#1  
قديم 11-20-2012, 09:55 PM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,392
افتراضي قراءة في مذكّرات بيرم التونسي


د. فوزي الزمرلي أستاذ النقد الأدبي الحديث بالجامعة التونسية إنّ حلقات مذكّرات بيرم التونسي المنشورة بالصحف التونسية في ثلاثينات القرن الماضي وحلقة مذكّراته المنشورة بمصر قبيل وفاته *تنير أبرز أطوار حياته و تشفّ عن مقوّمات شخصيّته .وهي تمثّل – فضلا عن ذلك -أهمّ آثاره الأدبيّة التي تدلّ- رغم اختلاف محتوياتها وأساليبها- على عمق تجاربه الحياتيّة وتثبت أنّ صور المتلقّين التي استحضرها في أزمنة التدوين قد أسهمت في تغذية مضامينها وتشكيل أساليبها وتحديد مقاصدها الجوهريّة. ورغم كلّ هذا ،فإنّ الأجناس الأدبيّة التي أذاعت شهرة بيرم التونسي في العالم العربيّ قد حجبت عن جلّ الدارسين قيمة تلك المذكّرات وجعلتهم يستندون إليها لرسم سيرة حياته ، معتبرين أنّها وثائق ثابتة يمكن الاطمئنان إليها كلّ الاطمئنان فطمسوا بذلك أدبيّتها طمسا.
************************************
عوامل نشأة مذكّرات بيرم
ساند بيرم التونسيّ ثورة 1919 على المستعمر الإنقليزي وعلى السلطة المحليّة الموالية له مساندة دفعت الملك فؤاد إلى الاتّفاق مع الإنقليز على دفع قنصلية فرنسا إلى إخراجه من مصر ،بما أنّ جنسيته التونسيّة تحميه من المحاكم المصريّة وتخوّل له التمتّع بامتيازات الفرنسيّين ، باعتباره من رعايافرنسا التي كانت تحتلّ تونس آنذاك .
وقد تمّ نفي بيرم في فرنسا سنة 1919، رغم جهله اللّغة الفرنسيّة وصعوبة الظّفر بشغل خلال تلك الفترة التي عقبت الحرب الكونيّة الأولى. ولئن اختلف الدارسون في تحديد المدّة الأولى التي حلّ خلالها بتونس فالرّاجح أنّه أقام بمرسيليا في بداية الأمر، مثلما تدلّ على ذلك عتبات مذكّرات المنفى، ومنها توجّه إلى تونس.غير أنّه رجع إلى فرنسا بعد أسابيع قليلة لأنّ عائلته لم تكترث به ، حسب ما أشار إلى ذلك في مذكّراته الأخيرة بقوله :” واتّصلت في تونس بالعائلة التي قال جدّي و أبي إنّهم ينتمون إليها هناك فاقتصرت صلتي بها على المجاملات البسيطة. فالعائلة انتهى أمرها إلى أن صارت عائلة إقطاعيّة ذات مناصب وتنطوي على نفسها فيما عدا ذلك “( مذكّراتي (المجموعة الكاملة) ص.ص 121-122 ) . وبعد حوالي عشر سنوات أسند إليه المشرفون على جريدة الزمان التونسية رئاسة تحريرها ليواجهوا بقلمه خصومهم السياسيّين فكان ذلك سببا في رجوعه إلى تونس وإقامته بها في مرحلة حاسمة من مراحلها التاريخيّة الحديثة.و رغم أنّه لم يكن معروفا لدى القرّاء التونسيّين آنذاك، فإنّه لفت الانتباه إليه بالسّمة التي طبع بها جريدة الزمان وبالعلاقات التي ربطته بالأدباء والفنّانين المرابطين بمقهى ” تحت السور” وبفضل حلقات المذكّرات التي وسمها بـ”مرسيليا” ونشرها سنة 1933 بإمضاء سائح، ثمّ أضاف إليها مذكّرة أخرى بعنوان “في باريس”.
و قد أبانت تلك المذكّرات عن صورة مشرقة لحياة بيرم في فرنسا .ذلك أنّه صوّر فيها معالم مرسيليا ونواديها ومنتزهاتها وحلّل طبائع سكّانها وعاداتهم بالاستناد إلى ذكرياته عنها. إلاّ أنّ المتقبّل المطّلع على مذكّرات المنفى التي نشرها بيرم بعد ثلاث سنوات من نشر مذكّراته السّابقة يلاحظ الاختلاف الواضح بين المجموعتين ويعجب من تباين قسماته فيهما. وآية ذلك أنّه نشر فصول “مرسيليا” بإمضاء سائح وعرض ذكرياته من تلك الزاوية، في حين أنّه لوّن مذكّرات المنفى بلون قاتم وأطنب في تصوير مظاهر الغربة والعذاب التي خيّمت على حياته بفرنسا.
ونحن نذهب إلى أنّه بدأ بنشر مذكّراته عن مرسيليا بتونس ليلفت انتباه القرّاء التونسيّين إلى الغنم الذي غنمه عندما اتّصل بمجتمع غربيّ تمكّن من صنع أسطورة تفوّقه وتمدّنه، ويبرّر جدارته بالمنزلة التي احتلّها في الصحافة التونسيّة. أمّا مذكّرات المنفى التي ألّفهـا في فرنسا منذ سنة 1919، فإنّها تولّدت –حسب رأينا- عن الظروف الاجتماعيّة والنفسانيّة التي عاشها آنذاك واتّجهت بالدرجة الأولى إلى القارئ المصريّ. إلاّ أنّ نشر تلك النصوص بعد مرور عقد ونصف على زمن التجربة والتدوين الأوّل قد نجم –فيما نقدّر- عن تمثّل ملامح متقبّل جديد، سواء أ حافظ بيرم على النصّ الأصليّ أو حوّر بعض جوانبه قبيل النشر، وشفّ عن رغبته في تحقيق مقاصد أخرى حافّة بالمقاصد الأولى.
ويكفي أن نعود إلى تجربة حياة بيرم في تونس لنلاحظ أنّ كتاباته بجريدة الزمـان أثارت سلسلة من المعارك بينه وبين خصوم شنّوا عليه حملات سياسيّة وأدبيّة جعلت أسرة الزمان لا ترضى عن اتّجاهه الذي صرفه عن دعم منزعهم السياسي. ومن ثمّ دبّ الفتور إلى علاقة بيرم بأسرة الزمان وانتهى الأمر إلى انقطاع تلك العلاقة فوجد نفسه عاطلا عن العمل ورجع من جديد إلى حياة الخصاصة.
وخلال تلك المرحلة رفع المستعمر الحظر عن الصّحف المعطّلة وأجاز إصدار صحف أخرى فاستغلّ بيرم تلك الفرصة وأصدر جريدة خاصّة وسمها بـ”الشباب” (سنة 1936). وبتلك الجريدة أطلق قلمه اللاذع لنقد المستعمر والسخرية من أعلام الأدب والفنّ المناهضين له ومن رجال الحزب الدستوريّ القديم، وعلى صفحاتها نشر قسما من مذكّرات المنفى. وعندما عطّلت سلطات الاحتلال تلك الجريدة تحوّل بيرم إلى جريدة “السردوك” ووسمهـا بنفس سمات “الشباب” وبها واصل نشر مذكّرات المنفى إلى أن أُقصي عن تونس سنة 1937.
ونحن نقدّر أنّه نشر آنذاك مذكّرات المنفى التي صوّرت مظاهر حرمانه وشقائه في فرنسا ليشير إلى تعوّده على مكابدة المصاعب ويستخفّ بخصومه ويظهر قلّة اكتراثه بالحواجز التي وضعوها في طريقه .إذا ما استنرنا بسيرة حياته لاحظنـا أنّ كتاباته بتونس دفعت خصومه إلى التعاون مع سلطات الاستعمار على إخراجه من البلاد ونقله إلى سورية حيث سلّط قلمه على القوى المساندة للمستعمر فتمّ الاتّفـاق على ترحيله إلى بلد إفريقيّ لا يستعمل أهله الّلسان العربيّ. إلاّ أنّه تمكّن من التسللّ إلى مينـاء بورسعيد سنة 1938 عندما أرست الباخرة به، ثمّ توجّه إلى القاهرة حيث اتّصل به بعض رجال السياسة وأخبروه بأنّهم سيعينونه على البقاء بمصر إن هجا النحاس باشا ومدح الملك فاروق .وقد لبّى بيرم رغبتهم كي لا يُجبر على العودة إلى المنفى الذي أقام به حوالي عشرين سنة في غربة مضنية عبّر عنها بأزجال شهيرة ، ندكر منها قوله :
يا اسكندرية يااللي زاينة البحر الأبيض
يا نور عينيه عالشباب و عليكي يعوّض
كتمت ناري من نهار البين في ضلوعي
رايت مواني عن يميني ملكك وشمالك
ماشفت تاني فيه أثر من بعض جمالك
واللي طويته كان علم يخفق في هواكي
فراق يا ريته كان فراق الموت وعزاكي…..
ومن أجل ذلك هجا بيرم النحاس باشا في عدّة مناسبات ومدح الملك فاروق بقصيدة زجليّة تذلّل فيها تذلّلا جعله يشعر بالندم إلى آخر أيّام حياته. فقد استهلّ تلك القصيدة بتصوير عذاب غربته وظروف عودته إلى مصر وعبّر عن مشاعر الفرحة التي غمرته عندما شاهد وجوه المصريّين، ثمّ أعلن عن استعداده لخدمة ركاب السلطان، إن كفّوا عنه تتبّعات رجال الشرطة ،حسب ما يتّضح من الأبيات التالية التي تضمّنتها تلك القصيدة:
غلبت اقطع تذاكر وشبعت يارب غربة
بين الشطوط والبواخر ومن بلادنا لاوروبا
(…)واقول لكم بالصراحة اللي ف زماننا قليلة
(…) ماشفت يا قلبي راحه في دي السنين الطويلة
الا اما شفت البراقع واللبدة وال***يه
يا مصر نور الوسامه ساطع وباين شروقك
لحن السلام والسلامه الدنيا سامعاه في بوقك
والجو فوقه ابتسامه زي ابتسامة فاروقك
تحوم عليها الملايكه وتنطق الانسانيه
وفي مطلع سنة 1961 تدهورت صحّة بيرم بمدينة حلوان و لاح له شبح الموت فتوسّل بفنّ المذكّرات ليقدّم صورة إجماليّة عن سيرته ترجمت عن رغبته في تقديم شهادة تفنّد ادّعاءات خصومه وأظهرت نبل القيم التي تحكّمت في مراحل حياته كلّها.
ولهذا فإنّنـا نذهب إلى أنّ الغربة التي كابدهـا بيرم في المنفى واستغلال الصّحف والمجلاّت لقلمه آنذاك والاتّهامات التي وجّهها له خصومه إثر مدحه الملك فاروق ومرضه في فترة الشيخوخة واعتراف حكومة جمال عبد الناصر بفضله والشهرة الأدبيّة التي حظي بها قد تفاعلت كلّها لحظة التدوين ولوّنت خطاب تلك المذكّرات بلون مخصوص دعم علاقاتها بالمذكّرات السابقة التي تعلّقت بفترتي الشباب والكهولة.


مذكّرات بيرم ومسألة التلقّي
1) مذكّرات مرسيليا
اتّخذ بيرم التونسي إقامته بمرسيليا موضوعا لمذكّراته التي نشرها بجريدة الزمان التونسيّة. ذلك أنّه مال في المذكّرات الموسومة بـ “مرسيليا” إلى وصف معالم تلك المدينة الفرنسيّة وأحيائها وشواطئها ونواديها ومنتزهاتها من دون أن يربط بين تلك الجوانب أو يخضعها للبناء التسلسليّ الذي يخضع له أدب الرحلة. كما أنّه أوغل في تحليل طبائع السكّان وعاداتهم ومقوّمات دينهم ومواقفهم من الأجانب، وأبدى إلمامه بأوضاع الشرقيّين بفرنسا واستخلص أسباب غربتهم وعوامل تخلّفهم عن الأروبيّين.وقد هدفت الخطّة التي خضعت لها تلك المذكّرات إلى ترسيخ تلك الصورة لدى القارئ وشدّه إلى حلقات المذكّرات شدّا كشف عن رغبته في لفت انتباه القارئ التونسي إلى غنمه عندما أقام في مجتمع غربيّ تمكّن من صنع أسطورة تفوّقه وتمدّنه.
ولهذا، فإنّنا نعتبر أنّ تلك المذكّرات قد تولّدت عن شعور بيرم زمن التدوين بامتلاء ذاته وانتشائه بثراء تلك الخبرة واعتزازه بضروب المعارف التي ميّزته من سائر الشرقيّين المقيمين بفرنسا. ولا شكّ في أنّ استنجاد جماعة جريدة “الزمان” به لمواجهة خصومهم قد أذكى نخوته بمنزلته الأدبيّة وعمّق اقتناعه بسلطان قلمه.
والحقّ أنّ بيرم برّر روايته لتلك الذكريات تبريرا حجب الدّافع الأوّل الضمنيّ ودلّ في الآن نفسه على دافع ثان يدعم الدّافع الأوّل دعما خفيّا. فقد ذهب إلى أنّ للقارئ دخلا في توليد تلك الخواطر، إذ قال: “أقمت في مرسيليا خمسة أعوام وكتبت عنها جادّا وهازلا ولا أراني أسأم الكتابة عنها كلّما مرّ ذكرها بخاطري وأحسب القرّاء لا يسأمون ما أكتبه”. (ص36) وبهذا يمسي الراوي داخل النصّ حلقة فاصلة واصلة بين الكاتب خارج النصّ والذّات التي عاشت الأحداث. فقد أشهدنـا الخطاب على تأثير عوامل النشأة وصورة المتقبّل في توليد تلك الخواطر، مؤكّدا تأثير التلقّي في رسم خطّة الخطاب. غير أنّ إرضاء الراوي لأفق انتظار المتقبّل الذي استحضره زمن الرواية يمثّل – في الحقيقة – معبرا لخلب القارئ،لأنّ القناع الذي وضعه الكاتب عندما تقمّص دور راو لحياته لا يمكن أن يشفّ بصورة صادقة عن حياة الذّات التي عاشت التجربة ولا يقدّم صورة وثائقيّة عن حياة الكاتب خارج النصّ. فالراوي يسوس الخطاب سياسة تهدف إلى الفتن بمنزلة الذّات زمن التجربة وزمن الرواية في الآن نفسه. وبذلك يصبح الدافع الذي ذكره مجرّد معبر لتحقيق الدّافع الخفيّ القادح لذلك الخطاب.
إنّ بيرم التونسي قد تقمّص في لحظة من لحظات حياته دور راو استحضر تجربة مرّ بها زمن إقامته بفرنسا، ووشت خطّة الخطاب وانفتاحه على العاميّة التونسيّة بتوجّهه إلى القارئ التونسي بالدرجة الأولى. وبذلك تضافر الفصل الأوّل مع بقيّة الفصول على الإيعاز بأنّ الذّات التي عاشت التجربة خبرت المجتمع الفرنسي ورتعت في ربوع المتعة رتعا نمّ عن تجنّبها ألوان العذاب التي وسمت حياة جلّ الشرقيّين المقيمين بفرنسا. وبما أنّ فنّ المذكّرات ينهض على تطابق الكاتب والراوي والشخصيّة التي عاشت الأحداث، فإنّ انفتاح مذكّرات بيرم على تمجيد الذّات التي عاشت التجربة يرشح بتمجيد نفسه.
وقد نزع خطاب تلك المذكّرات منزع خطاب الرحلة لحجب صورة ذات عاشت منفيّة بصورة “سائح” رشّحته خبرته لإرشاد المتقبّل وإمتاعه بملذّات السياحة. ومن آيات ذلك توجّه الكاتب إلى القارئ قائلا: “نعود إلى الشاطئ لنتمتّع بما فيه من مباهج ونتجنّب ما فيه من الشرور. فهناك مطاعم صفّت كراسيها وموائدها قريبا من الأزرق اللّجيّ وبجانبها باعة المحارات والحشرات الصدفيّة والشوكيّة…” (مرسيليا2 الزمان 30 ماي 1933).
وقد دعم الكاتب تلك الصورة بالتلميح إلى اليسر الذي أحاط بحياته في فرنسا إحاطة مكّنته من الاختلاف إلى النوادي والمنتزهات والمعالم التاريخيّة. ومن أمارات ذلك إشارته إلى أنّه دخل مطعما يقف على أبوابه الخدم ودفع صحبة زميل له “نحو مائتي فرنك في أكلة”: والحال أنّنا نجده في مذكّرات المنفى يصرّح بأنّه كاد “يلمس السماء فرحا” عندما تسلّم من مكتب التشغيل تذكرة القطار وفوقها خمسة فرنكات لنفقة الطريق (مذكّراتي، ص93).
وقد راوح بيرم بين وصف الأحياء الأرستقراطيّة والأحياء الشعبيّة مراوحته بين إبراز السلوك الحضاريّ وأعمال العصابات ليطبع حديثه بطابع موضوعيّ. غير أنّ ذلك الخطاب يفضح حرصه على إقناع المتقبّل بأنّه قد اختلط بجميع الطبقات وعاشر مختلف الأوساط.
وهكذا اتّصلت تلك الفصول بفنّ المذكّرات، إذ أفاد فيها صاحبها من تأخّر زمن الحكي عن زمن التجربة إفادة مكّنته من تبويب الذكريات وانتقاء ما يخدم خطّته، وتوصّل إلى التفنّن في الوصف والتحليل وبلورة خلاصات عامّة أثبتت الأهميّة المطلقة لخطاب تلك المذكّرات.
والحقّ أنّ المتعة كانت من العوامل المؤثّرة في ذلك الخطاب ، إذ بدت لذّة التذكّر قادحة للذّة رواية الذّكريات ودافعة إلى إمتاع المتقبّل والتدرّج في إثارة شهوته. و ممّا يثبت ذلك قول الكاتب: “وإذا أردت أن يذهب عقلك تماما فاقصد في الصيف الحمامات البحريّة “كاتالان” و”روكاسبلان” فهنّ هناك متجرّدات تماثيل من صنع المثال الأكبر سبحانه وتعالى” (ص 37).
غير أنّ تواصل فعل هذا الدافع طوال خمسة أشهر في حلقات كُتبت بتونس وبها نشرت يشهد بأنّ ذلك الدافع المعلن يخفي دافعا مكتوما ويدعمه في ذات الوقت. فخطاب المذكّرات ينزّل بيرم التونسي منزلة سائح غنم من ألوان الحياة المشرقة في فرنسا وحرص على إمتاع القارئ وإثارة شهوته إثارة تفتنه بمكانته المرموقة. وقد تضافر التفنّن الأسلوبيّ والمنهج العلمي وضروب الدعابة في الهدي إلى تلك المكانة والإشادة بها.
ويبدو أنّ الكاتب قد أدرك أنّ الإقامة بمرسيليا لا ترقى في نظر المتقبّل إلى درجة الإقامة بباريس فأضاف إلى تلك الحلقات السابقة حلقة صوّر فيها ذكرياته بالعاصمة الفرنسيّة ليدلّ على أنّ صلته بها لا تقلّ متانة عن صلاته بمرسيليا. وقد سلك خطاب هذه المذكّرة خطّة تغذّي متعة المتقبّل وتفتنه بشخصيّة تلك الذات التي توصّلت إلى الغوص في أعماق الوسط الباريزي.
ورغم أنّ بيرم التونسي لم يكشف في تلك النصوص عن حياته الخاصّة في فرنسا إلاّ فيما ندر، فإنّ إطنابه في الحديث عن الوسط الفرنسي يظهر عاملا من العوامل الأساسيّة التي أثّرت في حياته الاجتماعيّة وغذّت فكره ووجدانه. ومن هنايكتسي خطاب تلك المذكّرات أهميّة بالغة، لأنّ مظاهر الحذف والتلخيص والإطالة والتهكّم والتعليق والتبرّم تشفّ كلّها عن الأثر الذي تركته تلك الذكريات في نفسه وتدلّ على المقاصد التي هدف إليها بتدوين تلك المذكّرات.
2 -مذكّرات المنفى:
نشر بيرم نصوص مذكّراته المدوّنة بفرنسا منذ سنة 1919 بعد أن أنفق ثلاث سنوات من حياته بتونس حيث نشر مذكّراته الموسومة بـ “مرسيليا”. ويمكن تصنيف حلقات “مذكّرات المنفى” إلى مجموعتين مختلفتين، إذ نهج بيرم في النصّين الأوّلين نهج اليوميّـات وتفنّن في توليد مظاهر الدعابة ولم يستعمل فيهما العاميّة التونسيّة. أمّا بقيّة مذكّرات المنفى فقد اصطبغت بصبغة قاتمة، وظهرت فيها العامية التونسيّة ظهورا دالاّ على توجّهها إلى قارئ تونسي.
ولئن غابت ملامح المتقبّل التونسيّ في المجموعة الأولى وصمتت بعض حلقات المجموعة الثانية عن ذكر مكان التدوين، فإنّ جميع حلقات “مذكّرات المنفى” قد نُشرت بتونس أوّل مرّة –على حدّ علمنا- وأضحت بذلك منساقة إلى القارئ التونسي خلال مرحلة معيّنة من مراحل إقامة بيرم بتونس.
ويتجلّى من المذكّرتين الأوليين أنّ بيرم التونسي انتقى المشاهد المعربة عن انشراحه زمن التجربة وعن انسياقه إلى الدعابة صحبة ركّاب الباخرة و أظهر تهكّمه بالركّاب من خلال وصف سلوكهم الدافع إلى الضحك وتحليل طباعهم وعرض أقوالهم. وبذلك أشهدنا الخطاب على أنّ الكاتب قد تمتّع في المنفى بتصوير أطوار السفر تمتّع السيّاح بتصويررحلات شيّقة.
وتلك الملامح البادية على الصفحات الأولى التي دوّنها بالمنفى تترجم عن توجّهه إلى المتقبّل المصري في لحظة الكتابة. وصورة ذلك المتقبّل –فيما نقدّر- ذات وجهين: وجه متشفّ من إقصاء بيرم عن أرض مصر ووجه متعاطف معه في محنته. وقد أثّرت تلك الصورة بوجهيها في الذات الراوية تأثيرا حملها على التفنّن في عرض المشاهد الطريفة ووسمها بسمة فكهة. وبذلك هدف بيرم –حسب رأينا- إلى الاستخفاف بالناقمين عليه وامتصاص لوعة المتعاطفين معه.
ولئن أفضت صورة المتقبّل إلى طبع الخطاب بذلك الطابع لإخفاء آلام الفراق ولوعة النفي، فإنّ ذلك الملمح يدلّ أيضـا على أنّ بيرم التونسي كان يشعـر -وهو في بداية مرحلة النفي- بنوع من الغبطة، إذ أنّه تمكّن –رغم كلّ شيء- من السفر إلى أروبا والإقامة بذلك العالم الذي خلب ألباب الشرقيّين وحدا قوافل الرحلات المتعاقبة إلى ديار الغرب. وتشهد الحلقة الثانية من تلك النصوص بذلك ،نظرا إلى إطنابها في التعبير عن البهجة التي غمرت المؤلّف عندما شاهد معالم مرسيليا.وتبدو لنا المجموعة الثانية من “مذكّرات المنفى” نازعة منزعا آخر دلّ على ميل بيرم إلى انتقاء فترات متباعدة تشترك في الدلالة على الشقاء والفقر والغربة التي طوّقت حياته في المنفى.
فاختلاف خطاب هذه السلسلة من المذكّرات عن خطاب السلسلة الأولى التي اتّسمت ببعض خصائص اليوميّـات واضح المعالم. ولا يمكن –في تقديرنا- الوقوف على أسباب ذلك الاختلاف وتبيّن الرسالة التي يسوقها خطاب هذه السلسلة الثانية ما لم نهتد إلى عوامل نشأتها ولم نحّدد صورة المتلقّي التي تَمثّلها المؤلّف زمن التدوين.
فقد أبرز بيرم ألوان القساوة والشقاء والعذاب التي خيّمت على حياته زمن التجربة، وتفنّن في حبك الأحداث وسبر أغوار النفس سبرا هدى إلى وجه الذات التي قصّت ما جرى لها في زمن سابق ووصفت الفضاء المحيط بها وحلّلت نفسيّتها. وإثر ذلك ختم حديثه بتعليق ساخر بدّد نغمة الأسى التي طبعت الخطاب (ص ص 83-84). وما إقدام بيرم على نشر تلك الفصول التي دوّنها بفرنسا إلاّ شاهد على انعتاقه لحظة النشر من ذلك الخجل الآسر الذي دفعه زمن التجربة إلى ستر فقره وجوعه وحرمانه. بل إنّ ميله إلى قصر مذكّراته على تعرية تلك الجوانب بالذّات، وإيغاله في إظهار بشاعتها يمثّلان أمارة على خضوع خطاب تلك المذكّرات لسلطة عوامل نشأة مخصوصة.
وقد تولّد إقدام بيرم على نشر تلك الصفحات بجريدة “الشباب” خلال مرحلة معيّنة من مراحل حياته بتونس عن تمثّل صورة متقبّل تونسي حجب وجه المتقبّل المصري الذي تمثّله زمن التدوين. وبذلك تمسي علامات الدعابة والفكاهة ومظاهر ابتهاج الذات زمن التجربة شاهدة على أنّ صاحب تلك النصوص يحرص على إقناع القارئ بأنّه واجه محنة المنفى بصبر منقطع النّظير.
ولا شكّ عندنا في أنّ صورة المتقبّل المصري قد ساهمت في تكييف خطاب المجموعة الثانية من “مذكّرات المنفى” المدوّنة بفرنسا. ولئن كنّا لا نعرف عدد حلقاتها، فإنّ انفتاحها على معاناة بيرم خلال العودة الأولى إلى مصر وإطنابها في تصوير عذاب الإقامة بالمنفى وإشارتها إلى مماطلة صاحب الجريدة المصريّة التي كان يحرّر صفحاتها تشي بخيبة أمله عند رجوعه إلى مصر وتبطن نقمته على المتسبّبين في نفيه والمستغلين لقلمه في مصر آنذاك. وما السخرية السوداء التي هدفت إلى تحدّي الشامتين وامتصاص لوعة المتعاطفين إلاّ قناع شفّاف لا يخفي الآلام العاصفة بكيانه زمن التجربة وزمن التدوين في الآن نفسه.
ونحن نقدّر أنّ بيرم التونسي استحضر صورة متقبّل آخر بتونس، ولذلك المتقبّل دخل أساسي في انتقاء الصفحات المنشورة وفي إعادة صياغتها أو في تدوين بعضها بتونس.فجميع نصوص المجموعة الثانية تفتّحت على العاميّة التونسيّة، رغم أنّ عددا من تلك المذكّرات لمّح إلى زمن تدوينهـا الأوّل بفرنسا. ولا جدال في أنّ إظهار ذلك الوجه القاتم قد نجم عن توتّر علاقة بيرم –آنذاك- بعدد من التونسيّين وأثّر في رسم خطّة الخطاب ونحت ملامح المتقبّل الذي استحضره.
إنّ الوجه المطلّ علينا من خلال خطاب “مذكّرات المنفى” وجه عامل أقام على هامش المجتمع الفرنسي صحبة المعذبين في تلك الأرض واكتوى مثلهم بنار الغربة وذاق معهم ألوان الخصاصة.ومن أقوى الشواهد على ذلك قوله : ” كثير من إخواننا الجزائريّين يتهافتون على هذه الشغلة لأنّهم يتقاضون 75 سنتيما في الساعة زيادة عن بقيّة العمّال مع ليترين من الحليب لوقاية الرئتين من هذا الغبار القاتل. وينقص نصف عمرهم بلا جدال .
ستّة شهور قضيتها في هذا المسبك وما زلت أحمل شهادته.”(ص 112).
ولا شكّ في أنّه أوغل في انتقاء تلك المشاهد القاتمة ليخيّب آمال قارئ بدا له متربّصا به. ذلك أنّ اختيار تلك الزوايا المظلمة يمثّل ضربا من تحدّي القارئ زمن النشر وإقناعه بأنّ الأشواك المزروعة في طريق الكاتب آنذاك لا يمكن أن تحرّك له ساكنـا. ولا يخفى ما وراء هذا التحدّي من نزعة فخريّة تعضد الذات في محنتها وتغذّي طاقات الصبر فيها وتقدح بريق أمل في أفقها. ولذلك بدا الكاتب غير مكترث –ضمنيّا- بالعقبات التي واجهته زمن نشر المذكّرات.
3- حلقة “مذكّراتي”
إنّ حلقات مذكّرات مرسيليا و مذكّرات المنفى المتولّدة عن فترتي الشباب والكهولة قد كمّلت المذكّرات الأخيرة التي دوّنها بيرم في طور الشيخوخة ونزع فيها منزع السيرة الذاتيّة بإقامتها على بعض الأركان العامّة لذلك الجنس الأدبي.
ولا جدال في أنّه ألّف مذكّراته الأخيرة في فترة أزمة لا تقلّ قساوة عن الفترات التي شهدت ميلاد المذكّرات السابقة. ذلك أنّ بعض معاصريه في مصر خاضوا في سيرة حياته وأفرطوا في انتقاد مواقفه السياسيّة انتقادا لاذعا حمله على اتّخاذ المذكّرات وسيلة للحجاج والدّفاع عن النفس. وقد أفضت تلك العوامل إلى صبغ المذكّرات بصبغة جديّة قاتمة وطبعها بطابع تحليلي تقريري قلّص من درجة أدبيّتها. وقد اتّسمت تلك المذكّرات ببعض سمات السيرة الذاتيّة لاتّباعها مسيرة حياة بيرم العامّة من طور الطفولة إلى زمن التدوين وحرصها على تحليل العوامل المؤثّرة في حياته والمساهمة في تكوين شخصيّته ونحت كيانه.
مقاصد نشر المذكّرات
1 –تقديم شهادة:
-مذكّرات مرسيليا و مذكّرات المنفى
إنّ حلقات المذكّرات الموسومة بمرسيليا تقدّم ضمنيّـا شهادة عمّا اطّلع عليه بيرم في المنفى،إذ أنّها احتفلت بمعالم مرسيليا وأحيائها وشواطئهـا ونواديهـا ومنتزهاتهـا احتفالا دالاّ على اختلاطه بمختلف طبقات المجتمع الفرنسيّ وتمتّعه بمنتزهـات فرنسا وبمراتع اللّذة فيها. كما أبانت تلك المذكّرات عن أوضاع الشرقيّين بمرسيليـا وصوّرت أسباب غربتهم وعوامل تخلّفهم عن الأروبيّين تصويرا أظهر تميّز حياة بيرم منهم وتمكّنه من الإقامة بتلك الديار على نسق مخالف للنّسق الذي أقام عليه الأجانب هناك.
ولكنّ الاطّلاع على مذكّرات المنفى المتعلّقة بالمرحلة التي تعلّقت بها مذكّرات “مرسيليا” يحمل على الشكّ في القيمة الوثائقيّة لتلك الشهادة التي قدّمتها مذكّراته الأولى. فالصورة التي أبداها بيرم عن نمط إقامته بمرسيليا صورة مختلفة كلّ الاختلاف عن الصورة التي كشفت عنها مذكّرات المنفى. ومرجع ذلك خضوع خطاب مذكّراته لعوامل نشأة تحكّمت في ذاته خلال مراحل مختلفة من مراحل حياته ولوّنت خطابه تأثّرا بصورة المتلقّي التي استحضرها آنذاك. ولئن قلّل ذلك من أهميّة الجانب التوثيقي في مذكّرات “مرسيليا”، فإنّه قوّى صلاته بذات الكاتب في لحظة من لحظات حياته بالتلميح إلى المقاصد الظاهرة والخفيّة التي رام تحقيقها بنشر تلك المذكّرات. أمّا مذكّرات المنفى فقد صوّرت الأوضاع الاجتماعيّة والاقتصاديّة التي كانت عليها فرنسا في فترة ما بين الحربين وأبرزت آثار الأزمة الاقتصاديّة العالميّة فيها ووقفت على انتشار البطالة وعلى اضطرار الأجانب إلى القيام بأعمال شاقّة للحصول على أوراق شغل ومقاومة الجوع. كما أنّنـا نجده يقتصر على تصوير ألوان الشقاء والغربة والخصاصة التي حدّقت بحياته ودفعته إلى الانضمام إلى صفوف العمّال اليوميّين ليتمكّن من سدّ رمقه. بل إنّه أقدم على إظهار ما كان يخجله أيّام التجربة وصمت عن ذكر نشاطه الأدبيّ آنذاك، إذ اكتفى بإشارة وحيدة إلى أنّه كان يحرّر صفحات جريدة تصدر بالقاهرة خلال سنة 1921.
ولمّا كانت مقاصد كتّاب المذكّرات متعلّقة بتقديم شهادة على مرحلة حاسمة من مراحل حيواتهم، فإنّ صور الشقاء والحاجة التي خيّمت على مذكّرات المنفى تنطق بأنّ اضطراره إلى القيام بأعمال يدويّة مرهقة واختلاطه بالمعذّبين في الأرض وتألّمه من الخصاصة قد ضغطت على ذاكرته وجعلته يدوّن تلك الجوانب بالذّات. إلاّ أنّ تلك الملامح لا يمكن أن تمثّل وثيقة دقيقة عن نمط حياة بيرم في المنفى،إذ أنّها أخفت المظهر الذي تعلّقت به مذكّرات مرسيليـا، وخاصّة لأنّ عوامل نشأتها ومقاصد مؤلّفها قد لوّنتها بلون ذاتيّ بارز، تأثّـرا بحالته النفسيّة وبصور المتلقى التي استحضرها زمن التدوين وزمن النشر.
-مذكّراتي
لئن تعلّق محتوى المذكّرات الموسومة بـ “مرسيليـا” و”في باريس” و”مذكّرات المنفى” بالفترة التي قضاها بيرم في المنفى الفرنسيّ، فإنّ حلقة مذكّراته الموسومة بـ “مذكّراتي” تعلّقت بمختلف مراحل حياته وخضعت لنظام زمنيّ تعاقبيّ. إلاّ أنّ اهتمام بيرم بتدوين تلك المذكّرات في طور الشيخوخة والمرض وإعلانه عن ميله إلى الاختصار قد جعل شهادة تلك المذكّرات شهادة منطوية على عدّة ثغرات، ومناقضة –أحيانا- للشهادة التي قدّمتها مذكّراته السابقة.
ولا ريب في أنّ أبرز جوانب تلك الشهادة تمثّل في تصوير فساد الملك فؤاد وفضح خدمته لمصالح المستعمر الانجليزي وميل جلّ الوجهاء إلى التزلّف إليه بعد فشل ثورة عرابي باشا. وقد قصد بيرم بذلك تبرير تحامله على المستعمرين وعلى رجال السلطة المتحالفين معهم وإدانة أولئك الذين ضاقوا بمواقفه، متناسين صفحات نضاله، وإثبات أنّه وقف على معاناة الشعب منذ فجر حياته ثمّ اتّخذ قلمه وسيلة نضال فكابد من جرّاء ذلك آلام النفي والخصاصة طوال عقدين من حياته.
فقد دلّت المذكّرات على أنّه فقد والده في طور الصبا ثمّ اشتغل بحانوت نجارة هوادج صحبة زوج أمّه. ولمّا توفّيت أمّه تجرّع مرارة اليتم وباع نصيبه من المصنع الذي ورثه عن والده وجرّب التجارة والصيد فباءت مشاريعه بالفشل. ورغم أنّه اتّخذ القلم وسيلة للرزق ونال شهرة واسعة، فإنّ تألّب الملك والمستعمر عليه قد أدّى إلى نفيه من مصر.
ولم تكن إقامة بيرم بتونس أفضل من إقامته بمصر، إذ تنكّرت له عائلة جدّه،واحتاط منه التونسيّون خوفا من عيون المستعمر المتربّصة بهم. ومن أجل ذلك ضاقت حياته بتونس واضطرّ إلى السفر إلى فرنسا حيث عمل بمصنع للفولاذ ليتحصّل على أوراق شغل وأرسل نصوصا إلى الصحافة المصريّة فلم يجن من ذلك شيئا ذا بال.
وعندما تسلّل إلى مصر وشى به الأدباء المنافسون له فأعيد إلى المنفى وطالت إقامته هناك بسبب امتناع سعد زغلول والنحّاس باشا عن نصرته.فقد قال بيرم “ هاهو سعد زغلول يمرّ بباريس في طريقه إلى لندن لإجراء مفاوضات مع الإنجليز(…) فقابلته وشرحت له جهادي في سبيل مبادئ الوفد فذكر لي بألفاظ مقتضبة أنّه يعلم قصّتي ويعلم قصائدي الرنّانة في مدحه، ثمّ سكت بعد ذلك فرجوته أن يساعدني في العودة إلى مصر فأخذ يرفعني و يخفضني ببصره ثمّ أشار إلى الباب دون أن يردّ على كلامي بنعم أولا…”(ص ص.125-126).وكان موقف النحّاس باشا أشنع من موقف سعد زغلول، حسب ما أشار إلى ذلك بيرم بقوله : “ثمّ هاهو النحّاس خليفة سعد يمرّ بباريس في طريقه إلى لندن لتوقيع معاهدة 1936 (…) فاتصلت به وأفهمته قصّتي فوعدني خيرا وطلب منّي الحضور إلى السفارة المصرية في ميعاد محدّد للتوصية في حضوري على تسهيل عودتي إلى مصر. ولكن لم أكد أدخل إلى السفارة في الميعاد المحدّد حتّى وجدت البوليس في انتظاري (…) يخبرني أنّ هناك بلاغ من رئيس وزراء مصر برغبتي في اغتياله “( ص 126). ولئن توصّل في النهاية إلى العودة إلى مصر حيث ألّف نصوصا شهيرة لأبرز المغنّين و لعدّة أفلام مصريّة، فإنّ ذلك لم يدرّ عليه مالا كافيا، نظرا إلى هضم حقوق المؤلّفين في العالم العربيّ خلال تلك الفترة.
وهكذا اضطلع دافع الشهادة بدور أساسيّ في دفع بيرم إلى نشر هذه الحلقة من مذكّراته. ذلك أنّ نشأته بالإسكندرية وإقامته مدّة عشرين عاما بالمنفى وتنوّع علاقاته برجال السياسة قبل ثورة 1952 حجبت عن الجمهور المصريّ والجمهور العربيّ بصفة عامّة حياة ذلك الرجل الذي ذاع صيته في الأربعينات والخمسينات، وغيّبت جوهر مواقفه السياسيّة.
إلاّ أنّ الناظر في تلك المذكّرات يلاحظ أنّ تأخّر زمن التدوين عن زمن التجربة قد جعل بيرم ينسى أحداثا هامّة في حياته. من ذلك قوله إنّ المستعمر رحّله إلى تونس والحال أنّ مذكّرات المنفى المنشورة في الثلاثينات نصّت على أنّه أقام بمرسيليا في بداية تلك المرحلة. وقد ذكر أنّه انتقل إلى تونس حيث أنشأ جريدة أسبوعيّة اسمها الزمان فتسبّبت مقالاته في ترحيله من تونس والحال أنّ مقالاته بالشباب والسردوك هي التي تسبّبت في ذلك.فقد أسّس جريدة الشباب بعد أن تولّى رئاسة تحرير الزمان ثمّ انتقل إلى الكتابة بجريدة السردوك.
ومن هنا يتّضح لنا أنّ جميع حلقات مذكّرات بيرم كانت شاهدة على حياته وكاشفة عن العوامل التي نحتت شخصيّته وحدّدت مواقفه. إلاّ أنّ اختلاف السياقات التي نشأت فيها تلك الحلقات جعلته يهدف في كلّ حلقة منها إلى تحقيق مقاصد معيّنة. ولذلك اختلفت محتويات تلك المذكّرات وأساليبها الفنيّة واتّسمت بسمات ذاتيّة قلّصت بعدها الوثائقيّ.
2- التبرير
إنّ شهرة كتّاب المذكّرات وانخراطهم في الحياة الأدبيّة والسياسيّة و الفكريّة و اهتمام الناس بأقوالهم وأفعاهم ومواقفهم كثيرا ما أشاعت عنهم أخبارا لا يرضون عنها، وجرّتّهم إلى خوض معارك أدبيّة وفكريّة صاخبة.ومن أجل ذلك نجدهم يعمدون في مذكّراتهم إلى تصوير ما كانوا عليه شاهدين ويبذلون كلّ ما في وسعهم لتبرير مواقفهم وسلوكهم وإبراز العوامل الحقيقيّة التي تحكّمت فيهم أو العوامل التي يزعمون أنّها تحكّمت فيهم.
ونحن نذهب إلى أنّ دافع التبرير ساهم في توليد الحلقة الأخيرة من مذكّرات بيرم التونسي أكثر من مساهمته في توليد الحلقتين الأوليين. فقد رأينـا أنّه توجّه بخطابه في مذكّراته الموسومة ب”مرسيليا ” إلى القرّاء التونسيّين ليبرّر جدارته بالمنزلة التي احتلّها في جريدة الزمان ويحملهم على الاعتراف بقيمته. ولعلّه أظهر الفرق بين الشرقيّين والغربيّين في تلك المذكّرات ليبرّر إقدامه على نقد عادات المصريّين وطبائعهم في أزجاله وآثاره السرديّة ويحثّهم على الاقتداء بالشعوب المتقدّمة. وقد أشارت مذكّرات
المنفى إلى إقصاء بيرم عن مصر وإلى إفراط أصحاب الصحف المصريّة في ابتزازه لتبرز معاناته واضطراره إلى القيام بأعمال شاقّة وتبرّر نقمته على خصومه وتعرب عن استخفافه بالعقبات التي واجهته في تونـس.
أمّا الحلقة الأخيرة من تلك المذكّرات ، فإنّها خضعت للمقصد التبريري خضوعا مطلقا ، نظرا إلى إقدام بيرم على فضح الزجّالين المصريّين الذين تحكّمت فيهم الغيرة تحكّما دفعهم إلى اتّخاذ القصيدة التي مدح بها فاروق والقصائد التي هجا بها النحّاس باشا مطيّة للحطّ من منزلته وتشويه صورته.
ومن أجل ذلك عمد إلى التذكير بألوان الشقاء التي كابدها بسبب وقوفه في وجه الطغاة ومساندة الثورة المصريّة وأبرز أنّه رفض ما وعدوه به من مناصب وأموال لأنّه يأبى أن يرضى “بأيّ شيء من متاع الدنيا على حساب ضياع استقلال البلاد واستغلال الناس” ( مذكّراتي ص121). وقد صرّح -فضلا عن ذلك- بأنّه أقدم على هجاء النحّاس باشا ثأرا لنفسه، نظرا إلى أنّه اتّهمه في فرنسا تهمة تسبّبت في حرمانه من عمل مريح وأعادته إلى صفّ البطالة وأشار إلى أنّه مدح فاروق قبل أن يطغى في الحكم عندما لم يجد حلاّ آخر يمكّنه من الإقامة بمصر بعد غربة دامت عشرين عاما.و قد أثبت أنّه أعرض عن السياسة إلى أن قامت ثورة الضبّاط الأحرار وتولّى جمال عبد الناصر رئاسة مصر. ومن الشواهد على ذلك إشارته إلى أنّه بدأ حياته مكافحا وعكف في آخر حياته على تأليف ملحمة “الظاهر بيبرس” التي تمثّل في نظره مظهرا من مظاهر الكفاح.وبذلك أشهدنا على أنّ حياته سلسلة من حلقات الكفاح يشدّ بعضها بعضا.
*******************************
وهكذا يتجلّى لنا أنّ بيرم التونسيّ توسّل بفنّ المذكّرات في فترات حاسمة ليحقّق مقاصد جوهريّة ترجمت عن مكوّنات ثقافته وثراء تجاربه الحياتيّة و لوّنت أسلوبه تلوينا وأبانت عن أبرز مكوّنات شخصيّته .وبذلك تعاضدت حلقات تلك المذكّرات على تشكيل أهمّ العتبات المنفتحة على آثاره الإبداعيّة وبانت كثافة أدبيّتها.
——————————-
*انظر بيرم التونسي،مذكّراتي (المجموعة الكاملة ) جمع و تحقيق وتقديم فوزي الزمرلي،تونس ،دار الجنوب للنشر ،2001.
المصدر: ملتقى شذرات

__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية

الكلمات الدلالية (Tags)
مذكّرات, التونسي, بجرم, قراءة


يتصفح الموضوع حالياً : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
أدوات الموضوع

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


المواضيع المتشابهه للموضوع قراءة في مذكّرات بيرم التونسي
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
الإفتاء تحرم كارتونا مسيئا للخالق ومفسدا للخلق عبدالناصر محمود شذرات إسلامية 0 03-25-2014 08:04 AM
مسابقة حفظ وتلاوة القرآن الكريم في بيرم كراي عبدالناصر محمود المسلمون حول العالم 0 02-11-2014 09:09 AM
فتوى يهودية تحرم المدخن من الشهادة أمام المحاكم عبدالناصر محمود أخبار الكيان الصهيوني 0 10-05-2013 07:14 AM
الحروب تحرم ملايين الأطفال من التعليم ام زهرة أخبار عربية وعالمية 0 07-13-2013 10:05 PM
البابا الذي قتلوه بدق مسمار في رأسه لأنه تجرأ واستقال Eng.Jordan أخبار منوعة 0 02-12-2013 11:31 AM

   
|
 
 

  sitemap 

 


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 08:28 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.12 by vBS
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والمشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59