#1  
قديم 03-09-2013, 05:55 PM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,392
افتراضي الإسلام بعيون غربية .. الخوف والتزييف


الأستاذ الدكتور يحيى الشيخ صالح
أستاذ التعليم العالي جامعة منتوري
قسنطينة (الجزائر)
1- تحديد الإشكالية :
الثقة والخوف مصطلحان يحملان دلالتين متناقضتين ، وفي حقل كل من الدلالتين تتولد تداعيات.. ففي حين تستدعي الثقة الطمأنينةَ والتوقع الإيجابي.. لا يستدعي الخوف إلا الحذر والتوجس وما يتبعهما على مستوى السلوك وردود الأفعال..من استعداد للمجابهة وتأهب للانتقام ، كما أنهما متنافيان حضورا وتأثيرا، فحيث يكون أحدهما يغيب الآخر بالضرورة ،وتغيب معه كل تداعياته، لتفسح المجال – بالمقابل- لكل تداعيات الحاضر الفاعل ..
إن المتأمل في العلاقات الدولية القائمة بين الغرب والعالم الإسلامي (والعالم العربي كجزء منه) ليهوله مدى سيطرة الخوف عليها، بماله من تداعيات موغلة في السلب ، يزيد الأمر ترديا كون ذلك الخوف علاقة متبادلة ، فالغرب يخاف الإسلام ويتوجس منه خيفة..والعالم الإسلامي بدوره يخاف الغرب ويحذره، ويتعمق حذره بتوقع شرور ما فتئت تتحقق على ارض الواقع ، والنتيجة تحول جزء كبير من العالم إلى ساحة قتال وحرب ، بدلا من اتخاذها ساحة سلام وتعايش بين من لا وطن لهم غير هذه القرية الصغيرة على ظهر هذا الكوكب الصغير .
أسباب تجذّر علاقة الخوف المتبادل كثيرة ، وأي واحد منها قد يتحول إلى نتيجة لسبب آخر، في سلسلة لا متناهية من الأسباب والنتائج، والأفعال وردود الأفعال ، نظرا لتوغل القضية في أعماق التاريخ،وخضوعها لمسارات من الأجيال والقرون والحضارات..
فمنذ قرون طويلة من الزمن وعلاقة الشرق بالغرب بعامة عرضة للمد والجزر، تصفو أحيانا لتتوثق علاقات الصداقة والتعاون في ظل معاهدات واتفاقات تجسد ذلك الصفاء ، وتتوتر أحيانا لتصل حد حمل السلاح وإعلان الحرب ، لأسباب "معلنة وغير معلنة" تتغير على الدوام من صراع على النفوذ ، وثأر للماضي البعيد ، واستعمار تعقبه مقاومة ... لتصل في مطلع الألفية الثالثة إلى منعرج خطير أدت إليه أحداث الحادي عشر من سبتمبر سنة 2001 .
ففي ذات اليوم يستيقظ العالم على صورة غير معهودة في الصراع بين الشرق والغرب ،صورة الغرب / الضحية في موقف دفاع لا هجوم ... ولحظتها تنبأ العارفون في الشرق والغرب بأنه إذا كان الغرب (أمريكا) ضحية هجوم معلن محدد في الزمان والمكان والنتائج ، بمحصلة مأساوية ثقيلة من الأبرياء، تنتزع التعاطف وشجب ما حدث ... فإن الشرق (العالم الإسلامي) هو الآخر ضحية الهجوم نفسه ، لكن بشكل أكثر تأثيرا ، وأطول زمنا وأوسع رقعة وأكثر توغلا في مناحي الحياة العامة ، بكل جوانبها، بما فيها الجوانب الروحية والدينية التي ستكون الهدف الأساس في تشكيل رؤية غربية إلى الإسلام ، قوامها الخوف والتزييف .
وقوفنا من خلال هذه المقاربة عند الرؤية الغربية للإسلام تحديدا ، وتحليلها واستنباط مواطن الخلل فيها سعيا لمستقبل أحسن لعلاقات الغرب بالعالم الإسلامي .. لا يعني أبدا سلامة المجال الذي تصوره (واقع العالم الإسلامي) من الخلل ، فما أكثر اختلالات ذلك العالم ، وما أشد حاجته إلى التغيير والإصلاح ، لكن الشطط الذي تتضمنه تلك الرؤية الغربية يتمثل في إقحام المقدس بمفهومه المجرد في الصراع، والحديث عن الإسلام وضرورة إصلاحه بدلا من الحديث عن فهم ما للإسلام أو قراءات له.. و تحميله مسؤولية السياسي والاجتماعي والاقتصادي والاستراتيجي..
وبالفعل ، ومنذ الحدث شرعت في الظهور سلسلة لا متناهية من الدراسات في اتجاه تحميل الإسلام مسؤولية ما حدث ، تصفه بالإرهاب والعنف والتلذذ بسفك الدماء ... وتنادي بـ"تطهيره" وإنقاذه من التطرف، وإدخاله – ولو بالقوة - إلى حظيرة الحضارة والمدنية !!
وإذا كانت نتائج الحدث على العالم الإسلامي كثيرة ومتنوعة ، وتطال مجالات شتى من الحياة الإنسانية فيه... فإن ما سنتناوله في مقاربتنا الموضوع هذه ، سيمس جانبا محددا دون غيره ،هو تلك النظرة الغربية إلى الإسلام ، في تشوهها ، وابتعادها عن الحقيقة ، ودورانها في فلك الاتهامات والإسقاطات ، بعيدا عن الروح العلمية وآليات مناهج التحليل والدراسة ، وإجراءاتها العملية الكفيلة بالتوصل إلى آراء صائبة ، ونتائج تتمتع بالصدق والصحة إلى أقصى حد ممكن .
وقد يتساءل البعض عن مدى أهمية تخصيص بحث للوقوف على اتهامات غربية للإسلام ، انطلاقا من أنها مجرد آراء ومواقف فكرية لا تعبر إلا عن أصحابها،وليست رسمية في كل حال، إضافة إلى أن تلك النظرة قديمة ومعروفة ، والعلا قات الغربية/الإسلامية مستمرة ...
تساؤل لا يعدم بواعث له ودوافع ، فالاهتمام في هذه المرحلة من مطلع القرن الواحد والعشرين بالعلاقات الإسلامية/الغربية المتردية، لا ينبغي أن يفهم منه أن تلك العلاقات كانت على أحسن ما يرام، وأن التفاهم والاحترام كانا متبادلين إلى حد بعيد..فـ"نظرة الغرب نحو الإسلام والمسلمين تشكلت عبر مراحل زمنية طويلة، تعددت خلالها رؤى رجال الدين والسياسة والمستشرقين، واتفقت في النهاية على جملة من التصورات التي تمخض عنها الوعي الذي منح من خلاله الغرب نفسه مواقع "الحقيقة" و"المركز" و"العقل" و"المدنية" مقابل إبقاء الآخر في مواقع "الضلال" و"الهامش" و"التخلف" ( ). وعلى العموم لم تكن صورة الإسلام عند الغربيين مشرقة ولا الإنصاف حليفها، على مدى القرون الغابرة ،(باستثناء بعض مواقف بعض المستشرقين الموضوعيين ،وعدد من المفكرين المعاصرين) لكن لا ينبغي تجاهل فارق شاسع بين ما حدث في الماضي وبين ما يحدث اليوم، فإذا كانت أخطاء الماضي ومواقفه بعامة مبررة إلى حد ما، أو بعيد.. لبساطة وسائل المعرفة ، وجهل كل طرف بالآخر .. فإن الأمر على غير ذلك اليوم ، نظرا للتقدم العلمي والتكنولوجي والمعرفي وبخاصة في وسائل الإعلام التي حولت العالم إلى قرية صغيرة، وجعلت الفرد يتابع من زاوية في بيته مجريات الأحداث في العالم ، ويتعرف على الشعوب والثقافات والأديان بشكل عميق ، الشيء الذي يقطع أي عذر لأي كان في أن يجهل الآخر، أيا كان هذا الآخر، وأينما كان موقعه من العالم .
وبصرف النظر عن الفروق التاريخية ، فالواقع يؤشر إلى أنه بالرغم من قدم عداوة الغرب للإسلام ، التي تتخذ في كل فترة تاريخية تجليات ما ، تجد متكئا لها في الظروف المتجددة وملابساتها... فإنها - في هذه المرة- اكتست طابعا خاصا أكثر توغلا في التوتر،وفي التأثير على مجريات الواقع المعيش للشعوب الإسلامية ، ويتجلى ذلك في ما يأتي :
2- خصوصيات رؤية الغرب للإسلام :
قد لا تؤشر لفظة "خصوصيات" في أصلها إلى أية أحكام قيمية ، بالسلب أوالإيجاب على حد سواء.. وأساس توظيفنا إياها هنا نابع من تلك الخصوصية ، لكن عند الرؤية إلى "رؤية" الغرب للإسلام ، وتأمل تلك الصورة المرسومة، تتجلى الصدمة قوية في أن نجد كل خصوصياتها ذات دلالات سلبية ، نحددها في العناصر الآتية :
- حيوية الميدان الديني وأهميته في حياة الإنسانية جمعاء ، حتى بالنسبة للشعوب التي لا يبدو أن لمرجعياتها الحياتية صلة ما بالدين ، فلو أن التوتر شمل كل الجوانب الحياتية من سياسة واقتصاد ونفوذ واستراتيجية ... دون الجانب الديني لهان الأمر ، ولأمكن التنبؤ بانفراج وشيك له بشيء من الإرادة المشتركة وتغليب منطق العقل ، لكن إقحام الدين في الصراع ، وتحميله مسؤولية الأحداث وإخضاعه للابتزاز ومشاريع الإصلاح الغربية ، مما يشكل أهم ملامح صورة العالم الإسلامي في عيون الغرب.. أمر أقل ما ينتج عنه تمديد أزمة الثقة ، وإطالة عمر الصراع وتعميقه .
تفسير ذلك أن الدين بصورة عامة ، وعند المسلمين بخاصة، أهم ما يشكل الشعور الجمعي ، ويتغلغل في وجدان الفرد ، وعلى أساسه يتشكل معنى الحياة..ولعل عالم اللاهوت الألماني هانز كونج كان يدرك هذه الحقيقة عندما أطلق مقولته الشهيرة :
"لن يكون هناك سلام بين الأمم ما لم يكن هناك سلام بين الأديان ،ولن يكون هناك سلام بين الأديان ما لم يكن هناك حوار بين الأديان ( ). وبديهي أن الحوار لا يتنفس في أجواء التجريم، وسيطرة الروح الأبوية ، والوصاية والتعالي ..وما إليها مما يطبع صورة الإسلام في عيون الغرب.
- عدم اقتصار تلك النظرة على السياسيين والصحفيين ... ومن يشتغلون في مجالات الإعلام ، ممن يمكن أن ينظر إلى رأيه من زاوية العمل اليومي الاستهلاكي ... وتجاوزها إياهم إلى شرائح أخرى من مفكرين وأكاديميين ومثقفين .. ممن يسهمون بدور رئيس في تشكيل الرأي العام ، وبلورة قناعات الشعوب في الغرب ، مما يجعل من تناولها - وغيرها من القضايا المصيرية - بالأسلوب العلمي الرزين البعيد عن التشنج والانفعالات الآنية ... أحسن مقاربة لها ،وأقوى سبب لتأسيس علاقات الثقة والتعاون الإنسانية المنشودة بين مختلف شعوب المعمورة .
- اتساع الرقعة الجغرافية المسهمة في رسم تلك الصورة ، فبالرغم من أن الأحداث التي كانت عوامل مباشرة للصورة تمت في مكان محدد ، إلا أن التداعيات شملت جل العواصم الغربية ، وبدا الاتجاه واضحا نحو تعميم الخوف ، وتوسيع الهجوم المضاد في الجانب الفكري الذي يشكل مجال الصورة /موضوع البحث .
- اتساع الرقعة الجغرافية مجال الصورة : لو توفر العنصر السابق وحده ، أي اتساع رقعة العنصر الرائي الفاعل ، الراسم للصورة ، لهان الأمر بعض الشيء ، لكن الذي حدث هو اتساع الرقعة الجغرافية التي تنتج الصورة (الغرب) ، بالتوازي مع اتساع الرقعة الجغرافية للصورة المرسومة ، (العالم الإسلامي) ، وهذا الاتساع الأخير ناتج عن بعض خصائص الصورة كما أرادها الغرب ، وهو الحكم على الإسلام بصورة عامة،ودون أي تمييز.. الشيء الذي تولد عنه دخول كل العالم الإسلامي مجال الصورة وتشكيله ملامحها.. وشعور المسلمين في أي مكان من العالم بأنهم مستهدفون بتلك الصورة ، وموجودون داخلها، ما دام عنوانها هو "الإسلام" وهو دينهم على أية حال .
- استهداف الإسلام في شكله المجرد باعتباره دينا، يقوم على تعاليم ومبادئ تشكل صورته بشكل نظري وعام من خلال الوحي الإلهي الذي نسب إليه الخلل أصلا ، دون إرجاعه إلى الجانب البشري الذي تحتمل قراءاته للمقدس الخطأ والصواب ، في حين أن المنهجية العلمية تقتضي ضرورة التفريق الدقيق بين الإسلام باعتباره دينا بالمفهوم المجرد ورسالة سماوية مقدسة ، وبين "سلوكيات" أي منتسب إليه ،لأن هذه الأخيرة ، ليست - أولا وأخيرا - إلا مجرد "قراءات" له ، تتفاوت في درجة الاقتراب منه والابتعاد عنه( )، لكنها لا يمكن بأي حال أن تصل حد المطابقة الكلية معه ، وبالتالي ، فلا يمكن لسلوك أي فرد أو أية جماعة أن يكون حجة على الإسلام سلبا أو إيجابا ، بذريعة الانتساب أو تحديد المرجعية أو حتى إعلان الدفاع عنه، والأمر نفسه يصدق على الديانات المقدسة السماوية الأخرى ،بل يصدق إلى حد كبير على مختلف الإيديولوجيات والفلسفات ، فالطرح المنهجي يميز دائما بين الجانب العقدي أوالايديولوجي أو الفكري التنظيري ... وبين تجليات كل ذلك على مستوى السلوك ، وشتى مجالات الحياة .
ولعل هذه السمة الأخيرة للصورة (الحكم على الإسلام لا على المسلمين) هي أقسى ما في الأمر ، لأنه من وجهة نظر العالم الإسلامي تطاول على المقدس ، تبعا للصورة القاتمة المنعكسة في أذهان المسلمين عن صورة الإسلام في العيون الغربية وما يكتنفها من شعور بالامتعاض والإحباط ... ولأنه - - بنظرة استراتيجية - ارتماء في أحضان الصعب أو المستحيل !! ، فما دام الإسلام المجرد هو المتهم ، فما الحل الذي يرتضيه الغرب بناء على نظرته تلك ؟ أهو إصلاح ؟ لكن إصلاح ماذا ؟ أهو إصلاح عقيدة تجاوز عمرها الأربعة عشر قرنا من التاريخ ، وشكلت ثراء معرفيا أضخم من أي تراث معرفي ديني على الإطلاق !! وأسست حضارة لا تزال معالمها قائمة في أجزاء كبيرة من الكون ، بما فيها العالم الغربي ؟!
وإذا سلمنا جدلا بضرورة الإصلاح ، فما هي حظوظه من النجاح في ظل تطبيقاته القسرية التي تتم بناء على إيحاءات الغرب أو إلحاحاته أو تلويحاته بالغضب ؟( )... وإذا سلمنا جدلا – مرة ثانية – بنجاح تمرير ذلك الإصلاح، ألا يكون قبوله وتبنيه مجرد سلوكات وقائية ظاهرية تبطن تململا أو رفضا.. مما يجعله عديم الجدوى لعدم تغلغله في النفوس ؟؟
وإذا كانت الدراسات الحضارية والتاريخية والاجتماعية تثبت أن التغيير الأصعب هو تغيير الفكر والثقافات والإيديولوجيات .. فكيف سيكون الأمر عند ما يتعلق بعقيدة يعتنقها أكثر من مليار شخص ، تغلغلت مفاهيمها ومنطلقاتها في شتى جوانب حياتهم !!
أقل ما يقال عن تلك الصورة (الإسلام في عيون الغرب) إنها تنقصها الاستراتيجية والمنطقية والواقعية.. ممن يرون أن كل ذلك من مميزاتهم وأسلوب تعاملهم مع القضايا والأحداث ، مما يجعلنا نطرح تساؤلا مهما، يتعلق بمدى توغل تلك الصورة في أساليب الحوار والأخذ والرد الهادئين، أو في الصراع و"تسخين العضلات".. وبعبارة أدق: هل تندرج رؤية الغرب للإسلام المتقدمة في إطار حوار حضاري أم في إطار صراع حضاري ؟؟
3-رؤية في إطار حوار الحضارات أم صراع الحضارات:
المصطلحان معروفان ومتداولان بشكل واسع على الساحة الدولية، ولعل من الضروري التفريق بينهما، قبل الولوج في متاهاتهما، ويمكننا - بادئ ذي بدء - تبني مقولة أن "الحوار بحضور حسن النوايا تثبيت المتفق عليه، وتصويب بالعقل والحجة للمختلف عليه ، أما الصراع، وبكل اختصار، فهو إلغاء الآخر، وهنا تصبح جميع أدوات الصراع مسموحة ضمن المستوى الذي يتم فيه الصراع"( ).
تاريخيا، يعود مصطلح "صراع الحضارات" إلى صامويل هانتغتون (s.Huntington) الذي "دخل على خط الحوار لأول مرة في العام 1993 ، بعد سقوط الاتحاد السوفييتي،من خلال مقالته التي نشرها في مجلة [شؤون خارجية]"Foreign Affairs" وطور أفكارها لاحقا في كتابه الشهير الذي حمل اسم المقالة نفسها أي "صدام الحضارات( ) وإعادة بناء النظام الجديد" “ The Clash of Civilization and Remaking New Order”.
قد تطول محاولة الإلمام بتلك النظرية المؤسسة والمبررة للصراع.. لكن يمكن اختصار تعريفها في أن صاحبها حدد "أن هذا الصدام الحتمي سيكون بين شعوب ذات ثقافة بروتستانتية/كاثوليكية، أي أوربية وأمريكية من جهة ، وشعوب ذات ثقافة إسلامية، أو ثقافة كونفوشية (العالم الإسلامي والصين وكوريا الشمالية) من جهة أخرى، غير أنه عاد فركز على كون الصراع حتميا بين الحضارة البروتستانتية/الكاثوليكية من جهة، والإسلام من جهة أخرى، وعدد أسبابا لذلك.."( )
الحديث عن صراع الحضارات يجرنا حتما إلى نظرية أخرى آزرت الأولى وكان توجههما واحدا بالرغم من اختلاف زوايا النظر والحيثيات ، حيث يمكن اعتبارهما أساسا نظريا لنظرة الغرب إلى الإسلام موضوع المقاربة .. إنها نظرية "نهاية التاريخ"التي طرحها فرنسيس فوكوياما سنة 1989في كتابه "نهاية التاريخ وخاتم البشر" (The end of History And The Last Man والتي "ترى "أن الديمقراطية الليبرالية الرأسمالية الأمريكية تشكل نقطة النهاية في التطور الإيديولوجي للإنسانية، والصورة النهائية لنظام الحكم البشري، وبالتالي فهي تمثل نهاية التاريخ"( ) .
ودون أن نتوقف مليا عند النظريتين ومدى ما تنطويان عليه من علمية أو تهافت .. مما له مجالاته ولا يتسع له صدر هذه المقاربة ،نشير إلى خلل منهجي في (صدام الحضارات) ،يتمثل في القفز على دلالات المصطلحات ، وتوظيفها بكثير من تجاوز الدقة العلمية المطلوبة..ولعل أهمها عدم دقة مصطلح الحضارة عند صاحبها ، الشيء الذي أدى إلى خلل في تشكيل النظرية أصلا.
من ذلك ما يذهب إليه الدكتور سليمان العسكري في إشارته إلى خللين في النظرية هما:
- إطلاق عبارة "الحضارة الغربية" على مجموع بلدان الغرب، بـ"تجاهله للدول والمؤسسات السياسية،رغم الدور المحوري الذي تلعبه الدولة ، سواء إمبراطوريات الأسر القديمة أو الدولة الحديثة،في قيام أي حضارة، فالغرب عنده هو كتلة واحدة متجانسة، رغم الاختلافات الشديدة بين أمريكا من جهة ، والدول الغربية من جهة أخرى"( ) ولعل ذلك واضح في مدى التنافر أو على الأقل، التململ الذي يلاحظ في محاولات "العالم الغربي" أحيانا أخذ قرارات مشتركة تجاه قضايا حساسة ، مما يؤشر إلى دول تتبنى مواقف تبعا لمصالحها الاستراتيجية على أساس أنها دول قد تختلف مع دول أخرى ، لا على أساس أنها تمثل حضارة واحدة .
- إطلاقه عبارة "الحضارة الإسلامية" في العصر الراهن دون مراعاة تمثلها في الكيان السياسي الذي يمنحها التجلي والازدهار..فـ"من المعروف أنه لا يمكن لأي حضارة أن تقوم من دون وجود مركز- الدولة – قوي اقتصاديا وعلميا وعسكريا يقوم بدور الحاضن لها، ووفقا لهذه الرؤية كانت الدولة العثمانية آخر مركز قوي – على الأقل عسكريا- للحضارة الإسلامية.. وهكذا فإن الإسلام اليوم يبقى دينا ، وليس حضارة ذات دولة مركزية تقودها في مواجهة الحضارات الأخرى ، والحضارات تقوم وتزدهر ثم تهزم وتأفل ، لكن الدين يبقى جزءا جوهريا من النسيج الروحي المكون للبشر ولا يمكن لأحد انتزاعه "( )، وبهذا يكون الصراع صراع حضارة ضد دين فحسب، أو صراع دولة ما ضد دين ما ، أي صراع كيان مدجج بكل أنواع الأسلحة،ضد دين أعزل من كل أنواع الأسلحة ، إلا من كونه دينا سماويا ووحيا منزلا، وهو بالتحديد ما يتم التركيز عليه كهدف أساس في الصراع لتشويه صورته وإلصاق العنف واللاإنسانية به .
إذن "ليست المسألة مسألة صدام حضاري على وجه التحقيق ، وإنما مسألة عوارض تاريخية ذات مخاطر وجودية وصدام مصالح وغايات، تبعث على الخوف وتتطلب الردع، تكمن مصلحة الغرب في حماية وجوده وضمان مصالحه والحفاظ على هيمنته الكونية قبالة أي مصدر من مصادر الخطر الكامنة أو الصريحة ، وغاياته تحقيق السيطرة الكاملة على جميع "الأغيار"؛ وفي عالم تسوده المنافسة والمنفعة وطلب الظفر تفعل هواجس الخوف وفقدان الثقة والحذر والريبة والخطر دورا حاسما في توجيه الفعل ..وبالطبع تتدخل العوامل الأخرى..بما هي عوامل قوية مساعدة، لتعزز الأزمة أو تسوغها أو ترفع من وتيرتها وتحرض عليها، إن المسألة الغربية/الإسلامية الحالية لا تخرج عن هذا المنظور.."( )
هذا مع الاعتراف بأن تحديد الثنائيات التي منها "إسلام/غرب "حوار الحضارات أو صدامها".. غير دقيق في نظر بعض الدارسين ، بل مستحيل ، إذ يتحقق ذلك "من وجه الاستحالة المتعلقة بقدرة الباحث على تفريد العناصر الفاعلة في مجاري العلاقات ما بين الأفكار والثقافات.. فهو أمر أكثر تعقيدا وتركيبا لدرجة يصعب(كي لا أقول يستحيل) على الباحث أن يفرد العناصر المتأتية عن سلم أو حرب ، عن حوار أو صراع .."( )
وبغض النظر عن وجهات النظر المختلفة حول الصراع وعلاقته بالحضارة ،مما يدخل في إطار توظيف المصطلحات ومناهج الدراسات ، ومن باب إطلاق التسميات على المسميات.. يبقى الواقع المعيش يعرف صراعا لا مجال لإنكاره ، "والمتتبع لسير الأحداث لابد من أن يجزم أننا نعيش وسط معمعة الصراع الحضاري بكل أدواته، لأن الآخر أرادها على الرغم من بعض المساعي للحوار الحضاري"( ).
4- ثلاث زوايا للرؤية، والصورة واحدة :
يمكننا أن نميز داخل إطار الصورة المشار إليها ثلاث اتجاهات تتفق في الملامح والنتائج ، ولكنها تختلف في المنطلقات وزوايا النظر التي قد تكون استراتيجية ، وقد تكون دينية ، وقد تكون حداثية ، وسنحاول رسم الملامح الخاصة بكل منها في الإطار الكلي للصورة ، على النحو الآتي :
أ - صورة الإسلام من وجهة نظر استراتيجية :
من حيث سعة الانتشار وغزارة الكتابات ، تحتل هذه الصورة المرتبة الأولى بالنسبة للأخريين المواليتين ، لأنها موقف الساسة والقادة ومن يدور في فلكهم من المفكرين ، ومن ينطلق باعتبارات عملية تركز على ما للإسلام من ثراء جغرافي وبشري يشكل قوة ، ويمكن أن يشكل تحديا للغرب ، وللريادة التي يسعى جاهدا إليها للسيطرة على العالم .
كما أنها – الصورة- الأسبق زمنيا، حيث أن جذورها المتمثلة في الفضاء الاقتصادي والعسكري ..معروفة قبل أحداث الحادي عشر أيلول 2001 ، وقد أعطتها البعد النظري وملامح التوجس والخوف والحذر نظرية صامويل هانتغتون حول "صدام الحضارات" المشار إليها سابقا ، والتي مفادها أن مشكل الغرب "ليس مع الأصولية الإسلامية، بل مع الإسلام الذي هو حضارة مختلفة تعتقد شعوبه بتفوق ثقافتهم ويملكهم هاجس انحطاط قوتهم " ، ومادام الإسلام هو المشكل فإنه يتحول إلى مصدر للقلق والخوف عندما يكتسب قوة استراتيجية ما ... مما يجعل توتر الغرب ينبع أساسا من القوى الإسلامية الآسيوية المتنامية باستمرار،عسكريا واقتصاديا( إندونيسيا والباكستان مثلا) ،ومن الدول العربية النفطية المتحكمة في شريان الاقتصاد العالمي.. مما سيمكنهما من لعب أدوار هامة على حساب الهيمنة الغربية( ).
هذه الآراء المنذرة للغرب بالتصادم مع الإسلام (والتي أفرزها الغرب نفسه من خلال بعض مثقفيه) وجدت ما رأت أنه يمثل مصداقيتها في أحداث الحادي عشر أيلول ،لذلك راح الكثير يعمقها ويشرح الأحداث على أساسها.
فهذا الصحفي الأمريكي توماس فريدمان يرى أن"اعتداءات 11سبتمبر تمثل حربا عالمية ثالثة "لا تواجه فيها دولة عظمى أخرى ، بل هي حرب تضع الدولة العظمى الوحيدة في العالم في مواجهة رجال غاضبين ونساء غاضبات لا يشاركوننا قيمنا، ويقاومون النفوذ الأمريكي على حياتهم ، ويلومون أمريكا على فشل مجتمعاتهم في تبني التحديث ، ناهيك عن تأييدنا لإسرائيل ، وهؤلاء يمتلكون قوة عظمى أيضا، تتمثل عبقريتهم في استخدام شبكة الإنترنت والتكنولوجيا المتقدمة للغاية - رغم انهم يكرهونها - في الهجوم علينا ، ولقد حولوا أكثر طائراتنا المدنية تقدما إلى صواريخ كروز ذات توجيه بشري ودقة بالغة في التصويب ، مزج شيطاني بين تعصبهم وتقنيتنا ، جهاد أون لاين "( ) .
الموقف نفسه يتبناه المفكر والسياسي الأمريكي الاستراتيجي صاحب العلاقات مع العالم الإسلامي هنري كسنجر الذي كتب بعد خمسة أيام من أحداث سبتمبر يقول :
"الهجمات على نيويورك وواشنطن تمثل تحديا كبيرا للمجتمع المدني الأمريكي والأمن الأمريكي ، يتجاوز الهجوم الغادر على بيرل هاربور ، ذلك أن الهدف لم يكن القدرة العسكرية للولايات المتحدة ، وإنما معنويات وطريقة حياة المدنيين ... وقبل كل شئ تقدم الكارثة قناعة بأن بعض افتراضات العالم المعولم التي تؤكد قيم التوافق والانسجام والمزايا النسبية لا تنطبق على ذلك الجزء من العالم الذي يلجأ إلى الإرهاب...ويبدو أن ذلك الجزء مدفوع بالكراهية العميقة للقيم الغربية بحيث أن ممثليه مستعدون لمواجهة الموت وإنزال المعاناة الهائلة بالأبرياء ، والتهديد بتدمير مجتمعنا لمصلحة ما يعبر عنه بصدام الحضارات "( )
موقف كسنجر لا يحتاج إلى جهد لبلورة مفهومه ومنطلقاته، فقد صنف العالم الإسلامي بصورة عامة في خانة العداء متحدثا عن ممثليه الذين يقصد بهم منفذي الهجمات المعروفة ، مما يجعلنا أمام صورة عن الإسلام وليس عن تيار معين ، أو تنظيم محدد ، ولا حتى عن توجه فكري أو سياسي أو ديني ما.
وغير بعيد عن ذلك ، يتموقع توجه ما فتئ ينمو ويستقطب شخصيات فكرية وسياسية غربية وبخاصة في الولايات المتحدة بقيادة المفكر السياسي الاستراتيجي الأمريكي دانيال بايبس الذي يذهب – كما يرى السيد ولد اباه - "إلى أن الإرهاب ليس في ذاته الخطر، وإنما الخطر يتمثل في الرؤية العقدية والفكرية التي تتبناها القوى التي تستخدمه تقنية إجرائية، أي الإسلام والمسلمين "( )
لقد كتب بايبس بعد أربعة أشهر من أحداث سبتمبر متسائلا :"ما هو العدو الذي تحاربه الولايات المتحدة منذ 11/09/2001 ؟ ويعتبر أن الإجابة السائدة في الخطاب السياسي الأمريكي غامضة وغير مقنعة ، فالإرهاب هو مجرد تقنية عسكرية تستخدمها مجموعات كثيرة متباينة لها أهداف مختلفة عن بعضها البعض ، فالحديث عن الحرب ضد الإرهاب هو مثل الحديث عن الحرب ضد أسلحة الدمار الشامل...إن العدو الذي يهدد الولايات المتحدة منذ ثورة الخميني 1979 ،ومنذ انحسار اليسار الشيوعي واليمين الفاشي في أوربا هو "الإسلام الاحتجاجي التيار الكلياني الوحيد في العالم" الذي يستهدف الحضارة الغربية ، والذي سيكون مصدر قلق للعالم الغربي خلال عدة عقود قادمة"( ) .
وقبل أن نقف وقفة متمعنة في هذا الاتجاه في ما يلي من البحث ، نشير إلى خطل هذا التوجه الذي يتلخص في نقطتين :
- إعتبار الدين الإسلامي في مفهومه المجردِ المسؤولَ عن العنف بكل أشكاله .
- إعتبار المسلمين كلا متجانسا بدون أية اختلافات بينهم في فهم الإسلام ، ولا تعدد في قراءاته.
ب- صورة الإسلام من وجهة نظر دينية :
لقد تم رسم ملامح هذه الصورة انطلاقا من النظر إلى الإسلام في الفضاء الديني السماوي،أي في علاقته بالديانتين : المسيحية واليهودية .
فبالرغم من أن الإسلام يتحد في مصدره بالديانتين السابقتين له زمنيا ، باعتبار الجميع وحيا من الله ، وبالرغم من اعترافه بجميع من سبقه من الأنبياء والرسل أي بحملة الديانات السابقة، بكونه آخر الديانات،وكون كتابه آخر الكتب المنزلة، وبكون رسوله آخر الأنبياء وخاتمهم ...إلا أن هذا التوجه الغربي الديني يحاول إقصاء الإسلام من ذلك الفضاء الجامع، ويرسم له صورة المتحجر المتأبي عن الإصلاح والتطور ومسايرة العصر.. خلافا للديانتين السابقتين اللتين - ومنذ القرن السادس عشر- عرفتا ثورات إصلاحية جعلتهما ينبذان ما فيهما مما يعيق التطور والحداثة من رؤى وقناعات .
وقد يكون من المفيد الإشارة إلى أن هذه الرؤية المعاصرة ليست – في الواقع - إلا محاولة إعادة انتعاش جديد لنظرات استشراقية قديمة معروفة ، أثبتت الدراسات تهافتها وتجاوز الزمن إياها...لكن بفارق ربطها بالأحداث المعاصرة وتطورات الساحة الإسلامية/الغربية .
هذا التوجه تبناه بعض من رجال الدين المسيحي ، أبرزهم الأب موريس يورمان في كتابه حول الحوار المسيحي الإسلامي الذي يرى أن مشكلة الأصولية متجذرة في الإسلام نفسه ، باعتباره عقيدة وشريعة ، والحل عنده هو "النصح" الذي يقدمه للمسلمين بإصلاح دينهم أسوة بتجربة الإصلاح البابوي التي اختارت السير في ركب الحداثة ، بينما بقي المسلمون مترددين وخائفين من خوض تجربة الحداثة وقطع الصلة بكل ما يعيقها من أفكار ومعتقدات تقصي الآخر وتشجع على العدوانية والعنف ...مثل مفهوم الإسلام عن السلم الذي يقوم على "السيف" ، وينحصر في طرح أخروي لا علاقة له بالدنيا وبالبشرية ، اللهم إلا بالنسبة للمسلمين أنفسهم فحسب ( دار السلم مقابل دار الحرب) ( ).
وإذا كان هذا رأي واحد ممن تبنوا قضية الحوار الإسلامي/المسيحي ، فإننا ، ولتحقيق أقصى درجات الموضوعية ، لن ننظر إليه إلا من خلال نظرة مفكر آخر ،كرس كثيرا من جهوده لدراسة الموضوع ، إنه المستشرق أليسكي جورافسكي صاحب كتاب " الإسلام والمسيحية" ،حيث يذهب إلى أن "الحوار الإسلامي- المسيحي في ملامحه الكبرى ليس إلا عملية تفاعل ثقافي تاريخي بين الشرق والغرب، واليوم تحظى قضية الشرق والغرب باهتمام كبير... وللتدليل على هذه الأهمية ، نكتفي بالقول إنه في حل إشكالية التفاهم المتبادل بين الشعوب يتعلق مستقبل الإنسانية جمعاء ...أما كيف عولجت هذه المسألة ، فإنه في نطاق العلوم الإنسانية يلاحظ وجود أسلوبين متطرفين لحلها: إما النفي التام لحقيقة التناقض بين الشرق والغرب ، وإما التشديد على التعارض المطلق بينهما ،والمنطلقان... لا يفعلان سوى إبعادنا أكثر فأكثر عن الحل الواقعي لهذه القضية، ففي الموقف الأول نحن نغلق أعيننا عن تجربة الشرق الغنية ، المغايرة للتجربة الأوروبية (والغربية عموما) ، أما في الموقف الثاني فإننا نؤكد ببساطة قناعتنا بعدم إمكان اللقاء بين الشرق والغرب ، ولكن من الناحية الأخرى ، فإن التسليم بالتطابق العميق في المضمون الإنساني الذي تتسم به الثقافات الشرقية والغربية لا يلغي إطلاقا الاختلافات والتمايزات في أسسها الداخلية "( ).إذ يمكن ببساطة بريئة القول بأنه "يشترك الإسلام مع غيره من الأديان المتعارف عليها بالسماوية ، وغيرها من الأديان الكبرى في العالم في أمور ويفترق عنها في أمور"( ).
وغير خفي أن موريس بورمان يتموقع ضمن الفريق الذي لا يرى إلا كيانين متناقضين هما الشرق والغرب ، ولا يتبنى إلا " التشديد على التعارض المطلق بينهما" بدليل مطالبته أحدهما(الإسلام) بالانسلاخ عن مرجعياته ، والتحول إلى نسخة ثانية للآخر (المسيحية) بتبني تجربته الإصلاحية .
مفكر آخر يذهب مذهب موريس بورمان ، إنه المفكر الأمريكي مايكل نوفاك الذي يرى أن الإسلام ينبني على نفي حرية الإنسان ودور عقله وإرادته، بتركيزه على العبودية للإله المهيمن والقادر على كل شئ ، بما في ذلك مصير الإنسان ... بينما "الحرية هي جوهر التقليد اليهودي والمسيحي " مما أدى إلى نشوء النزعة الإنسانية فيهما وإفراز نظام الليبراليات الحديثة( ).
الاتجاه نفسه يذهب إليه المؤرخ "بول جونسون" ، ففي رأيه "أن الإسلام عقيدة عنف، وأن أهله لا يتقبلون أي نوع من الحوار الايجابي البناء، ويزعم أن القرآن هو الذي يمد المسلمين بالرغبة في قتل الأبرياء، ويزعم في كثير من كتاباته أن البحث عن كنه الإسلام الحقيقي بمحاولة فهم القرآن عبث، فهو كتاب بزعمه مليء بالمتناقضات، فإنك تجد فيه النهي عن الحرب، بجانب الاستثارة للجهاد، وتجد أيضا تعبيرات جميلة عن التسامح بجانب التحريض الشديد على قتل غير المسلمين من الكفار، وإن وضع المسلمين المعاصرين ليدلنا كيف يختار المسلم عبارات القرآن التي تتوافق مع غرائزه الشريرة ، الإسلام يضاد المثل العليا للجنس البشري، بعكس المسيحية التي دعمت من خلال تاريخها الطويل حقوق الإنسان ورفاهيته، بعيدا عن التعصب"( ) .
يبدو هذا الرأي في ظاهره مختلفا ومتميزا عما سبقه بشيء من الدقة الناتجة عن الرجوع إلى الأصل الذي هو القرآن (بدلا من الرجوع إلى سلوكات المسلمين التي لا تطابق المرجع بالضرورة) لكن إذا كان الإجراء سليما ومنهجيا إلى حد بعيد..فإن نتائج "قراءته" ليست كذلك،لا من وجهة نظر إسلامية فحسب، بل من وجهة نظر علمية ، فالملاحظ أن قراءته ترفضها حتى مناهج مقاربة النصوص الغربيةُ نفسها، إذ لا بد له من عُدة لغوية وأدبية وبلاغية وخلفية معرفية تراثية عربية عميقة ، لا تغني عنها الترجمات مهما بلغت دقتها...ثم إن الفكرة في حد ذاتها استشراقية قديمة ، وجدت في مستجدات الساحة الدولية باعثا لها ، متجاهلة كل ما حققته الإنسانية من تقدم في شتى مجالات المعرفة ، وما قطعته من أشواط في طريق علاقات الشرق بالغرب .
ج- صورة الإسلام من وجهة نظر حداثية :
هذه الصورة هي الأخرى تنسب التخلف إلى الإسلام في حد ذاته ، باعتباره نتيجة لتوجهاته وقيمه ، التي ترفض التحديث والعصرنة... وهي تدعو مثل سابقاتها إلى "إصلاح الإسلام" ، لكن بفارق يتمثل في عدم النظر إليه من خلال الأبعاد الاستراتيجية أو الديانات الأخرى ، بل من خلال مقولات الحداثة ومنجزاتها في المجتمعات الغربية التي تشير الصورة إلى مقاطعة الفكر الإسلامي لها بحكم قناعاته الرافضة لمنطلقاتها وفلسفتها...
وكما رأينا في الصورتين السابقتين ،فما تطرحه هذه ليس جديدا ، فقد تمت العودة إلى أفكار ورؤى سابقة ، ليعاد توظيفها في تفسير أحداث حديثة ، بينما أصل الصورة يعود إلى عالم الاجتماع إرنست غلنر في كتابه "المجتمع الإسلامي" الذي ظهر في بداية الثمانينيات ( ) .
يرى إرنست أن الإسلام دين نصي له مضمون ثابت غير قابل للتغيير إلا في الحدود التاريخية والمجتمعية للعالم الإسلامي ، ويتسم بالانغلاق والتقوقع ضد منجزات الحداثة ومشاريع التطور... " فمرتكزات الحداثة من هذا المنظور ، وأهمها نزع القداسة عن العالم والنزعة الذاتية الفردية غير قابلة للاستيعاب داخل الرؤية الإسلامية القائمة على مركزية مفهوم الأمة وهيمنتها والربط بين الدولة والدين "( ).
وقد ردد هذا الرأي ، و"عمقه" بعد أحداث ديسمبر ، المستشرق برنارد لويس (Bernard Lewis)الذي طرحه باعتباره تفسيرا لتلك الأحداث ، و"فصل الخطاب" في حقيقة الإسلام ، وذلك في كتابه الموسوم بـ"أزمة الإسلام" ( ) الذي أصدره بعد أحداث الحادي عشر سبتمبر.
فهو يرى أن "الإرهاب الإسلامي" يمكن تفسيره بأنه موقف "عصابي" غير سوي إزاء "حداثة مستحيلة" تتطلب لتحقيقها الانسلاخ والانفصال عن المرجعية الإسلامية( ), و"معضلة الإسلام" التي تحول بينه وبين الدخول في الحداثة هي الامتزاج الجوهري بين الدين والسلطة فيه، "فالمجتمع الإسلامي منذ نشأته في عصر النبي له طبيعة مزدوجة، فهو من جهة كيان سياسي ، سلطة قبلية أصبحت دولة ثم إمبراطورية، ومن جهة أخرى ،وفي نفس الآن هو مجموعة دينية أسسها نبي ثم حكمها قواد كانوا هم أيضا خلفاؤه"( ).
الصراع بين الخير والشر، هو الآخر، له في نظر هذا المستشرق "بعد سياسي، بل عسكري، والنبي رسول وحاكم ، و(الله حاكم أعلى للدولة) ، له جيشه المشكل من الرسول وخلفائه، ودوره هو طرد أعدائهم ومعاقبتهم انتظارا لخلودهم في جهنم"( ).
النتيجة التي ينتهي إليها هذا التوجه المتهافت - القافز على حقائق توسعت في دراستها المراجع الإسلامية وغير الإسلامية.. والمتجاوز للقراءات الإسلامية المتعددة للقضايا التي يطرحها ، والتي شكلت فروقات عرفتها حركة المدارس الإسلامية في نقاشاتها وجدلها العميق... – هي أن معالجة "الداء الإسلامي" على حد قوله "يكمن في خلخلة هذه البنية الميتافيزيقية ، وتقويض التصورات المتولدة عنها، من خلال عملية مراجعة جذرية للنسق الإسلامي كله"( ).
5- ملامح الصورة:
إن نظرة فاحصة إلى مجمل الآراء التي سالت – ولا تزال - بغزارة على صفحات الجرائد والمجلات ، وبين دفات الكتب في الغرب ، وبلغاته الأساسية ، والتي قدمنا عينة منها... لتؤشر إلى عنصرين أساسيين، تتصف بهما تلك الرؤية ، هما: الخوف والتزييف ،فإليهما يعود تشكل تلك الصورة عن الإسلام في عيون الغرب باعتبارهما عاملين ،وقد يكون من الطريف أن نلحظ أنهما يتبادلان المواقع ليتحول أحدهما إلى نتيجة للآخر ، بشكل تبادلي ، مما يؤشر إلى تهافت تلك النظرة وقفزها على الواقع الحقيقي للإسلام ، وانطلاقها من أوهام يرى أصحابها أنها الحقيقة التي لا مراء فيها...
- الخوف : الخوف من الإسلام في الغرب ليس جديدا ،في مسار التاريخ الحديث ... وقد يكون صامويل هنتنجتون (S.Huntington) صاحب النظرية المشهورة حول "صدام الحضارات" في كتابه الذي ظهر في التسعينيات أهم من فلسف هذا الخوف وحاول تعليله بالاعتماد على ما زعم أنه في الإسلام من مؤشرات تدعو إلى الخوف منه ، والى التنبؤ بصراع حاد بينه وبين الحضارات الأخرى .
وإذا كان الخوف – كما رأينا في مقدمة المداخلة – متبادلا بين الغرب والعالم الإسلامي ، ولا نقول بين الغرب والإسلام ! بحيث يشوب نظرة كل طرف إلى الآخر بدون استثناء ، وحيث أصبح "من اللافت للنظر أن الصورة المتبادلة بين الغرب والعرب ، وبشكل خاص في الصحافة والكتب المدرسية ووسائل الإعلام، كانت مشوهة إلى حد بعيد في الدول العربية والغربية معا"( ).. فإن ما نركز عليه هنا - بدافع منهجي يتمثل في تخصيص هذه المقاربة لنظرة الغرب إلى الإسلام، وليس العكس- هو خوف الغرب بشكل محدد، دون أن يعني ذلك انتفاءه بالنسبة لنظرة المسلمين إلى الغرب، لكن تناول ذلك خارج عن مداخلتنا هذه .
إن خوف الغرب من الإسلام عند البعض ليس نتيجة أحداث سبتمبر وما تلاها من موقف ورؤية خاصة ، بل إنه السبب الرئيس في تلك الأحداث ، فقد ذهب محللون أمريكيون إلى التشكيك في ما أعلن بصدد مسؤولية تلك الأحداث ، ورجحوا أن تكون الواجهة المرئية منها مفبركة لأسباب مختلفة ، أهمها الخوف الذي أصبح هاجس الغرب تجاه الإسلام ، من زحفه على العالم باعتباره إيديولوجية لا تعترف بالحدود السياسية ،ولا بالفوارق التقليدية من لون ولغة وأرض ،ولا بالفوارق الطبقية والاجتماعية...مما يسهل من انتشاره وتأثيراته..فقد "أوصى" فوكوياما بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر "بضرورة تصدي الغرب للإسلام بحزم خوفا من انتشاره في الغرب ، لما له من جاذبية، ولما تظهره شريعته من عدل سياسي واجتماعي، وهي قيم قد تكون خطرا على انتشار القيم الديمقراطية، وكذلك تكون خطرا على رأسمالية السوق ، وكل القيم الحضارية الغربية"( ).. بالإضافة إلى ما يتمتع به العالم الإسلامي من عناصر القوى الاستراتيجية من مناخ واقتصاد وطاقة ..الشيء الذي يجعل من السيطرة الغربية على العالم محل تنافس .. (وهو ما يمكن تصنيفه في إطار الرؤية الاستراتيجية للغرب كما رأينا) .. وهذا الخوف – في نظر فريق من المحللين - تحول إلى دافع لاصطناع الأحداث ،أو – على الأقل- إلى عامل استثمار لها يمنح الحق في توظيف القوة، ويفتح أبوابا - بدونه كانت موصدة – باسم محاربة الإرهاب، وتجفيف منابعه..وإلى ذلك يذهب "فهمي جدعان بقوله:
"لست أشك أبدا في أن هاجس "الخوف" و"أمر الردع" هما المسوغان لهذه الأزمة، الخوف من ماذا؟ الخوف من تعاظم قوى سياسية إيديولوجية كامنة معادية للغرب وقادرة ،هنا أوهناك, على اجتياز الحكم في هذا البلد أو ذاك، وعلى التزود بأسلحة مدمرة من شأنها أن تشكل خطرا حقيقيا على حاضر الغرب ومستقبله،ويكتسب هذا الوضع خطورة أعظم إذا ما نجم في فضاء بشري وجغرافي واسع يحمل طاقات ديموغرافية وطبيعية واقتصادية هائلة.. كالعالم العربي.. أو الإسلامي "( ).
الخوف من هذا المنظور ،أو الخوف الاستراتيجي، سيصبح – في مفارقة لافتة للنظر- مصدرا أو وسيلة للأمن، في نظر"القوة العظمى"، وحربا في سبيل انتفاء الحرب ، "بالطبع هناك هواجس الكرامة والهيبة السياسية وإعادة تعزيز "تقدير الذات"لدى القوة العظمى ، فضلا عن اعتبارات الثأر والانتقام وغير ذلك، لكن الأصل هو الخوف الاستراتيجي، وهذا الخوف يتطلب ردا ردعيا قويا، هو الحرب القصوى ، وملاحقة جميع "البؤر" المحلية والإقليمية والدولية التي يمكن أن توجد فيها أو تتشكل فيها قوى معادية تمثل على المدى القريب أو البعيد خطرا حقيقيا"( ).
هذا الرأي ليس فقط لعربي يحسب ضمن مواطني العالم الإسلامي الذي هو مقابل للغرب ،على ألطف تعبير، بل هو أيضا رأي جملة ممن ينتمون إلى عالم الغرب ، بل إلى أمريكا بالذات ،فهذا رجل الأعمال الأمريكي المشهور"جورج سوروس"(G.Soros) يذهب إلى أن"الزلزال وفر لإدارة بوش فرصة تجسيد مشروعها الإمبراطوري للهيمنة ذي الخلفية الإيديولوجية المحافظة القائمة على ثلاثة ركائز أساسية هي : التفوق العسكري والأصولية الدينية وأصولية السوق،ولقد استخدمت الإدارة الأمريكية الهزة النفسية الهائلة التي خلفها الحدث لتمرير أجندتها وتبرير مضاعفة الإنفاق العسكري وتكثيف التدخل العسكري في الخارج"( ).
رأي سوروس قد يجد مصداقيته في وضعية الغرب بعد سقوط الشيوعية، حيث أنه "بعد سقوط المعسكر الاشتراكي ، ونهاية خطر الشيوعية احتاج الغرب إلى عدو جديد كي يوحد قواه ، ويشحذ همته ، ويسيطر عليه، فوجده في الأصولية الإسلامية في الوطن العربي وفي العالم الإسلامي ، بل وفي قلب الغرب والولايات المتحدة الأمريكية ، فهي كلية شمولية تمارس العنف ، وتتحدى القيم الغربية، وتعادي الغرب، وتجند الجماهير، وتقلب النظم السياسية الصديقة للغرب والتابعة له.."( ) .
قد يلاحَظ أن لفظ "الخوف"غير وارد في كلام "سوروس" ، لكن عبارات "تجسيد مشروع الهيمنة ، والتفوق العسكري، وتكثيف التدخل الخارجي .." تحمل ضمنيا دلالة الخوف من تحقق النقيض ، الذي هو هيمنة الخصم المحارب وتفوقه العسكري الذي سيكون بطبيعة الحال على حساب أمريكا.
مع كل ذلك، يمكن أن ينظر إلى الخوف ، في ظل الحيثيات المتقدمة، وبخاصة الاستراتيجي منه ، على أنه نوع من الدفاع عن الذات ، أو المحافظة على مكسب التفوق والهيمنة..مما يخفف إلى حد ما من حدة وقعه وتأثيره .. لكن هناك "درجة " أخرى من الخوف تثير مشاعر الاشمئزاز لتطاولها على المقدس مباشرة ، لا على من ينتمون إليه .
المشكلة في هذا الخوف هي أنه تجاوز إطار النظرة والرأي إلى موقف عملي تمثل في الدعوة إلى إزالة الخوف بإعلان الحرب على الإسلام ، فهذا "روبير موراي يدعو إلى حرب صليبية جديدة ضد الإسلام والمسلمين تفضي إلى تدمير المدن المقدسة ... أما بات روبرتستون فاعتبر المسلمين "أسوأ من النازيين" ( )... إلى غير ذلك من الآراء التي نشرت وتنشر تباعا باللغات الغربية في شكل كتب مستقلة( ) ، أو على صفحات المجلات والجرائد ، والتي لم يترجم منها إلى العربية إلا القليل ( ) !
- التزييف : نقصد به تزيف الصورة إما نتيجة للخوف ، وإما باعتباره سببا للخوف ، حيث شكلت الصورة المزيفة للإسلام أهم عوامل الخوف منه ، و يتجلى هذا الزيف بشكل أساس في الخلط اللاعلمي بين المجرد المقدس ، وبين "القراءات" ومحاولات الفهم التي نشأت حوله واكتسبت كثيرا من قداسته، بالرغم من أنها مجرد محاولات بشرية من كثيرات أخر قد تختلف معها إلى حد بعيد ، إن لم تناقضها في بعض الأحيان .
من جهة أخرى ، يتجلى التزييف في أن الغرب لم يفتأ يمارس سياسة الهروب إلى الأمام..فهو بتعليقه كل المسؤولية على الإسلام باعتباره دينا ، لا على مجموعة أو مجموعات إسلامية باعتبارها تمثل فهما ما للإسلام .. إنما يهدف إلى التخلص من تحمل أية مسؤولية قد يُحمّلها.. لأن التفكير المنطقي يتطلب لأي صراع أو عدم تفاهم أسبابا محددة ، تعود- بالضرورة – إلى واحد من الطرفين على الأقل ، فإذا أعيدت إلى الإسلام ، كما هو واقع ، كان معنى ذلك براءة الغرب ،بل كونه الضحية التي لا يد لها في توتر العلاقات ، وكان معناه أيضا، بالنتيجة الحتمية، أن الإسلام – لا سياسات الغرب – يتطلب إصلاحا.. وهذه النتيجة هي بيت القصيد في ما يهدف إليه الغرب : إصلاح الإسلام وإدخاله بيت الطاعة، بتشكيله كما يريد الغرب ، مقابل الإبقاء على سياساته هو – وبخاصة ما له منها علاقة بالعالم الإسلامي - كما هي بدون أي تغيير،اللهم إلا في اتجاه السلب ، في حين تتطلب النظرة الموضوعية للأمور أن يشمل "الإصلاح" كلا من سياسات الغرب وسياسات العالم الإسلامي (وليس الإسلام).
6-الإصلاح وتغيير الصورة:
لقد بدا واضحا مما تقدم أن الخوف علاقة متبادلة بين العالم الإسلامي والغرب، وأن آثارها تطال كلا العالمَين ،على الأقل باليقظة الشديدة واستنفار الحواس ، وتضييق الحريات ، وسيطرة الكوابيس باستمرار.. كما هو ماثل في الغرب ، وأن السبب والنتيجة ، في آن واحد، هو الصورة المرسومة عند كل طرف عن الآخر، الشيء الذي يجعل من الضرورة التحلي بالشجاعة لتصحيح الوضع .
إن المخلصين في كلا العالمين يدركون بكل تأكيد ضرورة ذلك، وكل منهم واع باختلالات بيته قبل اختلالات بيت الآخر ، وإذا كان موضوع مقاربتنا يخص صورة الإسلام في عيون الغرب ،على ما هي عليه من الخلل كما رأينا.. فإن من منطق ورود النتائج بعد المقدمات أن نفكر في تصحيح الصورة ، لكن بالرغم من بساطة الأمر ظاهريا، فهو معضلة ليس من اليسير حلها، لتداخل عوامل متشابكة تعود إلى الرائي الذي يرسم الصورة ، والى المرئي موضوع الصورة في آن واحد ، غير أنه تبعا لخصوصيات الصورة التي رأيناها من خلال هذه المقاربة وأهمها تركيزها على الإسلام باعتباره سبب التردي وموضوعا "للإصلاح" ،مما يصطدم بحق حرية المعتقد الذي تكفله الأديان والقوانين.. يمكننا أن نحدد طرحين ،أحدهما يتوجه إلى الآخر (الغرب)،مفاده ضرورة إبعاد الأديان عن لعبة السياسة والاستراتيجيات وإشكالات النفوذ.. تحقيقا لفائدة الغرب نفسه بالدرجة الأولى، فتحميله الإسلام مسؤولية تردي العلاقات ومطالبته بإصلاحه.. إنما يجعله في مواجهة حوالي مليار ونصف المليار من سكان المعمورة ، وعشرات من دول العالم ، وهو مالا يتم في الإشكالات السياسية والاستراتيجية خارج الأديان.
الطرح الثاني يتوجه إلى كلا العالَميْن ، ولعله يمسهما بدرجة متساوية من المسؤولية ،يتمثل في ضرورة تقبل نقد الآخر، و ممارسة النقد الذاتي واستبطان الرؤية ومحاولة وضع المرئي نفسه مكان الرائي واتخاذه مرآة عاكسة على وجهها يرى نفسه .. للنظر إلى السلبيات بدون تشنج ،والقيام بإصلاحات على الذات دون الوقوف طويلا أمام إشكالية مصدرها ، ولعل ذلك هو بعض ما بدأ يرسم فيه خطاه العالم الإسلامي (والعربي بصفة خاصة) بغض النظر عن الجدل القائم( ) .. فقد عرف هذا الأخير حركية في رؤية الذات ومحاولة إصلاحها بكثير من التجرد العاطفي ، مما أدى إلى تبني الإصلاح باعتباره موقفا داخليا ينبع من قناعة ذاتية، قبل أن يكون موقفا خارجيا يطالب به الآخر!! ، ويتجلى ذلك في ما يأتي:
- أولاً: سيل من الدراسات والتحليلات والدعوات المرتفعة من هنا وهناك في العالم العربي، لرؤية الذات رؤية غير ذاتية ، تتلمس مواقع الخلل .. فهذا الدكتور جابر عصفور يرى "أن التحديق في الغرب بعيون عربية انطوى على صدمة المعرفة بمدى تخلف الأنا القومية عن الآخر الذي يواجهنا، فالعلاقة بيننا لم تبن على مبدإ التساوي والتكافل بين طرفيها، لذلك لم نر الغرب بطريقة صحيحة، ولم نر أنفسنا بطريقة صحيحة أيضا.."( )
إن العالم الإسلامي ، (والعربي باعتباره جزءا منه) مدرك تمام الإدراك ضرورة تطوره و"إصلاح نفسه"، وفق آليات تتناسب و واقعه وآفاقه في شتى الميادين ، قد تصل حد إعادة قراءة المقدس ، لكن ليس حد تغيير المقدس نفسه ، مبعث كل ذلك قناعة بتشوه الصور المتبادلة بينه وبين الغرب ،لأسباب كثيرة ، أهمها تاريخي واستراتيجي ، لكن ليس دينيا ولا ثقافيا .
"إن صورة الآخر ليست حقيقة، إذ لا يظهر الشرق على حقيقته ولا الغرب على حقيقته، بل صورة كل منهما معكوسة في مخيلة الطرف الآخر، صحيح أن الغرب اخترع شرقه، ولكن من الصحيح كذلك أن الشرق اخترع غربه،كل من موقعه، وكل بطريقته وآلياته ، وإذا كانت السمة الغالبة في الخطاب العربي المعاصر هي رفض الصورة التي يحملها الغرب تحديدا ، عن العربي والمسلم، مع البحث لها عن سياقات ودوافع، فإن هذا الرفض لا يوازيه تساؤل عن الصورة التي يبنيها العربي عن الغرب ، إنه يتشكى من تشويه الغرب لصورته ، لكنه لا يتنبه إلى أن صورة الغرب ليست أقل تشويها لديه"( )
- ثانيا: حركية نشيطة (رسمية وغير رسمية) تمثلت في عقد ندوات ومؤتمرات( ) تتناول إشكالية الإصلاح ورهانات التغيير، تنم عن وعي عميق بإشكالية العلاقات الغربية/الإسلامية يفضي إلى تحديد سلم للأولويات يحتل فيه إصلاح الذات الدرجة الأولى بكثير من التذمر لحالها المتردي ، لعله أكبر من تذمرها لحال العلاقات المتوترة مع الغرب، وما يمنح هذا الموقف الواعي قيمته وخطورته هو أنه يمثل مواقف جماعية لنخب مثقفة ،مما ينأى بها عن شطط التشرذم والانغلاق على الذات وضيق الرؤية ، ففي الندوة التي أقامتها مجلة "العربي"( ) في موضوع "الغرب بعيون عربية" وضمت ثلة من خيرة المثقفين العرب .. تجلى موقف مشترك يسير في اتجاه الاعتقاد بأن "كمية الغضب الكامن في النفوس لم تكن موجهة بالدرجة الأولى إلى الآخر، ولكن للذات العربية التي تقاعست طويلا، وتمسكت بأهداب التخلف والنظرة الأحادية، ولم تعرف شروط النهضة الواجب توافرها.."( )
أمام هذا الموقف العربي الذي يتسم بالموضوعية ومحاسبة الذات بشيء من الصرامة ، وربما القسوة الممنهجة ! يبرز سؤال يطرح نفسه بحدة ويتلخص في ما يأتي :
موازاة مع تلك المؤتمرات والندوات التي تعقد في العالم الإسلامي على مختلف المستويات للنظر في الذات وتقويم اعوجاجها .. هل عرف الغرب مؤتمرات مماثلة لمحاسبة الذات والاعتراف بالأخطاء ..لتوجيه "كمية الغضب الكامن في النفوس" إلى الذات بدلا من توجيهها إلى الآخر؟؟
سؤال مشكلته أننا لا نملك الإجابة عنه، لكن مشكلته الكبرى هي أنه عليه يتوقف أكبر جزء من مبادرة "الإصلاح" وحل إشكالية علاقة إسلام/غرب .













الإحالات
د/علي القريشي ، (حوار الحضارات والحاجة إلى كبح جماح"الهويات المتغطرسة") ، مجلة " العربي" ،وزارة الإعلام بدولة الكويت، ع 525، أغسطس 2002 ، ص 164 .
ينظر : أليسكي جورافسكي- الإسلام والمسيحية , سلسلة عالم المعرفة ، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب ، الكويت ، 1996 ، ص 8.
نستثني من هذا التوجه السلبي الذي يجرّم الإسلام بيان المثقفين الأمريكيين" الذي وقعه بتاريخ 12/02/2002 ستون مثقفا أمريكيا، من ضمنهم صمويل هنتنجتون صاحب نظرية صدام الحضارات وفرانسيس يوكوهاما صاحب كتاب نهاية التاريخ ، والذي - بالرغم من سلبيته في أكثر من نقطة ، وبخاصة في تبريره لما أسماه الحرب العادلة – يفرق بشكل واضح بين الإسلام والمسلمين، وينأى عن تحميل الإسلام باعتباره دينا مسؤولية ما حدث في ذات يوم ،ويقر أنه واحد من أكبر الديانات في العالم، يدين به حوالي 1.2 مليار مسلم بمن فيهم عدة ملايين من مواطني أمريكا،يتبعون تعاليم الإسلام ويتمتعون بالاحترام والإيمان وحس السلام، يقابل ذلك جماعات "راديكالية" متطرفة ، لا تعارض السياسات الغربية فقط، ولكنها تعارض أي مبدإ للتسامح الديني ..."(ينظر: مجلة العربي ، ع 523، يونيو 2002 ، ص11.
ينظر الهامش رقم : 37 .
عبد الرزاق خليل ، الاستشراق والاستشراق العربي ، مجلة "آفاق الثقافة والتراث" ،دائرة البحث العلمي والدراسات بمركز جمعة الماجد،دولة الإمارات العربية المتحدة ، عدد 49،السنة 13 ، إبريل 2005 . ص100 .
د سليمان العسكري ، ماذا يتبقى من نظرية صراع الحضارات؟, مجلة " العربي" ،وزارة الإعلام بدولة الكويت، ع 518، يناير 2002 ، ص 10 .
د. السيد احمد فرج ، حوار الحضارات في ظل الهيمنة الأمريكية هل هن ممكن ؟، دار الوفاء ، ط 1، 2004 ، جمهورية مصر العربية ، ص 9.
م ن ، ص 22 .
د سليمان العسكري ، ماذا يتبقى من نظرية صراع الحضارات؟, مجلة " العربي" ،وزارة الإعلام بدولة الكويت، ع 518، يناير 2002 ، ص 11 .
م ن ، ص ن .
فهمي جدعان ، متى تحين لحظة الحوار؟ بحثا عن الإسلام الحضاري ، مجلة " العربي" ،وزارة الإعلام بدولة الكويت، ع 519، فبراير 2002 ، ص 118 .
د/ وجيه كوثراني (علاقة شائكة وأسئلة ملتبسة) مجلة " العربي" ،وزارة الإعلام بدولة الكويت، ع 519، يناير 2002 ، ص 123 .
عبد الرزاق خليل ، الاستشراق والاستشراق العربي ، مجلة "آفاق الثقافة والتراث" ،دائرة البحث العلمي والدراسات بمركز جمعة الماجد،دولة الإمارات العربية المتحدة ، عدد 49،السنة 13 ، إبريل 2005 . ص100 .
ينظر : ينظر : د. السيد ولد أباه : عالم ما بعد 11 سبتمبر 2001 – الدار العربية للعلم – بيروت ، لبنان – ط 1 – 2005 – ص 148 . وأيضا: : s.Huntington :The Clash of Civilization and the Remaking of world ,Order Simon and Schuster 1997
توماس فريدمان : الحرب العالمية الثالثة (نيويورك تايمز) ، النسخة العربية في الشرق الأوسط 15/09/2001 . وينظر أيضا: د. السيد ولد أباه : عالم ما بعد 11 سبتمبر 2001 . ص ص 149-150 .
هنري كسنجر – معنا أم مع الإرهاب – نيويورك تايمز – النسخة العربية في الشرق الأوسط – 16/09/2001 .
د. السيد ولد أباه : عالم ما بعد 11 سبتمبر 2001 – الدار العربية للعلم – بيروت ، لبنان – ط 1 – 2005 – ص 150.
ينظر: د. السيد ولد أباه (مرجع سابق) ص ص 150-151 . وأيضا:
Daniel Pipes :Who is the enemy ?- Commentary ,29 janvier 2002 .
ينظر : Dialogue Islamo-Chrétien ,Ed . Saint Paul 2002 . : Maurice Bormans
أليسكي جورافسكي- الإسلام والمسيحية , سلسلة عالم المعرفة ، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب ، الكويت ، 1996 ، ص 22.
د . معن زيادة ، معالم على تحديث الفكر العربي ، , سلسلة عالم المعرفة ، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب ، الكويت ، يوليو 1987 ، ص 96.
ينظر : Michel Novak .Another Islam American Enterprise Institute .November 1,2002 . وأيضا: أيضا د. السيد ولد أباه (مرجع سابق) ص 139 .
د. السيد احمد فرج ، حوار الحضارات في ظل الهيمنة الأمريكية هل هن ممكن ؟، دار الوفاء ، ط 1، 2004 ، جمهورية مصر العربية ، ص 29 .
هو كتابه :Muslim Société ,Cambridge University Presse 1981.
ينظر : د. السيد ولد أباه : عالم ما بعد 11 سبتمبر 2001 – ص 143 .
هو كتابه : L’Islam en crise ,Gallimard 2003, p .35 .
ينظر : د. السيد ولد أباه ، مصدر سابق ،ص 144 .
م ن ، ص ن .
م ن ، ص ن .
م ن ، ص ن .
مسعود ضاهر ، (العرب والغرب،تاريخ من العلاقات المشوهة) ، مجلة " العربي" ،وزارة الإعلام بدولة الكويت، ع 518، يناير 2002 ، ص 140 .
ينظر : د. السيد احمد فرج ، حوار الحضارات في ظل الهيمنة الأمريكية هل هن ممكن ؟، دار الوفاء ، ط 1، 2004 ، جمهورية مصر العربية ، ص ص 87-88 .
فهمي جدعان ، متى تحين لحظة الحوار؟ بحثا عن الإسلام الحضاري ، مجلة " العربي" ،وزارة الإعلام بدولة الكويت، ع 519، فبراير 2002 ، ص 116 .
م ن ، ص 116-117 .
ينظر : د. السيد ولد أباه : عالم ما بعد 11 سبتمبر 2001 ، ص 12 . والمصدر هو كتاب سوروس :
-G.Soros : The Bubble of American Supremacy , Public Affairs ,2003 .
د/ حسن حنفي ، الغرب وأزمة البحث عن عدو، مجلة " العربي" ،وزارة الإعلام بدولة الكويت، ع 518، يناير 2002 ، ص ص 135- 136 .
- ينظر : د. السيد ولد أباه : عالم ما بعد 11 سبتمبر 2001 – ص 150 .
صدرت كتب كثيرة تتهجم على الإسلام والعرب، لعل أكثرها تطرفا وتوظيفا للمصطلحات المثيرة مثل "التوحش والتعصب" كتاب الصحفية الإيطالية أوريانا فالاشي:
- La Rage et l’orgueil(الغضب والكبرياء) : Plon 2002.
لقد صدمنا ونحن نحضر هذا البحث بقلة ترجمات الكتب التي تصور نظرة الغرب للإسلام من تأليف غربي ، بل ندرة تلك الكتب في لغاتها بالمكتبات في الوطن العربي ، وهو أمر يقوم على أساس هش من غض البصر بالأسلوب النعامي ، إنه وجه آخر للخوف .
عرفت مشاريع الإصلاح العربية جدلا عميقا ، فهناك من يرفض أية إصلاحات بحجة عدم الحاجة إليها ،وهناك من يرفضها بحجة أنها مفروضة من الخارج، وهناك من ينظر إلى مضمونها صارفا النظر عن مصدرها...
ينظر:د محمد المنسي قنديل ، متى نتخلص من الرؤية المشوهة للذات ولآخر؟ ، مجلة " العربي" ،وزارة الإعلام بدولة الكويت، ع 544، مارس 2004 ، ص ص 116-117 .
مسعود ضاهر ،(العرب والغرب،تاريخ من العلاقات المشوهة) ، مجلة " العربي" ،وزارة الإعلام بدولة الكويت، ع 518، يناير 2002 ، ص 144 .
نذكر منها على سبيل المثال :
- مؤتمر القاهرة حول "مستقبل الثقافة العربية : تجديد الخطاب الديني" في مطلع شهر جويلية 2003 .
- مؤتمر الإسكندرية حول "قضايا الإصلاح العربي" في فترة 12- 14 أفريل 2004 .
- ندوة تونس حول "التفكير الإصلاحي والتحديثي العربي" بتاريخ 24 أفريل 2004 .
- مؤتمر الدوحة حول "الديمقراطية والإصلاح" ، مطلع شهر حزيران 2004 .
عقدت الندوة بالكويت أواخر سنة 2003 .
ينظر:د محمد المنسي قنديل ، متى نتخلص من الرؤية المشوهة للذات والآخر؟ ، مجلة " العربي" ،وزارة الإعلام بدولة الكويت، ع 544، مارس 2004 ، ص 118 .
المصدر: ملتقى شذرات

__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية

الكلمات الدلالية (Tags)
الخوف, الإسلام, بعيون, عربية, والتزييف


يتصفح الموضوع حالياً : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
أدوات الموضوع

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


المواضيع المتشابهه للموضوع الإسلام بعيون غربية .. الخوف والتزييف
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
السـلفية بعيون غربية عبدالناصر محمود بحوث ودراسات منوعة 0 03-04-2015 08:24 AM
هل هي حرب غربية على الإسلام؟ عبدالناصر محمود مقالات وتحليلات مختارة 0 02-25-2015 08:33 AM
تآمر الغرب على ليبيا بعيون غربية عبدالناصر محمود مقالات وتحليلات مختارة 0 11-04-2014 08:30 AM
هل بالغ الغرب في الخوف من الإسلام السياسي؟ عبدالناصر محمود مقالات وتحليلات مختارة 0 03-30-2014 07:40 AM
مصدر الخوف : الإسلام أم الغرب؟ Eng.Jordan بحوث ودراسات منوعة 0 03-09-2013 05:57 PM

   
|
 
 

  sitemap 

 


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 10:24 AM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.12 by vBS
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والمشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59