#1  
قديم 11-14-2016, 03:09 PM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,392
افتراضي إنشاء حضارة جديدة سياسة الموجة الثالثة .. الفين وهايدي توفلر ج1


إنشاء حضارة جديدة سياسة الموجة الثالثة / الفين وهيدي توفلر ترجمة: حافظ الجمالي ج1




الفين وهيدي توفلر
ترجمة: حافظ الجمالي


إنشاء حضارة جديدة
سياسة الموجة الثالثة




* دراســــــــة *






عنوان الكتاب في الأصل:


Créer une nouvelle civilisation
La politique de la troisième vague
Alvin et / Heidi/ Tofflér
ED. Fayard

Paris 1995






تمهيد بقلم NEWT GINGRICT


ترجم عن اللغة الإنجليزية (انجليزية الولايات المتحدة)
بأقلام دوزات P. - E - Dauzat، وم. دوتش M. Deutsch
دآ. - شاربانييه A. Charpentier و ج شيشبو ريتش J.Chicheportich .


من منشورات دار فايارFAYARD
















مقدمة
تجابه الولايات المتحدة مجموعة من الأزمات، لا مثيل لها، منذ أصولها، فالنظام العائلي في أزمة، وكذلك هي الحال في النظام الصحي، وأنظمتها المدئية، ومنظومة قيمها، و فوق ذلك كله أزمة نظامها السياسي، الذي فقد عملياً ثقة الشعب. تُرى ما الذي جعل كلّ هذه الأزمات- وغيرها كثير- تحدُث في نفس اللحظة تقريباً من تاريخنا؟! وهل يمكن أن تكون هذه علامة على تفسخ بلادنا؟! و هل نحن "في نهاية التاريخ"؟!
أما التاريخ الذي ترويه هذه الصفحات، فهو مختلف تماماً. ذلك أنّ أزمات بلادنا لاتنشأ عن إخفاقها، بل عن نجاحاتها السابقة- وبدلاً من القول: إننا في نهاية التاريخ، نقول: إننا في نهاية ماقبل التاريخ.
ومنذ عام 1970 ، وعندما أدخلنا في كتابنا "صدمة المستقبل"، "مفهوم الأزمة العامة للنظام الصناعي". كانت مصانع ذلك العهد، قد سرَّحت مجموعات كبيرة من العمال اليدويين، وكنا قد توقعنا ذلك في كتابنا ذاك. وقل مثل ذلك في بنيتنا العائلية، إذ أنها تهشمت، وأدوات إعلامنا تجزأت، كما أن صور حياتنا وقيمنا قد تنوعت. لقد تغيرَّت أمريكا، تغيراً كلياً.
وهذا مايفسّر السبب في أنّ كلّ صور التحليل السياسي القديمة قد بَطلت، فمصطلحاتنا " في اليمين" أو "اليسار" أو "الليبرالي" أو "المحافظ" قد فقدت معناها التقليدي. ففي روسيا مثلاً، ينظر في الوقت الحاضر، إلى الشيوعيين وكأنهم هم "المحافظون" وإلى الإصلاحيين، وكأنهم "الراديكاليون". أما في الولايات المتحدة فإن أنصار الليبرالية، الاقتصادية، يمكن أن يَعَدُّوا، اجتماعياً، محافظين. وبالعكس، فرالف نادر Ralph NADER 3 "رجل اليسار" يضم قواه إلى قوى بات بوشانان Pat Buchanan "رجل اليمين" لكي يعارضا الـ Alena.( )
والأدعى إلى الاضطراب، والأكثر دلالة هو، مع ذلك، الانتقال المتزايد للسلطة السياسية، أي البنى السياسية الرسمية - كالكونغرس، والبيت الأبيض، والإدارات العامة، والأحزاب السياسية- إلى جماعات القواعد المتصلة فيما بينها اعلامياً، وإلى وسائل الإعلام.
ومن العسير أن نشرح بالمصطلحات السياسية وحدها، هذه التغيرات الضخمة التي تتمّ في الحياة السياسية الأمريكية وغيرها. إذ أنها موصولة بتغيرّات لها نفسُ العمق في الحياة العائلية، ولعالم الأعمال والتكنولوجيا والثقافة والقيم، فإذا شئنا الحكم في هذا العهد القائم على التغيرات المفرطة السرعة، وعلى الصراع الاجتماعي، الشبيه بصراع الأخوة، فإنه يجب علينا أن نتسلح بمقاربة متناسقة ومنسجمة، للقرن الواحد والعشرين، ويقدّم هذا الكتاب إطاراً جديداً للتغييّر يتمثل بقوةٍ كبيرة، ومتى فهمنا هذا الإطار جيداً، فإنه يكون في وسعنا أن نتخذ تدابير فعلية، لكي نهب شكلاً ما، لتغيرات، أكثر تناسقاً ومنطقاً أيضاً، ماتزال تنتظرنا، وذلك لتوجيهها، لا لكي تكون ضحية لها.
وعندما يقومُ بعضُ المؤلفين، بعرض فصُول من كتبهم السابقة، فكثيراً ما ينشأ عن ذلك مجموعة من الأفكار المتباينة، ولكن هذا ليس حال هذا الكتاب.
أما الفصل الأول والتاسع من كتابنا هذا، فقد ظهرا في كتابنا: الموجة الثالثة. أما الفصول 2، و 4، فإنهما استُمدّا من كتابنا الأخير: الحرب وماهو ضد الحرب، المنشور عام 1993. وأما الفصول 3،5،6 فإنها أخذت من كتابنا السلطات الجديدة (Powershift) الذي ظهر عام 1990،( ) ولكن النصوص التي قدّمت هنا، صُغرت بالنسبة إلى النصوص الأصلية: وبتعبير آخر نحن لم نضف إليها إلا تغييرات صغيرة للحفاظ على التواصل المنطقي، وبالمقابل فإن الفصلين 7 و 8 يقدمان مواد لم تُقل سابقاً، ولم تنشر قط.
ويبقى أنه إذا كانت الفصول الموجودة هنا، مستمدّة من الكتب السابقة، فهذا لا يعني أننا أمام موجز لها، بل إلى جملةٍ لم تنشر سابقاً- وصارت ممكنة بحكم السمة النموذجية لكتبنا، القائمة كلها على نماذج مقررة من التسارع والتغيير السياسي والاجتماعي. ونحن نعتقد أننا بهذا الشكل الجديد، نقدم ألفبائية أو مفتاحاً لمشروعنا.
إن جيفري إيزناش JEFFREY A EISNACH. رئيس مؤسسة التقدّم والحرية في واشنطن، هو الذي كان أول من فكرّ، بإصدار مثل هذا الكتاب. ولما كان إيزناش هذا يرى أن الأمريكيين والقادة السياسيين ميالون إلى النظر إلى كل عنوان، وكلِّ ضوء إعلامي، وكلِّ نقاش في الكونغرس، وكلِّ تقدم تكنولوجي، كما لو أنه حادثٌ مفردٌ ومستقل، فإن إيزناش يعترف بالأهمية السياسية للتأليف بين الأحداث المتباينة. وأكثر من ذلك أنه يقدر أن عهد ردود الفعل الآلية، قد انقضى. وبهذا المنظار نفسه، اقترح علينا، أن نصدر هذا الكتاب.
ونحن نعترف له بالجميل، ونشكر أيضاً ذلك العون الثمين جداً، الذي قدّمه لنا الدكتور ألبرت س، هانسر Albert S. Hanser، رئيس مؤسسّة التقدم والحرّية، والذي كان قد استعرض وقرأ النصوص المنشورة سابقاً، التي أخذنا كتابنا هذا جزئياً، منها، واختار هو بعضها، أو لخص منها بعض أجزائها: وكذلك ندين بالشكر للسيد ايريك ميشيل ERIC MICHAEL. الملحق بدائرة البحوث، على أنه تابع معنا هذا المشروع.
ونحن نأمل أن يساعد كتابنا هذا، قُرّاءهُ على القيام بإعادة تقييم كلّي، لأفكارهم التي تقتضيها الحضارة الناشئة، حضارة الغد.


ألفين وهيدي توفلر.
Alvin et Heidi Toffler
آب 1994.















مقدّمة


دليل القرن الواحد والعشرين
لاستخدامه من قبل المواطنين.
إنَّ التسعينات من قرننا هذا، بدايةٌ، لموجة من التغيرات السياسية، والحكومية، ذات أبعاد تاريخية: فانهيار الاتحاد السوفييتي، والإطاحة بالنظام السياسي القائم في إيطاليا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ثم مايشبه القضاء شبه الكلي على الحزب الذي كان يحكم كندا. حتى انتخابات 1993 (إذ أن عدد نوابه هبط من 153- إلى 2)، ثم إلى انهيار الحزب الديمقراطي الليبرالي الياباني، بعد أربعين سنة، مما يشبه التفرّد بالسلطة (وإلى ظهور حركة تطوير جديدة)، من غير أن ننسّى صعود Ross ...PERROT وحركة: "لنبق مُوَحدّين" United we stand ". وما لا يمكن عدُّهُ من التغيرات المذهلة التي تتم في الحياة السياسية.
فرجال السياسة، وكتّاب الافتتاحيات، والجامعيون، كلُّ هؤلاء يبدون حائرين أمام ضخامة التغيرات التي تحدث "هنا وهناك". ولابدَّ لنا من التركيز على عناد أولئك الذين كانوا هم المسيطرون، وعلى حيرة العظماء، في الأيام أو في العهود السابقة. إن احتضار الماضي يمحو وعودَ المستقبل، وهذا شيء قديم نسبياً. وكان ج. هويزنغا J. Huizinga قد لاحظ في كتابه الرائع " خريف القرون الوسطى" مثل هذه الملاحظة لدى حديثه عن عهد النهضة. وهذا الذي لا يبدو لنا، مع الرجعة إلى الماضي، كعهد من التجديد الرائع والمثير، كان المعاصرون يشهدونه ويرون فيه انهياراً مريعاً للنظام القائم.
وكذلك، رأى الناس في انهيار الصين الكونفوشيوسية بدءاً من خمسينات القرن الماضي، نوعاً من الانحطاط المخيف للنظام والاستقرار، بدلاً من أن يروا فيه العلامات المبشرّة بمستقبلٍ أعظم إنتاجاً، وأكثر انفتاحاً.




وهكذا فإنَّ ألفين وهيدي توفلر، قدّما لنا المفتاح الذي يتيح لنا أن ننظر إلى الاضطراب الحالي، في الإطار الإيجابي لمستقبلٍ ديناميكي، ومثير، وها قد مضى ربع قرن، وهما يتحدثان عن المستقبل في تعاليمهم ومحاضراتهم وكتاباتهم. أما كتابُهما عن صدمة المستقبل الذي أقبل الناس على شرائه أكثر من أي كتاب آخر (عام 1970)، فإنه أصبح تعبيراً كافياً، للدلالة على ضخامة التغيير الذي نشهده. (وقد أشتري هذا الكتاب في اليابان، أكثر مما أشتري في الولايات المتحدة.) وكان المؤلفان يثيران الانتباه إلى تسارع التغيّر، الذي كان يُهدّد بالقضاء على شعوب العالم كافة، وكثيراً ماكان يدعُ الأشخاص العاديين، وأصحاب المشاريع الكبيرة، والجماعات، والحكومات، في حيرة كبيرة.
ولو أن كتاب، صدمة المستقبل، كان الكتاب الوحيد الذي أصدره التوفلريان، إذن لظلّ هذان من أهم المعلقين البارزين الذين يتحدثون عن "الشرط الإنساني". ثم جاء بعد ذلك كتابهما الضخم "الموجة الثالثة” فكان مساهمة أكبر أهمية في فهم زماننا هذا.
وحقاً فإن التوفلريين. في "الموجة الثالثة"، انتقلا من مجرّد الملاحظة إلى إنضاج إطار تنبئ... ذلك أنهما أعادا وضع الثورة المعلوماتية، في منظور تاريخي، بعد أن قارناها، بالتحوّلين الكبيرين اللذين يمثلاّن الثورة الزراعية،والثورة الصناعية. فإذا نحن صدّقناهما في ذلك، فإننا نشعر بضخامة الموجة الثالثة من التغير، وعندئذٍ نكون، بحكم ذلك، في سبيلنا إلى إنشاء حضارةٍ جديدة.
ولقد أحسّ التوفلريان الرؤيةَ، عندما لاحظا أن نمو الإعلام وتوزيعه، قد أصبحا مصدرَ الإنتاجية والطاقة، بالدرجة الأولى، للنوع الإنساني. فمن الأسواق العالمية، إلى التوزيع العالمي للأخبار، الذي يدوم أربعاً وعشرين ساعة من أربع وعشرين ساعة فعلية، كل يوم، عن طريق المحطة CNN، مروراً بوثباتِ الثورة البيولوجية، وتأثيرها الضخم في الصحة والإنتاج الزراعي، إلى كل الجبهات الأخرى، تقريباً"، نلاحظ أن ثورة الإعلام، تغيّرُ حياتنا ونسقها ومادتها.


ولقد أثرَّ كتابُ. "الموجة الثالثة" أكبر التأثير، في استراتيجيات رؤساء الشركات والمسؤولين السياسيين خارج الولايات المتحدة، من الصين إلى اليابان، مروراً بسنغافورة وبمناطق أخرى، في أكمل صُور تقدّمها، أي من الدول التي أصبحت تعلي، منذ الآن، شأن النمو عن طريق التقانات العالية المستوى بفضل شدّة الإعلام وعنفه، وذلك لأن كتاب "الموجة الثالثة" كشف عن معنى هذا التحوّل. وحتى في الولايات المتحدة، نجد الكثيرين من رؤساء الشركات قد تأثروا بهذا الكتاب وحَثّوا به على إعادة النظر في بنية مؤسساتهم، لمجابهة القرن الواحد والعشرين.
ولتذكر أن واحداً من التطبيقات الأكثر أهمية، والأوفر حظاً، في نموذج الموجة الثالثة، يتعلق بالحرب. ففي بداية الثمانينات، أُطلع الجنرال Donn Starry سيّد (Training and Doetrine Comand ) TRADOC من قيادة التدريب وعقيدة الجيش البري)، على هذا الكتاب وخلص منه إلى أن للتوفلريين كل الحق في تحليلاتهما للمستقبل، ولهذا فقد دعاهما إلى حصن مونرو Fort Monroe مقر القيادة العامة لا Tradoc، حيث نوقش نموذج الموجة الثالثة من قِبَل المسؤولين عن عقيدة الجيش البرِّي، وقد عرض "التوفلر" صورةً لهذا النموذج في كتابهما: الحرب وضد الحرب. وإني لفي الموقع المناسب لمعرفة ما أحدثه مفهوم ثورة الإعلام في الموجة الثالثة، في إنضاج العقيدة العسكرية مابين عامي 1979 و 1982. وبصفتي عضواً شاباً في الكونغرس، قضيتُ وقتاً طويلاً مع الجنرال Starry والجنرال موريللي Morelli (الذي فقدناه بعدئذ) من أجل إنضاج عقيدة الحرب البرية الجوّية.
ولقد انتهى الأمر، بهذه العقيدة المتصلة بالجيش البرّي، إلى إقامة نظام غنّي الإعلام / مرنٍ أو شديد المرونة، عظيم السرعة، موزّع على مراكز مختلفة، يسمح بتقييم ساحة المعركة، وتكثيف القوى، واستخدام ضباط رؤساء، جيّدي التدريب، مثقفين ثقافة جيدة، ويملكون حرية كبيرة في العمل، لضمان الانتصار على خصم، تُعودُ أسلحته إلى العهد الصناعي( ).




وفي عام 1991، شهد العالمُ أول حرب، تتجابه فيها نظم عسكرية جوية من الموجة الثالثة مع نظم كلُّها من نظام الموجة الثانية. وبدا بسرعةٍ أنه لم يكن لهذه الأخيرة أية فائدة، لا في تعريف الأهداف ولا في اللوجيستيك-، وهكذا قضي على القوى العراقية التي لم ترق إلى مستوى الموجة الثالثة. وفجأة، شهد الناس معركة حاسمة، مثل هزيمة قوى الموجة الأولى التابعة لمهدي أم درمان، عام 1898، على يد قوات انجليزية - مصرية، من الموجة الثانية.
وعلى الرغم من أن كلَّ شيء يشيرُ إلى أن شيئاً ما، جديداً تماماً. يطوّر الحياة السياسية، والاقتصاد، والمجتمع، وفن القتال، فإنهم قلائل جداً، أولئك الذين أدركوا بُعدَ المدى الكامن في حدس التوفلر. إذ أن مقتضيات الموجة الثالثة، غابت- في الولايات المتحدة- عن عقول الأكثرية من الساسة و الصحفيين، وكتاب الافتتاحيات. فما من أحدٍ حاول أن يترجم فكرة الموجة الثالثة من التغيرات الحضارية، في أحكام سياسية أو في القرارات الحكومية.
ولأننا لم نحسن تطبيقَ نموذج المرحلةِ الثالثة الذي أنضجه التوفلر، فإن حياتنا السياسية أصيبت بالغبن والسلبية، والاستخفاف واليأس.
وهذا الفرق بين التغيرات الموضوعية التي تَتمُ في العالم كلّه، من جهة، وبين جمود الحياة السياسية والحكومة، من جهة أخرى، في طريقه إلى لغم أو تمزيق نسيج المنظومة السياسية الأمريكية. فإذا استغنينا عن مفهوم الموجة الثالثة، فإنه ما من نظام تحليلي ، جدير بهذا الاسم ، يمكنه أن يفهم معنى حالةِ الغبن والفوضى، التي تتسم بها السياسة والحكومة في القسم الأكبر من العالم الصناعي: إنه ما من لغةٍ لدينا لإفهام المشكلات التي نجابهُ بها، وما من رؤيةٍ لرسم صورة المستقبل الذي ينبغي أن نُركِّز عليه جهودنا، بل ولا من منهج مقرّر لتسريع الانتقال المطلوب وتيسيره.


وليس هذا بالمشكلة الجديدة، ذلك أنني بدأتُ عامَ 1970 بالعمل مع "التوفلر" في إيضاح مفهوم "الديمقراطية المتوقعة". وحينما كنتُ معلماً مساعداً، شاباً، في كلية مقاطعة غرب جيورجيا، كنت كذلك أُغرَى كلَّ الإغرَاء، بمعنى التقاطع بين الماضي والمستقبل الذي هو جوهر الأمر السياسي وفن الحكم، بالمعنى الأرقى الممكن.
ومنذ عشرين سنة، مازلنا نعمل معاً في محاولةٍ لإنضاج سياسةٍ، شديدة العناية بالمستقبل، وحريصة على إفهام أو توعية جماهير الشعب، مما يساعد على الانتقال بالولايات المتحدة من حضارة الموجة الثانية المريضة بشكل واضح، إلى حضارة الموجة الثالثة، التي ترتسم أمامنا، وتطل علينا برأسها، والتي يجب علينا أن نتجه إليها، حتى ولو بقيت، من نواحٍ مختلفة، غير مُعرَّفةٍ بوضوح، وغير مفهومة.
ولكن الصيرورة التي كنت أتَوَقعْها، بدت أدعى إلى الغبن، كما بدا التقدم أبطأ مما كنتُ أتوقع، منذ عشرين سنة، ولكنه يبقى، رغم كل صور الغبن، أن إنشاء نظام سياسي وحكومي، من طراز الموجة الثالثة، هو من الأهمية بالنسبة إلى الحرية وإلى الولايات المتحدة، بحيث لا يبقى لنا أيّ خيار.
وعلى الرغم من أنني رئيس الجمهوريين في الكونغرس، فإني لا أعتقد أن للجمهوريين، أو حتى للكونغرس، الحق في التفرّد بالتوجيه، منذ اللحظة التي يكون فيها علينا أن نَحُلُ المشكلات، وأن نساعد أمريكا على إتمام التغيرات الضرورية من أجل الدخول في الثورة الإعلامية للموجة الثالثة، وهناك محافظون (رؤساء بلديات وديمقراطيون مثل نوركيست Norquist في Milkwaukee أو رانديل Randel في فيلادلفيا، يقومون بوثبات مناسبة، على المستوى البلدي أو المدني، ولقد مضى Gore (آل غور) إلى الاتجاه السليم (على الرغم من أن خطاه خجلى، لا تنجح في القيام بوثبات حاسمة).
أما الواقع، فهو أن التغيرات المطلوبة تتتابع يومياً في القطاع الخاص، على مستوى أصحاب المشاريع، ومستوى المواطنين الذين يتخيلون أشياء جديدة، ويتصورون حلولاً جديدة، بحكم أن البيروقراطية لم تنجح في إيقافهم.
وهذا الكتاب جهدٌ أساسي، لكي يهبَ المواطنين الذين هم أنتم، تلك الطاقة الضرورية للقفز، وللبدء بخلق حضارة الموجة الثالثة. فاقرؤوا إذن مساهمة التوفلر المتميزة، في إحداث هذا التحوُّل، وأكدوا على الأجزاء التي تبدو لكم، مفيدة، وابحثوا حولكم عن عقول حسنة التفاهم معكم، وابدؤوا بإنضاج بعض المشاريع المتواضعة: ومن الآن، أجدني مقتنعاً، أنكم بعد بضع سنوات، ستندهشون مما أنجزتم وعملتم.








نيوت جينكريش. Newt Gincrich







الفصل الأول
المعركة الأسمى - BATMCO -SUPER


إننا نشهد ولادة واحدة من الحضارات. وهنالك في كل مكان، عُميٌ يبذلون أقصى الجهد لخنقها في مهدها، وهي حضارة تحمل معها نماذج جديدة للبنية العائلية، وتُغير صور عملنا وحبنا، وحياتنا، وننشئ نظاماً اقتصادياً جديداً، وتثير صراعات سياسية جديدة، وتنشر أيضاً، وبصورة خاصة، نوعاً جديداً من الوعي conscience.
إن الإنسانية تتهيأ للقيام بقفزة كوانتية إلى الأمام، وهي تُواجه الانقلاب الاجتماعي، وسيرورة إعادة التبنية الخلاقة، الأكثر حدّة، من أيّ زمان آخر، ومن غير أن نعي أمرها تمام الوعي، نجد أنفسنا في وضع من يبني، بدءاً من الصفر، حضارةً لا مثيل لها من قبل، وذلك هو معنى الموجة الثالثة.
ومنذ بدء الخليقة حتى الآن، عرفت الإنسانية موجتين كبيرتين من التغيير، كلٌّ منهما ألغت، إلى حدٍّ كبير، ثقافات ومدنيات سابقة، وأحَلَتْ محلها صُوَرَ حياةٍ لم تكن تُدركُها الأجيالُ القديمة. أما الموجة الأولى- أي الثورة الزراعية- فقد امتدّت آلافاً من السنين. وأما الموجة الثانية- وأعني بذلك انطلاق الحضارة الصناعية فقد اقتضت نحواً من ثلاث مئة سنة، وكانت كافية.
أما اليوم، فأن تسارعَ خطوات التاريخ، أكثر بروزاً .ومن المرجَّح أن تقوم الموجة الثالثة، وتصبح واقعاً مقرّراً، خلال عدة عشرات من السنين، وعلى ذلك، فإن الذين سيسكنون هذا الكوكب في مثل هذه اللحظة الحرجة سيعيشون ويشهدون صدمة الحضارة الثالثة.
وستحمل الموجة الثالثة معها، صورة حياة تتجدّد بأصالة وتستند إلى موارد متنوعة من الطاقة، قابلة للتجدد، وطرق إنتاج تستبدل بأكثر سلاسل التصنيع المعهودة في المصانع الحالية؛ نموذجاً جديداً للصناعة وصورة من الحياة العائلية، تتميز بعلاقات أكثر رخاوة (أو حرية): وبمؤسسة لم يَرَها أحد من قبل، يمكن أن نُسميها باسم "البيت الإلكتروني"، وصورة من التربية طريفة جذرياً، ومصانع وشركات الغد. إن الحضارة الناشئة تقيم صيغة جديدة للسلوك، تدفعنا بعيداً عن طريق الإنتاج الموحّد، ونوعاً من التزامن والمركزية (أو التمركز) يتخطى بدرجة كبيرة مانسميه تكثيف الطاقة والمال والسلطة.
وتملك هذه الحضارة الجديدة، مفاهيمها الخاصة، في الزمان والمكان، والمنطق، والسببية، وكذلك تملك مبادئها الخاصة فيما يتصل بسياسة الغد.
الطليعة الثورية
هنالك صورتان للمستقبل، متعارضتان في الظاهر، تساوران الخيال الشعبي اليوم، فأكثرية الناس -بمقدار ما يكون المستقبل من اهتماماتها- تضع، كمبدأ لها، أن العالم الذي نعرفه سيستمر إلى مالا نهاية له. ومن الصعب عليهم أن يتصوروا طريقة حياة مختلفة فعلياً بالنسبة إليهم. كما يصعب عليهم بطبيعة الحال (أو بالأحرى) أن يتصوّروا حضارة جديدة تماماً. وصحيح أنهم يقبلون أن الأشياء تتحرك، ولكنهم يحسبون، حسباناً جدّياً، أن تحولات حاضرنا، ستمرُّ بجانبهم، وأنه لاشيء يهزُّ الإطار الاقتصادي، ولا البِنَى السياسية المألوفة لديهم. وهم ينتظرون بكامل الثقة أن المستقبل سيكون على شاكلة الحاضر.
ولكن الأحداث الجديدة، قد زعزعت هذه الصورة المطمَئنَة للمستقبل. وبمقدار ما تتصدرُ الأزماتُ الكثيرة، الصفحة الأولى من الجرائد، وتنفجر إيران، وتنتزع من ماو صورةُ الإله، ويتصاعد( ) ثمن النفط بقوة، ويصبح التضخم مثيراً للغضب، "ويتنامى الإرهاب، وتعرب السلطات العامة عن عجزها تجاهه، كانت رؤيةٌ أخرى، أشد سواداً، تفرضُ نفسَها أكثر فأكثر، وانتهى ذلك إلى أن كثيراً من الناس- المشبعين بالأخبار السيئة، والأفلام الكارثية، وبقصص رؤيوية توراتية تصوّر نهاية العالم، وبسيناريوهات تصيب الإنسان بالكوابيس، تنشئها مكنات للتفكير، تحمل سمات ***** والاستغراب- يصلون ظاهرياً إلى النتيجة القائلة، إنه لا يسعنا تمديد مجتمع اليوم، وإضفاؤه على المستقبل، بحكم أنه لن يوجد مستقبل. وفي مثل هذا المنظور، يتراءى للجميع، أننا على بعد عدة دقائق من المصيبة الكبرى، وأن الأرض تحني رأسها باتجاه الكارثة النهائية.
ويقوم هذا الكتاب على ما أسمّيه بالطليعة الثورية. وهو يؤكد أنه، حتى إذا كان على بعض عشرات السنين المقبلة، وهذا هو الأرجح- أن تكون خصبةٌ بالاضطرابات، والتشنجات بل وحتى باندلاع العنف، فإننا لن يُقضى علينا تماماً، وهو يأخذ بالرأي القائل: إن الهزات العنيفة التي نتحمّلُ اليوم وزرها ليست بثمرة لمجرَّد المصادفة، ولكنها تؤلّف، على العكس، صورةً مبسطة لأشكال التطور الواضحة والسهلة التمييز. وهو يؤكد أن هذه التغيرات، تراكمية السمات، وأنها تؤدّي بتجمعّها، إلى تحوّل غير مألوف، لصور حياتنا وعملنا، وتسلياتنا، وتفكيرنا. وهو يؤكد أخيراً أن مستقبلاً سليماً، ومرغوباً به يظل شيئاً ممكناً. إذ أنَّ كل ما يحدث أمام أعيننا، ليس بشيء أقل من ثورة عالمية، أو قفزة كمومية في التاريخ. وبتعبير آخر، إن نقطة البداية في هذا الكتاب يمكن أن تلخص كما يلي: إننا آخر جيل من حضارة قديمة وأول جيل من حضارة جديدة، ويجب أن نضيف إلى هذا، أن جزءاً كبيراً مما نُعانيه من الاضطراب، والقلق، والضياع، يصدرُ مباشرة عن الصراع الذي يُمزقنا، ويداخل أيضاً مؤسساتنا السياسية، وهذا الصراع هو الذي يقوم بين حضارة الموجة الثانية، التي تدخل في دور الاحتضار، وبين الحضارة الفتية، حضارة الموجة الثالثة، التي تتهيأ للهجوم، لاقتلاع ماسبقها.
وعندما نكون قد فهمنا هذا، نجد أن جملةً من الأحداث غير المفهومة، في الظاهر، تتضح فجأة. ذلك أن المحاور الكبيرة، للتغيير بدأت في البروز بشكل واضح، غير أن العمل من أجل الاحتفاظ بالبقاء، يصبح ممكناً ومقبولاً. وبكلمة واحدة، مثلها مثل مئة كلمة، نقول إن الطلائع (أو المقدمات) الثورية تحرِّر عقلنا وإرادتنا.
قمة الموجة
هنالك طريقة بحث، متميّزة وناجعة في البحث، يمكن تسميتها باسم "التحليل الاجتماعي، لسلسلة الموجات. ويمكننا من خلال هذا المنظور، أن نتصوَّر التاريخ كتابع لموجات التغيّر، وأن نتساءل إلى أين تقودُنا قمّةُ كل منها. وعندئذ نركزُ على استمراريات التاريخ، مهما تكن ضخمة، بأقل مما نركز على تقطعاته - كالتجديدات ونقاط القطيعة ثم نتعرَّف، فيما بعد، صيغ التغير الحسّاسة، بمقدار ماتبرز أو تثبت وجودها. ومنذئذ، نصبح قادرين على توجيهها.
وهنا نبدأ بهذه الملاحظة البسيطة جداً، ونقول إن دخول الزراعة، كان أوَّل انعطاف في مسار التطور الاجتماعي للإنسانية وكانت الثورة الصناعية كانت الخطوة الكبيرة الثانية. وهذان الحادثان، إذا نُظر إليهما بالصورة التي أشرنا إليها، لا يظهران كمرحلتين دقيقتين، ومستقلتين، بل كموجة تغيير تنتقل بسرعة معينة.
وكان الناس قبل الموجة الأولى، يعيشون، في أكثريتهم متجمعين في مجموعات صغيرة، كثيراً ما تكون بدوية، ولا تحصل على قوتها إلا بجمع أو قطف مايمكن أن يؤكل، ثم جاءت مرحلة الصيد وتربية الحيوانات.
ولكن حدث بعد ما يقربُ من عشرة آلاف سنة، أن الزراعة بدأت في الظهور، وأشاعت بالتدريج مانسمّيه بالثورة الزراعية، على سطح الأرض، وحينئذ بدأت تظهر قرى هنا وهناك، ومساحات سكنية، ومناطق تُصلح للزراعة، وانتهى ذلك كله إلى صيغة حياة جديدة.
ولم تكد الموجة الاولى تصلُ إلى نهاية مسارها، حتى قام في أواخر القرن السابع عشر مانسمّيه بالثورة الصناعية، وانتشرت في أوروبا، وأثارت الموجة الثانية العالمية. لكن هذه السيرورة - أي حركة التصنيع- انتشرت بسرعة أكبر بين الأمم والقارات. وهكذا فإن حادثين مختلفين ومتميزين، كانا يُدخلان تغييراتٍ هامة، في آن واحد، ولكن بسرعاتٍ متباينة.
أما الآن، فإن عهد الموجة الأولى قد انتهى عملياً. وليس هناك إلا بضعة شعوب قبلية في أمريكا اللاتينية أو في الـ Papouasie أي غينيا الجديدة- مثلاً، لم تمسَسْها الزراعة، ولكن دينامية هذه الحركة ،حركة الموجة الأولى، تبدو وكأنها استنفدت قوتها.
وأما الموجة الثانية- أي حركة التصنيع- فإنها بعد أن أحدثت انقلاباً حقيقياً في أوروبا، وأمريكا الشمالية، وبعض مناطق أخرى من الكرة الأرضية، أثناء قلة من القرون، فإنها ماتزال تُشيع جَوَّها. وهنالك بلاد عديدة ماتزال في عهدها الزراعي، بدأت الآن تنشئُ بسرعة محمومةٍ مصانع الصلب، والسيارات، ومعامل النسيج، وسكك الحديد، ومصانع زراعية تنتج المواد الغذائية، وهذا العزم الذي عرفناه للتصنيع مايزال محسوساً. وهكذا فإن دينامية الموجة الثانية لم تنفذ بعد.
ولكن حتى في الوقت الذي تتتابع فيه (أو ماتزال تتتابع) حركة التصنيع، نجد حركة أخرى، أعظم أهمية، قد بدأت بالبروز، وحقاً فإنه، بعد عشرات السنين التي تبعت الحرب العالمية الثانية، وبعد أن بلغت حركة التصنيع أوجها، بدأنا نلاحظ موجة ثالثة، غامضة، يُساء فهمها، قد أخذت تهجم على الأرض محدثة التغيير في كل شيء.
وهكذا فإن عدداً كبيراً من البلدان مايزال تعاني في آن واحد، صدمة الموجتين، بل إن موجة صدمات ثلاث مختلفة تماماً، بدأت تنتقل بسرعات مختلفة، تحفزها قوى حية بدرجات مختلفة.
وفي وسعنا هنا القول إن عهد الموجة الأولى قد بدأ حوالي العام 8000 ق.م. وإنه لم يلقَ بعدُ من ندٍّ حتى اللحظة الواقعة بين 1650-1750، ب.م، ومنذئذٍ أخذ يفقد نشاطه، في الحين الذين كانت فيه الموجة الثانية بدأت تحل محلّها بالتدريج. وما الحرب العالمية الثانية، التي كانت حصيلة الموجة الثانية، إلا علامة على سيادة الحضارة الصناعية و بلوغها أوجها، غير أن منعطفاً آخر أخذ بعدئذ مَن يَبرُز للعيون اليقظة. وكان ذلك في الولايات المتحدة، مابين 1955 و 1965، وقد شهد الناس خلال هذه السنوات العشر، أن الياقات البيضاء والمقيمين على الخدمات، يتجاوزون في العدد أصحاب الياقات الزرقاء، وكذلك شهد الناسُ، خلال هذه الفترة الثالثة ظهورَ الحاسوب، ظهوراً يكاد يعمّ الناس، ثم ظهور الطائرة النفاثة، على الخطوط التجارية، وحبّةَ منع الحمل ( )، وكثيراً من التجديدات الأخرى التي كان تأثيرها عظيماً. وأثناء هذه السنوات، تماماً، أخذت الموجةُ الثالثة، تزداد قوة، في الولايات المتحدة. ولقد ظهرت -في تواريخ مختلفة قليلاً- وبالقوة المتزايدة في أكثر الشعوب الصناعية، مثل بريطانيا، وفرنسا، والسويد وألمانيا، والاتحاد السوفييتي، واليابان. واليوم نجد كل هذه البلاد، ذات التكنولوجيا المتقدّمة، تترنح تحت تأثير صدمة الموجة الثالثة، التي تهز الشؤون الاقتصادية العتيقة والمتصلبة التي عرفتها الموجة الثانية.
ان فهم هذا الواقع، هو السرّ الذي يَسمحُ لنا، إلى حد كبير، بالكشف عن المعنى العميق للصراع السياسي والاجتماعي، الذي نراه يتنامى من حولنا.
موجات المستقبل
ولنلاحظ أنه عندما تكون هناك موجةٌ وحيدةٌ، من موجات التغيير، وتكون هي التي تبرز في مجتمع معيّن، فإن تمييزَ لحمةِ تطورها المقبل، أمر سهلٌ نسبياً. وفي أوروبا القرن التاسع عشر، مثلاً، كان الكثيرون من المفكرين والمثقفين، ورجال الأعمال، والسياسيين، والناس العاديين، يملكون فكرة واضحة، وصحيحة في جوهرها، عن الوجه الذي سيرتسم فيه المستقبل. كانوا يستشعرون أن التاريخ يمضي في اتجاه انتصار الصناعة على الزراعة السابقة للمكننة، ويتوقعون، بدرجةً رائعة من الدقة، جملة من التحوّلات التي كان على الموجة الثانية أن تأتي بها: كالتقنيات الأكثر نجعاً والمدن الأكثر ضخامة، والتنقلات الأكثر سرعة، والتربية الجماهيرية الأوسع مجالاً... الخ.
وكان لهذا الاستشعار الواضح للمستقبل نتائج سياسية مباشرة: فالأحزاب والحركات السياسية كانت قادرة على تصوّر نفسها، داخل منظور المستقبل، وكانت المصالح الزراعية السابقة للصناعة، تستطيعُ تنظيمَ نفسها، بغيةَ القيام بمعركة المؤخرة، ضد تجاوزات النزعة الصناعية، وضد الـ big business (كبار رجال الأعمال)، وضدّ القادة النقابيين، وضدّ "المدن الملعونة". وكانت الطبقة العاملة، وأصحاب المعامل، يستطيعون التنازع فيما بينهم للاستيلاء على مقاليد السلطة في المجتمع الصناعي. وكانت الأقليات العرقية تحددُ حقوقها على أساس اتخاذ موقعٍ أفضل في العالم الجديد، وتطالبُ بالوصولُ إلى مختلف المراتب والوظائف ذات المسؤوليات الكبرى في المصانع‎، وتطمحُ إلى سكن أرقى، وإلى تعميم التعليم، الخ...
غير أنه كان للرؤية التصنيعية للمستقبل، انعكاسات ملحوظة على المستوى النفسي. وكان في وسع الناس، أن يختلفوا أو أن يتنازعوا بعنف، في مجابهاتٍ قد تكونُ أو ربّما كانت داميةً أحياناً. وكانت الأزمات وصور التقدم الاقتصادية، قادرةً على قلب حياتهم. وعلى كل حال، فإن صورة المستقبل الصناعي، التي كانت مشتركة بينهم تميل إلى تحديد الاختيارات، وكانت تجعل الأفراد يعون، لا ماكانوا فيه فقط، ولكن أيضاً ماكان يمكن أن تكون عليه حظوظهم في المستقبل، وحتى إذا كانوا في قلب التغيرات الاجتماعية الكبيرة، كانو يشعرون بأن هذه التطورات ستجلُبُ لهم بعض الاستقرار، ومعنىً ما، لهوياتهم.
وبالمقابل، فإنه عندما تكون موجتان ضخمتان من موجات التغيير (أو أكثر من موجتين) تهبطان على مجتمع ما، من غير أن تكون إحداهما أقوى من الأخرى، فإن صورة المستقبل عندهما، تبدو وكأنها تعودَ إلينا من مرآة محطمة. وعندئذٍ يكون من الصعب أن نتبيّن معنى التغيرات والصراعات التي تحدث. غير أن اصطدام الجبهات، يثير عاصفةً عنيفةً وتيارات متناقضة، ودوامات من تلاطم الأمواج التاريخية أكثر عمقاً وأكبر أهمية.
وفي أيامنا هذه، وفي الولايات المتحدة، كما هي الحال في عدد غير قليل من البلدان، ينشئ الاصطدام بين الموجتين الثانية والثالثة، توتراتٍ اجتماعيةً عنيفة، وصراعات خطيرة، ومجابهات سياسية غريبةً، غير معهودةً، لا تحسب حساب خطوط الفصل المألوفة، تبعاً للطبقات، والعروق، والجنس، أو الأحزاب. كما أنها تقصي على المصطلحات السياسية الكلاسيكية، ويصبح من الصعب أن نفضل "التقدميين" عن "الرجعيين" والأصدقاء من الأعداء، وهكذا تنفجر الاستقطابات القديمة والتحالفات العتيقة.
ويعكس تفتت الشخصية مانراهُ من فقدان الانسجام في الحياة السياسية. إن الأطباء النفسانيين والشيوخ الروحيين يجنون ذهباً كثيراً، والناس يتنقلون من صورة علاج إلى أخرى، ومن "الصراخ الأساسي" إلى "الطب الذي لايدرك بالحسّ medecine cxtrasensoriel ومن طائفة دينية ما، إلى طائفة أخرى، هذا إن لم يغرقوا في نرجسية مرضية، معتقدين أن الواقع غير معقول، أو منحرف، أو مجرّد من أي معنى. أما أن تكون الحياة غير معقولة، في اتجاه أوسع، أو كوني، فإن هذا ممكن، ولكن ذلك لا يبرهن أبداً على أنّ الأحداث التي تنسج لحمة الحياة في أيامنا"، مجردة من أية دلالة، أو أي معنى. والحقيقة أن هناك نظاماً خفياً، يمكن تعرفه بدءاً من اللحظة التي نكون فيها قادرين على تمييز التغيرات المرتبطة بالموجة الثالثة، من تلك التي تخصُّ الثانية، والتي تتباطأ سرعتها شيئاً فشيئاً.
وتنعكس العواصف الناشئة عن أمواج التغيير هذه، على حياتنا المهنية والعائلية، وعلى صور سلوكنا الجنسية وأخلاقنا الشخصية. إنها تعبّر عن نفسها في أسلوب حياتنا، وفي عاداتنا في التصويت (في الانتخابات) غير أننا إن وعينا مايحدثُ في حياتنا اليومية الخاصة وفي أعمالنا السياسية أو لم نعِه نجدُ أكثريةُ الناس من سكان البلاد الغنية. سواء، أكانوا رجالاً أم نساءً من عالم الموجة الثانية، وحريصين على إنقاذ نظام مريض، أم كانوا رجالاً ونساءً من جماعة الموجة الثالثة، تحرّص على إقامة مستقبل مختلف جذرياً، مالم نكن من المتوسطين بين الفئتين، ضلَوا الطريق إلى ماتريدُ الوصول إليه. ذلك أن هؤلاء يعتقدون أن النظامين، يُعدِّل أحدهما الآخر.
وهذا الصراع القائم بين جماعات الموجة الثانية، وجماعات الموجة الثالثة، يؤلف -في الواقع- ذلك الانفصام السياسي الرئيسي للمجتمع المعاصر. ومهما تقل لنا الأحزاب والمرشحون، اليوم، فإن خصوماتهم ليست بأكثر من معركة، موضوعها كله تحديدُ من سيحصل على أكثر الفوائد، مما يبقى من النظام الصناعي، الماضي إلى حتفه، وهذا الصراع هو "المعركة العظمى، من أجل الغد".
وهذه المجابهة بين المصالح القائمة في ظل الموجة الثانية "وبين جماعة أو أنصار الموجة الثالثة، تنتشر على مثال التيار الكهربائي الذي يجتاز الحياة السياسية لكل الشعوب.. وحتى في البلاد اللامصنّعة، نجد مراكز النفوذ القديمة، قد أرغمت على تغيير موقعها بحكم بروز الموجة الثالثة. وهذا التضاد القديم قدم الدهر، الذي يقوم بين المصالح الزراعية، التي كثيراً ماتكون إقطاعية وبين النخب المصنِّعة، سواء أكانت رأسمالية أم اشتراكية، يكتسب بعداً جديداً، على ضوء التقادم الذي يُهدد تيار التصنيع. تُرى هل يقتضي التصنيع المتزايد مع تنامي الموجة الثالثة، "موت الاستعمار الجديد" أم يقتضي، في الواقع، تخليداً للعبودية؟!
وليس في وسعنا أن نبدأ بفهم معنى العناوين الكبيرة، واستخلاص الأولويات،وإنضاج استراتيجيات ذكية، بغية السيطرة على التغيرات الحديثة، التي تؤثر في وجودنا، إلا بالعودة إلى أرضية الأفكار الأساسية التي أشرنا إليها في سياق هذا الحديث.
وعندما نعي وجودَ أو قيام معركة عنيفة، بين أولئك الذين يحاولون إنقاذ النظام القديم، وأولئك الذين يحاولون الانتهاء منه، نجد لدينا مفتاحاً ناجعاً للكشف عن حقيقة العالم. والشيء الاكثر أهمية أيضاً- سواء أتعلق الأمر بتعريف الخيارات السياسية لشعب ما، أم بإنضاج استراتيجية لمشروع ما، أم لتعيين أو تحديد هدفٍ ما للحياة الشخصية - هو أننا نملك أداة جديدة لتغيير هذا العالم.
ولكي تكون هذه الأداة قابلة للاستخدام، يجب علينا، إما أن نكون قادرين على إيضاح التغيرات التي تطيل عمر الحضارة الصناعية القديمة، من جهة أولى أو أن نقوم بانضاج ايضاح التغيرات الأخرى التي تُيَسِّرُ قيام الحضارة الجديدة، من جهة أخرى. وبكلمة واحدة، نقول إن المهمّ هو فهم الطرفين، أي القديمة والجديدة، للنظام الصناعي الذي نعرفه للموجة الثانية، التي ولد فيها الكثيرون منا، ونظام حضارة الموجة الثالثة التي ستكون عالم أبنائنا.












الفصل الثاني
صدمة الحضارة
لقد تأخر الناس بعض التأخر في فهم وصول الحضارة الصناعية إلى نهاية عمرها. أما الذي اتضح عندما كنا في صدمة المستقبل (1970) نستعرض الأزمة العامة للعهد الصناعي، فإنه يَعدُنا لا بحروب أقل، بل بحروب أكثر، ولكن من نوع آخر.
ولما كانت التغيرات الاجتماعية لا تتم أبداً من غير صراع، فإننا نعتقد أن صورة (أو رمز) الموجات، موجات التغيير- إن شئنا الحديث عن التاريخ- أكثر دينامية و كشفاً من كل انتقال باتجاه مابعد الحداثة. فالموجات دينامية، وعندما نتصادم الموجات، فإنها تحرّر تيارات قوية في العمق. وعندما تصطدم الموجات التاريخية، بعضها ببعض، فإن ذلك يعني أن حضارات كاملة تتصادم، وهذا مايوضح كثيراً من جوانب العالم الحالي التي كان يمكن، في الظاهر، أن تبدو، لولا ذلك، سخيفة وعرضية.
وتبعاً لنظرية الصراع القائم على مفهوم الموجات، فإن الصراع الأساسي، لا يقوم بين الإسلام والغرب ولابين الغرب وبقية العالم،" على نحو ما أشار إليه أخيراً، Samuel .Huntington .وخلافاً لما يؤكّده بول كينيدي، فإن أمريكا ليست في مرحلة الانحدار. وكذلك فإننا لا نصل إلى "نهاية التاريخ"، على مايدَّعي Franeis Fukuyama. بل يمكن القول: إن من بين كل التغيرات الاقتصادية والاستراتيجية، كان الأكثر عمقاً، هو "انقسام العالم" الذي يلوح في الأفق، بين ثلاث حضارات متميزة ومختلفة، وضمنياً متصارعة. ومن العسير علينا أن نرسم أطرُها، بالتعريفات التقليدية. أما حضارة الموجة الأولى، فإنها كانت وستظل مرتبطة بالأرض، لا محالة. ومهما تكن صورها المحلية، و لغات كلامها، وأديانها، أو منظوماتها العقائدية، فإنها كانت حصيلة الثورة الزراعية، ومايزال يوجدُ، حتى اليوم، أعدادُ كبيرة من الناس، تعيشُ وتموتُ في مجتمعات زراعية سابقة للحداثة، حارثة أرضاً قليلة الخيرات، على نحو ما كان يفعله أجدادُنا، منذ قرون كثيرة.
وأما أصول حضارة الموجة الثانية، فإنها موضعُ جدل أكبر. ويرى بعض المؤرخين أنها تمتدّ بأصولها إلى عصر النهضة، بل وإلى ماهو أسبق من ذلك. ولكن جماعات كثيرة من الناس، لا ترى أن حياتها قد تغيّرت تغيراً أساسياً، منذ ثلاثة قرون تقريباً، في العهد الذي أصبح فيه العلم النيوتوني مكيناً، أو حيث بدأ الناس استغلال المحرك الانفجاري اقتصادياً، وحيث بدأت المعامل الأولى بالتكاثر في بريطانيا، وفرنسا وإيطاليا. عندئذ بدأ الفلاحون بالهجرة إلى المدن، وبدأت أفكارٌ جديدة وجريئة، تنتشر بين الناس، كفكرة التقدّم، والعقيدة الغريبة التي تؤمن بحقوق الفرد، ومفهوم روسو في العقد الاجتماعي، والعلمانية، والفصل بين الدين والدولة، من غير أن ننسى الفكرة الجديدة التي ترى أن القادة ينبغي أن يكونوا تعبيراً عن الإرادة الشعبية، لا عن الحق الإلهي.
وبدأت يومئذ تغيراتٌ كثيرةٌ، تتناول طريقة جديدة لإنشاء الثروات: بعد فكرة المعمل والمصنع. وبسرعة ما اجتمعت العناصر المتعددة في منظومة كلية systeme: تعني الإنتاج الكثيف، والاستهلاك الكبير، وتربية الجماهير، ونشوء الصحف. فهذه كلها حوادث موصولة بعضها ببعض، تقوم عليها مؤسسات متخصصة- كالمدارس والمصانع، والأحزاب السياسية- ومامن شيء، حتى البنية العائلية (الأسرة) ظلّ على حاله: فمن الأسرة الكبيرة ذات النموذج الزراعي، حيث كانت تعيش أجيال كثيرة تحت سقف واحد، مضى الناس إلى الأسرة الصغيرة، أو الأسرة النووية، التي رُدت إلى أبسط تعابيرها، كنموذج للمجتمعات الصناعية.
ولابدّ أن الحياة بدت للناس الذين عاشوا هذه التغيرات المشخّصة، كحياة فوضوية. ومع ذلك فإن كل هذه التغيرات كانت مترابطة فيما بينها، ترابطاً وثيقاً، ولم تكن إلا خطوات بسيطة، إلى الأمام، باتجاه الازدهار الذي سميناه باسم الحداثة، فالمجتمع الصناعي كان يُعبِّر عن الموجة الثانية.
وقد تبدو كلمة "الحضارة" مفرطة الادّعاء. وخاصة بالنسبة إلى الآذان الأمريكية، ولكننا لا نجد كلمة أخرى فيها من الاتساع مايكفي للدلالة على أشياء يختلف بعضُها عن بعض، كالتكنولوجيا والحياة العائلية، والديانة، والثقافة، والسياسة، والأعمال، والتراتب، والسلطة والقيم، والحياة الجنسية، والابيستمولوجيا (المعارفية). وكانت هنالك تغيرات سريعة وجذرية تنشط لعملها في كلِّ هذه الأبعاد الاجتماعية. فإذا أنت غيرت هذا القدر من العناصر الاجتماعية والتقنية، والثقافية، معاً، فإنك لن تحصل على مجرّد انتقال، ولكن تحصل على تحوّل، ولا على مجتمع جديد، بل على الأقٌل، على بداية حضارة جديدة.
ولقد دخلت هذه الحضارةُ بضجيج كبير في أوروبا الغربية، واصطدمت، في كل مرحلة، بمعارضة عنيفة.
الصراع الرئيسي
وقد انفجرت في كل البلاد الماضية في طريق التصنيع صراعات ضخمة، كثيراً ماكانت دموية، بين الجماعات الصناعية، والتجارية، المنتسبة إلى الموجة الثانية، وبين ملاكي الأراضي من المنتسبين إلى الموجة الأولى، والمتحالفين فيما بينهم. وكان ذلك حال الكنيسة (التي كانت تملك ملكيات واسعة). إذ لقد طردت جماعات من الفلاحين من أراضيهم، لكي يصبحوا عمالاً في "المعامل الشيطانية" أو في المشاريع التي كانت تتكاثر في أرجاء البلاد..
وعلى حين أن الحرب انفجرت بين مصالح فئة الموجة الأولى، وفئات الموجة الثانية، وكان صراعها هو الأكبر.كان التوتر الرئيسي الذي تنشأ عنه الصراعات الأخرى- كالإضرابات والتمردات، وثورات المدن، والخلافات على الحدود، والانتفاضات القومية - يمضي متضاعفاً.
وقد تكرر هذا النموذج (هذا المثال) في كل البلاد الماضية في طريق التصنيع، تقريباً، وأرغم هذا التوتر جملة المصالح التجارية والصناعية الشمالية، على الدخول في حرب مدنية مخيفة، من أجل التغلب على المصالح الزراعية في الجنوب. وبعد عدة سنوات فقط، انفجرت ثورة الميجي Meiji في اليابان، ومرة أخرى أيضاً كان النصر للمحدثين من جماعة الموجة الثانية، على التقليديين. جماعة الموجة الأولى.
وقد أدّى انطلاقُ حضارة المرحلة الثانية، بما كان لها من طرق غريبة في خلق الثروات، إلى إشاعة الاضطراب في العلاقات بين البلدان، فأدّى هذا لا إلى فراغات هنا وهناك، فقط، بل أيضاً إلى انتقال للسلطة. ولما كان هذا حصيلة الموجة الثانية من التغير، فإن آثاره استقرت على الشواطئ الشمالية لحوض الأطلسي، بالدرجة الأولى، لأن حضارة هذه الموجة انتشرت عليها، بسرعة أكبر من تلك البعيدة عنها، واحتاجت الدول الأطلسية، تبعاً لدرجة تصنيعها، إلى أسواق ومواد أولية، رخيصة الثمن، في البلاد البعيدة. وهكذا، فإن دول الموجة الثانية، المتقدمة، قامت بحروب، وغزو استعماري، وانتهت إلى إرساء سلطانها على الدول التي بقيت في طور الموجة الأولى، وعلى الوحدات القبلية في آسيا وافريقيا كليهما.
ولقد قام الصراع الكبير- هو نفسه -بين الدول الصناعية، بنات الموجة الثانية، وبين الدول الزراعية، بنات الموجة الأولى، ولكن على مستوى الكرة الأرضية كلها، هذه المرة، لا على مستوى داخل البلاد. وهذا الصراع هو الذي حدّد، آخر الأمر، صورة العالم، حتى عهد قريب. بل إنه هو نفسه الذي رسم الإطار الذي جرت فيه أكثر الحروب.
لكن الحروب القبلية، والحروب حول الأراضي، بين مختلف الجماعات البدائية والزراعية، تتابعت، على ماكانت عليه الحال منذ آلاف السنوات السابقة. ولكن هذه ظلت ثانوية، وأهميتها محدودة، ولم يكن لها من أثرٍ غير إضعاف الأطراف المتنازعة، وجعلها جميعاً فريسة سهلة بالنسبة إلى القوى الاستعمارية الناشئة عن الحضارة الصناعية. وهذا ماحدث، على سبيل المثال، في افريقيا الجنوبية، عندما انتزع Cecil Rhodes (سيسيل ردُوس) وعملاؤه مساحات واسعة من الجماعات القبلية، التي كانت مشغولة بحربها بالأدوات البدائية. وقد قامت حروب كثيرة، ما من صلة ظاهرة لها بعضها بالبعض الآخر، في أماكن أخرى- وكانت بالجملة تعبيراً عن الصراع العالمي الكبير (أو الأكبر) الذي كان يحتم المواجهة، لا بين الدول، بل بين الحضارات.
وكانت أكبر الحروب، وأكثرها قتلاً، في العهد الصناعي، حروباً بين الدول الصناعية نفسِها (مثل بريطاينا وألمانيا) أي بين بلاد كلها من الموجة الثانية. وكانت كلّ واحدة تحارب طمعاً في السيطرة على العالم، على إبقائها وضع شعوب الموجة الأولى، في مواقع ثانوية.
ونشأ عن ذلك تقسيم واضح جداً. ذلك أن العهد الصناعي، قسم العالم إلى قسمين: أي بين حضارة من الموجة الثانية، مسيطرة ومهيمنة من جهة، وبين مجموعة كبيرة من المستعمرات التي بقيت في طور الموجة الأولى، وكانت جماعاتها متحفظة، ولكنها خاضعة، وكثيرون منا عاشوا وكبروا في هذا العالم، المقسّم بين بلاد من الموجة الثانية، وأخرى من الموجة الأولى، ولم يكن هنالك من شك، فيمن يملك السلطة.
أما اليوم فإن شكل الحضارات العالمية قد تغيّر. ذلك أننا نتقدم باتجاه بنى للسلطة، مختلفة تماماً، ستخلق عالماً منقسماً، لابين حضارتين، بل بين ثلاث، متضادة ، أما الأولى فتظل موسومة بسمتها الريفية والثانية تمثّل بسلاسل التركيب chaine de montage وأخيراً. تميز الثالثة بأنها معلوماتية . ( ).
وفي هذا العالم المنقسم إلى ثلاثة عوالم، أي عالم الموجة الأولى الذي يقدم الموارد الزراعية والمعدنية، وعالم الموجة الثانية الذي يقدّم يداً عاملة رخيصة على حين أن قسماً من الموجة الثالثة، مسرعاً في الانتشار، يقيم سلطانه على صُورٍ جديدة من خلق المعرفة واستغلالها.
وتبيع شعوبُ الموجة الثالثة، إعلاماً، وتجديداً، وإدارة، وثقافة عالية، وثقافة شعبية، وتقنية متقدمة وحواسيب وتربية، وتنشئة، وعناية طبية، وخدمات مالية وغيرها. ويمكن لواحدٍ منها أن يكون في آخر المطاف، محمية عسكرية قائمة على امتلاك قوى عظمى من طراز الموجة الثالثة. (وهذا ماتصنعه الشعوب العالية التقدم، للكويت والعربية السعودية وأمثالها من الدول البدائية، أو ما صنعته فعلاً في حرب الخليج، في المرة الأولى عام 1980، والمرة الثانية عام 1998.
الشركات المحجّمة:
إن الموجة الثالثة أنشأت شركات كبيرة على صورة الإنتاج الكثيف الذي كان ضرورياً لها أما في اقتصاديات الموجة الثالثة، التي تقوم على الذكاء، فإن الإنتاج الكثيف الذي يمكن عدُّه بمثابة العلامة المميزة للمجتمع الصناعي- قد أصبح شكلاً أكل الدهر عليه وشرب. لكن الإنتاج المحجّم - أي المشكّل من منتجات مشخّصة بدرجة عالية، في مجموعات صغيرة- هو أداة الانطلاق للصناعة الحديثة. وهكذا يمحّي التسويق أمامَ تجزؤ السوق "أو التسويق المصغر"، على صورة التغيرات التي تحلّ في الإنتاج. ونرى الرجال الضخام الذين عرفوا في العهد الصناعي، ينهارون تحت ثقلهم نفسه. وهم مهدّدون بالقضاء عليهم. وكذلك فإن النقابات العائدة لقطاع الصناعة الكبرى تنكمش وتنحسر. وفي الوقت نفسه يتحجم الإعلام بصورة موازية للإنتاج، و تتقوقع شبكات التلفزة، أمام تكاثر الشبكات الجديدة. وحتى الأسرة نفسها فإنها تتحجّم هي أيضاً، إذ أن الأسرة النووية التي كانت فيما مضى، الشكل العصري للأسرة، تصبح شكلاً خاصاً بالأقلية، على حين أن الأسرة الوحيدة القرابات، والأزواج المزواجين( ). تتكاثر وتكوِّن الأسرة التي لا تعرف الأطفال، وجماعة العزاب، هي التي تحل محلها.
وهذا يعني أن البنيية الاجتماعية كلها تتغير وبدلاً من التجانس المميّز لمجتمع الموجة الثانية، سيتم اللاتجانس لحضارة الموجة الثالثة. وهكذا يتم انتصار التحجيم على ماكان موجوداً من التضخيم.
ثم إن تعقيد النظام الجديد يقتضي بدوره مبادلات في الإعلام، تزداد كماً، بين مختلف وحداتة: أي الشركات والإدارات العامة، والمشافي والمؤسسات الأخرى، والأفراد، وهذا يقتضي نشوء حاجة كبيرة للحواسيب وللاتصالات البرقية بالأصابع، ولشبكات اتصال، ووسائل إعلام جديدة.
وفي الوقت نفسه، نجد أن نسق التغيير التقني، والمعاملات التجارية، والحياة اليومية، يتسارع. والواقع إن اقتصاديات الموجة الثالثة تمضي بسرعةٍ، يجد الممولون عناءاً في متابعتها. وأكثر منذ ذلك، أنه على حين أن الأعلام يَحلُّ مَحَلَّ المواد الأولية، أكثر فأكثر، ومحل اليد العاملة، ومحل الموارد الأخرى، فإن بلاد الموجة الثالثة ستكون أقل تبعية من أمثالها التي عاشت أيام الموجة الأولى والثانية، وهي تتعامل. بعضها مع بعض، أكثر فأكثر: وفي آخر الحساب، سنلاحظ أن تكنولوجيتها الرأسمالية العالية، والقائمة على المعرفة، ستؤدّي المهمات التي تقوم بها اليوم بلاد اليد العاملة الرخيصة، وستؤديها بصورة أفضل، وبسرعة أكبر، وبثمن أرخص.
وبتعبير آخر، نقول إن هذه التغيرات تهدّد بقطع عدد من العلاقات الاقتصادية الحالية القائمة بين الاقتصادات الغنية والفقيرة.
أما الفصل الكامل، فإنه مستبعد. ذلك أن من المستحيل منع التلوث، والمرض، والهجرة من دخول بلاد الموجة الثالثة. وكذلك فإن البلاد الغنية لا يمكنها أن تبقى إذا قامت البلاد الفقيرة، بحرب بيئية ضدها، أي إذا هي سلكت تجاه بيئتها سلوكاً ضاراً بالجميع. ولهذه الأسباب كلها، نجدُ أن التوترات تستمر في التصاعد بين حضارة الموجة الثالثة، وصورتي الحضارة الأقدم منها، وستضطر الحضارة الجديدة للحرب، لكي تضمن سيطرتها على الكرة الأرضية، على مثال جماعة الموجة الثانية، في مجابهتها للمجتمعات السابقة للحداثة، أي مجتمعات الموجة الأولى، أثناء العصور السابقة الماضية.
ومتى فهمنا جيداً فكرة صدمة الحضارات، وجدنا أنها تساعدنا على استخلاص معنى جملة من الحوادث الغريبة: مثل استفحال النزعة القومية. فالفكرة القومية هي إيديولوجية الدولة - الوطن، التي هي إحدى نتائج الثورة الصناعية. وهكذا فإن المجتمعات الزراعية، في الحين الذي تحاول فيه بدء أو إنهاء تصنيعها، نجدها بحاجة إلى سمات الأمة وأبهتها. وهكذا نرى الجمهوريات السوفييتية، مثل أوكرانيا، واستونيا، وجورجيا، تطالب بعنف باستقلالها الذاتي، وتحرص على علامات حداثة الأمس: كالأعلام الوطنية، والجيش، والعملة، والقطع النادر، التي كانت تُعرَّف بها -الدولة- الوطن، في فترة العهد الصناعي أو فترة الموجة الثانية. ( )
وكثيرون في عالم التكنولوجيا المتقدمة، يجدون عناءاً في فهم دواعي هذه المبالغة في الشعور الوطني، ومشاعر الوطنيين. ومن الناس من يتهكم علىوطنيتهم، المترعة بالكبرياء. ويدعنا هذا نفكر بالفريدونيا Freedonia ، في حساء البط التي كتبها الأخوان Marx Bralhers والتي تهزأ بفكرة التفوق القومي، في الحين الذي يكون فيه شعبان وهميان يمضيان إلى الحرب، الواحد ضد الآخر.
وعلى نقيض القوميين الذين لا يفهمون أن تدع بعض البلاد بلاداً أخرى، تنتهك استقلالها المزعوم أنه مقدّس يظل ويبقى صحيحاً أن "العولمة" عولمة الأعمال والقضايا المالية التي يقتضيها انطلاقُ اقتصادات الموجة الثالثة، قليلة المبالاة بالسيادة الوطنية، العزيزة جداً على القوميين الجدد.
وعلى حين أن الموجة الثالثة تغيّر عالم الاقتصاد، فإن الاقتصادات مرغمة على ترك جزء من هذه السيادة، وقبول التسللات الاقتصادية والثقافية المتزايدة من قبل زملائها. وهكذا، فإنه في الوقت الذي نجد فيه الشعراء والمثقفين في المناطق المتخلفة اقتصادياً، ينشدون أناشيد وطنية، فإن الشعراء والمثقفين في دول الموجة الثالثة، يتغنون "بفضائل عالم" لا حدود فيه. "لكن الاصطدامات التي تنشأ عن ذلك، تبعاً لصورة الحاجات المتباينة أصلاً، بين حضارتين مختلفتين اختلافاً أساسياً، يمكنها أن تثير في السنوات القادمة، واحداً من أسوأ حمامات الدم المعروفة.
ولئن كانت إعادة تقسيم العالم ذي القسمين إلى عالم ذي ثلاثة أقسام تبدو أقل وضوحاً في فترتنا هذه، فإن السبب في ذلك، بسيط: ذلك أن انتقال اقتصادات القوة الخام، النموذجية في عالم الموجة الثانية، إلى اقتصادات الموجة الثالثة، القائمة على القوة الدماغية، لم تكتمل في أي مكان.
وحتى في الولايات المتحدة وأوروبا واليابان، سنجد المعركة الداخلية من أجل السلطة، بين نخب عالم الموجة الثانية، والموجة الثالثة، لم تنته بعد. إذ يبقى أو مايزال يبقى قطاعات إنتاج هامة، ومؤسّسات من عالم الموجة الثانية، على حين أن اللوبيات السياسية لهذه الموجة نفسها، تظل تحرص كل الحرص على السلطة.
ولنشر إلى أن "اختلاط" عناصر الموجة الثانية والثالثة في كل البلدان "ذات التقنية العالية"، يضفي على كلّ منها، "تنشئته المتميزة. ومع ذلك فإن المسارات ليست أقل وضوحاً. وسيكسب السباق العالمي، المتزاحم، تلك البلاد التي تستكمل تحوّلات الموجة الثالثة، بأقل مايمكن من الاضطرابات الداخلية.
وبانتظار ذلك، فإن الانتقال التاريخي من عالم ذي قسمين إلى عالم منقسم ثلاثة أقسام، يمكنه أن يثير في الأرض صراعات هائلة، من أجل السلطة، من حيث أن كل بلد يحاول أن يُقيم وضعه في البنية الجديدة ذات الثلاثة أدوار التي تلوح أمامه. ومن وراء إعادة التوزيع الضخمة جداً للسلطة، يلوح في الأفق تغيّر في دور المعرفة، ومعناها وطبيعتها.






















الفصل الثالث
البديل الأخير
إن كل شخص يقرأ هذه الصفحة، يملك قدرةً مدهشة جداً. إنه يعرف القراءة. ولقد اتّسع نطاق التعليم اتساعاً يحملنا على التذكر بأننا جميعاً، كان لنا أجداد أميون: لم يكونوا أغبياء، ولا جهلة، ولكنهم كانوا "غير متعلمين".
ولم يكن أجدادُنا أميين فقط، بل كانوا أيضاً لا يعرفون من الحساب شيئاً، وكانوا عاجزين أيضاً عن القيام بأبسط العمليات الحسابية، وأولئك النادرون جداً، الذين يحسنونها، كان يُنظر إليهم "كأناس خطرين". ويُروى عن القديس أوغسطين، نصٌّ أو كلام مستغربٌ جداً، يؤكد بأن علىالمسيحيين أن يبتعدوا عن أولئك الذين يعرفون الجمع والطرح، هؤلاء بلا أدنى ريب، قد عقدوا حلفاً مع الشيطان" وكان يجب أن ننتظر ألف سنة لكي يظهر أوائل "معلّمي الحساب"، والذين يهيئون تلاميذهم، لمهن تجارية.
إن هذه الأمثلة، توضح أن أبسط القدرات، المفروض توفرّها تلقائياً، في الحياة الاقتصادية الحالية، كانت ثمرة قرون وآلاف السنين من النمو الثقافي المتراكم. وهذه المعرفة، التي وُرثت عن الصين، والهند، والعرب، وعن طريق التجار الفينيقيين، كما نقلت عن طريق الغربيين، جزء لا يتجزّأ، ولو أنه لا يُعترف به عادة، من التراث الذي يستخدمه اليوم أفراد وقادة للعالم كله، وفي كل جيل، كان بعض الناس يتعلمون هذه الطرائق، ويلائمون بينها وبين حاجات زمانهم، وينقلونها، وينشئون بالتدريج، بناءً شامخاً بالاعتماد على النتائج التي توصلوا إليها.
وتقوم الأنظمة الاقتصادية كلُّها على "قاعدة للمعرفة". ومامن مشروعٍ يمكن أن يوجدَ من غير هذا الوضع السابق في الوجود، الذي أنضجه المجتمع. وخلافاً لرأس المال، والعمل، والأرض، لم يهتم علماء، الاقتصاد، كما هي الحال مع مديري الأعمال، بهذا العنصر المعرفي، وخاصة عندما يحسبون "رأس المال" الضروري للإنتاج. بيد أن هذا العنصر - الذي اكتسب مقابل أجر بالنسبة لبعض الناس، ومجاناً بالنسبة لبعضهم الآخر- قد أصبح الآن، العنصر الأهم من كل عنصر آخر.
واليوم، انتهى بنا الأمر إلى نقطة من نقاط التعجب التي تَبرزُ من حين لآخرَ في التاريخ، أي في لحظةٍ من اللحظات التي تختفي فيها الحدود القديمة، وتهتز فيها مرة أخرى، بنيةُ المعرفة، فنحن لم نعد نكتفي بمراكمة إضافية “"للوقائع" ، مهما تكن طبيعة هذه الوقائع، كما أننا نعيدُ النظر في بنية المشاريع، وفي اقتصاديات كاملة، ونحن الآن في الطريق إلى إعادة تنظيم إنتاج المعرفة، وتوزيعها، وتحويل الرموز التي تصلح لنشرها.
تُرى ما الذي يعنيه هذا كله؟! إنه يعني أننا ننشئ شبكات جديدة للمعرفة، ونصل المفاهيم بعضها ببعض، بعلاقاتٍ مدهشة، ونبني تراتب استنتاجات غريبة، وننضج نظريات جديدة، وفرضيات وصوراً نقيمها على موضوعات مجدِّدة، وعلى لغات جديدة، ورواميز وأنظمة منطقية. فالمشاريع، والدول والأشخاص يجمعون ويحفظون اليوم من الوقائع الخام أكثر بكثير من أي جيل عرفه التاريخ.
وهناك شيءٌ آخر أكثرُ أهمية: فنحن ننشئُ بين المعطيات علاقاتٍ متبادلة، أكثر عدداً، ونضمُها في إطارٍ ما ونحولها إلى إعلام، ثم نجمع مختلف كتل الإعلامات هذه، لكي نبني نماذج أكثر فأكثر اتساعاً، وبنى هندسية حقيقية للمعرفة.
لكن المعرفة الجديدة ليست دوماً من نظام الوقائع، ولا هي ظاهرة، بالمعنى الذي نستخدم فيه هذه الكلمة، بل إن النظام الذي نتحدث عنه، يظلُّ إلى حد كبيرٍ غير مقول: ويتعلق الأمر عندئذٍ بموضوعات تتراكم فوق موضوعات أخرى، ونماذج مجزأة ومشابهات غير ملحوظة؛ ولا يتضمن هذا المجموع معطيات إعلامية فقط، أو منطقية، من غير وزن عاطفي، في الظاهر، بل يتضمن أيضاً قيماً. وهذه إنما تنشأ عن الهوى والهيجان إذا لم نقل شيئاً عن الخيال والحدس.
إن هذا الانقلاب الضخم، انقلاب قاعدة المعرفة في مجتمعنا - ليس بأثر تخدير ناشئ عن الحواسيب، ولا بأثر تلاعبات مالية- بل هو تلك المعرفة التي تشرح تنامي اقتصادٍ عالي الرمزية، هو اقتصاد الموجة الثالثة.
خيمياء الإعلام
كثيرةٌ -بين التغيرات التي تتدخل في منظومة المعرفة- هي تلك التي تترجم مباشرة في عمليات اقتصادية، ثم إن منظومة المعرفة أكثر حضوراً، عالمياً، في محيط كلِّ مشروع، من النظام المصرفي، والسياسي، أو نظام الطاقة، من حيث هي كذلك.
وبغض النظر عن أنه ليس هناك من مشروع يستطيع أن يفتح أبوابه في غياب اللغة والثقافة ومعطيات الإعلام، فإنه يجب -وبصورة أعمق- أن نفهم أن -بين كل العناصر الضرورية لخلق الثروة- لا يوجدُ ماهو أيسرُ للتلاؤم مع مختلف صور الاستخدام- من تلك التي أشرنا إليها (أعني اللغة والثقافة ومعطيات الإعلام). والحقيقة أن المعرفة التي كثيراً ما تردُ إلى إعلامنا أو إلى معطيات خام، يمكن أن تقوم مقام موارد أخرى كثيرة.
ولننظر إلى الانتاج الكثيف، إنتاج الموجة الثانية. ففي أكثر المعامل القديمة كان من المكلف جداً أن نغيِّر أي شيء ننتجة عادة، وكان يجب لذلك، صناعُ أدوات، ومنظمات، واختصاصيون من ذوي الأجور العالية؛ كانت العملية تقتضي تجميداً طويلاً للمعمل، تكون المكنات أثناءه في حالة الراحة، وتصبح بذلك عبئاً على رأس المال، وتكلفة دفع فوائد ونفقات عامة أخرى باهظة، وعلى ذلك، فإنه كلما كانت مجموعة المنتجات أكثر تماثلاً، كان سعر التكلفة أقل. وهذا ما نشأت منه نظرية "اقتصادات السُلم” أو المدرج. (Economie ol echelle)
غير أن التكنولوجيا تقلب، قلباً كلياً، نظريات الموجة الثانية. وبدلاً من الانتاج الكثيف، صرنا نتجه نحو الانتاج القليل الذي يعبر عن نفسه بتفجر المنتجات أو الخدمات، في كل شيء، أو بصورة جزئية على القياس. وقد أصبح بالإمكان بفضل التقنيات الحديثة، التي يساعدها الحاسوب، أن ننتج أنواعاً كثيرة بأرخص كلفة.
والواقع أن التقنيات الحاسوبية تهدف إلى جعل كلفة الإنتاج المتنوع، ضئيلة جداً، وردّ دور اقتصاد السلّم( ) الحيوي سابقاً إلى حدّه الأدنى.
ولنأخذ المواد (الأولية). فإذا نحن طلبناها من حاسوب logicel ذكي أمكنه أن يستخرج من كمية معينة من الصلب، عدداً من القطع المفردة، أكبر مما يستطيعه أكثر المختصين العاديين. ومن ناحية أخرى، نجد أنه كلّما كان التصغير ممكناً، استطاعت المعرفة أن تعطي منتجات أصغر حجماً وأخف وزناً، مما يخفف من أعباء الخزن والنقل، ويحقق عندئذٍ أصحاب العلاقة توفيرات أكبر، في عمليات النقل، وفي متابعتها على خطوط النقل، دقيقة فدقيقة. وهذا يعني تحسين الإعلام. وتتيح لنا المعرفة الجديدة، أن ننشئ مواد جديدة تماماً، كالأليات المتعددة العناصر، المعدّة لإنشاء الطائرات أو المنتجات البيولوجية؛ وهي تزيد إمكانية التعويض عن مادة بمادة أخرى. بل إن تقدّم المعرفة يسمحُ لنا بإنشاء تركيبات ذرّية (أو جزيئية) على القياس، ذات مميزات حرارية، أو كهربائية، أو ميكانيكية، سبق تحديدها..
والسبب الوحيد الذي يرغمنا على نقل كميات ضخمة أولية مثل البوكسيت، والنيكل أو النحاس، من مختلف مناطق الأرض، هو أننا لم نكتسب بعدُ تلك المعرفة الضرورية، لإنتاج بدائل قابلة للاستخدام من مواردنا المحلية.. وعندما يستطاع تخطي العقبات، فإنه سينشأ عنها توفيرات كبيرة في أجور النقل. وخلاصة القول: إن الحصول على هذه المعارف يقدِّم لنا بديلاً للمواد الأولية، والسفن التي تنقلها.
ولا يختلف الأمر في هذا القسم الآخر الذي نسميه الطاقة. فلاشيء يوضح هذا أكثر من قدراتنا الجديدة على معرفة صور الاستبدال، يدلّ على ذلك تلك الاكتشافات التي تحققت حديثاً في مجال قابلية النقل العالمية، وهذه اكتشافات ستقدّم لنا، على الأقل، قدرةً على اختزال الطاقة اللازمة للنقل، بالنسبة إلى كل وحدة من المنتج.
ولا تقدّم المعرفة بدائل عن المادة الأولية ووسائل النقل، في مجال الطاقة فقط، بل إنها توفّر علينا الوقت. وحتى إذا كانت قيمة الوقت لا تظهر في أي جدول من جداول الحسابات، إلا أن ذلك لا يحول دون أن يكون هذا الوقت أحد المصادر الاقتصادية الأكثر أهمية. والحقيقة أنه يؤلف "مدخلاً" غير مرئي. وعندما تتسارع التغيرات- في وسائل الاتصال مثلاً- أو في إنتاج مادة جديدة، فإن الوقت يصبح عاملاً حاسماً بدرجة يعوِّض فيها عن الخسارة، إذا كان لابدّ منها، ويُكسَبُ فيها ربح يُستقبل بكثير من الارتياح.
إن المعرفة الجديدة تُضاعف سرعةَ العمليات، وتقربنا من فعالية اقتصادية، في زمن فعلي، وشبه فوري، وكذلك فإنها تقدم بديلاً عن نفقات الزمن (إنفاق الوقت).
ثم إنها تقتصد المكان: وتسيطر عليه فقسم النقليات في شركة الجنرال الكتريك، تنشئ قاطرات. وعندما بدأت باستخدام تقنيات متقدمة للمعالجة المعلوماتية، والاتصالات في علاقاتها مع المموّنين، استطاعت أن تضمن دوراناً للبضائع المختزنة بسرعة توازي اثنتي عشرة مرة أكثر من ذي قبل، كما أنها وفرّت على نفسها إشغال نصف هكتار من سطوح التخزين.
وبغض النظر عن التصغير ومايتحقق من فراغ في الأمكنة، فإن هناك أرباحاً أو توفيرات أخرى ممكنة، إذ أن تقانات الإعلام المتقدمة، بما في ذلك القراءة الإلكترونية، تحملنا على الأمل على الأقل بشيء من الضغط Compression والشي الأكثر أهمية، هو أنّ الإمكانيات الجديدة من قطاع الاتصالات الهاتفية المستندة إلى الحواسيب، والتقدم العلمي الجديد (أو المستجدات العلمية) تسمح لنا، منذ الآن، بجعل الإنتاج في نجوة من التكاليف الباهظة للمراكز المدنية، وبالتالي، إقلال النفقات في الطاقة والنقل.
المعرفة في مواجهة رأس المال
كُتب الكثير حول التعويض عن الجهد الإنساني بالتجهيزات المعلوماتية بحيث أننا كثيراً ما نجهل التعويض المقابل عن رأس المال. بيد أن كل التطبيقات المشار إليها أعلاه، تترجم أيضاً، بتوفيرات في رأس المال.
وبمعنى ما، يمكن القول إن المعرفة تُمثِّل، على المدى الطويل بالنسبة للسلطة المالية، تهديداً أخطر بكثير من النقابات العمالية أو الأحزاب السياسية المعادية للرأسمالية. ويمكن القول نسبياً إن الثورة المعلوماتية (أو الإعلامية informatique) تؤدي إلى التقليل من الحاجة إلى رأس المال، إذا حُسِبَ ذلك على أساس الوحدة. وعندما يكون الاقتصاد رأسمالي النزوع، فإن آثاره تكون ذات أهمية أساسية.
ونذكرُ على سبيل المثال، إن فيتوريو ميرلوني VITTDRIO MERLONI (64 سنة) يملك شركة تنتج 10% من جملة مكنات الغسيل، وال****** (البرادات)، والأجهزة المنزلية، التي تباع في أوروبا. أما منافسوه الكبار فإنهم يُسمون Eleelectrolu في السويد، وفيليبس في هولندا (أي شركات كبيرة جداً وعظيمة رأس المال)..
ويرى هذا الرجل أن صُوَرَ التقدم والاقتصاد الحديثة في البلاد يقودُنا إلى إلى صنع الأشياء نفسها، ولكن برأسمال أقل مما كان من قبل. وهذا يعني أن بلداً فقيراً يستطيع تدّبر أموره، بنفس الموارد، بأحسن بكثير مما كان قبل خمس سنوات أو عشر.. (أي أنه ينتج الكثير برأسمال أقل مما كان يحتاج إليه من قبل، بسبب ذيوع المعلوماتية).
ويضيف الرجل قائلاً: إن السبب هو أن التقانات القائمة على أساس المعرفة نتيح الإقلال من رأس المال الذي كان ضرورياً من قبل، لإنتاج ال****** أو الجلايات أو المكانس الكهربائية.
وفي المقام الأول، نقول إن الإعلام يَحُلُّ محَلَّ المخزون من البضائع ذات الكلفة العالية. فالإعلام السّريع والأفضل يختزل زمن القدرة على التصنيع طبقاً لحاجات السوق، ويسمحُ بالإنتاج على صورة مجموعات صغيرة، ويختصر كمية المخزون من المواد الضرورية للتصنيع الكامل، والتي كثيراً ما تنتظر من يستخدمها، إما في المستودعات، أو على خطوط المرائب. وقد قلّت نفقات التخزين بنسبة 60% وهي نسبة مدهشة.
ولقد صار ميرلوني هذا مثالاً يحتذى في الولايات المتحدة واليابان وأوروبا، حيث تستطيع كل الشركات، بفضل الأنظمة المعلوماتية informatiques أن تسلّم بضائعها في الوقت الذي يكون فيه الزبائن محتاجين إليها، متخففة عندئذ من مخزونها.
وبغض النظر عن أن هذه الطريقة تقتضي مساحة أو مجالاً أقل، أو تُقلل من نفقات عقاراتها أو مخزوناتها المشار إليها أعلاه، فإن هذا التخفيف من المخزونات يسمحُ بتقليل الضرائب والتأمينات، والنفقات العامة.
ويشرحُ ميرلوني نظرتيهُ قائلاً: "وحتى إذا كانت الكلفة البدئية بالحواسيب، وLogiciels والإعلام، والاتصالات الهاتفية، مرتفعة، فإن الاقتصاد العام (في النفقات) الناشئ من ذلك، يتيح لشركته أن تقوم بالأعمال نفسها، برأسمال أدنى.
ويُعبّر ميخائيل ميلكين الذي يعرف هذه القضية بما لها من خير وشر، عن نفس الفكرة بثماني كلمات، إذ لقد قال: "إن رأس المال الإنساني حل محل رأس المال -بالدولارات".
وبحكم أنَّ هذه الطريقة تقلل الحاجة إلى المواد الأولية، والوقت، والعمل، والمجال، ورأس المال، فإن المعرفة تصبح البديل النهائي: أو المصدر الحاسم للاقتصاد المتقدم. وهكذا نجد قيمتها (قيمة المعرفة) ترتفع أكثر فأكثر.

المصدر: ملتقى شذرات

__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية

الكلمات الدلالية (Tags)
المندب, الثالثة, الفين, توفلر, جديدة, حضارة, سياسة, إنشاء, وهايدي


يتصفح الموضوع حالياً : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
أدوات الموضوع

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


المواضيع المتشابهه للموضوع إنشاء حضارة جديدة سياسة الموجة الثالثة .. الفين وهايدي توفلر ج1
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
توفلر... إننا نعيش اليوم حضارة الموجة الثالثة Eng.Jordan مقالات وتحليلات مختارة 1 11-14-2016 06:46 PM
رحيل ألفين توفلر أشهر علماء الدراسات المستقبلية Eng.Jordan مقالات وتحليلات مختارة 0 11-14-2016 02:17 PM
إنزال بري مصري عند باب المندب عبدالناصر محمود أخبار عربية وعالمية 0 03-28-2015 07:21 AM
إنشاء جمعية إسلامية جديدة عبدالناصر محمود المسلمون حول العالم 0 04-30-2014 08:25 AM
حضارة الإسلام Eng.Jordan دراسات ومراجع و بحوث اسلامية 0 03-30-2013 08:03 PM

   
|
 
 

  sitemap 

 


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 05:56 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.12 by vBS
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والمشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59