#15  
قديم 10-09-2014, 08:16 AM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 56,039
ورقة الاعتراف بفشل التحليلات الماركسية

الاعتراف بفشل التحليلات الماركسية
ـــــــــــــــــــ

اعترافات علماء الاجتماع
---------------

الحلقة الخامسة عشر
-------------

الاعتراف بفشل التحليلات الماركسية
-----------------------------

في كلماتٍ بسيطة وموجزة، حَسَمَ الأستاذ (محمد قطب) القضيَّة التي قَضَى رجال الاجتماع من الماركسيين العرب زمنًا في دراستها.

يقول الأستاذ محمد قطب:
"جاءت الصحوة الإسلاميَّة في مَوعِدها المقدور من الله، وكانت مفاجأةً ضخمةً لكثيرٍ من الناس".

وعن الذين باغتَتْهم هذه الصحوة يقول:
"هؤلاء قد أغفَلُوا حقيقة ضخْمة تندرج تحتَها حقائقُ كثيرة لا تسير حسب حِساباتهم، ولا تستَطِيع حِساباتهم أنْ تصلَ إليها؛ لأنَّ الله قد جعَلَ على قلوبهم أكنَّة وفي آذانهم وقرًا، أغفلوا بادئ ذي بدءٍ أنَّ الذي يُدبِّر الأمر في هذا الكون العريض كلِّه ليسوا هم وليس غيرهم من البشر، إنما هو الله"[1].

الماركسيون من رجال الاجتماع العرب ليس مرجعهم (الله - عزَّ وجلَّ)، إنما مرجعهم ماركس، ولينين، وماكس فيبر، وألتوسير، وغرامشي، وسمير أمين، وطيب تيزيني، وعابد الجابرى، وحسين أحمد أمين، ومحمد أركون، وعبدالله العروي... إلخ.

يقول (علي الكنز) أستاذ الاجتماع في جامعة الجزائر في تفسيره للصحوة الإسلامية:
"لتفسير صَحوة وانتِعاش التوجُّه الدِّيني الذي تعرفه المجتمعات العربيَّة المعاصرة استعملت العديد من فرضيَّات البحث، لكلِّ واحدةٍ منها فعاليتها النظريَّة الخاصَّة.

وباختلاف هذه الفرضيَّات من حيث التناوُل والطرح فهي ساعدَتْ على كشف واقع التشكيلات الاجتماعيَّة العربيَّة الراهنة.

هذه الفرضيَّات العديدة والمختلفة وُضِعتْ من قِبَلِ الكثيرين من أمثال: سمير أمين والطيب تيزيني ومحمد أركون وعبدالله العروي ومحمد عابد الجابري، وغيرهم من الذين زوَّدوا الإنتاج العلمي بإنتاجهم الذي لا يُستَهان به من حيث نوعية التحليل وثراؤه"[2].

وفي إحدى الحواشي لدِراسته عن الإسلام والهويَّة يَذكُر أنَّه تبنَّى عنوان كتاب حسين أحمد أمين: "دليل المسلم الحزين إلى مقتضى السلوك في القرن العشرين".

وفي حاشيةٍ أخرى يقول: "ونستطيع هنا أنْ نُردِّد الطريقة اللينينيَّة المتعلِّقة (بالحلقة الأكثر ضعفًا)، أو بطريقة غرامشي (الزمن التاريخي)، أو حتى المقولة الألتوسيرية المُستَوحاة من التحليل النفسي".

هؤلاء هم مَراجِع الماركسيين العرب من رجال الاجتماع في تفسير الصحوة الإسلاميَّة.

وسنعرض فيما يَلِي اعترافاتهم الصريحة بإخْفاق تحليلاتهم وتفسيراتهم لهذه الصحوة، وما تضمَّنَتْه هذه الاعترافات من تأكيدٍ على خَيْبة أملهم في (العقلانية) التي ظنُّوا أنها ستُساعِدهم في فهْم الواقع العربي.

أولاً: قولهم بارتباط الدِّين بالتراجُع والتقهقُر، وارتباط العقلانية بالصعود والتطوُّر:
الدِّين عند رجال الاجتماع تعبيرٌ عن الحزن، وانعكاسٌ لبُؤسِ العالم وشَقائه، أمَّا الفكر العقلاني فهو تعبيرٌ عن حيويَّة الوعي الجماعي الذي يَعكِس تطوُّر العالم وازدهاره؛ ومن ثَمَّ فإنَّ الصحوة الإسلامية وما يُسمُّونه بانتعاش التوجُّه الديني هو عندهم تراجُع وتقهقُر إلى الوَراء.

يقول علي الكنز: "... فهل يمكن لنا أنْ نُدلِي بأنَّ الوعي الديني أو التشبُّث بالدِّين هو مُزامِنٌ للفترات التراجعيَّة والمراحل المتقهقِرة، وأنَّ الفكر العقلاني يُزامِن الفترات التصاعديَّة أو المتطوِّرة، ونقول أنَّ ذلك هو تطبيق للقانون التاريخي؛ وعليه: فإنَّ الدِّين هو بمثابة تعبيرٍ عن الحزن، وبالتالي فهو انعكاسٌ لبُؤس العالم وشَقائه، وعكس ذلك اعتبار الفكر العقلاني بمثابة تعبيرٍ عن حيويَّة الوعي الجماعي الذي يَعكِس هذه المرَّة تطوُّر العالم وازدهاره"[3].

اعترف الماركسيون العرب من رجال الاجتماع بعد مراجعة حِساباتهم بفشل تصوُّراتهم عن الارتباط بين الدِّين والتقهقُر، وبين العقلانية والصعود، وساقُوا الأسباب الآتية لبيان فشل هذا الارتباط:
1- أنَّ هذا الارتباط يَأخُذ تاريخ الغرب على أنَّه النموذج الأصلي والمرجعي لتاريخ البشريَّة، وهذا غير صحيحٍ باعترافهم.

2- أنَّ هذا الارتباطَ يُعتَبر أحكامًا مسبقة، لا أساسَ لها من الصحَّة؛ لكونها غير مبنيَّة على وقائع تاريخية أو براهين استدلاليَّة.

3- أنَّ هذا الارتباط يُمثِّل - في رأيهم - سقوطًا فيما يُسمُّونه (بغْي الأيديولوجية الوضعية[4]، والعلموية[5] التي أنتجَتْها الثقافة الغربية)؛ بمعنى: أنَّه: (استهلاكٌ لقراءة غربية يستهلكها الفكر العربي باسم العقلانية)، وبصورةٍ أخرى: أنَّه (تَبَنٍّ لايديولوجيات وفكر ونظريات أُنتِجت خارج المجتمعات العربية)، وذلك حسب تعبيراتهم ذاتها التي أوردوها في أثناء اعترافهم[6].

ثانيًا: قولهم بالقُدوم المظفَّر والمنتصر لرجل التقنية وزوال ما يُسمَّى بـ(رجل الدِّين):
من المعروف أنَّه ليس هناك رجال دِين في الإسلام، وإنما هناك علماء، فمصطلح (رجال الدِّين)، انتقل إلينا من النصرانيَّة، وشاعَ استخدامه في بلادنا بسبب التأثُّر بحضارة الغرب.

اعتقد الماركسيون العرب من رجال الاجتماع نقلاً عن عبدالله العروي بأنَّ ما يُسمَّى برجل الدِّين قد اختفى وزالَ من الساحة بسبب القدوم المظفر والمنتصر لرجل التقنية، لكنَّهم عادوا يعترفون بعدم صحَّة ذلك، مُؤكِّدين في نفس الوقت اعترافهم بفشل العقلانية وأشكال تحليلاتها.

وساقوا بأنفسهم أيضًا أدلَّة عدم صحَّة افتراضهم السابق على النحو التالي[7]:
1- أنَّ الاعتقاد بزوال ما يُسمَّى برجال الدِّين مغالطة لا تُشاهَد في التاريخ، يقول علي الكنز معترفًا: "إنَّ التحليل السوسيولوجي الذي جاء به عبدالله العروي وتبنَّيناه نحن بدورنا ما هو في نهاية الأمر إلا مُغالَطة يمكن أنْ تكون انطلقتْ من حالة تلبُّس صامتة وهي مغالطة لا تُشاهَد في التاريخ".

2- أنَّ إيمانهم بزَوال ما يُسمَّى برجل الدِّين كان سببه تبنِّيهم للعقلانية كشكلٍ أيديولوجي جعلهم يرَوْن ما يُرِيدون هم رؤيته، وهو زَوال ما يُسمَّى برجل الدِّين.

يقول علي الكنز: "وهل اختفى رجل الدِّين عن الساحة فعلاً؟، أم أنَّ إدراكنا الأيديولوجي لهذه الساحة هو الذي أوحى لنا بذلك تحت أشكالٍ عقلانيَّة؛ حتى أصبحنا نؤمن بالوهم القائل بزوال رجل الدِّين؟ إنها صورة مزيفة جعلَتْنا نشاهد ما نريد نحن مشاهدته".

ويعترف علي الكنز مرَّة أخرى: "وبناءً عليه، وبما أنَّه من المحتمل جدًّا عدم اختفاء رجل الدِّين عن الساحة - فإنَّه يجب أنْ نتساءَل، بل نسأل أنفسنا ليس عن هذا الاختفاء بما أنَّه لا وجودَ له على الإطلاق، بل عن عدم قدرتنا على كشف حُضور رجل الدِّين بين فجوات الأيديولوجية المسيطِرة حاليًّا"[8].

ثالثًا: قولهم بأنَّ الصحوة الإسلامية ظهرت بسبب عدم نُضُوج التركيبة الطبقية العربية:
يُعلِّل الماركسيون العرب ظهورَ الصحوة الإسلامية يما يُسمُّونه عدم نضوج وعدم اكتمال تكوين التركيبة الطبقية في العالم العربي، التي من شأنها - إذا كانت كاملةً منسجمة وناضجة - أنْ تُؤدِّي إلى ظهور أيديولوجيَّة علمانية وعقلانية، وأنها إذا كانت غير كاملة ومذبذبة ستُؤدِّي إلى ظهور أيديولوجية دينية ولا عقلانية.

ولهذا: فإنَّ عدم اكتمال ونضوج هذه التركيبة الطبقية في العالم العربي كما يتصوَّر الماركسيون العرب الذين وصَفُوها بأنها عاجزة ومشوهة - أدَّى إلى فَراغ، هذا الفَراغ هو الذي أدَّى لظهور الصحوة الإسلاميَّة.

ويستند الماركسيون من رجال الاجتماع العرب هنا إلى فكرة (محمد أركون) القائلة بأنَّ المجتمعات العربيَّة لا يُوجَد لديها ما يقابل أو يعادل طبقتي (البورجوازية والبروليتاريا) في المجتمعات الغربية؛ بمعنى: أنَّ هاتين الطبقتين اللتين تضامَنتا وتصارَعتا عملتا على إظهار الأيديولوجية العلمانية في الغرب، لكنَّ ضَعفَهما الملحوظ في عالمنا العربي ساعَد على ظهور الصحوة الإسلاميَّة.

هذا، ويُضِيف الماركسيون العرب أسبابًا أخرى لظهور الصحوة الإسلامية منها: الفشل الاجتماعي والاقتصادي للمجموعات التي أزالَتْ الاستعمار وقامت بالتنمية الوطنية، ومنها أيضًا: وجود مجموعات مُتَحالفة مع الغرب، وأخرى طفيلية ظهرت وانتشرت أخيرًا[9].

ثم يعود الماركسيون العرب من رجال الاجتماع إلى الاعتراف بفشل هذا التحليل؛ استنادًا إلى ما يلي:
1- أنَّ هذا التحليل اعتَمَد على المماثلة والقياس بالغرب؛ بمعنى: أنَّه يعتبر أنَّ الفئات التي ظهَرتْ وتصارَعتْ قديمًا في أوربا، وأنها تُشبه الطبقات الرئيسة بها، وخاصَّة البورجوازية والبروليتاريا.

هذه المماثلة - باعترافهم - غيرُ صحيحة؛ لأنَّ هاتين الطبقتين الرئيستين في المجتمعات العربية تختلفان من حيث السلوك عن النموذج الأصلي لهما؛ ومن ثَمَّ (نعَتُوهما) بعدم النُّضوج واللاعقلانيَّة الذي مهَّد لظهور الصحوة الإسلامية[10].

ويُلخِّص الماركسيون العرب من رجال الاجتماع هذه النقطة بقولهم: "إنَّ هذا الفكر التحليلي سجن نفسه في إطارٍ مُحدَّد، وحبس نفسه في حقلٍ تاريخي واجتماعي غريبٍ عنه"[11].

2- أنَّ واقع المجتمع العربي لا يتَّفِق مع ما يُرِيده الماركسيون، ولا يخضع أفراده (لقيم الإنتاج) التي يتحدَّثون عنها؛ ويعني هذا: أنَّ الناس لا تربطهم المصالح الاقتصاديَّة، وإنما الدِّين هو الذي يُسَيطر عليهم[12].

3- الخطاب الدِّيني - باعترافهم - خطاب متفوِّق وليِّن، يَجتاز ويُؤثِّر على جميع الفئات الاجتماعية، بما فيها تلك الفئات التي يأملون أنْ تقوم بالتغيير؛ كالبورجوازية والبروليتاريا، بالإضافة إلى فئات صغار وكبار الموظَّفين[13]، وفي عباراتٍ صريحة تحوي اعتِرافًا صريحًا بفشل نموذج التحليل الماركسي، وبإخْفاق واضطراب الفكر العقلاني، وبسعي كلِّ الطبقات إلى تَطبِيق الشريعة الإسلاميَّة، وممارسة الشعائر الدِّينية، يقول علي الكنز: "نحن اليوم أمام فشل نموذج التحليل، وأمام قلَق واضطراب الفكر العقلاني، وإذا كنَّا ننتظر على الأقل تأثيرات الطبقة العاملة والبورجوازية أنْ تتَبلوَر وتتجسَّد داخِل الحركة الاجتماعيَّة، فنحن نُلاحِظ هروب هذه الطبقات عن كلِّ الفاعلين: شعائر دينيَّة، وأصول عرقيَّة، والتحريض لتطبيق الشريعة الإسلامية في قانون الأسرة... إلخ، إنَّه إخْفاق في نظري يضع الفكر التحليلي أمامَ البديل"[14].

رابعًا: اعترافهم بأنَّ نظريَّة الصراع الطبقي مسؤولةٌ عن الدمار الذي يتخبَّطون فيه.
ما زال الماركسيون العرب من رجال الاجتماع يُصرُّون على أنَّ فكرة الصراع الطبقي فكرةٌ صائبة، بالرغم من أنهم اتَّهموا هذه النظرية بأنها مسؤولة عن الدمار الذي يتخبَّطون فيه.

كما يعترفون بأنَّ بعض المحلِّلين العرب أرادوا قراءة الواقع العربي ماضيًا وحاضرًا؛ انطلاقًا من مُعطَيات المجتمعات الغربية وفي ضوئها.

ويعتَرِفون كذلك بأنَّه في هذا التاريخ الأوربي الذي يتَّخذونه كنموذج: نادرًا ما تَطاحَنتْ الطبقات الاجتماعيَّة في المجتمعات الرأسماليَّة، وأنها لم تكن فاعلةً مباشرة، ولم تتمكَّن من فرْض نفسها كطبقات، كما يعترفون بأنهم تسرَّعوا في الحكم على الواقع العربي؛ لأنهم لم يُراجِعوا نظرية الصراع الطبقي في فئاتها المرجعيَّة المستعمَلة وفي مُنطَلقاتها النظريَّة، ولم يتأكَّدوا من صحَّتها ومَدَى مُلاءَمتها ومدى صحَّة وقابليَّة أدواتها، بل اعتبروا أنَّ هذه النظريَّة هي الواقع الوحيد، واحتقروا الحركة الإسلاميَّة؛ لأنها لم تتطابق مع نموذجهم المرسوم[15].

وسجَّل هذه الاعترافات علي الكنز بقوله:
"لقد تسرَّعنا في مشاهدة الطبقات وفئاتها، وكذلك البورجوازية والبروليتاريا والبورجوازية الصغيرة والفلاحين، داخل الحركات الاجتماعية والسياسية التي زَعزعَتْ بلدان العالم الثالث، وقد تَمَّ هذا التسرُّع دون مُساءَلة المنطلقات النظرية والفئات المرجعية المستعمَلة، وحتى التأكُّد من صحَّتها ومَدَى مُلاءَمتها.

وهكذا قُمنا بالمُعايَنة دُون التفكير في مَدَى صحَّة وقابليَّة تلك الأدوات، بحيث أصبحت النظرية العلمية للطبقات هي المرجع الوحيد، وعندما نُشاهِد الطبقات الاجتماعيَّة حيث لم تكنْ موجودة، حتى وإنْ تَمَّ ذلك على حساب الحركة الاجتماعية واحتقارها لا لشيءٍ إلا لأنها غير مُطابِقة للنموذج المرسوم"[16].

خامسًا: اعترافهم بعدم ارتباط ظهور الجماعات الإسلاميَّة بانحِطاط وتدهور الظروف الاقتصادية والاجتماعية أو تطوُّرها.
تبنِّي بعض الماركسيين العرب من رجال الاجتماع فكرةَ أنَّ هزيمة 1967 وتدهور الظروف الاجتماعية والاقتصادية هي السبب الرئيس لظهور الجماعات الإسلامية؛ ومن ثَمَّ رأوا أنَّ ما يُسمَّى بالفهم العلمي السليم لما يُسمُّونه بهذه الظاهرة والتصدِّي لها بجدية لا يتحقَّق إلا بفهْم البنية الاجتماعية التي ظهرت فيها، وفهْم مجموعة الظروف الاقتصادية والسياسية السائدة؛ بمعنى: أنَّ الصحوة الإسلامية ظهرت كردِّ فعلٍ لحالة أزمة حادَّة وعامَّة على المستوى الاجتماعي، وأنَّ وجود أزمة حادَّة وعامَّة كان ولا يزال الشرط الضروري اللازم لظُهور واندِفاع ما يُسَمُّونه بالحركات الدِّينية والاجتماعيَّة ذات الطابع التعبيري.

يقول (عضيبات) أستاذ الاجتماع بجامعة اليرموك بالأردن: "هذا، ويلاحظ خلال التاريخ العربي أنَّ ظهور الحركات الدِّينية الاجتماعية كان ولا يزال مرتبطًا بفترات الاضطراب الحادِّ، التي يكون فيها بَقاء المجتمع وتماسُكه واستمراره مُهدَّدًا؛ لذلك كانت هذه الحركات الدِّينية الاجتماعية ولا تزال بمثابة استجابات للأزمات الروحية والاجتماعية والسياسية الحادَّة التي شَهِدَها ولا يزال يشهدها مجتمعنا العربي الإسلامي"[17].

واستشهد (عضيبات) بالأزمة التي مرَّ بها المجتمع العربي الإسلامي خِلال فترة حكم معاوية، والتي مهَّدت لعمر بن عبدالعزيز إعادةَ توجيه الحكم بما يتَّفِق والمبادئَ الإسلاميَّة، كما استشهد أيضًا بتجربة الإخوان المسلمين التي أسَّسها (حسن البنا)، والأزمات التي كان يُعانِيها المجتمع في عهده؛ ليصل في النهاية إلى القول بأنَّه: "من المؤكَّد أنَّه في ظلِّ الظروف البالية والقلقة التي يعيشُها الآن مجتمعنا العربي الإسلامي، فإنَّ نشاط الحركات الدِّينية مستمرٌّ لمواجهة هذه الظروف"[18].

أخَذ سمير نعيم أستاذ الاجتماع بجامعة عين شمس بالقاهرة كمثالٍ، سعى فيه جاهدًا ليُثبِت أنَّ سبب انتشار الدِّين والجماعات الإسلاميَّة كان مرتبطًا بالخلل الذي أصابَ النُّظم الاجتماعيَّة في مصر على كافَّة المستويات.

تعرَّض نعيم لفَساد النظام الاقتصادي الذي قال أنَّ مفاتيحه قد أصبحتْ في يد الغرب الذي يملك في أيِّ لحظة إحداثَ انهيارٍ في هذا الاقتصاد؛ إذا ما تهدَّدت مصالحه، أو تعارَضت القرارات القوميَّة المصريَّة مع هذه المصالح، كما كشَف عن تَراجُع الصناعات التحويليَّة والزراعة، وتراجُع دور الدولة في إقامة المشروعات الكبرى التي تستَوعِب الطاقة العاملة، وتحدَّث عن ظهور واستِشراء الفئات الطفيليَّة التي شَهِدتْ ثَراءً فاحشًا من خِلال عمليَّة تخريب الاقتصاد المصري، وانتشار تجَّار العملة، وزيادة مُعدَّلات التضخُّم، واشتداد أزمة الإسكان، وبطالة الشبان المتعلِّمين، وكذلك انتشار الفساد والانحلال الخلقي، وتراجُع قِيَمِ الشرف، وأنَّ المال أصبح هو القيمة العُليا، وأصبحت الغاية تُبرِّر الوسيلة، حتى لو كانت هذه الوسيلة هي بيع الشرف أو الدعارة.

وعن تدَهوُر النظام التعليمي أوضح نعيم أنَّه نظامٌ يعتمد على التلقين القائم على حشو ذهن الطالب خِلال مراحل الدراسة بمعلوماتٍ عليه أنْ يحفظها دون أنْ يشغل عقلَه بالتحليل والنقد، ودون أنْ يُشجع على المعرفة والفكر أو المطالعة في المكتبات.

وعن فَساد الثقافة والإعلام بيَّن نعيم كيف أنَّ الثقافة تحوَّلت إلى سلعة تجارية واستثمارية تهتمُّ بالرِّبح وبالمظهر أكثر من الفائدة والمضمون، وأشار أيضًا إلى الفنِّ الهابط والمبتذل في المسارح، المتاح فقط لِمَن يقدرون على تحمُّل أثمان دخول هذه المسارح، ولتلك الفئة من الشباب التي تتَّفِق قيمها وميولها مع ذلك النوع من الفن المشجِّع على الانحِراف.

أمَّا وسائل الإعلام: فإنها تعرض لجماهير الشباب صورًا متنوعة وبكثافةٍ عالية للإنفاق البذخي والمظاهر الاستهلاكيَّة، التي تعجز غالبية الشباب عن مجاراتها، كما أنها تعرض نماذج سلوكية وثقافية غريبة مبتذلة، بما يُثِير نقمة واشمِئزاز الكثير من الشباب، أو يُمثِّل غوايةً لهم للانحراف.

أوضح نعيم أنَّ نتائج فساد كلِّ الأنظمة من اقتصادية وسياسية وتربوية وثقافية - تصبُّ في الأُسرة التي تقومُ بالتنشئة الاجتماعية الأولى للإنسان، ثم تحدَّث عن المشكلات اليوميَّة التي تُواجِهها الأسرة المصريَّة من مواصلات وإسكان، وغذاء وملبس، وتعليم وصحة، وتلوث وضوضاء، وفوضى واضطراب، وتسيُّب وفساد، وحصار إعلامي ودعائي... إلخ[19].

انتهى سمير نعيم من كلِّ ذلك إلى القول بأنَّ كلَّ هذه الظروف أدَّت إلى ظهور الجماعات الإسلاميَّة التي انضمَّ إليها الشباب لمواجهة هذا الفساد وهذا الخلل في النُّظُم الاجتماعيَّة، وأنَّ هذه الجماعات قد سارَعتْ لملْء الفراغ الثقافي الذي تسبَّب عن فساد الثقافة والإعلام بطبع كتب وصحف ومجلات وأشرطة وفيديو كاسيت بحجمٍ ضخم، واعترف نعيم كذلك بزيادة حجم الإقبال على هذا المنتج.

كما أشار إلى دور هذه الجماعات في بيع ملابس المحجبات والكتب والدروس الخصوصيَّة بأسعارٍ رمزيَّة زهيدة، وأنها قامَتْ بخدمات إنسانية اجتماعية عبْر المساجد؛ كالعلاج الصحي في المستوصفات والدروس المجانيَّة للطلاب، أو المساعدات الاجتماعيَّة، ودور الحضانة... إلخ[20].

تُؤكِّد الشهادة السابقة لعضيبات وسمير نعيم هذا الدور الإيجابي والبنَّاء للجماعات الإسلاميَّة في مُواجهة الخلل والفساد الذي حَلَّ بالنُّظُم الاجتماعية وأصابها في الصميم، ومع ذلك يُصِرُّ رجال الاجتماع على مهاجمة هذه الجماعات ومناصبتها العداء؛ لا لشيءٍ إلا لأنَّ ماركسيتهم تُعادِي الدِّينَ وكلَّ ما يرتبط به من حركات ورموز.

ومع كلِّ هذا فإنَّ الصحوة الإسلاميَّة لم تظهر بسبب تدهور البنية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للمجتمع، وإنما جاءتْ كما يقول الأستاذ محمد قطب: "في موعدها المقدور من الله".

ونأتي هنا إلى اعترافات البعض الآخَر من الماركسيين العرب من رجال الاجتماع بخطأ الربْط بين ظهور الصحوة الإسلامية وتدهور الظروف الاقتصادية والاجتماعية.

يرى (علي الكنز) أنَّ ربط انتشار الدِّين بالانحطاط أو التطوُّر الاقتصادي والاجتماعي مُنزَلقٌ وقع فيه رجال الاجتماع، واستدلَّ الكنز لإثبات ذلك بالماضي الأوربي ذاته الذي ظهرت فيه الرأسمالية في الأصل في وقتٍ عرفت فيه البلدان الأوربية إصلاحات دينية، وربطت التنمية بانتشار الأيديولوجية الدِّينية؛ كما حدث في كلٍّ من بريطانيا وأمريكا الشمالية وهولندا...

استدلَّ الكنز أيضًا باليابان في الحاضر المعاصر التي تربَّعت على عرش الاقتصاد العالمي مقابلةً بالصين، فاليابان ربطت الدِّين بالمجتمع والدولة ربطًا عضويًّا، وفعلت الصين المستحيل لمنْع ذلك[21].

ويُشِير الكنز في مثالٍ آخَر إلى الكاثوليكيَّة التي أثارَت العمَّال والشعب البولوني لِمُحارَبة الطبقة الحاكمة، وإلى الأيرلنديين ومُناهَضتهم للبروتستانت الإنجليز.

ويُوجِز الكنز ملاحظاته هذه معترفًا بقوله:
"وبإمكاننا تعداد هذا النوع من الملاحظات اللامنتهية، وتوضح اليوم - كما في الأمس - بأنَّ البُعد الدِّيني قد ساهم دومًا بشكل أو بآخَر في تبلور الهوية الجماعية، وبأنَّ انتشاره لم يرتبط في كلِّ زمان ومكان بفترات الانحطاط أو التطوُّر الاقتصادي الاجتماعي[22].

ويُعطِي (فرحان الديك) مثالاً آخَر من الواقع العربي على خطأ هذا الربط؛ فيقول: "... فظهور مثْل هذه الحركات لا يمكن ردُّه - كما يفعل البعض - إلى تردِّي الوضع الاقتصادي، وربْط ظاهرة الصحوة الدِّينية بالأزمة الاقتصادية؛ لأنَّ ما يُسمَّى بالمدِّ الدِّيني ظهر وتطوَّر في الفترة الزمنيَّة نفسها التي تميَّزتْ أيضًا بالطفرة أو الفورة الاقتصاديَّة التي عرفتها -ولكن بدرجات متفاوتة بالطبع - كلُّ المجتمعات العربية[23].

إلا أنَّ المُثِير للدهشة والعجب أنْ يدَّعي رجال الاجتماع بعد كلِّ اعترافاتهم بفشل تحليلاتهم أنَّ التيَّارات الوطنية والليبيرالية واليسارية والقومية هي المحاصرة في بلادنا، وأنَّ هناك تضييقًا على دُعاتها وتنظيماتها، وأنَّه لهذا السبب فإنَّ الساحة ستظلُّ شِبهَ خالية أمام الحركات الدِّينية الاجتماعية، وسيملأ فكرها وتنظيماتها الفراغ القائم[24].

لا أحدَ يشكُّ في عدم صحَّة هذا الادِّعاء، ولا أحد يُنكِر أنَّ التنظيمات الإسلاميَّة هي المحاصرة من الداخِل والخارج، وأنَّ هناك تضييقًا على دُعاتها، وأنَّ الساحة ليست خاليةً تمامًا أمامَها، ولا يردُّ هذا الادِّعاء إلا اعترافاتهم أنفسهم بفشل تحليلاتهم وتفسيراتهم وافتراضاتهم، وعلى رأسها نظرية الصراع الطبقي.

جاءَتْ هذه الاعترافات للماركسيين العرب من رجال الاجتماع إثْر دروسٍ قاسية تعلَّموها من الصحوة الإسلامية، كان أقسى هذه الدروس عليهم أنَّ تاريخ الوطن العربي ليس هو إعادةً ولا تكرارًا لتاريخ أوربا في القرن العشرين، عبَّر الماركسيون عن ذلك بِمَرارةٍ في قولهم: "وبكلِّ قساوةٍ تمكَّن الفكر العربي العقلاني اليوم من اكتشاف هذا الدرس الجدلي"[25].

أمَّا الفكر العقلاني ذاته فقد أُصِيب كما أوضحنا سابقًا بأزمةٍ عميقة أجبرت أصحابَه على ضرورة التفكير في نقده نقدًا جذريًّا، مع الاعتراف بأنَّ هذا الفكر العقلاني مأخوذٌ من الثقافة الغربية بطريقةٍ سيِّئة جدًّا بنص عباراتهم.

علَّمتهم الصحوة الإسلامية أنَّ عليهم التخلِّي عن الوضعية التي غُلِّفتْ لهم بغِطاءات ماركسيَّة متدنِّية ورَدِيئة بنصِّ عباراتهم أيضًا، وأنَّ الجماعات الإسلاميَّة ليست بطبقات اجتماعية، وأنَّ عليهم أنْ يلاحظوا هذه الصحوة بكلِّ رَصانة وبكلِّ سكينة - بنص عباراتهم كذلك - على أساس أنَّ هذا هو أوَّل شرط للتحليل العقلاني الذي أجبرَتْه هذه الصحوة على أنْ يُعِيد النظر في افتراضاته ومُنطلَقاته النظريَّة، وحتى إشكاليَّاته ومنهجيَّاته، على أمَل زائف من أنْ يتمكَّنوا من ضبْط ما يسمُّونه بالواقع التاريخي.

الصحوة الإسلامية عند الماركسيين العرب من رجال الاجتماع "تحديد سالب لكيان اجتماعي يستَعِيد حيويَّته، ويتبلور في حركة سياسية"[26].

تصوَّر رجال الاجتماع أنَّه ما زال بإمكان الفكر العقلاني مواجهة هذه الصحوة إذا نوَّع مجالات بحثِه وانفَتَح على هذه الصحوة، واعترف بها كواقع، وأنْ يتخلَّى عن منهجيَّته القائمة على أساس عالم متخيَّل.

إلا أنهم رغم ذلك يرَوْن أنَّ الصحوة الإسلاميَّة هي انحِرافٌ للوطن العربي عن مَسارِه الطبيعي وتجميدٌ لتطوُّره؛ ذلك لأنَّ هذه الصحوة رفضت رفضًا كليًّا الحداثة والعلمانية والليبيرالية والتقدُّمية؛ ولهذا رمَوْها بالانحِراف والجمود.

اعترف رجال الاجتماع بأنَّ فشل التجارب التنموية والوطنية تسبَّب في ثغرةٍ أدَّت إلى ما أطلقوا عليه بالهجمة الواسعة للتوجُّه الدِّيني الذي غاصَ في هذه الثغرة وحقَّق نجاحًا لامعًا وسريعًا.

تعلَّم الماركسيون العرب من الصحوة الإسلامية درسًا قاسيًا آخَر هو: أنَّ الدِّين يمكن أنْ يَنُوب عن رمزيتهم العقلانية والعلموية التي تشهد - كما يقولون - أزمة عميقة.

تعلَّموا أيضًا: أنَّ الإسلام بصفةٍ خاصَّة يمكن أنْ يستفيد بشدَّة من الاضطراب الذي تسبَّب عن التقنية الغربية وأزمة الأنظمة السياسية الغربية[27].

تعلَّموا أيضًا: أنَّ الإسلام - لا العقلانية - هو المطابق للوسط الثقافي المحلي، وللمرجع التاريخي الحضاري للشعوب وأخلاقيَّاتها، أمَّا الإسلام السياسي - كما يسمُّونه - فهو كالحوت في البحر بنصِّ عباراتهم[28]، وأنَّه يتميَّز بإستراتيجية وبتكتيك وبتقنيات الخطابة والدعاية، وأنَّه يستمدُّ سلطته من الجماهير[29].

علَّمتهم الصحوة الإسلامية أنَّ الدِّين يمكن أنْ يتغلَّب على غيره في كلِّ الفترات؛ سواء أكانت فترات صعود نحو العلمانية والعقلانية، أو فترات انحطاط وتدهور كما يتصوَّرون.

ودرسٌ آخَر شديد القسوة تعلَّموه من الصحوة الإسلامية هو: قُدرة الإسلام على الانتشار الواسع المحلي والوطني، وقُدرته على إفشال الأحزاب والحركات السياسية العلمانية التي تأسَّست في خضمِّ حركات التحرُّر والتشييد الوطني، وقُدرته على التحوُّل بسرعة خاطفة إلى أحزابٍ جماهيرية تستطيع توجيه أسلحتها الثقيلة حسب عباراتهم نحو مسألة شرعية السلطة السياسية وأنظمتها القائمة على الوطنية والتنموية[30].

يقول علي الكنز: "لقد بُنِيت الأنظمة العربية اليوم على أسس الوطنية والتنموية، ونَراها اليوم تنحسر وتنهار بوطنيَّتها وتنميتها في الوقت ذاته"[31].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] محمد قطب، واقعنا المعاصر، مؤسسة المدينة، جدة 1989، ص364.
[2] علي الكنز، الإسلام والهوية، الدين في المجتمع العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1990، ص 97.
[3] علي الكنز، الإسلام والهوية، الدين في المجتمع العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1990، ص 99.
[4] أول من استخدم مصطلح (الوضعية) هو سان سيمون ليشير به إلى منهج علمي يمتدُّ ليشمل الفلسفة أيضًا، ثم تبنَّاه بعد ذلك أوجست كونت ليُؤسِّس به حركة فلسفية كبيرة انتشرت بقوة في كل بلاد العالم الغربي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، والعقود الأولى من القرن العشرين.
تقوم (الوضعية) على مبدأ أنَّ العلم هو المصدر الصادق والوحيد للمعرفة والحقائق، وتتخذ (الوضعية) موقفًا عدائيًّا من الدِّين؛ ولهذا فهي تنكر كلَّ جوهر يذهب وراء حقائق وقوانين العلم، وترفض أيَّ نوع من الميتافيزيقيا، واستبدلت الدين المعروف بدِين وضعي، كما وضعت أخلاقاً وسياسة وضعية.
انظر: Nicola Abbagnano, Posivitism, The Encyclopedia of Philosophy Macmillan Publishing N. Y. Q London p 414.
هذا، وأطلق الشيخ مصطفى صبري على هذه الفلسفة بالفلسفة الوضعية (الإثباتية): الإلحادية، وعابَ على علماء الأزهر انخِداعهم بها وعدم إدراكهم لإلحادها، انظر: مصطفى صبري، موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين، دار إحياء التراث العربي، بيروت ج1/ ص148-149.
ويعتبر الشيخ فريد وجدي من أبرز العلماء في الأزهر الذين خدعتهم هذه الفلسفة، إلى درجة أنَّه أكَّد توافقها مع الإسلام، وكتب عنها قائلاً: "هذا هو رأى الفلسفة الوضعية التي أساسها الدليل المحسوس الذي لا ينقض في أيِّ عهد من العهود المستقبلة، وهو يُعتَبر أساسَ الحكمة الإسلامية: ﴿ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ﴾ [إبراهيم: 27].
انظر: محمد فريد وجدي، السيرة المحمدية تحت ضوء العلم والفلسفة - مجلة الأزهر ج3 ربيع الأول 1364/1945، مجلد 16، ص100.
[5] (العلموية) أو (النزعة التعالمية) مصطلح يعني: أنَّ العلم يستطيع أن يزود الجنس البشري بفلسفة شاملة في الحياة، ويحلُّ لجميع المشكلات، وينظر إليه كأيديولوجية تشتمل على أرفع القيم وأرقاها.
انظر: محمد عاطف غيث، قاموس علم الاجتماع، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية ص 403.
[6] على الكنز: ص 99-102.
[7] على الكنز: ص 99-102.
[8] على الكنز: ص 99-102.
[9] على الكنز: ص 99-102.
[10] على الكنز: ص 99-102.
[11] على الكنز: ص 99-102.
[12] على الكنز: ص 99-102.
[13] على الكنز: ص 99-102.
[14] على الكنز: ص 99-102.
[15] على الكنز: ص 99-102.
[16] على الكنز: ص 99-102.
[17] عاطف العقلة عضيبات، الدين والتغير الاجتماعي في المجتمع العرب الإسلامي، الدين والمجتمع العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت ص 155.
[18] تابع ص 157.
[19] سمير نعيم أحمد، المحددات الاقتصادية والاجتماعية للتطرف الديني، الدين والمجتمع العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت ص 223، 235، 237.
[20] تابع ص 234.
[21] علي الكنز ص 105.
[22] تابع 105-106.
[23] فرحان الديك، الأساس الديني في الشخصية العربية، الدين في التجمع العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت ص 118.
[24] عضيبات ص 160.
[25] علي الكنز ص: 100-109.
[26] علي الكنز ص: 100-109.
[27] علي الكنز ص: 100-109.
[28] علي الكنز ص: 100-109.
[29] علي الكنز ص: 100-109.
[30] علي الكنز ص: 100-109.
[31] علي الكنز ص: 100-109.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رد مع اقتباس
  #16  
قديم 10-09-2014, 08:19 AM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 56,039
ورقة لمتدينون والمرضى العقليون

لمتدينون والمرضى العقليون
ــــــــــــــ


اعترافات علماء الاجتماع
------------------

الحلقة السادسة عشر
--------------

المتدينون والمرضى العقليون
----------------------

لرجال الاجتماع في بلادنا مَقُولاتٌ تُثِير الدهشة والاستغراب منها ما يدلُّ على دَهاءٍ ومكر شديدَيْن؛ كقول (عضيبات) الذي أشرنا إليه في الحلقة الماضية أنَّ التيَّارات الوطنية والليبراليَّة واليساريَّة والقوميَّة مُحاصَرة في مجتمعاتنا، وأنَّ هناك تضييقًا على دُعاتها وتنظيماتها، وأنَّ الساحة شبهُ خاليةٍ أمام الحركات الدينيَّة التي سيَملأ فِكرها وتنظيماتها الفراغ القائم[1].

ومنها ما يدلُّ على سطحيَّة وسَذاجة تَفُوق الحدَّ، يقول سمير نعيم (أستاذ الاجتماع بجامعة عين شمس بالقاهرة) أنَّ الجماعات الإسلاميَّة جزءٌ من مُخطَّط إمبريالي تُسانِده قُوًى إقليميَّة ومحليَّة تَهدِف إلى ضرب التماسُك الاجتماعي وتفسيخ المجتمع من جهة، وتكريس تخلُّفه تدعيمًا لتبعيَّته من جهةٍ أخرى[2].

رغم أنَّ أبسط الحقائق تقولُ: إنَّه لا خطر أشد على الإمبرياليَّة والصهيونيَّة والقُوى الإقليميَّة والمحليَّة من الصحوة الإسلاميَّة وحركاتها وجماعاتها.

وحقيقةُ الأمر أنَّ الموقف العَدائي لرجال الاجتماع في بلادنا من الصحوة الإسلاميَّة يرتبطُ ارتِباطًا لا ينفَصِم بموقفهم العَدائي من الدِّين.

الدِّين - كما يَراه رجال الاجتماع في بلادنا - (وهْم) و(خيبة أمَل الزمن الراهن)، و(رد فعل سلبي للضمير الجمعي)، و(عصاب نفسي) و(مأوى لموت بطيء)![3].

طالَب رجال الاجتماع في بلادنا عَلَنًا وبلا حياء بتَرْكِ الاعتقاد بالدِّين.

يقول علي الكنز أستاذ الاجتماع بجامعة الجزائر: "قبل كلِّ شيء علينا ترك الاعتقاد بالدِّين؛ لأنَّه لم يبرهن على أنَّ الدِّين أصبح بمثابة رؤية للعالم، أو فهو وظيفة عكسيَّة للتطوُّر التاريخي والاجتماعي"[4].

أمَّا هؤلاء الذين يَدخُلون في دِين الله من خارج مجتمعاتنا - في الوقت الذي يخرُج رجال الاجتماع منه - فهم في نظرهم أفرادٌ منعزلون؛ ولهذا فالإسلام عندهم لم يظفر بمسلمين جدد، والصحوة الإسلاميَّة بناءً على هذا التصوُّر نوعٌ من التراكُم المكثَّف للتجربة الإسلاميَّة، شأنها شأن تراكُم رأس المال[5]، وكما أشَرْنا من قبلُ فإنَّ أحدَ الأسباب الرئيسة لكراهية رجال الاجتماع في بلادنا للصحوة الإسلاميَّة هو رفْضُ هذه الصحوة المفاهيمَ الجديدة إجمالاً؛ كمنظومة الحداثة ورفضها للعقلانية كنمطٍ للتفكير وكمشروع مجتمعي، كما أشار إلى ذلك (الهرماسي) أستاذ الاجتماع بالجامعة التونسيَّة الذي اعترف بفشل هذه المفاهيم في قوله: "... لا لسببٍ إلا لأنها فشلتْ في بعض الميادين"[6].

هؤلاء الذين يقولون: إنَّ الجماعات الإسلاميَّة جزءٌ من مُخطَّط إمبريالي صِهيَوْني، ورموا هذه الجماعات بالتطرُّف اشتقُّوا تعريفاتهم للتطرُّف من كُتَّاب يهود كتَبُوها في قواميس ودوائر المعارف الفلسفيَّة، وأضفوا عليها الطابع العلمي؛ ولهذا كان التمسُّك والالتزام بالدِّين أو العودة إليه - كما اعتبره رجال الاجتماع العرب - نقلاً من كُتَّاب يهود مثل (روزنثال ويادين) - جمودًا عقديًّا وانغلاقًا عقليًّا.

وهذا هو التطرُّف عندهم الذي اعتقَدُوا أنَّه جوهر الفكر الذي تتمَحْوَر حوله كلُّ الجماعات الإسلاميَّة التي هي الآن وبناءً على هذا التصوُّر جماعات متطرِّفة[7].

وطِبْقًا لتعريفات الكُتَّاب اليهود عن التطرُّف فإنَّ رجال الاجتماع في بلادنا يرَوْن أنَّ الشابَّ الذي لا يقبَلُ معتقدًا غير الإسلام، والذي يعتقد أنَّ الإسلام صادقٌ صدقًا مُطلَقًا وأبديًّا، وأنَّه صالِحٌ لكلِّ زمان ومكان، وأنَّه لا مجالَ لمناقشته والبحث عن أدلَّة تُؤكِّده أو تنفيه، هذا الشاب الذي يرى أنَّ المعرفة كلها بمختلف قَضايا الكون لا تُستَمد إلا من عقيدة الإسلام والذي يُدِين كلَّ عقيدة تُخالِف عقيدة الإسلام هو (شاب مُتطرِّف)!

ومن ثَمَّ كان الالتزامُ بالإسلام وتعاليمه تطرُّفًا لأنَّه - كما يرى سمير نعيم - حنينٌ إلى الماضي وعودةٌ إلى الوَراء، ومنحًى رجعي يجرُّ العلاقات الاجتماعيَّة إلى أوضاعٍ بالية لا تتناسَب مع تقدُّم العصر.

هذا هو الإسلام في نظَر رجال الاجتماع[8].

أمَّا الحجاب (الذي شرَعَه الله تعالى) والنقاب واللِّحَى والجلابيب القصيرة (التي في بعضها اتِّقاءٌ للفتنة والتزامٌ بسنَّة رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم) وكذلك منع الاختلاط والمناظرات بين الإسلام والنصرانيَّة فهي - عند سمير نعيم - مظاهرُ سلوكيَّة تُعبِّر عن التطرُّف[9].

لكنَّ التبرُّج وحلق اللحية وارتداء الأزياء الأوربيَّة بمختلف تقاليعها والاختلاط بين الرجال والنساء وسِيادة النصرانيَّة وعبادة الصليب والتثليث على الإسلام فهي عين الاعتدال عنده.

أمَّا أشدُّ مقولات رجال الاجتماع إثارةً للدَّهشة والاستغراب فهي وصفُهم لشباب الجماعات الإسلاميَّة بأنهم يُمثِّلون شخصيَّات مريضة، وأنهم مَرضَى عقليُّون يُعانون من الجنون الدوري أو جنون الاضطهاد والعظَمَة - على حدِّ تعبيرات سمير نعيم[10].

وتمسُّك الشباب المتديِّن بتعاليم الإسلام المتعلِّقة بالمرأة - عند سمير نعيم - مرضٌ عقلي يُعانِي أصحابُه من أوهام حيوانيَّة الرجل وشهوانيَّته تُجاه المرأة، وأنهم - أي: هذا الشباب - يشكُّون في أنفسهم وفي الآخَرين، وأنَّ نظرتهم إلى المرأة تُسقط ما في أنفسهم من مشاعر شهوانيَّة مكبوتة ومشاعر دُونيَّة وعدم ثقة بالنفس[11].

بهذه الأوصاف الحادَّة والعنيفة ذات الطابع الفرويدي شنَّ سمير نعيم هجومَه الضاري على شباب الجماعات الإسلاميَّة الذين يريدون أنْ يحفَظوا للمجتمع نقاءَه وطهارته، وأنْ يقفوا في وجْه تيَّارات خطْف واغتصاب النساء وفساد العلاقات بين الجنسين واعتبار المرأة سلعةً للعرض والمشاهدة وإثارة المتعة على كافَّة الأصعدة من المنزل إلى الشارع إلى الإعلام إلى المجتمع.

إذًا ما هو البديل عند رجال الاجتماع في بلادنا إذا لم ينضمَّ الشباب إلى الجماعات الإسلاميَّة؟

هذه هي اعترافات سمير نعيم ذاته عن هذا البديل.

يقول سمير نعيم: من ملاحظة الواقع الاجتماعي وما تنشره الصحف اليومية يتَّضح ما يأتي:
1- يلجأ البعض إلى الهجرة إلى الخارج؛ هُروبًا من الضغوط الاقتصادية والمشكلات الاجتماعيَّة التي يعانونها، وهي بالطبع حلول فرديَّة، ولكنْ من الثابت أنها غير مُتاحة لجميع قِطاعات الشباب، فالفُقَراء منهم عاجزون حتى عن ذلك الحلِّ الذي يتطلَّب اتِّصالات وعلاقات للحصول على عقد عملٍ في أحد الأقطار العربيَّة ونفقات سفر لا تتوافَر للجميع، والبعض الآخَر يظلُّ يحلم بالهجرة كأملٍ زائف لمواجهة مشكلاته.

2- يلجأ البعض الآخَر إلى ممارسة أعمالٍ غير مشروعة؛ كالاتِّجار في المخدِّرات أو في العُملة والرشوة والتهريب... إلخ.

3- يلجأ فريقٌ آخَر إلى الجريمة التقليديَّة أو غير التقليديَّة؛ حيث تنتشر سرقات المساكن والسيَّارات والمحلات التجاريَّة والنصب والاحتيال والاغتصاب والاعتداء على الأراضي الزراعية وعلى أملاك الغير والدولة... إلخ.

4- يتَّجِه آخَرون إلى إدمان المخدِّرات كحلٍّ هروبي انسحابي للمشكلات التي يُعانونها.

5- يُصاب البعض - عندما يعجز عن كلٍّ من الحلول المشروعة وغير المشروعة؛ نظرًا إلى ما يتمتَّع به من قيم إيجابية قوية - بالاضطراب النفسي والعقلي؛ وبالتالي فإنَّ المجتمع المصري يشهَدُ تزايدًا في هذه الأمراض[12].

تعني السطور السابقة باعتراف سمير نعيم: أنَّ البديل لانضِمام الشباب إلى الجماعات الإسلامية هو الهجرة، أو التفكير فيها، أو ممارسة الأعمال غير المشروعة؛ كالاتِّجار في المخدِّرات أو العُملة أو، الرشوة والتهريب، أو ممارسة الجريمة التقليدية أو غير التقليدية، أو إدمان للمخدِّرات.

ونقف قليلاً عند النقطة الخامسة التي تُعتَبر أيضًا من المقولات المثيرة للدهشة والعجب، وهي القول بأنَّ القيم الإيجابية القوية التي يتمتَّع بها الشباب يمكن أن تُؤدِّي بهم إلى الإصابة بالاضطراب النفسي والعقلي؛ حيث يريد سمير نعيم هنا أنْ يثبت أنَّ شباب الجماعات الإسلاميَّة الذي لم يلجأ إلى السلوكيَّات اللاسويَّة ولجأ إلى الدِّين - مُصابٌ باضطراباتٍ نفسيَّة وعقليَّة بسبب هذه القيم الإيجابية التي يتمسَّك بها؛ لأنَّ رغبة هذا الشباب في العودة إلى نموذج المجتمع الفاضل باللجوء إلى الدِّين ما هي إلا هروب من الواقع ورفض له، وتعلُّق بأمل كاذب في الخلاص من المشكلات التي يُواجِهها[13].

الخطأ الفادح الذي وقَع فيه سمير نعيم هنا - وهو ربطه بين التمسُّك بالقيم الإيجابية، والإصابة بالاضطرابات النفسية والعقلية، طعنًا في شباب الجماعات الإسلامية - كشف وشهد به عن أنَّ معلوماته في علم النفس وتشخيص الاختلالات العقلية وقفتْ عند حُدود الخمسينيَّات.

لم يطَّلع سمير نعيم على جهود جمعية الطب النفسي الأمريكيَّة (APA) التي بدَأت منذ عام 1983، في محاولةٍ طموحةٍ مُثِيرة الجدل للإسراع بتطوير علوم وتشخيصات الأمراض العقليَّة؛ لإعادة تنقيح كتيبها عن هذه الأمراض، وقد أثمرت هذه الجهود بإصدار كتيب جديد في عام 1980 شارك في إعداده المئات من العلماء والمهنيين في ميدان الصحَّة العقليَّة.

ويعرف هذا الكتيب (بالوجيز التشخيصي والإحصائي للأمراض العقلية - الطبعة الثالثة) ويُشار إليه اختصارًا DSM-III.

ويُعتَبر هذا الكتيب تطوُّرًا عظيمًا في حقل التصنيف والوصف العلمي لهذه الأمراض، وكان له أكبر الأثر - كما يرى هؤلاء العلماء - في علاج مختلف أنواع الاختلالات العقلية.

الذي يهمُّنا في شأن هذا الكتيب - الذي لم يتابع سمير نعيم مراحل تطوُّره فاتَّهم شباب الجماعات الإسلامية بالتطرُّف وبالاختلال العقلي - هو هذا الإسهام الذي اعتبره المختصُّون في هذا الميدان من أعظم اكتِشافاتهم، وهو: (الفصل بين الأمراض العقلية والسلوكيَّات) تلك التي حدَّد منها الكتيب مباشرة وبوضوح (سلوكيَّات التطرُّف) التي يرى الكتيب أنها مشتقَّة من المعايير المجتمعية، وليست ناتجةً بالضرورة عن الأمراض العقلية[14].

فماذا عسى أنْ يقول سمير نعيم بعد ذلك؟

نُسجِّل بعد ذلك على سمير نعيم شهادته واعترافه بأصالة القِيَم التي يحملها شباب الجماعات الإسلاميَّة، واعترافه أيضًا بأنَّ التجاء هذا الشباب إلى الدِّين حَماه من الدَّمار الشامل الذي أُصِيب به غيره من الشباب:
أولاً: يعترف سمير نعيم بأنَّه بالرغم من أنَّ شباب الجماعات الإسلامية يعيشُ في مناطق تُعانِي من التخلُّف والفقر والحِرمان من إشباع الحاجات الأساسية، وبالرغم من انسِداد طرق الهجرة أمامهم؛ لصغر سنهم وقلة خبرتهم وعجزهم عن توفير مصاريف السفر وعدم الحاجة إليهم في البلاد النفطية، وبالرغم من صُعوبة إمكانيَّة حدوث أيِّ تغيير في أوضاعهم وأوضاع أُسَرهم وقُراهم، وبالرغم من أنهم يخبرون الفقر والمعاناة طوال سِنِي حياتهم، مع مشاهدتهم للتفاوت الهائل في حُظوظ البشر في مصر، واختلال توزيع الثروة بها لصالح الأغلبية الميسورة، بالرغم من كلِّ ذلك فإنَّ القِيَمَ التي يتمتَّع بها هذا الشباب منعَتْه من الانخِراط في الأعمال الإجراميَّة وغير المشروعة واللاأخلاقيَّة[15].

هذا، ويحاول سمير نعيم جاهدًا أنْ يربط بين انضِمام الشباب إلى الجماعات الإسلامية وبين حالة الفقر والحِرمان والمعاناة التي يُواجهونها، ولما وجد أنَّ افتراضاته ستسقُط بوجود شبابٍ ينتمي إلى أسر ميسورة الحال من بين شباب الجماعات الإسلاميَّة فسَّر ذلك بقوله: "... وفي رأينا أنَّ هؤلاء جميعًا - مهما ارتفعَتْ دُخولهم - فهم يعتبرون من ذوي الدخل المحدود (موظفي حكومة)، ويعانون أيضًا الإحباطَ بفعل التضخُّم وارتفاع الأسعار والتطلُّعات الطبقية والاستهلاكية والتفاوت الاجتماعي الحاد)؛ أي: إنَّه أرجع انضِمام هذا الشباب إلى الجماعات الإسلاميَّة إلى تدهور الظروف الاقتصادية والاجتماعية، وهذا ما أبطلناه في الحلقة الماضية.

لكنَّه اعترف هنا مؤكدًا أصالة القِيَم التي يتمتَّع بها هذا الشباب فقال: ".. وامتناعهم عن مسايرة دروب الفساد المختلفة كالرشوة والاختلاس... إلخ، استنادًا إلى ما يتمتعون به من قيم أصيلة"[16].

ثانيًا: اعترف سمير نعيم بأنَّ الالتجاء إلى الدِّين كأسلوبٍ لمواجهة المشكلات الشخصية والمجتمعية دون غيره من الأساليب اللاسوية التي أشار إليها - هو حمايةٌ من الدمار الشامل.

يقول سمير نعيم: "إنَّ اللجوء إلى هذا الأسلوب لمواجهة المشكلات الشخصية والمجتمعية دُون غيره من الأساليب السابق ذكرها إنما هو - في رأينا - وسيلةٌ دفاعية لحِماية الذات من الدَّمار الشامل؛ وذلك باللجوء إلى المخدِّرات أو الجريمة، أو الجنون أو الفساد"[17].

إلا أنَّ عَداء سمير نعيم للدِّين جعَلَه يُصوِّر التسلُّح بالتعاليم الدينيَّة مصيدة دَمار للشباب وللمجتمع[18]، وجعَلَه يرى أنَّ المساجد تقومُ بأدوار تضليليَّة[19].

هذا، وقد كشَف رجال الاجتماع عن خَشيتهم من أنْ يتسبَّب نموُّ التيَّار الإسلامي وتعاظُمه في مصر إلى أنْ تتحوَّل مصر إلى مجتمعٍ يَسُودُه الطابع الإسلامي، خاصَّة بعد أنْ لاحَظوا تأثُّر العامِلين المصريين وأبنائهم في السعودية بهذا الطابع الإسلامي الذي يحملونه معهم إلى مصر بعد عودتهم.

هذا، وعبَّر رجال الاجتماع عن عدائهم الصارخ لهذا الطابع الإسلامي على النحو التالي: يقول سمير نعيم: "ومن اللافت للنظر حقًّا المقابلة بين اتِّجاه حركة التيَّار الإسلامي المتطرِّف أو حتى المعتدل في الفترتين: ففي الفترة الأولى تحرَّكت هذه الجماعات وتلك الاتجاهات إلى خارج مصر، فهرب أعضاؤها أو لجؤوا إلى أقطار عربيَّة وبخاصَّة السعودية؛ فاتَّسمت تلك المرحلة بطرْد هذه التيَّارات.

وفي الفترة الثانية تحرَّكت هذه التيَّارات والجماعات من الخارج إلى الداخل، فجاءَتْ ومعها (أكثر التيَّارات رجعيَّةً وتطرُّفًا من تلك المناطق العربيَّة) إلى داخل مصر، فاتَّسمت هذه المرحلة بالغزو والتغلغُل والجاذبيَّة الداخليَّة"[20].

ويعتَبِر رجال الاجتماع أنَّ الطابع الإسلامي طابع غريب عن المجتمع المصري وليس أصيلاً فيه؛ ولهذا فهم يخشَوْن من تأثير الطابع الإسلامي الذي يحمله العائدون المصريون وأبناؤهم منها على الأسر والأبناء الذين لم يذهَبوا أصلاً إلى السعوديَّة، فينتقل إليهم هذا الطابع عبر التداخُل الأسري، وتقديم النماذج السلوكيَّة.

يقول سمير نعيم: "وممَّا لا شكَّ فيه أنَّ الآباء أنفسهم الذين يذهَبون إلى الأقطار العربيَّة يعودون وقد تشبَّعوا هم أنفسهم باتِّجاهات دينيَّة كانت غريبةً عنهم وعلى المجتمع المصري، بما يتبع ذلك من نماذج سلوكيَّة جديدة ولا تنعكس تأثيرات ذلك على أسر المهاجرين وحدَهم، بل تمتدُّ لتشمل أسرَ غيرِ المهاجرين أيضًا.

ومن خِلال ما يعقده أفراد الأُسَر الأخيرة من مقارنات بينهم وبين أفراد الأُسَر المهاجرة، وما يُقدِّم أعضاؤها من نماذج اتِّفاقية وسلوكية من جهة، ومن خِلال التداخُل الأسري من جهةٍ أخرى"[21].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــ
[1] عاطف العقلة عضيبات، الدين والتغير الاجتماعي في المجتمع الإسلامي، الدين في المجتمع العربي، مركز دراسات الوحدة، بيروت، 1990، ص155.
[2] سمير نعيم أحمد، المحددات الاقتصادية والاجتماعية للتطرف الديني في المجتمع العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1990، ص 98.
[3] علي الكنز، الإسلام والهوية، الدين في المجتمع العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1990، ص98.
[4] تابع ص105.
[5] تابع ص91.
[6] عبدالباقي الهرماسي، علم الاجتماع الديني، المجال والمكاسب والتساؤلات، الدين في المجتمع العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1990، ص30-31.
[7] سمير نعيم، تابع ص217.
[8] تابع ص218-229.
[9] تابع ص218-229.
[10] تابع ص218-229.
[11] تابع ص218-229.
[12] تابع ص218-229.
[13] تابع ص218-229.
[14] Josef Julian and William Kamblum,Social Problems,Practice,Hell Inc ,New Jersy,1982,P.48
[15] سمير نعيم، تابع ص229.
[16] تابع ص230-237.
[17] تابع ص230-237.
[18] تابع ص230-237.
[19] تابع ص230-237.
[20] تابع ص230-237.
[21] تابع ص230-237.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رد مع اقتباس
  #17  
قديم 10-09-2014, 08:21 AM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 56,039
ورقة رجال الاقتصاد وثغرة في جدار الصحوة

رجال الاقتصاد وثغرة في جدار الصحوة
ــــــــــــــــــــــ


اعترافات علماء الاجتماع
--------------

الحلقة السابعة عشر
--------------

رجال الاقتصاد وثغرة في جدار الصحوة
--------------------------------

وجَّه (جلال أمين) -وهو أحدُ رجال الاقتصاد العرب- اتِّهامات إلى رجال الاجتماع في بلادنا، مُؤدَّاها أنهم أسهَمُوا في تخريب النسيج لبلادنا؛ لعدم توَخِّيهم الحرصَ فيما ينقلونه؛ بحيث لم يعرف ما إذا كانوا ينقلون إلينا علمًا أم أيديولوجية، وخصَّ رجال الاقتصاد بالذكر مفهوم (النسبية الأخلاقية)، وهو المفهوم الذي يعتبر أنَّ الأخلاق نسبيَّة وليست مطلقة؛ بمعنى: عدم استنادها إلى الله أو الدِّين (حسب فهمهم للمطلق)، وتغيُّرها بتغيُّر الزمان والمكان، ومُسايَرتها لأغراض الحياة، يقول رجل الاقتصاد: إنَّ أوَّل درس يتلقَّاه طلاب علم الاجتماع في بلادنا لا بُدَّ وأنْ يتضمَّن الإيحاء بهذه النسبيَّة، وينتهي الطالب وقد استقرَّ في ذِهنه الاحتقار أو اللامُبالاة على الأقل بتُراث أمَّته، دون أنْ يُقال له ذلك صراحة أبدًا[1].

أصاب رجل الاقتصاد في مقولته هذه، عدا تصوره أنَّ مفهوم النسبيَّة الأخلاقيَّة هذا لا يُقال لطلاب علم الاجتماع عندنا صراحة، إنَّه يُقال لهم صراحةً وفي إطارٍ أكثر عموميَّة هو (نسبية القيم)، ويعتَرِف أساتذة علم الاجتماع في بلادنا بأنهم تعلَّموا هذه النسبيَّة من علم الاجتماع؛ ومن ثَمَّ وجَّهوا طلابهم إلى التخلِّي عن قيمهم التي يتمَركَزون حولها، وألا يعتَبِروها حكمًا على صحَّة أو خطأ القيم الأخرى التي هي غير إسلامية بالطبع.

ولا يقف الأمر عند هذا الحدِّ، بل أعلم الأساتذة طلابهم أنَّ التخلِّي عن قيمهم هو الشرط الأساس لتفهُّم القِيَم الغريبة عنَّا وعن إسلامنا؛ استعدادًا للانتِقال بهم إلى مرحلةٍ أخطر؛ وهي المشاركة والتعاون مع أصحاب هذه القِيَم الغريبة على حساب قِيَمِنا نحن.

عبَّر محمود الجوهري -أستاذ الاجتماع بجامعة القاهرة- عن ذلك كله في قوله: "لا شكَّ أنَّ علم الاجتماع هو العلم الإنساني القادر على توعيتنا بنسبيَّة القِيَم وأساليب السُّلوك الشائعة في مجتمعنا وفي عالمنا الخاص، وإدراك هذه الحقيقة هو بداية الطريق نحو إكسابنا القدرةَ على فهْم القِيَم وأساليب السلوك الشائعة عند أبناء مجتمعات غريبة عن مجتمعاتنا، وتمكننا من الإحساس بحقيقة مشاعر غيرنا من أبناء البشر، وليس هذا بالأمر الهيِّن؛ فهو بدايةٌ للتخلِّي عن مشاعر التمركُز حول السلالة، وهو شرطٌ أساس لقيام أي تعاون على كافَّة مستويات التعاون الممكنة، الأساس في كلِّ هذا بطبيعة الحال ليس مجرَّد المعرفة بواقع الآخَرين، وإنما الأساس أنْ تتحوَّل هذه المعرفة إلى نوعٍ من التفهُّم والاستعداد للمشاركة والتعاون...

ويجب أنْ نُؤكِّد هنا على شيءٍ ضروري، وهو ضرورة توقِّي أنفسنا الوقوع في أخطاء ما يُعرَف بالتمركُز حول السلالة؛ وأعني: أنَّ نجعل من معايير وعادات وخِبرات مجتمعنا وثقافتنا معيارًا نقيسُ به الطبيعة الإنسانيَّة، ونُحدِّد لها به ما تقدر عليه، أو ما نتوقَّع أنْ تصل إليه"[2].

قبل أنْ يُروِّج محمد الجوهري لمفهوم (نسبية القِيَم) بسبعين عامًا، كان عُلَماء الغرب أنفسهم قد أدرَكُوا الهوَّة التي وقَعُوا فيها بسبب هذه النسبيَّة، هذا (لويس ديكنسون) كتَب في عام 1908 عن التأثير المدمِّر لعِلم الاجتماع على الأخلاق فقال: "إذا أراد علمُ الاجتماع أنْ يتحدَّث عن الأخلاق فإنَّه سيكون أيَّ شيء آخَر غير أنْ يكون علمًا... إنَّ علماء الاجتماع الذين أعرفهم مُشوَّشون بين علم الاجتماع والأخلاق"[3].

وهذه (روزماري جوردون) كتبتْ قبل رُبع قرنٍ سبق لما كتَبَه الجوهري مُروِّجًا (لنسبية القِيَم) تُحذِّر لا من الأثَر التدميري لعلم الاجتماع فقط على الأخلاق، بل للعلوم الاجتماعيَّة برمَّتها فقالت: "إنَّ العالم الاجتماعي قد أثَّر تأثيرًا كبيرًا، وساعَد على التعجيل بالانهِيار الشامل في الاعتقاد بوُجود قِيَم أخلاقيَّة مُطلَقة، كما تحدَّى الجزاءات الأخلاقيَّة... إنَّ السؤال المطروح الآن أمام الإنسان المعاصر هو: إذا كان الدين قد هُجِرَ، وإذا كانت القواعد الأخلاقيَّة الصادقة والمطلقة قد أُنكِرت، فمَن يَهدِي الإنسان إذا خُيِّرَ بين فعلين ممكنين؟ هل نترُكه لدوافعه وغرائزه بعد أنْ سكت ضميره؟... إنَّ علوم الإنسان وإنْ كانت قد زادتْ من قُدرة الإنسان على التحكُّم في مصيره، فإنها في الحقيقة قد هدَمتْ إيمانه، وتركَتْه بلا هادٍ أو مرشد لحياته المستقبليَّة... إنَّ عدم الارتياح السائد بسبب فشَل العلوم الاجتماعية أدَّى ببعض العلماء الاجتماعيين إلى العودة إلى المفاهيم الدينيَّة عن الحياة، ورأَوْا أنَّ الإنسان بدُون هذه المفاهيم سوف يهلك لا محالة، وأنَّ عليه أنْ يستعيد الإيمان بالله، ويعود إلى الاعتقاد في الجانب الروحي داخِل نفسه، وأنْ يُعِيد قبول وجود قاعدةٍ أخلاقيَّة إلهيَّة مطلقة، تلك التي هاجمَتْها العلوم الاجتماعيَّة من الأساس"[4].

وفي توقيتٍ متزامن تقريبًا مع ما كتَبَه الجوهري عن (نسبية القِيَم) كتب تشارلز ماك جي -أستاذ الاجتماع بجامعة (سنترال واشنطن) الأمريكيَّة-: "إنَّ العِلم الاجتماعي الحديث يَسرِق إنسانيَّتنا من خِلال تزييفه للقِيَم والدوافع الإنسانيَّة، واستبدالها بمنظورات علميَّة... إنَّني غير مرتاحٍ لاتِّجاه العلوم الاجتماعيَّة عامَّة، وعلم الاجتماع خاصَّةً، إنَّ وجودنا كعُلماء اجتماعيين يتوقَّف على تزييفنا للقِيَم والدوافع والأنظمة الاجتماعيَّة، ولكن إلى متى؟ أنا لستُ متأكدًا... إنَّ علماء الاجتماع يفخَرون بأنفسهم وقُدرتهم على رؤية ما بداخل الأشياء، إذا أردت أنْ تعرف ما الذي يجري اسأل عالِم اجتماع، إنَّ العديد من طلابنا يأتون إلينا يتوقَّعون منَّا نظرةً جديدة إلى العالم؛ لأنهم سَئِمُوا النظرة القديمة، لقد أصبح الكثيرون علماءَ اجتماع لذات السبب، ولكن ماذا فعلنا مقابل ذلك للعالَم؟ لقد مزَّقناه وحطَطْنا منه، وحفرنا فيه ثقوبًا، وزيَّفناه... إنَّه مع فقْد الصلة بالقِيَم الرُّوحية التي هي المبادئ الأساسيَّة، بدَأ الإنسان يفقد إنسانيَّته، إنَّه الآن يفقدها لحساب المفكِّرين الذين يدرسوه... إنَّ دورنا كعلماء اجتماع تجاه طلابنا هو أنْ نتعامَل مع قيمهم الروحيَّة؛ لأنَّ علم الاجتماع ينشُر بينهم مفاهيم الاغتراب والوهن.. إنَّنا حطَّمنا حياة طلابنا الذين كانوا يتعاطَفون مع الناس قبل دِراستهم لعِلم الاجتماع، وكانوا على درجةٍ عالية من الثقة بالنفس، لكنَّهم الآن متعبون"[5].

هذا، وقد كتبنا إلى ماك جي بعد تسع سنوات من نشره لهذه المقالة؛ لنستَفسِر منه عن الدوافع التي حرَّكته نحو التركيز على القِيَم الروحية، فردَّ علينا قائلاً: "لقد رأيتُ النفاق يَسُود كلَّ شيء، وأردت أنْ أفعل شيئًا ما؛ ربما لأسبابٍ أخلاقية، فقد وصلت إلى استنتاجٍ مُؤدَّاه أنَّنا كنَّا بالفعل نُحقِّق شيئًا ضارًّا وليس بالحسَن، إنَّ طلابنا الآن أكثر اغتِرابًا عمَّا أتونا لأوَّل مرَّة، وإنَّه إذا كانت قيمهم ضعيفةً قبل دِراسة علم الاجتماع، فإنهم الآن يفتَقِدون القيم كليَّةً؛ ولهذا فإنِّي حاولت في محاضراتي لطلابي ألا أُدمِّر كلَّ شيء حولي، بل أعطيهم الإحساس بالأمل، وأعمل على وصلهم بالقِيَم الروحيَّة التي كتبتُ عنها في مقالتي"[6].

هكذا أساتذة الاجتماع في الغرب يَعُودون للقيم الروحية، ويحاولون بثَّها بين طلابهم، وأساتذة الاجتماع في بلادنا يُروِّجون لنسبيَّة القيم، ويدعون طلابهم إلى الانخِلاع من رِبقة الإسلام، وإنْ لم يقولوها صَراحةً.

نعودُ إلى رجال الاقتصاد، اتَّهم (جلال أمين) رجالَ الاجتماع في بلادنا بافتِقار دِراساتهم إلى الابتكار الحقيقي؛ سَواء أكان هذا الابتكار متعلقًا بإيجاد منهج جديد في البحث، أو بإثارة الشك في بعض المسلَّمات، أو بتقديم تفسيرٍ جديد لظاهرةٍ اجتماعيَّة معقَّدة.

اتَّهم رجال الاقتصاد باحِثينا الاجتماعيين بالهزيمة النفسيَّة، وبالخُضوع، وبالاحتِرام المبالَغ فيه لكلِّ مُنجَزات الأجنبي؛ بحيث سهَّل على هذا الأجنبي أنْ يبيع بضاعته الماديَّة والفكريَّة على أنها إنتاجٌ (إنساني) عامٌّ، أو أنها ثمرة التقدُّم التكنولوجي والمادي الذي لا يُنسَب لحضارةٍ دون أخرى، بعد أنْ نجح هذا الأجنبي في إخفاء تحيُّزاته وميوله ونزعاته التي تطبَع إنتاجه المادي والفكري، قَبِلَ باحثونا الاجتماعيون النظريَّات الأجنبيَّة دون مُساءلةٍ، وافتُتِنوا بها كما افتُتِن المستهلك العادي بالكفاءة التكنولوجية العالية للتليفزيون الملوَّن، دون أنْ يَنظُر هذا أو ذاك في مدى مُلاءَمة النظريَّة أو السلعة لمناخٍ اجتماعي وثقافي مختلف تمامًا عن المناخ الذي أبدع تلك النظرية أو السلعة.

وكما أصابَ رجل الاقتصاد في اتِّهاماته السابقة لرجال الاجتماع، أصابَ كذلك في قوله بأنَّنا (تابعون) في مختلف جوانب حَياتنا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، بكلِّ ما تحمل هذه الكلمة من معنى؛ فالدراسات الاجتماعية في بلادنا تهتمُّ بقَضايا نظرية أو تطبيقية ذات أهمية فقط في البلاد التي نشَأتْ فيها، وليست ذات أهميَّة في بلادنا، نقل باحثونا الاجتماعيون هذه النظريَّات إلينا دُون إعمال الفكر في مَدَى انطِباقها أو مُلاءَمتها لمجتمعاتنا، ودُون حتى محاولة جديَّة في التحفُّظ على ما تحمِله من أفكار.

وأصابَ رجل الاقتصاد مرَّةً أخرى في اتهامه لباحِثينا الاجتماعيين وكتاباتهم بالتبعيَّة في (لغة التعبير)، إلى درجة أنَّ هذه الكتابات اكتفَتْ في كثيرٍ من الأحيان بكتابة اللفظ الأجنبي بحروفٍ عربيَّة، فأصاب هذا اللغةَ العربيةَ بالتشويه بسبب اختلاط الألفاظ العربيَّة بالأجنبيَّة، كما أصبَح الكُتَّاب الاجتماعيُّون يقبَلون وُجود ألفاظ غربيَّة حتى ولو كان هناك مُقابل عربي يُؤدِّي نفسَ المعنى أداءً أفضل، كما زاد الميل إلى إقحام الألفاظ الأجنبية الغربية في هذه الكتابات، وكأنها دليلٌ على سعة الاطِّلاع وتنوُّع الثقافة.

وردَّ رجُل الاقتصاد على الادِّعاء بأنَّ المهمَّ هو التعبير عن الفكرة على أيِّ نحوٍ كان، فأثبت أنَّ الكتابات الاجتماعيَّة ركيكة الأسلوب، وهي في نفس الوقت أكثر غُموضًا وأكثر تخبُّطًا وتناقضًا، في حين أنَّ أسلافنا كانوا أدقَّ تعبيرًا وأدقَّ فكرًا، وأشار رجُل الاقتصاد إلى أنَّ رَكاكة التعبير وغُموضه يُستَخدم اليوم كوسيلةٍ لإخفاء ضَحالة الفكر وضعف الاستيعاب.

رفَض رجل الاقتصاد الادِّعاء بأنَّ اللغة ما هي إلا وسيلة للتعبير وليست غاية في ذاتها، وأنها طريقةٌ للاتِّصال ولا يهمُّ أمر التبعية فيها، وإنما المهمُّ أنْ يصل المعنى بأيَّة طريقة ولو عن طريق استخدام اللغة الأجنبية.

أكَّد رجُل الاقتصاد أنَّ التبعيَّة في لغة التعبير وثيقة الصلة بالتبعيَّة في مضمون الفكر، تؤدِّي كلٌّ منهما إلى الأخرى وتُقوِّيها، وأنَّ مَن كان تابعًا لفِكر غيره استَسهَل التضحية بلغته، والاستسهال بالتضحية باللغة يُؤدِّي إلى التورُّط أكثر فأكثر في قبول ما لا يتعيَّن قبوله من الفكر الأجنبي؛ لأنَّ اللغة نفسها تعكس في كثيرٍ من الأحيان مواقف قيميَّة وتفضيلات خاصَّة، وأنها لا تتمتَّع دائمًا بدرجة الحِياد التي تَزعُم لها، واستشهد هنا بمصطلحات مثل: (الدول المتخلفة، والدول النامية، أو التنمية)، فكلها ليستْ مصطلحات حياديَّة، وإنما تتضمَّن إقرارًا بالموافقة على نمط التغيير الذي يحدُث في بلادنا، وعلى أنَّ المطلوب منَّا في التنمية هو التكاثُر والزيادة فحسب.

ومن أهمِّ ما لفت رجلُ الاقتصاد الانتباهَ إليه هو قبول باحثينا الاجتماعيين للمَقُولات الاجتماعية التي تطوَّرتْ في المجتمعات الصناعية، دون التنبُّه إلى المسلَّمات التي تقومُ عليها، والتي تشكَّلت في ظروفٍ مختلفة تمامًا عن بلادنا، وأنَّ هذه المقولات والنظريَّات الغربية تحمل قِيَمًا ومواقف وأخلاقًا فلسفيَّة نقَلَها باحثونا إلى مجتمعاتنا على أنها (علم محايد)، ومن ثَمَّ هربت إلينا قِيَم وفلسفة وأخلاق الغرب على حساب قِيَمِنا وأخلاقنا.

اتَّهم رجُل الاقتصاد باحثِينا الاجتماعيين بأنهم سارُوا وراء الغرب حتى في مشكلة ما أسماه بـ(الأناقة النظريَّة)، التي هي نوعٌ من الترف الفكري لا يختلف عن استِهلاك السِّلَع الكماليَّة، في حين أنَّ مجتمعاتنا ليستْ في حاجةٍ إلى مِثل هذه الأناقة النظرية.

وكشَف رجل الاقتصاد عن عجْز العُلوم الاجتماعيَّة عن تقديم تشخيصٍ لبعضٍ من أهمِّ المشكلات الاجتماعيَّة التي واجَهَها الغرب؛ كمشكلة العنف وانتشار المخدِّرات.

ولفت النظر أيضًا إلى أنَّ لعلماء الغرب مصلحةً في أنْ يظلَّ الناس عاجِزين عن فهْم ما يجري في السياسة والمجتمع، وأنْ ينصَرِف الاجتماعيون إلى القضايا الجزئيَّة، وألاَّ يتعرَّضوا للمشكلات الجوهريَّة بحيث يتحوَّلون إلى باحثين مُتخصِّصين ضيِّقي الأفق.

هذه هي مُجمَل اتِّهامات (جلال أمين) لرجال الاجتماع في بلادنا ولباحِثينا وكِتاباتنا الاجتماعيَّة: تخريب النسيج الاجتماعي والثقافي لمجتمعنا، ونقل مفاهيم وأخلاق وفلسفة ونظريَّات الغرب إلينا على أساس أنها (علمٌ محايد)، والافتقار إلى الابتكار الحقيقي، والهزيمة النفسية، والخُضوع والاحترام المُبالَغ فيه لكلِّ مُنجزات الأجنبي، والتبعيَّة له في كلِّ شيءٍ؛ بدءًا من لغة التعبير إلى الأناقة النظرية.

نأتي بعدَ ذلك إلى رجل اقتصادٍ آخَر وهو (عادل حسين)، الذي وجَّه انتقاداته لرجال الاجتماع وباحثينا الاجتماعيين أيضًا، مع التركيز على بَيان قُصور النظريات الغربيَّة ومُعاداتها لنا، وذلك على النحو التالي[7]:

أولاً: بالنسبة للنظريَّات الغربيَّة:
1- إنَّ المستوى الأيديولوجي الأعلى الذي يَحكُم نظريَّات الغرب ومَدارسه هو (الدنيوية)[8]، وإنَّ الخِلافات بين مختلف هذه النظريات والمدارس ومحاولات حلِّ التناقُضات بينها ستظلُّ مرتبطةً بهذه (الأيديولوجية الدنيويَّة)، وإنَّه لا شأنَ لنا نحنُ في مجتمعاتنا بهذه المشكلات وهذه الحلول.

2- إنَّ العلوم الاجتماعية الغربية ليست علومًا عالمية، وإنَّ زعمَها بذلك لا يستَنِدُ إلى مشروعيَّة معرفيَّة أو تاريخيَّة؛ ومن ثَمَّ فليس لها الحق في المطالبة باعترافٍ عالمي بمصداقيَّة وعلميَّة نتائجها، إنَّ هذه العلوم لا تستَنِد إلا على معرفة أهل الغرب عن مجتمعاتهم في العصر الحديث، وهي لا تقَع إلا في حُدود شريحة رقيقةٍ من التاريخ، وعلى مساحةٍ محدودةٍ من الأرض، وإنَّ البناء النظري الغربي بالإضافة إلى أنَّه لا يمكن أنْ يكون علمًا مقبولاً عالميًّا، فإنَّه وُلِدَ قاصرًا ومُشوَّهًا مهما كانت الكفاءة الفكريَّة لصانِعِيه، كما أنَّ هذه النظريَّات تُعالِج أسئلةً ليستْ أسئلتنا ولا ترتبط بنا.

3- إنَّ هذه النظريات ليست محايدةً قبلنا، بل هي مُعادِية لنا وتُعبِّر صراحةً أو ضِمنًا عن مُخطَّط السَّيْطرة الغربية على النظام الدولي، وتَقُوم على مُسلَّمة تفوُّق الغرب ومشروعية سَيْطرته على العالم، وانعَكَس ذلك في كتابات مُعظَم روَّاد النظريات الغربية الذين أظهروا نظرة السَّيْطرة والاستعلاء؛ كما هي عند فولتير، ومونتسكيو، وكوندرسيه، وهوبر، ولوك، وروسو، وهيوم، وميل، وسان سيمون، ودوركايم، وماركس... وغيرهم.

أمَّا هؤلاء الذين دافَعوا عن الحضارة الإسلاميَّة من رجال الغرب مثل رودنسون، فقد أقنع تابِعِيه من المثقَّفين المسلمين بأنَّ الإسلام كان صالحًا في الماضي أمَّا الآن فإنَّه فقَدَ هذه الصلاحية.

4- جاءت النظريَّات الغربيَّة لتُعِيد تركيبَ التاريخ على نحوٍ يضَعُ الحضارة الغربيَّة كغايةٍ وحيدة للتقدُّم العالمي المنشود، كما جاءتْ نظَراتهم المستقبليَّة لتُبشِّر بمستقبلٍ أسود ينتَظِر مجتمعاتنا.

5- سرَّبت النظريَّات الغربيَّة إلينا مفهومًا مُقتضاه أنَّ الفردوس الأرضي الذي يقومُ على الدنيويَّة سيكون عبرها، أمَّا الثورة العلميَّة والتكنولوجيَّة فلا تحمل فقط وُعودًا بالرفاهية، وإنما حملت نذيرًا بالدَّمار الشامل وخَراب البيئة، ولم يتحقَّق من هذا الفردوس إلا تحلُّل القِيَم بسُرعةٍ متزايدة، وزيادة الإحساس بالاختناق والاغتراب.

6- إنَّ هذه النظريَّات الغربيَّة لا تُعادِينا فقط، بل تزدَرِينا، وإنَّنا حينما نستخدمها فإنما نخضع لتَحرِيضها لنا على احتِقار تاريخنا، ونبتَلِع مسلَّمة أنَّنا أدنى، كما تصدر إلينا نظريَّات خاصَّة مثل (نظريات التنمية) التي صمَّمتها عمدًا لضَمان استِمرار السَّيْطرة الغربيَّة علينا، وعلى نحوٍ لا يمكننا من إحداث تغييرٍ جذري في بنية النِّظام الدولي، وتهدف هذه النظريَّات المصدَّرة إلينا إلى إلحاقنا بالغرب في كلِّ النواحي: الاجتماعيَّة، والسياسيَّة، والثقافيَّة، وليست الاقتصاديَّة فقط، بدعوى أنَّ التحديث مفهومٌ مُركَّب بالضرورة[9].

ثانيًا: بالنسبة لرجال الاجتماع وباحِثينا الاجتماعيين الآخَرين:
1- أدانَ رجل الاقتصاد محاولةَ رِجال الاجتماع إخضاعَ ما هو غير عِلمي كالقِيَم والأيدلوجيَّة لشُروط الفرض العلمي، واتَّهمهم بأنهم تابعون مُتأثِّرون بشدَّةٍ بطُموحات أهل الغرب، وغير قادِرين على التمييز بين الإنسان وثاني أكسيد الكربون، وبيَّن أنَّ هذه المحاولة مستحيلةُ التحقيق، ولا تهدف إلا لتحويل المجتمع إلى آلةٍ كبيرة محكومة الحركة ومضبوطة الأزرار، كما تسعى إلى فرْض قواعد وقوالب على الحركة الاجتماعيَّة، ولا تخرج برمَّتها عن مجرَّد رياضة ذهنية تضرُّ ضررًا بليغًا بمعرفتنا بحقيقة المجتمع الحي.

2- أدانَ رجل الاقتصاد هؤلاء الذين انبهَرُوا بما قِيل عن (العقلانيَّة) وسيادة العلم في الغرب، والذين نظَرُوا إلى التطوُّرات الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة والسياسيَّة بعين العقلانيَّة الغربيَّة، وأدانَهم أيضًا لاحتِفائهم بمراحل النهضة والتنوير الغربي -الذي كُنَّا نحن ضَحاياه- وأظهر أنَّ انتشار أفكار عصر التنوير وما صاحَبَها من تقدُّم علمي صناعي قد رسخ المفاهيم والنظريات الغربية التي تتمَحوَر حول التفوُّق الأوربي.

3- أدانَ رجل الاقتصاد المفكِّرين والكُتَّاب المتفرنجين والمتغرِّبين، المستوعِبين تمامًا للفكر الغربي، والذين عَمِلُوا للغرب كمستشرقين محليِّين، ووصفهم بأنهم تربَّوا على استخدام المنتج الجاهز؛ سواء كان سلعةً استهلاكيَّة أو نظريَّة اجتماعيَّة، والذين تقرَّبوا إلى السُّلطة للحِفاظ على أنماط حَياتهم ومعيشتهم، ورأى أنَّ هذه القِطاعات من المفكِّرين والكُتَّاب صُمِّمت بحيث تكون عيقمةً لا تنجب، تُشبِه أهل الغرب في كلِّ شيءٍ إلا في القُدرة على الإبداع.

4- أدانَ رجل الاقتصاد هؤلاء الكُتَّاب والباحثين التلفيقيين الذين يخدَعُون أنفسهم ويستخدمون المفاهيم الغربيَّة مع تغيُّرٍ في المصطلحات الدالَّة عليها، ثم يدَّعون أنَّ لهذه المفاهيم أصلاً في تُراثنا يُبرِّر الأخْذ بها.

أصابَ رجل الاقتصاد في كلِّ ما قالَه، خاصَّة فيما عبَّر عنه بقوله:
إنَّ النظريَّات الغربيَّة تجعل (الإنسان محور الكون) بدلاً من (الله تعالى) كما هو في عقيدة التوحيد الإسلاميَّة، وانتهى إلى بَيان أنَّه يؤمن بالصِّيغة الإسلاميَّة التي تقومُ على الإيمان بالله الواحد الخالق كمفهومٍ محوري، وأنَّ الدنيا ليست كلَّ شيء، وأنَّ بعدها حِسابًا.

هذا صحيح، لكن رجل الاقتصاد وقَف عند هذا الحدِّ، ثم أطلق مَقُولات أخرى يُعتَبر الأخذُ بها تدميرًا لعقيدة التوحيد الإسلاميَّة، وهدمًا لكلِّ ما قالَه من قبل، فوقَع في الدائرة التي حدَّدَها الشيخ مصطفى صبري: (بأنَّ التمسُّك بالدِّين مع ضعف وشبهة في العقيدة مساوٍ لعدم الدِّين).

أوَّل ما هدَم به رجلُ الاقتصاد عقيدةَ التوحيد الإسلاميَّة هي قوله: إنَّ الإسلام لا يتَلخَّص في القضيَّة المحوريَّة (لا إله إلا الله)، في حين أنَّ عُلَماء المسلمين -لا العُلَماء الاجتماعيين- يُجمِعون على أنَّ (لا إله إلا الله) هي أصل الدِّين ورأس الإسلام، وهي التي بُعِثَ بها جميعُ الرسل، وهي الحقيقة الأولى التي يقومُ عليها التصوُّر الاعتقادي في الإسلام، فبِخِلاف أنَّ الإنسان وفْق هذا الأصل المحوري (لا إله إلا الله) لا يكون عبدًا إلا لله، ولا مطيعًا إلا لله، فإنها تعني أنَّ (الله تعالى) هو المُشرِّع للعِباد، ولا يكون تشريع البشَر مستمدًّا إلا من شريعة الله، وقِيَمُ الحياة كلها لا تكون إلا من الله، ولا شرعيَّة لوضْع أو تقليد أو تنظيم يُخالِف منهجَ الله؛ ولهذا فإنَّ زعْم رجلِ الاقتصاد بأنَّه من المؤمنين بالصبغة الإسلاميَّة مع قوله بأنَّ الإسلام لا يتلخَّص في (لا إله إلا الله) أمران لا يتَّفقان، يقول -عزَّ وجلَّ-: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا ﴾ [النساء: 60].

هذا إنكارٌ من الله -عزَّ وجلَّ- على مَن يَدَّعِي الإيمان بما أنزَلَ الله على رسوله وعلى الأنبياء الأقدَمِين، وهو مع ذلك يريدُ أنْ يتحاكَم إلى غير كتاب الله وسنَّة رسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم.

إنَّ إقرار رجل الاقتصاد بمفهوم الإيمان بالله الواحد الخالق، واعتقاده بأنَّ الله وحدَه خلَق العالم، ثم ظنه بأنَّ هذا هو غاية التوحيد، لا يعني أنَّه قد أصبَح (مُوحِّدًا)، إنَّ مشركي العرب كانوا مُقرِّين بأنَّ الله وحدَه هو خالق كلِّ شيء، وكانوا مع هذا (مشركين).

إنَّ رجل الاقتصاد لم يقرَّ بالتحاكُم إلى شريعة الله وحدَه، بل أنَّه فتح الباب بقوله: إنَّ الإسلام لا يتلخَّص في (لا إله إلا الله) لتلقي تصوُّرات وقيم وموازين وأخلاق وآداب واجتماع وسياسة واقتصاد من غير شريعة الله، وبذلك يكونُ قد خرَج من الشريعة الخاصَّة التي بُعِثَ بها محمدٌ -صلَّى الله عليه وسلَّم- إلى القدْر المشترَك الذي فيه مُشابهةٌ مع اليهود والنَّصارَى والشيوعيين وغيرهم.

يقول الله -تعالى-: ﴿ فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [النساء: 65].

إنَّ الله -تعالى- هنا قد أقسَمَ بنفسه الكريمة المقدَّسة ألا يؤمن أحدُكم حتى يُحكِّم الرسول -صلَّى الله عليه وسلَّم- في جميع الأمور، فما حكَم به هو الحق الذي يجبُ الانقياد له باطنًا وظاهرًا؛ ولهذا قال: ﴿ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ ﴾؛ أي: إذا حكَّموك يطيعونك في بواطنهم، فلا يجدوا في أنفسهم حرجًا ممَّا حكمت به، وينقادون له في الظاهر والباطن، ويُسلِّمون لذلك تسليمًا كليًّا من غير مخالفة ولا مدافعة ولا منازعة، وقد ورد في الحديث: ((والذي نفسي بيَدِه لا يؤمنُ أحدُكم حتى يكونَ هواه تَبَعًا لما جئتُ به))[10].

إنَّ رجل الاقتصاد لم يقرَّ ولم يُسلِّم ولم ينقَدْ، ورغم إيمانه فإنَّه خالَف ودافَع ونازَع.

لم يكن هوى رجل الاقتصاد تبعًا لما جاء به الرسول -صلَّى الله عليه وسلَّم- وإنما تبعًا (للتكوينات الاقتصادية الاجتماعية) عند ماركس، وتبعًا (للمكونات الغربية) التي طوَّعَها (ماوتسي تونج) لظروف الصين، ثم أنشأ منها ما أسماه رجل الاقتصاد (بالبناء النظري المُحكَم)، ثم دعانا إلى الالتفات إلى ما أسماه أيضًا بالدرس العظيم لهذه التجربة الصينية، وطالَبنا بالاسترشاد به، وبالتجربة السوفياتية واليابانية.

كان النموذج الصيني عند رجل الاقتصاد هو النموذج القريب إلى واقِعنا والذي يجبُ علينا أنْ نتدرب على تصميم نموذج مثله، إنَّ قوله بأنَّه لا يقصد أنْ نستورد هذا النموذج الصيني لا يغفر له الهوى.

لم يكن هوى رجل الاقتصاد أيضًا تَبَعًا لما جاء به رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- وإنما كان تَبَعًا لما أسماه بمشروع (بناء الأمَّة في إطار المحددات الموضوعيَّة)، إنَّه لا يقصد بهذا المشروع كتاب الله وسنَّة رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- بالطبع.

ألم يكن رجل الاقتصاد هذا هو الذي أشادَ بتجربة (محمد علي) في مصر، واعتبَرَها نموذجًا على إمكانيَّة ابتداع ما أسماه بالأشكال الأصيلة للثورة الصناعيَّة التي تُخالِف الشكل الأوربي، ولعلَّه لم يغبْ عن ذهن رجل الاقتصاد إشادة (ماركس) بمحمد علي في ضرْب الإسلام، وقوله -أي: ماركس- في ذلك: "إنَّ محمد علي هو الشخص الوحيد القادر على إحلال رأس حقيقي محلَّ عمامة المراسم"[11].

وقول العلمانيين إشادةً بدور محمد علي في ضرب الإسلام: "إنَّ هذه التجربة حقَّقتْ إنجازًا عظيمًا في البِنَى الأساسيَّة والأفكار التي حملَتْها والنظريات التي نقلَتْها والرُّؤى التي قدَّمتها، التي تُخالِف في جُملتها ما جاء به رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم"[12].

وفي الوقت الذي شدَّد فيه رجلُ الاقتصاد هُجومَه على النظريَّات الغربيَّة، دعا في نفس الوقت إلى أنْ نأخُذ من هذه النظريَّات ما هو عام ومجرَّد وليس بخاصٍّ، فخرج بذلك من الشريعة الخاصَّة التي بُعِثَ بها محمد -صلَّى الله عليه وسلَّم- إلى ما اعتقد أنَّه القدر المشترَك الذي فيه مشابهةٌ مع اليهود والنصارى وماوتسي تونغ من قبل.

لم يكن هوى رجُل الاقتصاد تبعًا لما كان في عصر صدر الإسلام الأول، وقرنه الذي قال عنه الرسول -صلَّى الله عليه وسلَّم-: إنَّه خير القرون، وإنما كان هَواه تبعًا لما أسماه (بالأمَّة الصينيَّة العملاقة ذات التاريخ المجيد).

ولم ينسَ رجل الاقتصاد أنْ يُشِير إلى أنَّ هذه الأمَّة الصينية العظيمة -في نظَرِه- قد صاغَتْ نموذجًا شرع في دِراسة الطبقات غير متقيدة بالنموذج الماركسي، لكنَّها وضعتْ مع ذلك أوزانًا (للفلاحين والبورجوازية والملاك والبروليتاريا)، ثم لفت الانتباه إلى مُوالاة هذا النموذج للمصطلحات الماركسية بإصرارها على قيادة البروليتاريا للحركة والثورة بنصِّ عبارات رجل الاقتصاد.

هاجَم رجل الاقتصاد هؤلاء التلفيقيِّين الذين استخدَموا المفاهيم الغربية نفسها، ثم ادَّعوا أنَّ لها أصلاً في التراث يُبرِّر الأخْذ بها، ونحن معه في ذلك تمامًا، لكنَّه وإنِ اعترف من قبل بأنَّه ضلل بالعقلانية ها هو يُوفِّق بينها وبين الإسلام، بل يزيدُ قائلاً: إنَّ الصياغة الإسلاميَّة في إجمالها لا تتنافَى مع العقلانية، وإنَّ هناك عقلانية دنيوية غربية مقابل عقلانية إسلامية، وإنَّ العقلانية ليست باختراعٍ فريد للحضارة الغربية.

ألم يكنْ هو نفسه الذي قال: "إنَّ المفاهيم الدنيوية تتولَّد عنها في الأنساق الفكرية الغربية مفاهيمُ فرعيَّة في كلِّ مَناحِي المعرفة الاجتماعيَّة، تتعارَض دائمًا مع المفاهيم الفرعيَّة المتولِّدة مع المتغيِّرات التي أدخَلْناها (وخاصَّة الإيمان بالله - تعالى)؟

لِمَ لم يُطبِّق ذلك على العقلانيَّة الغربيَّة؟ ولِمَ حاوَلَ إثبات أنَّ للعقلانيَّة أصلاً في الإسلام بحصْره للعقلانيَّة في استخدام العقل؟ ألم ترتَبِط العقلانية بمفكِّري عصر التنوير في فرنسا، ذلك العصر الذي لامَ مثقَّفينا بسببه لاحتفائهم به، وقال: إنَّ شعوبنا من ضحاياه؟ ألم تُعْلِ العقلانيَّة من قيمة العقل لتقف في مواجهة الإيمان؟ ألا تعني العقلانية في أكثر معانيها شُيوعًا أسبقيَّة العقل فوق سائر الأشياء في فهْم الحقائق الجوهريَّة عن العالم؟ لِمَ حصر رجل الاقتصاد العقلانية في استخدام العقل، وقال: إنَّ الإسلام وجه العقلانية عندنا، فوصلت إلى نتائج مغايرة، وأنَّ بوُسْعِ العقلانيَّة الإسلاميَّة أنْ تجتهد وتُطوِّر هذه النتائج؟ ورفَع عن العقلانية ما وصَفَها به علماء الغرب بقولهم: "إنَّ روح عصر التنوير النقديَّة العقلانيَّة وجَّهت ضدَّ الحقائق المنزلة في الكتب المقدَّسة، وأنَّ العقلانية حركةٌ مُضادَّة للدين ذات نظرة نفعيَّة، تُعطِي وزنًا كبيرًا للمناقشات العلمية والتاريخية المضادَّة للإيمان؟"[13].

لِمَ حاول رجل الاقتصاد أنْ يخلط المفاهيم حتى ولو ادَّعى أنَّه فرَّق بين عقلانيَّة دنيويَّة وأخرى إسلاميَّة؟ لِمَ حاول أنْ يجعلنا نستسيغ العقلانية وننسى ارتباطاتها الإلحادية؟ إنَّ ذلك قد يصل بالبعض إلى تكرار ما حدث في الماضي بأنْ يكون العقل وحدَه هو الأصل، ويكون الإيمان بالقُرآن تابعًا له، وأنْ تكون المعقولات هي الأصول الكليَّة المستغنية بنفسها عن الإيمان بالقُرآن.

إذا كانت المسألة هي استخدام العقل فلننظر إلى ما قاله علماء المسلمين:
"العقل شرطٌ في معرفة العلوم وكَمال وصَلاح الأعمال، وبه يكمل العلم والعمل، لكنَّه ليس مستقلاًّ بذاته، لكنَّه غريزة في النفس وقوَّة فيها بمنزلة قوَّة البصر التي في العين، فإن اتَّصل به نور الإيمان والقُرآن كان كنوز العين إذا اتَّصل به نور الشمس والنار... وإنِ انفَرَد بنفسه لم يبصر الأمور التي يعجز وحدَه عن دركها، وإنْ عُزِلَ بالكلية كانت الأقوال والأفعال مع عدمه أمورًا حيوانيَّة"[14].

ألَمْ يكن رجل الاقتصاد رفيقًا بمجادِلِيه ولم يلزمهم بمفهومٍ محدَّد وصريحٍ عن الإيمان بالله تعالى، وترَك لهم الحريَّة حوله بدعوى أنْ هذه المسألة مناقشة فلسفيَّة؟

ألم يكن رجُل الاقتصاد هو ذلك الذي قَبِلَ في صِيغَته الإسلامية المقترَحة مفاهيمَ ماركسية مثل: الطبقة، والتراتب الاجتماعي، والصراع الاجتماعي، بدعوى أنها عالميَّة وعلى مستوى عالٍ من التجريد؟

ألم يكن رجل الاقتصاد رفيقًا (بالعلمانية) -رغم هجومه عليها- فلم يشرح معنى قوله بأنها لم تكفر بالله صراحةً أو بالضرورة، وأنها فقط جعلتْ قضيَّة الإيمان بالله مجرَّد مسألة شخصيَّة، ولا أهمية لها في بحث شُؤون المجتمع والعلاقات الاجتماعيَّة؟

لقد كان رجل الاقتصاد حريصًا على ألا يُدمِّر موقعَه بين المثقفين اليساريين وغيرهم، لو تطرَّق إلى الميتافيزيقا اللاعلميَّة بصورةٍ أشد، وتحدَّث عن تحكيم كتاب الله وسنَّة رسوله -صلَّى الله عليه وسلَّم- لذلك لم نستَغرِب استِقبال الماركسيين العرب من رجال الاجتماع لمشروعِه بالإطراء والثناء والانتقاد اللطيف[15].

بل وصَفُوا مشروعَه بأنَّه متميِّز وثريٌّ يستحقُّ المناقشة، لم يهاجموه ويتَّهموه بالدعوة للحاكمية القطبية، أو بأنَّه جمَع ما لم يأتلف، ولم ينظُروا إلى مشروعه على أنَّه شديد العموميَّة، أو بالعجز عن بعث الخصوصيَّة المطلوبة التي تُوضِّح التفاعُل الإيجابي بين الإسلام والعصر الحديث.

لقد اعتَرَف الماركسيون العرب من رجال الاجتماع بأنَّ الصحوة الإسلاميَّة أسقطَتْ تلك (العقلانية) التي تمسَّكوا بها، وأثبتَتْ عجزَها على الصعيدين: النظري والمنهجي، بعد أقل من ستِّ سنوات من محاولة رجُل الاقتصاد ربطَها بالإسلام ليوجد بها ثغرةً في جِدار الصحوة، وليجدَ مكانًا على الساحة الإسلاميَّة بتخريب مفهوم (لا إله إلا الله) والتهوين من حقيقة (العلمانيَّة)، والدعوة إلى أخْذ العام والمجرَّد في النظريَّات الغربيَّة والماركسيَّة، والاقتداء بنماذج ماوتسي تونغ، فيُحافِظ في نفس الوقت على موقعه بين أعداء الدِّين والصحوة الإسلاميَّة[16].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] انظر تفصيلاً: جلال أمين، بعض مظاهر التبعية الفكرية في الدراسات الاجتماعية في العالم الثالث، إشكالية العلوم الاجتماعية في الوطن العربي، المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، القاهرة 1984، ص: 231-241.
[2] بوتومور، تمهيد في علم الاجتماع، ترجمة: محمد الجوهري وآخرين، دار المعارف، القاهرة، 1978، ص: 9-18.
[3] G.Lowes Dickinson,sociology and Ethics, the sociological,1-2,1908-1909,PP.174-177 Review
[4] Rosemary Gordon, The impact of social sciences on Ethics, Sociological R.,1954,PP.57-75.
[5] Charles Mcgehee, spiritual Values and sociology, The American Sociologist, 1982, V.17(FEB.) PP.40-46.
[6] رسالة أرسلها إلينا ماك جي في 4 يونيو 1990.
[7] عادل حسين، النظريات الاجتماعية الغربية قاصرة ومعادية، إشكالية العلوم الاجتماعية في العالم الثالث، ص: 243-275.
[8] استخدم عادل حسين مفهوم (الدنيوية) بدلاً من العلمانية.
[9] انظر: وقفة مع إشارات أمريكية عن الإسلام والتنمية، الحلقة 32، الإسلام والكونجرس، وكذلك: مشكلة التنمية والهجوم على الإسلام، الحلقة 33، مجلة المجتمع، العددان: 948، 949، وبهما الخطة التي وضعها رجال الاجتماع في بلادنا لضرب العقيدة مستقاة من أحد المراجع الخاصة بالتنمية والتي تدرس على الطلاب في جامعاتنا.
[10] انظر معنى (لا إله إلا الله) وتفسير الآيات المذكورة في مختصر تفسير ابن كثير، وفي ظلال القرآن؛ لسيد قطب، ومجموع فتاوى ابن تيمية مجلد (1) ص 76، وفتح المجيد شرح كتاب التوحيد؛ لعبدالرحمن حسن آل الشيخ ص16-17.
[11] ز.ا.ليفين، الفكر الاجتماعي والسياسي الحديث، ترجمة: بشير السباعي، دار ابن خلدون، بيروت، الطبعة الأولى، 1978، ص: 26.
[12] معن زيادة، معالم على طريق تحديث الفكر العربي، سلسلة عالم المعرفة 15، المجلس الوطني للثقافة، الكويت، 1987، ص174.
[13] Ninlan Smart, Rationalism, the Encyclopedia of Philosophy, Macmillan Publishing, N.Y.m London, P.69.
[14] تقي الدين ابن تيمية، الرد على المنطقيين، الجزء الأول، مكتبة الأزهر الشريف، القاهرة ص344.
[15] محمد عزت حجازي، الأزمة الراهنة في الوطن العربي، نحو علم اجتماع عربي، مركز دراسات الوحدة العربية، سلسلة كتب المستقبل العربي (7)، 1986 ص: 37.
[16] انظر: الحلقة الأولى: علماء الاجتماع والعداء للدين وللصحوة الإسلامية، العدد 40.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــ
رد مع اقتباس
  #18  
قديم 10-09-2014, 08:24 AM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 56,039
ورقة هل تحتاج بلادنا إلى علماء اجتماع ؟

هل تحتاج بلادنا إلى علماء اجتماع ؟
ــــــــــــــــــــ


اعترافات علماء الاجتماع
-------------------

الحلقة الثامنة عشر
-------------

هل تحتاج بلادنا إلى علماء اجتماع؟
-----------------------

الإجابة بـ(لا) قطعًا.

لكنَّ هذه الـ(لا) ليست من عندنا.

إنها من أفواه وأقلام عُلَماء الاجتماع أنفسهم.

كان رجال الاجتماع في بلادنا وما زالوا يتصوَّرون أنهم طليعةُ هذه الأمَّة وضميرها، وأنهم القُدوة والنموذج، وأنهم الطلائع والضمائر.

كانوا -وما زالوا- يعتقدون أنهم لا يُبالِغون إذا تصوَّروا أنهم يملكون في أيديهم (عناصر الترشيد الضروريَّة) للمجتمع، وأنهم يستطيعون توصيفَ المراحل التي يمرُّ بها هذا المجتمع وتحليل قُواه الاجتماعيَّة الفاعلة، وأنَّه بإمكانهم تقديم البدائل المتاحة أمامَه[1].

لقد وصَل الأمر برجال الاجتماع في بلادنا إلى الاعتقادِ بأنَّ الخبير منهم يجبُ التبرُّك به[2].

نبَع هذا التصوُّر الذاتي الوهمي المُبالَغ فيه عند رجال الاجتماع من نظرتهم إلى المجتمع الذي لا يخرج عندهم عن مجتمعٍ من الجهَلَة والأميِّين والمرضى والجائعين والمتأخِّرين، الذين على رِجال الاجتماع تنميتهم وعِلاجهم وعصرنتهم أو تغريبهم، والإنسان العربي عندهم إنسانٌ تقليدي مُتأخِّر مُتخلِّف[3].

ما هي عناصر الترشيد الضرورية هذه التي يعتقد رجال الاجتماع أنهم يملكون مفاتيحها؟ إنها أيُّ شيء يمكن أنْ يكون إلا (الإسلام).

إنَّ من أبرز صِفات هذا الإسلام أنَّ الدِّين والعلم فيه مُتَساندان ولا يتَصادمان كالحال في بلاد الغرب.

ومع ذلك فإنَّ من مُسلَّماته الجوهريَّة (الإيمان بالغيب).

الله -تعالى- نفسه (غيب)، والملائكة والجن والشياطين والجنة والنار والبعث والحساب واليوم الآخر، كلُّ ذلك (غيب)، ولن يستقيم الإيمان إلا بالاعتقاد في هذا (الغيب).

وإذا كان علم (الغرب) قاصرًا عن إثبات هذا الغيب فإنَّ هذا ليس لعيبٍ في الدِّين، وإنما لعيبٍ وقصورٍ في العلم ذاته.

سارَ رجال الاجتماع في بلادنا وراء الغرب (حذو القذَّة بالقذَّة) ودخَلوا وراءَه (جحر الضب) الذي تحدَّث عنه الرسول -صلَّى الله عليه وسلَّم- ففصلوا بين الدِّين والعلم، ورفضوا الإيمان بالغيب؛ بحجَّة أنَّه لا يستقيم مع العلم.

الدكتور (أحمد الخشاب) هو أحد رُوَّاد علم الاجتماع في بلادنا، تتَلمَذ على يدَيْه مُعظَم مَن يشغلون الآن كراسي علم الاجتماع في جامعاتنا العربيَّة.

لقد علَّمَهم أحمد الخشاب عناصرَ الترشيد الضروريَّة، هذه التي يتحدثون عنها الآن.

علَّمَهم فصلَ الدِّين عن العلم، ورفْض الإيمان بالغيب الذي يعدُّه أيديولوجيَّة تُمثِّل إطارًا مَرجِعيًّا لتفسيرٍ تبريري تحكُمُه عقليَّة تسلُّطيَّة رجعيَّة.

يقول أحمد الخشاب في كتابه الذي خصَّصَه لهذا الترشيد: "على أنَّه يجب أنْ نُؤكِّد أنَّنا نرفُض النظرة التقليديَّة للقِيَم الروحيَّة التي تتمثَّل في مجموعة التصوُّرات الطقوسيَّة التي تَحوِيها الساحة الدينيَّة وتغذيها الأيديولوجيَّة الغيبيَّة؛ ذلك لأنَّنا نعلَمُ عن يقينٍ أنَّ الأيديولوجيَّة الغيبيَّة كانت ولا تزال تمثِّل الإطار المرجعي للتفسيرات التبريريَّة للعقليَّة التسلُّطيَّة الرجعيَّة"[4].

ويُعتَبر أحمد الخشاب من أوائل الذين حاوَلوا صِياغة نظريَّة اجتماعيَّة عربيَّة، وكان ذلك في عام 1970.

وأوَّل مُسلَّمات هذه النظريَّة هو الإطاحة بما أسماه بـ(الأطر العقائديَّة التقليديَّة) التي رأى أنها تُعبِّر عن (طبيعة غير علميَّة).

اعتبر الخشاب أنَّ هذه العقيدة من أهمِّ العثرات التي تَقِفُ في وجْه هذه النظريَّة المنشودة[5].

ولنَعُدْ قليلاً إلى مرحلة ما قبل الخشاب.

كان عام 1908 هو عامَ تأسيسِ أوَّل جامعة أهليَّة علمانيَّة في مصر أُلقِيتْ فيها أوَّل محاضرات في علم الاجتماع (القانوني).

وكانت الفترة من عام (1924 إلى عام 1936) هي فترة التحوُّل التدريجي لما يُسمُّونه بـ(علم الاجتماع العلمي).

وبفِعل تأثير الأفكار التي حملها (رفاعة الطهطاوي) والاحتكاك بالغرب في الحرب العالمية الأولى، تدفَّق إلى مصر كمٌّ من الأفكار الجديدة التي قال عنها رجال الاجتماع في بلادنا إنها: "تحدَّت الأفكار القديمة وأعدَّت لمرحلة الانقِطاع عن الماضي"؛ أي: (الإسلام).

شهد عام (1924) تأسيسَ الجامعة المصرية (جامعة القاهرة حاليًّا) وهي جامعةٌ حكوميَّة حلَّت محلَّ الجامعة الأهليَّة.

ألقيت في هذه الجامعة أوَّل محاضرات منظَّمة في عِلم الاجتماع.

وكان من المنطقيِّ مع تأسيس الجامعة الأمريكيَّة في القاهرة في مُنتَصف العشرينيَّات تقديم برنامجٍ منظَّم في علم الاجتماع، وبذلك أحكَمَ الأمريكيُّون مع العلمانيين في مصر ضبْط خُيوط تحقيق هذا الانقِطاع عن الإسلام.

أمَّا أوَّل كراسي الأستاذية في علم الاجتماع فقد شغلها بالطبع أساتذة أجانب بارزون وعلى رأسهم إيفانز برتشارد (1932-934)، وآرثر موريس هوكارت (1934-1938)، أمَّا في جامعة الإسكندرية فقد شغل كراسي الأستاذية في علم الاجتماع أساتذة غربيُّون بارزون على رأسهم (راد كليف براون) و(ردنك أورلخ).

لقد شَهِدتْ هذه الفترة انتشارَ الأفكار (الإلحاديَّة) للفلسفة الوضعيَّة لـ(أوجست كنت)، وللمدرسة الفرنسية في علم الاجتماع، وأفكار المدرسة الأنتربولوجية البريطانية، والأفكار التحرُّرية السائدة في الغرب[6].

وعن موقف هؤلاء الأساتذة الأجانب من الدِّين يكفي هنا أنْ نستَشهِد بمقولةٍ مهمَّة قالها قطب الأنتربولوجيا الشهير (إيفانز برتشارد) الذي كان أوَّل مَن شغَل كرسي الأستاذية في جامعة القاهرة، والذي أشَرْنا إليه في الفقرة السابقة، يقول برتشارد في عام 1959: "إنَّ الأنتربولوجيين بصفةٍ عامَّة ذووا اتِّجاهات سلبيَّة عدائيَّة كئيبة ضد الدِّين".

إنَّ العلماء الأوائل الذين أثَّروا في الفكر الأنتربولوجي لأكثر من قرنٍ كامل يُوقِنون تمامًا بعدَم مصداقيَّة الدِّين المنزَّل، وأنَّ كلَّ العقائد نسبيَّة.

ورأى عُلَماء القرن التاسع عشر أنَّ الدين غير حقيقي، وعديم الفائدة، ويجب استئصاله والتقليل من آثاره وإنقاص هيبته بالتقدُّم العلمي، وحينما تحقَّقوا من الوجود العام للدِّين عبر التاريخ الإنساني حاوَلوا أنْ يشرَحُوا ما اعتبروه وهمًا بردِّه إلى عوامل نفسيَّة.

إنَّ معظم البارزين من علماء الأنتربولوجيا لم يكن لهم اعتقادٌ دِيني؛ لأنَّ العقائد كلها عندهم مُضلِّلة[7].

نما علمُ الاجتماع في بلادنا بصورةٍ سريعةٍ لتحقيق هذا الانقطاع عن الدِّين وعن الإسلام.

عرَّف علم الاجتماع موضوعاته وأهدافه وإمكانيَّاته.

وإذا قِيسَت الفترة الزمنيَّة التي رسخ فيها هذا العلم في الجامعات العربيَّة فإنَّ نموَّه ولو مقيسًا فقط بعدَدِ خرِّيجيه لَيُشكِّلُ تقدُّمًا ملحوظًا لم يصل إليه نظيره في الجامعات الغربية والشرقية قي الفترة نفسها[8].

شهد علم الاجتماع في تطوُّره الأكاديمي التنظيمي مراحلَ توسُّع ضخمة تركَّز أكثرها خلال السبعينيَّات؛ حيث أُنشِئ عددٌ كبير من أقسام الاجتماع في الجامعات العربيَّة سواء في مصر على امتِداد رُقعتها من القاهرة حتى أسوان، أو على امتداد الوطن العربي من الكويت وبغداد والدوحة والإمارات شرقًا حتى فاس والرباط غربًا، مرورًا بكلِّ الجامعات الكبيرة والصغيرة حتى تلك الجامعات التي يُطلِق عليها (محمود الجوهري) - أستاذ الاجتماع بجامعة القاهرة - (الجامعات الدينية) كجامعة الأزهر وجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية[9].

وهنا تكمن الكارثة الكُبرَى وهي غزْو علم الاجتماع لما يُسمُّونه بالجامعات الدينيَّة.

وسنستشهد هنا بنموذجٍ واحد لبيان ضَخامة حجم هذه الكارثة.

هذا "زيدان عبدالباقي" أستاذ علم الاجتماع بكلية البنات بجامعة الأزهر يقول لطالباته: "هذا، وتُواجِه البلاد الإسلاميَّة مشكلة مختلفة تمامًا تَدُور حول جمود التقاليد الدينيَّة، الأمر الذي يتعارَض مع التغييرات التكنولوجيَّة.

ذلك أنَّ الإسلام قد فرَض كثيرًا من الأوامر والنواهي على مُعتَنقِيه، الأمر الذي يتعارض مع أيِّ تغيير يستهدفه التقدُّم العلمي والتكنولوجي، وإذا كان من المتَّفق عليه أنَّ العقيدة الدينيَّة تتطابق مع كلِّ نموذج معقول من الفكر، فإنَّ غاية واحدة لطيف أنوار العقيدة الدينيَّة تجعل ***** بمثابة العنصر السائد للدِّين"[10].

لم يكنْ باستطاعة علم الاجتماع في بلادنا أنْ ينمو دون أنْ يقدم مَزاعم عريضة عن فائدته المجتمعيَّة العامَّة وأهليَّة مُمارِسيه واحترافهم، فلم يتردَّد مُؤسِّسوه ودارسوه أنْ يُعلِنوا منذ البداية أنَّ علمهم يُعَدُّ (وصفة طبيَّة ناجحة) لعلاج جميع أمراض مجتمعهم[11].

ولهذا فإنَّه في خلال نِصف القرن الأخير دخَل علم الاجتماع ضِمن مناهج الدراسات الجامعيَّة في أقسام وشُعَب مُتخصِّصة يصل عددها إلى حوالي ثلاثين شعبة، وبعد أنْ كان يدرس في البداية على أيدي هواة من المتخصِّصين في فُروعٍ معرفيَّة أخرى سرعان ما أصبح تدريسُه على أيدي مُتخصِّصين في علم الاجتماع ذاته، يصلُ عددهم بمعيار الحصول على الدكتوراه إلى حوالي المائتين.

ويصل عدد الطلاب المتخصِّصين في علم الاجتماع في الجامعات والكليات العربية حتى الآن إلى حوالي "عشرة آلاف" طالب يتخرَّج منهم سنويًّا حوالي "ألفي" طالب.

كما يوجد في الوطن العربي ما لا يقلُّ عن "خمسة عشر" مركزًا بحثيًّا في علم الاجتماع أو بعض فروعه.

ويظهَر في المتوسط حوالي "مائة" كتاب سنويًّا يُؤلِّفها أساتذة الاجتماع العرب، بالإضافة إلى "مئات" من الأوراق المقالات والتقارير البحثيَّة والاستشاريَّة، علاوةً على "عشر" مجلات أكاديميَّة مُتخصِّصة في علم الاجتماع[12].

وبعد سبعة وسبعين عامًا من هذا النموِّ والازدهار والتضخُّم الكمي والمؤسَّسي في علم الاجتماع (المنقطع عن الإسلام) اجتَمَع رجال الاجتماع العرب في تونس وبالتحديد في يناير 1985؛ لمناقشة محصلة هذا الانقطاع، وهل أثمر التخريب المتعمد للنسيج الاجتماعي في بلادنا، وذلك في ندوة بعنوان (نحو علم اجتماع عربي).

كان أهم نتائج هذه الندوة الاعتراف الصريح بالفشل الذريع الذي تجسَّد في إجاباتهم على سؤالٍ طرَحُوه بأنفسهم هو: (هل يستطيع الوطن العربي أنْ يعيش ويزدَهِر بدون علماء اجتماع؟)، اعترف رجال الاجتماع ويعتصرهم الألم الشديد اعترافًا جليًّا بأنَّ بلادنا ليست في حاجةٍ إليهم، وأنها ليست في حاجةٍ إليهم الآن كما لم تكن في حاجة إليهم في الماضي.

وهذا هو نصُّ اعترافات سعد الدين إبراهيم الأستاذ بالجامعة الأمريكيَّة بالقاهرة يقول فيها مجيبًا على السؤال السابق: "راوَدَنِي هذا السؤال منذ سنوات وأنا أُفكِّر في كتابة هذه الدراسة التي أُشارِك بها زُمَلائي المشتغِلين بعلم الاجتماع في الوطن العربي.
وكنت قد قرَّرت أنْ تكون مساهمتي المتواضعة في هذه الندوة جولة صريحة في أعماق الضمير السوسيولوجي، إنْ كان ثمة ضمير سوسيولوجي.

وحتى لا أطيلَ في المقدمات فإنَّ إجابتي الشخصية عن السؤال بكلِّ الصدق المؤلم هي أنَّه (نعم).

نعم؛ يستطيع مجتمعنا أنْ يعيش ويتقدَّم بلا علماء الاجتماع العرب، ولكي أُخفِّف على نفسي ألم هذه الإجابة حاوَلتُ توجيهَ هذا السؤال نفسِه بالنسبة إلى فئاتٍ أخرى في المجتمع، وخلصت إلى أنَّ هناك فئات عديدةً لا يستطيع المجتمع أنْ يعيش بدونها أهمها: الفلاحون والعمال ورجال الإدارة والجيش، وأنَّ هناك فئات أخرى لا يستطيع المجتمع أنْ يتقدَّم بدونها أهمها: المهندسون والأطباء والعلماء وخبراء التكنولوجيا والاقتصاد... أمَّا علماء الاجتماع والأنتروبولوجيا والنفس والسياسة والإعلام والآثار وفئات أخرى عديدة فيُمكِن للمجتمع أنْ يعيش ويتقدَّم بغيرهم.

وبشكلٍ آخَر لو وضَعْنا السؤال: ماذا يحدُث للوطن العربي إذا اختفى كلُّ علماء الاجتماع فجأة؟

والإجابة هي: لا شيء سيحدث للمجتمع سلبًا أو إيجابًا، وينطبق ذلك على فئاتٍ مهنيَّة أخرى كما ينطبق على مجتمعات أخرى عديدة.

وبالمقابل هناك مجتمعات تقدَّمت في العصر الحديث دون أنْ يوجد فيها فئة مهنيَّة تُسمَّى علماء الاجتماع؛ مثل اليابان إلى ثلاثينيَّات هذا القرن، والصين إلى عُقودٍ متأخِّرة من هذا القَرْنِ.

كذلك ليس هناك ما يثبت قطعيًّا أنَّ بريطانيا وألمانيا وفرنسا والولايات المتحدة ما كان لها أنْ تتقدَّم خِلال القرنين الأخيرين لولا وجودُ علماء الاجتماع فيها.

وما أريد أنْ أخلص إليه هو أنَّ علماء الاجتماع كفئةٍ مهنيَّة مُتخصِّصة ليست ضروريَّة في المجتمع الحديث، وبالطبع لم تكن ضروريَّة في المجتمع التقليدي"[13] أ.هـ.

لم يكن هذا الاعتراف الصريح والمؤلم هو الاعتراف الوحيد لمحصِّلة (الثورة على الدِّين والانقطاع عن الإسلام)، إنما كانت هناك لرجال الاجتماع اعترافاتٌ أخرى لا تقلُّ شدَّةً في إيلامها وقسوتها عن هذا الاعتراف.

أولاً: الاعتراف بأنَّ علم الاجتماع يُوجَّه إلى مستهلكين عاجِزين عن رَفْضِه، وأنَّه نما وترَعرَع على هامش المجتمعات العربيَّة دون أنْ يحسَّ به سوى أتْباعه ومُرِيديه وأصحاب المصالح الحيويَّة فيه، أمَّا رجُل الشارع فلا يَدرِي عنه شيئًا.

يقول محمد عزت حجازي أستاذ الاجتماع بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية بالقاهرة: "لن نقفَ طويلاً عند الحقيقة المحزنة التي تتلخَّص في أنَّ جانبًا -يبدو لنا كبيرًا- من البحث والدراسة والكتابة في علم الاجتماع يُوجَّه إلى مستهلكين عاجزين عن رفضه، هم طلبة الجامعات والمعاهد العُليا"[14].

ويُضِيف (سالم ساري) أستاذ الاجتماع بجامعة الإمارات العربيَّة المتحدة: "ولكنَّ المتتبِّع لتاريخ علم الاجتماع في الوطن العربي يُلاحِظ بدائل شتَّى.

إنَّه نما على هامش المجتمعات العربية.

نما وترعرع نصفَ قرن من الزمان أو يزيد دون أنْ يرعاه أو يحسَّ به سوى أتْباعه ومُرِيديه وذوي المصالح الحيويَّة فيه"[15] أ.هـ.

ويقول (ساري) في موقع آخر: "وأودُّ أن أضيف تحدِّيًا يتمثَّل في الهوَّة التي تفصل بين علماء الاجتماع وأفراد المجتمع العاديين وكذلك القضايا الاجتماعية المعاصرة"[16].

ثانيًا: الاعتراف بأنَّ علم الاجتماع نشَأ وتطوَّر وما زال هزيلاً، غير قادر على توفير نظريَّة خصبة ومناهج تَقُود إلى نتائج صلبة الأساس، وأنَّه كان -وما زال- مغتربًا عن الواقع الاجتماعي، وأنَّ المتخصِّصين لم يُسهِموا إلا في صِياغة مُشكلات المجتمع العربي وتفسيرها وليس في اقتراح الحلول لها.

يَصُوغ محمد عزت حجازي هذا الاعتراف بقوله: "إنَّ نظرة تحليليَّة نقديَّة لواقع العلم تنتهي بنا إلى أنَّه يمرُّ بأزمةٍ؛ فقد نشَأ وتطوَّر وما زال هزيلاً لا يُوفِّر مقولات نظريَّة خصبة قادرة على الإيحاء بأفكارٍ تُعِين على النَّماء والتجدُّد ومناهج يمكن أنْ تقود إلى نتائج صلبة الأساس نافذة الدلالة، وكان مُنعَزلاً أو مُغترِبًا عن الواقع الاجتماعي الحي"[17].

أمَّا سعد الدين إبراهيم فقد عبَّرَ عن ذلك في موضعين قال في أولهما: "وبالنسبة للوطن العربي فمنذ الحرب العالميَّة الأولى واستقلال البلاد العربيَّة لم تظهر مساهمة علمية نظرية يعتدُّ بها الوطن العربي".

وقال في الموضع الآخَر: "إنَّ المتخصِّصين لم يساهموا بالقدر الكافي أو بالدرجة المطلوبة في صِياغة مشكلات المجتمع العربي المعاصر وتفسيرها أو في اقتراح الحلول المطلوبة لهذه المشكلات"[18].

ثالثًا: الاعتراف بأنَّ المعرفة التي أنتَجَها رجال الاجتماع معرفة هزيلة، وأنَّ وُجودَهم هامشي، وتأثيرهم على المجتمع محدود، وأنهم غير ذوي مِصداقيَّة أو فاعليَّة، وأنَّ طالب المعرفة عن الواقع الاجتماعي يمكن أنْ يجدَها في كتابات غير كتابات علم الاجتماع.

يشرَحُ سعد الدين إبراهيم قضيَّة نجاح علم الاجتماع في إثبات وُجوده على مستوى الجامعات والمجتمع فيقول: "إلاَّ أنَّ هزال ما أنتَجوه من معرفةٍ قد جعَل هذا الوجود هامشيًّا، وجعل فاعليَّتهم في التأثير على المجتمع محدودة إنْ لم تكن معدومة.

وطالب المعرفة عن الواقع الاجتماعي العربي المعاصر قد لا يجدها إلا في الكتابات الأدبيَّة والصحفيَّة أو في أعمال بعض المشتغلين بالتاريخ والجغرافيا أو الفلسفة والدِّين، وقد لا تكون هذه المعرفة بالضرورة دقيقة أو عميقة، ولكنَّها على الأقل متوفرة ومفهومة"[19].

ويتحدَّث سعد الدين إبراهيم أيضًا عن هامشيَّة علماء الاجتماع فيقول: "ليس صدفةً أنَّ هامشية علماء الاجتماع تُواكِب هامشيَّة الفرد والمجتمع المدني في أقطار العالم العربي"[20].

أمَّا عن عدم مصداقيَّة وفاعليَّة رجال الاجتماع فيقول عبدالوهاب بوحديبة في ندوةٍ أُقِيمت في (أبو ظبي) في أبريل عام 1983 تحمل نفس العنوان: (نحو علم اجتماع عربي): "حتى الآن في البلاد العربية ليس لنا مصداقيَّة، وبما أنه ليس لنا مصداقيَّة فليس لنا فاعليَّة.

أمَّا قضيَّة المصداقيَّة يمكن أن نقول: إنَّنا نتقدم إلى الأوساط العلمية (مؤتمرات وندوات) ونتكلَّم، أمَّا الأيدي فهي فارغة، أو اليد اليمنى لا تدري ما في اليد اليسرى"[21] أ.هـ.

رابعًا: الاعتراف بأنَّ المتخصِّص في علم الاجتماع نادرًا ما يأتي إلى دِراسَتِه بمحض رغبته وإرادته، وأنَّ المناهج وأساليب التدريس وهزال الكم من المعرفة في علم الاجتماع لا يُساعد على تنشئة المتخصِّص فيه تنشئةً سليمة.

يقول سعد الدين إبراهيم: "يندر أنْ يأتي التخصُّص في هذا الميدان طالبٌ بمحْض رغبته وإرادته، وإنما غالبًا ما يأتي الطلاب إلى علم الاجتماع إمَّا بمحض الصدفة أو لعدَم وُجود بديل أفضل مُتاح أمامهم.

والقلَّة التي تأتي بمحض إرادتها غالبًا ما يختلط في عقلها مفهومُ علم الاجتماع بمفهوم الخِدمة الاجتماعيَّة أو النزعات الخيريَّة والإصلاحيَّة والإنسانيَّة، ولا تُساعِد المناهج وأساليب التدريس وهزال الكم من المعرفة السوسيولوجية في الجامعات العربيَّة على تنشئة سويَّة للغالبيَّة العُظمى من الطلاب الذين يقضون أربع سنوات في دراسة علم الاجتماع، ويتخرَّجون بمفاهيم غير ناضجة عن العلم ومَناهجه ومَفاهيمه ونظريَّاته"[22] أ.هـ.

أمَّا عزت حجازي فيُشِير إلى نفس هذه النقطة قائلاً: "إنَّ التعليم في مرحلة الليسانس والبكالوريوس والدراسات العُليا لا يهتمُّ بنوعيَّة الطلبة ولا ما يُقدَّم لهم من برامج وما يُوفَّر لهم من فُرَصِ الإعداد والتنشئة؛ وهذا بسبب التركيز على التلقين من (كتاب مدرسي) ونتيجة للعمل من موقف التعالي على الواقع أو الانفصال عنه على الأقل ينهي الدارسون تعليمَهم وهم ناقصو الإعداد، غير فاهمين للواقع وعاجزين عن التعامُل معه"[23].

خامسًا: الاعتراف بأنَّ المؤلفات العربيَّة في علم الاجتماع سيِّئة ومُتخلِّفة وسطحيَّة ومترجمة ومُستعارة من واقعٍ آخَر ومن فِكر مُؤلِّفين آخَرين تنمُّ عن اضطرابٍ وخلْط شديدَيْن، بالإضافة إلى أنها سريعةُ الإنتاج ومُؤلَّفة أساسًا لتحقيق الكسب المادي السريع.

يتحدَّث أصحاب المؤلَّفات العربيَّة في علم الاجتماع عن مؤلَّفاتهم، ويَصِفُونها وصفًا دقيقًا.

هذا "محمد الجوهري" يقول: "ولم تلتفتْ -أي: الدولة- إلى أنَّ الأستاذ الجامعي صاحب الخبرة الميدانيَّة الناقصة في فرع لعلم الاجتماع سيكون بالضرورة والقطع مُؤلِّفًا لكتب سيِّئة ومتخلِّفة ومُستعارة من واقِع آخَرين ومن فكر مُؤلِّفين آخَرين"[24].

ونقلاً عن "إياد القزاز" يقول "محمد الجوهري" عن كتابات رجال الاجتماع: "إنَّ تلك الكتابات.. علاوة على طابعها النظري فإنها ليست منهجيَّة دقيقة في طريقة العرض، بل إنَّ بعضها ينمُّ عن اضطرابٍ وخلط شديدَيْن، وهي تُقدِّم للقارئ معالجة سطحيَّة للموضوع.

ويلاحظ فضلاً عن هذا أنَّه على الرغم من أنَّ تلك الكتابات ليست ترجمات مُباشِرة للكتب الدراسيَّة الإنجليزيَّة، إلا أنَّ التأمُّل الدقيق لها يكشف لنا أنَّ الجانب الأعظم منها عبارةٌ عن ترجمات غير مباشرة مع إدخال بعض التعديلات عليها والملاءمة مع ظروف القارئ والإيجاز هنا وهناك نقلاً عن بعض الكتب الدراسيَّة الإنجليزيَّة، خاصَّة الكتب المعتمدة منها"[25].

هذا، ويُدلِي عبدالباسط عبدالمعطي أستاذ علم الاجتماع بجامعتي القاهرة وقطر، وأحد قادة حزب التجمُّع الشيوعي المصري، وأحد الماركسيين البارزين في علم الاجتماع، ورئيس الجمعية العربية لعلم الاجتماع، يُدلِي بدلوه في القضيَّة معترفًا: "إنَّ معظمنا يُعِيد إنتاج الفكر الغربي؛ استسهالاً للاستهلاك، وهذه مسألةٌ حجمت العمل المنتج على مستوى أداء علم الاجتماع.

هناك تشابُهٌ بين إنتاج (السفن آب) أو ترجمة الأفلام الأجنبيَّة والاقتباس منها وبين تصنيع (الجينز)، وبين ترجمة كتاب مدرسي مأخوذ عن المكتبة الأمريكيَّة أو الإنجليزيَّة.

التشابُه يأتي من قِيَم الاستسهال وبذْل الجهد ومُتطلَّبات السوق -سوق التدريس والتوزيع- الذي يلهَثُ البعض خلفَه كسبًا للكسب المادي في وقتٍ قصير نسبيًّا.

الجماهير التي يتعامَل معها المشتغِلون بعلم الاجتماع هي جمهور الطلاب والباحثين الشباب والمبحوثين.

بالنسبة لطلاب مراحل الليسانس هم المستهلك للمؤلَّفات المدرسيَّة التي ينتجها المشتغِلون بالعلم، وهم بالتالي مصدر دخل أساسي للقائمين بالتدريس في الجامعات العربيَّة.

لقد بيَّنت الدراسات التي اهتمَّت بتحليل ممارسات التدريس وتقويمها في الجامعات العربيَّة أنَّ من بينها زيادة الاتجاه إلى الأعمال المترجمة التي هي في جَوْهرها إعادة إنتاجٍ لأعمال آخَرين، وأيًّا كان جهد الترجمة فهو أقلُّ عناءً من التأليف.

كما يُلاحظ أنَّ المؤلَّف الواحد يُكتَب في معظم -إنْ لم يكن جميع- أبعاد التخصُّص وفُروعه.

معنى هذا بالتأكيد -خاصَّة إذا ما وضعنا في الاعتبار التسلسُل الزمني للأعمال المنشورة- تأليف سريع يستجيب لمتطلَّبات السوق، سوق التدريس وملاحقته، وتبدو الغاية هنا الكم الذي يلاحق الطلب والعائد من كلِّ طلب، وإذا أضَفْنا إلى هذا أنَّ المؤلف هو صاحب القَرار في إلزام الطلاب بشِراء مؤلَّفه، فهو الذي يُقرِّر وضع الامتحان؛ وأنَّه يترتَّب على هذا فرض رسائل الدكتوراه المنشورة على طلاب الفرقة الأولى، وفرض مؤلَّفات في بعض الفرق لا علاقة لها بمواصفات المقرَّر ومُقرَّراته وتغيير الكتاب المقرَّر كلَّ عام أكاديمي..."[26].

أمَّا سعد الدين إبراهيم فيقول في قضيَّة المؤلفات العربيَّة في علم الاجتماع: "... نادرًا ما يجدُ طالب المعرفة إنتاجًا سوسيولوجيًا عربيًّا يطفئ ظمأه لفهم الواقع العربي المعاصر بصورةٍ منضبطة أو موضوعيَّة أو شاملة أو حتى جزئيَّة، فأكثر من ثمانين بالمائة من إنتاج أساتذة الاجتماع يَكاد ينصرف كُليَّةً إلى الكتب المدرسيَّة التي تُحاوِل أنْ تعلِّم الطلاب مَبادئ العلم وفُروعه وتاريخه ونظرياته، ورغم أهميَّة هذا الجانب من إنتاج أساتذة الاجتماع العرب للعمليَّة التعليميَّة والتربويَّة إلا أنَّ الشاهد هو أنَّ معظم هذه الكتب المدرسية تتَّسم بما يأتي:
1- تضخُّم الوعود بقُدرات علم الاجتماع على فهْم الواقع والتعامُل الفعَّال مع المشكلات الاجتماعيَّة.

2- الاعتماد شِبه الكامل على مَصادر المعرفة الأجنبيَّة والترجمة المباشرة أو من خِلال آخَرين.

3- التعقيد اللغوي والمعنوي في طرْح مفاهيم ومقولات علم الاجتماع؛ إمَّا للإيحاء بجهبذة فكريَّة، أو في الأغلب لعدم الفهم والاستيعاب لما يتمُّ نقله من مصادر أجنبيَّة.

4- ندرة ما يَرِدُ في هذه الكتب عن الواقع العربي (قطريًّا أو قوميًّا).

5- سطحيَّة وتجزيئيَّة القليل النادر الذي يرد في هذه الكتب عن الواقع العربي، وعدم استِناده إلى قاعدة صلبة من المعلومات التقريريَّة أو الأمبيريقيَّة"[27] أ.هـ.

سادسًا: الاعتراف بأنَّ مجتمع المشتغِلين بعلم الاجتماع في بلادنا لا يُشكِّل مجتمعًا مهنيًّا حقيقيًّا، وإنما هم جماعات مصالح وشللٌ تتصارَع مع بعضها ويُسَيطر أحدها على الآخَر، وأنَّ تنشئتهم المعيبة أدَّتْ بهم إلى اللامبالاة والسلبيَّة، وعوَّدتهم على الوصوليَّة والانتهازيَّة.

يقول محمد عزت حجازي: "أمَّا بالنسبة للمُشتَغِلين بعلم الاجتماع في الوطن العربي؛ فمن الصعب أنْ نقبَل فكرة أنهم يكونون مجتمعًا مهنيًّا، فهم في الحقيقة ينتظمون في جماعات مصالح متغيِّرة أو شلل.

ويزيد الوضع سوءًا التنشئة المهنيَّة المعيبة المشوَّهة التي تكفُّ في الإنسان إمكاناته وقُدراته الحقيقيَّة واستعداده للمُبادرة والانتماء، وتُربِّي فيه اللامبالاة والسلبيَّة، وتُعوِّده على الوصوليَّة والانتهازيَّة، وتركز أهم القِيَم والتوجُّهات، وتدور معظم أنماط السلوك والتصرُّفات حول الذات والأسرة والشلَّة، وفي نُظُمٍ تُسَيطِر عليها وتستغلُّها عناصر طبقيَّة طفيليَّة، وتُشجِّع فيها الكسب المادي بأيِّ ثمن وشكل والاستهلاك في سفه.

ولهذا لا تعرف حركة الفكر الاجتماعي في المنطقة العربيَّة الموضوعيَّة والحوار التي تساعد في إنضاج الأفكار وتصحيح الأخطاء وكف تأثير الطرف المتحيِّز"[28] أ.هـ.

وهذا سعد الدين إبراهيم يتحدَّث عمَّا أسماه الحرب الأهليَّة بين قبائل وعشائر وبُطون رجال عالم الاجتماع في بلادنا فيقول: "وفي المرحلة الأولى التي حاوَل فيها علم الاجتماع أنْ يشقَّ مكانًا له في الجامعات (1940-1960 تقريبًا) كان جزء كبير من طاقة المشتَغِلين به ينصرف إلى محاورات لإثبات علميَّته وموضوعيَّته وأهميَّته للمجتمع.

وقد تجاوَز المشتغِلون العرب بعلم الاجتماع هذه المعارك الخارجيَّة مع الذين عارَضوا أو شكَّكوا في أحقيَّة هذا العلم الجديد بمكانٍ تحت الشمس الجامعيَّة.

لقد انتصروا في تلك المعارك إمَّا لأنهم نجحوا في إقناع الآخَرين، أو لأنَّ الآخَرين سَئِمُوا استمرارَ تلك المعارك.

ولكنَّ أساتذة الاجتماع سرعان ما دخلوا مع بعضهم البعض في معارك أهليَّة في المرحلة الثانية (1960-1985)، إمَّا بالأصالة عن أنفسهم، أو نيابةً عن أطراف سوسيولوجيَّة متعاركة مع مجتمعاتٍ أخرى، وساد تلك المعركة ما يمكن تسميتُه بمرض البداوة السوسيولوجيَّة.

فقد قسم المشتغِلون العرب بعلم الاجتماع أنفسَهم إلى قبائل اتَّخذت أسماء ومسمَّيات مختلفة (فهناك النظريون والتطبيقيون، وهناك الماركسيون والوظيفيون، وهناك أتباع المدرسة الإنجليزية أو الأمريكية أو السوفياتية... إلخ) وكلُّ قبيلة سوسيولوجيَّة جرى تقسيمها إلى عشائر (وظيفيون، ووظيفيون جدد، وماركسيون جدد.. الخ) وجرى تقسيم كلٍّ عشيرة إلى بطون وحتى أفخاذ.

لقد أصبحت البَداوة أفيون علماء الاجتماع العرب"[29] أ.هـ.

ويتحدَّث عبدالباسط عبدالمعطي عن مجتمع رجال الاجتماع من الداخل من زاويةٍ أخرى فيقول: "هناك جماعات مصلحة وجماعات ضغط على مستوى مؤسسة علم الاجتماع، هي جماعاتٌ تَكاد تقوم بالممارسات والضغوط التي تأتيها الطبقات المسيطِرة داخل البِنَى الاجتماعيَّة، لكنها تأتيها على مستوى العمل الرسمي.

هناك باحثون جمعوا في أيديهم خُيوطًا كثيرة مؤثِّرة في مَسِيرة العلم: التدريس، الإشراف على الرسائل الجامعية، الترقيات، السلطات الإدارية والتنفيذية، اللِّجان الحكومية، العمل في البحوث الأجنبيَّة... إلخ؛ وبالتالي ركَّزوا كثيرًا على مزيدٍ من الكسب أعلى من غيرهم، فأسهموا في خَلَلِ التوزيع على مستوى المجتمع وعلى مستوى مؤسسة العلم"[30] أ.هـ.

هذا هو واقِعُ علم الاجتماع وواقِعُ المشتغِلين به، بعدَ ما يقرُب من ثلاث وثمانين سنة من دخوله إلى بلادنا وإعلانه انقطاعَه عن الإسلام.

علمٌ هامشي هزيلٌ لا يَرعاه ولا يحسُّ به إلا أتْباعه ومريدوه وأصحاب المصالح الحيويَّة فيه، لم يُسهِم في صياغة مشكلةٍ واحدة ولا تفسيرها، ولا في اقتراح حلٍّ لها.

طالب المعرفة عن واقع المجتمع يجدُها في أيِّ كتاباتٍ أخرى إلا كتابات علم الاجتماع التي تتميَّز بالتخلُّف والسُّوء والخلط والاضطراب والنقل عن مجتمعاتٍ أخرى.

رجالٌ بلا مصداقيَّة وبلا فاعليَّة، وما هم إلا جماعات مصالح وشِلَل متصارعة متحاربة.

نحن ما تجنَّينا عليهم، وإنما هذا هو نصُّ عباراتهم، كتَبُوها بأيديهم وصاغُوها بأنفسهم، وهم الذين قالوا واعترفوا (بأنَّ بلادنا ليست في حاجةٍ إلى علماء اجتماع).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] سعد الدين إبراهيم، علم الاجتماع وقضايا الإنسان العربي، (نحو علم اجتماع عربي) الكتاب السابع من سلسلة كتب المستقبل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1986 ص209، انظر أيضًا: سعد الدين إبراهيم، تأمل الآفاق المستقبلية لعلم الاجتماع في الوطن العربي (نحو علم اجتماع عربي)، ص 356.
[2] عبدالوهاب بوحديبة، ندوة: (نحو علم اجتماع عربي) المنعقدة في (أبو ظبي) من 24-28 أبريل 1983، منشورة في الكتاب السابق (نحو علم اجتماع عربي)، ص 388.
[3] محمد شقرون، أزمة علم الاجتماع أم أزمة المجتمع، (نحو علم اجتماع عربي)، ص 77-78.
[4] أحمد الخشاب، الاجتماع التربوي والإرشاد الاجتماعي، القاهرة، ص 495-496.
[5] عبدلباسط عبدالمعطي، اتجاهات نظرية في علم الاجتماع، عالم المعرفة، الكويت 1981، ص 283-284.
[6] EZZAT HEGAZY, Contemporary Sociology in Egypt, Raji Maham and Don Martindale, Handbook of Contemporary Developments in World Sociology, London, 1975 p 380.
[7] John Saliba, Religion and Anthropology, Anthropologica, 18, 1976 p 179.
[8] سالم ساري، الاجتماعيون العرب ودراسة القضايا المجتمعية العربية، (نحو علم اجتماع عربي)، ص 185.
[9] محمد الجوهري، الكتاب السنوي لعلم الاجتماع، العدد الأول، دار المعارف - القاهرة، ص 11.
[10] زيدان عبدالباقي، ركائز علم الاجتماع، دار المعارف، القاهرة 1975، ص256-446.
[11] سلام ساري، المرجع السابق، ص 185.
[12] سعد الدين إبراهيم، تأمل الآفاق المستقبلية، المرجع السابق، ص 345.
[13] المرجع السابق، ص 343-344.
[14] محمد عزت حجازي، الأزمة الراهنة لعلم الاجتماع في الوطن العربي، (نحو علم اجتماع عربي)، ص 30.
[15] سالم ساري، المرجع السابق، ص 185-186.
[16] سالم ساري (ندوة نحو علم اجتماع عربي - أبو ظبي) المنشورة في (نحو علم اجتماع عربي)، ص 388.
[17] محمد عزت حجازي، المرجع السابق، ص 13.
[18] سعد الدين إبراهيم، علم الاجتماع وقضايا الإنسان العربي (نحو علم اجتماع عربي)، ص 349.
[19] سعد الدين إبراهيم، تأمل الآفاق المستقبلية (نحو علم اجتماع عربي)، ص 349.
[20] المرجع السابق، ص 356.
[21] عبدالوهاب بوحديبة (نحو علم اجتماع عربي)، ص 347، 348.
[22] سعد الدين إبراهيم، تأمل الآفاق المستقبلية، (نحو علم اجتماع عربي)، ص 347-348.
[23] محمد عزت حجازي، المرجع السابق، ص 35.
[24] محمد الجوهري، الكتاب السنوي لعلم الاجتماع، العدد الأول، ص 11.
[25] محمد الجوهري، المرجع السابق، العدد الخامس أكتوبر 1983.
[26] عبدالباسط عبدالمعطي، في استشراف مستقبل علم الاجتماع (نحو علم اجتماع عربي)، ص 370-371.
[27] سعد الدين إبراهيم، تأمل الآفاق المستقبلية، ص 346.
[28] محمد عزت حجازي، المرجع السابق، ص 36.
[29] سعد الدين إبراهيم، تأمل الآفاق المستقبلية، ص 346-347.
[30] عبدالباسط عبدالمعطي، في استشراف... ص 371.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية

الكلمات الدلالية (Tags)
الاجتماع, اعترافات, عملاء


يتصفح الموضوع حالياً : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
أدوات الموضوع

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


المواضيع المتشابهه للموضوع اعترافات علماء الاجتماع
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
النظرية والمنهج في علم الاجتماع Eng.Jordan كتب ومراجع إلكترونية 1 10-03-2016 09:49 PM
الشائعة من منظور علم الاجتماع السياسي Eng.Jordan مقالات وتحليلات مختارة 0 01-04-2013 03:54 PM
اعترافات فوق القمر عمر سيف الدين نثار الحرف 1 06-25-2012 06:43 PM
النظريات الحديثة في علم الاجتماع التربوي Eng.Jordan بحوث و مراجع و دراسات تربوية واجتماعية 0 02-18-2012 08:20 PM
علم الاجتماع الرياضي شذى الكتب بحوث و مراجع و دراسات تربوية واجتماعية 0 01-29-2012 01:05 PM

   
|
 
 

  sitemap 

 


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 03:40 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.12 by vBS
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والمشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59