#1  
قديم 04-23-2013, 08:39 PM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 56,039
ورقة الطريق إلى القرآن


الطريق إلى القرآن
ـــــــــــــــــــــــــــ

{ للشيخ/ إبراهيم السكران }
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

( تفريغ كامل للكتاب الرائع النفيس : قام به : أبو زارع المدني )
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ



المحتوى/

1- مدخل.
2- سطوة القرآن.
3- تأمل .. كيف انبهروا.
4- منازل الأشعريين.
5- القلوب الصخرية.
6- الشاردون.
7- تطويل القرآن.
8- من منازل التدبر.
9- كل المنهج في أم الكتاب.
10- دوي الليالي الرمضانية.
11- خاتمة.


________________





مدخل :
الحمد لله وبعد،،


لطالما أبهرني حديث بعض الصالحين إذ يتحدثون عما يرونه من فرق مبهر في حياتهم، وعن فرقٍ عظيمٍ في فهمهم وصحة نظرهم واستقرار تفكيرهم؛ ببركة هذا القرآن ..

ولطالما أبهرني حديث بعض الصالحين إذ يبثون شجواهم عما يجدونه في أنفسهم بعد تلاوة القرآن.. يتحدثون عن شيء يحسون به، كأنما يلمسونه بحواسهم، من قوة الإرادة في فعل الخيرات والتأبي على المعاصي..

وراحة النفس في صراعات الأفكار والمنافسات الاجتماعية ..

بل لقد أبهرني فوق ذلك كله تشرّف النبي صلى الله عليه وسلم ذاته بالقرآن! سيد ولد آدم يتشرف بكتاب الله..

فانظر كيف يرسم القرآن حال النبي صلى الله عليه وسلم قبل القرآن، وحال النبي صلى الله عليه وسلم بعد القرآن، كما قال تعالى ﴿ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ ﴾ [الشورى:52].

وقول الله سبحانه ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ﴾ [يوسف : 3].

فانظر بالله عليك كيف تأثرت حال النبي صلى الله عليه وسلم بعد إنزال القرآن عليه، بل انظر ما هو أعجب من ذلك وهو حال النبي صلى الله عليه وسلم بعد الرسالة إذا راجع ودارس القرآن مع جبريل كيف يكون أجود بالخير من الريح المرسلة كما في البخاري، هذا وهو رسول الله الذي كمل يقينه وإيمانه، ومع ذلك يتأثر بالقرآن فيزداد نشاطه في الخير، فكيف بنفوسنا الضعيفة المحتاجة إلى دوام العلاقة مع هذا القرآن..

بل انظر كيف جعل خاصية الرسول صلى الله عليه وسلم تلاوة هذا القرآن فقال :
﴿رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً﴾ [البينة : 2].

وانظر إلى ذلك التصوير الشجي لحال أهل الإيمان في ليلهم كيف يسهرون مع القرآن ﴿أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ﴾ [آل عمران : 113] .

أترى أن الله جل وعلا ينوع ويعدد التوجيهات لتعميق العلاقة مع القرآن عبثاَ ؟

فتارةً يحثنا صراحة على التدبر ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ﴾ [محمد : 24] ..

وتارةً يحثنا على الإنصات إليه ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا﴾ [الأعراف : 204] ..

وتارةً يأمرنا بالتفنن في الأداء الصوتي الذي يخلب الألباب لتقترب من معاني هذا القرآن ﴿وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا﴾ [المزمل : 4] .

وتارةً يأمرنا بالتهيئة النفسية قبل قراءته بالاستعاذة من الشيطان لكي تصفو نفوسنا لاستقبال مضامينه ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾ [النحل : 98] ..

وتارةً يغرس في نفوسنا استبشاع البعد عن القرآن ﴿وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا﴾ [الفرقان : 30] ..

وتارات أخرى ينبهنا على فضله، وتيسيره للذكر فهل من مدكر، وعظيم المنة به... الخ،
كل ذلك ليرسخ علاقتنا بالقرآن ..

فهل تُرى ذلك كله كان اتفاقاً ومصادفة لا تحمل وراءها الدلالات الخطيرة؟!

بل هل من المعقول أن يكون القرآن الذي أقسم الله به، وتمدح بالتكلم به، وجعله أعظم الكتب السماوية التي أنزلها سبحانه، وخص به أفضل البشرية محمداً صلى الله عليه وسلم ، وجعل حفظ ألفاظه خاصية أهل العلم، هل من المعقول أن تكون كل هذه الخصائص والشرف والعظمة للقرآن ويكون كتاباً اعتيادياً في حياتنا؟!

لا بد أن هذا الشرف للقرآن يعكس عظمةً في مضامين ومحتويات هذا القرآن ذاته، ولا بد أن يكون لهذا القرآن حضور في حياتنا يوازي هذه العظمة.

وفي هذه الرسالة القصيرة التي بين يديك حصيلة خطرات وتباريح حول واقع القرآن في حياتنا، وآثاره المبهرة الحسية والمعنوية.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه
أبوعمر
ربيع الآخر 1433هـ

__________________

{ ملتقى أهل الحديث }
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: ملتقى شذرات

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 04-23-2013, 08:43 PM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 56,039
ورقة

1- سطـوة القـرآن
ـــــــــــــــــــــــــــــ


من أعجب أسرار القرآن وأكثرها لفتاً للانتباه تلك السطوة الغريبة التي تخضع لها النفوس عند سماعه .. (سطوة القرآن) ظاهرة حارت فيها العقول ..

حين يسري صوت القارئ في الغرفة يغشى المكان سكينة ملموسة تهبط على أرجاء ما حولك ..

تشعر أن ثمة توتراً يغادر المكان ..
كأن الجمادات من حولك أطبقت على الصمت..
كأن الحركة توقفت..
هناك شيء ما تشعر به لكنك لا تستطيع أن تعبر عنه..

حين تكون في غرفتك - مثلاً - ويصدح صوت القارئ من جهازك المحمول، أوحين تكون في سيارتك في لحظات انتظار ويتحول صوت الإذاعة إلى عرض آيات مسجلة من الحرم الشريف .. تشعر أن سكوناً غريباً يتهادى رويداً رويداً فيما حولك..

كأنما كنت في مصنع يرتطم دوي عجلاته ومحركاته ثم توقف كل شيء مرة واحدة..
كأنما توقف التيار الكهربائي عن هذا المصنع مرة واحدة فخيم الصمت وخفتت الأنوار وساد الهدوء المكان..

هذه ظاهرة ملموسة يصنعها (القرآن العظيم) في النفوس تحدث عنها الكثير من الناس بلغة مليئة بالحيرة والعجب..

يخاطبك أحياناً شاب مراهق يتذمر من والده أو أمه ..
فتحاول أن تصوغ له عبارات تربوية جذابة لتقنعه بضرورة احترامهما مهما فعلا له ..
وتلاحظ أن هذا المراهق يزداد مناقشة ومجادلة لك ..

فإذا استعضت عن ذلك كله وقلت له كلمة واحدة فقط: يا أخي الكريم يقول تعالى ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾ [الإسراء:24] رأيت موقف هذا الفتى يختلف كلياً..

شاهدت هذا بأم عيني ..
ومن شدة انفعالي بالموقف نسيت هذا الفتى ومشكلته ..
وعدت أفكر في هذه السطوة المدهشة للقرآن..
كيف صمت هذا الشاب وأطرق لمجرد سماع قوله تعالى ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾ ..
حتى نغمات صوته تغيرت ..
يا ألله كيف هزته هذه الآية هزاً ..

حين قدمت للمجتمع الغربي أول مرة قبل ثلاث سنوات للدراسة؛ اعتنيت عناية بالغة بتتبع قصص وأخبار (حديثي العهد بالإسلام) ..

كنت أحاول أن أستكشف سؤالاً واحداً فقط:
ما هو أكثر مؤثر يدفع الإنسان الغربي لاعتناق الإسلام؟ (حتى يمكن الاستفادة منه في دعوة البقية).

كنت أتوقع أنني يمكن أن أصل إلى (نظرية معقدة) حول الموضوع، أو تفاصيل دقيقة حول هذه القضية لا يعرفها كثير من الناس، وقرأت لأجل ذلك الكثير من التجارب الذاتية لشخصيات غربية أسلمت، وشاهدت الكثير من المقاطع المسجلة يروي فيها غربيون قصة إسلامهم، وكم كنت مأخوذاً بأكثر عامل تردد في قصصهم، ألا وهو أنهم (سمعوا القرآن وشعروا بشعور غريب استحوذ عليهم) هذا السيناريو يتكرر تقريباً في أكثر قصص الذين أسلموا، وهم لا يعرفون اللغة العربية أصلاً!

إنها سطوة القرآن.. والله يقول ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾ [الحشر : 21] هذا تأثر الجمادات فكيف بالبشر؟!

ومن أعجب أخبار سطوة القرآن قصة شهيرة رواها البخاري في صحيحه وقد وقعت قبل الهجرة النبوية وذلك حين اشتد أذى المشركين لما حصروا بني هاشم والمطلب في شعب أبي طالب، فحينذاك أذن النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه في الهجرة إلى الحبشة، فخرج أبو بكر يريد الهجرة للحبشة فلقيه مالك بن الحارث (ابن الدغنّة) وهو سيد قبيلة القارَة، وهي قبيلة لها حلف مع قريش، وتعهد أن يجير أبا بكر ويحميه لكي يعبد ربه في مكة، يقول الراوي:
(فطفق أبو بكر يعبد ربه في داره، ولا يستعلن بالصلاة ولا القراءة في غير داره، ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجدا بفناء داره وبرز فكان يصلي فيه ويقرأ القرآن، فيتقصّف عليه نساء المشركين وأبناؤهم يعجبون وينظرون إليه، وكان أبو بكر رجلا بكاء لا يملك دمعه حين يقرأ القرآن، فأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين). [البخاري: 2297]

هذه الكلمة (فيتقصّف عليه نساء المشركين وأبناؤهم) من العبارات التي تطرق ذهني كثيراً حين أسمع تالياً للقرآن يأخذ الناس بتلابيبهم ..

ومعنى يتقصّف أي يزدحمون ويكتظون حوله مأخوذين بجمال القرآن..
فانظر كيف كان أبو بكر لا يحتمل نفسه إذا قرأ القرآن فتغلبه دموعه ..
وانظر لعوائل قريش كيف لم يستطع عتاة وصناديد الكفار الحيلولة بينهم وبين الهرب لسماع القرآن..

ومن أكثر الأمور إدهاشاً أن الله - جل وعلا - عرض هذه الظاهرة البشرية أمام القرآن على أنها دليل وحجة، فالله سبحانه وتعالى نبهنا إلى أن نلاحظ سطوة القرآن في النفوس باعتبارها من أعظم أدلة هذا القرآن ومن ينابيع اليقين بهذا الكتاب العظيم، ولم يشر القرآن إلى مجرد تأثر يسير، بل يصل الأمر إلى الخرور إلى الأرض ..

هل هناك انفعال وتأثر وجداني أشد من السقوط إلى الأرض؟
تأمل معي هذا المشهد المدهش الذي يرويه ربنا جل وعلا عن سطوة القرآن في النفوس:
﴿قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا﴾ [الإسراء:107]

بالله عليك أعد قراءة هذه الآية وأنت تتخيل هذا المشهد الذي ترسم هذه الآية تفاصيله: قوم ممن أوتو حظاً من العلم حين يتلى عليهم شيء من آيات القرآن لا يملكون أنفسهم فيخرون إلى الأرض ساجدين لله تأثراً وإخباتاً ..
يا ألله ما أعظم هذا القرآن..

بل تأمل في أحوال قوم خير ممن سبق أن ذكرهم الله في الآية السابقة ..

استمع إلى انفعال وتأثر قوم آخرين بآيات الوحي، يقول تعالى:
﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا﴾ [مريم:57] هذه الآية تصور جنس الأنبياء ..

ليس رجلاً صالحاً فقط..
ولا قوم ممن أوتوا العلم ..
ولا نبيّاً واحداً أو نبيين ..
بل تصور الآية (جنس الأنبياء) ..
وليست الآية تخبر عن مجرد أدب عند سماع الوحي وتأثر يسير به..
بل الآية تصور الأنبياء كيف يخرون إلى الأرض يبكون..
الأنبياء .. جنس الأنبياء .. يخرون للأرض يبكون حين يسمعون الوحي ..
ماذا صنع في نفوسهم هذا الوحي العجيب؟

وقوم آخرون في عصر الرسالة ذكر الله خبرهم في معرض المدح والتثمين الضمني في صورة أخاذة مبهرة يقول تعالى: ﴿وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إلى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ﴾ [ المائدة:83]

أي شخص يقرأ الآية السابقة يعلم أن هذا الذي فاض في عيونهم من الدموع حين سمعوا القرآن أنه شيء فاق قدرتهم على الاحتمال ..

هذا السر الذي في القرآن هو الذي استثار تلك الدمعات التي أراقوها من عيونهم حين سمعوا كلام الله ..
لماذا تساقطت دمعاتهم؟ إنها أسرار القرآن..

هذه الظاهرة البشرية التي تعتري بني الإنسان حين يسمعون القرآن ليست مجرد استنتاج علمي أو ملاحظات نفسانية..

بل هي شيء أخبرنا الله أنه أودعه في هذا القرآن ..
ليس تأثير القرآن في النفوس والقلوب فقط ..
بل - أيضاً - تأثيره الخارجي على الجوارح ..
الجوارح ذاتها تهتز وتضطرب حين سماع القرآن..
قشعريرة عجيبة تسري في أوصال الإنسان حين يسمع القرآن ..

يقول تعالى:
﴿اللَّهُ نزلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ اللَّهِ﴾ [الزمر : 23]

لاحظ كيف يرسم القرآن مراحل التأثر، تقشعر الجلود، ثم تلين، إنها لحظة الصدمة بالآيات التي يعقبها الاستسلام الإيماني، بل والاستعداد المفتوح للانقياد لمضامين الآيات..

ولذلك مهما استعملت من (المحسّنات الخطابية) في أساليب مخاطبة الناس وإقناعهم فلا يمكن أن تصل لمستوى أن يقشعر الجلد في رهبة المواجهة الأولى بالآيات، ثم يلين الجلد والقلب لربه ومولاه، فيستسلم وينقاد بخضوع غير مشروط..
هذا شيء يراه المرء في تصرفات الناس أمامه..

جرب مثلاً أن تقول لشخص يستفتيك: هذه معاملة بنكية ربوية محرمة بالإجماع، وفي موقف آخر: قدم بآيات القرآن في تحريم الربا، ثم اذكر الحكم الشرعي، وسترى فارق الاستجابة بين الموقفين؛ بسبب ما تصنعه الآيات القرآنية من ترويض النفوس والقلوب لخالقها ومولاها، تماماً كما قال تعالى ﴿تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ اللَّهِ﴾..
وفي مقابل ذلك كله .. حين ترى بعض أهل الأهواء يسمع آيات القرآن ولا يتأثر بها، ولا يخضع لمضامينها، ولا ينفعل وجدانه بها، بل ربما استمتع بالكتب الفكرية والحوارات الفكرية وتلذذ بها وقضى فيها غالب عمره، وهو هاجر لكتاب الله يمر به الشهر والشهران والثلاثة وهو لم يجلس مع كتاب ربه يتأمله ويتدبره ويبحث عن مراد الله من عباده، إذا رأيت ذلك كله؛ فاحمد الله يا أخي الكريم على العافية، وتذكر قول الله سبحانه ﴿فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ﴾ [الزمر: 22]

وحين يوفقك ربك فيكون لك حزب يومي من كتاب الله (كما كان لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحزاب يومية من القرآن) فحين تنهي تلاوة وردك اليومي فاحذر يا أخي الكريم أن تشعر بأي إدلال على الله أنك تقرأ القرآن، بل بمجرد أن تنتهي فاحمل نفسك على مقام إيماني آخر؛ وهو استشعار منة الله وفضله عليك أن أكرمك بهذه السويعة مع كتاب الله، فلولا فضل الله عليك لكانت تلك الدقائق ذهبت في الفضول كما ذهب غيرها، إذا التفتت النفس لذاتها بعد العمل الصالح نقص مسيرها إلى الله، فإذا التفتت إلى الله لتشكره على إعانته على العبادة ارتفعت في مدارج العبودية إلى ربها ومولاها، وقد نبهنا الله على ذلك بقوله تعالى ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا﴾ [النور: 21] وقول الله ﴿وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ﴾ [الأعراف : 43].

فتزكية النفوس فضل ورحمة من الله يتفضل بها على عبده، فهو بعد العبادة يحتاج إلى عبادة أخرى وهي الشكر والحمد، وبصورة أدق فالمرء يحتاج لعبادة قبل العبادة، وعبادة بعد العبادة، فهو يحتاج لعبادة الاستعانة قبل العبادة، ويحتاج لعبادة الشكر بعد العبادة..

وكثير من الناس إذا عزم على العبادة يجعل غاية عزمه التخطيط والتصميم الجازم ..
وينسى أن كل هذه وسائل ثانوية ..
وإنما الوسيلة الحقيقية هي (الاستعانة) ..
ولذلك وبرغم أن الاستعانة في ذاتها عبادة إلا أن الله أفردها بالذكر بعد العبادة فقال ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة :5].

وهذه الاستعانة بالله عامة في كل شيء، في الشعائر، وفي المشروعات الإصلاحية، وفي مقاومة الانحرافات الشرعية، وفي الخطاب الدعوي، فمن استعان بالله ولجأ إليه فتح الله له أبواب توفيقه بألطف الأسباب التي لا يتصورها..

على أية حال، لا يمكن أن يفوت القارئ ملاحظة هذه الانفعالات التي يحدثها القرآن في النفوس، والتي هي (سطوة القرآن) فعلاً، والسطوة أصل معناها كما يقول ابن فارس (أصل يدل على القهر والعلو)، فالقرآن له قهر وعلو ملموس على النفوس، وهذا المعنى نظير وصف الله للقرآن بالإزهاق ﴿وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ﴾[الإسراء : 81]، ونظير وصف الله للقرآن بالدمغ ﴿بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ﴾[الأنبياء : 18]، ونظير وصف الله لقرآن بتصديع الكائنات ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾[الحشر : 21] ونظير تشبيه الله للقرآن بالبرق ﴿يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ﴾[البقرة : 20] كما نبّه على هذا التشبيه ابن عباس رضي الله عنه.

ولصحة هذا المعنى فإنك تجد في كتب الآثار أوصافاً للقرآن تدور حول أثره في النفوس، كعبارة (زواجر القرآن) وعبارة (قوارع القرآن)، ونحوها مما هو متداول في كتب الآثار.

والسطوة بمعنى العقوبة فعلٌ لائق بالله كما جاء في بعض الآثار عند ابن حبان وغيره (إن الله إذا أنزل سطوته)، ويكثر في كتب التفسير بالمأثور كالطبري وابن كثير ونحوهم قوله (يحذرهم الله سطوته).

اللهم اجعلنا من أهل القرآن، اللهم أحي قلوبنا بكتابك، اللهم اجعلنا ممن إذا استمع للقرآن اقشعر جلده ثم لان جلده وقلبه لكلامك، اللهم اجعلنا ممن إذا سمع ما أنزل إلى رسولك تفيض عيوننا بالدمع، اللهم اجعلنا ممن إذا تليت عليهم آيات الرحمن خروا سجداً وبكياً، اللهم إنا نعوذ بك ونلتجئ إليك ونعتصم بجنابك أن لا تجعلنا من القاسية قلوبهم من ذكر الله.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

{ ملتقى أهل الحديث }
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رد مع اقتباس
  #3  
قديم 04-23-2013, 08:46 PM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 56,039
ورقة

2- تأمل .. كيف انبهروا !
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


تأمل كيف تنفعل (الجمادات الصماء) بسكينة القرآن ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾[الحشر : 21].
الجبال الرواسي التي يضرب المثل في صلابتها تتصدع وتتشقق من هيبة كلام الله..

وتأمل كيف انبهر (نساء المشركين وأطفالهم) بسكينة القرآن، ففي صحيح البخاري :
(أن أبا بكر ابتنى مسجدا بفناء داره وبرز فكان يصلي فيه ويقرأ القرآن، فيتقصّف عليه نساء المشركين وأبناؤهم يعجبون وينظرون إليه، وكان أبو بكر رجلا بكاء لا يملك دمعه حين يقرأ القرآن، فأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين)[البخاري: 2297].
والتقصف هو الازدحام والاكتظاظ..

وتأمل كيف انبهر (صناديد المشركين) بسكينة القرآن، ففي البخاري أن جبير بن مطعم أتى النبي صلى الله عليه وسلم يريد أن يفاوضه في أسارى بدر، فلما وصل إلى النبي وإذا بالمسلمين في صلاة المغرب، وكان النبي إمامهم، فسمع جبير قراءة النبي، ووصف كيف خلبت أحاسيسه سكينة القرآن، كما يقول جبير بن مطعم:
(سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور، فلما بلغ هذه الآية ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ﴾[الطور : 35 - 37] كاد قلبي أن يطير)[البخاري : 4854].
لله در العرب ما أبلغ عباراتهم..

هكذا يصور جبير أحاسيسه حين سمع قوارع سورة الطور، حيث يقول: (كاد قلبي أن يطير)، هذا وهو مشرك، وفي لحظة عداوة تستعر إثر إعياء القتال، وقد جاء يريد تسليمه أسرى الحرب، ففي خضم هذه الحالة يبعد أن يتأثر المرء بكلام خصمه، لكن سكينة القرآن هزّته حتى كاد قلبه أن يطير..

وتأمل كيف انبهرت تلك المخلوقات الخفية (الجن) بسكينة القرآن، ذلك أنه لما كان النبي صلى الله عليه وسلم في موضع يقال له (بطن نخلة) وكان يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فهيأ الله له مجموعة من الجن يسمون (جن أهل نصيبين)، فاقتربوا من رسول الله وأصحابه، فلما سمعوا قراءة النبي في الصلاة انبهروا بسكينة القرآن، وأصبحوا يوصون بعضهم بالإنصات، كما يقول تعالى: ﴿وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا﴾ [الأحقاف : 29].

وأخبر الله في موضع آخر عن ما استحوذ على هؤلاء الجن من التعجب فقال تعالى: ﴿قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا﴾[الجن : 1].

وتأمل كيف انبهر (صالحوا البشر) بسكينة القرآن، فلم تقتصر آثار الهيبة القرآنية على قلوبهم فقط، بل امتدت إلى الجلود فصارت تتقبّض من آثار القرآن، كما قال تعالى: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ﴾[الزمر : 23].

وتأمل كيف انبهر (صالحوا أهل الكتاب) بسكينة القرآن، فكانوا إذا سمعوا تالياً للقرآن ابتدرتهم دموعهم يراها الناظر تتلامع في محاجرهم كما صورها القرآن في قوله تعالى: ﴿وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ﴾[المائدة : 82-83].

وتأمل كيف انبهرت (الملائكة الكرام) بسكينة القرآن، فصارت تتهادى من السماء مقتربةً إلى الأرض حين سمعت أحد قراء الصحابة يتغنى بالقرآن في جوف الليل، كما في صحيح البخاري عن أسيد بن حضير قال:
(بينما هو يقرأ من الليل سورة البقرة، فرفعت رأسي إلى السماء، فإذا مثل الظلة فيها أمثال المصابيح، فخرجت حتى لا أراها، قال رسول الله "وتدري ما ذاك؟" قال: لا. قال رسول الله " تلك الملائكة دنت لصوتك، ولو قرأت لأصبحت ينظر الناس إليها لا تتوارى منهم " ) [البخاري : 5018].

وتأمل كيف انبهر (الأنبياء) عليهم أزكى الصلاة والسلام بسكينة الوحي، كما يصور القرآن تأثرهم بكلام الله، وخرورهم إلى الأرض، وبكاءهم؛ كما في قوله تعالى ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا﴾[مريم : 58].


وأخيراً .. تأمل كيف انبهر أشرف الخلق على الإطلاق، وسيد ولد آدم (محمد) صلى الله عليه وسلم ؛ بسكينة القرآن، ففي البخاري عن عبد الله بن مسعود أنه قال
(قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اقرأ علي"، فقلت: أقرأ عليك يا رسول الله وعليك أنزل؟ فقال رسول الله: " إني أشتهي أن أسمعه من غيري"، فقرأت النساء حتى إذا بلغت "فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا"، قال لي رسول الله: " كف، أو أمسك"، فرأيت عينيه تذرفان)[البخاري : 5055].

يا لأسرار القرآن ..
ويا لعجائب هذه الهيبة القرآنية التي تتطامن على النفوس فتخبت لكلام الله، وتتسلل الدمعات والمرء يداريها ويتنحنح، ويشعر المسلم فعلاً أن نفسه ترفرف من بعد ما كانت تتثاقل إلى الأرض ..

هكذا إذن .. الجمادات الرواسي تتصدع، ونساء المشركين وأطفالهم يتهافتون سراً لسماع القرآن، وصنديد جاء يفاوض في حالة حرب ومع ذلك "كاد قلبه يطير" مع سورة الطور، والجن استنصت بعضهم بعضاً وتعجبوا وولوا إلى قومهم منذرين، والمؤمنون الذين يخشون ربهم ظهر الاقشعرار في جلودهم، والقساوسة الصادقون فاضت عيونهم بالدمع، والملائكة الكرام دنت من السماء تتلألأ تقترب من قارئ في حرّات الحجاز يتغنى في جوف الليل بالبقرة، والأنبياء من لدن آدم إذا سمعوا كلام الله خروا إلى الأرض ساجدين باكين، ورسول الله صلى الله عليه وسلم حين سمع الآية تصور عرصات القيامة ولحظة الشهادة على الناس استوقف صاحبه ابن مسعود من شدة ما غلبه من البكاء..

رباه ..
ما أعظم كلامك ..
وما أحسن كتابك..

كتابٌ هذا منزلته، وهذا أثره؛ هل يليق بنا يا أخي الكريم أن نهمله؟ وهل يليق بنا أن نتصفح يومياً عشرات التعليقات والأخبار والإيميلات والمقالات، ومع ذلك ليس لـ (كتاب الله) نصيبٌ من يومنا؟

فهل كتب الناس أعظم من كتاب الله؟
وهل كلام المخلوقين أعظم من كلام الخالق؟!
وهل روايات الساردين أعظم من قصص القرآن؟!!

لقد اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم من كفار قومه حين وقعوا في صفةٍ بشعة، فواحسرتاه إن شابهنا هؤلاء الكفار في هذه الصفة التي تذمر منها رسول الله، وجأر بالشكوى إلى الله منها، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في شكواه: ﴿وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا﴾[الفرقان : 30].

أي خسارة..
وأي حرمان..

أن يتجارى الكسل والخمول بالمرء حتى يتدهور في منحدرات (هجر القرآن).. إذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حبيبنا الذي نفديه بأنفسنا وأهلينا وما نملك يشتكي إلى ربه الكفار بسبب (هجر القرآن) ..

فهل نرضى لأنفسنا أن نخالف مراد حبيبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
هل نرضى لأنفسنا أن ننزل في المربع الذي يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فأين توقير نبينا صلى الله عليه وسلم؟.

أخي الذي أحب له ما أحب لنفسي ..
القضية لن تكلفنا الكثير، إنما هي دقائق معدودة من يومنا نجعلها حقاً حصرياً لكتاب الله ..
نتقلب بين مواعظه وأحكامه وأخباره، فنتزكى بما يسيل في آياته العظيمة من نبض إيماني، ومعدن أخلاقي، والتزامات حقوقية، ورسالة عالمية إلى الناس كافة..

__________________
رد مع اقتباس
  #4  
قديم 04-23-2013, 08:49 PM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 56,039
ورقة

3- منـازل الأشعـريين
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

حادثةٌ حكاها لي مرةً أحد الأقارب قبل زهاء خمس عشرة سنة ..
كان يتحدث لي بشكل عرضي لم يلقِ هو بالاً وهو يتحدث ..
لكن قصته تلك لازالت تتناوب على ذهني بين فينة وأخرى ..

قريبي هذا يسكن قرية حدودية في عالية نجد، ويروي لي أنه في الأيام العليلة من السنة يغلق أجهزة التكييف وينام قريباً من النافذة..

ويعلم عن دخول الثلث الأخير من الليل عبر صوت أحد الكهول في القرية يدخل المسجد مع الهزيع الأخير من الليل، وفي فناء المسجد يفترش طرفاً من السجادة الطويلة ويبدأ يرتل القرآن في صلاته بطريقة كبار السن المعهودة ..
وهذه عادته كل ليلة..

منذ حكى لي قريبي تلك القصة وأنا أتحين ذلك الكهل لأرى صلاته ********ة..
يا ليتك تراه وهو يقبض لحيته بين حين وآخر.. ثم يسترسل في قراءته..
لقد كاد يأخذ بأنحاء قلبي ..
قراءته تلك ليست بتجويد مصقول..
ولا حتى بصوت أنيق..
ولكنها - وعزة جلال الله - فيها صدق ويقين أحس أن حوله هالة نور وهو يقرأ ويرتل..

صحيح أن القرآن بعامة يحمل طاقة تأثيرية تخلب لب المستمع ..
ولكن هناك أمرٌ إضافي صرت ألمسه أخيراً ..
وهو أن القرآن إذا خيم سكون الليل يكون عالماً آخر..

ثمة قدر إضافي في جلال القرآن لحظة سكون الليل..
ذلك الكهل القرآني .. توفي قبل سنيات قلائل رحمه الله رحمة واسعة .. ولكن ما الذي بعث قصته من مرقدها في ذهني؟

الحقيقة أن الذي أيقظ هذه القصة القديمة قصة مماثلة مرّت بي وأنا أتصفح صحيح البخاري .. وأنا واثق أنك منذ أن تقرأ هذه القصة في البخاري فلن تخطئ عينك وجه العلاقة ..

فقد روى البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
( إني لأعرف أصوات رفقة الأشعريين بالقرآن حين يدخلون بالليل ، وأعرف منازلهم من أصواتهم بالقرآن بالليل ، وإن كنت لم أر منازلهم حين نزلوا بالنهار) [البخاري4232]
لاحظ كيف لم ير النبي منازلهم بالنهار .. ثم استطاع أن يحدد موقعها لما خيم الليل بسبب ما بدأ يتسرب منها من حنين المرتلين.. إنها "منازل الأشعريين" ..

يا ألله .. بالله عليك ألا تلمس في كلمات رسول الله صلى الله عليه وسلم حرارة الإعجاب لذلك الترتيل الذي يتهادى من منازلهم بالليل ؟! واضح أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يخبر عن مجرد سماعه مصادفة لتلاوتهم الليلية .. بل تكاد تتحسس كيف كان صلى الله عليه وسلم متأثراً بروعة ذلك الصوت القرآني لدرجة تتبع مصدره وتعيين موقعه في الليل، ثم الإخبار بذلك نهاراً..

هكذا يكشف مشاعره صلى الله عليه وسلم: (وأعرف منازل الأشعريين من أصواتهم بالقرآن بالليل، وإن كنت لم أر منازلهم حين نزلوا بالنهار)..

هل تصدق أنني شعرت بحب جارف لأولئك الأشعريين الذين كانت أصواتهم بالقرآن بالليل تستثير إعجاب رسول الله صلى الله عليه وسلم..

بل لقد دفعني ذلك الحب أن أبحث عن شيء من أخبارهم في كتب التراجم والسير..
صحيح أنني وجدت لهم بعض الفضائل، لكنها لم تشفِ نفسي إلى الآن عن خبرهم، وخبر ليلهم الذي كانوا يسهرونه مع كتاب الله..

فاللهم ارض عن الأشعريين..

النبي صلى الله عليه وسلم كان يسمع القرآن بالنهار قطعاً، فلماذا جذبته قراءة الأشعريين وصار يتلفت إلى منازلهم إذن؟

لا أدري ..
لكنني أميل إلى أنها أسرار القرآن بالليل ..
فآيات القرآن إذا هبطت غيوم المساء صارت تتدفق بروحانية خاصة..
انبعاث صوت القارئ بالقرآن بين أمواج الليل الساكن قصة تنحني لها النفوس..

وقد مرت بي شواهد أخرى لاحظت فيها هذا الحنين النبوي لصوت القرآن بالليل.. ففي صحيح الإمام مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال مرة لأبي موسى: (لو رأيتني وأنا أستمع لقراءتك البارحة) [مسلم : 1887].

يبدو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتد اهتمامه لمصدر الصوت حين يسمع قارئاً يقرأ القرآن وسط ظلام الليل.. حتى أنه إذا أصبح أخبر أصحابه بتلك القراءات القرآنية الليلية..

وقوله "لو رأيتني وأنا أستمع" يدل على أن النبي أعار الأمر اهتمامه..
وأخذ ينصت..

تذكر معي هاهنا أن رسول الله يحفظ القرآن بإحفاظ الله له.. ومع ذلك ينصت لمصدر الصوت بالقرآن مهتماً .. ثم يخبر أصحابه بعد ذلك..

لماذا؟

إنها أسرار روحانية القرآن حين تستحوذ على سكون الليل البهيم..

ليس البشر فقط ..
بل حتى الملائكة خرجت عن استتارها يوماً حين انبعث صوت الصحابي بالقرآن .. ففي صحيح البخاري عن أسيد بن حضير قال:"بينما هو يقرأ من الليل سورة البقرة، فرفعت رأسي إلى السماء، فإذا مثل الظلة فيها أمثال المصابيح، فخرجت حتى لا أراها، قال رسول الله "وتدري ما ذاك؟" قال: لا. قال رسول الله: " تلك الملائكة دنت لصوتك، ولو قرأت لأصبحت ينظر الناس إليها لا تتوارى منهم" [البخاري5018].

كلما سمعت قارئاً يتلوا شيئاً من سورة البقرة .. ومرت بي بعض المواضع المثيرة للعقل البشري.. وفي البقرة مواضع تهز النفوس هزاً أعظمها آية الكرسي التي كلها في أوصاف الجلال الإلهية، وقصة تقلب وجه الرسول في السماء تهفو نفسه لتغيير القبلة، وقصة ابتلاء إبراهيم الخليل بالكلمات وإمامته في الدين، وقصة الملأ من بني إسرائيل الذين طلبوا القتال ثم أخذوا يتساقطون على مراحل ، ومواضع عجيبة أخرى..

والمراد أنني كلما سمعت قارئاً يتلوا شيئاً من البقرة تذكرت تنزل الملائكة بأنوارهم حين أخذ أسيد بن الحضير يرتل البقرة وسط جنح الظلام..

لماذا تنزلت الملائكة كأنها المصابيح تتلألأ وخرجت عن استتارها؟ إنها عجائب كتاب الله حين يهيمن فوق سكون الليل..

بل تأمل في خبر أعجب من ذلك كله ، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحث أصحابه بشتى الطرق - المباشرة وغير المباشرة - على تلاوة القرآن بالليل..

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث رسائل ضمنية أثناء تحدثه مع أصحابه تغرس فيهم مركزية تلاوة القرآن إذا لفّ المساءُ المدينة..

ومن تلك القصص أنه ذُكِر مرة في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم الصحابي الجليل "شريح الحضرمي" فأثنى النبي صلى الله عليه وسلم عليه بطريقة ليس من الصعب بتاتاً فهم الرسالة الضمنية فيها .. فقد روى النسائي وغيره بسند صحيح أن "شريحاً الحضرمي ذُكِر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله " ذاك رجل لا يتوسد القرآن" [النسائي3/256] .

دعني أعترف لك أولاً أنني حين قرأت هذا الحديث أول مرة لم يستبن لي وجهه؟
ما معنى " لا يتوسد القرآن"؟
وهل هناك أحد أصلاً يجعل القرآن وسادة لا سمح الله؟

وإذا بالمعنى أنه لا ينام بالليل ويترك حزبه من القرآن ، لكن البلاغة النبوية العظيمة صورت من ينام عن القرآن كأنه اتخذ القرآن وسادة!

والنص له وجهان، إما أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم يمدح من لا يتوسد القرآن، أو يذم من يتوسد القرآن، ورجح ابن الجوزي في غريبه والسندي في حاشيته الوجه الأول، وعلى كلا التقديرين فالحاصل هو تنبيه الرسول بطريقة بلاغية مثيرة على مكانة تلاوة القرآن بالليل..

إذا كان النوم عن القرآن شبهه الرسول صلى الله عليه وسلم باتخاذه "وسادة"، فيبدو أن وسائدنا تهتكت من كثرة النوم عليها!

فاللهم ارحم الحال ولا تجعلنا ممن يتوسد محفوظاتنا من القرآن..

وفي كتاب الله إشارات إلى ذلك الجمال الأخاذ لقراءة الوحي بالليل ..
منها أن الله تعالى أثنى مرة على قوم بذلك .. فقال تعالى في وصفهم: ﴿أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ﴾[آل عمران113].

هل تستطيع أن تمنع الشجو حين تتخيل هؤلاء القوم الذين أحب الله فيهم التغني بآيات الوحي إذا أوى الناس إلى فرشهم؟
الله جل جلاله يثمن منهم هذا الموقف ويخلده في كتابه العظيم..

أخذت مرة أتأمل مثل هذه الأخبار القرآنية النبوية عن جلال القرآن في الليل..
وأخذت أتساءل : ما سبب ذلك يا ترى؟

هل هناك تفسير علمي لذلك؟ لم أصل لنتيجة حاسمة، لكن بدت لي بعض الإشارات في كتاب الله..

فقد أشار القرآن في غير موضع إلى كون الليل موضعاً للسكن كما قال تعالى: ﴿فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا﴾[الأنعام 96]، وقال تعالى: ﴿أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ﴾[النمل 86]..
ففي أصل التكوين البشري يحتاج الإنسان إلى السكينة بالليل.. وتكون النفس مهيأة بما يعتريها من هذا الهدوء..
والوحي الإلهي من أعظم أسباب السكينة..

ومن هذا الباب كانت أحد الوجوه في تفسير ما في التابوت في قوله تعالى: ﴿وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ﴾[البقرة:248] ..

ولذلك فإن المعرض عن القرآن يصاب بالآلام النفسية كما قال تعالى : ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا﴾[طه:124] ..

فالحياة الطيبة الحقيقية لا تكون إلا لأهل الإيمان كما قال تعالى : ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾[النحل97]..

والمراد أن من تأمل اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم تجاه مصدر الصوت بالقرآن في الليل حين قال: (إني لأعرف منازل الأشعريين بالليل من أصواتهم بالقرآن) ..
وحين قال لأبي موسى (لو رأيتني وأنا أستمع لقراءتك البارحة) ..
ومدح النبي صلى الله عليه وسلم لشريح الحضرمي بأنه (رجل لا يتوسد القرآن) ..
وتنزل الملائكة كأنها المصابيح حين أخذ أسيد بن حضير يرتل سورة البقرة بالليل ..
ومدح الله لأولئك القوم بأنهم ﴿أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ﴾[آل عمران : 113] .. الخ

من تأمل ذلك كله ..
فهل سيبقى ليله يتصرم في سهرات ترفيهية مع الأصدقاء ، أو تصفح الترهات الفكرية ومقاطع اليوتيوب على شبكة الانترنت ؟! هل سيرحل أكثر اليوم وليس فيه إلا انهماك في تتبع تعليقات غير نافعة على شبكات التواصل الاجتماعي؟ هاهو العمر يمضي والناس من حولنا لا يمضي أسبوع إلا ويقال "أحسن الله عزاءك في فلان" .. فهل يا ترى سيفنى العمر هكذا في الفضول والترفيه ونحن لم نتذوق حلاوة كتاب الله آناء الليل؟


__________________
رد مع اقتباس
  #5  
قديم 04-23-2013, 08:51 PM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 56,039
ورقة

4- مع القلوب الصخرية
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


الحديث عن قسوة القلب حديث ذو شجون، ومن رزايا هذا الزمن أن صرنا لا نستحي من المناصحة عن قسوة القلب بينما قلوبنا كالحجارة أو أشد قسوة .. لكن دعنا يا أخي ندردش دردشة المحبوسين يتشاجون لبعضهم كيف يهربون من معتقلات خطاياهم..

لقد قرأت كثيراً كثيراً في كتب الرقائق والإيمانيات والمواعظ، وجربت كثيراً من الوسائل التي ذكروها، وأصدقك القول أنني رأيتها محدودة الجدوى، لا أنكر أن فيها فائدة، لكن ليست الفائدة الفعلية التي كنت أتوقعها، ووجدت العلاج الحقيقي الفعال الناجع المذهل في دواء واحد فقط، دواء واحد لا غير، وكلما استعملته رأيت الشفاء في نفسي، وكلما ابتعدت عنه عادت لي أسقامي، هذا العلاج هو بكل اختصار (تدبر القرآن).

دع عنك كلما يذكره صيادلة الإيمان، ودع عنك كل عقاقير الرقائق التي يصفونها، واستعمل (تدبر القرآن) وسترى في نفسك وإيمانك وقوتك على الطاعات وتأبيك على المعاصي وراحة نفسك في صراعات المناهج والأفكار شيئاً لا ينقضي منه العجب.

كل تقصير يقع فيه الإنسان، سواء كان تقصيراً علمياً بالتأويل والتحريف للشريعة، أو كان تقصيراً سلوكياً بالرضوخ لدواعي الشهوة، فإنه فرع عن قسوة القلب.

وهل تعلم كيف تحدث قسوة القلب؟
قسوة القلب ناشئة عن البعد عن الوحي، ألا ترى الله تعالى يقول: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ [الحديد:16]

أرأيت يا أخي؟ إنه طول الأمد .. !
لما طال بهم الأمد قست قلوبهم .. ولو جددوا العهد مع الوحي لحيت قلوبهم..
فإذا قسا القلب تجرأ الإنسان على الميل بالشريعة مع هواه ..
وإذا قسا القلب تهاون الإنسان في الطاعات واستثقلها ..
وإذا قسا القلب عظمت الدنيا في عين المرء فأقبل عليها وأهمل حمل رسالة الإسلام للناس .. وإذا قسا القلب ضعفت الغيرة والحمية لدين الله ..

وما العلاج إذاً ؟
العلاج لما يحيك في هذه الصدور هو مداواتها بتدبر القرآن .. بالله عليك تأمل في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾[يونس:57]
هكذا تقدم الآية المعنى بكل وضوح "وشفاء لما في الصدور" ..

ولكن ما الذي في الصدور؟!
في الصدور شهوات تتشوف .. وفي الصدور شبهات تنبح .. وفي الصدور حجبٌ غليظة.. وفي الصدور طبقات مطمورة من الرين ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾[المطففين:14] ..

وهذه الدوامات التي في الصدور دواؤها كما قال الله :
﴿قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ﴾[يونس:57] ..
فإذا شفيت الصدور وجدت خفة نفس في الطاعات ..
وإذا شفيت الصدور انقادت للنصوص بكل سلاسة ونفرت من التأويل والتحريف ..
وإذا شفيت الصدور تعلقت بالآخرة واستهانت بحطام الدنيا ..
وإذا شفيت الصدور امتلأت بحمل هم إظهار الهدى ودين الحق على الدين كله ..

وأعجب من ذلك أنه إذا شفيت الصدور استقزمت الأهداف الصغيرة ..
تلك الأهداف التي تستعظمها النفوس الوضيعة ..
الولع بالشهرة ..
وحب الظهور ..
وشغف الرياسة والجاه في عيون الناس ..
وشهوة غلبة الأقران ..

النفوس التي شفاها هذا القرآن .. ترى كل ذلك حطام إعلامي ظاهره لذيذ فإذا جرب الإنسان بعضه اكتشف تفاهته ..

وأنه لا يستحق لحظة من العناء فضلاً عن اللهاث سنوات.. فضلاً عن تقبل أن يقوم المرء بتحريف الوحي ليقال فلان الوسطي الراقي الوطني التنموي الحضاري النهضوي التقدمي.. إلى غير ذلك من عصائب الأهواء التي تعشي العيون عن رؤية الحقائق..

هل تظن يا أخي أن تحريف معاني الشريعة لا صلة له بقسوة القلب؟! أفلا تقرأ معي يا أخي قوله تعالى ﴿وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ﴾[المائدة:13].

على أية حال ..
دعنا نُعِد قراءة آية الشفاء ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾[يونس:57]

يا الله ..
هل قال الله "شفاء لما في الصدور" ..
نعم إنه شفاء لما في الصدور..
هكذا بكل وضوح ..

هذا القرآن يا أخي له سحر عجيب في إحياء القلب وتحريك النفوس وعمارتها بالشوق لباريها جل وعلا ..

وسر ذلك أن هذا القرآن له سطوة خفية مذهلة في صناعة الاخبات والخضوع في النفس البشرية كما يقول تعالى ﴿وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ﴾[الحج:54]

فإذا أخبتت النفوس ..
وانفعلت بالتأثر الإيماني ..
انحلت قيود الجوارح ..
ولهج اللسان بالذكر ..

وخفقت الأطراف بالركوع والسجود والسعي لدين الله .. كما يصور الحق تبارك وتعالى ذلك بقوله: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ﴾[الزمر:23]

لاحظ كيف تقشعر .. ثم تلين ..
إنها الرهبة التي تليها الاستجابة ..
وتلك هي هيبة القرآن..


__________________
رد مع اقتباس
  #6  
قديم 04-23-2013, 08:52 PM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 56,039
ورقة

5- الشاردون
ــــــــــــــــــــــــ


حالات الانحراف عن التدين حالات تذيب القلب مرارةً، وخصوصاً إذا كان المنحرف صديقاً قريباً عشت معه أيام العلم والإيمان..

وحالات الانحراف بينها تفاوت كبير..

فبعضهم مشكلته (علمية) بسبب رهبة عقول ثقافية كبيرة انهزم أمامها..
وبعضهم مشكلته (سلوكية) بسبب ضعفه أمام لذائذ اللهو والترفيه.. وإن كان الأمر دوماً يكون مركباً من هوى وشبهة لكنه يكون أغلب لأحدهما بحسب الحال، فإما تعتريه شبهة تقوده للتمرغ في الشهوات، وإما تغلبه شهوة فيتطلب لها الشبهات والمخارج والحيل.

وأنا إلى هذه الساعة على كثرة ما تعاملت مع هذه الحالات لا أعرف علاجاً أنفع من (تدبر القرآن) فإن القرآن يجمع نوعي العلاج (الإيماني والعلمي) وهذا لا يكاد يوجد في غير القرآن، فالقرآن له سر عجيب في صناعة الإخبات في النفس البشرية ﴿وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ﴾[الحج : 54] وإذا تهيأ المحل بالإيمان لان لقبول الحق والإذعان له كما قال تعالى ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ﴾[الزمر : 23].

وفي القرآن من بيان العلم والحق في مثل هذه القضايا المنهجية ما لايوجد في غيره، ومفتاح الهداية مقارنة هدي القرآن بسلوكيات التيارات الفكرية.

أعني أنه إذا رأى متدبر القرآن تفريق القرآن بين المعترف بتقصيره حيث جعله قريباً من العفو ﴿وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ﴾[التوبة : 102] وبين تغطية وتبرير التقصير بحيل التأويل الذي جعله الله سببا للمسخ ﴿وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ﴾[البقرة : 65] .

ومجرد المعصية بالصيد في اليوم المحرم لا تستحق المسخ فقد جرى من بني إسرائيل ما هو أكثر من ذلك ولم يمسخهم الله، ولكن الاحتيال على النص بالتأويل ضاعف شناعتها عند الله جل وعلا.

وإذا رأى متدبر القرآن - أيضاً - تعظيم القرآن لمرجعية الصحابة في فهم الإسلام، وربطه فهم الإسلام بتجربة بشرية، كقوله تعالى: ﴿فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ﴾[البقرة : 137] ، وقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ﴾[التوبة : 100] ، وقوله تعالى: ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ وقوله تعالى: ﴿وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [سبأ : 24]، وقوله تعالى: ﴿أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ﴾ [البقرة : 75] ، وقوله تعالى: ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ [النساء : 83] ففي مثل هذه الآيات البينات يكشف تعالى أن الوحي ليس نصاً مفتوحاً، بل هو مرتبط بالاهتداء بتجربة بشرية سابقة، فيأمرنا صريحا أن نؤمن كما آمن الصحابة، وأن نتبع الصحابة بإحسان، ويأمرنا بكل وضوح أن نرد الأمر إلى أولي العلم الذين يستنبطونه، وهذا كله يبين أن الإسلام ليس فكرة مجردة مفتوحة الدلالات يذهب الناس في تفسيرها كل مذهب .. ويتاح الفهم لكل شخص كما يميل .. بل هناك (نموذج سابق) حاكم للتفسيرات اللاحقة للنص.

وإذا رأى متدبر القرآن - أيضاً - بيان القرآن لتفاهة الدنيا، وكثرة ما ضرب الله لذلك من الأمثال كنهيه نبيه عن الالتفات إلى الدنيا ﴿وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ﴾[طه : 131]. ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا﴾[الأحزاب : 28 ، 29].
فانظر منزلة الدنيا في معيار القرآن.

وإذا رأى متدبر القرآن - أيضاً - ما في القرآن من بيان الله لحقارة الكافر وانحطاطه حيث جعله القرآن في مرتبة الأنعام والدواب والحمير والكلاب والنجاسة والرجس والجهل واللاعقل والعمى والصمم والبَكم والضلال والحيرة.. وغيره من الأوصاف القرآنية المذهلة التي تملأ قلب قارئ القرآن بأقصى ما يمكن من معاني ومرادفات المهانة والحقارة، كقوله تعالى ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ﴾ [محمد : 12] وقوله: ﴿إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا﴾ [الفرقان : 44] وقوله: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا﴾ [الجمعة : 5] .

وقوله: ﴿فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ﴾ [الأعراف : 176] وقوله: ﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [الأنفال : 55] وقوله: ﴿كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [الأنعام : 125].

وقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ﴾ [التوبة : 28] وأمثالها كثير.

وإذا رأى متدبر القرآن - أيضاً- ما في القرآن من عناية شديدة بالتحفظ في العلاقة بين الجنسين، كوضع السواتر بين الجنسين كما في قوله ﴿وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ﴾ [الأحزاب : 53] وحثه المؤمنات على الجلوس في البيت ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ﴾ [الأحزاب : 33] ونهيه عن تلطف المرأة في العبارة ﴿فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ﴾ [الأحزاب : 32] ونهيه عن أي حركة ينبني عليها إحساس الرجل بشئ من زينة المرأة ﴿وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ﴾ [النور : 31]) ونحو ذلك.

وإذا رأى متدبر القرآن - أيضاً - عظمة تصوير القرآن للعبودية كتصويره المؤمنين في ذكرهم لله على كل الأحوال ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ﴾ [آل عمران : 191] وحينما أراد أن يصف الصحابة بأخص صفاتهم قال ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا﴾ [الفتح : 29] وكيف وصف الله ليلهم الذي يذهب أغلبه في الصلاة ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ﴾ [المزمل : 20].

والمراد أنه إذا رأى متدبر القرآن هدي القرآن في هذه القضايا وأمثالها، ثم قارنها بأحوال التيارات الفكرية المعاصرة، ورأى ما في كلام هؤلاء من تأويلات للنصوص لتوافق الذوق الغربي، والإزراء باتباع السلف في فهم الإسلام، وملء القلوب بحب الدنيا، واللهج بتعظيم الكفار، وتهتيك الحواجز بين الجنسين، والارتخاء العبادي الظاهر...الخ. إذا قارن بين القرآن وبين أحوال هؤلاء انفتح له باب معرفة الحق.


__________________
رد مع اقتباس
  #7  
قديم 04-23-2013, 08:54 PM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 56,039
ورقة

6- تطويـل الطـريق
ــــــــــــــــــــــــــــــــ

حين أسمع بعض المفكرين الإسلاميين يتكلمون عن ضرورة مقاومة وتفنيد الأفكار الضالة الجديدة عبر دراسات فكرية موسعة؛ فلا أخفي أنني أحترم تماماً حرصهم على سلامة التصورات الإسلامية من الاجتياح العلماني المعاصر ..

لكنني أرتاب كثيراً في نجاعة هذه المبالغة في التعويل على الدراسات الفكرية..

عندي وجهة نظر لكني لا أبوح بها كثيراً .. لأني أرى بعض المفكرين الإسلاميين يتصور أنها نوع من التثبيط والتخذيل، فلذلك ألوذ بالصمت ..

وجهة نظري هذه بكل اختصار هي أن أمر الانحرافات الفكرية المعاصرة أسهل بكثير مما نتصور ..

فلو نجحنا في تعبئة الشباب المسلم للإقبال على القرآن، وتدبر القرآن، ومدارسة معاني القرآن، لتهاوت أمام الشاب المسلم - الباحث عن الحق - كل التحريفات الفكرية المعاصرة ريثما يختم أول "ختمة تدبر" ..

بالله عليكم لو قرأ الشاب المسلم - الباحث عن الحق- آيات القرآن في حقارة الكافر ..
وآيات القرآن في وسيلية الدنيا ومركزية الآخرة ..
وآيات القرآن في التحفظ والاحتياط في العلاقة بين الجنسين ..
وآيات القرآن في إقصاء أي فكرة مخالفة للوحي ..
وآيات القرآن في وجوب الوصاية على المجتمع عبر شريعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ..
وآيات القرآن في تقييد الحريات الشخصية بالإنكار والاحتساب..
وآيات القرآن في أزلية الصراع بين الحق والباطل ..
وآيات القرآن في وجوب هيمنة الشريعة على كل المجتمعات ..
وآيات القرآن في نفي النسبية وإثبات اليقين ..
وآيات القرآن في مسخ أقوام قردة خاسئين لما تسلطوا على ألفاظ النصوص بالتأويل لتوافق رغباتهم وأهوائهم ..
وآيات القرآن في ارتباط الكوارث الكونية بالمعاصي والذنوب ..
وآيات القرآن في ترتيب جدول أولويات النهضة بين التوحيد والإيمان والفرائض والفضيلة وإعداد القوة المدنية .. الخ

فبالله عليكم قولوا لي ماذا سيتبقى - بعد ذلك - من أطلال الانحرافات الفكرية المعاصرة ؟!

حين يقرأ الشاب المسلم - الباحث عن الحق - مثل هذه الآيات فإنه ليس أمام "خطاب فكري" يستطيع التخلص منه عبر مخرج "الاختلاف في وجهة النظر" ..

بل هو أمام "خطاب الله" مباشرة ..
فإما الانصياع وإما النفاق الفكري ..

ولا تسويات أو حلول وسط أمام أوامر ملك الملوك سبحانه وتعالى..
لنجتهد فقط في تحريض وتأليب العقل المسلم المعاصر على الإقبال على القرآن، وتدبر القرآن، في تجرد معرفي صادق للبحث عن الحقيقة.. وصدقوني سنتفاجأ كثيراً بالنتائج ..

قراءة واحدة صادقة لكتاب الله .. تصنع في العقل المسلم ما لا تصنعه كل المطولات الفكرية بلغتها الباذخة وخيلائها الاصطلاحي ..

قراءة واحدة صادقة لكتاب الله ..

كفيلة بقلب كل حيل الخطاب الفكري المعاصر رأساً على عقب..

هذا القرآن حين يقرر المسلم أن يقرأه بـ"تجرد" .. فإنه لا يمكن أن يخرج منه بمثل ما دخل عليه .. هذا القرآن يقلب شخصيتك ومعاييرك وموازينك وحميتك وغيرتك وصيغة علاقتك بالعالم والعلوم والمعارف والتاريخ ..

وخصوصاً .. إذا وضع القارئ بين عينيه أن هذا القرآن ليس مجرد "معلومات" يتعامل معها ببرود فكري ..
بل هو "رسالة" تحمل قضية ودويّاً ..

وإن من أكثر الأمور لفتاً للانتباه في هذا القرآن العظيم .. هي ماحكاه الله عن انفعال الأنبياء بالقرآن انفعالاً وجدانيّاً وعاطفيّاً عميقاً ..

خذ مثلاً ..
لما ذكر الله مسيرة الأنبياء عقب بذكر حالهم إذا سمعوا آيات الوحي حيث يقول تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا﴾ [مريم: 58] .

يا ألله ..
هذه الآية تصور "جنس الأنبياء" لا بعضهم ..

فانظر بالله عليك كيف يبلغ اتصالهم بـ"كلام الله" مبلغ الخرور إلى الأرض ودموعهم تذرف بكاءً وتأثراً ..
أي انفعال وجداني أعظم من ذلك؟!

ويصف تعالى مشهداً آخر يأسر خيال القارئ، حين يصور أهل الإيمان وهم يستقبلون آيات الوحي فيقول تعالى: ﴿وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إلى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ﴾[المائدة:83]

ويصف تعالى مرة أخرى أثر القرآن الجسدي وليس الوجداني فقط فيقول تعالى: ﴿اللَّهُ نزلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ اللَّهِ﴾ .
على أية حال ..

لو أفلحنا في إقناع الشاب المسلم بالإقبال على القرآن بالتدبر الصادق المتجرد للبحث عن الحق .. فاعتبروا أن "الدور المعرفي" تقريباً انتهى ..

وبقيت مرحلة الإيمان ..
فمن كان معه إيمان وخوف من الله فسيحمله على الانقياد والانصياع لله سبحانه ..

ومن أرخى لهواه العنان .. فسيتخبط في شُعب النفاق الفكري .. حيث سيبدأ في أن يعلن على الملأ - كما يعلن غيره - أنه "يحترم ضوابط الشريعة" .. لكنه في دخيلة نفسه يدرك أن كل ما يقوله مخالف للقرآن ..!

بقي الاستثناء الوحيد هاهنا ..
وهو أنني أقول أن من كانت نفسيته المعرفية سوية .. أعني أنها تنظر في "جوهر البرهان" وليس في "شكليات الخطاب" فلن يحتاج إلا لقراءة القرآن بتجرد ..

أما من كان يعاني من عاهات في شخصيته الفكرية .. بحيث أنه يقدم وهج الديكور اللغوي على جوهر البرهان .. فهذا النوع المريض من الناس قد يحتاج فعلاً بعض الكتابات الفكرية التي تخدعه ببعض الطلاء التسويقي .. كما قال الإمام ابن تيمية في حادثة مشابهة في كتابه "الرد على المنطقيين" :
(وبعض الناس: يكون الطريق كلما كان أدق وأخفى وأكثر مقدمات وأطول كان أنفع له, لأن نفسه اعتادت النظر الطويل في الأمور الدقيقة, فإذا كان الدليل قليل المقدمات, أو كانت جلية, لم تفرح نفسه به.., فإن من الناس من إذا عرف ما يعرفه جمهور الناس وعمومهم, أو ما يمكن غير الأذكياء معرفته, لم يكن عند نفسه قد امتاز عنهم بعلم, فيحب معرفة الأمور الخفية الدقيقة الكثيرة المقدمات)

أخيراً ..
أعطوني ختمة واحدة بتجرد ..
أعطيكم مسلماً حنيفاً سنياً سلفياً ..
ودعوا عنكم خرافة الكتب الفكرية الموسعة ..
ولنجعل القرآن " أصلاً " وغيره من الدراسات الفكرية مجرد " تبع " .


__________________
رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية

الكلمات الدلالية (Tags)
الطريق, القرآن, إلى


يتصفح الموضوع حالياً : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
أدوات الموضوع

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


المواضيع المتشابهه للموضوع الطريق إلى القرآن
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
الطريق الاصح الى الله د. علي محمود التويجري الكاتب د. علي محمود التويجري 1 11-19-2015 11:07 PM
أختاااه... إحذري هذا الطريق صابرة البيت السعيد 0 08-18-2015 07:06 AM
الطريق الى الجنة! صباح الورد شذرات إسلامية 0 12-14-2013 09:44 AM
في الطريق Eng.Jordan أخبار ومختارات أدبية 0 12-11-2012 10:00 PM
الطريق إلى شفاء القلوب جاسم داود شذرات إسلامية 1 06-16-2012 03:07 PM

   
|
 
 

  sitemap 

 


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 02:17 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.12 by vBS
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والمشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59