكرامات لمن ادعوا لهم الولاية، وتعدى الأمر إلى الاختلاق والكذب، ومما نسجوه ما ذكره الشعراني عن أبي بكر البطائحي أنه ( أول من ألبسه أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - الخرقة ثوباً وطاقية في النوم، فاستيقظ فوجدهما عليه، وكان يقول : أخذت من ربي - عز وجل - عهداً أن لا تحرق النار جسداً دخل تربتي، ويقال : إنها ما دخلها سمك ولا لحم قط فأنضجته النار أبداً )[36] .
وكأن الكذب بدأ فيهم من قديم، فتنبه له بعض كبارهم؛ فقد قيل لرابعة العدوية : ( يا عمة ! لِمَ لا تأذنين للناس يدخلون عليك ؟ قالت : وما أرجو من الناس ؟ إن أتوني حكوا عني ما لم أفعل . ثم قالت : يبلغني أنهم يقولون : إني أجد الدراهم تحت مصلاي، ويطبخ لي القدر بغير نار، ولو رأيت مثل هذا فزعت منه قيل لها : إن الناس يكثرون فيك القول، يقولون : إن رابعة تصيب في منزلها الطعام والشراب؛ فهل تجدين شيئاً فيه ؟ قالت : يا بنت أخي ! لو وجدت في منزلي شيئاً ما مسسته، ولا وضعت يدي عليه)[37] .
رابعاً : كرامات الصوفية وخوارقهم كما أنها لا مكان لها عند العقلاء، فإنها لا كرامة لها عند العلماء بشريعة الله - عز وجل - وكم في كراماتهم المحكية من معارضات ومخالفات للشريعة المحمدية ! ومن ذلك : أن أحدهم كان يتشوش من قول المؤذن : الله أكبر فيرجمه، ويقول : عليك يا كلب، نحن كفرنا يا مسلمون حتى تكبروا علينا ؟ ![38] .
أما ما يذكرونه عن بعض من يذكرون بالخير من الشطحات والأحوال المُنْكَرَةِ، فإن الواجب التثبت منه؛ لعدم الثقة في نقلهم، وما ثبت منه فإن منه ما يكون عوارض تعرض لهم بسبب بعض أعمالهم؛ فإن من خلط في عمله اختلطت خوارقه، ولهذا أمرنا أن نقول كل صلاة : {اهدنا الصراط المستقيم} [الفاتحة : 6][39] .

الرافضة والكرامات :
----------------
يفضل غلاة الرافضة أئمتهم على الأنبياء، ثم صار ذلك من أصول الشيعة الاثني عشرية[40] .
ويرى الرافضة أن خوارق الأولياء ( معجزات لإثبات الإمامة وإقامة الحجة )، وأنها ليست من قبيل الكرامات بل هي كمعجزات الأنبياء أو أعظم، وقد بوَّب صاحب كتاب بحار الأنوار لهذا المعنى باباً بعنوان : ( إنهم يقدرون على إحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص، وجميع معجزات الأنبياء) . وأورد فيه جملة من أحاديثهم[41] .
( وللقوم ولع غريب وتعلق عجيب بسرد الحكايات وغرائب الأساطير التي هي أحياناً أشبه بعمل *****ة والمشعوذين، وحيناً هي من ضروب الخيال، وغرائب الأحلام . وهذه المعجزات لا تزال تتولد عند الشيعة وتتجدد )[42] .

المنكرون للكرامات :
----------------

وهم : الفلاسفة[43]، والمعتزلة[44]، ومن تأثر بهم[45]، وابن حز[46] ، وبعض الأشاعرة كالإسفراييني[47] . وتبعهم معاصرون من مدعي العقلانية، ويرون أنه لا يقع من الخوارق غير معجزات الأنبياء .
وهذه بعض شُبَهِ القوم مع مناقشتها :
الشبهة الأولى : قالوا : إن تجويز الكرامات يفضي إلى السفسطة؛ لأنه يقتضي تجويز انقلاب الحجر ذهباً، والبحر دماً عبيطاً . والرد على هذا من ثلاثة أوجه :
الأول : أنه لا يُسلَّم ببلوغها هذا المبلغ .
والثاني : أن ذلك يجوز ولا يقتضي سفسطة؛ لأن ما ذكرتم وارد عليكم في زمن النبوة .
والثالث : أن التجويزات العقلية لا تقدح في العلوم المادية؛ وجواز تغير العادة بسبب الكرامة تجويز عقلي فلا يقدح فيها[48] .
الشبهة الثانية : أن الكرامة لو جازت لاشتبهت بالمعجزة، فلا يبقى لها دلالة على النبوة .
والرد على هذه الشبهة بمنع الاشتباه - كما تقدم التفريق بينهما في مبحث سابق - . ثم إن الولي لو ادعى النبوة بعد ظهور الكرامة له لكان كاذباً، ولم يكن ولياً[49] .
الشبهة الثالثة : أن الكرامة لو ظهرت لولي لجاز الحكم له بمجرد دعواه أنه يملك شيئاً من غير بينة لظهور درجته المانعة من كذبه، وهذا خلاف قاعدة :
(البينة على المدعي ) والرد : أن الكرامة لا توجب عصمته ولا صدقَهُ في كل الأمور، وهذا يضبطه الشرع ولا يخرج عنه[50] .
الشبهة الرابعة : أنها لو جازت سراً وهو أولى من العلن، وهذا يفضي إلى أن لا يستدل بها على النبوة، ثم إن تكرارها يفضي إلى التحاق الخوارق بالعادات فلا تصدق معجزات الأنبياء ! والرد من وجهين :
الأول : أنها تجوز على وجه لا يصير ادة .
الثاني : وهو أنها تجوز بحيث لا تظهر ولا تشيع ولا تلتحق بالمعتاد .
وتكررها للولي لا يخرجه عن طريق السداد، وإلا فلا يكون ولياً على التحقيق، ثم إن المعجزة تتميز عن الكرامة كما سبق . وهذه الشبهة لو جاز إيرادها لكان في كرامات الأمم السابقة، دون هذه الأمة .
الشبهة الخامسة : أنه لو كان لها أصل لكان أولى الناس بها الصدر الأول، ولم يظهر عنهم شيء منها .
قال ابن السبكي : ( وهذا قول مرذول، فلو حاول مستقصٍ استقصاء كرامات الصحابة - رضي الله عنهم - لأجهد نفسه ولم يصل إلى عشر العشر )[51] .
وموردو هذه الشبهة يراوغون في الكلام، فمثلاً : القاضي عبد الجبار في المغني لم يعرض للأدلة المثبتة للكرامات من القرآن، والزمخشري يقول بخصوصٍ منفي على إبطال العموم، كما استدل بقوله - تعالى - : { عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا } [الجن : 26]، على إبطال جميع الكرامات . ورد بقول الاسكندري في الانتصاف[52] .
الشبهة السادسة : أن مشاركة الأولياء للأنبياء في ظهور الخوارق يخل بعظيم قدر الأنبياء ووقعهم في النفوس[53] .
وهذا مردود؛ فلا يخفى أن في الكرامة تصديقا للأنبياء، وما حصلت لهم إلا ببركة اتباعهم للرسل[54] ، وقد ناقش شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - المنكرين ورد عليهم في النبوات[55] ، كما ناقش المعتزلة في خوارق العادات من أحد عشر[56] .
وبعد؛ فليس إنكار الكرامات سديداً؛ لمعارضته من قبل الشرع والواقع، ولا التوسع فيها جائزاً؛ لمخالفته نهج الصواب .
إننا نثبت الكرامات لأولياء الله الصالحين، ونقول : ليس كل من أتانا بخارق عددناه ولياً، ما لم يكن ملتزماً بهدى السابقين الأولين -رضي الله عنهم- . وفي الوقت نفسه : لا ننتقص أحداً من الصالحين؛ لأنه لم تقع له كرامة؛ فكم من ولي لم يحصل له خارق ! وإن أعظم كرامة لزوم الاستقامة . نسألك اللهم حسن الختام .

--------------------------------
(1) شرح الطحاوية : 2/745 .
(2) الفتاوى، 3/156، وانظر شرح الواسطية لخليل هراس، ص 176، وانظر الإنصاف في حقيقة الأولياء وما لهم من الكرامات والألطاف للصنعاني، ص 20 .
(3) التنبيهات اللطيفة على ما احتوت عليه العقيدة الواسطية من المباحث المنيفة للشيخ السعدي، ص 97، وانظر لوامع الأنوار، 2/294 .
(4) هذه الكرامات تجدها في السور التالية : آل عمران : 37، مريم : 25، الكهف : 17، هود : 71، 72، النمل : 40 .
(5) انظر : صحيح البخاري، ح/2358، 5084، 3465، 3436، 206 .
(6) رواه البخاري، ح/1351 .
(7) رواه البخاري، ح/456 .
(8) مع أنه حصلت له معجزات في هجرته .
(9) انظر تقديس الأشخاص، 2/288-289 .
(10) الفتاوى، 10/431 .
(11) قطر الولي، ص272 .
(12) أخرجه الترمذي، ح/3175، وصححه الألباني، ح/2537 .
(13) تلبيس إبليس، ص285 .
(14) الموافقات، 2/275-276 .
(15) مجموع الفتاوى، 11/328 .
(16) شرح الطحاوية، 2/746 .
(17) النبوات : 19 - 20 .
(18) انظر : التنبيهات اللطيفة، للسعدي : 99-100 .
(19) طبقات الشافعية، 2/333، وانظر شرح الطحاوية، 2/747، 748، وتعليقات الشيخ ابن باز رحمه الله على التعليقات المنيفة، ص98، والفرقان : 128 : 4/534 والسير : 4/934 .
(20) انظر : تعليقات ابن باز، والرسل والرسالات للأشقر، ص 155، وانظر : الفتح، 7/443 فيما نقل عن ابن بطال .
(21) الرسل والرسالات، للأشقر، 155 .
(22) الموافقات : 2/275، انظر : 2/266، وما بعدها .
(23) سير أعلام النبلاء، 15/231 .
(24) الواجب أن يبقى الإنسان متهما لنفسه في صحة عمله، سواء وقعت له الكرامة أم لا لأنه جزم بقبوله شهادة لنفسه بأن من المتقين وأنه من اهل الجنة وقد كان داب الصالحين وسنتهم البقاء بين الخوف والرجاء بعد أداء الطاعات .
(25) شرح الطحاوية، 2/747 - 748 .
(26) عد السبكي هذا الأمر من الأدلة على وقوع الكرامات، انظر طبقات الشافعية، 2/333-334 .
(27) قاعدة في المعجزات والكرامات 29، 37 .
(28) موقف ابن تيمة من الأشاعرة، د عبد الرحمن المحمود، 3/ 1378، 1782 .
(29) المصدر السابق : 3/1382 .
(30) انظر : المتريدية دراسة وتقويما، أحمد بن عوض الله الحربي، ص 386 .
(31) انظر : أصول الدين، للبغدادي : 174، 175 والإرشادية للجويني : 267، 269 والمواقف للإيجي : 240 .
(32) موقف الإمام ابن تيمية من التصوف والصوفية، د أحمد بناني، ص 231 .
(33) انظر : تقديس الأشخاص في الفكر الصوفي، محمد أحمد لوح، 2/ 293، 311 .
(34) الطبقات الكبرى، للشعراني 2/88 .
(35) تلبيس إبليس، ص382 .
(36) الطبقات الكبرى، للشعراني، 2/132 .
(37) انظر : تلبيس إبليس، ص 383، وانظر : تقديس الأشخاص، 2/ 298، وانظر امثلة أخرى في الطبقات الكبرى للشعراني : 2/107، 126، 136، 140 .
(38) الطبقات الكبرى، 2/140 وانظر : بدع الاعتقاد، محمد الناصر، ص 223 .
(39) انظر : أولياء الله عقلاء، لابن تيمية : 75 .
(40) انظر : أصول مذهب الشيعة، د ناصر بن عبد الله القفاري 2/ 614 .
(41) انظر : بحار الأنوار : للمجلسي : 27/29-31 .
(42) أصول مذهب الشيعة : 2/623 - 262 .
(43) انظر : شرح الواسطية، لهراس، ص 178 .
(44) انظر : المعغني لعبد الجبار، 15/241 والكشاف للزمخشري، 4/ 172، والنبوات ص 16، وشرح الطحاوية، ص752 .
(45) انظر رسالة التوحيد، لمحمد رشيد رضا، ص176، 177، وتسفير المنار 12/293، 2/74، 2/316 .
(46) انظر : الدرة فيما يجب اعتقاده، ص 194، 197 .
(47) انظر : طبقات الشافعية 4/260 .
(48) انظر : طبقات الشافعية، 4/260 وما بعدها، وانظر حول الأولياء والكرامات، د الأنور : 35.
(49) المرجع السابق، شرح الطحاوية، 2/75 ولوامه الأنوار، 2/394 .
(50) المرجع السابق، 35 .
(51) طبقات الشافعية : 4/260 .
(52) الانتصاف فيما بتضمنه الكشاف من الاعتزال مع الكشاف ص 172 .
(53) لوامع الأنوار، ج2، ص394 .
(54) الفرقان، 120 .
(55) انظر : النبوات ص 204، 206 .
(56) انظر : النبوات، ص 175 - 191 .

--------------------------------------
رد مع اقتباس
  #12  
قديم 01-20-2015, 09:25 AM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود غير متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 56,039
ورقة متصوفة اليوم بين الصحو والمحو [*]

متصوفة اليوم بين الصحو والمحو[*]
ـــــــــــــــــــ

29 / 3 / 1436 هــ
20 / 1 / 2015 م
ــــــــــ

[IMG]http://www.abouna.org/sites/default/files/imagecache/image-670x369/news/image/***_dance_into_the_light.333122339_std.jpg[/IMG]


لا جَرَمَ أن متصوفة هذا الزمان في حراك مستمر، وكدح متلاحق في سبيل إحياء التصوف، وبعث رميمه، وترميم متآكله، وإحياء « الغِناء » وإيقاظ « السُّكْر » و « الاصطلام » وأشباهه[1] !
فمؤتمرات القوم تتوالى، وندواتهم تترى، وتعاهد التصوف ورعايته تجاوز « الزوايا » إلى إشاعة التصوف عبر قنواتهم الفضائية، ومواقعهم الإلكترونية، فضلاً عن الإذاعات والمجلات . وسماع الصوفية اعتراه التحويل والتطوير فلم يعد قاصراً على الدفِّ والشبابة، بل أُقحمت آلات العزف وسائر أدوات الطرب في هذا الزمان، واتسع خرق هذا السماع المحدَث والفاجر واستطار ضرره وتفاقم شرّه .
وعمد المتصوفة في السنين الأخيرة إلى إنشاء الجامعات والمراكز البحثية والمجلات المحكَّمة التي تهدف إلى إحياء ما اندرس من هذا التصوف البائد، وسعوا إلى تكوين محاضن تربوية في سبيل تنشئة الأجيال على الرهبانية المبتدعة و********ة الشوهاء .
ويلحظ في هذا النشاط المربح مظاهر صارخة من العمالة المكشوفة للغرب، والتواطؤ مع الأنظمة العَلْمانية والتعاون على الإثم والعدوان ( محاربة المدّ السلفي )، إضافة إلى ضروب من الزندقة الصلعاء والكفر البواح، كما في إحداثهم الحج إلى أضرحةٍ ومشاهد، والمجاهرة بذلك، ومضاهاة شعيرة الحجّ إلى بيت الله الحرام، والدعوة إلى الإبراهيمية ( وحدة الأديان )، والتعبُّد بالرقص والفجور كما في الموالد والذكريات .
فصوفية « الأرزاق »[2] لهم علاقات حميمة مع أمريكا، ومن ذلك : اللقاءات المتكررة لشيخ مشايخ الطرق الصوفية في مصر مع السفير الأمريكي ( دوني )، بل عرض السفيرُ فكرةَ دخول المتصوفة إلى الانتخابات بوصفهم تياراً دينياً « معتدلاً »[3] ! كما أن السفير المذكور حريص على حضور مولد البدوي في طنطا كل عام[4] .
وفي مؤتمر تحت رعاية الطرق الصوفية في مصر طالبوا بجَعْل التصوف مقرراً دراسياً في التعليم العام، وإفساح المجال للمنهج الصوفي لعلاج « التطرف »[5] ! وأقامتْ مؤسسة ( داود الحمراء ) في فلسطين ندوة عن الإنسانية والإبراهيمية تحت رعاية يهودية نصرانية ثم صوفية؛ إذ جمعتْ بين الحاخام والقسيس وشيخ الطريقة الخلوتية[6] ! وطالب أحدهم الحكومة الجزائرية بإنشاء تجمُّع للطرق الصوفية لمحاصرة المدّ السلفي في الجزائر، خاصة أن الرئيس الجزائري بذل جهوده من أجل نفض الغبار عن الصوفية؛ على حدّ تعبير شيخ الطريقة[7] !
وعلَّل بعض الكُتَّاب سرَّ إحياء التصوف في المغرب بأنه إرادة الحكومة من أجل مواجهة التطرف[8] .
ولم يقتصر المتصوفة على التمسُّح بأعتاب الأولياء والمجاذيب، بل ضمُّوا إلى ذلك التمسُّح بالغرب والركون إليه، كما أنهم تجاوزوا عبادة الشيوخ والغلو في المعتوهين، إلى التذلل والانطراح للأنظمة والحكومات . هذا الصحو والاستيقاظ عند المتصوفة لا ينفك عن تهافت وإفلاس؛ حيث يكشف عوار هؤلاء الطرقية وتعثُّرهم؛ إذ ركنوا إلى الكفار والأنظمة المستبدة، فوالوا أعداء الله تعالى، ولاذوا بهم، ولا يعقب ذلك إلا الصغار والخذلان .
قال - تعالى - : { لاَ تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا ءَاخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولاً } (الإسراء : 22) .
قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : « من أحبَّ في الله، وأبغض في الله، ووالى في الله، وعادى في الله؛ فإنما تُنال وَلاية الله بذلك، ولن يجد عبدٌ طعم الإيمان وإن كثرت صلاته وصومه حتى يكون كذلك، وقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا، وذلك لا يجدي على أهله شيئاً »[9] .
فكيف إذا كانت الصِّلات مع أعداء الله - تعالى - لأجل محاربة السنَّة وأهلها ؟!
قال ابن تيمية : ( والناس إذا تعاونوا على الإثم والعدوان أبغض بعضهم بعضاً، وإن كانوا فعلوه بتراضيهم، قال طاووس : ما اجتمع رجلان على غير ذات الله إلا تفرّقا عن تَقَالٍ « بغضاء » .. )[10] .
وقال أيضاً : ( وليعتبر المعتبر بسيرة نور الدين ( زنكي ) و صلاح الدين، ثم العادل، كيف مكّنهم الله وأيّدهم، وفتح لهم البلاد، وأذلَّ لهم الأعداء، لما قاموا من ذلك بما قاموا به، وليعتبر بسيرة من والى النصارى كيف أذلَّه الله - تعالى - وكبته )[11] .
والمقصود أن التوكل على غير الله تعالى، والركون إلى أعداء الله - تعالى - لا يخلِّف إلا الفشل والاندحار؛ فما لم يكن بالله لا يكون، وما لم يكن لن ينفع ولا يدوم، والله عز وجل لا يصلح عمل المفسدين .
وأحدث زنادقة المتصوفة الحج إلى ضريح أحمدو بامبا في السنغال، ويسمّون تلك البلدة « مكة الإفريقية »، ويقال : إن عدد الحجاج خلال العام المنصرم بلغ مليون حاج[12] !
كما أحدثوا الحج إلى كازاخستان، وسمّوه الحج الأصغر ! وأطلقوا عليه : مكة الثانية، وعللوا الحج إلى تركستان لأجل مشقة الحج إلى مكة وكثرة النفقة[13] ! هذه الزندقة البشعة امتداد لزندقة الحلاّج، إذ زعم أن من فاته الحج فإنه يبني في داره بيتاً ويطوف به كما يطوف ببيت الله الحرام، ويتصدَّق على ثلاثين يتيماً .. وقد أجزأه ذلك عن الحج، فاتفق العلماء على وجوب قتله، فقُتل بسيف الشرع سنة بضع وثلاثمائة من الهجرة[14] .
كما أنها زندقة تضاهي زندقة الروافض في الحج إلى قبر الحسين، وتفضيل كربلاء على الكعبة، وأن زيارة كربلاء يوم عرفة أفضل من سائر الأيام[15] .
إن المكر الكُبَّار من أجل حيلولة الأمة عن بيت الله الحرام، والسعي إلى تفريق اجتماعها، وصرف القلوب عن مهوى أفئدة المسلمين، وأفضل البقاع على الإطلاق :
لا يرجع الطرفُ عنها حين ينظرُها حتى يعودَ إليها الطرفُ مشتاقا
واتباع الشهوات والاستمتاع بالقاذورات والانفلات من اتِّباع الشرائع؛ هو ضربة لازب لا تفارق موالد الصوفية واحتفالاتهم، فضريح ( ابن حمدوش ) في المغرب حافل بالدعارة والفواحش والشذوذ[16] .. وضريح ( أبي حصيرة ) في مصر يشهده اليهود ويعمر بالرذائل والفجور[17]، والاحتفاء بالرقص والتعبد بالغناء والتمايل والقفز هو سبيلهم للتعريف بالإسلام في الغرب !
وقال أبو الوفاء ابن عقيل : ( نص القرآن على النهي عن الرقص؛ فقال - عز وجل - : { وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا } (الإسراء : 37)، وذمَّ المختال؛ فقال - تعالى - : { إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } (لقمان : 18)، والرقص أشد المرح والبطر .. وهل شيء يزري بالعقل والوقار ويخرج عن سمت الحلم والأدب أقبح من ذي لحية يرقص، فكيف إذا كانت شيبة ترقص وتصفِّق على وقاع الألحان والقضبان؛ خصوصاً إذا كانت أصوات نسوان ومردان ؟! وهل يحسن بمن بين يديه الموت والسؤال والحشر والصراط ثم هو إلى إحدى الدارين صائر أن يشمس[18] بالرقص كشمس البهائم ويصفق تصفيق النسوة ؟! )[19] .
إن هذا الصحو العارض للمتصوفة سيعقبه - بإذن الله تعالى - محو واندراس، فإن الله - تعالى - إذا أراد قطع بدعة أظهرها[20] .
ومن أسباب ظهور الحق ظهور المعارضين له[21] . وإن تربية الأمة على توحيد الله تعالى، والاعتصام بنصوص الوحيين، وتعظيم الشريعة واتِّباعها، وتحرير العقول من رقِّ الخرافة واستعباد شيوخ الطرقية، وهتك أستار التصوف، وكشف حمقه وسفهه، وبيان حكم الله - تعالى- في زنادقة المتصوفة .. كل ذلك ونحوه سبيل لمحوه وانقشاعه .
قال القاسم بن أحمد ( ت 1217هـ ) :
فدع التصوفَ واثقاً بحقيقة واحرصْ ولا يغررك لمعُ سرابهِ
للقوم تعبيرٌ به تسبى النُّهَى طرباً وتثني الصّب عن أحبابهِ
فيرون حق الغير غيرَ محرم بل يزعمون بأنهم أَوْلى بهِ
لبسوا المدارعَ واستراحوا جرأة عن أمر باريهم وعن إيجابهِ
خرجوا عن الإسلام ثم تمسكوا بتصوف فتستَّروا بحجابهِ
فأولئك القوم الذين جهادُهم فرضٌ فلا يعدوك نيل ثوابهِ[22]
(*) الصحو والمحو من مصطلحات الصوفية، فالصحوة عندهم هو الرجوع إلى الإحساس بعد الغيبة والسُّكْر، والمحو غيبة العقل وذهوله ! (ينظر : معجم الصوفية، لممدوح الزوبي، ص 242، 372)، والمقصود به ها هنا : صحوة التصوف من الرقاد والزوايا، وما يتبعه من محو وانطماس بعون الله - تعالى - وتوفيقه، فالعاقبة للتقوى .

---------------------------------
(1) انظر تفصيل ذلك في كتاب : التصوف بين التمكين والمواجهة، لمحمد بن عبد الله المقدي .
(2) صوفية الأرزاق هم الذين يقتاتون من الأوقاف، والأسوأ من ذلك الذين يقتاتون من سفارات الغرب والأنظمة المستبدة، وقد حكى محمد رشيد رضا - رحمه الله - أن أحد النقشبندية سئل عن سبب اختلاف أصحاب هذه الطرائق في عمائمهم وأورادهم مع دعواهم أن الغرض من سلوك كل طريقة منها معرفة الله - تعالى - وعبادته، قال : (تغيير شكل لأجل الأكل) ! (فتاوى محمد رشيد رضا : 6/2418)، وقد نقل الإعلام صورة مخزية من تكالب مشايخ الطرق على عضوية المجلس الأعلى للطرق الصوفية في مصر، وما وقع بينهم من تهارش ونزاع حاد آل إلى الطعن في تلك الانتخابات ! ينظر : موقع إسلام أون لاين 4 /1 /2008م، كما وقع صراع على مشيخة الطريقة القادرية في الجزائر، ينظر : موقع إسلام أون لاين 14/أبريل/2008م .
(3) مجلة الصوفية الإلكترونية، العدد السابع، عن جريدة اللواء 27 / 11 /2007 م، ومجلة الصوفية، العدد الثامن، عن مجلة آخر ساعة 23/ إبريل/2008م .
(4) مجلة الصوفية الإلكترونية، العدد السابع، عن صحيفة دار الحياة 12 / 12 / 2007م .
(5) مجلة الصوفية الإلكترونية، العدد السابع، عن موقع : إسلام أون لاين 6 / 1 / 2008م .
(6) مجلة الصوفية الإلكترونية، العدد السابع .
(7) مجلة الصوفية الإلكترونية، العدد السابع، عن موقع : إسلام أون لاين 2 / 12 / 2007م .
(8) مجلة الصوفية الإلكترونية، العدد الثامن، عن صحيفة هسبريس المغربية 27/مارس/ 2008م .
(9) أخرجه ابن المبارك في الزهد (353) .
(10) مجموع الفتاوى : 15/128 .
(11) مجموع الفتاوى : 28/643 .
(12) مجلة الصوفية الإلكترونية، العدد السابع، عن وكالة الأخبار الموريتانية، 30 /12 /2007م .
(13) مجلة الصوفية الإلكترونية، العدد السابع .
(14) انظر : جامع الرسائل، لابن تيمية : 1/189، ومجموع الفتاوى، لابن تيمية : 2/480 - 487، 35/108 - 119 .
(15) انظر : أصول الشيعة الإثني عشرية، لناصر القفاري : 2/453-477 .
(16) مجلة الصوفية الإلكترونية، العدد السابع، عن موقع : إسلام أون لاين 28 / 11 /2007م .
(17) مجلة الصوفية الإلكترونية، العدد السابع، عن المصري اليوم 7 / 12 /2007 م .
(18) شَمَس : جَمَح ونفر .
(19) تلبيس إبليس، لابن الجوزي، ص 289 .
(20) قال سحنون - رحمه الله - : (أما علمت أن الله إذا أراد قطع بدعة أظهرها)، ترتيب المدارك، لعياض : 2/611 .
(21) قال ابن تيمية : (من أسباب ظهور الإيمان : ظهور المعارضين لهم من أهل الإفك)، الجواب الصحيح : 1/13 .
(22) الصوارم الحداد القاطعة لعلائق مقالات أرباب الاتحاد، للشوكاني، ص 70 - 71 .
--------------------------------------------
**{م:البيان}
-----------
رد مع اقتباس
  #13  
قديم 01-20-2015, 09:31 AM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود غير متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 56,039
ورقة منهج في دراسة التصوف

منهج في دراسة التصوف
ـــــــــــــــ

(لطف الله بن عبد العظيم خوجه)
ـــــــــــــــــ

29 / 3 / 1436 هــ
20 / 1 / 2015 م
ـــــــــــــ




إن للإسلام أصولاً وأحكاماً معلومة متميزة من التزم بها فهو كامل الإسلام؛ فإن أخل بشيء من أحكامه نقص من إسلامه بقدر ذلك، من غير أن ينتفي عنه وصف الإسلام، وإن أخل بأصله عامداً عن علم ورضى وأظهر ذلك انتفى عنه الوصف كلياً، فإن لم يُظهر فهو منافق له اسم الإسلام الظاهر .
ومنه يتبين أن الإسلام في أصوله وأحكامه وخصائصه ثابت لا يتغير، والمنتسبون إليه يتغيرون ويختلفون؛ فمنهم الكامل، ومنهم دون ذلك، ومنهم المفرط، ومنهم من ليس له من الإسلام إلا الاسم .
وهكذا كل ملة ونحلة قد ثبتت أصولها واستقرت : قد لا تتغير كما يتغير أهلها ويتفاوتون بحسب تطبيقهم لأصولها وفروعها .
والتصوف فكرة ونحلة وملة قديمة، موجودة قبل الإسلام، أصولها وأحكامها معروفة مستقرة ثابتة، بإقرار كافة الباحثين، من متصوفة وغير متصوفة ومستشرقين، والمنتسبون إليه منهم المتحقق بالتصوف، ومنهم دون ذلك، ومنهم من ليس له إلا الاسم دون الحقيقة .
وبناء على هذا : إن أردنا التعرف على دين أو نحلة أو فكرة ما، فعلينا أن نعتمد مصادرها التي منها نبعت وظهرت واستقرت، وبذلك نفهم حقيقة الفكرة كما هي، ولا يصح أن نلجأ إلى المنتسبين فنعتمدهم مصدراً؛ إذ يتفاوتون في الالتزام والتحقق، كما يندر أن تكون جميع حركاتهم مردها اتباع قواعد الفكرة :
- فالإسلام مثلاً : لا تُعرف حقيقته كما هي إلا من خلال القرآن والسنة . أما محاولة معرفة ذلك من خلال ما يصدر من المسلمين فهو محض الخطأ؛ فليسوا كلهم يطبقون الإسلام كما هو، وليس كل ما يصدر منهم يكون بالضرورة عن تطبيق لتعاليم الإسلام؛ إذ الإنسان في طبعه اقتراف الحسنة والسيئة .
- وكذلك التصوف لا يمكن معرفة حقيقته كما هي إلا بالوقوف على مصادره الأصلية، وهو الذي نشأ وتأسس واستقر في الثقافات القديمة، بشهادة كافة الباحثين .
أما الاعتماد على المنتسبين المقلدين من المسلمين فخطأ منهجي؛ فليسوا كلهم يطبقون التعاليم كما هي، وليس كل ما يصدر منهم يكون بالضرورة عن التزام بالتصوف .
إن من الخطأ في دراسة التصوف : أن يُنظر إلى الإمام الصوفي في الإسلام على أنه فكرة صوفية في كل ما يصدر عنه !! .. إن معنى ذلك أن يلصق بالتصوف ما ليس منه، مما قد يناقضه، كقولهم : « علمنا مقيد بالكتاب والسنة »[1]، فهذه المقولة توافق الإسلام؛ لأن المعرفة في الإسلام مصدرها من خارج النفس، من الوحي، لكن لا توافق التصوف؛ لأن المعرفة في التصوف مصدرها من داخل النفس، من الذوق والكشف والمنام؛ فعندما يطلق أحد الصوفية هذه المقولة فمن الجناية نسبة هذا الأصل في التلقي إلى التصوف؛ لأنه يتناقض معه كلياً، والواجب هنا : وضع كل تصرف يصدر من الصوفية في سياقه الخاص به الموافق لأصوله، بدون أن تحشر جميعها في سياق واحد ولو تشتتت أصولها؛ فالقائل : « علمنا مقيد بالكتاب والسنة » إنما يتمثل الإسلام بقوله هذا، فلا تجوز إذن تزكية التصوف به، نعم ! قد يكون باباً لتزكية قائله، أو دفع تهمة عنه، أو إحسان ظن به، أو الاعتذار له، لكن دون زيادة . ولذا فإن المنهج الصحيح هو التفريق بين الفكرة والمنتسبين إليها؛ فالفكرة الصوفية باطناً وظاهراً مخالفة للإسلام، أما المنتسبون فمنهم كذلك، ومنهم دون ذلك، ومنهم ليس كذلك، معذور بجهل، أو قلة بصيرة وإدراك، أو شبهة، ونحو ذلك .
وعلى هذا فلا يصح الاحتجاج بأحوال المتصوفة لتزكية التصوف، كأن يقال :هذا إمام صوفي كان مجاهداً، وهذا كان محدِّثاً، وهذا نصر الله به الإسلام، وهذا قال كذا من الحق .. إلخ؛ فكيف تذمون التصوف ؟!
فكل هذه الأخبار صحيحة، وفي الطوائف الأخرى أمثلة مثلها، لكن ليس هذا هو محل النزاع، إنما النزاع في الفكرة ذاتها؛ فهل الإسلام يقبل أن يضم إلى أصوله القول بالحلول والاتحاد والوحدة، تحت أي ظرف كان ؟
فما يكون من متصوفة الإسلام من أعمال صادقة فمردها إلى تعاليم الإسلام، لا للتصوف، وهم في ذلك مسلمون مستنون بسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، ليسوا متصوفة؛ فالتصوف لا يأمر بجهاد، ولا بطلب علم، ولا يجادل في هذا إلا من لا يعرف حقيقة التصوف كما هي، ولذا كان من الخطأ الفاحش نسبة هذه الأعمال ذات المقامات العالية إلى التصوف .
هذا هو المنهج العلمي : ( معرفة حقيقة الفكرة من المصدر، لا من المنتسبين ) .
غير أن طائفة من الباحثين في التصوف لم تراعِ هذا المنهج، فاختل تقويمها وتحقيقها، ذلك أنها عمدت إلى أئمة التصوف في الإسلام فجعلتهم مصدراً لمعرفة صورة الفكرة الصوفية، فنسبت إلى التصوف كل ما صدر منهم، ولما كان أئمة التصوف يمزجون، في أقوالهم وأفعالهم، بين تعاليم التصوف الذي استمدوه من الثقافات القديمة، وتعاليم الإسلام الذي استمدوه من محيطهم، اختلط الأمر على هؤلاء الباحثين، فظنوا ذلك المزيج هو الصورة الحقيقية للتصوف[2]، وقد كان هذا خطأ ظاهراً؛ إذ بذلك جمعوا بين النقيضين؛ حيث إن أصل الإسلام التوحيد، وأصل التصوف الوحدة، وتوحيد الله تعالى ووحدة الوجود نقيضان لا يجتمعان، وهذا مما حمل المستشرق نيكلسون على إظهار تعجبه من تقبل المسلمين للمتصوفة وهذه عقيدتهم[3] .
وقد ترتب على ذلك : الخطأ في تصوير الإسلام نفسه؛ حيث أُلحق به ما ليس منه مما يناقضه، وكذلك الخطأ في تصوير التصوف كما هو؛ حيث أُدرجت أصوله قسراً تحت معاني النصوص الشرعية المخالفة لها، ولما كانت مناقضة التصوف للإسلام واضحة لا تخفى، فقد اضطر طائفة من الباحثين كانوا أمثل طريقة من غيرهم، محاولة للتوفيق والجمع أن يجعلوا التصوف على قسمين : إسلامي، وفلسفي . فنسبوا إلى الفلسفي كل ما يناقض الإسلام، من الحلول والاتحاد والوحدة، وما عدا ذلك من الزهد والذكر والمجاهدة جعلوه من الإسلام، وهكذا قسموا الفكرة الواحدة إلى نقيضين، مخالفين بذلك العقل والواقع[4] .
وعلى ذلك : فالمنهج الصحيح لدراسة التصوف يكون وفق الطريقة التالية :
1 - حصر المنتسبين لهذه الطريقة، ممن عرف بالتصوف وأقر على نفسه بالانتساب إليه، دون من لم يقر بذلك؛ إذ قد أُلحق بالتصوف من لم يعرفه أصلاً .
2 - جمع ما نسب إليهم من أقوال وأفعال، سواء في كتبهم أو مما نقل على ألسنتهم، لأجل فحصها وتحليلها ومعرفة ما تدور عليه من معنى أو معانٍ .
3 - بعد تحديد المعاني واتجاهات كل إمام صوفي، تعقد مقارنة بينها وبين أصول الإسلام وأحكامه؛ فما وافق الإسلام فيلحق به، وما خالفه في شيء عزل جانباً .
4 - ينظر في هذا المعزول، للدراسة والتحليل، لمعرفة حقيقته أو حقائقه، ووسائله وغاياته، ولا بد في هذه العملية من الدقة والتمهل، لتمييز الأفكار والأصول منها خاصة، حتى لا تختلط بغيرها لمجرد شبه جزئي أو عارض .
5 - إذا عرفت حقيقة الفكرة ومعانيها، حينذاك تعرض على أدلة الشريعة، لمعرفة موقفها، وحكمها، ودرجة ردها، وهل هي من المكروهات ؟ أو من الكبائر ؟ أو من الكفر ؟
6 - هنا نصل إلى الحكم على الفكرة؛ فبعد معرفة حقيقتها، وعرضها على الأدلة الشرعية نخلص إلى الحكم النهائي على الفكرة . أما المنتسبون إليها فيؤجل إصدار الأحكام عليهم بالتعيين، للحاجة إلى معرفة تحقق الشروط وانتفاء الموانع .
7 - بعد ثبوت أجنبية الفكرة عن الإسلام، تأتي المرحلة الأخيرة في الدراسة وهي : البحث عن مصادر هذه الفكرة الدخيلة، فينظر في كتب المقالات المتعلقة منها بمقالات أهل الأديان والملل القديمة قبل الإسلام تحديداً، لمعرفة موضوعها وأصولها، ويتم ذلك عن طريق ما يلي :
أ - حين تتردد في تلك الثقافات كلمة « صوفية » أو اشتقاقاتها، فالبحث يقتضي تتبع هذه الكلمة ومعرفة كل ما ورد فيها من معانٍ، فهي المقصودة بالبحث أصالة .
ب - بعد حصر تلك المعاني والأصول، تعقد المقارنة بينها وبين الأفكار التي وردت عن أئمة التصوف في هذا المعنى لمعرفة مدى موافقتهم لأصول وفروع الفكرة في القديم، وما زادوا فيه وما نقصوا .
8 - بهذا تتم الدراسة من جميع جوانبها : عرضاً، ونقداً، ورداً إلى المصادر والجذور . تلك مسألة، وأخرى تتعلق بنسبة الأقوال الغالية إلى أئمة التصوف .. فقد كان لثناء الإمام ابن تيمية على بعض أئمة التصوف أثراً في المعظمين لعلمه وجهاده، حملهم على التشكيك في صحة نسبة الأقوال المنحرفة إلى أولئك الأئمة، وترجيح عدالتهم وصحة طريقتهم، وبنوا على ذلك صحة تقسيم التصوف إلى :
- معتدلٍ : وهم رجال القشيري والغزالي ونحوهم، على حد قول أبي الوفا التفتازاني[5] .
- وغالٍ : يمثله الذين ثبت عنهم القول بالحلول .
وقد استفاد المتصوفة من موقف الإمام ابن تيمية لتخفيف حدة النقد، وبعضهم جعله من المتصوفة لأجل موقفه هذا، وبالغ آخرون فزعموا أنه لا خلاف بين التصوف والسلفية !! .. فهنا مسألتان جديرتان بالبحث :
- المسألة الأولى : التحقيق في نسبة الأقوال الغالية إلى أئمة التصوف .
- المسألة الثانية : تحليل موقف الإمام ابن تيمية من التصوف .
* المسألة الأولى : التحقيق في نسبة الأقوال الغالية إلى أئمة التصوف .
الأقوال المنسوبة إلى أحد أئمة التصوف : إما أن تكون واردة في كتاب للإمام نفسه، أو نقله عنه أحد المصنفين . فإن كانت في كتاب له، فإما أن يكون الكتاب صحيح النسبة إليه فالقول ثابت، وإلا فلا .
وإن كان نقله عنه أحد المصنفين في التصوف، فإما أن يكون تلقاه منه مباشرة فالقول ثابت حينئذ، إذا كان المصنف ثقة، أو بوساطة، فإن كانوا ثقات فالقول ثابت، وإلا فلا، وكذا إن رواه بغير سند .
فالحاصل أن نسبة القول إلى أحد الأئمة تعتبر ثابتة :
إذا كان في كتاب له، قاله على سبيل التقرير . أو إذا كان الناقل ثقة، أو النقلة ثقات .
- فيما يتعلق بالحالة الأولى : فقد صنف الأئمة القدماء في التصوف، كأبي سعيد الخراز، و الحلاج، و الطوسي، و الكلاباذي، و القشيري، و السلمي، و أبي طالب المكي، و الحكيم الترمذي، و الهروي على تفاوت بينهم كتباً ورسائل لم يشكك أحد في نسبتها إليهم، لا من المتصوفة ولا غيرهم، فيها كل الأقوال والأفكار الغالية التي تمثل أصول التصوف؛ فهي إذن وثيقة صوفية تثبت أن مصنفي تلك الكتب يعتقدون بكل تلك الأقوال والأفكار المنحرفة؛ فإنهم ما علقوها على سبيل الحكاية، كلاَّ، بل على سبيل التقرير والتأصيل، ما لم يرد ما يخالفه .
ومعلوم أن مقام التقرير والتأصيل ليس كمقام الإخبار والنقل المحض؛ فالذي ينقل الأقوال في حالة التأصيل والتقرير لفكر ما، وهو منتسب إلى ذلك الفكر، لا شك هو مؤمن معتقد بتلك الأقوال .
- فيما يتعلق بالحالة الثانية : فإن الملاحظ أن كثيراً من أقوال الصوفية ليست بأسانيد أصلاً، وما كان منها بأسانيد قد يكون البحث في صحتها مفيداً، من حيث تبرئة بعض الأئمة مما نسب إليهم من القول الغالي في حال بطلان السند؛ غير أنه لا يفيد في تبرئة الفكر الصوفي من الانحراف، بعدما امتلأت مصنفات التصوف بهذه الأقوال على جهة التقرير والتأصيل؛ وذلك كافٍ في الحكم على التصوف، ووصفه بالوصف الذي يستحقه بحسب ما في تلك الأقوال من معانٍ .
غير أن مما قد يحتج به من لا يبرئ الأئمة أنفسهم مما نسب إليهم من الأقوال الغالية : ما جاء في تراجمهم من تعرضهم لإنكار العلماء، حتى لا تكاد تجد إماماً صوفياً إلا وقد تعرض للإنكار عليه من أهل العلم . أفلا ينم ذلك عن صدق ما نسب إليهم ؟[6] .
وفي كل حال نقول : إن الحكم والوصف إنما هو في حق الفكرة لا الأشخاص؛ فالفكر الصوفي ليس من الإسلام في شيء، وما عليه الفكر الصوفي من حق :
- إما أن يكون حقاً متفقاً عليه عند جميع العقلاء، سواء كانوا مؤمنين أو كافرين، كالصدق وعدم الكذب، وتوقير الكبير والضعيف، وعدم الغش، أو السرقة، أو الخيانة، ونحو ذلك ..
- وإما أن يكون أصله مما جاء به الإسلام، كالاجتهاد في العبادات .. ثم إن الصوفية زادوا فيها .
لكن ذلك لا يسوغ تصحيح التصوف وقبوله؛ فإن الاشتراك في الوصايا الإنسانية، أو في بعض ما جاءت به الشريعة لا يلزم منه التصحيح والقبول، إلا بشرط الاشتراك في الأصول الأساسية، وأصل دين الإسلام هو التوحيد الخالص لله وحده في : ربوبيته، وإلهيته . ومخالفة أية طائفة لهذا الأصل يقطع ما بينها وبين الإسلام من صلة، ولو اشتركت معه في أصل الزهد والذكر والمجاهدة .. إلخ .
* المسألة الثانية : تحليل موقف ابن تيمية من التصوف .
في تحليل موقف ابن تيمية لا بد من ملاحظة أن ثناءه لم يكن على الفكرة الصوفية، بل على بعض الأئمة، وليس كلهم، ثم لم يكن ثناؤه عليهم بإطلاق، بل بكلمات صدرت عنهم تؤكد وجوب التقيد بالكتاب والسنة، ومن موقف كهذا لا يمكن انتزاع تزكية للفكرة والمذهب؛ فالثناء على الأشخاص لا يلزم منه تصحيح المذهب، وقد كان هذا منهجه، فردوده على المتصوفة وغيرهم من الفرق لم يكن يمنعه من التنويه والإشادة بما أصابوا فيه .
وهذا مفيد لعامة المتصوفة الذين جعلوا من الشيخ إماماً لا يخالفونه في شيء، ولو خالف الشرع؛ فاستثمار مثل هذه الكلمات لهدم هذا الصنم الصوفي المسمى بالشيخ، والعود بالمتصوفة إلى التقيد بالكتاب والسنة مكسب كبير، يدل على فطنة هذا الإمام، حيث استطاع نقض هذه الفكرة الغالية من الداخل؛ فالأتباع لا يسمعون إلا للمشايخ، فلِمَ لا تستثمر كلماتهم في نقض مذهبهم ؟
ومما يؤكد أن ابن تيمية لم يقصد بثنائه على بعض الأئمة تزكية المنهج الصوفي : ردوده على البسطامي و الحلاج و ابن عربي و ابن الفارض و ابن سبعين و التلمساني وغيرهم، من الذين بينوا حقيقة التصوف؛ فالفكرة الصوفية كانت محل نقد الإمام، في قولهم : بالتشبه بالإله، والفناء، والحلول، والاتحاد، والوحدة[7] . حتى الهروي صاحب ( منازل السائرين ) كان محل نقد الإمام؛ هذا مع كونه من كبار أئمة المتصوفة، ومواقفه في باب الصفات معروفة[8] .
وبعد : فإن أهمية نقد الفكر الصوفي تأتي من جهتين :
الأولى : تتعلق بأصل الدين الأعظم الذي به أرسلت الرسل، وأنزلت الكتب، ولأجله خلق الجن والإنس : ألاَّ يعبد إلا الله وحده لا شريك له، والإعراض عن عبادة ما سواه؛ فالرد على المتصوفة في هذا الباب تحقيق لهذا الأصل، الذي خالفوه وعارضوه .
الثانية : الحضور الكبير للتصوف في العالم الإسلامي؛ فما من بلد إلا ولهم فيه وجود، وهم في بعضها السواد الأعظم، ونعني بذلك كل من انتسب إلى التصوف ولو ظاهراً بالاسم؛ فإن من المتيقن أن الذين يدركون حقيقة هذا الفكر من الصوفية أنفسهم قليلون . وأما أكثرهم فلا يعرفون منه إلا الموالد والذكر، دون القضايا الفلسفية التي تمثل أصول الفكرة .
إن كل واحد من هذين الأمرين، منفرداً، سبب كافٍ للكلام في التصوف عرضاً ونقداً؛ فكيف إذا انضم بعضهما إلى بعض ؟
ومن هذا كانت العناية بدراسة التصوف، ومعرفة المنهج الصحيح لذلك، ولعلي أسهمت ولو يسيراً في فتح هذا الباب . والله الموفق .

---------------------------------------
(1) من قول الجنيد، انظر : الرسالة القشيرية، 1/117 - 118 .
(2) كان هذا سبيل كل من قسم التصوف إلى : إسلامي، وفلسفي، وهو تقسيم فاسد؛ لأنه يجعل من الفكرة الواحدة جامعة للنقيضين، وهو محال، فإما إيمان وإما كفر، أما الجمع بينهما فمحال .
(3) قال : (ولعله أن يقال : كيف يمكن لدين أقامه محمد على التوحيد الخالص المتشدد أن يصبر على هذه النحلة الجديدة، بله أن يكون معها على وفاق ؟ وإنه ليبدو أن ليس في الوسع التوفيق بين الشخصية الإلهية المنزهة، وبين الحقيقة الباطنة الموجودة في كل شيء، التي هي حياة العالم وروحه، وبرغم هذا فالصوفية بدل أن يطردوا من دائرة الإسلام، قد تقبلوا فيها وفي تذكرة الأولياء شواهد على الشطحات الغالية للحلولية الشرقية)، [الصوفية في الإسلام، ص 31]، مع ملاحظة أن هناك تجاوزات في تعبيرات المستشرق كقوله (التوحيد المتشدد)، وقوله (الشخصية الإلهية) .
(4) انظر مثلاً كتاب : (مدخل إلى التصوف الإسلامي) لأبي الوفا الغنيمي .
(5) انظر كتابه : (مدخل إلى التصوف الإسلامي)، ص 19 .
(6) انظر اللمع للطوسي، باب : ذكر جماعة المشايخ الذين رموهم بالكفر، ص 497 .
(7) انظر : المجلد الثاني، والعاشر، والحادي عشر، من مجموع الفتاوى، فأما الثاني فقد خصص للرد على الغلاة .
(8) انظر : الفتاوى، 5/485 .

---------------------------------
رد مع اقتباس
  #14  
قديم 01-20-2015, 09:37 AM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود غير متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 56,039
ورقة هذه هي الصوفية

هذه هي الصوفية
ــــــــ

(لطف الله بن عبد العظيم خوجه)
ـــــــــــــــ

29 / 3 / 1436 هـ
20 / 1 / 2015 م
ـــــــــــ




مما لا يُختلف فيه : أن الفكر الصوفي حادث في الإسلام .

فقد مر عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وجيل الصحابة - رضوان الله عليهم -، والتابعين، وتابعيهم - رحمهم الله -، دون أن يكون لهذا الفكر أثر واضح، حتى حدث وظهر في نهاية القرن الثاني، والصوفية يقرون بهذا، لكن من جهة اللفظ دون المعنى . يقول النواوي : « فأما كلمة التصوف؛ فقد أجمع الكاتبون في هذا المقام على : أنها من الكلمات الاصطلاحية التي طرأت في أواخر القرن الثاني للهجرة »[1] .
فالصوفية يقرون بأن مصطلح ( الصوفية ) حادث، لكنهم يقولون : الأحوال الصوفية موجودة منذ عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، تمثلت في أهل الصُّفَّة .
ولأجله ذهب بعضهم إلى أن أصل التصوف مشتق من ( الصُّفّة )، وهو مكان كان يأوي إليه الفقراء في مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - . ومن ترجم منهم لأئمة التصوف : جعل أبا بكر، و عمر، و عثمان، و علياً - رضوان الله عليهم - أوائل الصوفية، ونسب إليهم كلمات في المقامات والأحوال .
والوصف المشترك بين جميع من نُسبوا إلى التصوف من أئمة القرون الثلاثة الأولى هو : الزهد، والمجاهدة . الزهد في متاع الحياة الدنيا، ومجاهدة النفس لتهذيبها، ونفي عيوبها .
ونتيجة هذا : تمثل التصوف في الزهد والمجاهدة؛ فكل زاهدٍ مجاهدٍ متصوفٌ، ومن له حال في الزهد والمجاهدة فهو : صوفي . هكذا قال بعضهم .
لكنهم لم يتفقوا على رأي واحد في أصل كلمة ( صوفية ) واشتقاقها؛ فما قرره بعضهم نقضه آخرون، وقد رجعوا بالكلمة إلى أصول ستة أو سبعة، هي :
1 - الصُّفّة :
وبهذا قال أبو عبد الرحمن السلمي : « التصوف مأخوذ من أهل الصُّفَّة »[2] .
وقال الكلاباذي : « وقال قوم : إنما سموا : صوفية . لقرب أوصافهم من أوصاف أهل الصفة الذين كانوا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - »[3] .
وقال السهروردي : « وقيل : سُموا صوفية؛ نسبةً إلى الصفَّة .. وهذا وإن كان لا يستقيم من حيث الاشتقاق اللغوي، ولكنه صحيح من حيث المعنى؛ لأن الصوفية يشاكلهم حال أولئك، لكونهم مجتمعين متآلفين، متصاحبين لله، وفي الله، كأصحاب الصفَّة »[4] .
2 - الصفاء :
قال الكلاباذي : « قالت طائفة : إنما سميت الصوفية صوفية لصفاء أسرارها، ونقاء آثارها .
وقال بشر بن الحارث : الصوفي من صفا قلبه لله »[5] .
وقال السهروردي : « قيل : كان الاسم في الأصل صفوي، فاستثقل ذلك فجعل صوفياً »[6] .
وذكر نيكولسون : أن جمهور الصوفية ذهبوا إلى أن الصوفي مشتق من الصفاء، وأنه أحد خاصة الله، الذين طهر الله قلوبهم من كدورات الدنيا[7] .
3 - الصف الأول :
قال الكلاباذي : « وقال قوم : إنما سموا صوفية؛ لأنهم في الصف الأول بين يدي الله - عز وجل - بارتفاع هممهم إليه، وإقبالهم عليه، ووقوفهم بسرائرهم بين يديه »[8] .
وقال السهروردي كقول الكلاباذي : « سموا صوفية؛ لأنهم في الصف الأول بين يدي الله - عز وجل - بارتفاع هممهم، وإقبالهم على الله- تعالى - بقلوبهم، ووقوفهم بسرائرهم بين يديه »[9] .
4 - الصوف :
يقول الطوسي : « نُسبوا إلى ظاهر اللبس، ولم ينسبوا إلى نوع من أنواع العلوم والأحوال التي هم بها مترسمون؛ لأن لبس الصوف كان دأب الأنبياء - عليهم السلام -، والصديقين، وشعار المساكين المتنسكين »[10] .
ويقول السهروردي : « ذهب قوم إلى أنهم سموا صوفية نسبة لهم إلى ظاهر اللبسة؛ لأنهم اختاروا لبس الصوف لكونه أرفق، ولكونه كان لباس الأنبياء - عليهم السلام - . فكان اختيارهم للبس الصوف لتركهم زينة الدنيا، وقناعتهم بسد الجوعة، وسترة العورة، واستغراقهم في أمر الآخرة، فلم يتفرغوا لملاذ النفوس وراحتها، لشدة شغلهم بخدمة مولاهم، وانصراف همهم إلى أمر الآخرة، وهذا الاختيار يلائم ويناسب من حيث الاشتقاق؛ لأنه يقال : تصوَّف؛ إذا لبس الصوف، كما يقال : تقمَّص؛ إذا لبس القميص »[11] .
5 - صوفة :
ذكر ابن طاهر المقدسي القيسراني بسنده إلى الحافظ أبي محمد عبد الغني بن سعيد المقدسي قال : « سألت وليد بن القاسم : إلى أي شيء نسب الصوفي ؟ فقال : كان قوم في الجاهلية يقال لهم صوفة، انقطعوا إلى الله - عز وجل -، وقطنوا الكعبة؛ فمن تشبه بهم فهم الصوفية .
قال عبد الغني : هؤلاء المعروفون بصوفة، هم ولد الغوث بن مر »[12] .
قال ابن الجوزي : « كانت النسبة في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الإيمان والإسلام، فيقال : مؤمن مسلم . ثم حدث اسم زاهد وعابد، ثم نشأ أقوام تعلقوا بالزهد والتعبد، فتخلوا عن الدنيا، وانقطعوا إلى العبادة، واتخذوا في ذلك طريقة تفردوا بها، وأخلاقاً تخلقوا بها، ورأوا أن أول من انفرد به بخدمة الله - سبحانه وتعالى - عند بيته الحرام، رجل يقال له : صوفة . واسمه الغوث بن مر، فانتسبوا إليه، لمشابهتهم إياه في الانقطاع إلى الله - سبحانه وتعالى -، فسُموا بالصوفية »[13] .
ثم ذكر أثر عبد الغني المقدسي الآنف الذكر، ثم قال : « وبالإسناد إلى الزبير بن بكار قال : كانت الإجازة بالحج للناس من عرفة إلى الغوث بن مر بن أدّ بن طابخة، ثم كانت في ولده، وكان يقال لهم : صوفة . وكان إذا حانت الإجازة قالت العرب : أجز صوفة . قال الزبير : قال أبو عبيدة : وصوفة وصوفان . يقال : لكل من ولي من البيت شيئاً من غير أهله، أو قام بشيء من أمر المناسك، يقال لهم : صوفة وصوفان .
قال الزبير : حدثني أبو الحسن الأثرم عن هشام بن محمد بن السائب الكلبي قال : إنما سمي الغوث بن مر صوفة؛ لأنه ما كان يعيش لأمه ولد، فنذرت لئن عاش لتعلقن برأسه صوفة ولتجعلنَّه ربيط الكعبة، ففعلت، فقيل له : صوفة، ولولده من بعده »[14] .
6 - صوفانة :
قال ابن الجوزي : « وقد ذهب إلى أنه من الصوفانة، وهي بقلة رعناء قصيرة، فنُسبوا إليها لاجتزائهم بنبات الصحراء، وهذا أيضاً غلط؛ لأنه لو نُسبوا إليها لقيل : صوفاني .
وقال : آخرون : هو منسوب إلى صوفة القفا . وهي الشعيرات النابتة في مؤخره، كأن الصوفي عطف به إلى الحق، وصرفه عن الخلق »[15] .
7 - النسبة إلى جميع ما سبق : الصف الأول، والصُّفَّة، والصوف، والصفاء :
نحا إلى هذا الرأي الكلاباذي؛ حيث صحح نسبة الصوفية إلى جميع ما ذكر باعتبار المعنى، وإن كان يقر باستحالة ذلك لغة، قال :
- « وأما من نسبهم إلى الصُّفَّة والصوف؛ فإنه عبر عن ظاهر أحوالهم؛ وذلك أنهم قوم قد تركوا الدنيا .
- ومن نسبهم إلى الصفة والصف الأول؛ فإنه عبر عن أسرارهم وبواطنهم .
- فقد اجتمعت هذه الأوصاف كلها، ومعاني هذه الأسماء كلها في أسامي القوم وألقابهم، وصححت هذه العبارات، وقربت هذه المآخذ .
وإن كانت هذه الألفاظ متغيرة في الظاهر؛ فإن المعاني متفقة :
- لأنها إن أخذت من الصفاء والصفوة كانت : صفوية .
- وإن أضيفت إلى الصف والصُّفَّة، كانت : صَفية، وصُفِّية .
- ويجوز أن يكون تقديم الواو على الفاء في لفظ الصوفية[16]، وزيادتها في لفظ : الصَفية . والصُفِّية إنما كانت من تداول الألسن .
- وإن جعل مأخذه من الصوف، استقام اللفظ، وصحت العبارة من حيث اللغة .
- وجميع المعاني كلها من التخلي عن الدنيا، وعزوف النفس عنها، وترك الأوطان ولزوم الأسفار »[17] .
وصنيع الكلاباذي ليس بغريب على النهج الصوفي؛ فقد رأيناه في كلام السهروردي حينما قال : « قيل : كان الاسم في الأصل صفوي، فاستثقل ذلك فجعل صوفياً »[18] .
والملاحظ في كلامه افتراض أن أصل الكلمة هي :
- صَفيّة : من الصف .
- وصُفِّيّة : من الصُّفَّة .
- وصفوية : من الصفاء .
وإنما انقلبت إلى ( صوفية ) بسبب تداول الألسن، حيث زيدت الواو في : صَفيّة، وصُفِّيّة .
وتبادل الواو والفاء المواقع في : صفوية .
وهذا قول يحتاج إلى دليل، ولم يستند إلى شيء، ولم أره لغيره .
* نقد الصوفية لهذه التعريفات :
أكثر هذه الأقوال رواجاً : النسبة إلى الصفاء؛ فقد ذكر ( نيكلسون ) : أن مقابل كل تعريف ينسب الصوفية إلى الصُّفَّة اثنا عشر تعريفاً ينسبها إلى الصفاء؛ وذلك بالنظر في تعريفات الأئمة الصوفية، في المدة بين عام 200 إلى 440 هـ، وقد نقلها في كتابه، ثم قال : « يتبين من النظر في التعريفات أن الزمن الذي وضعت فيه يكاد يقرب من قرنين ونصف؛ لأن أولها هو تعريف معروف الكرخي المتوفى سنة 200هـ، وآخرها تعريف أبي سعيد بن أبي الخير المتوفى سنة 440 هـ، ويتبين أيضاً أنها تعريفات من أنواع مختلفة :
- إذ منها الثيوسوفي المتصل بأحوال الصوفية .
- ومنها المتصل بوحدة الوجود .
- كما أن منها الأخلاقي اللغوي، وهو ما أشبه بالحكم .
وليس في عصرنا الحاضر من ينكر اشتقاق كلمة الصوفي من الصوف، ولكن الناظر في التعريفات التي ذكرناها سيظهر له في وضوح أن الوفية أنفسهم لم يأخذوا بهذا الرأي؛ فإنا نجد في مقابل كل تعريف ينسب الصوفية إلى لبس الصوف، اثني عشر تعريفاً، يشير إلى اشتقاق كلمة الصوفي من الصفاء »[19] .
فهذا ما اشتهر في تعريفات من تقدم من الأئمة المتصوفة : النسبة إلى الصفاء . فهو التعريف الشائع المشهور . أما مَنْ بعدَهم فقد صاروا إلى ترجيح النسبة إلى الصوف، على الرغم من أن أئمة الصوفية لم يأبهوا لهذا الرأي، كما ذكر ( نيكلسون ) آنفاً، وكما يذكر ( القشيري ) و ( الهجويري ) .
ثم تأتي في المرتبة بعدهما النسبة إلى الصُّفَّة وإلى الصف الأول؛ فقد قال بها جمع من المتقدمين، لكن يبدو أن القائلين بالنسبة إلى الصفة أكثر .
وأما النسبة إلى الصوفة، فهي تأتي على معنيين :
- الأول : نسبة إلى رجل يدعى : صوفة . وهو الغوث بن مر بن أدّ .
- الثاني : نسبة إلى صوفة القفا، وهي : شعيرات مهملة في قفا الرأس .
فهذه النسبة، والنسبة إلى الصوفانة : بقلة تنبت في الصحراء قد ذكرت، لكن ليس على ألسنة المتصوفة، وليس لها اعتبار ثقل يوازي الأقوال الأربعة الأولى، وإن كانت الأربعة فيما بينها متفاوتة، على ما سبق تفصيله .
ويلاحظ أن جميع النسب السابقة لا تصح لغة، باعتراف أئمة التصوف، وإن كان ثبوتها أو بطلانها لغة لا تشترط فيها شهادتهم، بل يرجع إلى اللغة، غير أن إقرارهم مفيد في كل حال .
يقول القشيري : « هذه التسمية غلبت على هذه الطائفة، فيقال : رجل صوفي . وللجماعة : صوفية . ومن يتوصل إلى ذلك، يقال له : متصوف .
وللجماعة : المتصوفة .
وليس يشهد لهذا الاسم من حيث العربية : قياس ولا اشتقاق . والأظهر فيه : أنه كاللقب .
- فأما قول من قال : إنه من الصوف؛ ولهذا يقال : تصوَّف؛ إذا لبس الصوف . كما يقال : تقمَّص؛ إذا لبس القميص . فذلك وجه، لكن القوم لم يختصوا بلبس الصوف .
- ومن قال : إنهم منسوبون إلى صُفَّة مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فالنسبة إلى الصُّفَّة لا تجيء على نحو الصوفي[20] .
- ومن قال إنه مشتق من الصفاء، فاشتقاق الصوفي من الصفاء بعيد في مقتضى اللغة .
- وقول من قال : إنه مشتق من الصف؛ فكأنهم في الصف الأول بقلوبهم؛ فالمعنى صحيح، ولكن اللغة لا تقتضي هذه النسبة إلى الصف .
ثم إن هذه الطائفة أشهر من أن يحتاج في تعيينهم إلى قياس لفظ، واستحقاق اشتقاق »[21] .
يلخص القشيري رأيه في كلمات :
« وليس يشهد لهذا الاسم من حيث العربية : قياس ولا اشتقاق . والأظهر فيه : أنه كاللقب » .
لقد رفض هذه النسب جميعاً لغةً واشتقاقاً، ولم يأبه للنسبة إلى الصفة والصفاء من حيث المعنى، إلا الصف؛ فصحح المعنى، ورد الاشتقاق . وأما الصوف؛ فقد صحح الاشتقاق منه لغة، لكنه حكم ببطلان النسبة إليه، وعلل ذلك بأن القوم لم يختصوا بلبس الصوف .
فالنسب كلها باطلة لغةً إذن، يستثنى منها :
- النسبة إلى الصوف .
- والنسبة إلى صوفة .
فهاتان النسبتان صحيحتان لغةً، لكن الثانية منها غير مشهورة، فأئمة التصوف كالطوسي، و الكلاباذي، و القشيري، والسهروردي وغيرهم، لم يذكروها ألبتة؛ فهي مطّرحة عندهم إذن، ويشكل عليها : أن لقب ( صوفية ) لم يعرف ولم يشتهر إلا في القرن الثاني، بينما هؤلاء الزهاد والعباد ظهروا في زمن مبكر من القرن الأول في عهد الصحابة - رضوان الله عليهم -؛ فلو كان هذا اللقب مستمداً من هذا الاسم ( صوفة ) فلِمَ لم يطلق عليهم في ذلك الوقت ؟ ولِمَ تأخر حتى منتصف القرن الثاني إلى نهايته ؟ فالاسم ( صوفة ) موجود منذ الجاهلية، والمنقطعون الزهاد العباد موجودون، ومع ذلك لم يطلق عليهم اسم ( صوفية ) حتى حل القرن الثاني، ومر نصفه، ثم بدأ هذا الاسم بالظهور، كما ثبت بالبحث التاريخي؛ فهذا مما يضعف هذه النسبة .
- فلم تبق نسبة صحيحة منها، من حيث اللغة، سوى النسبة إلى الصوف .
فهذه مقبولة لغة . أما من حيث المعنى فقد رُدّت كذلك بأقوال أقطاب التصوف كالقشيري والهجويري، وإن كانت مقبولة عند غيرهما كالطوسي والسهروردي .
والنتيجة التي نخرج بها من هذا العرض : أن الصوفية لم يتفقوا على نسبة معينة؛ فإذا اطَّرحنا ما ثبت بطلانه لغة، وهو الواجب؛ لأنه لا وجه لإثبات نسبة خاطئة لغة إلا سفسطة، بقيت النسبة الصحيحة لغةً : ( الصوف ) . وهذه أيضاً لم تسلم من النقد والرد، وكان علة ذلك، كما ذكر القشيري أن القوم لم يختصوا ولم يشتهروا به . قال : « القوم لم يختصوا بلبس الصوف »[22] [**] .
وشهادة القشيري خطيرة، فيها نقض لقول من ادعى أن الصوفية اشتهروا بلباس الصوف، شهد بها إمام عارف من أئمة الصوفية المتقدمين، العارفين بأحوال بدايات التصوف؛ حيث عاش في القرنين الرابع والخامس ( 377 - 465 )، فهو من الجيل الثالث أو الرابع، والتصوف إنما نشأ في هذه الأجيال الممتدة ما بين القرن الثالث إلى الخامس، وكل ما لم يكن في هذه المدة فليس من التصوف قطعاً؛ لأن أهلها هم أئمة المذهب، وواضعوا أسسه، لا يختلف على هذا أحد .
ومما يعطي الشهادة قيمة أكبر، أنَّا لم نسمع بإمام صوفي انبرى للرد عليه وإبطال زعمه هذا، فسكوتهم دليل موافقتهم له، ويبعد أن يكونوا غير مطلعين على كتابه، بل يستحيل، فكتابه ( الرسالة ) من أشهر كتب التصوف، فمن الذي لا يعرفه من الصوفية ؟ بل سايره على هذا الرأي، ووافقه : إمام آخر معاصر له هو الهجويري، حيث قال : « واشتقاق هذا الاسم لا يصلح على مقتضى اللغة، من أي معنى؛ لأن هذا الاسم أعظم من أن يكون له جنس يشتق منه، وهم يشتقون الشيء من شيء مجانس له، وكل ما هو كائن ضد الصفاء، ولا يشتق الشيء من ضده، وهذا المعنى أظهر من الشمس عند أهله، ولا يحتاج إلى العبارة »[23] .* القول الراجح في نسبة الصوفية :
بقيت نسبة أخيرة لم يذكرها أحد من المتصوفة؛ فقد رجع بعض الباحثين والمؤرخين المختصين بعلوم الديانات القديمة : الهندية والفلسفية من غير المتصوفة، بالكلمة إلى أصل يوناني، هو كلمة : ( سوفيا )، ومعناها : الحكمة .
وأول من عرَّف بهذا الرأي : البيروني في كتابه : « تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة » وتبعه عليه جمع، خصوصاً الباحثين المعاصرين، وفيما يلي أقوال الذين يقررون أجنبية المصطلح والفكرة عن البيئة الإسلامية :
1 - يقول أبو الريحان البيروني مبيناً أصول التصوف في الفكر الفلسفي الهندي : « ومنهم من كان يرى الوجود الحقيقي للعلة الأولى فقط، لاستغنائها بذاتها فيه، وحاجة غيرها إليها، وأن ما هو مفتقر في الوجود إلى غيره فوجوده كالخيال غير حق، والحق هو الواحد الأول فقط .
- وهذا رأي ( السوفية ) وهم الحكماء، فإن ( سوف ) باليونانية الحكمة، وبها سمي الفيلسوف ( بيلاسوفا )، أي محب الحكمة .
- ولما ذهب في الإسلام قوم إلى قريب من رأيهم، سُموا باسمهم، ولم يعرف اللقب بعضهم فنسبهم للتوكل إلى ( الصُّفَّة )، وأنهم أصحابها في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم صُحّف بعد ذلك، فصُيّر من صوف التيوس »[24] .
2 - وبهذا قال كل من : المستشرق الألماني ( فون هامر )، و ( محمد لطفي جمعة )، و ( عبد العزيز إسلامبولي ) وذهبوا إلى ما ذكره البيروني آنفاً[25] .
3 - المستشرق نيكلسون في كتابه : ( الصوفية في الإسلام ) قال : « وكلمة Mystic التي انحدرت من الديانة الإغريقية إلى الآداب الأوروبية، يقابلها في العربية والفارسية والتركية، لغات الإسلام الثلاث الرئيسة، كلمة ( صوفي )، واللفظان على كل حال ليسا مترادفين تماماً؛ لأن للفظة الصوفي مدلول ديني خاص، وقد قيدها بالصوفية الذين يدينون بالدين الإسلامي، والكلمة العربية وإن اكتسبت على مدى الأيام مدلول الكلمة الإغريقية الواسع : شفاه مقفلة بالأسرار القدسية، وعيون مغمضة على النشوة الحالمة؛ إلا أن مدلولها كان متواضعاً يوم جرت على الألسنة لأول مرة، حوالي نهاية القرن الثاني الهجري »[26] .
- الشاهد من كلامه : أن الكلمة اكتسبت مدلول الكلمة الإغريقية على مدى الأيام؛ فهذا الرأي يرجع بمضمون الفكرة إلى جهة إغريقية، وهذا هو المهم .
4 - إبراهيم هلال قال : « على أن الأصل في تسمية هذا المذهب بالتصوف، وأصحابه بالصوفية، يوقفنا على أن التصوف في أصله إنما هو استيراد أجنبي، ليس للإسلام فيه شيء، لا في نشأته، ولا في طريقته المتزيدة، ولا في غايته أو غاياته المتعددة »[27] .
5 - الدكتور محمد جميل غازي، الذي قال : « الصوفية كما نعلم اسم يوناني قديم مأخوذ من الحكمة ( صوفيا ) وليس كما يقولون إنه مأخوذ من الصوف »[28] .
6 - المقبلي قال : « فالتصوف ليس من مسمى الدين؛ لأن الدين كَمُلَ قبله، أعني دين الإسلام، ولا هو من النعمة؛ لأنها تمت قبله، وليس التصوف داخلاً في مسمى الإسلام؛ لأن الإسلام تم قبله، وهم معترفون بالغيرية؛ فحينئذ هو بدعة ضلالة »[29] .
ولهذا الرأي أدلة ترجحه على النسب السابقة، وبخاصة النسبة إلى الصوف؛ فمن ذلك :
أولاً : التشابه ما بين كلمتي ( صوفية ) و ( سوفية ) في اللفظ والرسم، وجواز التبديل بين حرفي السين والصاد .
ثانياً : اتحاد مدلول الكلمتين : ( سوفية )، ( صوفية )؛ فمدلولهما : الحكمة .
يبين هذا :
- أن الصوفي عند الصوفية هو الحكيم، وهو صاحب الحكمة . لذا يكثر دورانهم على هذا المعنى، ويجعلونه وصفاً لازماً للصوفي؛ فمن لم يكن حكيماً فليس له حظٌّ من اللقب، هكذا يقرر ابن عربي وغيره فيقول : « ومن شروط المنعوت بالتصوف : أن يكون حكيماً ذا حكمة؛ وإن لم يكن فلا حظَّ له من هذا اللقب »[30] .
- وكلمة ( سوف ) باليونانية تعني الحكمة كذلك، والفيلسوف هو محب الحكمة، وفق ما ذكر البيروني آنفاً .
فإذا كانت ( الحكمة ) هي ( التصوف )، و ( الحكيم ) هو ( الصوفي ) .. و ( الحكمة ) هي ( سوف )، و ( الحكماء ) هم ( السوفية )، فأي اتفاق بعد هذا ؟
يقول نيكلسون : « بعض الباحثين من الأوروبيين يردها إلى الكلمة الإغريقية : سوفوس، بمعنى ثيوصوفي »[31] .
وكلمة « ثيوصوفي » معناها : الحكمة الإلهية . ( ثيو = إله )، ( صوفي = الحكمة )[32] .
ويقول عبد الواحد يحيى، وهو فرنسي معاصر، أسلم وتصوف : « وأما أصل الكلمة؛ فقد اختلف فيه اختلافاً كبيراً، ووضعت فروض متعددة، وليس بعضها أوْلى من بعض، وكلها غير مقبولة، إنها في الحقيقة تسمية رمزية .

وإذا أردنا تفسيرها، ينبغي لنا أن نرجع إلى القيمة العددية لحروفها، وإنه لمن الرائع أن نلاحظ : أن القيمة العددية لحروف ( صوفي ) تمثل القيمة العدديةلحروف ( الحكيم الإلهي ) . فيكون الصوفي الحقيقي إذن هو : الرجل الذي وصل إلى الحكمة، إنه ( العارف بالله )؛ إذ إن الله لا يُعرف إلا به »[33] .
وتأتي قيمة هذا النص، من كونه في نظر الدكتور عبد الحليم محمود : صوفياً متحققاً بالتصوف، من العارفين بالله [34]، وهذه شهادة من صوفي كبير، لا خلاف في إمامته، وعليه فهذا الفرنسي المسلم المتصوف، إنما يعبر عن التصوف بعمق وإدراك لحقائقه إذن .
ثالثاً : مضمون التصوف يوافق مضمون الفلسفة ( سوفية )، فكلاهما يرميان إلى التشبه بالإله، وهذا يتبين من تعريف ( التصوف ) و ( الفلسفة ) :
- قال الجرجاني : « الفلسفة التشبه بالإله بحسب الطاقة البشرية، لتحصيل السعادة الأبدية، كما أمر الصادق - صلى الله عليه وسلم - في قوله : « تخلَّقوا بأخلاق الله »[35]؛ أي تشبهوا به في الإحاطة بالمعلومات، والتجرد من الجسميات »[36] .

- وابن عربي يقول :

فاعلم أن التصوف تشبيه بخالقنا لأنه خلق فانظر ترى عجبا[37]

رابعاً : كان عند قدماء اليونان : مذهب روحي يعتنقه النساك والزهاد، ينأون بجانبهم عن الدنيا، ويلجؤون إلى أنواع المجاهدات والرياضات الروحية، يتقربون بأرواحهم إلى خالقهم، لتلقِّي الحكمة والمعارف القدسية، كان يطلق عليهم لقب : ( تيو صوفية )، ومعناه : الحكماء الإلهيون . وإذا تأملنا هذا المذهب، وما يدعو إليه الصوفية، وجدناهما سواء، كما أنهما سواء في اللقب[38] .
خامساً : من هذا القبيل طائفة من الهنود القدامى، كانوا يُعرفون باسم : ( جيمنو صوفيا ) ومعناه : الحكيم العاري . كانوا يقضون حياتهم في السياحة، متأملين الله - تعالى - . وهذا أيضاً مذهب يعتنقه صوفية الإسلام : السياحة، والتأمل[39] .
إذن هي فكرة قديمة، تجتمع كلها في لقب الحكمة ( = صوفية، أو سوفية ) .
ولهذا الرأي إشارة محتملة في كلام القشيري والهجويري، اللذين قررا أنها كلمة جامدة غير مشتقة، وربما سبب جمودها كونها أعجمية .. نعم ! يوجد في العربية ألفاظ جامدة، والكلمات المعرّبة كذلك جامدة، وليس هذا بحثنا، إنما تحرير كلام هؤلاء الذين نفوا اشتقاقها؛ فإنه يحتمل الإشارة إلى أجنبيتها؛ فلنُعِد النظر فيما قاله القشيري والهجويري في هذا المقام :
- قال القشيري : « وليس يشهد لهذا الاسم من حيث العربية قياس ولا اشتقاق، والأظهر فيه أنه كاللقب .. القوم لم يختصوا بلبس الصوف »[40] .
- وقال الهجويري : « واشتقاق هذا الاسم لا يصلح على مقتضى اللغة، من أي معنى »[41] .
- وإذا أضفنا إلى ذلك ما ذكره المستشرق نيكلسون بقوله : « ولكن الناظر في التعريفات التي ذكرناها، سيظهر له في وضوح أن الصوفية أنفسهم لم يأخذوا بهذا الرأي؛ فإنا نجد في مقابل كل تعريف ينسب الصوفية إلى لبس الصوف، اثني عشر تعريفاً، يشير إلى اشتقاق كلمة الصوفي من الصفاء »[42] .
إذن النتيجة المهمة هنا :
- أن القوم لم يختصوا بلبس الصوف .
- ولا يشهد لاسم ( صوفية ) من حيث العربية، قياس ولا اشتقاق .
- والصوفية لم يأخذوا بهذا الرأي .
فالقشيري استظهر أنه لقب، ومنع هو والهجويري أن يكون له أصل لغوي .
كل هذه إشارات إلى أعجمية الكلمة، وإن لم يصرحا بذلك، وإن حاولا التفلت من هذه النتيجة بأشياء، من قبيل تعظيم الاسم أن يكون له جنس يشتق منه، كما فعل الهجويري، غير أن هذا التسليم بمنع اشتقاق الكلمة لغةً، مع استظهار القشيري أنها لقب، يرجِّح أن الكلمة أعجمية، يدل على هذا : أن أحداً من أهل اللغة لم يقل في هذه الكلمة إنها جامدة، كما قيل في لفظ الجلالة « الله » .

بل الذي قالوه إنها كلمة مولدة . يقول أحمد المقرئ :

- « تصوَّف الرجل، وهو صوفي، من قوم صوفية، كلمة مولدة »[43] .
وكأنهما عرفا بذلك، وهذا محتمل، لكن لم يكن من السهولة التصريح بأن أصل الكلمة يونانية فلسفية، تدل على مذهب قديم، له قواعد وأصول معروفة تتشابه مع أصول الصوفية في الإسلام؛ فمثل هذا لا يمكن أن يفصح به إمام صوفي، وإلا كان عوناً على نقض مذهبه .
فالكلمة إذن ليست عربية، بل هي يونانية، أصلها : ( سوفية )، ولما دخلت إلى العربية، بدخول فلسفتها ومضمونها، غُيّر حرف السين فأشبع فصُيّر صاداً، إما عمداً أو اتفاقاً، لقرب المخارج، فدخلت الكلمة في العربية لفظاً ومعنى، ساعد عليه جواز قلب السين صاد في اللغة العربية[44] .
واستفادوا من هذا التحوير : التعمية والتضليل عن أصل الفكرة؛ فهم ( صوفية ) في الظاهر، نسبة إلى اللباس، وفي الباطن ( سوفية ) نسبة إلى الفلسفة اليونانية الهندية . يقول الدكتور عمر فروخ : « كانوا، في حال اجتماعهم مع غيرهم، يحافظون على ظاهر الدين الإسلامي، وعلى فرائضه، أما في خلواتهم، وفيما بينهم، فكان لهم أشياء يستحي العاقل من ذكرها »[45] .

------------------------------------------------
(1) مقدمة التعرف لمذهب أهل التصوف، ص 4، ويقول أحمد المقرئ : (تصوف الرجل، وهو صوفي، من قوم صوفية، كلمة مولدة) المصباح المنير، ص 134 .
(2) تسعة كتب في أصول التصوف والزهد، ص 365 .
(3) التعرف، ص 27 .
(4) عوارف المعارف، 5/ 84 .
(5) التعرف لمذهب أهل التصوف، ص 26 .
(6) عوارف المعارف 5/84، ذهب إلى هذا الرأي الكلاباذي في التعرف، وسيأتي كلامه .
(7) انظر : في التصوف الإسلامي وتاريخه، ص 66 .
(8) التعرف، ص 26 27 .
(9) عوارف المعارف، 5/ 84 .
(10) اللمع، ص 41 .
(11) عوارف المعارف، ملحق بالإحياء 5/83، وقد ذهب إلى هذا الرأي شيخ الإسلام ابن تيمية
11/195، و ابن خلدون في المقدمة، ص 467 .
(12) صفوة التصوف، ص 154 .
(13) تلبيس إبليس، ص 161 .
(14) تلبيس إبليس، ص 161، 162 .
(15) تلبيس إبليس، ص 163 .
(16) هكذا في الكتاب، ويفترض أن تكون : (صفوية) .
(17) التعرف 27 32 .
(18) عوارف المعارف 5/84، ذهب إلى هذا الرأي الكلاباذي في التعرف، وسيأتي كلامه .
(19) في التصوف الإسلامي وتاريخه، ص 28، وكلمة (ثيو سوفي) يونانية، معناها الحكمة الإلهية، ثيو (Theism) : الإله؛ سوفي : (Sophy) الحكمة انظر : المعجم الفلسفي 1/ 360 (مادة : التوحيد)، المورد ص 879 مادة (Sophy) .
(20) ومن جهة المعنى كذلك، فلم يكن أهل الصفة متصوفة، ولا خبر لهم بأفكار الصوفية، ولشيخ الإسلام ابن تيمية رسالة في إبطال تصوف أهل الصفة انظر الفتاوى 11/37، 71، قال ابن الجوزي : (وهؤلاء القوم إنما قعدوا في المسجد ضرورة، وإنما أكلوا من الصدقة ضرورة؛ فلما فتح الله على المسلمين استغنوا عن تلك الحال، وخرجوا، ونسبة الصوفي إلى أهل الصفة غلط؛ لأنه لو كان كذلك لقيل : صفي) تلبيس إبليس ص162، 163 .
(21) الرسالة القشيرية، 2/ 550، 551 .
(22) الرسالة، 2/ 550، 551 .
(**) رجَّح شيخ الإسلام ابن تيمية أن التصوف من لبس الصوف، وجاء هذا المعنى عند بعض المتقدمين كما في تلبيس إبليس، ووجه الاختصاص بالصوف؛ لأنهم يلبسونه على سبيل التزهد والتعبد، وكان النصارى يفعلون شيئاً من ذلك انظر منهاج السنة النبوية، 4/ 43 .
(23) كشف المحجوب، 1/230، 231 .
(24) تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة ص27، وفي قول البيروني جواب لقول من قال : لو كان (صوفي) مأخوذاً من (سوفيا) لقيل : (سوفي)، انظر التصوف في الإسلام، عمر فروخ، ص 24، 29 .
(25) انظر : التصوف المنشأ والمصادر، ص 33، قضية التصوف، المنقذ من الضلال، ص32 .
(26) ص10، عن كلمة (Mystic) ومعناها، ومرادفاتها في اللغات الأخرى، انظر : المعجم الفلسفي 1/282، 747 .
(27) قطر الولي، ص 181 .
(28) الصوفية الوجه الآخر، ص 47 .
(29) العلم الشامخ، ص 470 .
(30) الفتوحات المكية، 2/ 266 .
(31) الصوفية في الإسلام، ص 11 .
(32) كلمة (ثيو سوفي) يونانية، معناها الحكمة الإلهية، ثيو (Theism) الإله؛ سوفي . (Sophy) : الحكمة انظر : المعجم الفلسفي 1/360 (مادة : التوحيد)، المورد ص 879، مادة (Sophy) .
(33) قضية التصوف، المنقذ من الضلال، عبدالحليم محمود، ص32، وانظر : اتجاهات التفسير في القرن الرابع عشر، فهد الرومي 1/359 والمذكور فرنسي الأصل، كان اسمه : رينيه جينو انظر : م س قضية التصوف .
(34) انظر : قضية التصوف، المدرسة الشاذلية، ص 281 .
(35) لا أصل له السلسلة الضعيفة، للألباني، رقم (2822) .
(36) التعريفات ص 73 .
(37) الفتوحات، 2/ 266 .
(38) انظر : أضواء على التصوف، طلعت غنام، ص 66 .
(39) نشأة الفكر الفلسفي، 3/ 42 .
(40) الرسالة، 2/ 550، 551 .
(41) كشف المحجوب، 1/230، 231 .
(42) في التصوف الإسلامي وتاريخه، ص 28 .
(42) المصباح المنير، ص 134 .
(44) شاهد هذا ما ورد عن أئمة القراءات جواز قراءة قوله تعالى : ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ ) (الفاتحة : 6)، بالسين بدل الصاد .
(45) التصوف في الإسلام، ص 20، 21 .
------------------------------------
رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية

الكلمات الدلالية (Tags)
الصوفية


يتصفح الموضوع حالياً : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
أدوات الموضوع

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


المواضيع المتشابهه للموضوع الصوفية
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
البوذية وعلاقة الصوفية بها عبدالناصر محمود دراسات ومراجع و بحوث اسلامية 0 08-03-2014 07:48 AM
آراء الصوفية في أركان الإيمان عبدالناصر محمود دراسات ومراجع و بحوث اسلامية 0 07-26-2014 06:34 AM
الصوفية ولعبة المصالح والاستغلال عبدالناصر محمود مقالات وتحليلات مختارة 0 06-01-2014 06:34 AM
الصوفية في إيران عبدالناصر محمود مقالات وتحليلات مختارة 0 02-17-2014 09:06 AM
تورط الفرق الصوفية فى نشر التشيع فى مصر Eng.Jordan أخبار عربية وعالمية 0 12-15-2012 11:22 PM

   
|
 
 

  sitemap 

 


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 12:12 AM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.12 by vBS
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والمشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59