العودة   > >

رواق الثقافة معلومات ومواضيع فكرية وأدبية وعلمية منوعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع
  #1  
قديم 03-25-2013, 09:58 AM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,419
افتراضي الخلافة العباسية


العصر العباسي وخصائصه
العصر العباسي وليد ظروف سياسية واجتماعية بعيدة في التاريخ , يرجع بعضها إل ما قبل الإسلام , وهذا عرض موجز لها , لتبيان أثرها على العصر العباسي نفسه.
تنازع زعامة حلف قريش ودار الندوة بنو هاشم وبنو أمية , منذ عبد الدار وعبد مناف . وكانت صلاحية رئاسة دار الندوة تؤول إلى هؤلاء أو أولئك أو توزع بينهم حسماً للخلاف . حتى جاء الإسلام – وكان الزعيم أبو سفيان من بني أمية – فقضى على تلك الزعامة , ودعا إلى وحدة الأطراف , ليسهموا في بناء دولة واحدة . ولكن النزاع استؤنف بعد النبي فآلت الخلافة إلى غير بيتي هاشم وأمية وولاهم معظم الولايات . فلما كانت خلافة علي استبعد أولئك الولاة , وكان ما كان من أمر الصراع بين علي ومعاوية , واغتيال علي , وخلافة الحسن , ثم تسلم الأمويين زمام الأمور , وبناء الدولة الأموية التي بلغت الصين وشمال أوربا وغربها .
لم تهدأ ا لثورات والحركات المناوئة , طوال العهد الأموي . وكان في رأس الحركات , حزب أبناء علي , والخوارج , والفرس الذين هدم العرب أركان دولتهم بعد أن استعمرت جزءاً من أرضهم أجيالاً .
على أن أخطر الجميع الفرس , فقد نظموا أنفسهم ووضعوا الخطط المتعددة واستغلوا أحقادها ضد بني أمية .
أدرك الفرس من أبناء علي , إذا بلغوا السلطة , كان حكمهم عربياً صرفاً , وأن العباسيين طامعون في السلطة , ولكن القوى الشعبية في أيدي أبناء علي , فدفعوا بالعباسيين إلى المقدمة , وهم يدركون أن هؤلاء غير قادرين على الاستمرار إلا إذا استندوا إلى الفرس . وهكذا استبد أبناء علي وولي أبو العباس الخلافة , يسيره الفرس , ويحكمون فعلياً باسمه , ويقضون ع لى المناوئين , وخاصة العلويين الذين تحولوا إلى المعارضة والمطالبة بالخلافة , فقضى الفرس على الكثيرين منهم , ولعل أقسى مجزرة ما حدث في الموصل , فقد استباحها جيش من الفرس والزنج ثلاثة أيام , وقتل فيها نصف مليون عربي .
لما كان عهد أبي جعفر استبعد الفرس , فحاولوا اغتياله أكثر من مرة , ولم يفلحوا وأعدوا العدة للاستقلال بفارس , بقيادة أبي مسلم , فاحتال عليه أبو جعفر وقتله , والحادثة مشهورة في كتب التاريخ .
وقد اغتال الفرس الهادي والمهدي من بعد أبي جعفر , واستطاعوا السيطرة ثانية على السلطة إبان الفترة الأولى من عهد هارون الرشيد , الذي كان شبه معتقل في قصره, فقد وضعوا دونه الحجاب والحرس , إذا كان في القصر ألف جندي فارسي , بحجة حمايته وعشرون ألف في بغاد وقرابة نصف مليون جندي غير بعيد منها .
فلما حج الرشيد عاد إلى الرقة ليستقر فيها , ريثما أعد العدة للقضاء على البرامكة. ولكن الفرس سيطروا ثانية إذا دعموا المأمون ضد الأمين , وقد قتل في المعركة ولم يتخلص المأمون من سيطرتهم إلا بعد زمن , حين قضى على عدد من زعمائهم وبينهم و زيره الفضل بن سهل .
شاء المعتصم أن يخلص من هذا الصراع فاستعان بالترك , الذين جروا على الدولة مآسي لا تحصى بينها اغتيال المتوكل .
وانتهت هذه المرحلة بسيطرة البويهيين على الخلافة , عصر الدويلات , وظلت الحال كذلك حتى انهارت الخلافة العباسية نهائياً .
الفرس والشعوبية :
منذ عهد أبي جعفر اتضح الصراع : كان بين العرب والفرس , ولعل من أخطاء الحركة العلوية أنها كانت كلما أقصى الفرس عن الحكم , تعاونت معهم , فاستغلوها ليبلغوا مقاصدهم من السيطرة على الخلافة , ثم قضوا على زعمائها . وأوضح مثال على ذلك قتلهم زعماء الحركة الإسماعيلية , بعد أن كانوا من دعاماتها , ولم يهرب من زعمائها إلا ثلاثة , رحلوا متخفين , اثنان إلى اليمن, والثالث إلى المغرب , وقد أسس الدولة الفاطمية . قد يسأل سائل : ( لم لم يتسلم الفرس الحكم مباشرة ؟ لقد فكر بعضهم في ذلك , ولكن الغلبة كانت لرأي القائلين بالحكم من وراء ستار , خوف تأليب العرب عليهم .
ومنذ ذلك العهد دعيت الحركة الفارسية بالشعوبية , نسبة إلى زعمها أن العرب أدنى الشعوب حضارة ومعرفة .
قام للشعوب دعاة , لعل من أبرزهم ابن المقفع , كانت الحركة الفارسية تستقدم الأذكياء , وتعلمهم العربية ليثبتوا أنهم قادرون على التفوق على العرب في لغتهم ذاتها.
وطرح مفكروهم قضايا كثيرة , هدفوا منها إلى إلهاء المفكرين والشعب عن القضايا الأساسية , وأسهموا بذلك في زعزعة الركائز الفكرية والعقائد , فنجمت الفرق المتعددة , السياسية والدينية .
ولم يستثنوا الدين من خطتهم , فقد عملوا على خلق التشكيك , باسم حرية الرأي التي بلغت الأوج , تلك المرحلة .
وفطنوا إلى الخلق العربي , فجعلوه مجال جدل ليقضوا على الروابط الخلقية وزعزعة الشخصية العربية في بنيتها , واستقدموا بدعاً , من أسوئها الشذوذ ا لخلقي الذي انبثق منه الغزل المذكر . وإن يكن من أخذ به قلة .
لعل مما ساعد الفرس على بذر التفرقة وتشويه الخلق والشخصية , جو الترف الشامل , وخاصة في العاصمة مركز النشاط السياسي والفكري والاجتماعي والاقتصادي. فلقد تسلم العباسيون الحكم والدولة العربية تحكم معظم العالم المعروف حتىذلك العهد فتدفقت الأموال على مركز هذه البلاد الشاسعة , وأثرى الناس فانصرفوا إما إلى العلم , وإما إلى البذبخ والترف في الملبس والمأكل والشراب .
وابتنوا القصور , وأقاموا الحدائق حولها , واقتنوا الجواري والعبيد , وتفننوا في الطرب , وولعوا بالعزف , وتهادوا المغنيات والمغنيين , وأحلوا بعضهم مقام رفيعاً من مجالسهم وتبارى الأمراء والقادة في ذلك اللون من العيش , وجارى بعضهم بعضاً في اعتقال النفيس من التحف . وكان في مقدمة الباذخين البرامكة , فكانوا قدوة يحذو حذورها الآخرون ؛ وانعكس أثر هذه الحياة على العامة , فصار بسطاء الحال يقلدونها, حتى كانت سبباً في فقر بعضهم .
الحريات :
وتمتع الناس بحرية مطلقة في الفكر والعيش , إلا من قيود ضرورية كانت المناقشات علنية حول الدين والخلق والمعارف , حتى صار المانوي يجادل المسلم في حلقات الدراسة , أو الجوامع , أو على صفحات الكتب , وبلغ من حرية الرأي أن تباينت الشروح التي وذعت للمبادئ الدينية تبايناً شديداً .
وغدت الخمر جزءاً أساسياً من مجالس الأمراء والقادة , يتغنى بها الشعراء , ويغني لها المغنون , ولكن بعض القيود ظلت تفرض على شرابها , وليس صحيحاً ما ورد في كتاب المرحوم الأستاذ رئيف خوري , وما أخذه عنه عدد من مؤلفي الكتب المدرسية , من قيام حانات عامة يرتادها الناس , وتغني فيها القينات , وترقص الراقصات ومن يرجع إلى شعر أبي نواس يدرك ما كان وصحبه يلقون في البحث عن خمارة سرية . وليس صحيحاً كذلك ما قيل عن هارون الرشيد وفسوقه وشرابه ومنادمته أبا نواس . ومن يرجع إلى ديوان أبي النواس , يدرك أنه لم يمدحه إلا نادراً وبرجاء من الأمين . وما قيل عنه , إن هو إلا إشاعات أطلقها الفرس لتشويه سمعته , واستند إليها كثيرون دون تمحيص .
التجارة :
بلغت التجارة , هذه المرحلة , مبلغاً عظيماً , وكانت البلاد العربية , مركزها , تتنقل القوافل والسفن من موانئها وحواضرها إلى كل أطراف العالم المعروف , وتعود إليها بنتائج تلك البلاد . وكان موانئ البصرة والخليج العربي , والمغرب والأندلس محط أنظار التجار قاطبة . وما ساعد على ازدهار التجارة أن العرب كانوا مسيطرين على البحار وطرق القوافل , وأنهم عملوا على حياتها بوسائل حديثة بالقياس إلى ذلك العصر.
الصناعة :
أما الصناعة التي كان ينظر إليها العرب قديماً نظرة احتقار , فقد أخذوا بها ونقلوا ما عرف قبلهم عن أخلاط المعادن , وحرفة النسيج , وصنع أدوات الحرب , ووسائل البناء وما إليها , فاتقنوا كل ذلك وطوروه وبرعوا فيه . ولعل تقدمهم في علم الكيمياء سهل عليهم ذلك , فهم أول من وضع علم الكيمياء في طريقه العلمية , إذ حولوه من معارف حول أخلاط المعادن , إلى علم معادلات ورموز .
الزراعة :
كذلك شأن الزراعة , فقد استصلح العرب الأرض وشقوا الترع , وفتحوا الأقنية وعنوا بالينابيع واستغلوا مياهها في الري , حتى تحولت بعض البوادي إلى جنات ورياض , فكثرت الغلال , وحملتها القوافل والسفن إلى أقاصي الأرض .
نشأت من هذا التطور طبقتان , تتميز إحداهما بالثراء الفاحش , والثانية بالعوز وقامت فئات عملية وخاصة في الموانئ , اعتمدت عليها بعض الحركات السياسية وخاصة القرامطة .
العلم :
ما لا ريب فيه أن تطور العلم ساعد على ذلك . نقل العرب عن غيرهم كل ما أثر من العلوم , في الطب والفلك والحساب والفيزياء والكيمياء , وما إليها , وأبدعوا علم الجبر , وخطوا للكيمياء طريقها العلمية , واستخدموا الصفر في الحساب فأحدثوا تطوراً ضخماً في هذا العلم . وطوروا العلوم جميعاً , وأقاموا لها المدارس , وافتتحوا المختبرات لكل طالب علم مجاناً , ووضعوا الكتب المطولة , حتى بلغوا في ذلك كله ما لم يبلغه أحد من قبل , والحق , أن الحضارة العربية آنذاك كانت الحضارة الوحيدة المزدهرة , بينما كانت شعوب أوربا عامة تعاني وضعاً بدائياً , وكانت الحضارات السابقة قد توقفت عن النمو منذ عهد بعيد , وتجمدت على معطيات معينة , نقلها العرب وأكملوها وتخطوها.
وافتتح بعض الخلفاء دوراً للترجمة , تعني بنقل تراث الشعوب وكانوا يبذلون للمترجمين المكافآت الضخمة , حتى قيل إن المأمون كان يمنح المترجم ثقل ما ترجم ذهباً.
وترجمت الفلسفة اليونانية , وصححت الترجمة أكثر من مرة , حتى استوفى العرب كل ما وضع الفلاسفة اليونان , وشرحوه ولكنهم لم يقفوا عند حدوده , فأبدعوا فلسفة عربية خاصة , قد تكون استقت بعض أصولها عن اليونان , أو تأثرت ببعض المعطيات الفلسفية الهندية , ولكنها غدت مستقلة بعد ذاك . وحالها حال الفلسفة في كل عصر , تأخذ عما سبقها , لتستقل بمعانيها وغاياتها .
أما الأخذ عن الفرس أو الهند أو غيرهم – عدا اليونان – فأمر مشكوك فيه . ذلك أن ما ترجم عن اليونان معروف حتى اليوم , وهو مذكور في الكتب والمخطوطات جميعاً ولم تشر المصادر جميعاً إلى ما أخذ عن غيرها , إلا النادر النادر , وخاصة عن الفرس , حتى كليلة ودمنة , غير منقولة , فقد وضعها ابن المقفع ونسبها إلى الهند لغايات سياسية , غير خافية , على من يبحث بحثاً واقعياً عن الأمر . ولو فرضنا أنها منقولة فهي هندية لا فارسية , حسب زعم ابن المقفع .
لا شك أن لاختلاط العرب بغيرهم من الشعوب أثر بالغاً ولكنه أثر لم تحمله الكتب , بل التفاعل غير المباشر . وإلا فليدلنا أخصام هذا الرأي على المؤلفات المنقولة .
ولم يعن العرب بنقل الشعر . كانوا يشعرون أن شعرهم أسمى من شعر الأعاجم , ولعل السبب أن الشعر المترجم يفقد الكثير من خواصه , فإذا قرؤوه وجدوه أضعف من الشعر العربي . وقد يكون احتفال الشعر الأعجمي , وخاصة اليوناني , بالأساطير الدينية سبباً في عدم نقله .
ولا بد من الإشارة إلى تعدد الفرق الكلامية والدينية . وقد بلغت اثنتين وسبعين فرقة – حسب بعض المصادر – وقد تأثرت هذه الفرق بعلوم العصر , والفلسفة واختلاط العرب بالأعاجم , وليس صحيحاً أن علم الكلام نشأ نتيجة الترجمات , فقد بدأ بقيام فرقة الخوارج , وتكوين فرق للرد عليهم , كفرقة الحسن البصري , وتلميذه واصل بن عطاء , منشيء المعتزلة .
الأدب واللغة:
أثرت الأحداث السياسية والتطورات الاجتماعية والاقتصادية والفكرية والعلمية على الأدب واللغة , فقد كان لاختلاط العرب بالأعاجم أثر سيء على اللغة إذ انتشر اللحن في الخواطر , مما حمل علماء اللغة على وضع التصانيف في القواعد , فنشأت مدرستان : البصرية والكوفية , تفرعت عنهما فروع كثيرة , خلفت مؤلفات في مناهجها لا حصر لها .
ووضعت المعاجم ليسترشد بها من شاء الإطلاع , ولتحصر الأخطاء ضمن حدود ضيقة , ولتحفظ أسس اللغات من التشويه والعبث .
ووضعت معظم شروح القرآن الكريم والحديث الشريف . ودونت الأشعار بعد أن ظلت طويلاً محمولة على ألسنة الرواة . بدأ التدوين أواخر العهد الأموي , ولكن نطاقه كان ضيقاً فغدا شاملاً في العصر العباسي .
وأخذ معظم المؤلفين والشعراء بالتعبير البسيط والألفاظ السهلة ذهاباً من المذهب القائل بضرورة تناسب اللغة والتعبير مع مقتضيات المجتمع ومتطلبات العصر . وذهب بعضهم إلى تعميم العلم نفسه , ووضعه في صيغ مبسطة , ليكون ملك العامة لا الخاصة الذين كانوا يلحدون على استبقاء العلم والفلسفة , في تعبيرها وصيغها على مستوى إدراك العلماء وحدهم . وقد ظهر أثر ذلك في فكر بعض الفلاسفة أنفسهم , الذين قالوا أن الحقائق الكبرى لا يرقى إليها فهم العامة , فإذا عرضت عليهم كفروا , وكفر عارضها .
واتخذت الطريقة الشامية طريقها إلى التعبير , حتى غدت أحد مرتكزاته الأساسية , وكانت من قبل لفتات عفوية , في الأدب الجاهلي والأموي . غير أن بعض الشعراء والكتاب جعلوها هدفاً , فإذا التكلف يشيع في نثرهم وشعرهم , وليس أدل على ذلك من مقامات الهمذاني التي حفلت بألوان البيان والبديع المقصودة المتكلفة .
وتطور النثر تطوراً كبيراًُ فبعد أن كاد يكون مقصوراً على الخطب والرسائل , مع ما فيها من قصر وإيجاز , غدا وسيلة للتعبير الأولي , لما اقتضاه انتشار العلم واتساع آفاق المعرفة , وتنوع أساليب الحياة . وازدهار الصناعة والتجارة والزراعة , فوضعت الكتب المطولة والتصانيف الضخمة , في اللغة , والأدب , والنقد , والفلسفة , والعلم , والدين .
ولعل من بين ما يعني طالب الأدب أن يعرف , أن دعائم النقد الأدبي وضعت في هذا العصر , فقد كثر النقاد بتنوع الأدب وأساليبه , وتعددت مذاهبهم , ولكنها يمكن إجمالها في مذهبين : تفضيل المعاني على المباني , أو تفضيل المباني على المعاني ,
بين النقاد : الجاحظ , ابن قتيبة , الآمدي , الجرجانيان , وابن سلام وغيرهم .
وظهرت القصة الأدبية والفلسفية , كليلة ودمنة , والبخلاء , ورسالة الغفران , وسلامان وأسال , ورسالة الطير , وحي بن يقظان , وظهرت كتب الأخبار العديدة , ككتاب الأغاني , وسير الأولين , وما إليها .
أما الشعر فظهرت حوله نزعتان ما لبثت إحداهما حتى أخلت مكانها نهائياً إلى الأخرى . وهما نزعة إبقاء القديم على قدمه , ونزعة التجديد .
تتلخص نزعة القديم بالتمسك بمذهب الشعر الجاهلي القائم على الوقوف على الأطلال وذكر الأحبة في مطالع القصائد , وتعدد الموضوعات , ووحدة البيت , والتعبير المباشر , المجرد عن جهد الخيال والصور الفنية , والواقعية ا لحسية المادية المطلقة , ثم الوزن الواحد , والقافية الواحدة , التي كانت ا لأساس في تكوين البيت , فإن ضعفت اعتبرت القصيدة كلها ضعيفة .
أما نزعة التجديد , فتقضي بالانصراف عن الوقوف على الأطلاق لأنه لم يعد يتناسب مع معطيات العصر , وهذا ما حدا بأبي نواس على التهجم المستمر على الأعاريب وهم سكان البادية لا العرب عامة , كما فسر بعضهم الكلمة خطأ , واستند إيها لتوكيد شعوبيته . لقد رأى أبو نواس والمجددون أن زمن النزول والارتحال مضى , وإذا كانت الحياة القبلية تفسح لظهور شعر الوقوف على الأطلال , فإن العصر الحضاري يرفضه ومع ذلك لم يسلم الشعر العباسي من مطالع وصفية أو غزلية لا تتصل بموضوعاته , وهذا كثير لدى معظم الشعراء , وهو يتنافى مع القول بعد تعدد الموضوعات , ووحدة القصيدة لا البيت , اللذين جرى عليهما معظم شعراء العصر . ولابد من الإشارة إلى أن وحدة القصيدة والموضوع عرفت لدى الغزلين من الأمويين , وخاصة عمر . وقد عني المجددون بالخيال الواقعي , ضمن حدود صياغة الصور لتجسيد الموصوفات ببعث الحياة والحركة في الجوامد والمعنويات , مما أتاح ظهور الطريقة الشامية على نطاق واسع . ولئن لم يبتعد الشعراء عن الواقعية , فإنها لم تعد حسية مادية .
ويجدر التنبيه إلى أن معظم الشعراء احتفظوا بمبدأ التوازن الواحد والقافية الواحدة . ولم يخالفه إلا شعراء الموشحات والأسماط . مع العلم أن الأسماط والطرديات عرفت قبل العصر العباسي .
ولقد زعم بعضهم أن التجديد ناشيء عن الحركة الشعوبية , وهو زعم مستغرب إذا عرفنا أن من أئمة المجددين أبا تمام والبحتري , وأنهما ركزا دعائم الطريقة الشامية فإليهما تنسب . والشاعران عربيا النزعة كما يؤكد شعرهما وحياتهما . كذلك من الداعين إلى التجديد الجاحظ , بل قال بالتعميم , وهو العربي الذي ناضل الشعوبية وكان أقسى خصومها , ثم إن التجديد من طبيعة التطور , يرافق دائماً كل تطور سياسي أو اجتماعي .
على أن أطرف ما يقرأ المرأ في هذا المجال ما زعم من أمر كلاسيكية الشعر الجاهلي والأموي , ورومانطيقية الشعر العباسي . يقول الزاعم : إن الأدب الجاهلي كلاسيكي لأنه منعكس عن بيئة تؤمن بالأصنام , شأنه شأن الأدب الإغريقي والروماني .
تبحث عن أثر الإيمان بالأصنام في الشعر الجاهلي فلا تجد له انعكاساً ما عدا بيتاً أو بيتين . بينما أدب الإغريق والرومان حافل بالأساطير الدينية , والاعتقاد بتعدد الآلهة . ولعل من المفيد ذكر علاقة الأصنام بالجاهليين .
كان الجاهليون إما مسيحيين أو يهوداً أو من أتباع دين إبراهيم الذين يحجون إلى الكعبة التي أنشأ , ويؤمنون بإله واحد . أما الأصنام فهي تماثيل لله , يتعبونه عبرها. ولذلك كانت أسماؤها المختلفة ترمز إلى معنى واحد هو الله . ولهذا جمعت الأصنام في الكعبة بعد قيام حلف قريش , وهناك هدمها النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم وإليك بيتاً للنابغة يدل على صحة الرأي :
فلا وحق الذي مسحت كعبته وما هريق على الأنصاب من جسد
النابغة وثني , وقد قال مسحت كعبته – أي الله – ولم يقل مسحت كعبة الأصنام. أما إهراق الدماء فعلى أقدام الأصنام تقرباً لله .
وينسب الزاعم الأدب الأموي إلى الكلاسيكية لأنه جاري الجاهلي . أما العباسي فرومنطيقي لأنه أدب الإيمان . وتعجب لهذا القول ! أكان العباسيون أكثر إيماناً من أهل صدر الإسلام ؟ أم لم يؤثر إيمان هؤلاء في أدبهم ولم ينعكس عليه , وقد استمرت حقيبته أكثر من مائة وثلاثين عاماً ؟
يبدو أن الزاعم لا يدرك حقيقة معنى الكلاسيكية – وسيرد شرحها مع مسرحيات شوقي – ولا الرومنطيقية وسيرد شرحها مع الشعراء الرومنطيقيين .
الشعر العربي عامة , غنائي , ولم تظهر فيه بوادر غير غنائية , إلا في الربع الأول من القرن العشرين .
ضمن حدود الغنائية حدثت تطورات , تناولت الشكر وتنوع الموضوعات , وبعض المعاني , مما اقتضاه عصر الحضارة , ولئن اعتبر بعض النقاد الغربيين جوانب من الشعر العربي مقدمة للرومانطيقية مستندين إلى الصلات بين العرب والغرب عن طريق إسبانياً , فإن ثمة فروقاً كبرى بين الرومنطيقية الحقيقية , والشعر العباسي والأندلسي. ولعل وجدانية الشعر العربي واتصاله بالطبيعية وما ظهر عليه من مسحة أسى , خاصة في الموشحات , قد جعلت بعضهم يظن أن ذلك يعني الرومنطيقية .
إن ذاتية الرومنطيقي ضد المجتمع , وهروب منه , مما لم يتوفر في الشعر العربي فالشاعر العربي مغرق في اجتماعياته رغم تعبيره عما في وجدانه من أحاسيس فثمة تواصل دائم بين ذاتية الشاعر ونظرته إلى المجتمع ؛ قد يرفض مساوئه ليصلحه , ولكنه لا يزدريه ويهرب منه . كذلك موقف المتنبي وابن الرومي وغيرهما . إنهم يشيرون إلى موطن الفساد , ولكنهم لا يقفون حياله موقف الرومنطيقي الذي يعتبر الإنسان قد فسد في أعماقه , نتيجة الاجتماع .
أما الطبيعية , فالعربي وصاف طبيعة منذ الجاهلية . إقرأ : " أصاح ترى برقاً.." لامرئ القيس . وقد يقوم تفاعل بين الشاعر والطبيعة , ولكن الانعكاس يظل ضمن الظواهر وعلى السطح وهذا موقف ابن الرومي وابن زيدون . هما يعيشان الطبيعة ويتأثرون بألونها وظلالها ويؤثران فيها , ويستعينان بها على تجسيد موصوفات أخرى ولكنها ليست ملجأ يهربان إليه من فساد المجتمع وحقارته , كما هي حال الرومنطيقي إنها لديه خلاص وطريق إلى الله وعودة على البراءة .
أما مسحه الأسي , فناجمة عن حب , أو شوق , أو حنين , أو فراق , وليست نابعة من الشعور أن كل ما يحيط بالمرء فاسد , ولا سبيل إلى الخلاص إلا باللجوء إلى الطبيعة والله , كحال الرومنطيقي . لقد دعيت هذه المسحة " بمرض العصر " إذا كانت شاملة في الأدب الرومنطيقي إبان نشوئه , مما لم يعرفه الأدب العربي .
أما الفكرة الدينية في الأدب الرومنطيقي , فقد فهمها الزاعم خطأ . فالنزعة الدينية تتلخص في الخلاص بالمسيح – وهي مبدأ مسيحي – نجد أثر ذلك في " الشهداء " لشاتوبريان , و" بول وفرجيني " لبرنارد دوسان بيير , والباب الضيق لأندرية جيد , ولم يعرف الأدب العربي ذلك , أما الصوفية فتختلف أصلاً عن هذا الاتجاه .
كذلك الخيال , إنه لدى الرومنطيقي , وسيلة خلاص , في توهم عوالم لا تتصل بالواقع , من مثل ذلك توهم فوزي المعلوف الانعتاق بالشعر ؛ أما خيال العربي العباسي فظل في إطار إبداع الصور الفنية لتجسيد موصوفاته , أو مشاعره وأفكاره .
الحركة العلمية
أذكى الإسلام جذوة المعرفة فى نفوس العرب إذ دفعهم دفعاً قوياً إلى العلم والتعليم ، فلم يمض نحو قرن حتى أخذت العلوم اللغوية والدينية توضع أصولها ، وحتى أخذ العرب يلمون بما لدي الأمم المفتوحة من ثقافات متباينة ، وقد مضوا في هذا العصر يتقصونها وينقونها بكل مواردها إلى لغتهم ، ونهض التعليم حينئذ نهضة واسعة ، وعادة كأن الناشىء يبدأ بالتعليم فى الكتاتيب حيث يتعلم مبادئ القراءة والكتابة وبعض كان الناشئ يبدأ بالتعليم فى الكتاتيب حيث يتعلم مبادئ القراءة والكتابة وبعض سور القرآن الكريم وشيئا من الحساب وبعض الاشعار والامثال ، وكان بض معلمي هذه الكتاتيب يعلمون الناشئة أيضاً السنن والفرائض والنحو والعروض . وكانوا يؤثرون فى تعليم البنات تحفيظهن القرآن الكريم وخاصة سورة النور ويورد الجاحظ وابن قتيبة أسماء طائفة مشهور من معلمي الكتاتيب من مثل أبي البيداء الرياحي اللغوي ومحمد بن السكن المحدث وأبي عبد الرحمن السلمي المقري وأبى صالح الإخباري . وخص الحاجظ هؤلاء المعلمين برسالة ملأها بنوادرهم ، مما كان سبباً فى أن تدور شخصية معلم الكتاب بين الشخصيات المضحكة فى الأدب العربي ، وممن كثر التندير عليه فى هذا العصر منهم علقمة ابن أبي علقمة النحوى الذي كان يتقعر فى كلامه مكثراً فيه من الغريب الشاذ وكان يعني فى مكتبة بتعليم الناشئة العربية والنحو والعروض ومات فى خلافة المنصور وقد ألف بعض الأدباء رسالة تجميع نوادره .
وكان للناشئة ألواح من الخشب العادي أو من الآبنوس يكتبون فيها دروسهم وكلما فرغوا من دروس محوه منها وأثبتوا مكانه درساً آخر . وكان معلموهم يؤدبونهم بالجلد والضرب والحبس ، وفي أخبار إبراهيم الموصلي أنه ( أسلم إلى الكتاب فكان لا يتعلم شيئا ، وكان لا يزال يضرب ويحبس ولا ينجع ذلك فيه ، فهرب إلى الموصل وهناك تعلم الغناء ) ويذكر الجاحظ أنه كان لأعشى بنى سليم ابن رآه مسنا كان يدع الكتاب ويلعب بالكلاب ، فكتب أبوة إلى معلمه :
ترك الصلاة لأ كلب يلهو بها طلب الهراش مع الغواة الرجس فاذا خلوت فضعه بملامة أو عظة موعظة الأديب الأكيس وإذا هممت بضربة فبدوة وإذا ضربت بها ثلاثاً فاحبس وكان هؤلاء المعلمون يتقاضونمن الناشئة أجورا زهيدة ، لا تتجاوز أحيانا بعض رعفان من الخبز كانت تختلف أحجامها وأنواعها بأختلاف أحوال آبائهم غني وفقراً ، حتى لقد ضربت برغفان المعلم الأمثال على شدة الاختلاف والتفاوت .
وكان بجانب معلمي أولاد العامة فى الكتاتيب معلمون لأبناء الخاصة ، كان منهم اللغوي والإخبارى والفقية والمحدث والمقري ، وكانوا أحسن حالا من معلمي أبناء العامة ، على أن الجاحظ يقول فى جمهورهم : ( يكون الرجل نحويا عروضيا وقساماً فرضيا وحسن الكتاب جيد الحساب حافظاً للقرآن رواية للشعر وهو يرضى أن يعلم أولادنا بستين درهما ) . وهذا إنما يصدق على من كان منهم يعلم أبناء الطبقة الوسطى ، وأما من كان يعلم أبناء الخلفاء والوزراء والبيت العباسي والقواد والسراة فقد كان تفرض لهم رواتب كبيرة ، جعلتهم يعيشون فى خفض من العيش وسعة من الرزق ، نذكر من بينهم المفضل الضبي معلم المهدي وله أختار مجموعته الشعرية الملقبة بالمفضليات ، والكسائي معلم الرشيد وأبنيه الأمين والمأمون ، وقطرب مؤدب الأمين وأبناء أبي دلف العجلي قائد المامون المشهور ، وعلى بن المبارك الأحمر أحد مؤدبي الأمين ويقال إنه أعطاة يوماً ثلاثمائة ألف درهم ، ومنهم اليزيدي يحيي بن المبارك مؤدب أبناء يزيد بن المنصور الحميرى خال المهدي ومن أجل ذلك لقب باليزيدي ، ومنهم الفراء معلم أبناء المأمون ، وأبو عبيد القاسم بن سلام مؤدب أبناء هرثمة قائد الرشيد والمأمون .
وامتازت فى هذا العصر البصرة بسوق باديتها المعرف باسم المربد ، وكان منهلاً لشباب البصرة يغدون علية ويرحون للقاء الفصحاء من الأعراب والتحديث أليهم تمريناً لألسنتهم وتربية لأذواقهم ومحاولة لاكتساب السليقة العربية المصفاة من شوائب العجمة وكانوا يكتبون ما يسمعونه منهم من طرائف الشعر ، على نحو ما يحدثنا الرواة عن أبي نواس وأنه كان يغدو على المربد بألواحه للقاء الأعراب . وكان من شباب الشعراء من يرحل إلى البادية ليأخذ اللغة والشعر من ينابيعها الأصيلة على نحو ما هو معروف عن بشار . وكانت المساجد ساحات العلم الكبري ، فلم تكن بيوتاً للعبادة فحسب ، بل كانت أيضاً معاهد لتعليم الشباب حيث يتحلقون حول الأساتذة ، يكتبون ما يلقونه أو يملونه ، وكان الأستاذ يستند عادة إلى أسطوانة فى المسجد ، ثم يأخذ فى إلقاء محاضرته أو إملائها ، وفى الحلقات الكبيرة كان يردد مستمل كلامة حتي يسمعه ويكتبه البعيدون عنه فى الحلقة . وكان لكل فرع من المعرفة حلقته أو حلقاته الخاصة ، فلحقة لفقية وحلقة لمحدث وحلقة لقصاص أو لمفسر وحلقة للغوي وحلقة لنحوي وحلقة لمتكلم ، وكانت حلقة الفقهاء من أكبر الحلقات إذ كان يقصدهم طلابب الفقة ومن يريدون أن يتولوا منصب القضاء أو الحسبة ، وكذلك كانت حلقة المتكلمين لما يجري فيها من مناظرات ومحاورات بينهم أنفسهم وبينهم وبين أصحاب الملل والنحل . وكان يتحلق كثيرون فى حلقات الغويين والنحاة ، ويقال انه كان يحضر حلقة ابن الأعرابي الكوفى زهاء مائة شخص ، كثيراً ما كانت تدور فى تلك الحلقات هي الاخري مناظرات بين أصحابها على نحو ما يروي عن الاخفش من أنه تعرض للكسائي فى حلقة وسألة عن مائة ميألة محاوراً له ومناقشاً مناقشات مستفيضة . وكانت هناك حلقات للشعراء ينشدون فيها أشعارهم .
وهذه الحلقات الكثيرة التي لم يكن يشترط للحضور فيها أي شرط سوي الرغبة فى السماع والتي كانت مباحة لأي وارد كي يأخذ منها ما يريد من زاد المعرفة هيأت لظاهرتين كبيرتين ، وأما أولادهما فكثرة العلماء المتخصصين فى كل علم وفن ، حتي ليروى أن النضر بن شميل تلميذ الخليل بن احمد حين عزم على الخروج من البصرة إلى خراسان شيعه نحو ثلاثة ألاف شخص بين محدث ونحوي ولغوى وعروضى وأخبارى ، ولا بد أنه كان وراء هذا العدد الضخم كثيرون تخلفوا عن توديعه وتشييعه . وأذا كانت البصرة قد اشتملت عل هذا العدد الضخم كثيرون تخلفوا عن توديعة وتشييعه . وإذا كانت البصرة قد أشتملت على هذا العدد الفير من العلماء فإنه مما لا شك فيه أن بغداد كانت تشمل منهم على أضعاف له مضاعفة وتلك هي الظاهرة الأولى ، أما الظاهرة الثانية فهى نشوء طائفة من العلماء والأدباء الذين نوعوا معارفهم تنويعاً واسعا إذ لم يكتفوا بالآختلاف إلى حلقة واحدة ، بل مضوا يختلفون إلى جميع الحلقات آخذين بطرف من كل لون من ألوان المعرفة حتى أصبحوايشبهون الصحفيين المعاصرين الذين يستطيعون أن يتحدثوا حديثاً شائقاً فى كل صور المعرفة والثقافة . وكان يطلق على هذه الطائفة فى البصرة اسم المسجديين ، وكان لهم حلقات خاضة بهم فى المساجد ، يسوقون فيها فنوناً من الجدال والحوار فى أى شي يعن لهم ، وقد عرض الجاحظ في كتاب البخلاء صورة من جدالهم تنالوا فيها الاقتصاد فى النفقة والتمثير للمال . وكانت لهم سوق نافقة فى مجالس الخلفاء والوزراء وعلية القوم ، إذ كانوا يستطيعون أن يطرفوهم بالأحاديث الطلية ويرحوا عنهم فى ساعات صفوهم وغضبهم بما يوردون على سمعهم من طرائف الأخبار والمعارف . ولعلنا لا نبعد إذا قلنا إن ظهور هذه الطائفة وما حظيت به فى المجتمع العباسي هو الذي حعل الجاحظ وغيرة يحولون كتبهم الأدبية إلى دوائر معارف واسعة ، بل لقد استقر فى الأذهان أن الأدب هو الأخذ من كل علم وفن بطوف .
وإذا كان الخلفاء ووزراؤهم قد أغدقوا على هذه الطائفة كثيرا ، فإنهم لم يحرموا طائفة العلماء المتخصصين ، بل كثيراً ما كانوا يضفون عليهم عطاياهم الجزيلة ، وجاراهم فى ذلك الولاة وكبار القواد ، وكان أول من سن ذلك وجعله تقليداً للدولة المهدي . فإنه أكثر من مكافآته للعلماء كثرة جعلتهم يشدون إلية الرجال من كل بلدة ، واحتذاه فى ذلك ابنه الرشيد ، ريقال أنه وصل الأصمعي يوماً بمائة ألف درهم وكان من الحظوظين لدي البرامكة ، ويروى أن جعفراً البرمكي وصله بخمسمائة ألف . وكان المأمون سحابة منهاة على العلماء والمتكلمين ، وقد أعطي النضر بن شميل وهو لا يزال أميراً بمرو خمسين ألف درهم . ويروي أن طاهر بن الحسين قائد المأمون وولية على خراسان وصل أبا عبيد القاسم بن سلام بألف دينار ثم عاد فوثله بثلاثين ألفا ، وأجري عليه أبنه عبد الله عشرة آلاف درهم فى كل شهر .
وليس من شك فى أن هذا الصنيع كان من أهم الأسباب في اذدهار الحركة العملية بالمساجد ، إذ كان من يبزغ نجمه فى حلقاتها لا يلبث أن يستدعى إلى دار الخلافة أو دار الولاية أو دور الوزراء ، فاذا العطايا تسبغ عليه وإذا الرواتب تفرض له شهرياً . وحقا كان بين علماء الفقة والحديث من لا يبغون بعلمهم وتعليمهم سوى الثواب من الله ، ولعله من أجل ذلك شاع بينهم التكسب من الحرف أو التجارة كأبي حنيفة وكان بزازا ، غير أن الكثرة وخاصة من علماء اللغة وأصحاب العلوم الدنيوية كانوا يتخذون علمهم حرفة لهم ومتجراً ، بل لقد كان متجراً رابحا .
وكان من أهم الأسباب فى بلوغ الحركة العلمية غايتها من النهضة الواسعة استخدام الورق ، إذ أخذ يعم منذ مفتتح هذا العصر وكانوا قبل ذلك يكتبون فى الجلود والقراطيس المصنوعة بمصر من ورق البردي . لم يلبث الفضل بن يحيي البرمكي أن أنشأ فى عهد الرشيد مصنعاً ببغداد للورق ، ففشت الكتابة فيه لخلقه وغلبت على الكتابة فى الجلود والقراطيس . وكان الإملاء حينئذ أعلى مراتب التعليم ولكن لم تليث أن ظهرت المصنفات الكثيرة واحتيج معها إلى النسخ ، فاتسعت صنعة الوراقة ، وهى تحل فى هذا العصر محل الطباعة فى عصرنا الحديث ، وقد مضى العلماء حينئذ يفيدون منها ، فاتخذوا لأنفسهم وراقين ينتقلون عنهم كتبهم ويذيعونها فى الناس مثل دماذ أبي غسان وراق أبي عبيدة . وكان مما دفع لرواج الوراقة تنافس كثيرين على اقتناء الكتب واتخاذ المكتبات ، وقد أقامت الدولة منذ عصر الرشيد مكتبة ضخمة هي دار الحكمة وعنيت فيها أشد العناية بالكتب المترجمة التي تحمل كنوز الثقافات الأجنبية ، ولا ريب فى أن هذه المكتبة كانت جامعة كبري لطلاب العلم والمعرفة .
وقد أخذ كثيرون من الافراد يعنون باقتناء المكتبات ، وكانوا يوظفون فيها يعض الوراقين للنسخ ، من ذلك مكتبة إسحق بن سليمان العباسي وكانت تمتلئ بالكتب والأسفاط والرقوق والقماطير والدفاتر والمساطير والمحابر . وأضخم منها وأعظم مكتبة يحيى بن خالد البرمكي ويقال إنه لم يكن فى مكتبته كتاب إلا وله ثلاث نسخ ، وربما فاق هذه المكتبة عظماً وضخماً مكتبة الواقدى المؤرخ المشهور المتوفي سنه 207 وكانت تشمل على سمائة صندوق مملوءة بالكتب وكان له مملو كان يكتبان له ليلاً ونهاراً .
ولعل فى ذلك ما يدل دلالة واضحة على أن الكتب أصبحت مادة أساسية للمعرفة ،أذ كانت تسجل أمهات العلم وأصوله بما لعله يفضل تلقية وأخذه عن العلماء ، وفى ذلك يقول الجاحظ : ( وقد تجد الرجل يطلب الآثار وتأويل القرآن ويجالس الفقهاء خمسين عاماً ، وهو لا يعد فقيها ولا يجعل قاضيا فما هو إلا أن ينظر فى كتب أبي حنيفة وأشباه أبي حنيفة ويحفظ كتاب الشروط فى مقدار سنة أو سنتين حتى تمر ببابه فتظن أنه من بعض العمال وبالحري أن لا يمر عليه من الأيام إلا اليسير حتى يصير حاكما ( قاضيا ) على مصر من الأمصار أو بلد من البلدان )
ولم تكن الكتب تعد لهذا التحصيل السريع فى الفقة وحده ، بل كانت تعد لذلك فى جميع فروع العلم والمعرفة ، فطبيعي أن يقبل عليها الناس إقبالا شديداً لما تجمع لهم فى كل فن وكل علم من مادته الغريزة المنظمة المرتبة ، بل لقد أصبحت الأداة العلمية التى تسوق لهم المعرفة وألوان الثقافة سوقاً وهم يكبون على هذه الداة أو هذه الوسيلة السهلة منفقين عليها كل ما يستطيعون من أموال مؤمنين بأن ( من لم تكن نفقته التي تخرج فى الكتب ألذ عنده من أنفاق عشاق القيان والمستهترين بالبنيان لم يبلغ فى العلم مبلغاً رضياً ، وليس ينتفع بإنفاقة حتى يؤثر اتخاذ الكتب إيثار الأعرابي فرسه باللبن على عياله )
وأنشأ بعض الوراقين لهم دكاكين كبيرة ملئوها بالكتب يتجرون فيها ، وكان بعض الشباب يغدو إلى هذه الدكاكين لا ليشتري منها فحسب ، بل ليقرأ فيها ما لذ وطاب من صنوف الأداب نظير أجر بسيط يتقاضاه منه صاحبها . وبلغ من عناية الوراقين بعملهم أن موه بعضهم خطواطه بالذهب ، ويذكر الجاحظ أن الزنادقة كانوا يتأنقون فى كتبهم تأنقا شديداً وكان بعض السراة يطلب هذه الأناقة المسرفة حتى فى كتب الهزل والفكاهة.
ولم تكن الكتب والمساجد كل ما هيأ لاذدهار الحركة العلمية حينئذ ، فقد هيأ لها أيضاً مجالس الخلفاء والوزراء والسراة ، أذ تحولوا بها إلى ما يشبه ندوات علمية يتناظر فيها العلماء من كل صنف ، على نحو ما يروى من مناظرة الكساني الكوفى واليزيدي البصرى بين يدي المهدي وما يروي من مناظرة الكسائي وسيبويه بين الرشيد أو بين يدي يحيي بن خالد البرمكي ندوات كبيرة للمتكلمين والمتفلسفين من كل نحلة يتجادلون فيها ويتحاورون فى كل ما يعرض لهم من مسائل ، وفى ذلك يقول المسعودي : ( كان يحيي بن خالد البرمكي ذا بحث ونظر ، وله مجلس يجتمع فيه أهل الكلام من أهل الإسلام وغيرهم من اهل النحل فقال لهم يحي وقد اجتمعوا عنده : قد أكثرتم الكلام في الكمون والظهور والقدم والحدوث والأثبات والنفى والحركة والسكون والممارسة والميادينه والوجود والعدم والجواهر والطفرة والجسام والاعراض والتعديل والتجويد والكمية والكيف والمضاف والإمامة أنص هى أم اختيار وسائر ما توردونه من الكلام فى الأصول والفروع فقالوا الآن فى العشق على غير منازعة ، وليورد كل منكم ما سنح له فيه وخطر بباله ) ويورد المسعودي أطرافاً من كلامهم وحوارهم فى العشق تصور كيف كانوا يفرعون الأفكار ويستنبطونها ويشعبونها فى الموضوعات المختلفة التى كانت تمس مسائل الفلسفة وعلم الكلام ومذاهب الشيعة والسنة فى الامامة .
وكان مجلس المأمون ساحة واسعة للجدال والناظرة ، وكان مثقفاً ثقافة واسعة عميقة بالعلوم الدينية واللغوية وبالفلسفة وعلوم الأوائل ، فمضى يحول مجالسة فى دار الخلافة بغداد إلى ندوات علمية تتناول كل فروع المعرفة وفى ذلك يقول يحيي بن أكثم : ( أمرني المأمون أن جمع له وجوه الفقهاء وأهل العلم من بغداد ، فاخترت له من أعلامهم أربعين رجلا وأحضرتهم وجلس لهم المأمون فسال عن مسائل وأفاض فى فنون الحديث والعلم ) ويمضى ابن أكثم فيقول : أنه لما انتهى ذلك المجلس طلب إلى المامون أن أنوع مجالسه بحيث تكون لكل طائفة من العلماء مجلس .
ويعرض طيفور فى كتابه بغداد كثيراً من هذه المجالس وما طرح فيها من موضوعات مختلفة للجدل والمناظرة . ويصور المسعودي ما عاد على الحركة العلمية من هذه الندوات التي غدت كانها مجمع علمي كبير ، فيقول : ( قرب المأمون إليه كثيراً من الجدليين والنظارين كابي الهديل العلاف وأبي إسحق إبراهيم بن سيار النظام وغيرهما ممن وافقهما وخالفهما ( يريد من المعتزلة وغيرهم ) وألزم مجالسه الفقهاء وأهل المعرفة من الادباء وأقدمهم من الامصار وأجري عليهم الأرزاق ( الرواتب ) فرغب الناس فى صنعة النظر وتعلموا البحث والجدل ، ووضع كل فريق منهم كتبا ينصر فيها مذهبه ويؤيد بها قوله ) .
وقد كفلت الحرية العقلية فى هذا المجلس أو هذا المجمع إلى أبعد غاية ممكنة ، بحيث كان كل رأي يعرض للمناقشة العقلية الخالصة حتى آراء الزنادقة .
ومما لاشك فيه أن المجتمع كان يرتبط حينئذ بالإسلام ارتباطاً وثيقا فى جميع شئونه الروحية والاجتماعية ، ولكن كـأنما أصبح سلطان العقول فى هذا العصر ، فإذا كل شئ يناقش فى حرية ، وأذا كل شىء يعرض على بساط البحث والجدل .
وكان وراء المجلس الكبير يحيي بن خالد البرمكي مجالس صغري ما يزال يجتمع فيها العلماء ويتجادلون ويتناظرون ، ومن ذلك مجلس أيوب بن جعفر ابن أبي جعفر المنصور ، وقد اجتمع فيه يوماً النظام وأبو شمر المتكلم ، وكانت فى أبي جعفر المنصور ، وقد اجتمع فية اجتمع فيه يوماً النظام وأبو شمر المتكلم ، وكانت فى أبي شمر رزانه لا يحرك يدية ولا منكبيه إذا جادل أو ناظر ، فاضطره النظام بما أورد علية من الحجج وأثقل علية من البلااهين فى مسألة ناظره فيها ان يحرك يدية أون يحبو إلية حبوا يريد أن يسكته بيده بعد أن أعجزه أن يسكته بالأدلة العقلية ، ومن ذلك مجلس أزدي بالبصرة وفية يقول صاحب الاغاني : ( كان بالبصرة سته من أصحاب الكلام : عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء وبشار الاعمي وصالح بن عبد القدوس وعبد الكريم بن أبي العوجاء ورجل من الأزد ، فكانوا يجتمعون فى مجلس الأزدي ويختصمون عنده ) ويتحدث صاحب النجوم الزهرة عن مجلس آخر فى نفس البلدة ، فيقول : ( كان يجتمع بالبصرة عشرة فى مجلس لا يعرف مثلهم : الخليل بن أحمد صاحب العروض سنى ، والسيد ابن محمد الحميرى الشاعر رافضى وصالح بن عبد القدوس ثنوي ، وسفيان بن مجاشع صفري ، ويشار بن برد خليع ماجن ، وحماد عجرد زنديق ، وابن رأس الجالوت الشاعر يهودي ، وابن نظير النصراني متكلم ، وعمرو بن أخت الموبذ مجوسى ، وابن سنان الحراني الشاعر صابئي ، فتتناشد الجماعة أشعار وأخباراً )
وواضح من هذين النصين كيف كان يلتقى أصحاب الملل والنحل والأهواء المختلفة فى المجالس ، وكيف يثيرون كثيراً من المسائل التي تتصل بأهوائهم ونحلهم ومللهم ويتحاورون فيها حواراً طويلا . وكانت هناك مجالس أخري للمتفلسفة والمتكلمين ، ويقال إن مجلس يوحنا بن ماسويه ( كان أعمر مجلس ببغداد لمتطبب أو متكلم أو متفلسف إذ كان يجتمع فية كل صنف من أصناف اهل الادب وكان تلاميذة يقرءون علية فى هذا المجلس كتب المنطق لأرسططاليس وكتب جالينوس فى الطب . وعلى شاكلة مجلسة مجلس حنين بن اسحق ، ويقال إن المأمون رسم له على كتاب ينقلة إلى العربية أن يأخذ وزنه ذهبا . وكانت لابن أبي دؤاد المعتتزلى مستشار المأمون والمعتصم والواثق ندوة كبيرة يحضرها من كبار المترجمين والأطباء سلمويه وابن ماسوية وبختيشوع بن جبريل .
ويخيل إى الانسان كأنما كانت أزواد المعرفة والثقافة ملقاة فى كل مكان بأمصار العراق وهى حقا كانت مطروحة فى الطرقات معرضة لكل الأيدي ، فأبواب المساجد مفتوحة على مصاريعها لكل الواردين ومثلها دكاكين الوراقين ولا مصاريف تطلب للتعليم ، والتعليم مجانا من حق الجميع . وكان لذلك آثار بعيدة ، فان جمهور العلماء والشعراء لهذا العصر كانوا من أبناء العامة ، ويكفى أن نعرف ان أعلام الشعر حينئذ وهو بشار بن برد وأبو نواس وأبو العتاهية ومسلم بن الوليد وأبو تمام كانوا جميعا من الطبقة الدنيا فى الشعب فبشار كان أبوه طيانا يضرب اللبن ، وابو نواس كانت أمه غازلة للصوف ومن هذا الغزل كانت تعولة ، وأبوه عطاراً أو خماراً ، ومن ورائهم من الشعراءكان جمهورهم من أبناء العامة ، وكذلك كان العلماء فى جميع فروع العلم ، بل كان منهم من يجمع بين علمه وحرفته التي نشأ فيها مثل أبي أحمد التمار وشعيب القلال الذي كان يصنع فعلا القلال، وهما من المتكلمين .
وأبعد من ذلك وأعمق أن بين أيدينا من النصوص ما يدل على أن أكثر العامة كانوا يصيبون حظوظاً مختلفة من الثقافة ، أذ لم يكن بينهم وبينها أي حاجب ولا أى حاجز ، بل لقد كانوا يروحون ويغدون عليها فى المساجد ودكاكين الوراقين ، فنهل كل ملا نزع الية من ينابيع المعرفة ومن خير ما يصور ذلك أن نري الجاحظ يقول : ( سألت بعض العطارين من أصحابنا المعتزلة ) وكأن العطارين كانوا أقساماً منهم من يتبع المعتزلة ومنهم من يتبع غيرهم ولا بد أن كان مثلهم بقية التجار وأصحاب الحرف ، فهم يناصرون هذا المذهب أو ذاك ، وهم يناصرون هذا الأستاذ أتباعة لا من أوساط المثفين فحسب ، بل من العامة أيضاً ، وبذلك نفهم قول صاحب النجوم الزهراء عن نظام ونشاطة فى الدعوة للآرائه الاعتزالية ببغداد إذ يقول : ( وفى سنه 220 ظهر إبراهيم النظام وقرر مذهب الفلاسفة وتكلم فى القدر ، فتبعه خلق ) . ونري الجاحظ فى رسالته ( الرد على النصاري ) ينكر العامة تعرضهم لمناقشة الملحدين فى آرائهم الفاسدة لعدم إحاتطهم الدقيقة بتلك الأراء وما ينقضها نقضاً من الادلة ، ويقول : ( ومن البلاء أن كل أنسان من المسلمين يري أنه متكلم وأنه ليس أحد أحق بمحاجة الملحدين من أحد ) ويهمنا ما تدل عليه شكواه من أن كل مسلم لعصرة أصاب حظاً من طريق المتكلمين فى حجاج أصحاب الملل والنحل الفاسدة ، وبالمثل كانت العامة تصيب حظوظاً من الثقافة فى جميع الأوساط حتى فى أوساط العامة والأدباء كان جمهورها من أبناء هؤلاء العامة قادت الحركتين العلمية والأدبية قيادة خصبة باهرة ، إذ استطاعت أن تسيغ كل ما نقل إلى العربية من ثقافات متبانية وأن تضيف إليها من عقولها وقلوبها ما دعم حضارتنا العربية دعماً ، وبما أحدثوا من علوم وبما كتبوا من آثار عقلية رائعة وآيات شعرية خالدة .
علوم الأوائل : نقل ومشاركة
كان من أهم الأسباب التى دفعت إلى ازدهار الحركتين العلمية والادبية لهذا العصر الاتصال الحصب المثمر بين الثقافة العربية الخالصة وبين ثقافات الأمم المغلوبة المستعربة وما طوي فيها من معارف وعلوم وكأن هذا الاتصال يأخذ منذ عصر بنى أمية طريقين : طريق المشافهة مع المستعمرين وطريق النقل والترجمة وقد ظل الطريق الثاني ضيقاً زمن الأمويين ، إذ لا يعدو ما يذكر من أنه ترجمت لخالد بن يزيد بن معاوية بعض كتب في الصنعة والطب والنجوم وأن عمر بن عبد العزيز أمر بترجمة كتيب فى الطب لأهرن بن أعين وأن كتاباً فى تاريخ الساسانيين ونظمهم السياسية ترجم لهشام بن عبد الملك . وقد مضت بيئات المستعمرين العلمية تمارس نشاطها حينئذ ، وكانت تمثلها الأديرة وما بها من حلقات علمية من المدارس متناثرة في جنديسا بور القريبة من البصرة وفى نصيبين وحران والرها وأنطاكية والإسكندرية ، وكانت تغلب عليها جميعاً الثقافة اليونانية ، وكما كان يغلب عليها جميعاً الثقافة اليونانية ، كما كان يغلب عليها السريان المسيحيين ، وكانوا قد نشطوا منذ القرن الرابع الميلادي فى ترجمة الاثار اليونانية ، واستمر نشاطهم في هذه الترجمة محتدما حتى القرن التاسع ، ومن أشهر مترجميهم قبل الإسلام يوحنا فيلوبونس الإسكندري المعروف باسم يحيي النحوي وكان يعيش فى القرن السادس الميلادي ونقل عن اليونانية كتباً كثيرة في المنطق والطب والطبيعيات . ومن أبرزهم فى العصر الأموي سويرس سيبوخت أسقف دير قنسرين ويعقوب الرهاوى ، وله مصنف مهم فى النحو السرياني .
وكان لمن خلفوهم فى العصر العباسي اليد الطولى فى ترجمة المصنفات اليونانية من لغتها الأصلية التي كان كثير منهم يحذقها ومن لغتهم السرسانية إلى اللغة العربية . وكان من أهم مراكزهم مدرسة جنديسابور القريبة من البصرة ، ولعلها لذلك سبقت الكوفة فى التعريف على الفلسفة اليونانية . وكان كثير من مصنفات اليونانين قد ترجم إلى الفارسية ، فأدلي الفرس بدلوهم لا فى نقل ثقافتهم فحسب ، بل أيضاً فى نقل بعض الآثار اليونانية على نحو ما هو معروف من نقل ابن المقفع لمنطق أرسطو ، وقد نقل ثقافتهم فحسب بل ايضاً فى نقل بعض الاثار اليونانية على نحو ما هو معروف من نقل ابن المقفع لمنطق انطق ارسطو ، وقد نقل كلية ودمنة الهندي الأصل إلى العربية ، وفى ذلك إشارة إلى ما كان فى الفارسية من ثقافة هندية أخذت تدخل إلى العربية ، وفى ذلك إشارة إلى ما كان فى الفارسية من ثقافة هندية أخذت تدخل إلى العربية بواسطة نقلتهم وسنري عما قليل أن قوماً من مستعربى الهند شاركوا فى هذا النقل .
ونري الخلفاء العباسين منذ فاتحة العصر يعنون بهذا النقل عناية شديدة وينفقون علية الأموال الطائلة وكأنهم لا يريدون به أن يقف عند حد أو عند غاية ، يتقدمهم فى ذلك المنصور وفية يقول المسعودي : ( كان أول خليفة قرب المنجمين وعمل بأحكام النجوم وكأن معه نوبخت المجوسي وأسلم على يديه – وهو أبو هؤلاء النوبخيتة – وأبراهيم الفزازي المنجم وعلى بن عيسى الإسطر لإبي المنجم وهو أول خليفة ترجمت له الكتب من اللغات العجمية إلى العربية ومنها كتاب كليلة ودمنة وكتاب السند هند وترجمت له كتب أرسططاليس من المنطقيات وغيرها ، وترجم كتاب المحبسي لبطليموس من المنطقيات وغيرها وترجم له كتاب المحبسطي لبطليموس وكتاب الأرثماطيقي وكتاب أقليدس .
واهتمام المنصور بالتنجيم يقترن بنوبخت الفارسي ويظهر أنه كان منجماً كبيراً ،أذ ينسب له وضع بعض الجداول الفلكية ، وكذلك كان صاحباه ولثانيهما وهو على بن عيسى رسالة فى الاسطرلاب – وهو آلة فلكية لرصد الكواكب – وقد نشرها لويس شيخو ولم يكتف المنصور بما كان عند الفرس من علم الفلك والتنجيم ، فقل نقل له كتاب السند هند وكتاب المحبسطى اليونانى لبطليموس وهما فى علم الهيئة والنجوم وحركات الأفلاك والكواكب . ومعنى ذلك أن العرب أستمدوا فى هذا العلم من الفرس والهند واليونان ولا بد أنهم استمدوا فيه أيضا من الصابئة ورثة الكلدانيين فى الفلك والتنجيم .
وصور نالينو أثر كتاب السند هند فى علم الفلك العربي وكيف وصل إلى العرب ونتقل إلى العربية فقال : إن وفداً من الهند وفد على أبي جعفر المنصور سنة 154 وفيهم رجل ماهر فى المعرفة حركات الكواكب وحسابها وسائر أعمال الفلك على مذهب علماء أمته وخصوصا على مذهب كتاب باللغة السنسكريتية اسمه ( بسراهمسبهطسد هانت ) ألفة سنه 628م أو 6 ، 7 هـ الفلكي الرياضي ( برهمكبت ) فكلف المنصور ذلك الهندي باملاء مختصر الكتاب ثم أمر بترجمته إلى اللغة العربية وبأستخراج كتاب منه تتخذه العرب أصلا فى حساب حركات الكواكب وما يتعلق به الأعمال . وتولى ذلك الفزازى وعمل منه زيحا أشتهر بين علماء العرب على الجزء الأخير من اسم الكتاب السابق وهو ( سد هانت ) ثم حرفوه قليلا وسموه السند هند )
ويذكر نالينو ممن أخذوا عن هذا العالم الهندي يعقوب بن طارق وكان رياضياً ممتازا وله مؤلفات قيمة فى الفلك .
ويذكر المسعودي أنه ترجم للمنصور بجانب المحبسطي كتب أرسططاليس من المنطقيات وغيرها وكتاب الأرثماطيقى فى الحساب وكتاب أقليدس وهو فى علم الأشكال الهندسية أمهاتها ومركباتها ، وجميع تلك الكتب يونانية 0 ولم يذكر المسعودي عناية المنصور بنقل الكتب يونانية . ولم يذكر المسعودي عناية المنصور بنقل الكتب الطبية إلى العربية ، ومعروف أنه استدعي فى سنة 148 للهجرة جورجيس بن جبريل بن بختيشوع كبير الأطباء فى بمارستان جنديسابور ورئيس مدرسته ليكون بجانبه وقد نقل كتباً كثيرة من اليونانية إلى العربية وأغلب الظن أنها كانت فى جمهورها كتبا طبية . وكان جورجيس من السريان النساطرة ، وتعاقبت من بعده أجيال من أبنائة وأحفاده تخدم الطب والترجمة . وممن لمع اسمهم لعهد المنصور فى ترجمة كتب الطب اليوناني أبو يحيي البطريق المتوفى سنه 180 إذ عني بنقل طائفة من كتب أبقراط وجالينوس .
وتنشيط الترجمة فى عصر الرشيد ووزرائه البرامكة نشاطاً واسعاً ، وكان مما اذكي جدوتها حينئذ إنشاء دار الحكمة أو خزانة الحكمة وتوظيف طائفة كبيرة من المترجمين بها و*** الكتب إليها من بلاد الروم ، وكان يقوم على هذا العمل الضخم يوحنا بن ماسوية وكان طبيباً نسطوريا من مدرسة حنديسابور ، وفيه يقول ابنم جلجل : قلدة الرشيد ترجمة الكتب القديمة الطبية ، مما وجد بأنقرة وعمورية و ببلاد الروم حين سباها المسلمون ، وضعة أميناً على الترجمة ، ووضع له كتابا حذاقا يكتبون بين يديه ) وقد عاش ابم ماسويه طويلا إذ توفى سنة 243 وله مؤلفات كثيرة فى الطب الرشيد إذ تضاف إلية كتب مختلفة فى الطب وكتاب المدخل إلى صناعة المنطق .
وللبرامكة فضل عظيم فى اذكاء الترجمة حينئذ ، فقد شجعوا بكل ما استطاعوا على نقل الذخائر النفيسة إلى العربية من الرومية واليونانية والفارسية والهندية ، من ذلك طلب يحيي بن خالد بكتاب المبسطى لبطليموس ، فقد ندب له أبا حسان وسلماً صاحب بيت الحكمة ، فاتقناه واجتهدا فى تصحيحه بعد أن أحضر النقلة المحودين ، فاختبرا نقلهم وأخذ بأفصحه وأصحه . وقد عنوا عناية واسعة بترجمة التراث الفارسى ونري جيلاً كبيراً ينهض فى عصرهم والعصر الذي تلاهم بهذه الترجمة نذكر من بينهم آل نوبخت وعلى رأسهم الفضل بن نوبخت الذي أكثر من ترجمة كتب الفلك ، وآل نوبخت وعلى رأسهم الفضل بن نوبخت الذي أكثر من ترجمة كتب الفلك ، ,آل سهل وعلى نحو ما صنع يحيي بن خالد بكتاب المحبسطي لبطليموس فقد ندب له أبا حسان وسلماً صاحب بيت الحكمة ، فاتقناه واجتهدوا فى تصحيحه بعد أن أحضر النقلة المجودين ، فاختبرا نقلهم وأخذ بأفصحه وأصحه . قد عنوا عناية واسعة بترجمة التراث الفارسي ونري جيلا كبيرا ينهض فى عصرهم والعصر الذي تلاهم بهذه الترجمة نذكر من بينهم آل نوبخت وعلى رأسهم الفضل بن نوبخت وعلى رأسهم الفضل بن نوبخت الذي أكثر من ترجمة كتب الفلك، وآل سهل وعلى رأسهم الفضل وكان يترجم للمأمون فى حداثته بعض الكتب الفارسية ويعجب بترجمته . ومن أبرز المترجمين للتراث الفارسي حينئذ محمد بن جهم البرمكى وزادويه بن شاهويه وبهرام بن مردانشاه وموسي بن عيسى الكسروى وعم بن الفرخان وسلم صاحب خزانة الحكمة ويسهل بن هرون أحد خزنتها المشهورين . ومن أنفس ما نقلوه أمثال خرد فى صنوف الأداب ومكارم الأخلاق وكتاب هزار أفسانه وهو أصل من أصول ألف ليلة وليلة . وقد نقل أبان بن عبد الحميد كتاب كليلة ودمنة إلى الشعر وأهداه إلى جعفر بن يحيي البرمكى ، ويقال إنه نظمة فى أربعة عشر ألف بيت ، وأيضاً فإنه نقل إلى الشعر العربي سيرة وأردشير وسيرة أنو شروان . وعلى نحو ما دفع البرامكة إلى ترجمته التراث الفارسي واليوناني دفعوا أيضاً إلى الانتفاع بالتراث الهندي وترجمته ، يقول الجاحظ : ( اجتلب يحيي بن خالد البرمكى أطباء الهند فى نقل بعض الكنوز الهند مثل منكة وبازيكر وقلبرقل وسندباذ وفلان وفلان) وقد عملوا فى البمارستان الكبير ببغداد وسرعان ما استعربوا وشاركواهم وغيرهم من مستعربة الهند فى نقل بعض الكنوز الهندية وخاصة فى الطب والعقاقير وشمل نقلهم السندباد وكتباً كثيرة فى الخرافات والأسمار مما تولع بع العامة .
وتبلغ هذه الموجة الحاة للترجمة أبعد غايتها فى عهد المأمون على ملك الروم كتب إلية بسأله الإذن فى أنفاذ ما يختار من العلوم القديمة المخزونة المدخرة ببلد الروم ، فأجاب إلى ذلك بعد امتناع ، فاخرج المأمون لذلك جماعة منهم الحجاج ابن مطر وابن البطريق وسلم صاحب بيت الحكمة وغيرهم ، فاخذوا مما وجدوا ما اختاروا ، فلما حملوه إلية أمرهم بنقله ، فنقل ، وقد قيل أن يوحنا بن ماسوية ممن نفذ إلى بلد الروم ) ويقول ابن نباته فى ترجمته لسهل بن هرون : ( جعله المأمون كاتباً على خزائن الحكمة وهى كتب الفلاسفة التى نقلت للمأمون من جزيرة قبرص ، وذلك أن المامون لما هادن صاحب هذه الجزيرة أرسل إلية يطلب خزانة كتب اليونان ، وكانت مجموعة عندهم فى بيت لا يظهر علية أحد ، فأرسلها إلية ، واغتبط بها المأمون ، جعل سهل بن هرون جازنا لها
ونحن نقف قليلا عند هؤلاء المترجمين بتلك المؤسسة الكبيرة ، وأولهم الحجاج ابن مطر وقد اشتهر بتحريره لكتاب الأصول فى الهندسة لأوقليدس وكتاب المحبسطى لبطليموس . وأما يحيي بن البطريق فكان يجيد اللاتينية واليونانية جميعاً وقد ترجم لأفلاطون قصة طماوس وترجم لأرسططاليس مختصراً فى النفس وكتبه فى الآثار العلوية وفى الحيوان وفى العالم وكتاب أرسطو إلى الإسكندر المعروف باسم سر الاسرار وهو مما نحل على أرسطو ويشتمل على مزيج من القصص وبعض القواعد الاساسية وفى الصحة والتغذية وترجم أيضا كتاب الترياق لجالينوس . وقد مضى التعريف بيوحنا بن ماسويه ، أما سلم وسهل بن هرون فلم يكونا ممن ينقلبون عن اليونانية ، وأنما كانا ممن يراجعان النقل عنها وينقحان فيه وهما من أنبه المترجمين عن الفارسية كما أسلفنا . وممن أخذ اسمه يلمع منذ عهد المأمون فى الترجمة حنين بن أسحق ، وكان دقيقا فى ترجمته حتى قالوا إن المأمون رسم له أن يأخذ وزن ما يترجمه ذهباً وقد عاش إلية سنه 264 ومكانه لذلك كتاب العصر العباسي الثاني .
ومن كبار المترجمين سوي من سميناهم عبد المسيح بن عبد الله بن ناعمة الحمصى المتوفى حول سنة 220 للهجرة وقد أشتهر بترجمتة لكتاب الاغاليط لأرسططاليس وشرح يحيى النحوي ( يوحنا فيلوبونوس ) على كتاب السماع الطبيعى له أيضاً . وترجم كتاباً نسب إلية خطأ وهو كتاب الربوبية أو أوثولوجيا أرسطو ، وهو تلخيص مقتبس من تاسوعات أفلاطون الإسكندي المتوفى سنه 270 للميلاد ومن أجل ذلك يفيض الكتاب بنزعة أفلاطونية محدثة قوية .
وقد جعل المأمون الإشراف على مرصدة الكبير لحيي بن أبي منصور وألحق به طائفة من نايهي الفلكيين مثل على بن عيسى الاسطولابي ومحمد بن موسي الخوارزمى والعباس بن سعيد الجوهرى . ولم يلبث هذا المرصد أن تحول إلى المدرسة رياضية فلكية كبيرة تخرج فيها غير فلكي مثل بنى موسى بن شاكر . وقد أفادت هذه المدرسة من الابحاث الفلكية الرياضية والجغرافية التى سبقها إليها الهنود والفرس واليونان وأضافت إلى ذلك إضافات جديدة باهرة ، وإذ وضعت لحركات الأفلاك زيجات وجداول أكثر دقة مما كان لدى الأقدمين وأدخلت تحسينات على خريطة بطليموس ، وأستطاعت أن تقيس درجتين من درجات محيط الأرض على أساس كروبتها ، وإلى مباحث فلكية وجغرافية ورياضية كثيرة .
ومحمد بن موسي الخوارزمى هو أكبر العلماء الرياضيين والفلكيين الذين قاموا على أبحاث هذا المرصد ، وهو يعد بحق منشى عثر جديد فى التاريخ العالمي للرياضيات إذ اكتشف علم الجبر وقواعدة وأعطاه اسمه الذى شاع من بعده فى العالم كله ، وقد أضاف إلية أبحاثاً مبتكرة فى أرقام الحساب الهندية وفى حساب المثلثات وفى الجغرافية وفى الأزياج أو الجداول الفلكية ، يقول ألدومبيلى: ( وله فى هذا المجال اعظم تاثير أولا فى المجال أعظم تأثير ، أولاً فى الشعوب الإسلامية ثم بعد ذلك فى الشعوب الغربية المسيحية وحسابة المفقود نصه العربي مع وجود ترجمة لاتينية له من القرن الثاني عشر الميلادي كان أعظم الفضل فى تعريف العرب واللاتين من بعدهم بنظام العدد الهندي ، وكتابه المشهور المختصر فى حساب الجبر والمقابلة لم يؤد فقط إلى وضع لفظ علم الجبر وإعطائه مدلوله الحالي . بل إنه افتتح عصراً جديداً في الرياضيات ...وألف أيضاً كتباً في الهندسة . ووضع جداول خاصة بحساب المثلثات والسطوح الفلكية )
وقد نشر على مصطفى مشرفه ومحمد مرسى أحمد كتابه الجبر والمقابلة وهو يذكر فى مقدمته تشجيع المأمون له منوها به ويظهر انه نجح في صنع الجداول الفلكية نجاحا رائعا ويقول نالينو إنه ( تصطنع زيجا سماه السند هند الصغير جمع فيه بين المذاهب الهند والفرس ، وجعل أساسة على السند هند ، وخالفه في التعاديل والميل ، فجعل تعادلية على مذاهب الفرس وجعل ميل الشمس فيه على مذهب بطليموس .
والخوارزمي – بدون ريب – يفتتح افتتاحاً رائعاً سلسلة الرياضيين والفلكيين والجغرافيين من علماء العرب العظام وقد نبغ في هذا العصر كثيرون في الطب وعلم العقاقير على نحو ما تشهد بذلك كتب طبقات الأطباء وما تزخر به من سيول الرسائل والكتب في الأمراض وطرق علاجها والعقاقير وتركيبها . وقد أستطاع يوحنا ابن ماسويه – بما كان يعكف علية من علم التشريح ، وله في طب العيون رسالة مهمة سماها ( دغل العين ) وقد دوت شهرتها في عصره وبعد عصره وترجمت إلى اللاتينية .
وقد مضى العرب يعنون – منذ خالد بن يزيد بن معاوية – بعلم الصنعة ( الكيمياء ) وظلوا يزدادون فيه علماً حتى ظهر لهذا العصر جابر بن حيان ، وهو ابن صيدلي كوفى ، فأرسى هذا العلم على دعائم التجربة وخلف فيه كثيرا من النظريات في الاكسير وخواصه ، وصور ذلك فى أكثر من مائة رسالة ، ترجمت منها طائفة كبيرة إلى اللاتينية وأفاد منها الأوربيون فوائد جلي مما كان له أكبر الثر فى نهضة الأبحاث الكيميائية بديارهم . وقد تشكك في شخصية جابر ومصنفاته بعض الباحثين ، وهو شك بدأه بعض القدماء حتى لنرى ابن النديم يرد عليهم ردا طويلا ، وهو – دون نزاع – المؤسس الأول لعلم الكيمياء عند العرب ، كما أن الخوارزمى المؤسس الأول للعلوم الرياضة والفلكية والجغرافية وكما أن يوحنا بن ماسوية المؤسس الاول للأبحاث الطبية العربية .
وكان مما عنوا بنقله إلى العربية كتب الموسيقى لأوقليدس وغيرة ، وكان لها تأثير بعيد فى نهضة الغناء والتلحين وقد استطاع الخليل بن أحمد أن ينفذ مما ترجم منها إلى وضع على العروض العربي ، وايضاً فإنه ألف كتاباً بديعاً في علم الإيقاع اتخذه إسحق الموصلى قدوته فى كتبه الموسيقية .
وكل هذه السيول من الترجمة كانت تجري معها سيول أخري من التراث اليونان والفرس والهند ، حتى ليكاد الإنسان يظن أنه لم يبق شىء من هذا التراث لم ينتقل إلى العربية ، سواء منه ما تصل بالعلوم أو ما اتصل بالصناعات أو ما اتصل بالعجائب والأسمار والخرافات ، أو ما اتصل بالصناعات او ما اتصل بالملل والنحل . وكانت كل هذه السيول تتجمع فى دكاكين الوراقين ، ويطلب كل منها ما يجد فيه متاعه .
وكانت الفلسفة اليونانية والمعارف العلمية أعظم ما حملت هذه السيول ، وقد مضى العقل العربي يسيغهما ويتثلهما ويضيف إليهما إضافات باهرة ، والمتكلمون - وعلى رأسهم المعتزلة – هم أهم من تعمقوا الفلسفة بجميع شعبها ودقائقها ، ولقد عرضوها على بساط البحث ، واستطاعوا أ ينفذوا إلى كثير من النظريات والأفكار والآراء التى لم يسبقهم إليها سابق .
وعلى هذا النحو أصبح العقل العربي في العصر العباسي الأول عقلا متفلسفاً كما أصبح عقلا علمياً ، لا من حيث فهمه وفقهه بعلوم الأوائل بل أيضا من حيث أسهامه فيها وإضافاته الجديدة حتى ليضيف علوماً لأول مرة في تاريخ الحضارة الإنسانية على نحو ما أضاف الخوارزمى على الجبر وكان هذا العقل قد أظهر نضجه العلمي وأحكامه لوضع العلوم منذ القرن الثاني ، مما نراه متجلياً في العلوم اللغوية والدينية ومباحث التاريخ وعلم الكلام .
التجديد في الموضوعات القديمة :
ظل العباسيون ينظمون في الموضوعات القديمة من المديح وغير المديح مما كان ينظم فيه الجاهليون والإسلاميون وبذلك أبقوا للشعر العربي على شخصيته الموروثة ,وقد مضوا يدعمونها دعماً بما لاءموا بينها وبين حياتهم العقلية الخصبة وأذاقهم المتحضرة المرهقة , فإذا هي تتجدد من جميع أطرافها تجدداً لا يقوم على التفاصل بين صورة هذه الموضوعات الجديدة وصورتها القديمة , بل يقوم على التواصل الوثيق .
وأول موضوع نقف عنده المديح , ومعروف أن الشاعر الجاهلي والإسلامي كان يرسم في ممدوحه المثالية الخلقية الرفيعة التي تقدرها الجماعة , وإذا كان مؤثراً في حياة عصره السياسية كأن يكون خليفة أو والياً عرض لأعماله , وللأحداث التي شارك فيها , أما إذا كان بطلاً يقود الجيوش ضد أعداء الأمة العربية فإنه يصور بطولته وما خاضه من معارك حربية . وقد اضطرمت هذه الغايات للمدحة في العصر العباسي , إذ نرى الشعراء يعيدون ويبدئون في تصوير المثل الخلقية صوراً حية ناطقة , ويعدو الحصر استنبطوه من معان طريفة في السماح والكرم والحلم والحزم والمروءة والعفة وشرف النفس وعلو الهمة والشجاعة والبأس , وقد جسموه في الممدوحين تجسيماً قوياً , حتى لتصبح كأنها تماثل قائمة نصب أعين الناس كي يتحذوها ويحزوها لأنفسهم مجامع الحمد والثناء . وبذلك ظلت المدحة تبث في الأمة التربية الخلقية القوية حافزه لها على الفضائل والمكارم الرشيدة . والذي لا ريب فيه أنها تحمل خصالنا وخصائصنا النفسية , وقد أشعل الشعراء العباسيون جذوتها في النفوس بما رفدوها به من عقولهم الخصبة وأخيلتهم البارعة . وقد مضى الشعراء في مديح الخلفاء والولاة يضيفون إلى هذه المثالية مثالية الحكم وما ينبغي أن يقوم عليه من الأخذ بدستور الشريعة وتقوى الله والعدالة التي لا تصلح حياة الأمة بدونها , وبذلك كانوا صوتاً قوياً لها , صوتاً ما بني يهتف في آذان الحكام بما ينبغي أن يكون عليه في سلوكهم وسياستهم من مثل قول مروان بن أبي حفصة في مطلع قصيدة للمهدي :
أحيا أميــر المؤمنين محمد سنن النبي : حرامــها وحلالها
وفيه يقول الحسين بن مطير :
يعف ويستحي إذا كان خالياً كما عف واستحيا بحيث رقـيب
ويقول أبو العتاهية في هارون الرشيد :
ورع يراعى الله في حفظ أمـة يدافع عنها الشر غير رقــــــود
تجافي عن الدنيا وأيقن أنها مفارقة لــيست بدار خلـــــــود
وفيه يقول منصور النمري :
بورك هرون من إمــــــــام بطاعة الله ذي اعـــــتــــصــــام
له إلى ذي الجلال قــــربى ليست لعدل ولا إمــــــــــــــام
وقد يكون الخليفة سيء السلوك مثل الأمين , ولكن الشعراء يمدحونه بنفس هذه المثالية الكريمة للخلفاء , لأنهم لا يمدحون من حيث هو , وإنما يمدحونه خليفة للمسلمين وموضع آمالهم , وكأنما يريدون أن يرفعوا أمام عينه الشعارات التي تطلبها الأمة في خليفته وراعيها , لعله يثوب إلى طريق الرشاد . وقد نمت من هذا المديح فروع الشعر السياسي , الذي يقف فيه الشاعر مدافعاً عن حق حزب من الأحزاب في الحكم والخلافة , وهو نمو بدأ منذ وقعة صفين , وهيأ لظهور أحزاب الخوارج والشيعة , ومعروف أن حركة الأولين خمدت في هذا العصر , أما حركة الشيعة فظلت مضطرمة وسنعرض لشرائعها وأشعارهم السياسية في الفصل السادس , وأيضاً لمن كانوا يشايعون العباسيين .
ولم يصور الشعراء مثاليتنا الخلقية العامة في مدائحهم وكذلك مثاليتنا السياسية فحسب , بل صوروا أيضاً الأحداث التي وقعت في عصور الخلفاء وخاصة الفتن والثورات الداخلية وحروب أعداء الدولة من الروم والترك , وبذلك قامت قصيدة المدح في هذا العصر مقام الصحافة الحديثة , فهي تسجل الأحداث التي عاصره الشاعر والأعمال الكبرى التي ينهض بها الخلفاء , مما يعطيها قيمة بعيدة إذا تصبح وثائق تاريخية , ومن أجل ذلك كنا نرى الطبري في تاريخه يتوقف من حين إلى حين لينشد ما نظمه بعض الشعراء في الحادث الذي يرويه وليجلوه جلاءً تاماً على لسان هؤلاء الشعراء الذين عاصروه , وبذلك أعدوا من بعض الوجوه ليتحول المديح إلى تاريخ , وكان من أوائل من نفذ إلى ذلك السيد الحميري , فإنه حول أخبار علي بن أبي طالب ومناقبه إلىمدائح بديعة , وفي ترجمته بكتاب الأغاني لأبي الفرج الأصبهاني من ذلك طرائف كثيرة .
وربما كان أهم ما سجلته صحف المديح في هذا العصر صور الأبطال الذين كانوا يقودون جيوش الأمة المظفرة ضد أعدائها من الترك والبيزنطيين , فقد أشادت إشادة رائعة بكل معركة خاضوا غمارها وكل حصن اقتحموه , حتى كادت لا تترك موقعة ولا بطلاً دون تصوير يضرم في النفس العربية الاستبسال والمضاء وجلاد الأعداء جلاداً عنيفاً وكل كاتب في هذه الصحف أو قل كل شاعر يتفنن في رسم بطولة القائد الذي يمدحه رسماً يشعل الحماية في نفوس جنوده ونفوس الشباب العربي ومن ورائهم فإذا هم يترامون على منازلة أعدائهم ترامي الفراش على النار يريدون أن يسحقوهم سحقاً . وكان الرشيد والمأمون والمعتصم يقودون بأنفسهم الجيوش التي كانت تمحق البيزنطيين محقاً فتغني الشعراء بانتصاراتهم غناء يسكب الفرحة في كل نفس , ولعل من أروعه غناء أشجع شاعر البرامكة بفتح الرشيد لهرقلة في آسيا الصغرى واكتساحه لجيش نقفور أمبراطور بيزنطة , وأكثر منه روعة غناء أبي تمام بفتح المعتصم لأنقرة وحرقه لعمورية في بائيته المشهورة , وهي إلى أن تكون ملحمة أقرب منها إلى أن تكون قصيدة . وتكتظ كتب الأدب ودواوين الشعراء بتصويرهم لبسالة جميع القواد , لا الذين أسهموا في حروب البيزنطيين فحسب , بل أيضاً في حروب الترك وبابك الخرمي وغيره من الثائرين في شرقي الدولة. ولم يكتف الشعراء بهذا التصوير فقد عنوا بتسجيل كل ما يستطيعون من تفاصيل عن المعارك الحربية , وبذلك لم تعد قصائدهم مديحاً فحسب بل أصبحت أيضاً تاريخاً , وهو تاريخ كتب شعراء , تاريخ أبطالنا وأمجادهم الحربية , وكان هؤلاء الأبطال ومن ورائهم الخلفاء يرصدون الجوائز الضخمة للشعراء كي يرسموا هذه البطولات ورسموا حقاً رسماً باهراً سنرى مقتطفات منه في تضاعيف تراجمهم , ويكفي أن نسوق قطعة من تصوير على بن جبلة لبطولة أبي دلف العجلي قائد المأمون المشهور , إذ يقول من قصيدة طويلة يصف فيها بعض وقائعه :
المنايا في مقانبه
وزحوف في صواهله
قدته والموت مكتمن
فرمت جيلوه منه يد
زرته والخيل عابسة
فأبحث الخيل عقوته
صاغك الله أبا دلف
كل من في الأرض من عرب
مستعير منك مكرمة



والعطايا في ذرا حجرة
كصياح الحشر في أمره
في مذاكيه ومشتجره
طوت المنشور من بطره
تحمل البؤسى إلى عقره
وقريت الطير من جزره
صيغه في الخلق في خيره
بين باديه إلى حضره
يكتسيها يوم مفتخره


وكانت المدحة قديمة تشتمل على مقدمات تصف الأطلال وعهود الهوى بها وما يلبث الشاعر أن يستطرد في وصف الصحراء ناعتأً ما يركبه من بعير أو فرس وما يراه فيها من حيوان وحشي , وقد يعرض لوصف مشهد الصيد , وكثيراً ما يضمنها بجانب ذلك حكماً توسع مدارك السامع وتبصره بأطراف من سنن الحياة , وكل ذلك استبقاه شاعر المدحة في العصر العباسي , ولكن مع إضافات كثيرة , حتى يتلائم بينه وبين عصره , وتتسع الإضافة أحياناً وتضيق أحاناً ولكنها دائماً تعبر عن الذخائر العقلية والخيالية للشاعر العباسي , وقد تعجب لاستبقاء هؤلاء الشعراء المتحضرين لعناصر الأطلال ورحلة الصحراء البدوية , غير أنهم اتخذوها رمزاً , أما الأطلال فلحبهم الدائر , وأما رحلة الصحراء فلرحلة الإنسان في الحياة , وقد استغلوا ما كان يصحب الأطلاق من حنين لذكريات حبهم ومعاهده لا يزال يترقرق في أشعارهم من مثل قول مسلم بن الوليد :
هلا بكيت ظعائنا وحمولا
فإذا زجرت القلب زاد وجيبه
وإذا كتمت جوى الأسى بعث الهوى
واها لأيام الصبا وزمانه



ترك الفؤاد فراقهم مخبولاً
وإذا حبست الدمع زاد همولاً
نفساً يكون على الضمير دليلاً
لو كان أمتع بالمقام قليلاً


وحاول بعض الشعراء أن يترك الحديث عن الأطلال المهجورة إلى قصور الحاضرة المأنوسة , وحينئذ كان لا يسترسل في وصف حنينه , على شاكلة أشجع إذ يستهل إحدى قصائده بقوله :
قصر عليه تحية وســــــــلام نشرت عليه جمالها الأيـــــــــــــام
على نحو ما استبقوا الأطلال وما يتصل بها من حنين يبعث بنفوسهم استبقوا رحلة الصحراء وتفننوا في وصف وعوثة طرقها ورياحها الحارة , التي تكاد تتوقد توقداً على شاكلة قوم مسلم :
ومجهل كاطراد السيف محتجز
تمشي الرياح به حسرى مولهة



عن الأداء مسجور الصياخيد
حيرى تلوذ بأطراف الجلاميد


فالرياح من شدة الحر وما يجري في قلبها من الفزع تلجأ إلى أطراف الصخور السمتعلية فوق الآكام , كأنها تريد الفرار من هذا الجحيم المطبق , وقد داروا حول وصف الحيوان الوحشي محاولين أن يستنبطوا بعض الصور الطريفة من مثل قول بشار في بائيته , يصور ما نال أتن الوحش من حرقة العطش الشديد :
غدت عانة تشكو بأبصارها الصدى



إلى الجأب إلا أنها لا تخاطبه


وهي صورة تخفق بالحياة إذ مث العطش في غور أحداقها , حتى لتهم بالكلام شاكية لحمارها , ولكن أني لها ذلك وهي عجماء لا تبين . وكان الشاعر القديم يكثر من وصف نحول بعيره وذوقه لطول الطرق الوعرة وما يصيبها من شدة الكلال والإعياء , حتى ليشبهها بالأقواس والأهلة ضموراً وهزالاً , وردد الشاعر العباسي هذا المعنى طويلاً محاولاً الخلوص إلى بعض الأفكار المستحدثة , من مثل قول أب الشيص مخاطباً أحد ممدوحيه وواصفاً نحول نوقه ونحول راكبيها :
أكل الوجيف لحومها ولحومهم
ولقد أتتك على الزمان سواخطاً



فأترك أنقاضاً على أنقاض
فرجعن عنك وهن عنه رواض


وتحول الشاعر العباسي في أحيان كثيرة من وصف الصحراء ومسالكها وسمومها وحيوانها إلى وصف الرياض في الحاضرة ومناظرها البهيجة في الفربيع , ومن خير ما يصور ذلك قصيدة ابي تمام في مديح المعتصم التي يستهلها بقوله :
رقت حواشي الدهر فهي تمرمر



وغدا الثرى في حليه يتكسر


وقد ضى يتحدث في إسهاب عن جمال الطبيعة في الربيع , وكأنه يتخذ منه رماً لعصر المعتصم . واتخذوا أحياناً من وصف السفن ورحلتها في الأنهار صورة مقابلة لرحلة البعير في الصحراء , مثل قول بشار في إحدى مدائحه للمهدي :
وعذراء لا تجري بلحم ولا دم
إذا ظعنت فيها الفلول تشخصت
تلاعب تيار البحور وربما



قليلة شكوى الأين ملجمة الدبر
بفرسانها لا في وعوث ولا وعر
رأيت نفوس القوم من جريها تجري


وجعلتهم موجه المجون الحادة في العصر يصفون في مقدمات مدائحهم الخمر أحياناً , واستهل ذلك بشار وتوسع فيه مسلم وأبو نواس وأبو العتاهية سعة شديدة . وعنوا على نحو ما عنى الشاعر القديم ببث الحكم في قصائدهم , وكم قد ترجم كثير من الحكم الفارسية والهندية واليونانية فأفادوا من ذلك كله ونثروه في تضاعيف مدائحهم, مضيفين إليه كثيراً من تأملاتهم في الحياة والطباع , ومن مثل قول أبي تمام في فضل المحسود ونقص الحسود :
وإذا أراد الله نشر فضيلة
لولا اشتعال النار فيما جاورت



طويت أتاح لها لسان حسود
ما كان يعرف طيب عرف العود


وهو كثير الحكم في مدائحه وقد صب فيها كثيراً من شكوى الزمن وخطوبه , بحيث يعد مقدمه قوية لابن الرومي والمتنبي , وهو يمزج شواه بمغالبة عاتية للدهر ونوازله وبذلك كانت مدائحه تسكب القوة في نفس كل عربي , لا بما يصور من بسالة الأبطال والقواد في الحروب فحسب , بل أيضاُ بما يودعها من فتوة عارمة على شاكلة قوله :
أعاذلتي ما أخشن الليل مركباً
ذريني وأهوال الزمان أفانها
ألم تعلمي أن الزماع على السرى
دعيني على أخلاقي الصم للتي
فإن الحسام الهندواني إنما



وأخشن منه في الملمات راكبه
فأهواله العظمى تليها رغائبه
أخو النجح عند النائبات وصاحبه
هي الوفر أو سرب ترن نوادبه
خشونته ما لم تفلل مضاربه


وعلى هذا النحو ازدهرت المدحة على لسان الشاعر العباسي لا بما رسم فيها من مثاليتنا الخلقية وسجل من الأحداث وصور البطولات العربية فحسب , بل أيضاً بما تمثل من العناصر القديمة وأذاع فيها من ملكاته وما أضافه إليها من عناصر جديدة استمدها من بيئته الحضارية , ومن نفسيته وملكاته العقلية . ودفعتهم دقتهم الذهنية إلى أن يلائموا بين مدائحهم وممدوحيهم فإذا مدحوا الخلفاء نوهوا بتقواهم وعدلهم في الرعية , وإذا مدحوا القواد أطالوا في وصف شجاعتهم وإذا مدحوا الوزراء تحدثوا عن حسن سياستهم , وكذلك صنعوا بالفقهاء والقضاة والمغنيين , فلكل أوصافه التي تخصه وهي أوصاف طلبوا فيها وفي كل مدائحهم الفكر الدقيق والتعبير الرشيق .
وإذا تركنا المديح إلى الهجاء وجدنا معالم التطور فيه أعمق وأوسع منها في المديح الخالص إذا كان يتصل بحياة الشعب والعامة اتصالاً لعله أدق من اتصال المديح , وهي حياة لم يعد أساساه العصبيات القبلية كما كان الشأن في العصر الأموي , ومن أجل ذلك ضعف فن النقائض لقيامه عليها إلا أسراباً قليلة كانت تظهر من حين إلى آخر , ولكن إذا كان هذا الفن ضعف , فإن الهجاء لم يضعف بسبب التنافس الشديد بين الشعراء وقد عمت فيه روح جديدة إذا أخذوا يريشونه سهاماً مضمية . ويخيل إلى الإنسان أن أصحابه لم يتركوا مثلبة خلقية أو نفسية في شخص إلا صوروها , وكأنما يريدون أن يطهروا المجتمع منها , ولم يتورعوا أحياناً عن هجاء الخلفاء والوزراء , كلما رأوهم ينحرفون عن الجادة على نحو ما هو مشهور عن دعبل . وبذلك يصبح الهجاء الصحيفة التربوية المقابلة للمديح , فالمديح يرسم المثالية الخلقية لهذه التربية , والهجاء يرسم المساوي الفردية والاجتماعية التي ينبغي أن يتخلص منها المجتمع الرشيد . وقد تبارى الشعراء في رسم معانيه , تارة يخزون وخزن الإبر , وتارة يطعنون طعنات قاتلة , ومن ذلك قول بشار في هجاء ابن قزعة بشحه :
فلا تبخلا بخل ابن قزعة إنه
إذا جئته للعرف أغلق بابه



مخافة أن يرجى نداه حزين
فلم تلقه إلا وأنت كمين


وقول أبي تمام صوراً غيرة شخص لا في موضع الغيرة من نسائه , وإنما في الغيرة على طعامه ورغفانه حتى لكأن كسر رغيفه كسر عظم من عظامه , بل لكأنه فتك به أشد الفتك , يقول :
صدق أليته إن قال مجتهداً
قد كان يعجبني لو أن غيرته
إن رمت قتلته فافتك بخبزته



لا والرغيف فذاك البر من قسمه
على جراذقه كانت على حرمه
فإن موقعها من لحمه ودمه


وأهم ليقة غمس فيها الشعراء هجاءهم ليقة الاستخفاف والتهوين والتحقير , وقد استمد منها حماد عجرد كثيرا حين استطار الهجاء بينه وبين بشار من مثل قوله :
وأعمى يشبه القرد
دنيء لم يرح يوماً
ولم يحضر مع الخضا
ولم يخش له ذم



إذا ما عمى القرد
إلى مجد ولم يغد
ر في خير ولم يبد
ولم يرج له حمد


ويقال إن بشار حين سمع هذه الأبيات بكى من شدة إيلامها لنفسه , فقال له فانن أتبكي من هجاء حماد ؟ فقال : والله ما أبكي من هجائه , ولكن أبكي لأنه يراني ولا أراه , فيصفني ولا أصفه . وأتاه من باب جديد ألهمته به الحضارة وما يأخذ به أهل الحاضرة أنفسهم من النظافة والتعطر , فوصفه بالقذارة والدنس في أبيات لعلها كانت أشد إيلاماً وأوجع وخزاً لنفسه من الأبيات السابقة , إذ يقول :
نهاره أخبث من ليله
وليس بالمقلع عن غيه
ما خلق الله شبيهاً له
والله ما الخنزير في نتنه
بل ريحه أطيب من ريحه
ووجهه أحسن من وجهه
وعوده أكرم من عوده



ويومه أخبث من أمسه
حتى يوارى في ثرى رمسه
من جنه طراً ومن إنسه
بربعه في النتن أو خمسه
ومسه ألين من مسه
ونفسه أنبل من نفسه
وجنسه أكرم من جنسه


يقول الجاحظ : " وأنا - حفظك الله تعالى – استطرف وضعه الخنزير بهذا المكان في هذا الموضع حين يقول : ( وعوده أكرم من وعوده ) وأي عود للخنزير قبحه الله تعالى وقبح من يشتهي أكله " . وحماد يضيف إلى قذارة الجسد قذارة الخلق , ومع أن بشار كان في الذروة الرفيعة من صنع الشعر ونظمه وكان حماد في السفح البعيد فإن حماداً كان يستعلى عليه في الهجاء . ولما أعياه أمره جاءه من باب ضيق , محاولاً أن يضع أغلال أولى الأمر في يديه , إذ أدعى عليه أنه زنديق يؤمن بإلهي النور والظلمة كما يؤمن المجوس قائلاً في أبيات :
يا ابن نهيا رأس على ثقيل
أدع غيري إلى عبادة ربيـ



واحتمال الرءوس خطب جليل
ـن فإني بواحد مشغول


ومكر به حماد فأشاع الأبيات لبشار في الناس وجعل فيها مكان ( فإني بواحد مشغول ) : ( فإني عن واحد مشغول ) ليثبت عليه الزندقة والكفر . يقول أبو الفرج: فما زالت الأبيات تدور في أيدي الناس حتى انتهت إلى بشار , فاضطرب منها وتغير وجزع وقال : عرضي للقتل , والله ما قلت إلا ( فإني بواحد مشغول ) فغيرها حتى يشهرني في الناس بما يهلكني " , وكان جميعاً زنديقين مستترين , وكأنما خافا أن يفتضحا ويحاكمهما المهدي . ونرى بشاراً يلطخ بالتهمة زنديقاً ثالثاً هو عمارة بن حربية وله يقول :
لو كنت زنديقاً – عمار – حبوتني
لكني وحدت ربي مخلصاً



أو كنت أعبد غير رب محمد
فجفوتني بغضاً لكل موحد


ويكثر في هجاء بشار وغيره هتك الأعراض , وربما كان لشيوع المجون والفحش أثر في ذلك . وتشيع في كثير من قطع الهجاء روح السخرية المريرة , وقد تشيع روح الفكاهة المضحكة , على نحو ما يلقانا في هجاء أبي العتاهية لعبد الله بن معن وقد جعل منه فتاة تتزين لتلفت إليها الرجال . ودفعت بشار شعوبيته الذميمة ليهجو العرب بأشعار تعد وصمة في جبينه , وعلى نحو ما لاءموا بين مدائحهم وممدوحيهم لاءموا بين أهاجيهم ومهجويهم , فإذا كانوا قضاة وصفوفهم بالظلم , وإذا كانوا مغنيين وصفوهم برداءة الصوت ودمامة المنظر , ولعل من الطريف أن تجد شاعراً يهجو محمد بن يسير بما يدعى من معرفة ***** والشعيذة والعزائم عن الجن والشياطين .
وظلت للفخر حيويته القديمة , وإن كان قد ضعف فيه الفخر القبلي , على أن أسراباً بقيت منه عند نفر من الشعراء , وفي مقدمتهم أبو نواس إذا كان يتعصب لمواليه من بني سعد العشيرة القحطانية , وينظم في ذلك أشعاراً كثيرة , ومثله كان دعبل وقد رد على مذهبه الكميت التي تشيع في للنزاريين على القحطانيين رداً عنيفاً , مما جعل أبا سعد المخزومي يهاجيه طويلاً , وحاول شاعر يسمى ابن قنبر أن يدفع مسلم بن الوليد للاشتباك في معركة حامية من معارك الهجاء القبلي , ولكن مسلماً أخرسه . وكان بشار يتعصب في عصر بني أمية لمواليه القيسيين تعصباً حاداً , حتى إذا نجحت الثورة العباسية أظهر ما كان يستره من كره الإسلام والعرب , وأخذ يعنف بهم عنفاً شديداً مصوراً البغض الذي كان يحرق كبده , والجديد حقاً في الفخر لهذا العصر أن كثراً من الشعراء صدروا في فخرهم عن شعور طاغ بالمروءة والكرامة والشيم الرفيعة من مثل قول عوف بن محلم الخزاعي :
وإني لذو حلم على أن سورتي
وإني لأجزى بالكرامة أهلها



إذا هزني قوم حميت بها عرضي
وبالحقد حقداً في الشدائد والخفض


وقول بكر بن النطاح :
ومن يفتقر منا يعيش بحسامه
وإنا لنلهو بالسيوف كما لهت



ومن يفتقر من سار الناس يسأل
فتاة بعقد أو سخاب قرنفل


ونشط الشعراء في الرثاء نشاطاً واسعاً , إذ لم يمت خليفة ولا وزير ولا قائد مشهور إلا وأبنوه تأبيناً رائعاً , وقد صوروا في القواد بطولتهم ومحنة الأمة والجيوش في وفاتهم, وكيف ملأ موتهم القلوب حسرة وفزعاً . وحقاً رثاؤهم لهم يفيض بالحزن واللوعة , ولكنه مع ذلك يكتظ بالحماسة والقوة وتمجيد بطولتهم تمجيداً يضرم الحمية في نفوس الشباب للدفاع عن العرين حتى الموت , دفاعاً يقوم على البأس والبسالة والاستطالة , وكان يحدث أن يخر بطل صريعاً في بعض الميادين , حينئذ ينظم فيه الشعراء مراثي حماسية تؤجج لهيب الحفيظة في القلوب وتدفع إلى الاستشهاد تحت ظلال الرماح ذباً عن حرمات الوطن , ومن خير ما يمثل ذلك مراثي أبي تمام في محمد بن حميد الطوسي الطائي , فإنه أوقع ببابك وجنوده لعهد المأمون وقائع ملأته هو وعسكره فزعاً ورعباً , ولكن حدث في آخر وقعة أن اندفع ابن حميد في مضيق حرج , والتفت به جنود بابك فظل قائماً يدافعهم ويقاومهم لا يتزحزح عن موضعه , حتى إذا أحيط به لم يستسلم ولم يلق السلاح , بل قاتل حتى قتل عزيزاً كريماً . وحزنت الأمة حزناً عميقاً لموته , وانبرى أبو تمام يرثيه مراثي رائعة تصور جلده في القتال وصبره في النضال حتى الموت الزؤام , على نحو ما يلقانا في مرثيته العينية , التي استهلها استهلالاً بديعاً بقوله :
أصم بك الناعي وإن كان أسمعاً



وأصبح مغني الجود بعدك بلقعا


وفيها يقول :
فتى كلما ارتاد الشجاع من الردى
فإن ترم عن عمر تدانى به المدى
فما كنت إلا السيف لاقى ضريبه



مفراً غداة المأزق ارتاد مصرعاً
فخانك حتى لم تجد فيه منزعاً
فقطعها ثم أثنى فتقطعا


ومن الأبطال الذين بكاهم الشعراء منصور بن زياد وقد أبلى لعهد الرشيد في القضاء على ثورة بالقيروان , ووافاه القدر , فرثاه عبد الله بن أيوب التيمي بقصيدة بديعة يقول في تضاعيفها :
أما القبول فإنهن أوانس
والناس مأتمهم عليه واحد
عجباً لأربع أذرع في خمسة



بجوار قبرك والديار قبور
في كل دار رنة وزفير
في جوفها جبل أشم كبير


ولعل بطلا لم تذرف دموع الشعراء عليه كما ذرفت على يزيد بن مزيد الذي فتك بخوارج الموصل فتكة لم تقم لهم بعدها قائمة , وسنلتقي في تراجم الشعر بمراث له مختلفة وفي تأبينه يقول منصور النمري :
وإن تك أفنته الليالي وأوشكت



فإن ذله ذكراً سيفني اللياليا


وواضح ما في هذه الأشعار من دقة التفكير وبعد الخيال , ويلقانا ذلك دائماً في تأبينهاتهم إذا كانوا يتنافسون في استنباط المعاني النادرة ومن طريف ما لمسلم ابن الوليد من هذه المعاني قوله في رثاء شخص :
أرادوا ليخفوا قبره عن عدوه



فطيب تراب القبر دل على القبر


وكان الشاعر القديم كثيراً ما يفزع إلى العزاء بالأمم السالفة والقرون الخالية وأن الموت كأس دائر يتجرع غصصه جميع الناس , فردد ذلك الشاعر العباسي في مراثيه , وأخذ يضيف إليه من فكره الخصب تأملات في حقائق الموت وسنن الوجود من مثل قول ابن مناذر في تأبين عبد المجيد الثقفي :
كل حي لاقى الحمام فمودى
لا نهاب المنون شيئاً ولا تر
يقدح الدهر في شماريخ رضوى
ولقد تترك الحوادث والأيا
يفعل الله ما يشاء فيمضى
فكأنا الموت ركب محثـ



مالحي مؤمل من خلود
عى على والد ولا مولود
ويحط الصخور من هبود
م وهيا في الصخرة الجلمود
ما لفعل الإله من مردود
ـون سراع لمنهل مورود


وشاع في العصر بكاء الرفقاء والأصدقاء , بكاء يفجر الحزن في النفس , لما يصور من شقاء الأصدقاء بمو رفاقهم وكيف يطلون بنار الفراق المحرقة , من مثل قول بشار في ندب أحد أصدقائه من الزنادقة :
أشرب على تلف الأحبة إننا
ويلي عليه وويلتي من بينه
قد ذقت ألفته وذقت فراقه



جزر المنية ظاعنين وخفضاً
كان المحب وكنت حباً فانقضى
فوجدت ذا عسلاً وذا جمر الغضا


وكان إخوتهم وأبنائهم يموتون تحت أعينهم , فتدور بهم الأرض ويبكون بدموع غزار , وينفسون عن أنفسهم بأبيات تصور الحزن المقيم في قلوبهم لا يبرح , من مثل قول العتبى في ابن له اختطفه الموت بعد أبناء آخرين , وقد مات في ريعان شبابه :
وقاسمني دهري بني بشطره
ألا ليت أمي لم تلدني وليتني
وكنت به أكنى فأصبحت كلما



فلما تقضى شطره عاث في شطري
سبقتك إذا كنا إلى غاية نجري
كنيت به فاضت دموعي على نحري


وعلى نحو ما تفجعوا على أبنائهم وإخوتهم تفجعوا على زوجاتهم تفجعاً كله عطف وبر ورحمة , ولابن الزيات مراث مختلفة لزوجته , توضح من بعض الوجوه ثراء الفكر العباسي بالخواطر وقدرته على تحليلها وتمثيل أحزانه وحزن طفله الذي افتقد عطف الأم وحنانها , من مثل قوله :
ألا من رأى الطفل المفارق أمه
رأى كل أم وابنها غير أمه
وبات وحيداً في الفراش تجنه
فلا تلحياني إن بكيت فإنما
وهبني عزمت الصبر عنها لأنني
ضعيف القوى لا يطلب الأجر حسبه



بعيد الكرى عيناه تبتدران
يبيتان تحت الليل ينتجيان
بلابل قلب دائم الخفقان
أداوي بهذا الدمع ما تريان
جليد فمن بالصبر لابن ثمان
ولا يأتسى بالناس في الحدثان


وظلت المآتم قائمة على قتلى الشيعة في العصر والعصور السابقة منذ قتل علي بن أبي طالب , فهم ينوحون عليهم نواحاً حاراً , ودموعهم لا ترقأ ولا تجف , وستعرض لذلك في الفصل السادس . وبكى الشعراء البرامكة طويلاً حين نكبهم الرشيد , من مثل قول سلم الخاسر :
خوت أنجم الجدوى وشلت يد الندى
هوت أنجم كانت لأبناء برمك



وغاضت بحار الجود بعد البرامك
بها يعرف الحادي طريق المسالك


وظهرت ضروب جديدة في الرثاء لم تكن معروفة قبل هذا العصر , من ذلك رثاء المدن حين تنزل بها كوارث النهب والحرق , وكان الجيش الذي أحاط ببغداد قبل مقتل الأمين رماها بالمجانيق فاندلعت فيها النيران واحترقت بعض الأحياء , وعم فيها نهب الأموال وقتل الأبرياء , مما جعل كثيرين من الشعراء يبكونها وقد غمرهم الحزن والأسى , ومن مثل قول بعضهم :
ألا ابك الإحراق وهدم منازل
وإبراز ربات الخدور حواسراً
كأن لم تكن بغداد أحسن منظراً



وقتل وإنهاب اللهى والذخائر
خرجن بلا خمر ولا بمآزر
وملهى رأته عين لاه وناظر


ومن ضروب الرثاء الجديدة مراثي الطير الصادح من مثل القمرى والحيوانات المستأنسة وقد جعل القاسم بن يوسف أخو أحمد بن يوسف كاتب المأمون ذلك وده , كما يقول أبو الفرج الأصبهاني , فاستغرق أكثر شعره فيه , من مثل قوله يرثي شاه :
عين إبكي لعنزنا السوداء



كالعروس الأدماء يوم الجلاء


وكان لابن الزيات فرس أشهب لم ير مثله فراهة وحسناً , فوصفت للمعتصم فراهته , فطلبه منه , فلم يستطع رد طلبه , حتى إذا بان عنه رثاه بقصيدة طويلة يقول فيها :
كيف العزاء وقد مضى لسبيله
منع الرقاد جوى تضمنه الحشا



عنا فودعنا الأحم الأشهب
وهوى أكابده وهم منصب


ومن المراثي الجديدة الموضوع مرثية محمد بن يسير لبستان له عاثت فيه شاة أفلتت لأحد جيرانه ودخلت البيت , فعاثت ببعض صحفه وقراطيسه , وفيها يندب روعة هذا البستان قبل أن تعبث به ضارعاً إلى ربه بالشكوى من هذه الشاة وأن ينزل بها عقاب أليم .
وقد أكثر الشعراء في العصر من العتاب والاعتذار متخذين لهما مسالك دقيقة تدل أوضح الدلالة على رهافة الحس وخصب الذهن من مثل قول أبي دلف معاتباً :
ومن لي بالعين التي كنت مرة



إلى بها في سالف الدهر تنظر


التصنيع في الحياة الفنية
غمر العقل العربي في أثناء هذه العصور بهذا الذوق من التصنيع فعمد إلى وسائل يصعب بها تناوله للآراء والأفكار على نحو ما كان المهبلى يصعب على نفسه في تناوله لطعامه بملاعقه وعمت هذه الروح في صنع التعقيد ولعل مما يصور ذلك ما يروى من مهارة بديع الزمان وانه كان يستطيع ان يكتب كتاباً يقرأ فيه جوابه او كتاباً يقرأ من أخره إلى أوله او كتابا اذا قرى أوله الى أخره كان كتابا فان عكست سطوره مخالفة كان جواباً او كتاباً لا يوجد فيه حرف منفصل من راء يتقدم الكلمة او دال ينفصل عنها او خالياً من الألف واللام او من الحروف العواطل او أول سطوره كلها ميم وأخرها جيم أو كتاباً اذا قري معرجاً وسرد معرجا كان شعراً وإذا فسر على وجه كان مدحاً وإذا فسر على وجه كان ذماً .
ويظهر أن ذلك يعد عند كتاب العصر الأفق الأعلى في البلاغة والفصاحة فانطلق الشعراء ينظمون قصائد كل ألفاظها من الحروف المعجمة او من الحروف المهملة او من الحروف المهموزة او مما لا تنطبق معه الشفتان وكان الشعر يستحيل الى عمل لغوى فإذا الشعراء يصنعون صنيع الحروف ولكن لا تتكون أبيات من الشعر إلا إذا أردنا بهذا الشعر الإفصاح عن صعوبات في التعبير وطرق الأداء ونحن ينبغي ان نعرف ان الشعراء كانوا يعجبون بهذه التعقيدات إعجابا شديداً فالثعالبي يذكر لنا أن الصاحب ابن عباد صنع قصيدة من الألف هي أكثر الحروف دخولا في المنظوم والمنثور فتداولها الرواة و عجبوا منها فصنع الصاحب قصائد كل منها خالية من حروف الهجاء وحتى موسيقي الشعر والنثر لم تسلم من هذا التكليف والتعقيد في الأداء فنحن نجد المعرى فى لزومياته وفصوله وغاياته يتقيد في قوافيه وأسجاعه بحرفين او ثلاثة كان الوسيلة الواحدة لا تكفى للتعبير في الأدب بل يحسن ان تتعدد كما تعددت ملاعق المهلبي ولم يصنع المرعى ذلك بمجموعة صغيرة من القصائد والرسائل بل طبقة في ديوان ضخم من الشعر وكتاب ضخم ايضاً من النثر ولعل مما يتصل بهذه الجوانب من التصعيب في الأداء ما شاع في هذه العصور من الإلغاز والاحاجي وقد روى صاحب اليتيمة طرفاً من هذه الجانب عند بديع الزمان وابن العميد ويقول صاحب سر الفصاحة " قد كان شيخاً ابو العلا يستحسن هذا الفن ويستعمله في شعره كثيراً .
وليس من الشك ان في مثل هذه الألغاز لا تضيف طرافة إلى الشعر إلا أن يقصد به إلى التعقيد وان يتخذ هذا التعقيد احدي غاياته وكأني بالحضارة العربية ضلت طريقها الطبيعي في التعبير فذهبت تسعين بألوان الطعام يوضع بعضها وراء البعض او بالملاعق تتعدد في أثناء تناول الطعام او بهذه الرسائل المتولية في التعبير الفني وكأنها تبحث عن طريق جديد تعبر به غير أنها لم تقع الا على هذه الضروب من التكلف والتصنيع فتشبث بها وقد خيل إليها أنها تستطيع ان تطرف بها حياة الناس وأفكارهم ومن المهم ان نعرف ان الناس كانوا يطلبون هذه الضروب من الشعراء لا ن حياتهم هم انفسهم تعقدت وأصبحوا لا يعجبون الا بما يتماشي مع حياتهم واستيحاب لهم الشعراء فكل يجاول بدوره ان يعقد الفن وان يقع من هذا التعقيد على طرفة جديدة يطرفهم بها حتى ينال إعجابهم واستحسانهم
التصنيع في شعر مسلم ونماذجه
ولد مسلم بن الوليد في الكرنة حوالي سنة 140 للهجرة وكان أبوه من موالى الأنصار إذا كان مولى لا سعده بن زرارة الخزرجي واغلب الظن انه كان فارسياً ويقال أنه حائكاً وعنى على ما يظهر بتربية أبنائه وتوجيهم الى حلقات الدرس والأدب في بلدتهم ونبغ له ابنان هما سلمان ومسلم ويظهر أن سلمان ويظهر أن سلمان كان اكبرهما وكان مكفوفاً ويقال أنه كان يلزم بشار بن برد ولذلك اتهم بالزندقة ونراه هو واخاه في بغداد لعهد الرشيد يطرقان أبواب البرامكة وكبار رجال الدولة وقادتها العظام من مثل يزيد بن مزيد ومحمد بن منصور بن زياد فكانوا يبرونهما ويجزلون لهما في العطاء ولم يعرف مسلم بزندقة كما عرف أخوه وإنما عرف باقباله على اللهو والطرب فكان يجتمع بابى نواس وطبقته مثل ابي الشيص ويقبل معهم على الخمر والمجرن ويقال انه كان إذا كسب مالا جمع أصحابه في بيته ياكل معهم ويشرب حتى اذا لم يبق من كسبه مالا جمع أصحابه في بيته يأكل معهم ويشرب حتى اذا لم يبق من منه سوى قوت شهر ظهر في الناس واختياره منزله للهوه وطربه يدل على انه كان فيه شيئا من التوقر وهو على كل حال لم يهبط الى عبث ابي نواس والحسين بن الضحاك الخليع واضربهما فقج كان يعرف لنفسه حقها من الكرامة وكان يحتفظ يغير قليل من الوقار وكان فيه فضل من حياء ولعل ذلك ما صرفه أول الأمر عن الخلفاء فكان من دونهم ولا يطمع في مديحهم وما زال هذا شانه حتى أشهر في الأوساط الأدبية ومدح منصور بن يزيد الحميرى ، فوصل بينه وبين هرون الرشيد وأصبح من شعرائه ويقال إنه لما انشده لاميته المشهورة فيه وقد بلغ قوله
هل العيش الا تروح مع الصبا وتغدو صريع الكاس والأعين النجل
قال له أنت صريع الغواني فسمي بذلك حتى صار لا يعرف الا به وتدلنا أخباره على ان الرشيد كا يعجب به وفي رأينا ان مصدر هذ الإعجاب لم يكن مديحه فحسب فقد وجده يشيد بقائده يزيد بن مزيد الشيباني حين قضى على ثورة اخوارج في عهده وكان ذلك سنة تسع وسبعين ومائة وبلغ من هذه الاشادة كل مبلغ حتى جعله عز الخلاقة .
وصادف ذلك هوى في نفس الرشيد لانه كان قد اخذ يفكر على ما يظهر غب أعلاه كفة العرب في شئون الحكم ومقاليده وكان يري الشعراء مزدحمين على أبواب يحي البرمكي ولديه الفضل وجعفر وغريهم من الفرس فكان ذلك يقض مضحعه ويستال بينه وبين نفسها العرب وكيف ارنغ منهم امام هؤلاء الذين استبدوا وبي وملأهم الشعراء طرقات بغداد ثناء فلما نظم مسلم مدائحه في يزيد نفس عن نفسه وجدلها روحا على قلبه ويروى الرواة انه أرسل يوماً الى يزيد فأتاه لابسا سلاحه مستعداً لأمر ان أراده فلما راه ضحك وقال له : يا يزيد اخبرني من الذي يقو فيك فقال لا اعرفه فعجب الرشيد وقال له : سوءة لك من سيد قوم يمدح بمثل هذا الشعر ولا يعرف قائله وقد ابلغ أمير المؤمنين فرواه ووصل قائله وهو مسلم بين الوليد وانصرف يزيد فدعا به وصله وتوالت عليه عطاياه ووالى مسلم مدائحه مثل داوود بن يزيد المهبلى وزيد بن مسلم الحنفي والحسن ابن عمران الطائى ومنصور بن يزيد الحميري وابنه محمد وظل وفياً للبرامكة ولكن يزيد بن مزيد غلب عليهم كما غلب معه هؤلاء العرب الخلص ونراه يمدح الأمين حتى إذا تحولت ازمة الخلافة الى أخيه المأمون لزم الفضل بن سهل وزيره وكانت قد تقدمت به السن فعطف عليه الفضل وولاة بريد جرجان وقيل مظالمها ولم يلبث هناك ان لبي نداء ربه سنة ثمان ومائتين
وأكثر شعر مسلم في مديح من سميناهم وله غزليات وخمريات قليلة وهاجي ابن قنبر الشاعر ولكن لا على طريقة الهجاء عند حماد عجرد بشار ولكن على طريقة الشعراء الأمويين ومازال به حتى أفحمه وكف عن مناقضته ويقال انه هجاء يزيد بن مزيد وربما ند ذلك منه حين تاخر عن عطائه ووصل ذلك الى مسامع الرشيد فاحضره وهدده وقال له لئن بلغني انك هجرته لا نزعن لسانك من فكيك فانتهي ولم يعد ونعم بعطاياه وعطايا الخليفة معاً حتى اذا توفى رثاه رثاء حاراً
ومسلم في شعره يعتمد اعتماداً شديداً على الإطار التقليدي وما يتربط به من جزالة الأسلوب ومتانته ورصانته وصناعته وقوته حتى فى غزله وخمرياته فانه لا يهبط ابداً على نحو ما يهبط ابو نواس وابو العتاهية الى الأساليب اليومية وحقاً مر بنا في الفصل السابق انه له قصيدتين من وزن مولد ، ولعله جاري فيهما أصحاب مذهبه الصنعة وتجديدتهم في البحور الشعرية ، وهما عل كل حال شذوذ في عمله ، أما بعدهما فشعره يغلب أن يكون من الأوزان الطويلة حتى تتلاءم مع ما يريد من جسرس قوي ، ومن ضخامة البناء في اللفظ والتعبير ، وهو من هذه الناحية يعد في طليعة من دفعوا الشعراء في هذا الاتجاه ، فقد كان الشعر العربي عند أبي نواس وأبي العتاهية على وشك أن يزايل هذا الأسلوب إلى الأسلوب الشعبي اليومي ، فأمسك به مسلم دون هذه الغاية ورده في قوة إلى جزالته القديمة وجعلها مقوماً أساسياً من مقوماته ، بل جعلها المقوم الأساسي الأول بين هذه المقومات ، وعم هذه الذوق لا عند خلفائه من أصحاب مذهب التصنيع مل أبي تمام بل أيضاً عند أصحاب مذهب الصنعة وكبارهم خاصة ، مثل البحتري ، ولا تظن أن هذا الأسلوب الجزل القويم لم يكن يكلف مسلما مشقة ، بل لقد كان يكلفه عناء أي اصفطاء اللفظ والملائمة بين اللفظة واللفظة في الجرس ، حتى يتم له ما يريد من ضخامة البناء وروعته ، وهو بناء يقام على أعمدة ، هي الأبيات ، وكل بيت كسابقة في الضبط والإحكام ، وكل قصيدة ، بل كل مقطوعة كمثيلتها في هذا النمط الذي لا يتفاوت نسيجه ، ومن أجل ذلك يختلف اختلافاً بيناً من أبي نواس وأبي العتاهية ، فشعهرهما فيه القوى والضعف وفيه المتين والمهلهل ، لسبب بسيط وهو أنهما من ذوق أصحاب الصثنعة ، لا يبعدان حين النظم في التكلف ، بل كثيراً ما يقولان الشعر بديهة وارتجالاً في غير ترو ، أما مسلم فصاحب روية ، لا يرتجل ولا يقول الشعر عفواً ، فالشعر عنده صناعة مجهدة ، لابد فيها من التريث والتمهل ، ولا بد فيها من الصقل والتجويد ، ولعل ذلك ما جعل ديوانه صغيراً بالقياس إلى دواوين معاصريه من أمثال بشار وأبي نواس .
وهذا البناء الضخم عنده لا تكفي ضخامته وحدها في رأيه ، فلابد أن يضاف إليه الزخرف الجديد الذي كان يأتي على قلة في الشعر القديم ، وأكثر منه بشار وخلفاؤه ، ولكنهم لم يتخذوه مذهباً ، أما مسلم فقد رأي أن يطبقه على شعره ، واقرأ له القصيدة الأولى في ديوانه وهي في مديح يزيد بن مزيد ، ستراه يستهل غزلها على هذا النحو :
أجررت حبل خليع في الصبا غزل وشمـــــرت همم العــذال في العذل
هاج البكاء على العين الطموح هوى مفـــرق بين تــــوديــع ومحتمــل
كـــيف الســــلو لقـــلب راح متبلاً يــــهذي بصاحب قلب غير مختبل
والجهد واضح في الأبيات سواء من حيث لاختيار الألفاظ أو من حيث إضافة زخارف الجناس والطباق فهو يجانس بين العذال والعذل ، وهو يطابق بين المختبل وغير المختبل وفي البيت الثاني طباق دقيق بين الهوى المقسم بين التوديع والاحتمال او الارتجال . فإن.التوديع يتضمن الإقامة القليلة ، وهى عكس الارتجال ، ونمضي معه الى المديح فتراه كله على هذا الطراز .
وأنت تراه يعتمد على النحت وقوة البناء كما يعتمد على الزخرف والتصنيع حتى يصبغ هذا الدبياج المتين بالألوان والأطياف . وانظر في البيت الأول تراه يستعير الشهاب للسيف ويجعله شهاب الموت ، وهو شهاب اسقط منه على فوارس الأعداء الشعل فتحرقهم حرقاً لا يبقي ولا يذر وحاول في البيت الثاني بلون أخر هو لون الجناس فجناس بين فتر وافترار ، وادخل في ذلك ضرباً من المشاكلة ، فيزيد مبتسماً وتفتر الحرب عن أنيابها القاتلة الغلاظ ولم يكتف بذلك في البيت فقد أضاف فيه لوناً جديداً هو لون الطباق ، فطابق بين تغير الوجه وعبوسه وابتسام يزيد وكل ذلك ليحقق لنموذجه ما يستطيع من زخارف فيه بين مهج ورهج ، ثم بين اجل وأمل ويروى انه اجتمع بابي العتاهية فقال له : " والله لو كنت لاارضي ان أقول مثل قولك :
الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك
لبيك إن الملك لك
لقلت في اليوم عشرة آلاف بيت ولكنى أقول :
موف على منهج في يوم ذى رهج كأنه اجل يسعي إلى أمل
فهو يحس احساساً دقيقاً بأنه يتناول حرفته بطريقة أخرى ليست هي طريقة الصانعين من أمثال أبى العتاهية ، إنما هي طريقة المصنعين التي ابتدأها والتي تجعل الشعر نحتاً وصقلا وزخرفة وتنقيماً ونتقل مع مسلم إلى بيته الرابع فنرى فيه طباقاً واضحاً بين الاستعجال والمهل وطباقً دقيقاً بين النميل او الأخذ بالرفق والأخذ مع الإعياء ويصوغ في البيت الخامس صياغة جديدو بيت زهير في مديح هرم بن سنان .
قد جعل المبتغون الخير في هرم والسائلون إلى أبوابه طرقا
ويستمر فيتحدث عن قري يزيد وضيافته وكرمه ويجنح الى المشاكلة فيزيد له ضربان من القرى ضرب في المسلم كقرى الاجواد وضرب أخر في الحرب ، اذ يقرى الموت أرواح الشجعان ونراه في البيت السابع يطرق قارئه بصورة بارعة اذ جعل يزيد يزيد يكسو السيوف بدماء أعدائه ويتوج القنا والرماح برؤوسهم و ينتهي مسلم اخيراً إلى فكرة عربية قديمة طالما رددها الشعراء من عهد بشر بن ابي خازم والنابغة ، وهي فكرة الطير تتبع الممدوح في لحلة وترحاله لما تصيبه من جثث أعدائه ويجور مسلم الفكرة هذا التحوير الطريف ، اذ يجعل الطير تتعود من صاحبة عادة تثق به فيها وهي لذلك ما تزال تتبعه وتلاحقه من موضع الى موضع .
ولعلك لاحظت أثناء قراءة أبياته السالفة دقة تفكيره ، وهي دقة كانت تفتح له ابواباً من المعاني الخفية ، التي تروع السامع بغرابتها وطرافتها من مثل قوله في الغزل.



تطور النثر
كان العصر العباسي الأول عصراً خطيراً حقاً في تطور النثر العربي ، إذ تحولت إلية الثقافات اليونانية والفارسية والهندية وكل معارف الشعوب التى أظلتها الدولى العباسية ، بحيث تدخل جميع ذلك في تركيبة وأئتلف مع نسيجه وتولد منه جديد تلو جديد .
وتم هذا التحول – كما مر بنا فى الفصل الثالث – عن طريق النقل والترجمة ، وهو طريق عني به الخلفاء العباسيون – ووزراءهم وخاصة البرامكة – إلى أبعد حد ممكن ،كما عني به أفراد مختلفون مثل ابن المقفع وآل نويخت .
وطريق ثان لعله كان أوسع مجرى ، هو تعريب الشعوب الشرق الاوسط وانتقالهم إلى العربية بكل ما ورثوه وثقفوه من فنون المعرفة . ولم ينتقلوا بمعارفهم فقط ، بل انتقلوا أيضاً بعاداتهم وتقاليدهم وطرائقهم فى المعيشة مما هيأ لتفاعل واسع بين العرب والشعوب المستعربة ، بل مما هيأ لظهور المدينة العربية فى تلك الأقاليم التي دانت بالإسلام ، وهى مدنية قوامها مزيج من التعاليم الإسلامية الروحية والخلقية ومن الادب العربي بشعره ونثره ومن صور الحياة العقلية والمادية في المحيط العربي الجديد .
وعلى سنن من طبائع الحياة أخذ النثر يتطور واسعاً ، إذ حمل خلاصة هذه المدينة وملئت أوانية بشرابها الجديد الذي أختلفت ألوانه باختلاف ينابيعة الكثيرة ، مما عرضنا له فى غير هذا الموضع . وقد أظهر النثر العربي مرونة واسعة إذ استطاع أن يحتوى كل هذه الينابيع وأن يتسع لها صدره ، بل لقد غدا كمجرى نهر كبير ترفده جداول من ثقافات متنوعة تنوعا لا يكاد يحمد أو يحصى ، وكل جداول يذوب فى النهر بمجرد دخوله فيه ، إذ يتحول عربيا ، ويتحول معه كل ما يحمل من سيول المعارف ، حتى الفلسفة والعلوم فإنهما لم يستعصيا على هذا التحول ، إذ سرعان ما صبا فى قوالب عربية ملائمة .
وكان ذلك إيذانا بتعدد شعب النثر العربي وفروعه ، فقد أصبح فيه النثر العلمي والنثر الفلسفى ، وأصبح فيه أيضاً النثر التاريخي ، على شاكلة ما كان عند الأمم القديمة ، وحتى النثر الأدبي الخالص أخذ يتأثر بملكات اللغات الأجنبية وخاصة اللغة لقصص كليلة ودمنة الهندي الاصل ونقلة لكثير من آداب الفرس الاجتماعية والاخلاقية ونظمهم فى السياسة والحكم ، مما كان أعمق الأثر فى الرسائل الديوانية وفى نشوء الرسائل الأدبية التى تعني بالكتابة فى موضوع محدود ، مما نسمية اليوم باسم المقالات ، إذ يعالج الكاتب موضوعاً فى طائفة من الصحف .
ولم يقف النثر العربي عند حمل المضامين العلمية والفلسفية الجديدة التي جاءته من لدن الاجانب ، فقد انبرت العبقرية العربية في هذا العصر تضع العلوم اللغوية والشرعية ، وهو وضع كان واسع الأثر في تمهيد اللغة وتيسيرها وجعلها لغة علمية محددة الألفاظ والاصطلاحات التي ترسم المعاني رسما دقيقاً . وقد مضت هذه اللغة تركض ركضاً لا مجال العلوم الإسلامية والعربية الخالصة فحسب ، بل أيضاً فى مجال العلوم الطبيعية والكونية ، فإذا لنا علماء كماويون ورياضيون مختلفون ، ولهم مصنفاتهم ومباحثهم المبتكرة .
وعلى نحو ما أثمرت العقلية العربية في المجال العلمي أثمرت في المجال الفلسفى وخاصة فى بيئات المتكلمين ، إذ مدوا مباحثهم في العقائد الإيمانية إلى كل شعب الفلسفة ، وأستطاعوا – وخاصة المعتزلة منهم – بانظارهم العقلية أن يدلوا في جميع هذه الشعب بآراء جديدة طريفة على نحو ما يفصل ذلك الشهر ستاني في كتابة ( الملل والنحل ) حين يعرض لمذاهب المعتزلة المختلفة وما يقولونه في الأجسام والأعراض والجواهر والحركة والسكون والكمون والتولد والطفرة والوجود والعدم والروح والنفس والعقل وإدراك الحواس والكم والكيف والألوان والخير والشر 0 وكل ذلك كان له آثار بعيدة في النثر العربي ، لا من حيث الألفاظ والمصطلحات الجديدة فحسب ، بل أيضاً من حيث ذخائر الفكر الفلسفي اليوناني والعربي التي التقت في أوعيته وأوانيه والتي جعلته يعرف صورا من تحليل الأفكار وتركيبها لا عهد بها ، كما حعاته يعرف القياس المنطقى الصحيح وكرق الاستدلال والتعليل ودقائق المعاني وفرق ما بين السبب والمسبب وما بين الجنس والنوع والفصل والخاصة وما بين الحجة والشبهة والممكن والمحال والمعقول والموهوم والبرهان الجلي والبرهان الحقي ، مما جعل الفكر العربي يتحول إلى ما يشبة كنزاً سائلا بما لا يخصى ولا يستقصى من الخواطر والمعاني .
ومن المؤكد أن التعبير عن كثير من هذه المعاني والخواطر لم يكن مألوفاً للعربية ، غير أنه قيض لها من نابهي المتكلمين والكتاب والمترجمين من مد طاقتها وجعلها تسيغ تلك الخواطر والمعاني دون دخول أى ضيم عليها من شانه أن يمحو طوابعها أو يحور على خصائصها ومقوماتها ، بل لقد أخذت تونق فى أثناء هذا التحويل فى المجال العلمي والفلسفى أو المجال الأدبي الخالص .
ولم تقف المسالة عند احتفاظها بالقوالب العربية وأوضاعها اللغوية وتيسير هذه القوالب والاوضاع وتذليبها للمعاني العلمية والفلسفية العميقة وأدائها بخفيات حدودها ورسمها رسما محدداً دقيقاً ، بل امتدت إلى استحداث أسلوب مولد جديد ، وأسلوب يحتفظ للغة بكل مقوماتها ، كما يحتفظ بالوضوح والتجافى عن الألفاظ الغامضة والمعاني المبهمة ، بل إنه ليحرص على الأجاء البليغ ، بحيث يروق المتكلم والكاتب والمترجم والسامع بعذوبة منطقة ، بل بحيث يلذ الأذان حين تستمع إليه كما يلذ العقول والقلوب .
وهو أسلوب قام على هجر كثير من الألفاظ البدوية الحشوية الجافية التي تنبو على ذوق أهل الحاضرة كما قام على الارتفاع عن الألفاظ العامية المبتذلة مع العناية بفصاحة اللفظ وجزالته ورصانته والملاءمة الدقيقة بين الكلمة والكلمة فى الجرس الصوتى . وبذلك لم يقف عند الاداء الفصيح فحسب ، إذ اتخذ لنفسه أصولا بيانية تشيع فيه الرونق والجمال ، مما جعل جها بذته يتسالون طويلا عن البلاغة ، وهو سؤال يلقانا فى جميع البيئات وتلقانا نعه أجوبة كثيرة .
والطريف أنهم لم يكتفوا فى ذلك بما قد يكشفونه ببصائرهم الحاذقة ، إذ مضوا يطلبون ما عند الأمم الاجنبية من وصايا فى البيان والبلاغة سواء الفرس أو اليونان أو الرومان ، وحتى الهنود ، أذ نجد معمراً صاحب فرقة المعمرية من المعتزلة يتعرض لبهلة الطبيب الهندي فى عصر البرامكة يسالة عن رأي أمتة فى البلاغة ، فيعطية فى ذلك صحيفة مكتوبة بالسنسكريتية ،ويقول له إنني لا أحسن ترجمتها لك ، لأنني لم أعالج صناعة البلاغة فأثق من نفسى بالقيام بأداء معانيها وخصائصها على الوجة الصحيح ، ويلقى معمر بالصحيفة التراجمة الذين يحسنون النقل من السنسكريتية إلى العربية فينقلونها له ، وقد احتفظ بها الجاحظ فى البيان والتبين ، وهى تطلب إلى الخطيب أن يلائم بين كلامه ومستمعيه وأن لا ينقح ألفاظه كل التنقيح إلا لمن حاز قسطا من الحكمة والفلسفة ممن خبروا الكلام والمعاني ، وأن يحرص على أستخدام الألفاظ المحددة البينة التى تنفي بمعانيها وتؤديها أداء سليما دون زيادة أو نقص .
ومن المحقق أن المعتزلة والمتكلمين بعامة عنوا فى هذا العصر عناية واسعة بمعرفة الأصول التي تقوم عليها براعة القول ، إذ كانت صناعتهم تقوم على إحسان فن الكلام أو بعبارة أخري فن المناظرة فى المسائل الدينية والعقيدية وما يتصل بها من بعض المعاني الفلسفية . ونستطيع أن نجد مقدماتهم فى العصر الأموي وفى مساجد البصرة والكوفة حيث كان يجتمع ممثلوا الأحزاب السياسية فيتحاورون فى مسائلهم وما يتفرع عنها من المسائل الدينية ويحاول هذا أو ذاك إقناع خصمه أو قهره والغلبة علية من المسائل الدينية ويحاول هذا أو ذاك إقناع خصمه أو قهره والغلبة عليه بالحجة القاطعة والبيان الخلاب . وما نصل إلى العصر العباسي ، بل إلى أواخر العصر الأموي ، حتى نجدهم يقيمون المناظرات ، ويجتمع الناس من حولهم ليروا من يظفر بخصمه ويقطعه عن الكلام قطعاً .
وطبيعي أن يدفع ذلك المتكلمون الحاذقون فى ذلك بهض ملاحظات عن البيان والبلاغة ، ومن هنا لا نعجب إذا وجدنا سائلا يتعرض لمعتزلى كبير فى أوائل هذا العصر ،هو عمرو بين عبيد ، فيسالة عن البلاغة وقطبها الذي تدور علية ، ويجيبه بأنها ( تخير اللفظ فى حسن الأفهام وتزيين المعاني بالألفاظ المستحسنة فى الآذان المقبولة عن الاذهان ) ويدور السؤال طوال العصر وتعدد إجابات المعتزلة عليه من مثل قول العتابي لسائل سأله عن البليغ والبلاغة ، فقال له :
( كل من أفهمك حاجته من غير إعادة ولا حبسسة ولا استغاثة فهو بليغ ، فان أدرت اللسان الذي يروق الألسنة ويفوق كل خطيب فأظهار ما غمض من الحق وتصوير الباطل فى صورة الحق . فقال له السائل : قد عرفت الإعادة والحبسة ، فما الاستعامة ؟ قال : أما تراه إذا تحدث قال عند مقاطع كلامه : يا هناه ، ويا هذا ، ويا هيه ، واسمع منى ، واستمع إلى ، وافهم عنى ، ولست تفهم ؟ أو لست تعقل ؟ فهذا كله وما اشبهه عى فساد )
واوضح أن العتابي يجعل البلاغة فى التدفق البياني دون إعادة وتكرار ودون حصر وعى ، ودون استعانة بحشو يؤذي الذوق الحضري المهذب وتلك هى البلاغة العادية ، أما البلاغة الرفيعة فهى التى ترفع الحجاب عن غوامض المعاني وهى التى تبلغ من الحذق ما تعرض به الباطل فى صورة الحق معتمدة على خلابة اللسان وتزيين المعاني فى القلوب ، والاحتيال على ذلك من قدرة المتكلمين حوله فى مناظرة خصومهم وإفصاحهم بالحجج الصحيحة تارة ، وتارة بالحجج غير الصحيحة التي يستطيع البليغ التام الذي يتقن أبنية الأدلة والكلام أن يموهها على السامع حتى يظن أنها صحيحة صحة تامة . ولا نبالغ إذا قلنا إن صحيفة بشر بن المعتمر فى البلاغة التى احتفظ بها الجاحظ فى بيانه هى أروع ما أثر صحيفة بشر بن المعتمر فى البلاغة التى أحتفظ بها الجاحظ فى بيانه هى أروع ما أثر عن المعتزلة فى هذا العصر بصدد الأصول البلاغية العامة ، وهو يستهلها بأن الأديب سواء كان خطيباً أو كاتباً أو شاعراً ينبغى أن يلاحظ نفسه فلا يقدم على الكلام إلا إذا كان مستعداً متهيئا تمام التهيؤ ، فارغ البال ناشطا له تمام النشاط . وينصحه بأختيار ألفاظه وتفصيلها على المعاني بحيث تكون بقدرها لا فاضلة عنها ولا مقصرة ، كما ينصحة بأن تخلو ألفاظه من كل غريب وكل تعقيد ، وأن تؤدي دلالتها أداء واضحا مهما كانت دقيقة عسيرة وأن تتلاءم معها بحيث توديها أداء تاما يحيط بدقائقها أن كانت من الدلالات الغامضة وفى الوقت نفسه تلقى عليها كل ما بمكن من أضواء تكشفها من جميع أطرافها ، مع تذليلها وتيسيرها وعرضها فى لغة وعرضها ف5ى لغة متوسطة بين لغة العامة المبتذلة ولغة الإعراب الخشنة المملوءة بالغريب .
وينصح من لا تواتيهم طبائعهم بالرصف الحسن للألفاظ ووضعها فى مواضيعها الصحيحة دون نبو أو شذوذ أن يكفوا أنفسهم عن صناعة البيان والكلام البليغ ، وأولى منهم بهذا الإتيان بشئ من الكلام ومعانية أو بعبارة أخرى بين كلامه والموضوع الذي يتحدث عنه ، بل لابد له من ضميمة ثانية هي إحسانه الملاءمة بين كلامه والمستمعبن وأحوالهم النفسية والعقلية ، بحيث يجدون فى كلامه اللذة والمتاع ، ومن هنا يطلب إلى المتكلم إذا خاطب أوساط الناس أن لا يرتفع عن مداركهم بما يورد عليهم من أصطلاحات المتكلمين ، حتى لا تنقطع الصلة بينه وبينهم ، وأما إذا خاطب المتكلمين فلا بأس من إيراده لهذه المصطلحات التي يفهمونها فهماً حسناً ، والتي قد يجدون فيها شيئاً من المتاع .
وملاحظات كثيرة أخري كان يلاحظها المتكلمون معتزلة وغير معتزلة فى شئون البيان والبلاغة ، وهى متناثرة فى كتاب البيان والتبين للجاحظ ، ولا بد أن ملاحظات أخري سقطت منه ولم يسجلها . ولم يكن المتكلمون وحدهم الذين يتعمقون فى معرفة أصول البيان والبلاغة ، فقد كان يشركهم فى ذلك كتاب الدواوين والمترجمون ، ومن خير من يمثلهم فى مطالع العصر ابن المقفع ، ويروي أنه سئل عن البلاغة وتفسيرها ، فقال :
( البلاغة اسم جامع لمعان تجري فى وجوة كثيرة ، فمنها ما يكون فى السكوت ، ومنها ما يكون فى الاستماع ، ومنها ما يكون فى الإشارة ، ومنها ما يكون فى الاحتجاج ، ومنها ما يكون جواباً ، ومنها ما يكون شعراً ومنها ما يكون سجعاً وخطبا ً ، ومنها ما يكون رسائل . فعامة ما يكون من هذه الأبواب الوحي فيها والاشارة إلى المعنى والايجاز هو البلاغة . فأما الخطب بين السماطين وفى أصلاح ذات البين فالإكثار فى خطل والإطالة فى غير إملال . وليكن فى صدر كلامك
سيرة ابن المقفع
في حياة ابن المقفع على قصرها شيء من الاضطراب لا تجعلها مضطردة المعالم أما الباحثين ، ووالده فيما اروي الكتب ، واسمه " داذويه " رجل فارسي على دين المجوس ، كان فيم يبدو عليما بشؤون الحسبة والخزانة ، وكان في عداد الذين اعتمد عليهم حكام بني أمية في إدارة شؤون ملكهم ، فقد تولى خراج فاسر من قبل الحجاج ، وقيل أن الحجاج ، وقيل أن الحجاج أمر يوماً بضربه في البصرة لمال احتجنه حتى تقفعت يداه ، فعرف بالمقفع ، وعرف ابنه بعده بابن المقفع .
مولده
وقد أنجب داذوبه المقفع في خلافة هشام بن عبد الملك عام 106هـ ، 724م ولداً اسماه "روزبه " وتعنى في الفاسية " المبارك " وكان مولده في بلدة بفارس اسمها " جور " على مقربة من شيراز ، وتعرف في هذه الأيام أباد ، واليها فيما يقال بنسب من والورد المعروف بالجوري .
نشأته
ويغلب على الظن ابن المقفع نشأ برعاية أبيه في بيئته الفارسية أول الأمر قبل أن ينزح به إلى العراق ويتخذ من مدينة البصرة له مقاماً ولعل هذا الشاة هي التي تفسر اطلاع ابن المقفع على ثقافة قومه الفرس وتشبعه بأفكارهم وتأثره بمذاهبهم ولا نستبعد أيضا أن يتعهد داذويه ولده بالتعليم والتثقيف ويحرص على تزويده بمعارف الفرس حتى بعد رحيله الى البصرة وهو الرجل الذي بقي على مجوسيته وظل يدين بلزرادشتية
نباهته
وغي البصرة التي تزدحم محافلها بالعلماء والأدباء والمتكلمين ، وحيث سوق المربد ، عكاظ الإسلام ، أتيح لا بن المقفع ، ذلك الفتى اليافع النابه ان ينفتح على تراث العرب وأفكار المسلمين ، وان يعب من ثقافة عصره ما وسعه شغفه وطموحه وبدافع من حرص والد بن المقفع وكان مثقفا أدبيا على تهذيب ولده عبد الله وتثقيفه ، وصله ببني الأهتم وهو قوم بلغاء سرت الفصاحة بينهم منذ أن عرف بها جدهم الشاعر الجاهلي عمرو ابن الأهتم .
وما من ريب في ان هذه البيئة العلمية الخصبة هلا التي كونت شخصية ابن المقفع الفكرية ونضجت قريحته وأغنت موهبته وعجلت في تعريبه حتى ليمكن القول انه " باستثناء الجاحظ " فان عبد الله بن المقفع أهم شخصية بصرية على الإطلاق .
ولم يمض على ابن المقفع سوى زمن يسير حتى نبه شانه وذاع أمره في أوساط الفصحاء والبلغاء وانفتحت له بذلك ابواب الولاة والكبراء وغدا يتصدر الكتابة في العديد من الدواوين ومن ابرز من كتب لهم يزيد بن عمر بن هبيرة الذي تولى شئون العراق من قبل مروان بن محمد أخر خلفاء بني أمية وقيل نه كتب بعد ذلك لأخيه داود عمر بن هبيرة وانه كان قد كتب قبل ذلك لأبيهما عمر بن هبيرة عامل بني أمية على كرمان وفى هذه المدة انعقدت بينه وبين عبد الحميد ين يحي كاتب الخليفة مروان بن محمد مودة راسخة .
وخلال الطور الأخر من حياة ابن المقفع فى ظل الدولة العباسية الحديثة كان عليه ان يساير روح المرحلة الجدية ، فراح يتصل برجال الدولة واخذ يفكر في اعتناق الإسلام وغدا كاتباً لسليمان بن على عم الخليفة المنصور وعامله على البصرة ولأخيه إسماعيل بن على والي الاهواز ثم الموصل ، وأصبح لأولاده ، كما كتب لأخيهما عيسي بن على والي العباسيين على كرمان ، وعلى عيسى اعتنق الإسلام .
اعتناقه الإسلام
نوى ابن المقفع اعتناق الإسلام أفضي برغبته هذه الى عيسي ابن على وكان كاتبا لديه فقال له " لقد دخل الإسلام في قلبى وأريد ان اسلم على يديك " فقال عيسي له " ليكن ذلك بمحضر من القواد ووجوه الناس ، فاذا كان الغد فاحضر " وأوضح عيسي اغتبط لهذا النبأ ووجد فيه ما يعث على الزهو ولهذا أراد أن يشهر ابن لمقفع إسلامه في مجلس حافل ، ولان ذلك من جهة أخرى يتفق مع ما لكاتبه من منزلة عالية في مجتمعه وعصره .
ثم حضر طعام لعيسي عشية ذلك اليوم ، فجلس ابن المقفع وشرع يأكل ويزمزم على عادة المجوس فبادره عيسي قائلا : باستغراب " أتزمزم وأنت على عزم الإسلام ؟ فأجابه " لقد كرهت ان ابيت على غير دين فلما اصبح احلم على يده وصار كاتباً له واختص به وتسمي منذ ذلك بعبد الله وتكنى بأبي محمد .
مقتله
ثم حدث أن ثار عبد الله بن على ابن أخيه الخليفة أبى جعفر المنصور وكان يأمل ان تؤول اليه الخلافة يوماً ويبدو أنه كان يري نفسه اوى بالخلافة من ابن أخيه لكونه بطل معركة الزاب الفاصلة وقاطع دابر بنى أمية في الشام ولكن السفاح خيب أمله حين عقد الخلافة من بعده لأخيه المنصور وهكذا وجه المنصور إليه أبا مسلم الخراساني فاخمد ثورته وشتت أنصاره ففر عبد الله ولاذ بأخوية سليمان وعيسي في البصرة . وعندما ألح أبو جعفر في طلبه راح الشقيقان يتكاتبان مع عمهما بشان التماس الصفح عن أخيهما عبد الله واقترحا عليه ان يؤمنهما على عمه ، فرضى الخليفة ، ثم عمد عيسي إلى كاتبه ابن المقفع يطلب منه ان يدبح كتاب الأمن المراد ويقال أنه أوصاه بان يتشدد يفيه دفعاً لاى لبس قد ينفذ منه ابو جعفر لا لحاق بعمه التمرد ، ولكيلا يجد منفذاً
كليلة ودمنة
اتسم الشرقيون دون سائر الأمم في العصور الخالية بإبراز الحقائق والحكم على صورة الأمثال ومن خلال الحكايات فكان لهم فضل التقدم على سواهم في إنشائها وقد امتاز من بين ما وضعوه في هذا المعنى كتاب " كليلة زدمنة" الذي غدا قسمه بين أمم ثلاث ، هي الهند والفرس والعرب .
وقد ظلت الآراء امداً طويلاً من الزمان في ريب من أصل الكتاب وصاحبه ، فذكر ابن النديم أن ابن المقفع كان من السمار وانه وضع تلك الحكايات للمسامرة .وذهب ابن خلكان إلى أن ابن المقفع هو الذي وضع كتاب كلية ودمنة ثم لم يلبث أن استدرك بقوله " وقيل انه لم يضمه وإنما كان بالفارسية فنقله الى العربية وان الكلام الذي في أول الكتاب من كلامه "
أصول الكتاب
وغدا ثابتاً أن أصول كتاب كليلة ودمنه من أقاصيص هندية على انه ليس هناك ما يدل على وجود كتاب هندي بعينه حوى تلك المجموعة الكاملة من قصص كليلة ودمنة ، ولكن محتواه مبثوث في عديد من الكتب على تفاوت فيها تضمه من أبوابه .
ومن ابرز هذه الأصول الهندية كتاب " بانجاتانترا " الذي إلفه باللغة البكستناية ، اى الهندية القديمة برهمان وشنو احد احكم الهنود في القرن الرابع الميلادي . ومعنى عنوان هذا الكتاب " خمسة دروس في الحكمة " و أول من أورد هذه الراى أبو الريحان اليرونى عندما قال في رصد تاريخه لأحوال بلاد الهند ، وقد اقام فيها امداً طويلاً " ولهم فنوف من العلم أخر كثيرة ، وكتب لا تكاد تحصى ، ولكن لم أحط بها علماً ، وبودي ان كنت ا تمكن من ترجمة كتاب " بنجاتانترا " وهو المعروف بكتاب " كليلة ودمنة "
ويعود الفضل بعد ذلك الى المستشرق الالمانى هرتل الذي عثر على هذا الأصل الهندي ، فألقى كثيراً من الضوء على جذور كليل ودمنة ، ويضم بانجاتانترا ستة من أبواب كلية ودمنة هي باب الأسد والثور ، وباب الحمامة المطوقة ، وبابا البوم الغربان ، وباب القرد والفيل ، وباب الناسك وابن عرس ، وباب السائح والصواغ .
كما عثر باحثون آخرون على أصول هندية مغايرة منها كتاب " هروناجا " وكتاب " كرماجتكا " وكتاب " هتو بادوشا " كذلك ضمت ملحمة الهنود الشعرية المنسوبة إلى فياسا ثلاثة أبواب من كليلة ودمنة وهي باب الجرذ والسنور ، بابا الملك الطائر ، وباب الأسد وابن آروى وقد تكونت في الهند قبيل حقبة الميلاد وبعيده .
وثمة جانب أخر من أبواب كليلة ومنة مستمد من أصول فارسية كما يرجع الباحثون وكما يدل عليه مضمونها ، وذلك في أبا بعثة الملك كسرى انوشران لبرزويه المتطبب إلى الهند ، وباب برزوية المتطبب ، وباب ملك الجحذان ، أما الباب الأول فهو مقدمة للترجمة البهاوية ، اى الفارسية القديمة ، وضمت سيرة الطيب بروزيه وقصة سفره الى الهند متخفياً ثم حصوله بعد حين على الكتاب وتقديمه اياه الى كسرى انوشروان ، وقد وضعت هذه المقدمة بإيعاز من برز جمهر وزير كسرى تلبية لامنية بروزيه واعترافاً بفضله وقد اشارت ملحمة الفرس " الناهنامة " للفردوسى إلى هذا الباب والى قصة وضعه في مستهل كتاب كليلة ودمنة والباب الثاني باب برزويه التطبب يروى فيه برزويه بنفسه سيرة حياته وكيف انه اثر دراسة الطب ثم جنح إلى التفقه في الدين ولكنه لم يجد في كل ذلك غناء حتى اطمأن إلى الحكمة أما الباب الأخر : ملك الجرذان فينطوي على إشارات ترجح انه لبس بهندي وانه يتحدث عن بلاد الهند باعتبارها بلاداً أخرى ، مثل عبارة " وفى ارض البراهمة " ولا يبعد ان يكون هذا الباب قد أضيف إلى كتاب كليلة ودمنة من قبل بعض المترجمين بعد عصر ابن المقفع ، لما يبدو على أسلوبه من مغايرة لأسلوب ابن المقفع .
وثمة باب عنوانه مقدمة الكتاب وضع على لسان على بن الشاه الفارسي بعد ابن المقفع واسم واضعه في بعض النسخ بهنود بن سخوان وغلب على الظن ان أصله عربي كما ان الباب السمي عرض الكتاب عربي ايضاً ووضعه في أوائل الكتاب ابن المقفع نفسه وعرض خلاله الغاية البعيدة من وراء هذا المصنف النفيس ويجنح كثيرون الى ان باب الفحص عن امر دمنة هو من وضع ابن المقفع ايضاً إذ ليس ما يشير الى أصل له فارسي او هندي على حسن ينطوي على روح إسلامية عربية تتصل بصورة القاضي ونحو ذلك .
أما سائر أبواب " كليلة ودمنة " فمل يعرف لها صال بعد على وجه اليقين مثل بابا الناسك والضيف ، وباب مالك الحزين والبطة وباب الحمامة والتغلب ومالك الحزين ، ورما كانت في أساسها هندية أو عربية .


الترجمة من الفارسية والعربية
ورد في بعض النسخ العربية لكليلة ودمنة وهي ليست متطابقة تصريح لابن المقفع يقول فيه " إنا رأينا فارس قد فسروا هذا الكتاب وأخرجوه من الهندية إلى الفارسية ألحقنا باباً بالعربية ليكون له رأس بستين فيه أمر هذا الكتاب لمن أراد قراءته وفهمه والاقتباس منه .
كما جاء في النسخة الفارسية المأخوذة عن العربية بعد ذلك ما ترجمته على لسان ابن المقفع " لما رأيت الفرس قد ترجموا الكتاب من الهندية إلى البهاوية ، رغبت أن يكون لأهل العراق والشام والحجاز نصيب منه وان الترجمة الى اللسان العربي الذي هو الفتهم.
وقد أشار أبو حنيفة الدينورى الى وجود كتاب كليلة ودمنة لدى الفرس وبلغتهم ، ما كان له من خطر عندهم حسين قال : إن بهرام جوبين كان اذا انزل المنزل دعا بكتاب كليلة ودمنة فلا يزال منكباً عليه طول نهاره فقال كسرى : ما خفت بهرام قط كخوفى من الساعة حين أخبرت بإدمانه النظر في متاب كليلة ودمنة .
وقد وقع الكتاب بايدى الفرس في عهد كسرى انو شروان سنة 579 م الموافق لظهور الرسول محمد في عصر التمخض عن الإسلام وقيام معركة ذى قار ، فنقاوه إلى لغتهم الفهاوية ، ثم أضافوا إليه ، كما تقدم بعض الأبواب وبعد نحو قرنين من الزمان اى في القرن الثاني الهجري الثامن الميلادي ، عمد عبد الله بن المقفع الى نقل الكتاب الى لغة العرب .
أما هذه الترجمة الفارسية فلم يعد لها من اثر ، كما ظلت الأصول الهندية امداً كويلا تائهة عبر العصور . وغدت ترجمة ابن المقفع العربية هي المصدر الوحيد لانتشار كتاب كليلة ودمنة بين شعوب الأرض ، ومهم الفرس أنفسهم ، وقد نقل إلى لغتهم هذه المرة من العربية كما نقل إلى أكثر لغات العالم القديمة ومنها السريانية واليونانية واللاتينية والمبرانية .
وقد كشف النقاب عن وجود نسخة لكليلة ودمنة باللغة السريانية وسبق أن ترجمت من السنسكريتية مباشرة وكان ذلك في سنة 570 م اى قبل أن يعمد الفرس إلى ترجمة الكتاب نفسه بنحو عقد من السنين وهذا يعنى أن ثمة ترجمة لكليلة ودمنة كانت قبل عصر ابن المقفع ، ولهذه الترجمة القديمة أهمية بالغة من حيث أنها استبعدت الأقوال التي كانت قبل عصر ابن المقفع ولهذه الترجمة القديمة أهمية بالغة من حيث أنها استبعدت الأقوال التي كانت تذهب إلى أن ابن المقفع هو مؤلف الكتاب وبخاصة بعد ان لم يعد الأصل الفارسي وجود فكانت الترجمة الرسيانية صورة للنسخة الفارسية التي نقلها ابن المقفع إلى العربية ، ولعلها بذلك أقدم ترجمة لكتاب كليلة ودمنة على الإطلاق ، بما في ذلك ترجمة ابن المقفع العربية ، وان لم يكن لها من التأثير أم كان للترجمة العربية .
نشر كليلة ودمنة
رأى كتاب كليلة ودمنة النور مطبوعاً بالعربية لأول مرة في باريس عام 1816 بعناية المستشرق " دو سامى " ثم نشر على غرار هذه الطبعة في مصر ، وتعددت طباعته بعد ذلك فى القاهرة وبيروت وكانت اجمل طبعاته وأقربها الى الأصل الفارسي طبعة القاهرة سنة 1941 التي نشرها عبد الوهاب عزام بدار المعارف عن مخطوطة هامة في ايا صوفيا بتركيا .
وقد ترجم كتاب كليلة ودمنة مع دراسات وافية الى اللغات الألمانية والانكليزية والايطالية والروسية والفرنسية والتركية والايطالية والاسبانية وهو يقرأ الآن في أكثر من خمسين من لغات أهل الأرض .
تسمية كليلة ودمنة
كليلة ودمنة اسمان من أسماء الأعلام أطلقا على حيوانين من فصيلة أبناء آوى ، قال ابن المقفع في بداية الفصل الأول من الكتاب ، وهو باب الأسد والثور وكان ممن معه ( الأسد ) ابنا آوى ، يقال لأحدهما كلية وللأخر دمنة ، وكلاهما ذو أدب ودهاء . وقد ذكر اسمي كليلة ودمنة في بابين اثنين من أبواب الكتاب الأساسية وعددها خمسة عشر باباً احدهما " باب الأسد والثور " والأخر " باب الفحص عن أمر دمنة " وهما بمثابة البطلين الذين تدور حولهما الأحداث أما سائر أبواب الكتاب فلا علاقة لها بهذين الاسمين وهذا يعنى أن تسمية كتاب باسمها هو من قبيل إطلاق الجزء على الكل وهذا ما درج عليه كثير من المؤلفين القدامى وقود عمد الخليل بن احمد معاصر ابن المقفع إلى تسمية معجمه الرائد بالعين نسبة إلى أول حرف ابتدأ به كتابه ، وهذا ما عمد إليه أبو تمام عندما أطلق على مختاراته الشعرية اسم الحماسة ، وهو الباب الأول والاهم في كتابه ، وباب الأسد والثور في كتاب كليلة ودمنة وأكبرها .
عروبة كليلة ودمنة
يعد النقاد العرب القدامى كتاب كليلة ودمنة في الطبقة الأولى من كتاب العرب ، ويصنفه بعضهم في عدد الكتب الأربعة المتقدمة الى الإجلال يدل على أن العرب كانوا يتعزون بهذا الكتاب ويعدونه أثرا عربياً يقرن مع ارفع الآثار الاخري الأصيلة فهل كان العرب يحلون هذا الكتاب الأعجمي تلك المنزلة لمجرد ترجمته إلى لغتهم ؟
ان استقراء النفسية العربية السالفة ينم على ان العربي كان شديد الاعتزاز بأدبه ، قوى الاعتداد بشعره ، حتى أنه كان يستقد احيانا كما ذهب الى ذلك الجاحظ ان الله قصر فضيلة الشعر على العرب او انهم كادوا يستأثرون دون سائر الامم بملكة الفصاحة وما من رب في ان هذا الاعتداد المفرط كان فى مقدمة الأسباب التي حالت بينهم وبين الآداب الأخرى وبخاصة أدب الإغريق الذين اخذ العرب فلسفتهم ومنطقهم واشاحوا بوجوبهم عن ادبهم .
اما النقاد العرب من كتاب كليلة ودمنة ، ومعظمهم كانوا يتمثلون تيار المحافظة في مجال اللغة والأدب ، ويتسمون بحساسية مفرطة تجاه كل جديد فكان موقفهم مغايراً بل ينطوى في ضوء ما تقدم على الغرابة فقد اعجبوا بكليلة ودمنة برغم انتمائه الى وثنية الهنود وثنوية الفرس ومثل هذه الظاهرة يمكن تفسيرها في نقاط عديدة :
- ثمة ابواب عديدة طرات على الكتاب في عهد العرب فاخرجته بعض الشىء عن اعجميته ، مثل باب عرض الكتاب الذي كتبه ابن المقفع ، باب الفحص عن امر دمنة الذي يرجع الباحثون ايضا انه كتبه بقلمه كما ان ثمة ابواب اخر ليس لها وجود في الأصول الهندية وليس بعيداً ان تكون عربية مثل باب الناسك والضيف وباب مالك الحزين والبطة ، وباب الحمامة والثعلب مالك الحزين .
- من الثابت ان كتاب كليلة ودمنة لا يرجع في أساسه الى أصل واحد في السنسركيتية ، ولكنه مستمد من اصول متفرقة كانت في الهند ، اى انه لم يكن هناك كتاب واحد عند الهنود يضم هذه الفصول كما لم يكن ثمة كتاب يعرف لديهم بهذا الاسم .
- ومع اعتقادنا بان ابن المقفع ترجم العديد من أبواب الكتاب فإننا نعده ارق بالى ان يكون فيه مؤلفا فقد عربه ولم يقف عند حدود ترجمته ومن المؤكد انه تصرف في ترجمته تصرفا كبيراً باعد بينه وبين الكثير من نصوص الأصول بحيث " تلونت هذه الأساطير بالروح الإسلامي من ناحية ، وبروح اللغة العربية وتراثها الذي يظهر في صورة أمثال وحكم .
تأثير كليلة ودمنة
يقف كتاب كليلة ودمنة الى جانب كتب عربقة بارزة كان لها اثر بعيد في الأدب العربي ومن مظاهر احتفال العرب بهذا الكتاب ان عمد بعضهم الى نظم أبوابه وأقاصيصه شعراً و أول من تصدي الى ذلك الشاعر ابان ابن عبد الحميد اللاحقي في أرجوزة مطولة وكان معاصراً لابن المقفع ومما يؤسف له ان أكثر أجزاء هذه المنظومة عبث بها يد الزمان فلم يصل إلينا منها سوى شذرات لا تتعدي ثمانين بيتاً على حين بلغت في ساسها أربعة عشر ألفا من الأبيات .
وذكر ايضا ان سهل بن نوبخت قد عمد الى انظمة في هذا العصر ايضا وبعد ذلك نظم كتاب كليلة ودمنة ابن الهبارية من شعراء القرن الخامس الهجري ( 504 هـ - 1100 م ) وجعل عنوانه نتائج الفطنة فى نظم كليلو ةدمنة ، وقد وصل الينا نظمة كاملا تقريباً ويذكر في ترجمته انها خير من ترجمة ابان .
غير ان اكثر كتب هذا الشعر يذهب بطلاوة القصص النثري ، ويعوق تدفق مضمون الكتاب ولا يرقي الى رونق الى دبياجية ابن المقفع وتوجد منظمة اخرى اسمها غزة الحكم في امثال الهنود والعجم من نظم عبد المؤمن الصاغني .
وثمة اخرون اثروا تقليد كليلة ودمنة ومنهم ابن الهبارية نفسه اذ عمد الى النظم على غرار كليلة ودمنة وقد اسمى كتابه هذا الصدح والباغم " ومن هذا القبيل كتاب ابن ظفر سلوان المطاع فيعدوان الطباع " وقدمه لبعض القواد في صقيلة وعلى هذا الغرار الف ابن عربشاء فاكهة الخلفاء ومناظرة الظرفاء ولإخوان الصفا في رسائلهم رسالة في المناظرة بين الحيوان والإنسان تشبه من بعض الوجوه طابع كليلة ودمنة وينسب الى أبي العلا المعرى كتاب اسمه القائف على مثال كليلة ودمنة .
مقدمات كليلة ودمنة
يعد باب الاسد والثور بداية لصلب الكتاب غير ان ثمة اباوابا تسبقه وتكون بمثابة مقدمات لكليلة ودمنة وهي تكشف ظروف تاليف الكتاب ومصاقده
القمدمة ، لعل بن الشاه الفارسي وتسرد قصة تاليف الكتاب من اساسها وان واضعة هو ( بيدبا ) راس البراهمة في الهند وفيلسوفها ، وقد جعله " على السنة البهائم والطير ***** لغرضه الاقصي فيه من العوام وضننا بما ضمنه عن الطغام "
ان الاسكندر ذى القرنين حين قد الى الشرق واندفع فاتحا نحو الصين استعد " فورك " ملك الهند لملاقاته في جيش لجب قوامه الكثير من المدة والعتاد وفي مقدمته القيلة واشداء الفرسان فتربث الاسكندر للامر وكان معه صناع كثيرون اصطحبهم من البلدان المفتوحة فأمرهم بأن يصنعوا له خيلاً من نحاس مجوفة عليها تماثيل من الرجال على بكر تجري بها ، اذا دفعت مرت سرعاً وامر اذا فرغوا منها ان تجنى اجوافها بالنفط والكربيت وتضرم فيها النيران فان الفيلة اذا لقت عليها خراطيمها وقت الالتحام والقت بمن عليها واتجلت المرعكة عن ظفر الاسكندر بفورك وقتلته اياه واستيلائه على بلاد الهند .
ثم مضى الاسكندر الى بلاد الصين بعد ان ولى رجلا من ثقاته على الهند ولم يلبث أهل الهند ان ثاروا بالرجل وقالوا ليس يصلح للسياسة ولا ترضي الخاصة ولا العامة ، ان يمتلكوا عليهم رجلاً ليس منهم ولكوا أمورهم رجلاً من بينهم اسمه دبشليم ولكن دبشليم عبث برعاياه واتصغر امرهم وساء السيرة فيهم .
تكون الجاحظ
مدينتا البصرة والكوفة اللتان انشئتا في العراق خلال العقد الثاني من القرن الأول الهجري ما لبثا الا قليل حتى انقبتا الى حاضرتين من اكبر حواضر العلوم والأدب التي عرفتها ديار العروبة والاسلام .
اما البصرة التي كانت منبت الفقهاء والمتكلمين والرواة والمحدثين والنحاة واللغوين فقد غدت ايضاً موئل الكتاب والمؤلفين والشعراء والتأدبين وكما كانت هذه المدينة موطن ابن المقفع أصبحت بعد ذلك موطن الجاحظ
فالجاحظ بصري المولد ، بصري المنشأ بصري الوفاة ويرجع بعضهم ان عمرو بن بحر هذا يتحدر من قبيلة كنانة التى كان لها النسىء على حين يجنح بعضهم الى اعتبار اب عثمان من احفاد الرقيق الذين كانوا بين يدي كنانة في تجارتها الواسعة عبر البحر الاحمر مع بلاد النوبة وقد يعود الى هذا الاصل الافريقي قبح وجه الجاحظ ودمامته والثابت على ايح حال نشاء في اسرة متواضعة وعاش فى كنف ابوين فقيرين غير اننا لا نكاد نعرف تفصيلات تذكر عن ابيه ويغلب على الظن ان اباه هذا ما لبث ان توفى مخلفاً ولده عمراً ليعرف من بعده مرارة اليتم اضافة وطاة الفقر امه امة فهي التي رعته ضبياً وفي بعض كتب الأدب شذرات ضئيلة من أخبارها
كذلك ليس بوسع الدارسين الجزم بنة مولد الجاحظ شانهم في ذلكم كشأنهم تجاه أكثر النبهاء والإعلام الذين غالباً ما تكون بواكير حياتهم مجهولة ، ويحدد بعض الباحثين ولادته سنة 159 هـ
كان على هذا الفتي ، فى ظل تلك الظروف التي اكتنفت نشأته ان يعتمد على نفسه وان يسعي الى كسب رزقه بكد يمينه وقد ذكر المصنفون أنه رئي بسيحان احد انهار البصرة يبيع الخبز والسمك في صباه .
فهل ينقلب هذا الإحساس بالنقص الى نزوع للتفوق لدي فتى مرهف الحس يعاني من وضاعة اصله ويمته ومن فقره وقبحه ان بعض هذه المشطات كان ل*** اليأس وتوهين العزم وايراث الهم غثير ان من الصعاب ايضا ما يحفز الهمم ويقوى العزائم ويثير القرائح اذا كان صاحبها ممن اتوا نباهة وفطنة وهكذا داب الجاحظ على السيد في عاصمية نادرة حتى داع شانه فاخذ يعيش من الهبات والأعطيات التي خذت ترد إليه من الأمراء والكبراء " ممن يؤلف بعض كتبه لهم ، ويحيلها بأسمائهم وفى كهولته دعاء الخليفة المأمون الى تصدر ديوان الرسائل في بلاطه ببغداد ، ولكنه لم يمكث فيه سوى أيام ثلاثة استفي بعدها فأعفى وكان سهل بن خهارون وهو من ابرز كتاب هذا الديوان وممن نبة شانهم قبل الجاحظ فى فن النثر يقول إن ثبت الجاحظ في هذا الديوان أفل نجم هذا الكتاب وقد ترك الجاحظ هذا العمل الرسمي وما كان ينطوي عليه جوه من زيف وكيد ونفاق غير أسف بعد أن عرف من حقيقة بعض النفوس ما عرف وبخاصة من زمرة كتاب الدواوين وكبار الموظفين وراح ينعتهم بأنهم أصحاب ظواهر نظيفة وبواطن سخيفة فويل لهم مما كتبت ايادهم ، وويل لهم مما يكسبون ولعل رسالة الجاحظ في ذم أخلاق الكتاب من وحي هذه التجربة .
وثر الجاحظ العيش في رحاب الفكر مستشرقا آفاق المعرفة دائبا على العطاء ثم شاخ وادركه الهرم والح عليه المرض ولكنه ظل على ادبه وعطائه ويبدو ان الخلفاء والكبراء كانوا شديدي الحرص على اقتراب الجاحظ من مجالسهم برغم زهده المعهود فى مثل ذلك ومن هذا القبيل ما أورده أبو على القالي فى قوله " وحدثنا أبو معاذ الخولى المتطلب قال : دخلنا يوماً بسر من راى على عمرو بن بحر الجاحظ نعوده وقد فلج ، فأما أخذنا مجلسنا أتى رسول المتوكل فيه ، فقال : وما يصنع أمير المؤمنين بشق مائل ، ولون حائل ولعاب سائل ؟ ثم اقبل علينا وقال : ما تقولون في رجل له شقان ، احدهما لو عرز بالمسال ما أحس والشق الأخر يمر به الذباب فيغوث ، وأكثر ما اشكوه الثمانون .
الجاحظ المؤلف
ولعل الجاحظ كان أول من اتخذ التأليف صناعة له " ومن ذلك جاء الكتاب الجاحظي نمطا جديداً في التأليف يجمع بين بسط العبارة وجمالها ، ويتجه إلى جمهرة القراء لا الى طائفة خاصة منهم وقد حرص الجاحظ إبلاء هذه الناحية ما هي جديرة من الاهتمام اذ قال " وليس الكتاب إلى شيء احوج منه إلى إفهام معاينة ، حتى لا يحتاج السامع لما فيه من الروية ويحتاج من اللفظ الى مقدار يرتفع به عن ألفاظ السفلة والحشو ، ويجعله عن غريب الأعراب ووحشي الكلام "
منزلة الكتاب عند الجاحظ
لقد أحب الجاحظ الكتاب وانس وألفه وأطال صحبته ، وكان له حيز في حياته ولهذا أشاد بفضله وأطنب في مدحه وأسهب وصفه حتى انه وجد ان المرء لا يفلح إلا إذا كان " يؤثر اتخاذ الكتب إيثار الإعرابي فرسه باللبن على عياله " وكان وصف الجاحظ للكتاب أمرا ذائماً لا يدينه فى براعته وصف حين قال :
"..... الكتاب نعم الذخر والعقدة والجليس والعمدة ونعم النشوة ونعم النزهة ، ونعم المشغل والحرفة نعم الأنيس ساعة الوحدة ونعم المعرفة ببلاد الغربة ، ونعم القربن والدخيل والزميل ، ونعم الوزير والنزيل ، والكتاب وعاء ملىء علما وظرف حثي ظرفا ، واناء شحن مزاجا ان شئت كان اعي من باقل وان شئت كان ابلغ من سبحان وائل وان شئت سرتك نوادره ، شجعتك مواعظة ومن لك بواعظ مثله ويناسك فاتك وناطق اخرس ونديم مولد وحبيب ممتع ومن لك بشىء يجمع لك الأول والأخر والناقص والوافر والشاهد والغائب والرفيع والوضيع وبعد فما رأيت بستانا يحمل في رددن وروضة تنقل في حجر ينطق عن الموتى ويترجم عن الإحياء والكتاب هو الجليس الذي لا يطربك والصديق الذي لا يقيلك والرفيق الذي لا يلمسك
حب الجاحظ للكتاب
والكتاب هو الذي اذا نظرت فيه أطال إمتاعك ، وشحذ طباعك ، وبسط لسانك ، وجود بيانك ، وفخم ألفاظك وإن عزلت لم يدع طاعتك ، وان هبت ربح أعدائك لم ينقلب عليك ومتى كنت متعلقاً منه بأدنى حبل ، لم تضرك معه وحشه إلى جليس السوء ...
الاستطراد:
عرف الجاحظ في مؤلفاته بجنوحه إلى الاستطراد وبعدم التزامه بالبقاء في فلك موضوعه المحدد ، أو تقيده بإطار بحثه المعالج فكان ينتقل أحيانا داخل الموضوع الأساسي إلى موضوعات أخرى ليست وثيقة الاتصال بما هو فى صدده .
وأكثر ما يتجلى الاستطراد فى كتابيه الكبيرين ، كتاب الحيوان وكتاب البيان والتبيين فهل كان ذلك من الحاجة قصوراً عن تجويد التأليف وأحكام صناعته ؟
الواقع ان ثمة عبارات أوردها ابو عثمان وتشير الى ان الظروف التي تصدي خلالهما لمهمة التأليف لم تكن مواتية له على النحو المنشود فهو يقول مثلا وقد صادف هذا الكتاب منى حالات تمنع من بلوغ الإرادة فيه و أول ذاك العلة الشديدة والثانية قلة الأعوان والثالثة طول الكتاب وكأننا بالجاحظ يرمي من كلامه هذا إلى الاعتذار عما ينطوي عليه كتابه من عيوب وخاصة قلة التنظيم .
على ان تقصي منحي الجاحظ في التأليف يوضح انه كان يقصد في كثير من الأحيان الى الابتعاد عن أصل موضوعه قصداً لهدف يراه مجدياً فهو يتعمد إيراد الطرف والنوادر والحكايات ويرمي من وراء ذلك الترفيه عن قارئه املا ان يجدد له قواه ويوفر نشاطه فالجاحظ من خلال هذه الظاهرة يبدو لنا شديد العناية بقارئه ، حريصاً على توثيق الأواصر الذهنية والنفسية معه ومن هن فأنه لا يثقل عليه ، ولعله يخشي ان يطيل فيصه بالسام ويحمل إليه الملل ، ولهذا يبدو للأمر جاهداً في محاولة جذب قارئه إليه بما لديه من طاقة وموهبة .
" وليس من الأبواب باب إلا وبدخله تقف من أبواب أخر ، على قدر ما يتعلق بها من الأسباب ويعرض فيه من التضمين . ولعلك ان تكون به اشد انتفاعاً ، ثم يقول ايضاً " على أنى ربما وشحت هذا الكتاب وفصات فيه بين الجزء بنوادر كلام وأخبار ، وغرر إشعار مع طرف مضاجيك .
ومن هذا لقبيل ما يمدد إليه الجاحظ نتيجة شعوره بان وطأة الجد لا بد ان تكون قد اشتدت على قارئئه " وان كان قد أمللناك بالجد والاحتياجات الصحية فإننا سنشطلك بعض البطالات فان كنت ممن يتعلم الآلة ، وتجعل إليه السامة كان هذا الباب تنشيطاً لقلبك وجماماً لقوتك "
ولا بد من ملاحظة هذا الأمر وهو إن المعارف كنت غزيرة لدي الجاحظ وقد اخترنها في ذاكرته على مر الأيام ، فهو حين يشرع في الكتابة تنثال على قامه الفياض وتتزاحم على القرطاس فيرسل طبعه المتدفق على سجيته دون ان يقسر نفسه على ضبط ينثال من قريحته ويندفع من ذاكرته ، فكان يرتك ظاهرة تداعي الأفكار تأخذ مداها .
وثمة أخر هو أن سمة المعارف في ذلك العصر كانت الأخذ من كل فن بطرف ، دون الالتزام بمعالجة موضوع معين والوقوف عند بحث محدد ، فالهدف لدي الجاحظ ومعاصريه تثقفي يرمي إلى أغناء قارئ الأمس فيما يبدو كان بسقيغ هذا المنحي ويروق في عينه ذلك التنقل والتنوع .
ومهما يكن من امر فلسنا نود ان نطالب الجاحظ في فجر عصر التأليف بما نطالب المؤلف في عصرنا غير إننا نقول في الوقت نفسه ان الجاحظ في جنوحه للاستطراد في مؤلفاته إنما سن سنة غير حميدة لمن بعده من المؤلفين فقد كان تاثيرة في عالم التأليف كبيرا حتى كان الذين أتوا بعده قد نسجوا على منواله ولم يعودوا يستطيعون فكاكا من مذهبه .
على اننا في حرصنا على إنصاف الجاحظ في هذا الامر وذكر ماله وما عليه لا نذهب في ذلك الى المدي الذي ذهب اليه الباقلاني حين نمت ابا عثمان بانه " كان يستعين بكلام غيره .
كذلك جانب المستشرق كاردافو الإنصاف حين قرر جازماص الموضوع عنده ليس الا وسيلة للاستطراد فكان الامر لديه اصبح منقلباً بحيث غدا قاعدة والقاعدة استثناء .
المصدر: ملتقى شذرات

__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية

الكلمات الدلالية (Tags)
الخلافة, العباسية


يتصفح الموضوع حالياً : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


المواضيع المتشابهه للموضوع الخلافة العباسية
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
ثورة الزنج على الخلافة العباسية عبدالناصر محمود شذرات إسلامية 3 03-30-2015 06:29 PM
حتمية عودة الخلافة الإسلامية عبدالناصر محمود مقالات وتحليلات مختارة 0 06-19-2014 09:47 AM
في ذكرى هدم الخلافة الاسلامية محمد خطاب مقالات وتحليلات مختارة 2 03-16-2014 12:41 PM
اليوم.. إضراب للصحفيين أمام النقابة تضامنا مع معتقلى العباسية يقيني بالله يقيني أخبار عربية وعالمية 0 05-20-2012 09:20 AM
الخلافة في صدر الإسلام Eng.Jordan دراسات ومراجع و بحوث اسلامية 0 01-29-2012 01:06 PM

   
|
 
 

  sitemap 

 


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 11:53 AM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.12 by vBS
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والمشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59