#1  
قديم 02-09-2016, 09:06 AM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود غير متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 55,968
ورقة دراسة نقدية للمفاهيم الحداثية


دراسة نقدية للمفاهيم الحداثية
ـــــــــــــ

(عبدالعزيز الناصر)
ـــــــــــ

30 / 4 / 1437 هـ
9 / 2 / 2016 م
ـــــــــ





- الجزء الأول
---------

مدخل:
---

تتعدد المقاربات التي تعالج قضية حوار الحضارات بتعدد الدواعي والاعتبارات التي تطرح فيها. بيد أن البعد السياسي يبقى هو السمة الغالبة على هذه الكتابات بحكم طبيعة الموضوع الذي يفترض وجود طرفين يعبر عنهما معرفيا بالمشروع الحضاري الإسلامي والمشروع الحضاري الغربي، ويعبر عنهما بلغة الاقتصاد بدول الشمال ودول الجنوب، ويبرز الطرفان بشكل أوضح في الخريطة السياسية العالمية التي تستفرد فيها الدول الغربية بالهيمنة على دول الاستضعاف على طول محور طنجة – جاكرتا(1). ولعل الثقل الذي يشكله الحدث السياسي الذي يؤطر العلاقة بين هذين المحورين(2) يلقي بظلاله على مجمل المقاربات التي تتناول قضية حوار الحضارات(3).
وإذا كان من الصعوبة في هذا الموضوع الفصل بين المعرفي والسياسي بحكم أن الحوار يفترض موضوعه، ولا موضوع لحوار الحضارات سوى الإشكالات التي تطرحها العلاقات القائمة بين هذه الحضارات، وفي مقدمتها الإشكالات السياسية، فإنه من الممكن التمييز بين المستويين باعتماد إجراء منهجي يجعل حدود التلاقي بين المجالين في تناولنا للموضوع ينأى عن الإشكالات السياسية الكبرى التي يطرحها هذا الموضوع، لكنه في المقابل يتعمق في بحث الأسس المعرفية والقيمية لهذه الإشكالات. بيد أن هذا الاقتضاء، حتى ولو كان مجرد إجراء منهجي، لا يكون مبررا حتى يرتكز على مقدمتين أساسيتين:
- المقدمة الأولى: وهي التي تجعل للجانب الفكري والقيمي الفاعلية الأولى في التفسير، بحيث إذا جاز لنا أن نستعير الأدوات المنهجية للنظرية الماركسية، يكون الجانب الفكري (المرجعي والقيمي) بمثابة البنية التحتية التي تؤثر، بل وتصنع السياسة والاقتصاد والمواقف والأحداث (البنية الفوقية). بهذا الاعتبار، لا يكون مهما في البحث مناقشة الحدث السياسي بقدر ما تكمن الأهمية في بحث المنظومات الفكرية والقيمية التي كانت وراء إنتاجه، وتتبع وتحليل آليات اشتغالها وأشكال العلاقات التي تؤسس لها مع المنظومات المغايرة.

- المقدمة الثانية: وهي التي تجعل التفسير مقدمة وشرطا للتغيير، وحيث إن التشخيص والتفسير انبنى على عاملية المرجعي والقيمي حسب ما توضح في المقدمة الأولى، فإن التركيب أو التغيير (في حالتنا هو طرح منظور لحوار الحضارات) لا يتصور خارج تأسيس معرفي ينصرف بشكل أساس إلى الإطار المرجعي والقيمي.

المحور الأول:

في دواعي التأسيس لمنظور حوار الحضارات:
ربما كان لهذا الموضوع العشرات من الدواعي والاعتبارات التي تؤكد ضرورته وراهنيته لاسيما الاعتبارات ذات الطبيعة السياسية، فالعنف السياسي التي مارسته دول الهيمنة الغربية دفع ببعض مناطق العالم الإسلامي إلى القناعة بعدم إمكان الاستمرار في الوجود دون ممارسة صراع مضاد (المقاومة)، وكان سببا حسب بعض التفسيرات في ظهور تنظيمات عنفية جعلت مبرر وجودها واستمرارها هو مواجهة الغرب، كل الغرب، من غير تمييز بين الأفراد والمؤسسات، ولا إقامة أي فروق بين صناع القرار السياسي وبين المجتمع.. وبناء على هذه الوضعية التي غاب فيها الأمن والاستقرار سواء في الغرب أو حتى في بلدان العالم الإسلامي التي وصلتها حمى العمليات "الإرهابية"، اختلفت الدواعي السياسية لطرح موضوع حوار الحضارات بين رؤيتين:

- الأولى: غربية تقدر أن حالة العنف والإرهاب(4) التي تهدد السلام والأمن العالمي، إنما صدرت من دول العالم الإسلامي، وأن العامل الأساس في إنتاجها هو المعامل الفكري الإيديولوجي، وأنه يستحيل استعادة الأمن والاستقرار من غير عملية تجديد ديني تراجع بشكل جذري "المقولات التأسيسية للعنف" والتي توجد حسب بعض التفسيرات الغربية في النصوص الدينية والإيديولوجيات الدينية. ومن ثمة، فمهمة حوار الحضارات، لن تكون أكثر من عملية بيداغوجية تروم صناعة الاعتدال والتسامح، وتكون المنظومة الإسلامية هي المربع الوحيد الذي تتم فيه هذه العملية.

- الثانية، وتقدر أن حالة العنف السياسي وتنامي التنظيمات الراديكالية إنما هو بسبب سياسات الهيمنة الغربية وإخضاع الشعوب والتحكم في مقدراتها فضلا عن التحيز لإسرائيل في عدوانها على الفلسطينيين، ناهيك عن الاحتلال الأمريكي للعراق وأفغانستان. ومن ثمة، تطرح هذه الرؤية حوار الحضارات من منطلق الحاجة إلى إنهاء حالة الهيمنة وبناء الاجتماع العالمي على قواعد العدل والإنصاف.
وهكذا لا يخرج الداعي الأساسي لحوار الحضارات حسب الرؤيتين السابقتين عن قيمتين اثنتين هما: الأمن والعدل: الغرب يريد الأمن والشرق يريد العدل، وهي الإشكالية الدهرية التي يعبر عنها بكل وضوح الصراع العربي الإسرائيلي وبشكل خاص مسار المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية، وأيهما أسبق الأمن أم الحل العادل والشامل؟

والحاصل أننا بالاعتبار السياسي، ننتهي عند تتبع كل شكل من أشكال الصراع بين الغرب والشرق إلى خلاف إما في المفهوم الذي يضفيه كل طرف لقيمة من القيم، وإما في أولوية ترتيب القيم بحسب الحاجة السياسية. وفي الحالتين معا، يكون البعد السياسي هو المهيمن، ويغيب في المقابل العمق المعرفي، الذي يعتبر الأساس في الأمر كله، لأن المقاربة السياسية حتى ولو كانت معطياتها ومؤشراتها أكثر إقناعا، إلا أنها في المحصلة تنتهي إلى خلاصة مغلقة مستعصية على الحل بالأدوات السياسية، بخلاف المقاربة المعرفية، التي وإن كانت معطياتها ومفرداتها أكثر تجريدا، إلا أنها تنتهي في نتائجها إلى وضع الأسس الحقيقية للحل، فالمقاربة السياسية تستطيع على سبيل المثال، أن تتابع مواقف الدول المهيمنة وتستطيع أن تفسرها وتقرأ دلالاتها وخلفياتها، لكنها تعجز عن تفسير السبب الذي يدفع هذه الدول إلى السير في الاتجاه الذي يتعارض مع مصالحها الإستراتيجية، لسبب بسيط، لأن مراجعة الاتجاه ليست عملية قرار سياسي يتخذ وينتهي الأمر، ولكنها عملية مراجعة ضخمة تأتي على مسار فكري ومرجعي وقيمي بدأ تدشينه منذ النهضة الأوربية وأنتح مفاهيمه ومنظوماته ومؤسساته وأنماط علاقاته ونماذجه ورموزه بشكل تراكمي لم يعد بإمكان صناع القرار السياسي ولا بيد النخبة السياسية والاقتصادية المتنفذة أن تراجعه إلا أن يكون الأمر حصيلة فعل تاريخي تتدافع فيه مرجعيات ومنظومات قيمية مختلفة ومتغايرة، ويبني بعضها شرعيته على أنقاض أزمة البعض الآخر.

وفي هذا السياق يبرز الداعي المعرفي لطرح موضوع حوار الحضارات. ذلك، أن الحوار لا يكون له أي معنى إن لم يكن قصده ليس فقط فهم الأسس المرجعية والقيمية التي يقوم عليها كل مشروع، ولكن أيضا الوقوف على أزمة المرجعية والمنظومة المعرفية التي يعاني منها المشروع السائد، والمساهمة في تجاوز هذه الأعطاب، إما بإصلاح اختلالات المنظومة السائدة، أو بتغييرها من أساسها بمنظومة أخرى بمفاهيم جديدة ورؤية جديدة تؤسس عالمية جديدة لا تقود إلى نفس المصير الذي انتهت إليه المنظومة السائدة.
وفي هذا السياق، سيكون على هذا البحث أن يواجه ثلاثة أنواع من الأسئلة:

1- أسئلة المفاهيم: وهي التي تتوجه إلى المفاهيم السائدة بخصوص هذا الموضوع من أجل تفكيكها ووضعها في سياقها الخاص واقتراح اختيار معرفي للتخلص من الإشكاليات الزائفة التي تنتجها.

2- أسئلة النقد والتجاوز: وهي التي تتوجه إلى المنظومة السائدة من أجل فهم أصولها النظرية ومقولاتها الفكرية وإشكالات التي نتجت بسبب تنزيلها.

3- أسئلة التأسيس والتركيب، وهي التي تتوجه إلى المنظومة الجديدة ومعالمها المرجعية ومقدماتها المعرفية والمنهجية والقيمية:

وسنكتفي في هذا المقام بمدارسة أسئلة المفاهيم ريثما تتوفر فرص أخرى لتعميق النقاش حول أسئلة النقد والتجاوز وأسئلة التأسيس والتركيب.

المحور الثاني :
-------

مركزية القيم في حوار الحضارات: المدخل لمفاهيمي

عند الحديث عن حوار الحضارات تنتصب مجموعة من الاصطلاحات وتتداول بشكل كثيف دون أن يستقر فهم واحد وموحد لها، وبغض النظر عن الخلفيات الثاوية وراء تعويم هذه الاصطلاحات وتركها من غير تحديد متواضع حوله، فإن أي تأسيس معرفي لمقاربة ما في موضوع حوار الحضارات لا يمكن أن يتم من غير التحقيق في هذه الاصطلاحات ورصد المفاهيم المختلفة التي تضفى عليها ومحاولة الوقوف على الإشكالات التي تثيرها وأحيانا كشف زيف الطرح التي تندرج ضمنه، ولعل الاصطلاحات الأكثر تداولا في هذا الصدد ما يندرج ضمن ثنائيات متقابلة معاصرة حلت محل ثنائيات أخرى تقليدية قد تم تجاوزها، وهكذا حلت ثنائية (الكونية /الخصوصية) محل (الأصالة /المعاصرة)، أخذت ثنائية (عالمية القيم / عولمة القيم) مكان ثنائية (العودة إلى الذات/الغزو الثقافي) وتم تجاوز ثنائية (القيم الإسلامية/القيم الغربية) بإشكالية أكثر دقة تقيس القيم بالمفهوم الذي تضفيه المرجعية عليها (القيم/المرجعية).
المبحث الأول: الكونية والخصوصية

ربما كانت من أسوأ المفارقات التي تعيشها الفلسفة الحديثة (فلسفة الحداثة) أنها في الوقت الذي كانت منشغلة بالبحث عن ماهية الإنسان، كان اهتمامها منصرفا أكثر إلى البحث عن الكوني، وبدل أن يكون البحث عن ماهية الإنسان منطلقا لتأسيس الكونية، صار البحث عن الكونية مدخلا لإلغاء خصائص الماهية الإنسانية. ولعل هذه المفارقة هي التي دفعت فلسفة الحداثة في المحصلة إلى ارتكاب خطيئتين:
- خطيئة عدم فهم طبيعة الإنسانية المبنية على ثنائية الوحدة والتنوع، وفرض ماهية أخرى لهذه الطبيعة الإنسانية قائمة على فهم واحدي لا يفترق في أصله عن المنظور العنصري (رينان) إلا في تغيير الاعتبار العرقي بالاعتبار القيمي، أي أن فلسفة الحداثة، انطلقت من سؤال ما الإنسان؟ وما هي ماهيته؟ لتجد نفسها تستثني في حقل الدراسة الإنسان الكوني (التعدد والتنوع) وتقتصر على الإنسان الخصوصي (الإنسان الغربي).
- خطيئة عولمة "الواحدية" وقتل ماهية الإنسان: وهو المسار الطبيعي الذي يفترض أن تؤول إليه أية مقاربة لا تبحث حقيقة الماهية الإنسانية الموسومة بالتعدد والتنوع، إذ أن كل عقل يبحث عن الكونية، سيجد نفسه مضطرا إلى فرض ما يعتقد أنه كوني حتى ولو كان يعبر عن أدق خصوصيات الماهية الإنسانية الغربية.

وإذا كانت أعطاب الفلسفة الحداثية ترجع بالأساس إلى القفز عن فهم حقيقة الماهية الإنسانية القائمة على التعدد والتنوع، فإن قوتها لا تكمن في المقولات التي ترتكز عليها في هدم هذه الماهية، وإنما توجد في الآليات التي تعتمدها في عولمة فهمها الخصوصي وفرضها باسم الكونية على العالم. وهي الآليات التي سنبسطها بالتفصيل في المحور الخاص بالعالمية والعولمة.

والواقع، أن العالم وهو يبحث عن المشترك والكوني، لا يلزمه بالضرورة أن يرتهن إلى مقولات الفلسفة الحداثية، وإن كان منطلق التفكير الذي اعتمدته هذه الفلسفة، وسؤال الماهية الإنسانية التي جعلته بمثابة التأسيس للكونية يبقى مدخلا صالحا لإعادة المحاولة، لكن دون الانزلاق إلى مأزقيها الاثنين. بيد أن أي محاولة من هذا النوع، يلزمها في الابتداء أن تقف عند مصطلح الكونية، وماذا يقصد منه، قبل الانطلاق رأسا إلى توسل طرق تحقيقه.

المفارقة الثانية، أن مصطلح الكونية، الذي يمتع بتداول واسع، لا نكاد نجد له تعريفا فلسفيا ينتظمه، مما يجعله في المحصلة مجرد اصطلاح لغوي(5) لا يكتسب الأبعاد المفهومية التي يفترض أن تستوعبها مثل هذه الاصطلاحات. ولذلك، تجد الصياغات اللغوية التي تتناول مصطلح الكونية تحيل إلى المشترك الإنساني والمفاهيم التي تم التوافق عليها عالميا، لكن دون أن تأخذ على عاتقها وضع التساؤل النقدي حول تاريخية المفهوم، والسياق الذي تشكل فيه، والمنهجية التي تمت بها عملية الصياغة والطريقة التي تم التوافق بها على هذه المفاهيم.

ويكفي في هذا السياق أن نتأمل تاريخية صياغة منظومة حقوق الإنسان، وهو المجال الذي يتحرك فيه مفهوم الكونية والمشترك الكوني بشكل حيوي- يكفي أن نتأمل سياق تشكل هذه المنظومة، والمنهجية التي اعتمدت في عملية الصياغة والمآل الذي انتهت إليه حتى ندرك الأسباب التي تجعل من الكونية والمشترك الإنساني مفهوما نظريا صوريا لا يتمتع بأدنى صورة واقعية.

1- الملاحظة الأولى: لم تكن صياغة هذه المنظومة في البدء عملية جماعية، تجسد ما يعنيه مصطلح المشترك الإنساني، فقد انطلقت المبادرة أول ما انطلقت غربية، وتم بعدها البحث عن وسائل تعميمها.

2- الملاحظة الثانية: أنه في سبيل إعطاء سمة الكونية لهذه المنظومة، تم تشريع حق التحفظ على البنود التي تقدر مجموع الدول، وبشكل خاص الدول الإسلامية، عدم موافقتها وعدم انسجامها مع خصوصياتها ومرجعياتها، وكان هذا هو الخيار الوحيد الذي تم توسله من أجل توسيع دائرة الانضمام والتصديق والتوقيع على هذه الاتفاقيات. وهو ما يسمح باستنتاج خلاصتين فرعيتين:

أ- الأولى: أن مدخل تعميم هذه الاتفاقيات كان هو الاعتراف بالخصوصية.

ب- الثانية: أن الأمر لا يعكس ما يمكن أن نصطلح عليه مشتركا إنسانيا، بقدر ما يعني اختبار مدى قدرة بعض الدول على الدخول في خصوصية أخرى مع الاحتفاظ بخصوصيتها الأصلية.

3- إن المشترك الذي يعبر عنه بكونه إنسانيا، إنما تم التوصل إليه بتوسيع دائرة الانضمام والتصديق والتوقيع على هذه الاتفاقيات عبر آلية الضغط السياسي والمدني ضمن برامج مسنودة سواء من طرف الحكومات أو المنظمات الغربية غير الحكومية (ong).

4- النتيجة التي انتهت إليها هذه المنظومة، أنها أصبحت كونية بالقوة، وصار أكبر مطلب من مطالب الناشطين الحقوقيين في العالم العربي والإسلامي هو إعطاء الأولية في التشريع للمرجعية الحقوقية الكونية على التشريعات الوطنية!
ملخص هذه الملاحظات، أن الكونية كمفهوم لم تزل إمكانا تاريخيا، لم تحقق له شروط التأسيس، ولا سياق التشكل، بخلاف الخصوصية، التي وإن كانت هي الأخرى اصطلاح لم يكتسب بعد دلالة المفهوم، إلا أن ما يندرج ضمنها من مفاهيم استقرت بدلالاتها مثل الهوية والمرجعية، يجعلها تعرف بجزئياتها وفروعها، بحيث يصبح مدخل تعريف الخصوصية هو مفهوم الهوية أو مفهوم المرجعية.
وبحسب التعريفات المعجمية والفلسفية التي تعطى لاصطلاح الهوية، يمكن أن نخلص إلى منها إلى أربعة محددات أساسية:

1- المحدد الأول: الهوية تفترض الذات والآخر، وتفترض التغاير بينهما.

2- المحدد الثاني: تشير إلى الوحدة والتطابق والاستمرارية والانسجام داخل الذات.

3- المحدد الثالث: الهوية ليست مفهوما صوريا نظريا، وإنما هي مفهوم له تحقق في الواقع من خلال الجماعة، فالهوية هي الانتماء إلى جماعة والالتزام بها والوفاء لخصائصها الجوهرية.

4- المحدد الرابع: الهوية تحيل على المكونات التي صهرت الجماعة وكانت محددا أساسيا في عملية توحدها وانسجامها واستمرارها. وتختلف هذه المكونات من جماعة إلى أخرى، غير أن العنصر المشترك بين مكونات هوية هذه الجماعات هو الدين واللغة.
وبغض النظر عن الانتقادات التي توجهت إلى هذه المحددات خاصة من قبل بعض مفكري القومية العربية ، والذين ذهب بعضهم إلى "زحزحة ذلك المعنى الجوهراني المطلقي "(6) للهوية من خلال التأكيد على تاريخية مفهوم الهوية وما يعنيه ذلك من تطور مكوناتها وتجددها وخضوعها لمنطق التراكم التاريخي، فإن الأمثلة التي سيقت للاستدلال على تأكيد أن ما كان من مكونات الهوية اليوم قد يصبح خارجها في الغد، وما لم يكن منها في الماضي قد يصير منها في الحاضر أو المستقبل، هذه الأمثلة وفي مقدمتها مثال تطور الهوية القومية العربية، لا تسعف في التدليل على أطروحة نسبية الهوية وتاريخيتها، فالقومية العربية التي قامت على العروبة واضطرت في مرحلة لاحقة أن تدمج ضمن رؤيتها البعد الإسلامي بعدما فرض عليها السياق التاريخي استبعاده (مناهضة الخلافة العثمانية وشعار الجامعة الإسلامية) لم تقم بأكثر من الاعتراف بمكون ثابت من مكونات الأمة العربية اقتضى الموقف السياسي ضمن سياق تاريخي معين استعباده.

والواقع أن الذي تغير ليست هي الهوية ومكوناتها، وإنما الوعي بها من قبل بعض مكونات هذه الأمة.، وكذلك الأمر بالنسبة إلى مثال الهوية العثمانية الذي استعرضه الدكتور بلقزيز والذي تحول حسب اعتقاده من تركيا العثمانية الإسلامية إلى تركيا الطورانية ثم تركيا الأتاتوركية العلمانية فتركيا الإسلامية. هذا المثال ذاته، يكشف استحالة تغير ثوابت الهوية حتى ولو خضعت بلغة المادية الجدلية إلى التراكم التاريخي، إذ لم تنته تركيا في المحصلة إلا إلى استعادة ذاكرتها تماما كما استعادتها الدول العربية والإسلامية التي خضعت لعملية تحويل قسري لهويتها وثوابتها الثقافية والقيمية.
بيد أن هذا النقد الموجه لأصحاب الطرح النسبي والتاريخي للهوية لا يعني بالضرورة تبني مفهوم جامد يعتبر الهوية ثابتا لا يلحقه التغيير، بقدر ما يعني الاعتقاد بوجود ثوابت أساسية في الهوية لا تتغير بالتراكم التاريخي، وإنما الذي يتغير هو الوعي بها أو أشكال فهمها وتنزيلها.
أما مكتسبات المعرفة التي تحققت في القرنين الماضيين، والتي تم تبنيها لم تصبح في الواقع ثوابت في الهوية المتجددة كما يلاحظ البعض، فهي ليست من الثوابت، ولا يمكن بحال اعتبارها بديلا عن الثوابت الأساسية للهوية، وإنما هي جزء من المساحة التي تتركها القراءة الجديدة والمتجددة للثوابت، والتي تسمح بإدماج ما لا ينقض أساسات هذه الهوية مما يفرضه واقع التثاقف الحضاري.
ملخص القول، أن مفهوم الهوية ليست مطاطا وليس بذلك التنوع وتلك التعددية التي تسمح بإعادة تأسيس ثوابت بديلة للثوابت الموروثة، وإنما هو مفهوم يقوم أساسا على عنصر استصحاب المقومات الثقافية والقيمية والشخصية التاريخية ضمن قراءة متجددة لا تلغي هذه الثوابت لكنها في الوقت ذاته لا تنغلق عليها لتلغي عملية إدماج ما ليس منها فيها.

ويبقى الضابط المنظم لعملية إدماج ما ليس داخل الماهية (الغير) هو استبعاد ما ينسف الماهية (الضد) ويحولها عن ثوابتها، وهو نفس الضابط الذي تم تشغيله في عملية التعامل مع "الكوني" وهو الضابط الذي أسعفت أدواته الإجرائية في فهم زيف مقولة "الكوني"، وهو الذي وقف دون أن يحصل تغيير في مفهوم الهوية لجهة نقض ثوابتها الأساسية واستبدالها ب"ثوابت" أخرى كونية، إذ لا يعني هذا التعريف الجدي سوى حسم ثنائية الخصوصية والكونية تماما لصالح التماهي المطلق مع "الكوني" ، وهو الأمر الذي لم يحصل بالمطلق على الرغم من التحولات العولمية العميقة التي مست أسس الاقتصاد ونظم الثقافة وأدوات الاتصال.
|1|2|3|

الهوامش:
1. حسب اصطلاح مالك بن بني أنظر كتابه "فكرة الأفروآسيوية"
2. استعمالنا الاصطلاحي لمفردة محور هو اصطلاح لغوي أكثر منه تعبير عن نوع المقاربة التفسيرية التي يتبناها الكاتب بخصوص طبيعة الصراع السياسي بين دول الهيمنة ودول الاستضعاف.
3. يشار في هذا السياق لكتابات.
4. لا تميز هذه الرؤية بين الإرهاب وحق الشعوب في مقاومة الاحتلال. ولذلك، تندرج الفصائل الفلسطينية المقاومة طبقا لهذه الرؤية، ضمن الحركات الإرهابية.
5. انظر "درء التعارض بين الكونية والخصوصية" للكاتب زهير الخويلدي شبكة النبأ المعلوماتية الكاتب 18 مارس 2009.
6. انظر مقال الدكتور عبد الإله بلقزيز الهوية في بعد تاريخي ونسبي نشر في موقع التجديد العربي بتاريخ 19/04/2009.


- الجزء الثاني
--------------

المبحث الثاني: عالمية القيم وعولمة القيم

من المفيد أن نشير إلى أن العالمية ليس مصطلحا جديدا، فقد درج المفكرون وأصحاب المشاريع التغييرية أن يسموا أطروحاتهم بالعالمية، وهي نزعة تشبه إلى حد كبير النزعة التي تقسم تطور الفكر أو تطور أنماط الإنتاج إلى مراحل وتجعل في آخر المسار مرحلة يصار إليها بحكم طبيعة الصراع والسننية المحددة له (الحتمية)، ففي الفكر الماركسي اللينيني، تفسر مبادئ المادية الجدلية (صراع ووحدة الأضداد، التحول من كم إلى الكيف، ونفي النفي)(7) تطور أنماط الإنتاج من المشاعي، إلى العبودي ثم الإقطاعي والرأسمالي فالاشتراكي الذي تصار إليه المجتمعات بحسب قوانين المادية التاريخية على سبيل الحتمية التاريخية، وفي المقابل، تظهر نزعات العالمية في "الأممية الاشتراكية العالمية"، وفي الفكر النهضوي الإسلامي، تطفح الكتابات الإسلامية التي تتناول خصائص الإسلام أو التصور الإسلامي بالتفصيل في خاصية العالمية(8) كما لا تخفى نزعات الحتمية داخل هذا الفكر سواء من خلال الحديث عن إفلاس الحضارة الغربية(9) أو من خلال الحديث عن مستقبل الإسلامي(10) أو حتمية الحل الإسلامي(11). بيد أن الأمر في الحالة الليبرالية يأخذ منحى قسريا، إذ يتم ربط حتمية التحول إلى الأطروحة الليبرالية بنهاية التاريخ(12)، ويتجاوز هذا الفكر منطق التبشير بعالميته إلى توسل أدوات قسرية لفرضه وعولمته.
بهذا الاعتبار، ليست العالمية، أكثر من تطلع لإثبات قدرة الفكر – أي بنيته الداخلية - على الامتداد خارج رقعته الجغرافية وخارج المعادلة الاجتماعية التي أنتجته، وقدرته على أن يخاطب الآخر ويستميله إليه.
قد يكون لهذا التطلع تحقق في الواقع كما هو الشأن في التجربة التاريخية لكل أطروحة تغييرية تعدت حدود قطرها الجغرافي (تجربة الحضارة الإسلامية، وتجربة الامتداد الشيوعي، وتجربة الحضارة الغربية...) لكن، يصعب وسم هذا التحقق بالعالمية في غياب ضابط يميز بين ما كان بسبب تأثير الفكر، وبين ما تم فيه التوسل لفرض هذا الامتداد بأدوات خارج الفكر.
وعلى العموم، يقصد بخاصية العالمية، أو بالفكر العالمي، كل فكر استطاع أن يتمدد خارج رقعته الخارجية وخارج معادلته الاجتماعية بمنطقه الذاتي وانسجامه النظري.
أما مصطلح العولمة، باعتباره مصطلحا حديثا، فبقدر ما اكتسب سعة التداول، بقدر اختلفت التحديدات المعرفية بشأنه. وسنحاول أن نقترب من المفهوم ، ونصوغ التعاريف التي أعطيت له بشكل تركيبي يراعي المقاصد المنهجية والخلفية الفكرية المؤطرة لكل تناول على حدة:

1- تعريف جون توملنسون رئيس مركز أبحاث الاتصالات والثقافة العالمية بجامعة ترنت البريطانية :" العولمة تشير إلى الفعاليات المضطردة المتنامية التي تخص الاتصالات الاندماجية المعقدة بين المجتمعات والثقافات والأفراد على النطاق العالمي . العولمة هي الحركة الاجتماعية التي تتضمن انكماش البعدين الزمني والمكاني "(13).

2- تعريف روبرستون:" تشير إلى العملية التي من خلالها تزداد إمكانية رؤية العالم كمكان أوحد بالإضافة إلى الطرق التي تجعلنا في حالة وعي بهذه العملية "(14).

3- تعريف أنثوني جيدنز ، وهو من أبرز السوسيولوجيين في الوقت الراهن : " تكثيف العلاقات الاجتماعية الممتدة على نطاق العالم اجمع والتي تربط محليات متباعدة بحيث إن الأحداث المحلية تكيفها أحداث تصدر على بعد أميال عديدة "(15).

4- تعريف فيدرسون: " الامتداد الخارجي للثقافة المحلية المعينة إلى أقصى حدودها أي العالم أجمع. تصبح الثقافات المختلفة منخرطة في الثقافة الغالبة "(16).
والمتأمل في هذه التعريفات يجد أنها تنصرف بشكل خاص إلى الجانب الوصفي الظاهري من العولمة، فباستثناء تعريف فيدرسون الذي يشير إلى البعد الوظيفي للعولمة، أو الخلفية الثقاقية العميقة للعولمة ، التي تركز على عولمة الثقافة وانخراط الثقافات المحلية ضمن الثقافة الغالبة ، فباستثناء هذا التعريف ، تركز التعاريف الأخرى على البعد التواصلي، وحركية الأفكار والقيم في سياق انكماش البعدين الزماني والمكاني . ولذلك تبقى هذه التعاريف، باستثناء تعريف فيدرسون، على أهميتها غير مستوعبة لمفهوم العولمة وسياق تشكله، والخلفية النظرية والسياسية التي تؤطره .
ويصنف الدكتور أحمد يوسف أحمد التعاريف العربية التي أعطيت للعولمة إلى فئتين:
- التعاريف أحادية الجانب : وهي التي تركز مثلا على البعد الاقتصادي للعولمة بحيث تعتبر العولمة بأحد المعايير مرحلة من مراحل نمو النظام الاقتصادي الرأسمالي ( الدكتور صادق جلال العظم ) . وهناك من يركز على البعد السياسي ، إذ يساوي بين العولمة والأمركة ( المفكر المغربي عبد الإله بلقزيز الذي يعتبر العولمة الاسم الحركي للأمركة) .

- التعاريف ذات الطبيعة الشاملة : وهي التي تعتبر العولمة عملية متعددة الأبعاد شاملة لكافة جوانب الحياة الاقتصاد والسياسة والثقافة والمعرفة والاتصال يقول د أحمد يوسف احمد :" ولا شك أن هذا النوع من التعاريفات الذي يركز على المحتوى أو المضمون الشامل للعولمة يقدم مضمونا أوضح لها "(17).
وضمن سياق التناول الشمولي لمفهوم العولمة يطرح السيد ياسين نموذجه المعرفي في تناول العولمة من خلال ثلاثة أبعاد :
البعد الأول : دراسة دقيقة لتعريفات العولمة والتي تركز على العولمة باعتبارها مرحلة تاريخية، أو باعتبارها تجليات لظاهر اقتصادية، أو باعتبارها انتصارا للقيم الأمريكية، أو باعتبارها ثورة اجتماعية وتكنولوجية .
البعد الثاني : وهو الدراسة النقدية للأطروحات الأساسية التي تؤطر التعاريف السابقة :
- نقد أطروحة التوزيع التي على أساسها صيغ تعريف العولمة باعتبارها مرحلة تاريخية .
- نقد أطروحة الإقليمية التي على أساسها صيغ تعريف العولمة على أنها تجليات لظواهر اقتصادية .
- نقد التحديث كأطروحة صيغت على أساسها تعريف العولمة على أنها انتصار للقيم الأمريكية .
- نقد أطروحة الثورة الاتصالية باعتبارها أطروحة صيغ على أساسها تعريف العولمة على أنها ثورة اجتماعية وتكنولوجية .

البعد الثالث : وهو النموذج المعرفي المقترح ، ويهتم بمناقشة المواقف المتصارعة حول العولمة وتحديد رؤية أكثر عمقا لمفهوم العولمة . إذ يرى السيد ياسين بعد عرضه للتعاريف المعطاة للعولمة، ونقده للأسس النظرية التي قامت عليها أن العولمة ستتجاوز بمفهومها ووسائل اشتغالها حتى الذين خططوا لها وهندسوا مقاصدها . يقول :" وإذا كان صحيحا أن العولمة الراهنة تكشف عن ذروة من ذرى تطور النظام الرأسمالي العالمي – فإن التاريخ سيتجاوز هذه اللحظة ، وسيكشف في المستقبل المنظور أن العولمة – بغض النظر عن الرأسمالية – ستتجاوز شروط نشأتها لتصبح عملية عالمية واسعة المدى ، ستنقل الإنسانية كلها – على اختلاف ثراء أو فقر الأمم – إلى آفاق عليا من التطور الفكري والعلمي والتكنولوجي والسياسي والاجتماعي. وبعبارة أخرى ستحدث آثارا إيجابية لم تكن متصورة لدى من هندسوا عملية العولمة ، بل وستتجاوز هذه الآثار مخططاتهم التي كانت تهدف إلى الهيمنة والسيطرة على النظام العالمي "(18).

يبدو من خلال التحديدات المعرفية التي أعطيت للعولمة أن هناك استقطابا حادا أثر بشكل ملحوظ على هذه التعريفات . ويمكن أن نتلمس منها وجود تيارين متناقضين لهما رؤيتان متصارعتان :
التيار الأول : الذي يتحمس بدون تحفظ للعولمة ، ويعكس مقولات هذا التيار انطوني جيدنز الذي يرى أن العولمة هي " تكثيف العلاقات الاجتماعية على مستوى العالم بطرق تجعل الأحداث المحلية تتشكل بفعل الأحداث التي تقع على مسافة بعيدة والعكس"(19) والعولمة في منظوره تجعل من الممكن فصل المكان كلية عن الهوية، والقفز خلف الحدود الثقافية والمرجعية والسياسية ، والتقليل من جملة من الثوابت، كالانتساب أو الانتماء إلى بلد واحد.
التيار الثاني : وهو التيار المعارض للعولمة بشدة وقد بنى موقفه على جملة من الاعتبارات نذكر منها أن العولمة :

- تنفي التعددية الثقافية .
- تسيد قيم الربح والخسارة وآليات السوق على حساب الخصوصيات الثقاقية والهوية المرجعية للبلدان.
- تعتدي على حرية وسائل الإعلام والحق في الاتصال.
- تقوض سلطة الدولة .

ويعكس مقولات هذا التيار بشكل أكثر وضوحا المفكر الأمريكي تشومسكي إذ يختصر مفهوم العولمة في :
- الزيادة الضخمة في الإعلان وخاصة إعلان السلع الأجنبية.
- التوسع في التعدي على القوميات من خلال شركات عملاقة شاملة ومستبدة يحركها أولا الاهتمام بالربح وتشكيل الجمهور وفق نمط خاص(20).
والمتأمل في رأي الفريقين يرى أنه كليهما يركز على تأثير العولمة على الهوية الثقافية ، فبينما يعتبر الفريق المتحمس للعولمة أن مسألة الهوية مسألة نسبية يمكن لرياح الاتصال وحركية المعلومات أن تؤثر فيها إيجابيا انسجاما مع التطور الفكري الحتمي للعالم ، يحرص الفريق الناقم على العولمة على اعتبار مسألة المرجعية والهوية الثقافية من حقوق الشعوب الأساسية والتي لا ينبغي التعدي عليها بفرض قيم أمريكية خاصة وتعميمها على كل البلدان .

نقد العولمة، أو العولمة كمدخل للعالمية:
------------------

ليس هناك من شك بالنظر إلى ما سبق، أن الفارق كبير بين العالمية وبين العولمة، وليس هناك من شك أيضا أن العولمة لم تنجح بأدواتها في أن تكتسب المشروعية كفكر عالمي، بل على العكس من ذلك، ولأول مرة في التاريخ تتكتل توجهات من مختلف الثقافات والمرجعيات لمواجهتها، لكن مع ذلك، ينبغي الإقرار بأن العولمة عملية تاريخية غير قابلة للتراجع، وأن منطقها في التطور كما ذهب إلى ذلك السيد ياسين، يتجاوز مهندسيها والمتحكمين في مسارها، فالعولمة فتحت بابا لا يمكن التنبؤ بمن سيحسن استعماله وتوظيفه لنشر نموذجه والتبشير بقيمه، فليس من باب الحتمية أن ينخرط الجميع في القيم الأمريكية، فإذا كان منطق الواقع اليوم يؤكد سيطرة هذه القيم ثقافيا ، فإن الرؤية الاستشرافية التاريخية لمآل العولمة وتطورها لا تضمن استمرار هذه السيطرة، ذلك أن المحدد الرئيس في مآل العولمة هو ما ستؤول إليه المواجهة الحقيقية ضد نسق القيم السائد العولمي."(21) ومن يملك الإرادة القوية لحسم هذا الصراع لصالحه.
خلاصة القول، أن الضرورة باتت ملحة للتمييز بين العولمة كسياق تاريخي، وبين النسق الثقافي الغربي الذي يستثمرها لنشر قيمه ونموذجه. ذلك التمييز الذي يجعل من الممكن جعل العولمة مدخلا للعالمية.
إن الخوف من العولمة على الهوية وعلى الخصوصية والمرجعية أمر مبرر ، لكن موقف الرفض للعولمة لا يمنع، في واقع الأمر، النسق الثقافي الأمريكي من فرض قيمه ، ولا يمنع العولمة نفسها من المضي في طريقها متجاوزة ليس فقط من رفضها ، بل حتى من أسهم في نشأتها وتحمس للفضاءات المعرفية والثقافية التي تتيحها.
يبدو أن العالمية ممكنة من خلال استثمار العولمة شريطة الاعتراف بواقع العولمة ، والتعامل معها بإيجابية ووظيفية ومقصدية ، ولعل هذا ما عبر عنه بوضوح الدكتور تركي صقر حين دعا إلى "التمسك بالهوية القومية وتطوير الخصوصية ، دون اندماج هيكلي تابع للدول المهيمنة أي النظر بعلمية لهذه الظاهرة ، والإفادة من معطياتها ، وتحويلها إلى موقف لصالح الشعوب وليس موقف مضاد لمصالحها. وهذه نظرة واقعية لظاهرة عالمية تريد أن تستغلها الدولة الأعظم كلية لصالحها، وتريد أن تقطف منجزات العلم والثقافة التي هي منجزات عالمية لصالح طرف واحد "(22).
وهي نفس النظرة التي أصل لها بعمق الدكتور طه عبد الرحمان بشدة عندما عرض لآفات ما أسماه السيطرات الثلاث للعولمة.

1- سيطرة الاقتصاد في حقل التنمية والإخلال بمبدأ التزكية.
2- سيطرة التقنية في مجال العلم والإخلال بمبدأ العمل.
3- سيطرة الشبكة في حقل الاتصال والإخلال بمبدأ الاتصال.

وانتهى إلى أن هذا السيطرات تعرض نظام العولمة لأزمة أخلاقية مثلثة، تتمثل في كون سيطرته الاقتصادية تحصره في نطاق المنفعة المادية، وثانيا في كون سيطرته التقنية تحصره في نطاق الفعل الإجرائي ولا تخرج به إلى رحاب فضاء العمل المقصدي، وثالثا في كون سيطرته الاتصالية تحصره في نطاق المعلومات البعيدة ولا تخرج به إلى رحاب المعروفات القريبة"(23).
وعليه، يصير التعريف الذي أورده ويبسترز للعولمة ممكنا إذا ما تم تجاوز هذه الآفات الثلاثة، ذلك أن النظام الثقافي والقيمي الذي"يكتسب طابع العالمية" وتصير إمكانية "تطبيقه عالميا" ممكنة، لا يمكن تصوره خارج التدافع مع النسق الثقافي المهيمن، كما لا يمكن وروده من خارج الأنوية التي تتيحها العولمة.
|1|2|3|

------
الهوامش:
7- يراجع أصول الفلسفة الماركسية جورج بوليتزر
8- سيد قطب في كتابه خصائص التصور الإسلامي ومقوماته، يوسف القرضاوي في كتابه الخصائص العامة للإسلام
9- انظر كتابات محمد قطب
10- انظر كتاب سيد قطب المستقبل لهذا الدين.
11- انظر سلسلة حتمية الحل الإسلامي للدكتور يوسف القرضاوي
12- نهاية التاريخ فوكوياما.
13- العولمة دراسة تحليلية نقدية عبد اله عثمان التوم – عبد الرؤوف محمد آدم لندن دار الوراق 1999 ص 19
14- نفس المرجع ص 20
15- نفس المرجع ص 20
16- نفس المرجع ص 21
17- العولمة قضايا ومفاهيم أحمد الرشيدي – أحمد يوسف أحمد – حازم أحمد حسني وآخرون القاهرة جامعة القاهرة 200.
18- العالمية والعولمة ياسين السيد القاهرة دار نهضة مصر 2000.
19- العولمة ومستقبل الإعلام العربي مجمد شومان مركز الدراسات السودانية القاهرة 2000 ص 29
20- نفس المرجع ص 29
21- العالمية والعولمة ص : 54 و 55
22- الإعلام العربي وتحديات العولمة تركي صقر وزارة الثقافة والإرشاد دمشق 1998 ص 205
23- روح الحداثة المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية من ص79 إلى ص85.




المبحث الثالث: القيم والمرجعية
---------------------

قد يبدو في الظاهر وكأن هذا المبحث نشاز ضمن هذا الفصل الذي عني بالمسألة المفاهيمية، لكن المسافة التي تبدو بعيدة بين مبحث القيم والمرجعية ومفاهيم مثل الكونية والخصوصية، والعالمية وعولمة القيم، تصبح أكثر قربا إذا أوضحنا أن الأمر يتعلق بالتدافع القائم بين الأنساق الثقافية والمنظومات القيمية وطبيعة التأويلات المختلفة التي تضفى على "القيم المشتركة".
يزول الالتباس مطلقا، إذا أوضحنا الصورة بتفاصيلها، وتبين أن مجمل القيم التي تم التواضع على أنها "كونية" تحمل تفسيرات وتأويلات مختلفة بحسب النسق الثقافي الذي تتداول فيه. وهكذا، تبدو قيمة "التسامح" التي لا خلاف على كونها "قيمة كونية" أكثر المفاهيم التباسا وذلك بالنظر إلى حجم التأويلات التي تعطى لهذا الاصطلاح ناهيك عن مصطلح "الانفتاح" وغيره.
ولعل أكبر آفة يسقط فيها "العقل الكوني" أنه لم يستطع لحد الآن أن يقدم تعريفات كونية لمجموعة من الاصطلاحات التي بلغت من الشيوع حدا غير مسبوق، فلحد الآن على سبيل المثال، لا يوجد أي تعريف "كوني" لمفهوم الإرهاب مما يجعله أكثر المفاهيم التباسا خاصا حين يدخل حقل الممارسة السياسية، ومن ذلك أيضا الكراهية والتحريض وغيرها من المفاهيم الملتبسة التي يتم التدافع لفرض تأويلات خصوصية لها وإلباسها لبوس الكونية.
هذا الوضعّ، الذي تبدو فيه القيم من حيث الظاهر كونية، ومن حيث تأويلاتها بالغة الخصوصية، يفرض أن نطرح التساؤل أولا عن الآلية التي تتحكم في عملية نقل القيمة من الكونية إلى الخصوصية، ثم ثانيا، عن السبب الذي يجعل هذه القيمة لا تحظى بتفسير عالمي مشترك يرفعها إلى درجة الكونية.
وقبل الإجابة عن هذين التساؤلين، وقبل الخوض في تفاصيل العلاقة المفترضة بين القيم والمرجعية، نضع بعض المقدمات الضرورية فيما يخص مفهوم المرجعية وسياق طرحه والوضع الاصطلاحي الذي آل إليه.

1- المقدمة الأولى: لا نكاد نجد في التعاريف الاصطلاحية التراثية (الشرعية) ما يفيد دلالة على أي معنى من المعاني الذي آل الوضع الاصطلاحي للمفهوم، وغاية من نملكه في إثبات العلاقة بين هذا المصطلح والمفاهيم التي يستعمل بها هو التعريف اللغوي لكلمة المرجع.

2- المقدمة الثانية: إن تأصيل هذا الاصطلاح اعتمد على الفعل أكثر من اعتماده على الوضع الاصطلاحي، ذلك أن عملية العودة (الرجوع) إلى كتاب الله وسنة سول الله أو إلى الفقيه أو الإمام في الفكر الشيعي، هي التي دفعت في اتجاه تأسيس هذا الاصطلاح بهذه الدلالة.

3- المقدمة الثالثة: أن الوضع الاصطلاحي للمفهوم هو أكثر ذيوعا في الفكر الشيعي منه في الفكر السني لارتباطه بالشخص (الإمام) أو المؤسسة، بخلاف الفكر السني، فإن دخول هذا الاصطلاح إليه، إنما كان من باب تسمية العملية الأصولية التي تخصر مصادر التشريع الأصلية في القرآن والسنة، حتى صارت كلمة المرجعية لا تعني سوى الرجوع إلى الكتاب والسنة، والتماس المفاهيم كما الأحكام من هدي هذين المصدرين ومقاصدهما.

4- المقدمة الرابعة: بالإضافة إلى التأصيل السابق، يرجع اعتماد هذا الاصطلاح (المرجعية) في الفكر الإسلامي المعاصر إلى التأثير الذي أحدثته كل من الدراسات اللسانية خاصة مع جاكوبسون في نظريته التواصلية حيث استعمل المرجع كمكون من مكونات الوظيفة التواصلية(24)، وأيضا تاثير الدراسات الإيبستمولوجية خاصة مع باشلار حينما استعمل المرجع في تحديد الرؤية إلى العالم في كل من فزياء نيوتن وفزياء إنشتاين(25).

5- المقدمة الخامسة: إن اصطلاح المرجعية تم تأصيله داخل الفكر الإسلامي بالإحالة على المصطلح الأصولي " أصل" والذي يراد به الدليل الإجمالي (الكتاب والسنة)، وبالإحالة أيضا على مفهوم الرد إلى الله ورسوله لاسيما عند وضعية التحكيم والتحاكم التي تكثر فيها التأويلات والتفسيرات وتحتاج إلى حسم، فكانت الدلالة المفهومية للمرجعية هي عملية الحسم التي تنتج عن عملية الرجوع إلى الأصول.
بعد هذه المقدمات الضرورية، نستعير تصنيفا إجرائيا ثلاثيا لمنظومة القيم أورده الدكتور خالد الصمدي في تقديمه لكتاب مدونة القيم للأستاذ محمد بلبشير الحسني، وفصله في موضع آخر(26) ونعتمده أساس لإثبات العلاقة بين القيم والمرجعية، حيث جعل لها ثلاثة أركان:

1- القيمة: وهي طابع كوني مطلق غير قابل للتحول، ولذلك لا خلاف بين الشرق والغرب وبين الحضارات جميعا في تقدير القيم الفاضلة والاعتراف بأهميتها وضرورتها مهما اختلفت الأديان والمعتقدات والملل والنحل.

2- المرجعية: ويقصد بها المرجعية التي تستند إليها القيم لتضمن الاستمرار في سلوكات الإفراد والمجتمعات.

3- المفهوم: وهو الدلالة التي تأخذها القيمة حين تستند إلى مرجعيتها
ففي المستوى الأول، لا يكون هناك على سبيل المثال أدنى خلاف حول قيمة العدالة أو المساواة أو الحرية، لكن حين تستند هذه القيم إلى مرجعياتها تكتسب دلالات مختلفة بحسب اختلاف المرجعيات، وهكذا يأخذ التسامح في المنظومة القيمية الإسلامية مفهوما مختلفا عن المفهوم الذي يحمله في المنظومة القيمية الغربية، وكذلك الأمر في بقية القيم الأخرى التي تكتسب دلالاتها من مستندها المرجعي.
حاصل هذا التصنيف، أن القيم تبدأ كونية من حيث الاعتبار، وتنتهي بالخصوصية عند التأويل والتفسير، ولا يكتسب الفهم الذي تعطيه المرجعية لهذه القيم طابع الكونية إلا إذا اكتسبت المرجعية ذاتها هذا الطابع.
وهكذا، يتحول النقاش والسجال الفكري من ثنائية القيم الغربية/ القيم الإسلامية، إلى إشكالية أكثر دقة وحسما وهي ثنائية المرجعية الغربية/ والمرجعية الإسلامية.
هذا الاستنتاج يسمح لنا على الأقل بتجاوز زيف الطرح الإشكالي لمفهوم القيم الكونية، لأن القيم، حسب التصنيف الإجرائي الذي استعرناه، كلها كونية قبل أن تكتسب دلالاتها في السياق المجتمعي من المرجعية الحاكمة والمهيمنة، لكن التفسيرات التي تضفى عليها والدلالات المفهومية التي تأخذها لا تستطيع الحفاظ على هذا الطابع إلا إن اكتسبته في سياق حواري بين المرجعيات وانتهى إلى اعتبار هذه القيم بمفاهيمها التفسيرية مشتركات إنسانية.

والحال، أن غياب هذا الفعل الحواري بمواصفاته وشروطه يجعل أقرب طريق لإكساب هذه القيم طابع الكونية هو الهيمنة وفرض النموذج القيمي السائد على الشعوب المستضعفة، بل واستهداف المرجعيات، وإخلاء الساحة لمرجعية واحدة هي المرجعية "الكونية"!!



-------------------
المصدر: ملتقى شذرات

رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية

الكلمات الدلالية (Tags)
للمفاهيم, الحداثية, دراسة, نقدية


يتصفح الموضوع حالياً : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
أدوات الموضوع

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


المواضيع المتشابهه للموضوع دراسة نقدية للمفاهيم الحداثية
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
الوحي القرآني في الفكر اللاهوتي دراسة تحليلية نقدية عبدالناصر محمود شذرات إسلامية 0 04-15-2014 07:46 AM
حقيقة موقف الرازي من ***** والتنجيم, وإنكار ابن تيمية عليه (دراسة نقدية في دفاعات الأشاعرة). عبدالناصر محمود شذرات إسلامية 1 02-21-2014 11:52 PM
سميح القاسم دراسة نقدية في قصائده المحذوفة Eng.Jordan دراسات و مراجع و بحوث أدبية ولغوية 0 01-29-2012 07:46 PM
قطوف أدبية - دراسة نقدية في التراث العربي احمد ادريس دراسات و مراجع و بحوث أدبية ولغوية 0 01-20-2012 06:17 PM
حمل دراسة أدب الأطفال وثقافتهم قراءة نقدية مهند دراسات و مراجع و بحوث أدبية ولغوية 0 01-09-2012 06:51 PM

   
|
 
 

  sitemap 

 


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 06:07 AM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.12 by vBS
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والمشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59