#1  
قديم 05-16-2017, 08:42 AM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 56,039
ورقة طرائق البحث التاريخي قبل ابن خلدون


طرائق البحث التاريخي قبل ابن خلدون
ــــــــــــــــــــ

(أ. د. عبدالحليم عويس)
ـــــــــــــ

20 / 8 / 1438 هـ
16 / 5 / 2017 م
ـــــــــــ

التاريخي 19960.jpg



طرائق البحث التاريخي قبل ابن خلدون
---------------------

لم يكن علمُ المجتمعات - أو علم العمران حسب تعبير ابن خلدون - أو علم الاجتماع (السوسيولوجيا) بتعبيرنا الحديث - مطروحًا كمادةٍ للدراسة والبحث قبل ظهور مقدِّمة ابن خلدون العملاقة.

ولم يكن قد خطر إلا قليلاً - وبطرق عفوية عابرة - لدى طبقات المؤرِّخين، على اختلاف مستوياتهم، أن "الكلَّ الاجتماعي"، بأجزائه وشرائحه الاجتماعية المختلفة، يخضعُ لقوانين ثابتة، ثبات القوانين التي يخضع لها "الكل الطبيعي - الفيزيقي"، بأجزائه المختلفة، أو "الكل الفلكي" بكواكبه ومجرَّاته المختلفة، وكان بديهيًّا أن يكون التناول مجرد إشارات وومضات لموضوعٍ لم يخطر على البال أنه أهلٌ للدراسة الموضوعية المتكاملة تحليلاً وتركيبًا، أجزاءً وكُلاًّ!

إن الناس في التاريخ العام مغيَّبون؛ إن القائد هو الذي يُذكَر، ومِن وراء القائد يقفُ الوالي، ومِن وراء الوالي يقف الخليفة، وأما الناس، فهم مجرَّد أدواتٍ يحرِّكها هؤلاءِ، والتركيز - بالتالي - قد انصبَّ على الفاعلين الظاهرين!

لكن هذا التركيز بعيدٌ عن الحقيقة، فالحياة تمورُ هناك في سفوح المجتمعات وقيعانِها، والعقول تتعلَّم الإبداع، والجهود تتكاتف عبر الأفراد والشرائح؛ لتقديمِ فعل حضاري يؤدِّي إلى فعلٍ أكثر تقدمًا ووعيًا، وليس هؤلاء الفاعلون الظاهرون إلا محصلةً نهائية لتطورٍ حضاري ما، إنهم تعبير عن مستوى (القبيلة)، أو (الدولة)، أو (الخلافة)، ولو وقعت الفوضى، واختلَّ نسيج المجتمع، وهتكت شبكة العَلاقات، لفقدوا أماكنهم، ولأصبحوا تعبيرًا عن الفوضى الطوائفية الجديدة، والتحلل الاجتماعي الطارئ.

إن دور الفرد (البطل) لا يُنكَر، إنه ليس مجرَّد صورة معكوسة في مرآة، لكنه "التعبير الحي" عن الوضع الحضاري، وهو المترجم له، والقائد له، عندما يكون منتميًا وواعيًا وفاعلاً، وليس عالة على الحركة التاريخية.

كانت الطريقة التاريخية الغالبة - قبل ابن خلدون - التي ذهب أعلامُها بفضل الشهرة والإمامة المعتبرة؛ مثل: ابن إسحاق، والطبري، وابن الكلبي، ومحمد بن عمر الواقدي، وسيف بن عمر الأسدي المسعودي (وإن كان في كتب المسعودي والواقدي من المطعن والمغمز، ما هو معروف عند الأثبات، ومشهور بين الحفظة الثقات)[1].. وكانت هذه الطريقة الغالبة - التي مثَّلها الأعلام السابقون وغيرهم - تصف الظواهر وصفًا مجردًا من أي تحليل، يحاول استخلاص فرضيات أو قوانين تتعلق بطبيعة الظواهر، وكانت نتيجةً طبيعية لحصرِ هؤلاء لحركةِ التاريخ في شريحةٍ واحدة، هي شريحةُ الساسة والعسكريين، الذين يمثِّلون مساحة ضئيلة بالنسبة لمساحة الأمة.

وكان أقطاب هذه الطريقة التاريخية الغالبة يحصرون علميَّتهم في حشد الروايات، وتوثيق السند، دون القيام بنقد الأخبار، على أساس طبائع العمران، ومنطق العقول؛ فهم قد حصروا التاريخ "كمًّا" في الشريحة السياسية، وحصروه "كيفًا" في الاكتفاء بتوثيق السند، يقول الطبري - إمام هذه المدرسة -: "فما يكن في كتابي هذا - يعني: "تاريخ الأمم والملوك" - من خبرٍ ذكرناه عن بعض الماضين، مما يستنكره قارئه، أو يستشنعه سامعُه، من أجل أنه لم يعرفْ له وجهًا في الصحة، ولا معنى له في الحقيقة، فليعلمْ أنه لم يؤتَ في ذلك من قِبَلنا، وإنما أتى من قِبَل بعض ناقليه إلينا؛ وإنما أدَّينا ذلك على نحو ما أدِّي إلينا"[2].

وحتى لو عالج أصحابُ هذه الطريقة بعضَ نظم السياسة، والقضاء، والاقتصاد، والمجتمع، والأسرة، والتربية، والعقائد، فإنما يعالجونها بطريقة مفكَّكة، لا صلة لها بنسيج المجتمع العام، ولا بحركته، بل كثيرًا ما كانت الظاهرة تتفكَّك تبعًا للأعوام، أو الحدود الجغرافية، والسياسة.. وينتمي إلى هذه الطريقة أيضًا هؤلاء الذين مالوا إلى شيء من التخصص في المكان والزمان، وعدلوا عن الإطلاق إلى التقييد، فقيَّدوا شوارد عصرهم، واستوعبوا أخبار أفقهم وقطرهم، واقتصروا على تاريخ دولتهم ومصرهم، كما فعل أبو حيان مؤرِّخ الأندلس، والدولة الأُمَوية التي كانت بالقيروان[3]، فإن هؤلاء المتخصصين لم يستطيعوا الخروج عن الطريقة الوصفية التقليدية، ولم يتوفَّر لهم منهج نقدي للمتن درايةً وتحليلاً.

وثمة طريقة ثانية تألقت عند بعض المؤرخين والعلماء والمفكرين، كان أصحابها يدعون إلى المبادئ التي تفرزها الظواهر الاجتماعية، وتتفق مع معتقدات الأمة وأخلاقها، فهي ترغب في هذه المبادئ، وتحث عليها، وهذه طريقة اشتهر بها ابن مسكويه في كتاب: "تهذيب الأخلاق"، وابن قتيبة في "عيون الأخبار"، والماوردي في: "الأحكام السلطانية"، والطرطوشي في كتابه: "سراج الملوك".

وعن هذا الكتاب الأخير، يقول ابن خلدون، رافضًا هذا المنهج في علاج الظاهرة الاجتماعية: "وكذلك حوَّم القاضي أبو بكر الطرطوشي في كتابه "سراج الملوك"، وبوَّبه على أبواب تقرب من أبواب كتابنا هذا ومسائله، لكنه لم يصادف فيه الرمية، ولا أصاب الشاكلة، ولا استوفى المسائل، ولا أوضح الأدلة، إنما يبوب الباب للمسألة، ثم يستكثر من الأحاديث والآثار، وينقل كلمات متفرِّقة لحكماء الفرس؛ مثل: بزرجمهر، والموبذان، وحكماء الهند، والمأثور عن دانيال، وهرمس، وغيرهم من أكابر الخليقة، ولا يكشف عن التحقيق قناعًا، ولا يرفع بالبراهين الطبيعية حجابًا، إنما هو نقل وتركيب، شبيه بالمواعظ، وكأنه حوَّم على الغرض ولم يصادفه، ولا تحقَّق قصده، ولا استوفى مسائله"[4]، وما ينطبق على الطرطوشي، ينطبق على أفراد هذه الطريقة بصورة إجمالية.

ويأتي أصحاب الطريقة الثالثة، من مناهج الكتابة التاريخية، الذين رصدهم ابن خلدون، ورفضهم وعاب عليهم طريقتهم، إنهم الذين حاولوا جعل التاريخ متونًا تعليمية مختصرة، شبيهة بالآجُرُّومِيَّة، فذهبوا إلى الاكتفاء بأسماء الملوك "مقطوعة عن الأنساب والأخبار، موضوعة عليها أعداد أيامهم بحروف الغبار؛ كما فعله ابن رشيق في ميزان العمل"[5].

وأمام هذه المناهج التقليدية، التي أفقدت المادة التاريخية رواءها، وأفقدت الدراسة التاريخية جزءًا من علميتها وفائدتها - مع أنها أدَّت دورًا لا يستهان به في ظل ظروفها وعصورها - ألزم ابن خلدون نفسَه أن ينصف تاريخ الأمة بمجتمعاتها الإسلامية، فيفصل أخبارها بابًا بابًا، ويبدي في هذا الرصد لأولية الدول والعمران عللاً وأسبابًا، "وينبِّه على أخبار الذين عمروا المغرب في هذه الإعصار، وملؤوا أكنافَ الضواحي منه والأمصار، وما كان لهم من الدول الطوال أو القصار، ومن سلف لهم من الملوك والأمصار، وهما العرب والبربر"[6].

ويشرح فيه "من أحوال العمران والتمدن، وما يعرض في الاجتماع الإنساني من العوارض الذاتية، ما يمتعك بعلل الكوائن وأسبابها، ويعرفُك كيف دخل أهل الدول من أبوابها"[7]، وكذلك يبيِّن لك "ما يعرض للبشر في اجتماعهم من أحوال العمران في الملك والكسب، والعلوم والصنائع، بوجوه برهانية، يتضح بها التحقيق في معارف الخاصة والعامة، وتندفع بها الأوهام، وترتفع الشكوك"[8].

ومن باب الحصر والإيجاز، نذكر أن ابن خلدون أخذ على المؤرِّخين السابقين أخطاء منهجية أساسية، أهمها:
1- عدم الموضوعية؛ بسبب "التشيعات للآراء والمذاهب".

2- عدم تحكيم العقل في ضوء قوانين الطبيعة، التي وضعها الخالق - سبحانه وتعالى - ولهذا قبلوا بعض المستحيلات عقلاً.

3- الجهل بطبائع الأشياء، ولا سيما قوانين الحضارة، وكيفية تدرج الأمور والحوادث وَفْق قوانين محددة للتطور والسقوط.

4- عدم إدراكهم للأهداف الاجتماعية، والمعاشية، والتاريخية.

5- عدم وجود معيارٍ منهجي، تنقدُ به الوقائع والأخبار[9].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] ابن خلدون، المقدمة، ص 4، الطبعة السادسة، 1406هـ، دار القلم، بيروت.
[2] الطبري: تاريخ الأمم والملوك، 1/7، دار إحياء التراث العربي، لبنان.
[3] انظر مقدمة ابن خلدون، ص 5.
[4] ابن خلدون، المقدمة، ص 40.
[5] المقدمة، ص 5.
[6] المقدمة، ص 6.
[7] نفس المرجع السابق.
[8] المقدمة، ص 40.
[9] المقدمة، جزء الدراسة في طبعة المقدمة بتحقيق عبدالواحد وافي، 1 / 399 - 400، طبع القاهرة.







ــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: ملتقى شذرات

رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية

الكلمات الدلالية (Tags)
التاريخي, البحث, خلدون, طرائق


يتصفح الموضوع حالياً : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
أدوات الموضوع

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


المواضيع المتشابهه للموضوع طرائق البحث التاريخي قبل ابن خلدون
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
حجم التشويه التاريخي للعلاقة بين آل البيت والأصحاب عبدالناصر محمود مقالات وتحليلات مختارة 0 06-09-2013 07:11 AM
طرائق التدريس الغربية Eng.Jordan بحوث و مراجع و دراسات تربوية واجتماعية 0 05-06-2013 12:26 AM
علاقة مٌؤلَف ابن خلدون التاريخي (العبر) بالمقدمة Eng.Jordan بحوث ودراسات منوعة 0 11-11-2012 01:49 PM
تصنيف طرائق التدريس Eng.Jordan بحوث و مراجع و دراسات تربوية واجتماعية 1 01-20-2012 05:54 PM
مجلة البحث التاريخي احمد ادريس كتب ومراجع إلكترونية 0 01-12-2012 01:15 AM

   
|
 
 

  sitemap 

 


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 03:10 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.12 by vBS
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والمشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59