العودة   > > >

أخبار ومختارات أدبية اختياراتك تعكس ذوقك ومشاعرك ..شاركنا جمال اللغة والأدب والعربي والعالمي

إضافة رد
 
أدوات الموضوع
  #1  
قديم 05-23-2014, 12:02 PM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,422
افتراضي إنقراض اللغات


Point.png اللغات المحلية وصراع البقاء
الجمعة : 31/01/2014
الكاتب : ترجمة د.هدى زكي:أمريكا

2014131809588.jpg



نحن نفكر باللغة ونحلم بها ونحب ونحيا بها أيضاً, لكن موضوع انقراض اللغات أصبح الشغل الشاغل للعالم اليوم, إذ تشير التقديرات العالمية إلى أن عدد لغات العالم يتراوح ما بين 6000 – 7000 لغة نصفها مهدد بالانقراض خلال السنوات القادمة, بل إن 90 % منها سينقرض خلال هذا القرن.
و(المجلة العربية) إسهاماً منها في زيادة الوعي بالخطر الذي يهدد اللغات ولصون التنوع اللغوي الذي يعد جزءاً من التراث الروحي للثقافات المختلفة أو ما يعرف بالتراث غير المادي؛ تنقل لقرائها رؤية منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) التي صدرت في كتاب: (أطلس لغات العالم المهددة بالانقراض).
من الأحداث الشائعة في الحياة اليومية في التاريخ البشري، أن يجتمع الناس مع بعضهم البعض دون سابق معرفة ويتواصلون من خلال لغات لا يتكلمونها من قبل، فعلى امتداد ما يقرب من آلاف السنين الماضية أدى التحول الجغرافي لمراكز القوة والسيطرة بشكل متزايد بالإضافة إلى الانفجار السكاني الهائل؛ أدى إلى تكثيف في التواصل بين مختلف الثقافات وزيادة في وسائل الاتصال Communication بين مجموعات من البشر يتكلمون لغات مختلفة غير مفهومة لبعضهم البعض.
وبصرف النظر عن بعض الاستثناءات البسيطة، فقد ظلت هذه الأحداث البشرية قليلة ومتفرقة ولم يكن لها أدنى تأثير لغوي ملحوظ. وكانت الأقليات (وهي مجموعات ذات أعداد صغيرة) تحافظ على التراث الخاص بها بكل تقاليده وتعقيداته وتطوراته. وكانوا عادة أقل عدوانية من الناحية الثقافية وأكثر قوة من المجموعات الأكبر التي يتعاملون معها.
ولكن في القرنين السادس عشر والسابع عشر بعد الميلاد، بدأت الأحوال تسوء بسبب الكشوف الجغرافية وصراع المصالح الاقتصادية وأيضاً النزاعات التوسعية لعدد من الشعوب الأوروبية خصوصاً في الأراضي المنخفضة (هولندا) وإنجلترا وفرنسا وإسبانيا وغيرها، والروس أيضاً الذين نزحوا إلى سيبيريا والشرق الأقصى.
وكانت هناك آثار مدمرة لهذه الهجرات منها: انتقال الأمراض إلى مناطق جديدة من أمريكا الشمالية وسيبيريا، وأستراليا في وقت لاحق لذلك، وكان لمرض الجدري تأثير رهيب حتى أنه حصد الكثير من الأرواح وأهلك السكان المحليين وأثر على تركيبة المجتمع الديموغرافية. وبطبيعة الحال تغير الوضع كثيراً من زاوية التوازن اللغوي، لأن قلة قليلة من الناس –أو حتى لا أحد على الإطلاق- هي التي ظلت تتحدث بعضاً من اللغات. على سبيل المثال فقد انخفض عدد المتكلمين في مجتمعات مثل أمريكا الشمالية وسيبيريا وأستراليا انخفاضاً هائلاً نتيجة لوباء الجدري.
لقد أصاب هذا الانخفاض أعداد المتكلمين بلغات معينة، وأثرت تلك الاضطرابات على مجتمعات بأكملها نتيجة لاحتمال الإصابة بالأمراض الوبائية المختلفة، وتلك كانت هي إحدى نتائج التقاء ثقافتين في مكان واحد، وفي كثير من الأحيان أدى اللقاء بين السكان المحليين مع أفراد من الثقافات والحضارات الأكثر عدوانية إلى الصراع بين هذه المجموعات البشرية المتباينة، وذلك على المستوى الثقافي على الأقل. وكان النفوذ الاقتصادي والثقافي للثقافة الغازية والمهيمنة على الثقافة التقليدية المحلية –خصوصاً اللغات الأصلية- أكثر انتشاراً وتدميراً في أجزاء معينة من العالم، حيث تأثرت بشدة اللغات المحلية تحت الضغوط الخارجية الثقافية والاجتماعية في كثير من الأحيان. وفي أحوال أخرى اختفت تلك اللغات تماماً وباتت اللغات المحلية غير صالحة للتعبير عن الثقافة الجديدة.
كما أصبحت المواقف السلبية والمدمرة، وحالة الازدراء وعدم التسامح تجاه أعضاء السكان المحليين ولغاتهم الأصلية، من قبل أتباع الثقافة السائدة أو المهيمنة أسوأ من ذي قبل. ونتيجة لذلك بدأ المتحدثون باللغات المحلية يكرهون لغاتهم الخاصة ويعتبرونها أدنى منزلة من اللغة الغازية والثقافة المهيمنة الجديدة.
لقد تضاعف هذا التأثير حين امتزج بالحوافز الاقتصادية، وعلى سبيل المثال فإن أفراد اللغة المحلية الذين أتقنوا لغة المجتمع الجديدة حصلوا على مزايا اقتصادية لم تكن ميسرة لأولئك الذين لم يتعلموا هذه اللغة المهيمنة أو يتقنوها. شملت هذه المزايا أولوية الحصول على فرص العمل والوظائف وكذلك الحصول على مكافآت مالية مجزية. كذلك حصلوا على السلع والخدمات التي كانت حلماً عند الآخرين، وهذا أعطى الانطباع لمتكلمي اللغات المحلية بأن لغاتهم باتت عديمة الفائدة، خصوصاً في ظل الظروف الاقتصادية المتغيرة.
وأيضاً بدأ معظم السكان الأصليين ينسون القيم الاجتماعية والثقافية غير المادية، فضلاً عن الإمكانات النفسية والطاقات الشعورية الكامنة في لغاتهم الأصلية التقليدية. تلك الانطباعات والمواقف أدت بهم إلى احتقار لغاتهم التقليدية، وفي نهاية المطاف، ومع اضطراد التعامل باللغة والثقافة المهيمنة؛ تلاشت اللغات المحلية وأخذت طريقها إلى الاختفاء.
وبالإضافة إلى هذا السيناريو بدأت الأمور تتفاقم عندما قرر ممثلو الثقافات المهيمنة اتخاذ أفعال عدوانية مباشرة ومتعمدة للحد من استمرار استخدام اللغات المحلية التقليدية. وفي معظم الأحيان كان هذا يتناقض تماماً مع الموقف الرسمي المعلن، الذين بدا وكأنه يشجع استمرار وجود الثقافات المحلية.
وهذه الأعمال العدوانية ارتكبت بدرجات متفاوتة من الشدة في الماضي غير البعيد مع كثير من سكان أستراليا الأصليين، وفي إنجلترا فيما يتعلق باللغة (الويلزية)، وفي أمريكا الشمالية والاتحاد السوفييتي السابق، وفي المنطقتين الأخيرتين، كان الأطفال يؤخذون من ذويهم وعائلاتهم بالقوة ويوضعون في مدارس داخلية حيث كانت لغة التعليم الإجباري هي اللغة الإنجليزية أو اللغة الروسية. ولم يسمح للأطفال أبداً بالتحدث باللغة الأم، إضافة إلى ذلك فقد كان يتم التهجير القسري لسكان المستوطنات من الأقليات العرقية المختلفة وإسكانهم في أماكن أخرى. وفي كثير من الأحيان أدى ذلك إلى التدمير التام للثقافات والقيم التقليدية وأيضاً إلى فقدان اللغات التقليدية المحلية وضياعها.
إن الشعوب المغلوب على أمرها والمهيمن عليها عادة ما تتمسك بلغاتها الأصلية كآخر متراس ضد الهيمنة الأجنبية، ولكنها غالباً ما تجد نفسها معزولة عن كافة مجالات الحياة العامة (الإدارة، السياسة، القضاء.. إلخ) والأنشطة الحياتية (التجارة والصناعة) وأيضاً يجدون أنفسهم محرومين من وسائل الاتصال الرئيسة (الصحافة والإذاعة والتليفزيون) وبذلك يصبحون مهمشين وتصبح لغاتهم مصيرها الاختفاء إن عاجلاً آو آجلاً.
إن هذه الظروف وغيرها، (مثل تلك المذكورة أعلاه)، أدت إلى وفاة واختفاء المئات من اللغات المهمة خلال السنوات الثلاث مئة الماضية وبسرعة كبيرة، خصوصاً المئة سنة الأخيرة منها، ولاسيما في أمريكا وأستراليا تحديداً.
إن من المرجح أن مئة لغة سوف تعاني من المصير نفسه في المستقبل المنظور، ووفاقاً لتقديراتنا فإن ما يقرب من نصف الستة آلاف لغة الموجودة في العالم الآن (أي حوالي ثلاثة آلاف لغة تقريباً) معرضة للخطر بمعنى من المعاني.
إن هناك عاملاً واقعياً كامناً وراء المشكلات والتطورات المذكورة أعلاه، وحتى وقت قريب، لم يجذب هذا العامل إلا القليل من الاهتمام، إن وجد، من اللغويين وغيرهم من الجهات المعنية المهتمة بمشكلة اللغات التي تواجه خطر الزوال، وربما لم تفهم أهمية هذا العامل بشكل صحيح حتى الآن.
ووفاقاً لإحدى النظريات عن العلاقة بين اللغة والعوامل أو العناصر غير المادية (الروحية والمعنوية) المحيطة بأولئك الذين يتحدون هذه اللغة، ووفاقاً لهذه النظرية، فإن العالم ينقسم إلى أجزاء عديدة وتوجد لغة ما لكل جزء من هذه الأجزاء، تلك اللغة توفر مجموعة تسميات Labels لذلك الجزء. وهذه النظرية تؤكد أن الاختلافات بين اللغات هي اختلافات سطحية فقط، وأن أية لغة يمكن أن تترجم بشكل كامل إلى لغة أخرى، لأنه في نهاية المطاف، كل اللغات تعبر عن نفس المعاني ولكن بشكل مختلف.
وبناء على هذه النظرية فإن اختفاء لغة يعتبر بمثابة حادثة طفيفة لأنها بمثابة اختفاء عضو أو من نفس النوع أو فرع واحد من نفس الشجرة. ومن العجيب والملفت للنظر أن هناك أتباعاً كثيرين لهذه النظرية. ولكن في الواقع أي شخص يعمل بجدية في مجال الترجمة بين اللغات والثقافات المختلفة يدرك تمام الإدراك خطأ هذه النظرية وزيفها.
نظرية ثانية عن اللغة تقول إن اللغة نفسها ت*** معظم تصورات العالم كله وأجزاء منه إلى حيز الوجود وتحافظ على هذه التصورات Percepyions. لذلك فإن (اللغات المختلفة) تصف بالتأكيد الواقع بجوانبه المتعددة والمتكاملة ومن خلال (طرق كثيرة). ووفاقاً لهذه النظرية، وكما سبق وذكرنا، فإن كل لغة تعكس إطلالة فريدة وخاصة جداً للمتحدثين بها ونظرتهم للعالم، وأيضاً تعكس الطريقة التي يتعاملون بها مع المشكلات المحيطة بهم، وأيضاً كيف يصيغون فكرهم ورؤيتهم لهذا العالم.
إن هذه النظرية تعتبر أن التنوع اللغوي هو رصيد ضخم ومصدر لا يقدر بثمن، وليس عقبة في طريق التقدم الإنساني كما يشيع أصحاب اللغات العالمية المتحضرة (المتروبوليتان). وبالإضافة إلى ذلك، فإن هذه النظرية تعتبر أن اختفاء ولو لغة واحدة يشكل خسارة مأساوية لا يمكن تعويضها للمعرفة الإنسانية.
إن من اللافت للنظر، ومن الغريب أيضاً، أنه على النقيض من القلق الشديد الذي يبديه الكثير من الناس على أنواع الحيوانات والنباتات المهددة بالانقراض، فإن بعض اللغويين لا يبدي اهتماماً كبيراً باللغة والخشية من انقراضها. إلا أنه –مؤخراً- ظهر عدد لا بأس به من اللغويين بدأ يشعر بالذعر والانزعاج من انقراض اللغات وتعرضها للخطر بسرعة كبيرة. وهذا التغيير في الموقف أو في التفكير يتزامن إلى حد كبير مع زيادة الوعي بأن اللغة هي جزء لا يتجزأ من ثقافة وهوية أولئك الذين يتحدثون بها.
إنه وفي كثير من الأحيان عندما يتم إطلاع الناس على تلك المشكلة، يكون رد فعلهم ببساطة هو التساؤل: لو أنه صحيح وجود أدنى مشكلة على الإطلاق فما جدوى أو أهمية دراسة لغات العالم ومحاولة صيانتها والحفاظ عليها؟. ولكن يبدو أن رد الفعل هذا يعكس الجهل بحقيقة أن أي لغة كانت تعكس الفكر الإنساني بكل تفاصيله وفي أعلى مستوياته.
وهذا طبعاً ينطبق على اللغات التي تتكلمها الشعوب التي يعتبرها البعض (بدائية)، خصوصاً أولئك الذين يتحدثون اللغات المعتبرة (العملات الرائجة) أو اللغات العالمية المتروبوليتانية. كما أنه يعكس أيضاً جهلهم بحقيقة أن كل لغة هي حالة فريدة من نوعها لأنها تحمل نمط تفكير متميز وطريقة معينة لرؤية العالم. وأن فقدان ولو لغة واحدة فقط يعتبر خسارة وانكماشاً وإفقاراً لمجموع الفكر الإنساني في تنوعه، والمعرفة الخاصة والعامة التي تعبر عنها تلك اللغة، ناهيك عن أن اللغة هي أداة لتحقيق التواصل بين الثقافات والشعوب المختلفة.
وهذه مجرد أمثلة قليلة: عادة ما يوجد في المجتمعات التقليدية أعشاب طبية فاعلة وهذه الأعشاب تكون معروفة فقط لسكان هذه المجتمعات. إن أسماء تلك الأعشاب تكون غالباً بلغة هذا المجتمع، لذلك، عندما نفقد لغة وثقافة هذا المجتمع أو ذاك فإن المعلومات والخصائص العلاجية لهذه الأعشاب نفقدها أيضاً، إلا إذا قام الباحث في مجال اللغات أو الأنثروبولوجيا أو أي شخص مهتم بتسجيل أسماء وخصائص تلك الأعشاب قبل اختفاء هذه اللغة أو تلك. ومن أمثلة هذا الموقف هو أعشاب (الكورار) و(الكينيين) في أمريكا الجنوبية، حيث كانت الخصائص الطبية لتلك الأعشاب معروفة فقط لسكان القبائل في الغابات لزمن طويل قبل دخولهم في الاتصال مع الأوروبيين.
وهناك مثال آخر من شمال أستراليا حيث لم تستجب بعض الأمراض مثل التقرحات الجلدية الشديدة (في المستشفيات المحلية) إلى الأدوية الأوروبية ولكنها اختفت سريعاً عندما عولجت بمستحضرات مشتقة من نباتات معروفة لدى بعض أفراد القبائل المحلية من السكان الأصليين، الذين كانوا قد دونوا معلومات مفصلة لاستخدام النباتات الطبية، ولحسن الحظ فإن الممرضة التي كانت تشرف على علاج هذه الحالة المرضية، كانت على علاقة وثيقة لمدة 22 عاماً بالسكان الأصليين وكانت تحترم عاداتهم وتقاليدهم وعلمهم وثقافتهم وتقدرها.
إن نجاح أشكال العلاج التقليدية والأنواع المماثلة أدى إلى تجسير الفجوة بين طب الأعشاب والطب الحديث، كما أدى إلى ذوبان الجليد مع بعض الأطباء المحترفين أصحاب النظريات العلمية الصارمة، ومن ثم بدأت رحلة البحث والتنقيب الواسع الآن عن النباتات الطبية الفعالة في أستراليا، وذلك بمساعدة السكان الأصليين الذين يوفرون الأسماء أو المصطلحات وأماكن زراعة تلك الأعشاب، وباللغة الأصلية لهؤلاء السكان التي تعاني من خطر الانقراض الشديد الآن.
وهناك مثال ثالث، ولو أنه مختلف قليلاً، يظهر أهمية وقيمة دراسة اللغات التقليدية (المنقرضة حالياً) في تنمية النمط الفكري والقدرة على التصور لمتكلمي لغات الإسكيمو، حيث توجد عدة مفردات لمفهوم معين يعبر عنه بكلمة واحدة في اللغة الإنجليزية. هذه الكلمة هي (ثلج)، وهناك الكثير من المفردات لكلمة (ثلج) في لغات الإسكيمو وكل كلمة تجدها تعبر عن معنى مختلف تماماً للثلج.
موقف مثل هذا يمكن المتحدثين باللغة الإنجليزية تحديداً من اكتشاف طرق تزيد عن عمق وثراء أفكارهم ومفاهيمهم للظواهر الطبيعية. وهناك الآلاف من الأمثلة المماثلة من لغات غير معروفة يمكن أن تثري حقل الإدراك الحسي لأولئك الذين يتحدثون لغة واحدة فقط عامة ودولية. وبالتالي هناك فائدة كبيرة لدراسة وفهم اللغات المحلية وبخاصة تلك المعرضة للانقراض، وقد حان الوقت لنشر هذه الرسالة الإنسانية وبتوسع.
إن مخاطر إفقار التنوع البيولوجي في العالم ناجمة عن انقراض الحيوانات والنباتات، هذه الرسالة قد وقعت على أرض خصبة ومن المأمول أن يكون نفس الحال في فهم الرسالة المتعلقة بإفقار الفكر الإنساني الناجم عن انقراض بعض اللغات واختفاء بعضها الآخر.
وإنه ليوجد اعتقاد متأصل بشدة وبخاصة بين متكلمي اللغات التي تعتبر مسيطرة ورئيسة، أن بإمكان لغة واحدة وثقافة واحدة تشكيل حياة طبيعية ومقبولة لبني البشر. ونتيجة لذلك يصبح متحدثو اللغات الأخرى التي تأتي ضمن نطاق سياسي لبلد أو منطقة يحكمها ناطقون بلغة واحدة، أعضاء كاملين أو على الأقل أعضاء منسيين لتلك الأمة ويواجهون خياراً صعباً، فإما أن يصبحوا ممثلين لتلك الأمة ويتحدثوا (أو يتظاهروا بالتحدث) بلغتها دون أي لغة أخرى، أو أن يهمشوا. وإذا كانت الظروف قد أجبرتهم على الحياة داخل هذا المدار السياسي فإنهم يصبحون مواطنين أقل حظاً ومهمشين في المجتمع.
في الواقع إن ثنائية وتعددية اللغات نادراً ما تنتشر وتصبح هي القاعدة لمتحدثي اللغات المهيمنة في العديد من القارات أو البلدان أو المناطق مثل (فنلندا، سويسرا، أجزاء أخرى من أوروبا، أفريقيا، الهند، إندونيسيا، منطقة جنوب غرب المحيط الهادئ، بارجواي، الفلبين، وذلك على سبيل المثال وليس الحصر).
نذكر هنا أنه في بعض المناطق مثل (غينيا الجديدة وكاليدونيا الجديدة) حيث كل مجتمع فردي يتكلم بلغة مختلفة ولكنهم على اتصال وثيق مع بعضهم البعض ولزمن طويل. القاعدة هي المساواة بين كل هذه اللغات: كل اللغات تتمتع بنفس القيمة والأهمية والاحترام والتقدير.
وهذا يعتبر في الواقع أنموذجاً ومثالاً يجب على الحضارات الأخرى أن تحتذي به! وأستراليا تسير في هذا الاتجاه: نسبة عالية من السكان هم مواليد بلدان أخرى، ولكن الأنماط الثقافية المختلفة تعيش جنباً إلى جنب في سلام، وأيضاً فإن سياسة الحكومة الرسمية هي التعددية الثقافية ويمكن سماع العديد من اللغات الأوروبية والآسيوية في كل مكان وأيضاً يمكن ملاحظة الارتفاع في نسبة التعدد اللغوي.
ونجد نفس الشيء في نيوزلندا حيث تحمل اللغة (الماروية) (وهي اللغة الأصلية لبولينيزيا) صفة رسمية مساوية للغة الإنجليزية وأيضاً أصبحت تدرس الآن في مدارس كثيرة. وتعتبر سويسرا هي مثال جيد في أوروبا حيث اللغة الرومانشية Romensch التي تعتبر صغيرة جداً (6700 متكلم فقط) باتت لغة موحدة وأصبحت تتمتع بصفة رسمية، وتتلقى دعماً كاملاً من الحكومة هناك.
الشيء نفسه مع اللغات الفنلندية والسويدية في جنوب فنلندا، وهناك أمثلة أخرى حديثة تتميز بتطورات مماثلة.
ما أوجزناه في الفقرات السابقة يشير إلى أنه من الممكن للغات الأقليات واللغات الأخرى الصغيرة وأيضاً بعض عناصر الثقافة التقليدية أن تبقى على قيد الحياة في مناخ مستقر وسياق متوازن Con**** من ثنائية اللغة والثقافة، حتى بعد أن يكون متحدثوها قد تعلموا إلى حد الإتقان اللغة المهيمنة أو السائدة وثقافتها، التي أجبرتهم الأحداث التاريخية أن يكونوا جزءاً من مداراتها.
وبالنسبة لمتحدثي هذه اللغات فإن لغتهم وثقافتهم التقليدية تكون بمثابة شيء يفخرون به وهذا في كثير من الأحيان يحقق التوازن النفسي والقيمي مع المواقف العدوانية والمتعصبة والازدرائية لبعض المتحدثين باللغة المهيمنة (الغازية) من أنصار أحادية اللغة.
لكن بالنسبة إلى الذين يتحدثون اللغات التقليدية من الأقليات فإن الاستمرار في الاحتفاظ بلغاتهم وثقافتهم تشعرهم بأنهم يمتلكون شيئاً خاصاً لا يمتلكه متحدثو اللغة السائدة. هذا فضلاً عن أن تعدد اللغات أو ثنائية الثقافة التي يتمتعون بها تعتبر ميزة غير ملموسة ولكنها حقيقية ومؤكدة جداً.
وينبغي هنا أن نشير أيضاً إلى حقيقة مهمة لا يعرفها كثير من الناس، وهي أنه من الممكن جداً للفرد في المجتمع البشري أن يكون ثنائي اللغة وثنائي الثقافة، فإنه من السهل لأي فرد أن يكون ثنائي الثقافة (في راحة تامة في ثقافتين) كما هو ثنائي اللغة. وكما أنه من الممكن تعلم لغة جديدة، فإنه من السهل تعلم ثقافة جديدة بكل أنماطها الفكرية ورؤيتها للعالم.
وفي الجماعات والبلدان المختلفة فإن ثنائية وتعددية الثقافة تعني أن الأفراد في الثقافات المختلفة يمكن أن يتعايشوا معاً في جو من السلام والتسامح الثقافي أي دون صراع أو حروب.
ويقودنا الحديث عن المزايا العاطفية والفكرية لثنائية وتعدد اللغات والثقافات، إلى التفكير في عدد من الاعتبارات الآتية:
من الناحية العملية، يتمتع ثنائيو ومتعددو اللغة وثنائيو الثقافة عن أولئك الذين يتكلمون لغة واحدة بالمميزات الآتية: القدرة الأكبر على استيعاب كم هائل من العلوم والمعارف، وامتلاك مخزون أكبر من المعلومات العامة والمفردات اللغوية في عقولهم، ناهيك عن الفهم العميق للعلاقات الدلالية بين الكلمات والمفردات والمعاني المختلفة، وسهولة الترجمة، والنقل، والتحويل من لغة إلى أخرى، ومن نمط تفكير إلى نمط تفكير آخر، وأخيراً فإن عقولهم هي الأكثر مرونة غالباً.
وبالمقارنة بهؤلاء الذين يتكلمون لغة واحدة فهم أقل صرامة في مواقفهم وأكثر تقبلاً للغريب والمجهول (أي أنهم أقل عدوانية وأقل شكاً في الآخر) وهم أيضاً يتمتعون بالقابلية لقبول واحترام الهويات والثقافات الأخرى حتى وإن كانت تختلف عن ثقافتهم إلى حد التناقض.
وأيضاً يتمتعون بتوازن بين الأنماط الفكرية ورؤية العالم وهذا لأنهم على دراية بمفاهيم مختلفة وأحياناً متناقضة لمفاهيمهم. وأيضاً فهم يتمتعون بقدرة أكبر على تعلم مفاهيم وأفكار وأشياء جديدة (غريبة) عليهم إذا اضطروا للاندماج دون صدمات نفسية، في وضع جديد تماماً عليهم، وأخيراً، فهم يستطيعون فهم الجوانب المختلفة لأي مشكلة يمكن أن تواجههم.
يجب على جميع البشر أن يكون هدفهم المثالي منذ الطفولة المبكرة أن يصبحوا من ثنائيي اللغة أو متعددي اللغات حاملين للثقافات المختلفة، وفي نفس الوقت فإن القدرة على الحياة والاستمرار تعطي للغات أنماطها ورؤيتها للعالم من حولها، حتى ولو كانت تحت ضغط مستتر أو ظاهر من اللغات والثقافات الأخرى، والذين يؤمنون بمبدأ مثالية اللغة الواحدة والثقافة الواحدة يكونون أقل تسامحاً وأحاديي التفكير (عدوانيين) ثقافياً.
ويمكن أن يستمر استقرار ثنائية اللغة وتعددها لقرون عديدة قادمة لو عاشت اللغات جنباً إلى جنب على قدم المساواة ودون ضغط من طرف أو آخر لصالح لغته. وأنه من الممكن مقاومة هذا الضغط عن طريق التوعية والوعي بأن لغة أي شخص ليست أقل شأناً من لغة شخص آخر، وأنه من الممكن الشعور بالراحة التامة في لغتين، وأن ثنائية وتعدد اللغات (لا اللغة الواحدة) هي القاعدة الأساسية في أنحاء كثيرة من العالم اليوم.
المصدر: ملتقى شذرات

__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية

الكلمات الدلالية (Tags)
اللغات, إنقراض


يتصفح الموضوع حالياً : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


المواضيع المتشابهه للموضوع إنقراض اللغات
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
حمل اسطوانة الشامل في تعليم اللغات بطلاقة Eng.Jordan التعليم والتدريب 2 08-11-2014 01:17 AM
استحضار النية في دراسة اللغات الأجنبية ام زهرة بحوث ودراسات منوعة 0 12-02-2013 04:07 PM
الثنائية وَالميزان الصّرفي في اللغات العَربيّة في الجزيرة العَربية Eng.Jordan دراسات و مراجع و بحوث أدبية ولغوية 0 06-21-2013 03:58 PM
اللغات القفقاسية Eng.Jordan رواق الثقافة 0 02-17-2013 07:45 PM
لغة العيون تتفوق على كل اللغات Eng.Jordan الملتقى العام 0 12-04-2012 05:46 PM

   
|
 
 

  sitemap 

 


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 09:55 AM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.12 by vBS
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والمشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59