#1
|
||||
|
||||
منهج أهل الحديث في الرد على المتكلمين
حمل المرجع كاملاً من المرفقات -أُسسه و تطبيقاته- الأستاذ الدكتور خالد كبير علال -الجزائر- - مسألة الرد على المتكلمين بين الجواز و المنع . - أهم أسس منهج المحدثين في الرد على المتكلمين . - نماذج تطبيقية لمنهج أهل الحديث في الرد على المتكلمين . بسم الله الرحمن الرحيم تقديم نتناول في هذا المقال موضوع: منهج أهل الحديث في الرد على المتكلمين ، و نعني به طريقة المحدثين و مسلكهم في النظر و الاستدلال ، و الجدل و المناظرة ، قصد الكشف عنه و التعرّف علي أسسه و تطبيقاته . و أعني بمصطلح أهل الحديث : علماء أهل السنة الذين تخصصوا في علم الحديث و الآثار ، و ألحقتُ بهم كل من كان على منهاجهم و أصولهم ، من الفقهاء و الأدباء و المتكلمين و الوعاظ ،و غيرهم من طوائف علماء أهل السنة . و قصدتُ –في الغالب- بمصطلح المتكلمين : المعتزلة و الجهمية و القدرية ، لأنهم هم الذين كانوا أكثر الطوائف تعاطيا للكلام في القرن الثاني و الثالث و النصف الأول من القرن الرابع الهجري، زمن أئمة أهل السنة المجتهدين من المحدثين و الفقهاء ، و قد اجتهدت لذكر أقوالهم و مواقفهم و ردودهم قدر المستطاع ، و هي نماذج من باب التمثيل لا الحصر . و حددتُ لبحثي هذا إطارا زمنيا شمل قرنين و نصف قرن من الزمان، ابتداء من القرن الثاني ،و انتهاء بالنصف الأول من القرن الرابع الهجري ، لأُثبت أنه كان لأهل الحديث منهج كلامي قديم ، كان موجودا زمن ظهور المعتزلة و من سار على نهجهم من المتكلمين ، و أنه لم يظهر على أ يدي متكلمة أهل الحديث المتأخرين ( ق: 5ه و ما بعده) كالقاضي أبي يعلى الفراء ،وأبي بكر البيهقي ،و أبي الخطاب الكلوذاني، و أبي الحسن الزاغوني ،و ابن تيمية، و ابن قيم الجوزية ، فهؤلاء الأوائل كان لهم منهج كلامي في الرد على المتكلمين من المعتزلة و أمثالهم، له أسسه و تطبيقاته ، ميزهم عن غيرهم من طوائف العلماء . مسألة الرد على المتكلمين بين الجواز و المنع : تباينت مواقف أهل الحديث في الرد على المتكلمين ، بين المنع و الذم و الجواز و الإباحة ، فمنهم طائفة منعت الرد عليهم ،و حذّرت من سماع مقالاتهم ،و مناقشتهم ، و مناظرتهم ، و الخوض معهم فيما خاضوا فيه . من هؤلاء : الحافظ محمد بن شهاب الزهري المدني(ت124ه) نهى عن المناظرة بكتاب الله تعالى، و سنة رسوله –عليه الصلاة و السلام-[1] . و نهيه هذا محمول على الجدال بالباطل دون فهم للكتاب و السنة ، و إلا فإذا لم يرد العلماء على المنحرفين عن الشرع بكتاب الله و سنة نبيه ، فبماذا يردون عليهم ؟ ! و قد حثنا الله تعالى على مجادلة الكفار بالقرآن الكريم ، في قوله : (( و جاهدهم به جهادا كبيرا)) –سورة الفرقان /52- . و نهى محمد بن سيرين عن مجالسة أهل الأهواء و السماع منهم[2] . و حذّر الحافظ علي بن المديني (ت234ه) من تعلّم الجدل و المناظرة[3] .و كان أبو محمد البربهاري البغدادي الحنبلي (ت 329ه) يذم الكلام و الجدال مطلقا ،و يقول: هو بدعة و ضلالة ،و يقدح الشك في القلب ،و يُوصل إلى الزندقة و الكفر . و نهى أيضا عن التعمق و الجدال و حثّ على التسليم و الكف و السكوت ؛و ذكر قوله تعالى (( و ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا )) –سورة غافر/4- . و حثّ أيضا على عدم الرد على أهل الأهواء و البدع، بدعوى أننا أُمرنا بالسكوت عنهم و لا نمكنهم من أنفسنا ، مستدلا بما رُوي عن محمد بن سيرين أنه لم يُجب رجلا من أهل البدع في مسألة واحدة ، و لا سمع منه آية خوفا من أن يُحرّفها فيقع في قلبه شيء . ثم كرر أبو محمد البربهاري تحذيره من المناظرة ، و قال : (( و لم يبلغنا عن أحد من فقهائنا و علمائنا أنه ناظر و جادل أو خاصم )) ،و استدل بقوله تعالى (( ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا ))- سورة غافر/4-[4] . و تعليقا عليه أقول: يبدو من كلامه أنه ذم كلام المعتزلة و أمثالهم ، و لم يذم الكلام الصحيح . بدليل أنه عندما قرر أن الكلام في ذات الله تعالى مُحدث و بدعة و ضلالة ، نجده يشرع في الكلام في ذات الله ، و يقرر مذهب أهل السنة ، فيقول : (( و لا يُتكلّم في الرب إلا بما وصف به نفسه –عزّ و جلّ- في القرآن و ما بينه رسول الله – صلى الله عليه و سلم- لأصحابه ؛ فهو جلّ ثناؤه واحد (( ليس كمثله شيء ،و هو السميع البصير)) –سورة الشورى/11-، ربُنا أول بلا متى وآخر بلا منتهى يعلم السر و أخفى، و على عرشه استوى،و علمه بكل مكان و لا يخلو من علمه مكان ))[5] . فهو هنا قد خاض في الرد على مخالفيه ، فقرر مذهب أهل السنة و رد على بعض أفكار المعتزلة و الجهمية . و أوافقه في حثّه على التسليم و السكوت ،و التحذير من الجدال و المِراء ، لما قد يحدث عن ذلك من شكوك و خصومات و زندقة ؛ لكنني لا أوافقه على ذمه للجدال مطلقا ، اللهم إلا إذا قصد جدال أهل الأهواء المخالف للشرع و العقل ، فهذا صحيح ؛ لأن الجدال قد يكون طريقا إلى الحق و إقامة الحجة على الخلق . كما أن احتجاجه بقوله تعالى : (( ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا ))-سورة غافر/4 – لا يشمل كل جدال و مناظرة و مناقشة ، لأن الآية تخص الذين يُجادلون في آيات الله إنكارا و عنادا ،و لا تشمل الذين يجادلون لمعرفة الحق ؛ و في القرآن الكريم آيات كثيرة نصت على الجدال الحسن في الدعوة و الإقناع ، كقوله تعالى: (( و جادلهم بالتي هي أحسن ))- سورة النحل / 125- ، و (( و لا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن ))- سورة العنكبوت/46- ، و (( قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا ))-هود/32- . كما أنه- أي أبو محمد البربهاري- في نهيه عن التعمّق لم يحدد التعمق الذي يقصده ، فكلامه هذا فيه التباس ، فإذا قصد التعمق في المسائل الغيبية فكلامه صحيح ، لأن الخوض في ذلك هو خطأ كبير ،و فيه ضرر جسيم ،و زج للعقل فيما لا يُدركه . و أما التعمق في العلوم النافعة التي يدركها العقل و التي تتطلب التعمق و التخصص ، كالفقه و الطب و الرياضات و الفيزياء ، فهو تعمق مطلوب و ضروري ،و هو أساس التطور العلمي و التقني و الحضاري على وجه الأرض . و هو أيضا –أي البربهاري لم يُوفق عندما قال : إنه لم يبلغنا أن أحدا من السلف ناظر و جادل ، فها هو القرآن الكريم مليء بجدال الأنبياء لأقوامهم ،و معروف عن كثير من السلف أنهم جادلوا أهل الأهواء ، فعلي بن أبي طالب و ابن عباس- رضي الله عنهما- جادلا الخوارج ،و الإمام أحمد بن حنبل جادل المعتزلة في محنة خلق القرآن ،و أبو سعيد عثمان الدارمي جادل الجهمية . [6] و ذكر الحافظ أبو الحسن اللاكائي (ت418ه) أن المتكلمين اتخذوا الجدال منهاجا لنصرة مذهبهم ، مخالفين بذلك منهاج السلف الصالح القائم على الكتاب و السنة ،لا على الجدال و الخصومة ، إتباعا لقوله تعالى: (( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة و الموعظة الحسنة ))-سورة النحل/125-[7] . ثم ذكر أن جدال المسلمين للمتكلمين و مناظرتهم لهم جنى عليهم –أي على المسلمين – جناية عظيمة ، أدى إلى الشجار و إظهار بدع هؤلاء و إيصالها إلى العامة و الخاصة ،و بالغ الجميع في التدقيق و صار الطرفان أقرانا و إخوانا . و هو يعتقد أن أعظم قهر و ذل للمبتدعة ، هو تركهم و عدم مناظرتهم كما فعل معهم السلف ، تركوهم يموتون من الغيظ ،و لم يجدوا سبيلا إلى إظهار بدعتهم[8] . و قوله هذا صحيح إلى حد ما ، فقد كانت للمناظرات التي دارت بين أهل الحديث و المتكلمين آثار سلبية كالتي أشار إليها اللالكائي ؛ لكنني لا أوافقه في كل ما قاله ، لأن أهل السنة اضطروا للرد على المتكلمين اضطرارا ، وذلك أن أهل الكلام هم الذين بدؤوا بنشر مقالاتهم بين الناس ، و استمروا على ذلك زمنا طويلا ،و لم يوقفهم ذم السلف ،و لا هجرهم لهم ؛ ثم أنهم –أي المتكلمون- استعانوا بالدولة العباسية لنشر مقالاتهم و حمل الناس عليها ، و ذلك أيام الخليفة المأمون و المعتصم و الواثق ، من سنة 118 إلى 232 هجرية ، الذين فرضوا على الناس القول بخلق القرآن . فما هو الحل أمام هذا التيار الجارف الذي لا ينفع معه السكوت ؟ ، فهل يتركونهم ينشرون مقالاتهم بين الناس و يبلبلون أفكارهم و يزلزلون عقائدهم ؟ . و قوله إن السلف لم يجادلوا أهل البدع و تركوهم يموتون من الغيظ ، إتباعا لقوله تعالى : (( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة و الموعظة الحسنة)) ، هو قول غير صحيح على إطلاقه ، لأنه لم يذكر لنا من هؤلاء السلف ،و نحن نعلم أن كثيرا من أئمة أهل السنة قد جادلوا و ناظروا الفرق الكلامية على اختلاف طوائفهم [9] .و استدلاله بالآية كان ناقصا ، و تمامها قوله تعالى: (( و جادلهم بالتي هي أحسن )) ، فالآية فيها دعوة لاستخدام الحكمة في الدعوة ،و من الحكمة استخدام الجدال في المكان المناسب ،و هي أثبتت صراحة وجود جدال حسن حثّت عليه ، و هذا ينقض ما ذهب إليه اللالكائي ، و هو نفسه عندما أثار المتكلمون مسألة الاسم و المسمى و حدث حولها خلاف بين أهل السنة ، مال إلى القول الذي جعل الاسم هو المسمى ، مخالفا بذلك أكثر أهل السنة القائلين بأن الاسم للمسمى[10] . و أما علماء أهل الحديث الذين أجازوا مناظرة المتكلمين ،و كانت لهم مشاركات في الرد عليهم ، فمنهم أعلام كبار ، كمحمد بن إدريس الشافعي (ت204ه)،و القاسم بن سلام البغدادي(ت 224ه)،و عبد العزيز الكناني (ت240ه) ،و أبي ثور إبراهيم البغدادي(ت 240ه) ،و أحمد بن حنبل (ت241ه) ، و الحسين الكرابيسي البغدادي(ت 248ه) ،و أبي محمد بن قتيبة(ت 276ه) ،و أبي سعيد عثمان الدارمي (ت 280ه) ،و آخرهم ابن خزيمة (ت 211ه) ، رد على المتكلمين في كتابه التوحيد ،و كانت له معهم مناظرات[11] . و قد كان الإمام احمد بن حنبل بنهي عن مجادلة المتكلمين و مناظرتهم في مقالاتهم ،و يحث على السكوت عن الرد عليهم ؛ لكنه غيّر موقفه و أصبح يقول : (( كنا نسكت حتى دُفعنا إلى الكلام فتكلمنا )) ، فجاء موقفه هذا استجابة للظروف الفكرية الملحة التي عاشها أيام محنته و بعدها ، فصنّف كتابه الرد على الزنادقة و الجهمية،و ناقش المتكلمين و ردّ على شبهاتهم ،و ناظر خالد بن خداش في مسألة القدر ، و ناظر المعتزلة –في حضرة الخليفة المعتصم- في قضية خلق القرآن و ظهر عليهم . ثم أصبح يُوجب على العلماء الرد على ما يحدث من البدع و المذاهب الفاسدة بإقامة الحجج المزيلة للشبهة الكاشفة عن غمة الضلالة ، و أصبح يُفضل الذي يتكلم في أهل البدع عن الملتزم بالعبادات الساكت عن الكلام في هؤلاء[12] . و أما محمد بن قتيبة الدينوري (ت276ه) فقد كان متضايقا من سكوت المحدثين عن تطاول المتكلمين عليهم ،و قال أنه لم يجد- في زمانه- من المحدثين من تصدى للرد على مقالات هؤلاء ، كأنهم رضوا بها و خضعوا لها ؛ لذا قال أنه وجد نفسه مضطرا للرد على شبهات المتكلمين ، فصنف كتابه : تأويل مختلف الحديث ، للرد عليها ، تحت شعار : الكلام لا يُعارض بالسكوت ،و الشك لا يُداوى بالوقوف))[13] . و قد سلك نهجه هذا المحدث أبو سعيد عثمان الدارمي (ت 280ه) ، فذكر أنه لما رأى ارتفاع راية الجهمية المعطلة في زمن أندرس فيه الإسلام ،و ذهب فيه العلماء ، لم يجد بدا من الرد على باطلهم بالحق ، في كتابه : الرد على الجهمية[14] . و قد كانت لأئمة أهل الحديث -الذين ردوا على المتكلمين – مصنفات كثيرة ، كشفوا فيها مغالطات هؤلاء و دحضوا فيها شبهاتهم[15] ، منها : الرد على القدرية لجعفر الصادق ،و الرد على القدرية ، لمالك بن أنس، و الرد على أهل الأهواء ،و الرد على البراهمة، لمحمد بن إدريس الشافعي،و الرد على الزنادقة و الجهمية لعبد العزيز الكِناني ،و نفي التشبيه ، و الرد على الزنادقة،و الإيمان ، لأحمد بن حنبل ،و خلق أفعال العباد ،و الرد على الجهمية، لمحمد بن إسماعيل البخاري، و التبصير في معالم الدين لمحمد بن جرير الطبري .و كان لنعيم بن حماد الخزاعي (ت229ه) ثلاثة عشر كتابا في الرد على الجهمية .[16] و ختاما لما ذكرناه يتبين أن ذم السلف الصالح للكلام و أهله ، منع بعضهم من مناظرة المتكلمين و الرد عليهم ، لكنه لم يمنع أئمة أهل الحديث من التصدي لأهل الكلام و مناظرتهم و الرد على مقالاتهم ، لوقف تيارهم الجارف ،و نصرة مذهب أهل السنة و الجماعة وفق منهاج شرعي متكامل قامت أسسه على صحيح المنقول و صريح المعقول ،و الفطرة السليمة و العلم الصحيح . أهم أسس منهج المحدثين في الرد على المتكلمين كان لأهل الحديث منهج متميز في ردهم على أهل الكلام ، أقاموه على أسس شرعية و عقلية و فطرية متكاملة قوية ، أذكر منها – بحول الله تعالى- أثنى عشر أساسا . الأساس الأول : الاعتماد على القرآن الكريم : اعتمد أهل الحديث -في ردهم على المتكلمين – على القرآن الكريم كأول أساس من أسس منهجهم الكلامي ، فهو كتاب الله الذي (( لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه ، تنزيل من حكيم حميد)) –سورة فصلت/42- .و قد قال الإمام احمد ين حنبل : (( و لو تدبر إنسان القرآن ، كان فيه ما يرد على كل مبتدع بدعته ))[17].و قال عامر الشعبي (ت 206ه) : (( ما ابتُدع في الإسلام بدعة ، إلا في كتاب الله –عز و جلّ- ما يكذبه ))[18] . و لأصحاب الحديث أوجه كثيرة في اعتمادهم على القرآن و احتجاجهم به على المتكلمين ، أذكر منها أربعة أوجه ، أولها الاحتكام إلى صريح القرآن ، فعندما نفى المعتزلة و الجهمية صفات الله تعالى ، بدعوى التنزيه و عدم التجسيم ، ردّ عليهم المحدثون بإظهار أن قولهم هذا باطل ، يتناقض مع ما جاء في القرآن الكريم من إثبات للصفات الإلهية ، كالسمع و البصر ،و الرحمة و الكلام ، و بينوا لهم أن إثبات الصفات لا يعني تشبيها و لا تجسيما و لا تعطيلا ، و إنما هو إثبات و تنزيه ، مصداقا لقوله تعالى : (( ليس كمثله شيء ،و هو السميع البصير ))-سورة الشورى/11-[19] . و عندما أنكر المتكلمون علو الله تعالى و استوائه على عرشه ، و قالوا إنه في كل مكان ، رد عليهم أصحاب الحديث على زعمهم الباطل ،و احتجوا عليهم بآيات كثيرة تنقض ما زعموه ، منها قوله تعالى : (( و ترى الملائكة حافين من حول العرش ))-سورة الزمر/75 - ،و (( ثم استوى على العرش الرحمن فسئل به خبيرا ))- سورة الفرقان/59- ،و (( الرحمن على العرش استوى))-سورة طه/5-[20]. كما أنهم عندما نفوا تكلم الله تعالى ردّ عليهم المحدثون بأن الله تعالى صرّح في القرآن الكريم بأنه تكلّم ،و كلّم موسى عليه السلام ، كقوله تعالى : (( و كلّم الله موسى تكليما )) – سورة النساء /164 - ،و (( منهم من كلّم الله ، و رفع بعضهم درجات ))- سورة البقرة /253 - ، و (( فتلقى آدم من ربه كلمات ))-سورة البقرة/ 37-[21] . و الوجه الثاني هو الرد على المتكلمين بما يحتجون به من القرآن الكريم ، فعندما زعموا أن الله تعالى بذاته في كل مكان ،و احتجوا بقوله تعالى: (( ألم تر أن الله يعلم ما في السموات و الأرض ، ما يكون من نجوى ثلاثة إلا و هو رابعهم ،و لا خمسة إلا هو سادسهم ،و لا أدنى من ذلك و لا أكثر ، إلا هو معهم أينما كانوا ، ثم يُنبئهم بما عملوا يوم القيامة ، إن الله بكل شيء عليم ))-سورة المجادلة/ 7- ؛ كان رد أصحاب الحديث عليهم أن بينوا أن معنى الآية هو أن الله تعالى مع كل نجوى و مع كل إنسان بعلمه و بصره و هو فوق عرشه ، لأن علمه مُحيط بالبشر،و بصره نافذ فيهم ؛و ليس معناه أنه تعالى معهم بذاته في الأرض، و عابوا عليهم جهلهم بالآية ، فأخذوا بوسطها و أغفلوا فاتحتها و خاتمتها ، فهي قد فُتحت بالعلم (( ألم تعلم أن الله يعلم)) ،و خُتمت به (( إن الله بكل شيء عليم)) .و مما يُثبت أن المقصود بالآية العلم ، لا أنه تعالى بذاته في كل مكان ، أن آيات قرآنية كثيرة ذكرت أن الله تعالى عاليا مستويا على عرشه[22] . ثم أنهم –أي المتكلمون- احتجوا بآية أخرى –لدعم زعمهم أن الله تعالى بذاته في كل مكان- ،و هي قوله تعالى: (( و هو الذي في السماء إله ،و في الأرض إله ))-سورة الزخرف/84 - ، رد عليهم ابن قتيبة مبينا أن مما يُبطل زعمهم أن آيات قرآنية كثيرة نصت على أن الله تعالى على عرشه ،و ليس هو بذاته في كل مكان ؛ ثم بيّن أن معنى الآية هو أنه تعالى إله السماء و إله من فيها ،و أنه إله الأرض و إله من فيها ،و مثاله كقولنا : (( هو بخُراسان أمير و بمصر أمير ، فالإمارة تجتمع له فيهما و هو حال بأحديهما أو بغيرهما ))[23] . و الوجه الثالث هو التدبّر في القرآن الكريم ،و الاستنباط منه ما يُرد به على مقالات المتكلمين ، فعندما أنكر الجهمية علو الله تعالى و استوائه على عرشه ، رد زعمهم أبو سعيد عثمان الدارمي بقوله تعالى عن فرعون : (( يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب ، أسباب السموات فأطّلع إلى إله موسى ،و إني لأظنه كاذبا)) –سورة غافر/ 36-37 - ،و استنتج منه أن موسى عليه السلام كان يقول لفرعون : إن الله تعالى في السماء ، و إلا ما أمر فرعون ببناء الصرح[24] . و احتج عليهم أيضا بقوله تعالى : (( و ما كان لبشر أن يُكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب ، أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء ، إنه علي حكيم ))-سورة الشورى/ 51- ،و استنبط منه أن فيه إشارة إلى أن الله عز و جل بائن عن خلقه ، فلو كان بذاته مع مخلوقاته في كل مكان ، ما (( كان للحجب معنى ، لأن الذي هو في كل مكان لا يٌحجب بشيء من شيء ))[25] . و عندما أظهر المعتزلة القول بخلق القرآن ضللهم أهل الحديث[26] ،و أبطل زعمهم احمد بن حنبل ،و قال إنه يُؤدي إلى القول بأن علم الله مخلوق ،و هذا زعم باطل ، لأن القرآن هو من علم الله و أمره ؛ بدليل قوله تعالى: (( فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم))-سورة آل عمران/61- ،و قوله (( لئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ، مالك من الله من ولي و لا نصير ))-سورة البقرة/120-،و (( ألا له الخلق و الأمر ))-سورة الأعراف/54-[27] . فهذا استنباط صحيح ، فبما أن القرآن من علم الله و أمره ، فإن القول بخلقه يعني أن علمه تعالى مسبوق بجهل ،و هذا نقص و محال على الله تعالى ،و هو القائل : (( و كان الله عليما حكيما )) –سورة النساء/170- ،و (( كان الله سميعا عليما ))-سورة النساء/ 148-،و (( عالم الغيب و الشهادة الكبير المتعال))-سورة الرعد /9- . و يُروى أن الفقيه محمد بن سُحنون المالكي(ت 265ه) ناظر معتزليا في مسألة خلق القرآن ، فقال له : المخلوق يذل لخالقه أم لا ؟ فسكت المعتزلي ، فقال له ابن سحنون : إن قلت بالذلة على القرآن فقد خالفت قوله تعالى : (( و إنه لكتاب عزيز )) –سورة فصلت/41-[28] . و رده هذا رد مُفحم ينطوي على فهم ثاقب و استنباط صحيح من الآية الكريمة ، جعل المعتزلي يتوقف و لا يُجيب ، لأنه لو قال : نعم المخلوق يذل لخالقه ، يكون زعمه بأن القرآن مخلوق ، أن تلحق الذلة القرآن الكريم ،و هذا باطل مخالف لصريح الآية التي ذكرها ابن سحنون . و إن قال: لا يذل المخلوق لخالقه ، يكون قد خالف النقل و العقل في أن المخلوق يذل لخالقه ؛ لذا لم يُجب و وجد في السكوت مخرجا للتهرّب عن الإجابة ،و لم يلتزم بما يقتضيه منه الشرع و العقل و مذهبه الاعتزالي ، من أن المخلوق يذل لخالقه ؛و بما أن القرآن الكريم لا يذل فهو إذ، ليس بمخلوق . و عندما أنكرت طائفة من المتكلمين القدر ،و نفت سبق علم الله تعالى قبل خلقه لمخلوقاته ، احتج عليهم الإمام أحمد بآيات قرآنية كثيرة ، منها قوله تعالى : (( و إذ أخذ الله ميثاق النبيين لما أتيتكم من كتاب و حكمة ، ثم جاءكم رسول مصدّق لما معكم ، لتؤمنن به و لتنصرنّه )) –سورة البقرة/81- ، و (( إذ أخذنا من النبيين ميثاقهم و منك و من نوح و إبراهيم و موسى و عيسى بن مريم ،و أخذنا منهم ميثاقا غليظا )) –سورة الأحزاب/7- ،و (( إنا كل شيء خلقناه بقدر ))-سورة القمر/49-[29] . ففي الآيتين الأولى و الثانية إخبار من الله تعالى أنه أخذ الميثاق من النبيين قبل خلقهم ؛و في الثانية أخبرنا أنه قدّر مقادير كل المخلوقات قبل أن يخلقها .و عندما قيل لأحمد بن حنبل : إن قوما من القدرية يحتجون بقوله تعالى: (( ما أصابك من حسنة فمن الله ،و ما أصابك من سيئة فمن نفسك ))-سورة النساء/79- ، قال : نعم ذلك صحيح ، لكن الكل بقضاء الله تعالى[30] . فهو –أي أجمد- قد ربط الآية بغيرها من آيات القدر ،و وضعها في مكانها الصحيح الذي تجاهله هؤلاء القدرية،لأن الله تعالى يقول : (( قُل لن يُصيبنا إلا ما كتب الله لنا))-سورة التوبة/51-،و (( ما أصاب من مصيبة في الأرض و لا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها ، إن ذلك على الله يسير ))-سورة الحديد /22- . و أما الوجه الرابع في اعتماد المحدثين على القرآن -في ردهم على المتكلمين- فهو إظهار سوء فهمهم للقرآن و احتجاجهم بمتشابه آياته ، فمن ذلك أن الجهمية في قوله تعالى : (( كلما نَضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ، ليذوقوا العذاب ))سورة النساء/56 - ، قالت : (( فما بال جلودهم التي عصت قد احترقت و أبدلهم جلودا غيرها ، فلا نرى إلا أن الله عزّ و جل يُعذب جلودا بلا ذنب ، حين يقول : جلودا غيرها )) . فرد عليهم الإمام احمد بن حنبل ،و نسبهم إلى الشك في القرآن و الزعم بأنه متناقض ، ثم بيّن أن معنى بدلّناهم جلودا غيرها ، لا (( يعني جلودا أخرى غير جلودهم ،و إنما يعني بتبديلها تجديدها ، لأن جلودهم إذا نضُجت جددها الله ))[31] . و واصح من قول هؤلاء الجهمية أنهم فهموا الآيات في غير إطارها الشرعي العام ،و بمعزل عن الآيات القرآنية الأخرى ، لذا فهم أساؤوا الفهم و الأدب مع الله تعالى عندما اتهموه بالظلم ، و هو القائل : (( و قُضي بينهم بالقسط و هم لا يُظلمون )) -سورة يونس/54- ،و : (( قُضي بينهم بالحق و هم لا يُظلمون ))-سورة الزمر/ 69- ،و (( ما ربك بظلام للعبيد ))-سورة فصلت/46- . و ختاما لهذا المبحث أُشير إلى أمرين هامين ، الأول هو أن اعتماد أصحاب الحديث على القرآن الكريم ، كأول أساس لمنهجهم في ردهم على المتكلمين ، هو موقف صحيح يتفق تماما مع النقل و العقل ؛ فلا يٌوجد أعظم حجة من كلام الله تعالى ، و قد أمر نبيه-عليه الصلاة و السلام- بأن يُجاهد و يجادل الكفار بالقرآن الكريم ، في قوله : (( فلا تطع الكافرين و جاهدهم به جهادا كبيرا ))-سورة الفرقان/52- ،و هذا أمر يصدق على كل الضالين و أهل الأهواء من الكفار و المنحرفين من المسلمين . و الأمر الثاني هو أن موقف المعتزلة و الجهمية و القدرية -في إنكارهم لكثير من حقائق القرآن الكريم- هو موقف غير شرعي و لا عقلي ، ينطوي على تناقض صارخ ، فهم إما أنهم يؤمنون بالقرآن بأنه كتاب الله تعالى ، فيلتزمون به ،و يفهمونه في إطار آياتها المحكمة ،و هذا مُقتضى منطق العقل و الإيمان . و إما أنهم لا يؤمنون به ، فيُلزمهم هذا تركه و عدم الاحتجاج به و عدم التلاعب به ، و يُعلنون ذلك صراحة ، لكي يُناقشهم خُصومهم بالمنطق الذي يُناسبهم . مع العلم أن قضايا الغيب التي لا يُدركها العقل ، يجب الرجوع فيها إلى النقل لا إلى العقل ،و هذا هو منطق النقل الصحيح و العقل الصريح . الأساس الثاني : الاعتماد على السنة النبوية : اعتمد المحدثون على السنة النبوية في مناظرة المتكلمين و الرد على مقالاتهم ، اتباعا لقوله تعالى : (( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله و الرسول )) ، و كانت لهم أوجه كثيرة في استدلالهم بالسنة و الاحتجاج بها على المتكلمين ، منها : الاحتكام إلى الحديث النبوي و الاحتجاج به ، فعندما أنكرت الجهمية علو الله على خلقه و مباينته له ،و قالوا إنه في كل مكان بذاته ، ردّ عليهم أبو سعيد عثمان الدارمي بحديث الجارية ،و مفاده أن صحابيا ضرب جارية له ، فندم على فعله و أراد أن يُعتقها ،و أخبر الرسول-عليه الصلاة و السلام- بأمرها ، فقال له : (( أدعها ، فقال لها النبي –صلى الله عليه وسلم- : أين الله ؟ قالت : في السماء ، قال : فمن أنا ؟ قالت : أنت رسول الله . قال : أعتقها فإنها مؤمنة )) [32]هذا الحديث قال فيه الدارمي أنه صريح في أن الله في السماء دون الأرض ،و أن الرجل إذا لم يعلم ذلك فليس بمؤمن ، لأن رسول الله جعل أمارة إيمان الجارية معرفتها أن الله تعالى في السماء [33] . و استنتج الدارمي من قوله –عليه الصلاة و السلام- : (( أين الله )) ، أن فيه تكذيبا لمن يقول : إن الله في كل مكان ،و لا يوُصف بالأين ، لأن الشيء الذي لا يخلو من مكان (( يستحيل أن يُقال : أين هو ؟ ، و لا يُقال : أين ، إلا لمن في مكان يخلو منه مكان )) .و لو كان الأمر على ما يدعيه هؤلاء الجهمية النفاة لأنكر رسول الله –عليه الصلاة و السلام- على الجارية قولها أنه في السماء –ردا على سؤاله - ، لكنه صدّقها و شهد لها بالإيمان .و لو كان الله في السماء و الأرض لم يتم إيمانها حتى تعرفه في الأرض كما عرفته في السماء[34] . و استنتاجاته هذه صحيحة مُفحمة ، تدل على بعد نظره و حسن فهمه في تدبر الحديث و تفجير معانيه . و الوجه الثاني هو الاستنباط من الحديث النبوي ، فمن ذلك أنه عندما أنكرت الجهمية علو الله على خلقه ، استدل عليهم أبو سعيد الدارمي بحادثة إسراء الرسول-صلى الله عليه وسلم- و عروجه إلى السموات حتى وصل إلى سدرة المنتهى فوق سبع سموات ،و استنبط منها أنه لو كان الله في كل مكان كما (( يزعم هؤلاء ، ما كان للإسراء و البراق و المعراج إذن من معنى ،و إلى من يعرج به إلى السماء ؟ و هو بزعمكم الكاذب معه في بيته في الأرض ليس بينه و بينه ستر ))[35].و احتج عليهم أيضا بقوله –عليه الصلاة و السلام- : (( إن الله لا ينام ،و لا ينبغي له أن ينام ، يخفض القسط و يرفعه ، يُرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار ،و عمل الناهر قيل الليل ، حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه كل شيء أدركه بصره ))[36] ، فالحديث ذكر رفع الأعمال ، فإلى (( من تُرفع الأعمال ،و الله بزعمكم الكاذب مع العامل بنفسه في بيته و مسجده ،و منقلبه و مثواه ))[37] ؟ ! . و الوجه الثالث هو المطالبة بالدليل من السنة النبوية ، فمن ذلك أنه عندما نفى الجهمية علو الله على خلقه ،و نزوله إلى السماء الدنيا ، رد عليهم الدارمي بآيات قرآنية و أحاديث نبوية ، ، ثم طالبهم بالدليل من السنة النبوية ، و تحداهم بأن يأتوا بحديث لرسول الله –صلى الله عليه و سلم- ينفي صفتي العلو و النزول ،و يُثبتوا به زعمهم بأن الله تعالى في كل مكان، واقع على كل شيء[38] . و الوجه الرابع ، هو إظهار تسرّع المتكلمين في إنكار الأحاديث و قلة فهمهم لها ، فعندما ادعى المتكلمون أن أهل الحديث يحملون الكذب و المتناقضات في رواياتهم ، كان الفقيه الأديب ابن فتيبة من بين الذين تصدّوا للرد عليهم ، مبينا أن المحدثين قد ميّزوا الروايات الصحيحة من سقيمها ،و أن المتكلمين هم المتسرّعون في إنكار الأحاديث ، لقلة فهمهم و علمهم ؛ فمن ذلك أنهم ادعوا أن هناك تناقضا بين حديث يقول : (( إن الله مسح على ظهر آدم ،و أخرج منه ذريته ))[39] ،و بين قوله تعالى : (( و إذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم و أشهدهم على أنفسهم ، ألستُ بربكم قالوا بلى )) –سورة الأعراف/172- ، فزعموا أن الحديث خالف الآية لأنه ذكر المسح على ظهر آدم و الآية ذكرت الأخذ من ظهور بني آدم ، فردّ عليهم ابن قتيبة مبينا أنه لا تناقض بين النصين ، لأن الآية أجملت و الحديث فصّل المعني ، فالله تعالى عندما أخذ من بني آدم من ظهورهم ، لا يعني أنه لم يمسح على ظهر آدم ، بل هو عندما مسح ظهور بني آدم ، مسح أيضا ظهر آدم و أخرج منه ذريته ، فالذي أجمله الكتاب فصّله الحديث[40] . واتهموا المحدثين أيضا بالتناقض في روايتهم للأحاديث ، منها حديثان ، الأول فيه : (( إذا انقطع شسع –زِمام- نعل أحدكم فلا يمشي في نعل واحد ))[41] ،و الثاني مفاده أنه ربما انقطع شسع رسول الله –عليه الصلاة و السلام- فمشى بالنعل الواحدة حتى يُصلح الأخرى[42] . فرأوا –أي المتكلمون- في هذين الحديثين تناقضا ، لكن ابن قتيبة جمع بينهما ،و بيّن سوء فهمهم و تسرّعهم في الاعتراض و الإنكار ، وذلك أن الحديث الأول فيه نهي للذي انقطع شسع نعله ، فلا يرميها و لا يعلّقها بيده و يمشي في نعل واحدة ، لأن هذا منظر قبيح ،و إنما عليه أن ينزع الاثنين معا .و في الحديث الثاني على الرجل إذا انقطع شسعه و في إمكانه إصلاحه ، فلا بأس أن يمشي خطوة أو خطوتين إلى أن يُصلح الآخر ؛ و هذا ليس بمنكر و لا قبيح ،و حكم القليل يخالف حكم الكثير في مواضع كثيرة[43]. و ختاما لهذا المبحث أُشير هنا إلى أن اعتماد المحدثين على السنة النبوية كثاني أساس لمنهجهم ، في ردهم على المتكلمين ، هو أمر بديهي و لابد منه ، لأن السنة النبوية هي المفسرة للقرآن الكريم و المبينة له ،و هي المصدر الثاني من مصادر التشريع الإسلامي . لذا فمن المنطقي جدا أن يعتمد المحدثون على الحديث النبوي في ردهم على المتكلمين ، لكن غير المنطقي و الغريب جدا أن يُبعد أهل الكلام السنة النبوية و يجعلونها من وراء ظهورهم في تقرير أفكارهم و مقالاتهم ، و هذا تناقض صارخ يأباه منطق الإيمان ، و ترفضه العقول و الفطر السليمة . لكنني أشير هنا أيضا إلى أن بعض أهل الحديث – في اعتمادهم على السنة النبوية- فد لا يكتفون بإيراد الأحاديث الصحيحة و الحسنة ،و إنما يتساهلون في رواية الأحاديث الضعيفة في مسائل العقيدة ،و هذا قد يُسيء إلى الدين ،و يُحدث تشويشا و بلبلة في العقول و النفوس . الأساس الثالث : الاحتجاج بأقوال السلف من الصحابة و تابعيهم : احتج المحدثون –في ردهم على المتكلمين- بأقوال السلف الأول من الصحابة و تابعيهم من أئمة أهل السنة ،و طالبوهم أيضا بأن يأتوا بآثار عنهم لدعم مزاعمهم و مقالاتهم . فمن ذلك أن أبا سعيد الدارمي تحدى الجهمية –عندما ناقشهم في مسألة خلق القرآن- بأن يأتوا بنص من القرآن ، أو من السنة ، أو من أقوال السلف ، فيه –أي النص- أن القرآن من خلق الله ،و قال لهم : (( فهاتوا عن أحد منهم منصوصا أنه خلق الله كما ادعيتم ، و إلا فأنتم المفارقون لجماعة المسلمين قديما و حديثا ، الملحدون في آيات الله ، المفترون على الله و على كتابه و رسوله ،و لن تأتوا عن أحد منهم ))[44] . و من أقوال السلف التي احتج بها المحدثون على الجهمية في إنكارهم لعلو الله تعالى ، قول يُروى عن أبي بكر الصديق – رضي الله عنه – و فيه أنه قال : (( أيها الناس إن كان محمد إلهكم الذي تعبدون فإن إلهكم قد مات ،و إن كان إلهكم الله الذي في السماء فإن إلهكم لم يمت ))[45] . و موضع الاحتجاج هنا هو قوله : (( إلهكم الله الذي في السماء )) ، و هو صريح بأن الصحابة كانوا يعتقدون أن الله تعالى في السماء . و منها أيضا قول لعبد الله بن مسعود –رضي الله عنه- : (( ما بين السماء الدنيا و التي تليها مسيرة خمسمائة عام ،و بين كل سماء مسيرة خمسمائة عام ،و بين السماء السابعة و بين الكرسي خمسمائة عام ،و بين الكرسي إلى الماء خمسمائة عام ،و العرش على الماء ،و الله تعالى فوق العرش ،و هو يعلم ما أنتم عليه ))[46] . فهذا نص صريح في علو الله تعالى على خلقه . و منها أيضا قول عبد الله بن عباس- رضي الله عنه- لعائشة أم المؤمنين –رضي الله عنها- : (( … و أنزل الله براءتك من فوق سبع سموات ، جاء بها الروح الأمين ))[47] .و موضع الشاهد على علو الله هو قوله : (( من فوق سبع سموات )) ، مما يعني أن الصحابة - منهم ابن عباس – كانوا يؤمنون بأن الله تعالى بائن عن خلقه ،و أنه على عرشه فوق سبع سموات ، و ليس هو بذاته في مخلوقاته . و منها أيضا قول الفقيه المحدث عبد الله بن المبارك في الجهمية : (( إنا نستجيز أن نحكي كلام اليهود و النصارى ،و لا نستجيز أن نحكي كلام الجهمية )) ، لأن كلامهم في تعطيل الصفات فيه ما هو أوحش من كلام اليهود و النصارى[48] .و عندما قيل له : كيف ينبغي أن نعرف ربنا ؟ قال : على السماء السابعة على عرشه ،و لا نقول كما تقول الجهمية أنه هاهنا في الأرض )) ،و في رواية (( بأنه فوق السماء السابعة على العرش ، بائن من خلقه ))[49] . [1] جمال بادي:الآثار الواردة عن أئمة السنة في أبواب الاعتقاد ، ط1 الرياض، دار طيبة الرياض، دار الوطن، 1416ه ج2 ص: 674 [2] نفس المرجع ، ج1 ص: 385 . [3] اللاكائي هبة الله : شرح اعتقاد أصول أهل السنة ، حققه أحمد الغامدي ، ط5، الرياض دار طيبة ،ج 1ص: 186 . [4] أبو محمد البربهاري: شرح السنة ،حققه ياسر الردادي،السعودية، مكتبة الغرباء ،ص: 71، 94، 95، 106، 128، 130 ، 131 . [5] نفسه ، ص: 71 . [6] سترد أقوال كثيرة-فيما بعد - عن مجادلة السلف لأهل الأهواء . [7] اللالكائي : المصدر السابق ، ج 1ص: 17 . [8] نفس المصدر ، ص : 19 . [9] سيأتي ذكر ذلك و توثيقه لاحقا . [10] جمال بادي: الآثار الواردة ، ص: ج1 ص: 238-239 . [11] عن هؤلاء انظر : ابن قتيبة : تأويل مختلف الحديث ،بيروت ، دار الكتب العلمية، د ت، ص: 11، 20، 23 .و عبد الله بن احمد: السنة ،حققه محمد بن بسيوني ،ط2 بيروت،دار الكتب العلمية ،1414 ص: 35، 35 . و الدارمي: الرد على الجهمية ، حققه بدر بن عبد الله البدر، ط2 الكويت ، دار ابن الأثير ، 1416 . و ابن خزيمة : كتاب التوحيد،حققه عبد العزيز الشهوان، ط6 الرياض، شركة الرياض ،1997 ص: 9، 51، 52 . و أبو الحسين بن أبي يعلى: ظبقات الحنابلة، حققه محمد حامد الفقي،مصر مطبعة السنة المحمدية ، 1962 ج2ص: 280 . و ابن تيمية: درء تعارض العقل و النقل،حققه عبد اللطيف عبد الرحمن، بيروت ، دار الكتب العلمية، 1417 ج 2 ص: 162، 163 .و مجموع الفتاوى، حققه عامر الجزار ،ط1 بيروت ، دار الجيل ،1418ج 7 ص: 242-243 . و الذهبي : تاريخ الإسلام، ج :231-240ه ، حققه عبد السلام تدمري، بيروت ، دار الكتاب العربي، ص: 257 . و ابن كثير : البداية و النهاية ، ط4 بيروت دار المعرفة ، 1998، مج 5 ص: 742. جمال بن بادي : الآثار الواردة ، ج 1ص: 375، 387 . [12] ابن مفلح : الآداب الشرعية و المنح المرعية،بيروت ، دار العلم للجميع، 1972،ج 1ص: 11، 235-236 . و الخلال : السنة ،حققه عطية الزهراني،ط2 الرياض، دار الراية،1415ج 1ص: 235، 526، 532، 543، 549 . و أبو الحسين بن أبي يعلى : المصدر السابق ،ج 2ص: 280 ..و عبد الإله الأحمدي : المسائل و الرسائل المروية عن الإمام احمد ،ط2 الرياض ، دار طيبة،ج1ص: 167 . [13] تأويل مختلف الحديث، ص: 19 .و جمال بادي: الآثار الواردة، ج 1 ص: 435 . [14] ص: 23 . [15] انظر مثلا: عبد القاهر البغدادي: الفرق بين الفرق ، حققه محي الدين عبد الحميد،بيروت المكتبة العصرية ،1416 . ص: 364. و جمال بادي المرجع السابق، ج1 ص: 31 و ما بعدها . [16] عن هؤلاء انظر: عبد القاهر البغدادي : الفرق ، ص: 364 .و ابن تيمية: درء التعارض، ج 2ص: 162.و عبد الإله الأحمدي: الآثار الواردة، ج 1 ص: 32 . [17] الخلال : السنة، ج 1ص: 547 . [18] نفسه ، ج1 ص: 547 . [19] انظر مثلا: الدارمي : الرد على الجهمية، ص: 18 .و الطبري: التبصير في معالم الدين ، حققه علي الشبل، ط1 الرياض دار العاصمة، 1416 ، ص: 212 .و ابن القيم : اجتماع الجيوش الإسلامية ، مصر مطبعة الإمام ، دت ، ص : 101-102 . [20] الدارمي: المصدر السابق ، ص: 32 .و ابن قتيبة: تأويل مختلف الحديث، ص: 251 . [21] ابن القيم الجوزية: المصدر السابق، ص: 99 . [22] نفس المصدر، ص: 94 ، 97 .و الدارمي : الرد على الجهمية ، ص: 42-43 . [23] تأويل مختلف الحديث ، ص: 252 و ما بعدها . [24] الدارمي : المصدر السابق، ص: 45 . [25] نفس المصدر ، ص: 73 . [26] انظر : عبد الله بن أحمد : السنة ، ص: 10 . [27] نفسه، ص: 9-10 . [28] جمال بادي: الآثار ، ج1 ص: 287 . [29] الخلال : السنة ، ج1ص: 532، 547 . [30] نفس المصدر ، ج1 ص: 545 . [31] احمد بن حنبل: الرد على الزنادقة و الجهمية ، ص: 7 .و ابن القيم : اجتماع الجيوش الإسلامية ، ص: 96 . [32] : مسلم بن الحجاج : صحيح مسلم ، تحقيق : محمد فؤاد عبد الباقي ، دار إحياء التراث العربي – بيروت ، ج1 ص: 381 ، رقم :537 . [33] الدارمي : الرد على الجهمية ، ص: 45، 46، 47 . [34] نفسه ، ص: 47 . [35] الدارمي : المصدر السابق ، ص: 67 . [36] مسلم : الصحيح ،ج 1 ص: 161 ، رقم: 179 . [37] الدارمي ، ص: 64 . [38] نفس المصدر، ص: 97 . [39]ضعفه ناصر الدين الألباني . السلسلة الضعيفة ، مكتبة المعارف – الرياض ، ج 7 ص: 27 ، رقم : 3071 . [40] ابن قتيبة : تأويل مختلف الحديث ، ص: 83-84 . [41] مسلم : الصحيح ، ج 3 ص: 1660 ، رقم : 2098 . [42]مالك بن أنس : موطأ الإمام مالك ، تحقيق تقي الدين الندوي ،دار القلم ، دمشق ،1413 ، ج 3 ص: 412 ، رقم :923 . [43] ابن قتيبة : المصدر السابق ، ص: 86، 87 . [44] الدارمي: الرد على الجهمية ، ص: 180 . [45] نفس المصدر ، ص: 53 . [46] نفس المصدر ، ص 55 . [47] نفس المصدر، ص: 57 . [48] عبد الله بن احمد : السنة ، ص: 13 . [49] نفسه ، ص: 13 .و الدارمي : المصدر السابق ، ص: 47 . المصدر: ملتقى شذرات
__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201) |
العلامات المرجعية |
الكلمات الدلالية (Tags) |
أهم, منهج, المتكلمين, الحديث, الرد, على |
يتصفح الموضوع حالياً : 1 (0 عضو و 1 ضيف) | |
|
|
المواضيع المتشابهه للموضوع منهج أهل الحديث في الرد على المتكلمين | ||||
الموضوع | كاتب الموضوع | المنتدى | مشاركات | آخر مشاركة |
منهج القران في الرد على المخالفين | عبدالناصر محمود | دراسات ومراجع و بحوث اسلامية | 0 | 11-10-2014 08:36 AM |
ما هو الرد ؟ | عبدالناصر محمود | مقالات وتحليلات مختارة | 0 | 10-23-2014 08:14 AM |
منهج ابن عثيمين في الرد على المخالفين | عبدالناصر محمود | دراسات ومراجع و بحوث اسلامية | 0 | 09-17-2014 07:46 AM |
منهج القرآن الكريم في الرد على المخالفين من اليهود والنصارى | عبدالناصر محمود | شذرات إسلامية | 0 | 04-10-2014 08:14 AM |
الرد على كذب الاعلام السوري | Eng.Jordan | مقالات وتحليلات مختارة | 0 | 06-10-2013 08:52 AM |