#1  
قديم 07-10-2018, 06:33 AM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود غير متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 55,968
29 القراءة العلمانية للتاريخ الإسلامي


القراءة العلمانية للتاريخ الإسلامي
ـــــــــــــــــ

26 / 10 / 1439 هــ
10 / 7 / 2018 م
ــــــــــــــ


القراءة العلمانية الإسلامي 36829622_1872764422804150_3225889441411235840_n.jpg?_nc_cat=0&_nc_eui2=AeEFXIvA-r_QtOyunQ5MP3XzqsmjLmwTMmeCxlGdGQgY9dgL23t0Xm7PUB5k1RehG1jkVBzvmQta1iLc5W6Bpcgw42GVgUIgWfOSPQ06eOWzrg&oh=73ab78f7f2b178038c4d930aef19b2e1&oe=5B9FBB3E

لم يسلم شيء من مقومات عزة هذه الأمة إلا وطالته أيدي العبث العلماني، فقد أعملت هذه الأقلام معاول الهدم والتشكيك في كل شيء يمس ثقافة المسلمين وهويتهم ويجعلهم أمة مستقلة لها إرثها الثقافي وتاريخها الحضاري الذي تعتز به وتفخر بالانتماء إليه، ولم يقتصر هذا العبث على واقع المسلمين المعاصر، ولا على قراءتهم للنصوص وتحريفهم لدلائلها وطعنهم في ثبوتها، بل تمددت خيوط هذا العبث إلى تاريخ المسلمين، فأعادت رسم خرائطه وتحليل أحداثه وفق أدوات مستعارة من ثقافة مختلفة. ويظهر هذا الملف شيئاً من مجريات هذه الحالة العبثية المستمرة.
=============================
المصدر: ملتقى شذرات

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 07-10-2018, 06:40 AM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود غير متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 55,968
ورقة المستشرقون طلائع القراءة العلمانية للتاريخ الإسلامي

المستشرقون طلائع القراءة العلمانية للتاريخ الإسلامي
ــــــــــــــــــــــــــ

(محمد إلهامي)
ــــــــ

26 / 10 / 1439 هــ
10 / 7 / 2018 م
ـــــــــــــ






«نَمَتْ الجامعة واستُدْعِي لها بعض كبار المستشرقين واختير لها بناء هو بناء الجامعة الأمريكية اليوم. فأعجبني من دروسها محاضرات يلقيها الأستاذ نللينو في تاريخ الفلك عند العرب، ومحاضرات في الفلسفة الإسلامية يلقيها الأستاذ سانتلانا، ومحاضرات في الجغرافيا العربية يلقيها الأستاذ جويدي، وكنت أحضر هذه المحاضرات لماماً في غير انتظام ولا التزام، لثقل العبء علي بمدرسة القضاء. ولكن على كل حال رأيت لوناً من ألوان التعليم لم أعرفه: استقصاء في البحث، وعمق في الدروس، وصبر على الرجوع إلى المراجع المختلفة، ومقارنة بين ما يقوله العرب ويقوله الإفرنج، واستنتاج هادئ ورزين من كل ذلك»[1].

هكذا قال الأديب المصري المشهور أحمد أمين في مذكراته عن انطباعه حين سمع دروس الجامعة، لكن المهم هنا أن هذا الأثر لم يكن مجرد أثر علمي فحسب، إنما صنع آثاراً أخرى في النفس والضمير، تلك الآثار عبر عنها بصراحة أكثر معاصره الأشهر منه: طه حسين، الذي قال في مذكراته: «لم يكد صاحبنا يتصل بالجامعة حتى رثت الأسباب بينه وبين الأزهر، فأصبح لا يمنحه من الوقت إلا أقصره، ولا يعطيه من الجهد إلا أيسره»، ولم يتوقف الأمر عند الأزهر كمعهد علمي بل صار نفوراً من الأزهر كمعهد ديني أيضاً، هكذا وصف درسه الأول في الجامعة وآثاره: «كان غريباً كل الغرابة، جديداً كل الجدة، مَلَك على الفتى عقله كله وقلبه كله، فشُغِل عن صاحبيه وشُغِل عمن كان حوله من الطلاب، وما كان أكثرهم... لم ينم الفتى من ليلته تلك، وسمع المؤذن يدعو إلى صلاة الفجر فلم ينهض من فراشه، وإنما تثاقل وتثاقل، ولم يخرج من غرفته إلا حين ارتفع الضحى»[2].

بعد سنوات أخرى وقف أستاذ أزهري - حصل حديثاً على الدكتوراه من ألمانيا - يدرس لطلاب كلية الشريعة تاريخ التشريع الإسلامي، فكان أول ما قاله في أول محاضرة له: «سأدرس لكم تاريخ التشريع الإسلامي ولكن على طريقة علمية لا عهد للأزهر بها، وإني أعترف لكم بأني تعلمت في الأزهر قرابة أربعة عشر عاماً فلم أفهم الإسلام، ولكني فهمت الإسلام حين دراستي في ألمانيا»، ثم أخذ يترجم لطلابه كتاب «دراسات إسلامية» لجولدزيهر[3].

أما الأستاذ الأخير وهو د. علي حسن عبد القادر فقد تراجع عن موقفه بعدما تبين له الأخطاء والتحريفات التي ارتكبها جولدزيهر، وأما طه حسين وأحمد أمين فقد أكملا المسيرة حتى إنهما سرقا أبحاثاً للمستشرقين ونسباها إلى نفسيهما، وهذا الصنيع هو أبلغ آيات الإعجاب والانبهار!

السلطة والمعرفة:
------

تحدث ابن خلدون قديماً عن أن «المغلوب مولع بتقليد الغالب»، وتحدث فوكو حديثاً عن دور السلطة في إنتاج المعرفة، وتحدث أهل القديم والحديث عن «المنتصر الذي يكتب التاريخ»، وكل هذا ليس على نحو القهر والإجبار فإن الانتصار يصنع حالة استلهام المنتصر واقتفاء منهجه وإن لم يحاول هو حمل الناس على هذا بنوع من الإكراه.
لكن التطور الذي حدث في آلة السلطة، وظهور نموذج الدولة الحديثة التي أتاحت لها وسائل الاتصال والإدارة سيطرة تامة على سائر النشاط المجتمعي، هذا التطور ألقى بانقلاب شامل في قدرة السلطة على صوغ المجتمع على مثالها، ومن ثم لم تعد ثقافة الغالب مجرد ثقافة المنتصر المغرية باستلهامها، بل صارت الثقافة المتسلحة بأدوات السلطة والمفروضة عبر مؤسساتها.

لقد أعجب حسين توفيق، وهو من تلاميذ المرصفي ودرس في ألمانيا، بطريقة المستشرق الألماني كارل بروكلمان في تأليف «تاريخ الأدب العربي»، فاستلهمها في كتابه «تاريخ أدب اللغة العربية»، ثم أطلقت الجامعة المصرية مسابقة لتأليف كتاب في هذا المجال فألف جرجي زيدان «تاريخ أدب العرب» في أربعة مجلدات، وبالتزامن معه ألف مصطفى صادق الرافعي «تاريخ آداب العرب» في ثلاثة مجلدات.. إلى هنا والمعركة علمية بحتة، لكن الأمر على الحقيقة لم يكن هكذا، فلقد انطلق زيدان مدفوعاً بقوة السلطة وأموالها ليكون زعيم الحالة الثقافية في وقته، فإن كتابه يُدرس على طلاب الجامعة، ثم كان يعمم على نطاق واسع في الصحافة مثل مجلة زيدان الشهرية «الهلال»، ثم إنه لما ألف رواياته التي يتناول فيها تاريخ الإسلام صارت توزع هدايا مجانية مع أعداد مجلة الهلال للمشتركين فيها، وكانت «الهلال» أوسع دوريات الشرق الأوسط انتشاراً في زمنها[4].

كانت تلك الطريقة هي طريقة التغلغل الاستعماري الذي لم يكن مجرد منتصر تكتسب أفكاره قوتها من مجرد انتصاره ولا كان انتصاره يُلهم المغلوبين استلهام تجربته، لا.. لم يكن هذا فحسب، لقد امتلك الاستعمار الآن السيطرة على أدوات ووسائل ومنافذ إنتاج المعرفة، وذلك «من خلال المراجع السياسية، ومعلمي المدارس، والجامعات، والصحف، والروايات، والمجلات»[5]. في مثل تلك البيئة تكون الهجرة إلى ثقافة المنتصر هجرة طوعية عند البعض، واضطرارية عند البعض الآخر. ذلك أن الخروج على منظومة الثقافة الغالبة ليس مجرد اختيار ثقافي، بل هو خروج عن منظومة سلطوية حاكمة، منظومة تتحكم في الرواتب والتوظيف والبعثات والمركز الاجتماعي والمكانة العلمية.

أول البذرة:
=====

ثمة ظاهرة في تاريخ الاحتلال لبلادنا، يسميها جوان كول بظاهرة وجود المستعمرات قبل وجود الاستعمار، وهي فترة النفوذ السياسي والاقتصادي والثقافي قبل نزول الاحتلال المباشر[6]. وهنا سنضرب المثل بمصر وبحركة التاريخ فيها كنموذج وحالة تكررت في ما بعد في سائر البلدان الإسلامية بنمط واحد وأشكال متفاوتة.

بدأت المستعمرة في مصر منذ دولة محمد علي أي ما قبل نزول الاحتلال الإنجليزي بنحو ثمانين سنة، فمن ها هنا وُجِدت في مصر «الدولة الحديثة» التي تعتمد الهوية القومية وتنسلخ تدريجياً من روحها الإسلامية لحساب الانفتاح والاندماج في الحضارة الغربية. وفي ما يخص موضوعنا هنا عن القراءة العلمانية للتاريخ، سنجد أن تياراً بدأ منذ رفاعة الطهطاوي وأخذ في النمو تدريجياً عبر قرن ونصف القرن حتى ساد الثقافة المصرية.

كان الطهطاوي أزهرياً متضلعاً من العلوم الشرعية، وهو غزير العلم واسع المعرفة عميق الارتباط بالثقافة العربية الإسلامية، لكن إنتاجه الغزير بدأ يظهر فيه أمران جديدان هما: الرافد الأجنبي، والبذرة القومية. فلقد درس رفاعة في فرنسا وتعرف على المستشرقين وإنتاجهم وترجم بعضاً من كتب الفرنسيين، ثم حين عاد إلى مصر كان مشروع محمد علي لإنشاء «دولة قومية مصرية» في مرحلة التدشين. وهو المشروع الذي عمل فيه رفاعة الطهطاوي من موقعه الرسمي في جهاز الدولة.

يثور جدل كبير حول رفاعة الطهطاوي ودوره في التغريب والعلمنة، وأميل إلى تبرئته من تهمة الانبهار بالغرب والانسحاق النفسي أمامه، لكنه أول من بدأ وصول الرافد الاستشراقي إليه ويتبدى في مشروعه الفكري والتعليمي ضمن مشروع الدولة القومية. لم تكن المشكلة أبداً في الترجمة ولا في التأثر بعقول أجنبية، فمثل هذا كان في صدر الحضارة الإسلامية، لكن المشكلة أن مشروع الدولة القومية نفسه استدعى تملصاً وتخلصاً من الهوية الإسلامية لحساب الهوية القومية، لم يظهر عند الطهطاوي التملص والتخلص بل على العكس سعى لتضمين الفكرة القومية ضمن الهوية الإسلامية معتقداً أنه لا تعارض بينهما.. لكن هذه البذرة التي بدأت هنا صارت تنمو وتتضخم تحت استمرار مشروع الدولة المصرية التي يصوغها الأجانب في عصر محمد علي وأبنائه ثم الأجانب بأنفسهم في عهد الاحتلال الإنجليزي، كانت كل الظروف والعوامل تدفع بالهوية القومية لتكون بديلاً عن الهوية الإسلامية، وهو ما استدعى بالضرورة تكوين تاريخ لـ«الأمة المصرية»، وهو التاريخ الذي بالضرورة لا بد أن يكون علمانياً.

امتد منذ الطهطاوي خيط من المؤرخين تنتجهم آلة السلطة ويزداد فيه بالتدريج المكون الاستشراقي، بينما المكون الاستشراقي نفسه يزداد باطراد مع كثرة الأجانب في بلاط ومؤسسات الدولة العلوية، وسيشهد هذا طفرة واسعة في عهد الملك فؤاد الذي سيكون حريصاً على كتابة تاريخ مصر مما سيعطي دفقة قوية للحركة التاريخية لمصر على يد الأجانب والمصريين معاً. ومن الجدير بالذكر أن الملك فؤاد حين كان أميراً كان أول رئيس للجامعة المصرية، وهي الجامعة التي ستوفر البيئة الأكاديمية لإنتاج مؤرخين لن يكون لهم بالضرورة موقع في أروقة السلطة الرسمية، ذلك أن الجامعة نفسها ستكون أداة السلطة العلمية: سلطة الاحتلال الإنجليزي وسلطة الحكومة المصرية التابعة له، ستبدأ الجامعة بنخبة من الأساتذة المستشرقين ومن تكونوا في جهاز الدولة، لتثمر تلك الطبقة في إنشاء جيل جديد من المؤرخين الذين سيثبتون ويرسخون الرواية التاريخية القومية العلمانية للدولة المصرية[7].

نضوج الثمرة:
=======

كان من الضروري أن يبدأ الحديث عن «الشخصية المصرية» بتاريخ يبدأ من الفراعنة، لكن الطهطاوي بدأه في سياق إثبات أن هذا القطر قادر على إخراج ثماره طالما دبرت أمره حكومة واعية، أما النهاية فكانت أن النهضة والرقي لا يكون إلا بالتمسك بالهوية المصرية «المستقلة».

معنى «الاستقلال» هنا لم يكن معنى محايداً، بل كان معنى يُنتج ويتكون في ظل ظروف تجعله مقابلاً وضداً للهوية «الإسلامية»، وعندما يثبت معنى الهوية المصرية يبدأ عمل آخر جديد حول تعريف هذه الهوية، فقد أخذها طه حسين في كتاب «مستقبل الثقافة في مصر» لتكون جزءاً من حضارة البحر المتوسط (أي من الحضارة الغربية)، ويأخذها آخرون ليجعلوها ضمن «الحضارة العربية» بالمعنى القومي العلماني المنافي أيضاً للهوية الإسلامية كما عمل مؤرخو الحقبة القومية.. وهكذا!

لأن مسألة الهوية لم تكن حقيقة علمية ولا حقيقة واقعية، فمصر تغص طوال عمرها بالسلالات والأجناس والألوان واللغات، عانى الكثيرون من حيرة في إيجاد تعريف للهوية المصرية[8]، وقد عمل الاحتلال والسلطة التابعة له على إقصاء من يحاول تعريف الهوية المصرية ضمن الهوية الإسلامية[9]، فلم تكن المسألة مجرد ترف علمي تنظيري بل كانت انعكاساً لواقع صراعي مع الإنجليز، وبطبيعة الحال فإن مقاومة الإنجليز كانت متسلحة بالهوية الإسلامية والامتداد السياسي والتاريخي الإسلامي، بينما كانت صناعة الهوية المصرية سياسة إنجليزية.

لم يتوقف الأمر عند صناعة تاريخ مصري، بل سار إلى قراءة التاريخ الإسلامي نفسه طبقاً للمناهج الاستشراقية العلمانية، وتعد كتابات طه حسين (لاسيما: الشيخان، والفتنة الكبرى، والأدب الجاهلي) وأحمد أمين (لاسيما سلسلته عن تاريخ الفكر الإسلامي: فجر الإسلام وضحاه وظهره) نموذجاً لهذا الاستلهام الاستشراقي في التعامل مع التاريخ الإسلامي، بل وفي بعض الأحيان سرقة أفكار استشراقية أصيلة، وحيث لم يكن المستشرقون أصحاب مدرسة واحدة ونهج واحد فقد ظهر لكل مدرسة استشراقية انعكاسها في العالم العربي[10].

واصطبغ كثير من الإنتاج الثقافي في العالم العربي بصبغة المستشرقين، سواء في الشكل أو في الموضوعات، ومن مظاهر ذلك التأثر: سيادة إنتاج مستشرق على البيئة الثقافية لفترة ما مثلما كان لجوستاف لوبون في مطلع القرن العشرين[11]، ومنها: التأثير الشكلي الذي يؤثر على اختيار الموضوعات وترتيب الاهتمام بها فازداد البحث في الفرق الفكرية المنحرفة وفي الشخصيات التي تمثل رؤوس تيارات شاذة عن الأمة، كالزنادقة وتاريخ الزندقة وصوفية الحلول والاتحاد ونحوه[12].
مثّل هذا الإنتاج المحلي المصطبغ بالاستشراق المادةَ الأولية التي أعيد إنتاجها وترويجها عبر المقررات الدراسية في الجامعة والمناهج التعليمية في المدارس ومنافذ الثقافة والفكر؛ فنشأت على منهاجها أجيال جديدة لم تتعرض للمؤثر الاستشراقي مباشرة من خلال البعثات أو الأستاذ المستشرق، فبقيت روح الاستشراق وأسلوبه مستمرة منهجياً حتى مع غياب المؤثر الأول. ثم صار هذا المنهج كله المادة الأولية للقصص والروايات والأفلام والمسلسلات الدرامية التي قدمت المادة التاريخية الجافة في صورة فنية ميسرة لعموم الجماهير، مما زاد من انتشار الرواية التاريخية لتكون أكثر رسوخاً، ويتباعد ما بين القراءة الإسلامية وما بين مجمل الصورة الذهنية المتكونة لدى عموم الجماهير، وهو ما يجعل مجرد محاولة الكتابة التاريخية من منظور إسلامي عملاً عسيراً فضلاً عن كونه محفوفاً بالمخاطر ومنذراً بالطرد من البيئة الثقافية بجملتها.

ـــــــــــــــــــــــــ
[1] أحمد أمين، حياتي (القاهرة: كلمات عربية، د ت)، ص84.
[2] طه حسين، الأيام، 3/6 وما بعدها.
[3] مصطفى السباعي، الاستشراق والمستشرقون: ما لهم وما عليهم (بيروت: دار الوراق - دمشق: المكتب الإسلامي، د ت)، ص12.
[4] انظر: تيموثي ميتشل، استعمار مصر، ترجمة: بشير السباعي وأحمد حسان (القاهرة: مدارات، القاهرة، 2013م)، ص272؛ وانظر: مصطفى صادق الرافعي، تاريخ آداب العرب (المنصورة: دار الإيمان، د ت)، ص6 وما بعدها.
[5] تيموثي ميتشيل، استعمار مصر، ص273.
[6] جوان كول، الأصول الاجتماعية والثقافية لحركة عرابي في مصر: الاستعمار والثورة في الشرق الأوسط، ترجمة: عنان علي الشهاوي (القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2001م)، ص11.
[7] للتوسع والتفصيل في المؤرخين وتراجمهم ومدارسهم وآثارهم، انظر: جمال الدين الشيال، التاريخ والمؤرخون في مصر في القرن التاسع عشر (القاهرة: مكتبة الثقافة الدينية، د ت)، ص40 وما بعدها؛ أنتوني جورمان، المؤرخون والدولة والسياسة في مصر القرن العشرين: حول تشكيل هوية الأمة، ترجمة: محمد شعبان عزاز، ط1 (القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2014م)، ص47 وما بعدها؛ باراك سلموني، الوعي التاريخي بالمواطنة الحديثة: التعليم المصري ودروس التاريخ خلال الحكم الملكي الدستوري، ضمن: آرثر جولد شميدت وإيمي جونسن وباراك سالموني، رؤية جديدة لمصر: 1919 - 1952م، ترجمة: عايدة الباجوري، ط1 (القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2013م)، ص233 وما بعدها؛ أحمد زكريا الشلق، من الحوليات إلى التاريخ العلمي: نهضة الكتابة التاريخية في مصر (القاهرة: دار الكتب والوثائق القومية، 2011م).
وما يهمنا على وجه التحديد من تراجمهم: روافدهم الثقافية ضمن البعثات العلمية إلى أوربا أو التتلمذ على مستشرقين، ثم مواقعهم الوظيفية ضمن جهاز الدولة. ثم يهمنا من عناوين وموضوعات مؤلفاتهم تركيزها على معنى «الهوية المصرية».
[8] انظر مثلاً: محمد شفيق غربال، تكوين مصر، ترجمة: محمد شفيق غربال ومحمد رفعت، ط1 (القاهرة: مؤسسة هنداوي، 2014م)، ص7 وما بعدها.
[9] انظر: محمد عبد القوي، نشوء القومية المصرية: بحث في الأصول التاريخية والاجتماعية لنشأة القومية المصرية، أوراق نماء، 14 أغسطس 2016م.
[10] د. فاروق عمر فوزي، الاستشراق والتاريخ الإسلامي: القرون الإسلامية الأولى، ط1 (عمان: الدار الأهلية، 1998م)، ص9 وما بعدها.
[11] تيموثي ميتشل، استعمار مصر، ص208 وما بعدها.
[12] عبد العظيم الديب، المنهج في كتابات الغربيين عن التاريخ الإسلامي، ط1 (الدوحة: كتاب الأمة 27، ربيع الثاني 1411هـ)، ص58 وما بعدها.

ــــــــــــــــــــــــ
رد مع اقتباس
  #3  
قديم 07-10-2018, 06:46 AM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود غير متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 55,968
ورقة التاريخ الإسلامي كما يراه العلمانيون

التاريخ الإسلامي كما يراه العلمانيون
ــــــــــــــــــ

(يوسف سمرين)
ــــــــ

26 / 10 / 1439 هــ
10 / 7 / 2018 م
ـــــــــــــ





عندما يجري الحديث عن القراءة العلمانية للتاريخ الإسلامي فإن الأمر يتجاوز الحديث عن وقائع معينة تمت روايتها وتدوينها في كتب التاريخ، ليجري الحديث عن الأرضية التي يجري على أساسها تحليل واستنباط النتائج من الوقائع، كما أن هذا يشمل المنهج المتبع في التحقق من تلك الوقائع، إنه في المقام الأول حديث عن فلسفة التاريخ، عن المنهج الذي يسلكه المحلل في قراءته وتوظيفه للأحداث التاريخية في نسقه التحليلي، قبل المنهج المتبع في التحقق من صدق الرواية التاريخية.

تتفق العلمانية في الجانب السياسي على حد أدنى من عدم اعتبار تأثير الدين في الجانب السياسي إلا أن يكون عاملاً ثانوياً[1]، وكما هو الحال في السياسة، فإن الأمر يتعلق بقراءتها للتاريخ، ولكن تتفاوت في إقصائها لتأثير الدين، فتصل بعض الرؤى العلمانية إلى إقصاء الدين تماماً عن التاريخ، لتجعل المحرّك في التاريخي هو أي شيء إلا الجانب الديني، فبعضهم يرد الأمر إلى الجانب الاقتصادي، أو البيئي، أو العرقي، والبعض يجعل للدين تأثيراً إلا إنه في حدود التأثير الثانوي.
ولما يجري الحديث عن قراءة العلمانية للتاريخ الإسلامي فهو في المقام الأول حديث عن تاريخ مرتبط بدين، وهو الإسلام، فقد تنوّعت الرؤى العلمانية في النظر إليه، ويمكن تقسيم زاوية النظر العلماني إلى التاريخ الإسلامي إلى إطارين أساسيين:
الإطار الكوني: الذي يرى الانطلاق من فلسفة مطلقة، تحمل رؤية عامة للكون، للأخلاق، للسياسة، والتاريخ... إلخ.
الإطار التحليلي والتفكيكي: الذي تأثر بخط فلسفات ما بعد الحداثة التي شاعت في أوربا، كأثر على انهيار الفلسفات الكونية التي شكلت الماركسية آخر معاقلها[2].

أما الجانب الكوني، فمن أمثلته:
=====

1- الحركة القومية: تلك التي تُرجع الحركة التاريخية إلى عوامل عرقية، أو لغوية، أو جغرافية، أو كل ما سبق، وقد تُدخل الدين باعتباره منتجاً قومياً ورسالة تعبر عن طموحات ورؤى الجانب القومي في أمة معينة، على سبيل المثال سلك جوزيف نسيم يوسف هذا المسلك في قراءته للحرب الصليبية، وكان يكتب في العصر الذهبي للقومية العربية أيام جمال عبد الناصر، حيث إنه رأى في مقاومة الغزو الصليبي لديار الإسلام «فكرة الوحدة العربية، وحركات البعث واليقظة بين العرب»[3].
لقد رأى أن العامل الديني للحروب الصليبية لم يكن سوى حركات مسرحية، القصد منها إثارة الغرب الأوربي ضد العالم العربي، وكان المستهدف منها بشكل أساسي العرب تحديداً، وفق العامل القومي[4].

وحتى لما تكون بعض الوقائع منغِّصة على هذا النسق الذي يتحرك في إطاره الكاتب، مثل كون صلاح الدين من أصل كردي، فإنه يتعامل معه لا بوصفه متديناً بالإسلام وأن الإسلام كان العامل الأساسي في حركته، بقدر ما يرى أنه كان يحمل مشروعَ حركةِ اليقظة العربية، ومجيِّش القوى المصرية الناهضة[5].

إنه بهذا يصبغ التاريخ بالمفهوم القومي الحديث، ويرى أنه المؤثر الأساسي في الحركة التاريخية، بخلاف الدين الذي لم يكن عاملاً أساسياً لا في أوربا التي تجهزت الحرب الصليبية في أحشائها، ولا في المناطق الإسلامية التي تحرك عربها وعجمها للدفاع عنها بوصفها أرض الإسلام، في وجه غزو رأوا أنه كافر يعتدي على ديار الإسلام.


2- الحركة الاقتصادية: تُرجع هذه الرؤية حركة التاريخ بمجمله إلى تأثير الجانب الاقتصادي، وقد استشرت هذه الفكرة بين الماركسيين العرب في نظرهم إلى التاريخ الإسلامي، على أن أحداثه جاءت في إطار صراع بين الثروات، وإن كان يعلوها فوقياً أي في الجانب الثقافي بناءٌ على شكل صيغ دينية، ومن أشهر القراءات التي توضع في هذا الإطار كتاب «النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية»، لكاتبه حسين مروة، حيث يحلل الكاتب التاريخ الإسلامي من هذه الزاوية، فيرى أن قريشاً استمدت سيادتها على باقي القبائل قبل الإسلام باعتبار العامل الاقتصادي بشكل أساسي، فيقول: «إن تعاظم ثروة قريش كان يزداد تأثيراً في تغيير القيم القَبَليّة، وفي إنتاج قيم جديدة تقوم على قاعدة مادية - اقتصادية هي المرجع الأول، برغم استمرارية الكثير من الاعتبارات القَبَليّة التي أصبحت في المركز الثانوي من التأثير، في مجرى الحياة العامة لأهل الجاهلية، بذلك أصبحت مكة في المركز المسيطر على عملية تفكيك البنية الاقتصادية الاجتماعية للمجتمع القبلي من أساسها»[6].

وفي إطار تفسيره للنبوة التي جاء بها محمد # فإنه يضعها في إطارٍ طبقي اقتصادي، إذ يرى أن ظهوره كان شكلاً من التعبير عن التغييرات المستجدة في أسس العلاقات لمجتمع الجاهلية، تلك التغيرات التي كان أساسها الأول اقتصادياً بنظره[7].

ويرد حسين مروة عقائد الإسلام إلى أهداف اجتماعية سعى لها هذا الظهور، فتوحيد الله عز وجل هو مجرد انعكاس لفكرة التوحيد الاجتماعي، فالدين الواحد كان يعني شعباً واحداً[8] في وجه تفكك المجتمع القبلي القديم، والسبب الأساسي في هذا هو تعاظم ثروة قريش، ومن هنا يحكم مروة بأن الإسلام «جاء تطويراً لما كان يتحرك في المجتمع الجاهلي من اتجاهه اجتماعياً ودينياً وفكرياً نحو تغيرات تاريخية»[9]، أما القرآن فيقول فيه: «إن للنص القرآني صفته التاريخية، أي الاستمرارية التطورية لإحدى الظاهرات الموجودة فعلاً في حياة الجاهلية»[10].

إن هذا التحليل جاء في إطار نسق لا يرى وجوداً موضوعياً لإله حقيقي، إنما جاء باعتبار الإله منتجاً من التصور البشري، ذلك التصور المحكوم بالظرف الاقتصادي في المقام الأول، ويعبر عن طموحٍ هو بناءٌ فوقي لهدف اقتصادي تحتي، وهذه النظرة الميكانيكية، والوضعية للمجتمع، تجعله يحصر التأثير في التاريخ الإسلامي بالمجتمع الذي يشكل العامل الاقتصادي أساسه الأول.

على أي حال هذه النظرة مجرد اختزال في العامل الاقتصادي، ولا يرتضيها حتى بعض الماركسيين الذين يتفقون مع مروة على نفي الإله، يقول صادق جلال العظم: «النزعة الاقتصادية: ومن المعروف أن خطر هذه النزعة يكمن في أنها تؤدي إلى الذيلية بحيث يصبح قسم من التركيب الاجتماعي العام (البنية الفوقية) وكأنه مجرد تابع ميكانيكي سلبي وغير فعال لقسم آخر (البنية التحتية) من التركيب نفسه»[11].


3- التوجهات الليبرالية: ترى في نظرتها إلى التاريخ أن المعايير الأخلاقية الليبرالية هي الأساس لمعيار الصواب وأنها مطلقة في كل عصر، ومن هنا فإنها تنظر بعين الإدانة لما لا يتفق مع التوجهات الليبرالية، ويجري تقييم الوقائع التاريخية المناقضة للمعايير الليبرالية على أنها جرائم، ومن هنا تكون القراءة التاريخية لتلك الأحداث بإرجاعها رأساً إلى الطغيان السياسي، والخلافات العرقية، ونحو هذا، وفق هذا المسلك يجري اعتبار قتل المرتدين مثلاً على أنه في إطار «تصفيات بالجملة وتذرّع بالدين»[12]، ويجري التعامل مع المقتولين على أنهم ضحايا طغيان سياسي[13]، بدون أي افتراض أن قانون الحكم في التاريخ الإسلامي جرى عليهم، وبالتالي يتم صبغ هؤلاء المقتولين بما لم يخطر لهم على بال، بأن آراءهم العقدية كانت جزءاً من مقاومة الطغيان السياسي، وأنهم شهداء الكلمة، وحرية الفكر، واعتبار هؤلاء كأنهم مقاتلون في سبيل الحرية بمفهومها الليبرالي، في تجاوز لحقيقة أطروحاتهم العقدية التي لو انتصرت في معاركها لأباد أنصارها خصومهم من منطلقات إدانة دينية.

هذه بعض الأمثلة على النظرة الكونية لفلسفات علمانية في نظرتها إلى التاريخ الإسلامي، أما على صعيد الإطار التحليلي والتفكيكي، الذي جاء على إثر انهيار الفلسفات الكونية في ما عرف بما بعد الحداثة، فمن روادها ميشيل فوكو، الذي كان يرى أن الأفكار نتاج المجتمع، والعقل يتحرّك داخل المفاهيم التي يستعملها مجتمع ما، بحيث إن عارض شخص ما تلك المفاهيم لم يكن ممكناً وصف موقفه بالعادل مهما كان، حيث إن العدالة مفهوم مأخوذ من المجتمع نفسه الذي يعارضه، وإنما الأمر سلطة في مواجهة سلطة أخرى[14].

وقد تم اعتماد منهج فوكو في قراءة التاريخ الإسلامي من محمد أركون، حيث يرى أن نزاع السُّلطات في التاريخ هو الذي شحن النصوص الشرعية بدلالاتها، فهو الذي صنع كثيراً مما وصف بالعلوم الشرعية، وعن طريقه تمت «بلورة الشريعة»[15]، فالشريعة المنظور إليها على أنها حكم إلهي ليست في النهاية سوى نتاج السلطات المنتصرة المتعاقبة.
فكل سلطة شكلت فرقة دينية، افترضت أن الحقيقة المطلقة واحدة لا تتجزأ[16]، وفي تصويرها لهذا، قامت بالنزاع مع السلطات الأخرى التي ادعت نفس الادعاء، وهمشتها، وقامت بحذف التراث المنافس الذي يشمل التاريخ، فتم حذف ما لم يحظ بدعامتين أساسيتين: الدولة الرسمية، والكتابة.

ومن هنا أبقت على تفسيرها للنصوص الذي لم يكن في الواقع سوى ما أنتجته تلك السلطة[17]، ليشكل بنفسه سلطة على غيره، لقد كانت الفرق تتصارع على التاريخ والتراث لتضمن له «السيادة العليا للتبرير، تبدو بالنسبة للمحكومين شيئاً مقدّساً متعالياً على السلطة السياسية المقتنصة عن طريق القوة من قبل أحد الفريقين»[18].

ومن هنا فهو يقوم بتحليل وتفتيت ما يَعتبر أنه في أذهان كثيرين لم يفكر فيه بعد[19]، ويقوم بتحطيم الهالة الكونية للأفكار التي زعمت صحتها المطلقة بكشف جذورها السلطوية عبر الصراع التاريخي الطويل، إن هذا يعني في مجمله أنه لا حقيقية مطلقة، وأن التاريخ الإسلامي إنما كتبته سلطات متنازعة انتصرت ومررت رؤيتها عبر الكتابة، ولا يمكن رفع ذلك التاريخ المسجل إلى مصاف اعتباره الحقيقة الثابتة، بقدر كونه معبراً عن رواية رغب المنتصر في إظهارها، كما أن لهذا دلالته في النصوص الشرعية، بأنها مفتوحة على احتمالات وقراءات كثيرة، والإبقاء على معنى واحدٍ إنما هو سلطة في مواجهة غيرها، أو أنه خضوع لمنظومة صنعتها سلطات سابقة، وبهذا تكون النظرة إلى التاريخ الإسلامي مفرغة من أي دعاوى تمجيد أو إدانة، فلا تحمل في دلالتها صيغة الإطلاق، كما أنه يجعل الشريعة مجرد منظومات متنوعة تمت بلورتها عبر التاريخ، لا أنها منهجيات علمية للكشف عن معاني النصوص الشرعية.

--------------------------------
[1] انظر: الدين في الديمقراطية، مارسيل غوشيه، ترجمة: شفيق محسن، المنظمة العربية للترجمة، بيروت - لبنان، الطبعة الأولى: 2007م، ص157.
[2] انظر: فلسفات عصرنا: تياراتها، مذاهبها، أعلامها، وقضاياها، جان فرانسوا دورتيي، ترجمة إبراهيم صحراوي، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت - لبنان، الطبعة الأولى، ص265.
[3] من مقدمة: العرب والروم واللاتين في الحرب الصليبية، جوزيف نسيم يوسف، دار النهضة العربية، بيروت - لبنان، الطبعة الثالثة: 1981م، ص(ز).
[4] انظر: العرب والروم واللاتين في الحرب الصليبية، ص70.
[5] انظر: العرب والروم واللاتين في الحرب الصليبية، ص77.
[6] النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية، حسين مروة، دار الفارابي، بيروت - لبنان، 1978م، ج1، ص222.
[7] انظر: النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية، ج1، ص232.
[8] انظر: النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية، ج1، ص381.
[9] النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية، ج1، ص457.
[10] النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية، ج1، ص457.
[11] نقد الفكر الديني، صادق جلال العظم، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت - لبنان، الطبعة الثانية: 1970م، ص11.
[12] حرية الاعتقاد في الإسلام ومعترضاتها: القتال، الذمة، الجزية، وقتل المرتد، عدنان إبراهيم، معهد الاستشراق، جامعة فيينا - النمسا، إشراف: روديغر لولكار، ص1131.
[13] انظر: حرية الاعتقاد في الإسلام ومعترضاتها، ص1144.
[14] انظر: تناقضات منهجية، يوسف سمرين، مركز دلائل، الرياض - السعودية، الطبعة الأولى: 1428هـ، ص10.
[15] من الاجتهاد إلى نقد العقل الإسلامي، محمد أركون، ترجمة: هاشم صالح، دار الساقي، بيروت - لبنان، الطبعة الأولى: 1991م، ص69.
[16] انظر: الفكر الإسلامي.. قراءة علمية، محمد أركون، ترجمة: هاشم صالح، مركز الإنماء القومي، بيروت - لبنان، الطبعة الثانية: 1996م، ص25.
[17] انظر: الفكر الإسلامي.. قراءة علمية، ص24.
[18] تاريخية الفكر العربي والإسلامي، محمد أركون، ترجمة: هاشم صالح، مركز الإنماء القومي، بيروت - لبنان، الطبعة الثانية: 1996م، ص18.
[19] انظر: تاريخية الفكر العربي والإسلامي، ص9.






ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رد مع اقتباس
  #4  
قديم 07-10-2018, 06:54 AM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود غير متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 55,968
29 معركة الوعي: كيف نقرأ تاريخنا؟

معركة الوعي: كيف نقرأ تاريخنا؟
ـــــــــــــــــ

(محمد شعبان صوان)
ــــــــــــ

26 / 10 / 1439 هــ
10 / 7 / 2018 م
ـــــــــــــ





• مقدمة: المعركة في ميدان التاريخ:
--------------------

يلاحظ متتبع وسائل الإعلام والرأي العام في بلادنا أن الحوار في جانب التاريخ ساخن جداً، فبين التقديس المطلق الذي يعتقد أن نقاء التاريخ من أي شائبة هو ملاذ كرامتنا في واقع يتميز بالبؤس من جميع الجهات، والاحتقار المطلق الذي يظن أن بؤس الواقع هو النتيجة الحتمية لماض ليس فيه أي إيجابية، تقف الأجيال الباحثة عن مخرج اليوم من البؤس نفسه في طيف واسع من ألوان المواقف بين هذين النقيضين، وما لا شك فيه أن ميدان التاريخ هو إحدى الساحات المهمة في معركة التغيير، لأنه بناء على الموقف منه يتحدد المسار: هل بالتبعية لما جاء من الخارج؟ أم بالركون عملياً إلى انتصارات الأمس؟ أم باتخاذها حافزاً لتحقيق ما حققه الأسلاف؟ وكيف؟ هل بالبحث عن سبل لتكرار نفس النماذج الماضية؟ أم بالبناء فوق ما شاده الأسلاف؟

وبسبب أهمية هذا الميدان نلاحظ الرعاية السياسية على أعلى المستويات التي يوليها الغرب لبعض الرموز التي تطعن في تاريخ الإسلام باسم الحرية غير الممنوحة لمن يحاول ممارسة الحرية نفسها في زوايا أخرى من ميدان التاريخ نفسه، وقد يتعرض - بقوة الرأي العام بل بالقانون - لحرب شعواء تنال من كرامته وحريته وسمعته ورزقه، كما نلاحظ التركيز الشديد من مثقفي السلطات العربية على تشويه مراحل تاريخية سابقة لتلميع صورة الأوضاع الحالية، حيث يراد إفهامنا أن صلاح الدين الذي حرر بيت المقدس أسوأ من المستبد الذي يخدم محتلي بيت المقدس، وعبد الحميد الذي لم يتنازل عن شبر من فلسطين أسوأ من الذي يلهث خلف الاستعمار ليقبل مصادقته على التخلي عن ثلاثة أرباع فلسطين.

وبعيداً عن الإجابة عن السؤال النهضوي الكبير: «من المسئول عن تخلفنا وتقدم غيرنا؟»، نلاحظ أن المعركة المحتدمة على الساحة التاريخية تتميز بعدم الإنصاف في قراءة تاريخنا إما بالجهل أو الإهمال أو الازدواجية أو تحميل الماضي أكثر من الحمل الطبيعي أو المبالغة في جلد الذات وغير ذلك من السلبيات التي يجمعها رابط واحد أنها لا تتفق مع الطريقة التي يقرأ بها العالم المتطور تواريخه، برغم أن الهدف من تلك القراءة المنحرفة الجارية على ساحتنا هو اللحاق بالعالم في عصرنا، ولو كان هذا الهدف صادقاً لتعلم أربابه التقليد جيداً وقرأوا التاريخ كما يقرأه معلموهم وما شطحوا تلك الشطحات التي لا يظهر منها سوى الرغبة الجامحة في محق الذات أمام الآخرين لا بسبب فراغ المحتوى التاريخي بل بسبب عدم بذل الجهد المطلوب لإدراكه، فمن يختزل تاريخ الإسلام كله بالعمرين (ابن الخطاب وابن عبد العزيز رضي الله عنهما) لا يمكن أن يكون قد اطلع على أي كتاب موسوعي غربي عن الحضارة الإسلامية فضلاً عن أن يكون حكمه أكاديمياً أو حتى ثقافياً، بما يوضح كسلاً في الهمة في الوقت نفسه الذي يطالب فيه صاحبه الأسلاف بتحقيق المعجزات التي تحقق كثيراً منها بالفعل ولكن فتور الهمة هو الذي يجعلنا نجهلها ثم نطالب أجدادنا، بجرأة واضحة، بنشاط نعجز نحن عن بذل عُشره، لا في بذل الجهد مثلهم، بل لمجرد التعرف على ما أنجزوه، نقول إنهم كسالى والتهمة تنطبق علينا وحدنا، فما هي التحديات أمام قارئ التاريخ الإسلامي اليوم والباحث فيه؟

النظرة غير الشاملة للأحداث:
===============

هذا هو العيب الرئيس الذي يقع فيه قارئ التاريخ، فإن وجد حدثاً إيجابياً عممه على كل زمن فاعله، أو إن قرأ عن حدث سلبي عمم صفات القدح والذم على دولة امتدت قروناً دون أن يبحث في تفاصيل الحدث ولا حجم موقعه في التاريخ، ومن أوضح الأحكام الجاهزة التي تطلق في هذا السياق الحديث عن مجزرة أرمنية ارتكبها العثمانيون بوحشية ضد شعب آمن، دون محاولة التساؤل لماذا وقع هذا الحدث بعد قرون من التعايش السلمي، التي على الأقل لم نسمع فيها عن نظير لهذا الحدث الكبير في مسيرة تاريخية تختلف جذرياً عن علاقة الأمريكيين بالهنود الحمر مثلاً والتي طبعها العنف من البداية إلى اليوم؟ ما هو العامل الذي طرأ وتسبب في هذا السيل من الدماء المعروضة؟ ولا شك أن البدء بالإجابة عن هذا التساؤل سيقود القارئ إلى حقائق مذهلة، ثم يأتيك من يزعم أن غزوة بني قريظة هي إبادة جماعية كالإبادات الغربية! هكذا بتعميم لا يأخذ بالحسبان الفرق الهائل بين الصورتين الكبيرتين: مسيرة تاريخ اليهود المزدهرة في العالم الإسلامي على امتداد التاريخ الإسلامي ومسيرة تواريخ الشعوب التي أبادها الغرب ولم تشهد أي ازدهار، دون أن نجرؤ ونطالب مثلاً بتطبيق المعايير نفسها التي تجعل من يتغنى بالشعوب الديمقراطية التي اتخذت قرارات الإبادة والاستعمار والاسترقاق والنهب بطريقة ديمقراطية؛ يحاول تطبيق المعيار نفسه على الحدث القرظي ليرى من الذي اتخذ هذا القرار ومن كان يمثل في مجتمع الأنصار حتى ولو كان الحدث لا يعجب القارئ، ومثل هذا الاجتزاء من يظن أن الاعتراف «باحتلالنا» الأندلس هو علامة الرقي التي علينا أن نقدم عليها حتى تكون مقاومتنا للاحتلال الصهيوني مشروعة، ويغفل صاحب هذه النظرية عن الفرق الهائل بين الظاهرتين، وهو أن فتح الأندلس لم يؤد إلى إبادة ولا تهجير أهلها الأصليين وأن معظم المجتمع الإسلامي في الأندلس كان من السكان الأصليين مثل كل المجتمعات الإسلامية الأخرى من إندونيسيا إلى مالي وهم الذين حملوا عبء المقاومة الموريسكية ضد تغيير الهوية الإسلامية لشعب الأندلس، فتشبيه فتح الأندلس بالاحتلال الصهيوني فروسية في غير مكانها ولا حتى زمانها، في وقت يرفض العالم الغربي كله الإقرار بكون الصهاينة محتلين في أرض فلسطين، وعلى هذا فإن ما يتصوره البعض سمواً أخلاقياً بتقديم هذا الاعتراف بما يخص الأندلس ليس سوى استسلام مجاني بلا مقابل، وهناك من يقرأ في صحيفة - لو قرأ فعلاً - أن المسلمين أحرقوا مكتبة الإسكندرية حين الفتح، ولا يكلف نفسه البحث في تفاصيل الحدث الذي لم يستقر بعد على رأي معين، ولا يرى في السياق - حتى لو صدق هذه التهمة - أن حرق المكتبات ظاهرة بشرية عامة كتب الكثير عن تاريخها العالمي وما زالت ترتكب في زمننا المعاصر وترتكبها دول عظمى (احتلال العراق مثلاً) دون أن يجرؤ أحد على اتهامها بالتهم الجاهزة التي ألقيت على تاريخ المسلمين وكأن الحدث حصري فيه، وهي تهم بمجرد النظر نكتشف أنها لم تنطبق عليه قط فلا إحراق المكتبة - لو ثبت - يعني انتصاراً للجهل في حضارة أثبتت تفوقها العلمي في ذلك الزمن، ولا كان هذا الإحراق دليل اضطهاد في قطر احتل موقع الصدارة في معظم تاريخ المسلمين.

خلاصة الحديث أن الاستشهاد بالماضي يجب أن يكون شاملاً وليس مبنياً على الحوادث المعزولة، وعندما نريد الخروج باستنتاج عام لا يكفي أن نقول: فلان عمل كذا، للاستدلال على نتيجة عامة، لأن الصورة الأوسع قد تحتوي على تفاصيل أخرى تقلل من أثر العمل السلبي أو الإيجابي المستشهد به وربما قلبت الاستنتاج رأساً على عقب، فمن آفات البحث التاريخي الاختزال؛ يأتي المؤرخ المزيف ويركز على نقطة واحدة من إحدى حقب التاريخ ويعممها على الفترة كلها متناسياً النقاط الأخرى.

عدم وضع الحوادث في سياقها الزمني:
==================

هذا العيب في القراءة يجعلنا نحاكم الماضي وفق ظروف الحاضر التي لم تكن على بال الماضين، فيأتيك من يرفض الفتوحات الإسلامية في زمن كان الفتح هو المنطق السائد في كل العالم، ومن لا يعرف فليتذكر سيرة الروم والفرس، والواجب هنا هو قراءة الحدث في زمنه كيف تم وبأي شروط؟ هل أفضل أم أسوأ من الآخرين؟ وليس بفرض قيم زمننا الخيالية التي لا يلتزم واضعوها بها ويمارسون الفتح يمنة ويسرة ثم ينعتوننا بأننا المخطئون بسبب ما حدث قبل أكثر من ألف عام وهم يمارسون أسوأ منه اليوم، والكلام نفسه ينطبق على تشبيه الفتوح الإسلامية بالاستعمار الغربي، وهي مفارقة تاريخية تخلط الأزمان ببعضها وتحاول إسقاط ظاهرة حديثة على ماض لم يفكر أصلاً بها كما أنه يختلف جذرياً عنها بطريقة لا تحتاج نظراً ثاقباً؛ وذلك عند معاينة بقاء كل الشعوب الأصلية التي دخلتها الفتوح الإسلامية في مقابل الإبادات الشاملة التي وقعت في ثلاث قارات من العالم دهمها الاستيطان الغربي، هذا إذا لم نلحظ أن الغالبية العظمى من الشعوب التي دخلتها الفتوح اعتنقت هوية الفاتحين بلا إرغام في معظم الحالات في فترة امتدت لألف عام، وصارت تحتفل بأعيادهم في ظروف تفوّق فيها المغلوب على الغالب خلافاً لمعظم الشعوب التي دهمها الاستعمار والتي صارت أعيادها هي أعياد فراق المستعمرين وجلائهم واستقلال الأقطار المحتلة عنهم بعدما لم تنل من الاستعمار سوى التخلف والنهب وانقسام العالم بين نخبة مرفهة مترفة وغالبية بائسة مفقرة، كل هذه فروق يمكن إدراكها بمجرد النظر ولكن الكسل المعرفي يجعل من الآراء الجاهزة سبيل تحصيل الحقيقة المطلقة دون بذل أي جهد، هم يرفضون أن نكون جزءاً من منطق ماضينا بالفتح، كما يرفضون أن نكون جزءاً من واقعنا اليوم بالوحدة والتكتل حيث تسعى كل الشعوب لذلك.

وهناك من يسقط همومنا الحالية ومعاناتنا من الصهيونية على الماضي ويلوم تاريخنا بسبب المعاملة الحسنة التي لقيها اليهود في المجتمع الإسلامي ليخرج بتركيبة عجيبة وهي أن تساهل تاريخنا هو الذي زرع الصهاينة في واقعنا، حتى ذهب بعض الحالمين إلى لوم السلطان صلاح الدين وتحميله مسئولية الاستيطان اليهودي المعاصر في فلسطين، فهل كان مطلوباً إليه ترك الحرب المحتدمة مع فرنجة كل أوربا والنظر في ما وراء حجب الغيب ليستعد لمعركة ستنشب بعد قرون طويلة ضد من كانوا في عصره مجرد أفراد من أقلية يهودية لا قيمة لها؟ دع عنك لوم العثمانيين برغم أنهم لم يسلموا شبراً واحداً للسيادة الصهيونية بما اقتضى إزالة سيادتهم على فلسطين، وهو زلزال أصاب المنطقة يشبه النكبة والنكسة كما يقول الدكتور وليد الخالدي، ثم إصدار وعد بريطاني لإنشاء الوطن القومي، ولا مانع لدى أصحاب هذا الرأي من جلد تاريخنا في موقع آخر لأنه لم يحسن معاملة الأقليات، وهكذا تتقلب الآراء والأقوال والجامع بينها هو الرغبة في الإدانة سواء أحسنا أو أسأنا، وهذا واضح عندما يتصدى مؤرخ لجلد التاريخ في الموضوع الفلسطيني وهو يصفق في الوقت نفسه للأنظمة التي خانت وفاوضت وتخلت وتنازلت وأقرت واعترفت على رءوس الأشهاد بالاستيطان الصهيوني في فلسطين.

ويتساءلون عن الأمية في زمن العثمانيين والجهل الذي فرضوه على بلادنا، وينسى صاحب السؤال حقيقة بادية كالشمس أنه يلقي بالتهمة على دولة عظمى استقرت على القمة قروناً طويلة، وأنها لا يمكن أن تكون بهذا الجهل المزعوم وهي تواجه الضربات من جميع الجوانب من دول كبرى وتنتصر عليها، ولكنه يطالب الأسلاف بأن ينشروا التعليم دون أن يبذل هو جهداً لتعليم نفسه فقط وقراءة الظاهرة في سياقها حيث إن افتقاد الشهادات لم يكن يعني قبل زمننا المعاصر الكسل والجهل والركود لأن العمل والاجتهاد لم يكن مربوطاً بجامعات بدليل أننا نلنا الكثير من شهاداتها العليا في هذا الزمن ولكننا لا نستطيع صناعة قلم رصاص بها فضلاً عن أن يكون لنا شأن بين الأمم كأسلافنا في زمنهم.

ويأتيك أيضاً من يخرج التاريخ من طبيعته البشرية ويتساءل بهدف التعجيز وليس الاستعلام: لماذا تخلى العثمانيون عن الأندلس؟ هكذا بحكم قاطع دون تكليف النفس مجرد فتح صفحات عن من بذلوا أعمارهم ودماءهم لإنقاذ الأندلسيين في زمن لم يكن المتاح فيه أكثر من ذلك (هل حاسب السوفيت لماذا لم يغزوا الولايات المتحدة دفاعاً عن فيتنام؟)، ولما هُزموا في وجه الاستعمار (هل سألوا عن انتصاراتهم حتى في زمن ضعفهم؟)، ولماذا لم يفعلوا ولماذا لم يقدموا؟ هو نفسه جالس في بيته يرفض القيام بالجهد ويحاسب الآخرين عن ظاهرة طبيعية جداً في تاريخ كل الحضارات والأمم والشعوب والبشر، وهي حدود الإمكانات وظاهرة الضعف بعد القوة، لا يعجب من العجيب فعلاً وهو استمرار دولة عظمى لمدة قرون أكثر من معظم الدول في التاريخ، ولكنه يعجب مما لا يتعجب منه وهو الهرم الطبيعي.

تحميل الماضي أوزار الحاضر:
===============

من العيوب الشائعة في مقابل إسقاط هموم الحاضر على الماضي تحميل الماضي أوزار الحاضر، فنحن متخلفون متعصبون منقسمون دمويون لأن هذا هو تاريخنا، ويأتيك بلحظات الفتن والحروب التي لا يخلو منها تاريخ أمة وكأنها خاصة فقط بأمتنا بين كل الأمم المسالمة الإنسانية العقلانية الديمقراطية المتطورة! مع أن هناك في الغرب من يرى وضع السلم الحالي فيه مجرد استثناء من تاريخ صراعات محتدمة، نعم مواطننا يطالب بالتطور دون أن يبذل جهداً لتطوير معارفه التي يجب أن تتساءل التساؤلات نفسها التي منها ما طرحه أكاديميون وساسة غربيون: إذا كان المسلمون متخلفين فعلاً فلماذا تدخل الغرب في كل مرة في العصر الحديث لتحطيم أي محاولة نهضوية في المشرق العربي الإسلامي بقوة السلاح؟ وإذا كانت الدموية صفة خاصة بالمشرق، فمن الذي صنع الحروب العالمية وحروب الإبادة والغزو والاستعمار والنهب في العصر الحديث؟ وإذا كان الدم صفة مشرقية فمن الذي أراق دماء الملايين في ثورات روسيا والصين التي تحظى بتقديس واسع؟ وإذا كان في المشرق معارك صفين والجمل، فماذا عن الحروب الأهلية التي اندلعت في العالم المتمدن في عصر العقل والأنوار وليس في العصور الوسطى فأتت على الآلاف بالجملة في كل مرة؟ وكيف يمكننا أن نحمل الماضي عنف الحاضر وقد رأينا أن العنف الصهيوني ظاهرة حديثة استغلت تراثاً يهودياً ظل هاجعاً آلاف السنين إلى أن طرأت مصالح استعمارية قرأته بانتقائية وخرجت بنتيجة لم تخطر ببال اليهود لقرون؟ فهل الظواهر العنيفة وليدة الماضي أم الحاضر الذي يستخدم الماضي مجرد ديباجة إعلامية تبريرية لأطماعه؟

تفسير التاريخ بالحفر في النوايا:
==================

نعم بهذا يشوهون أي إنجاز قائلين: كان هدف العثمانيين من التوجه نحو المشرق الهيمنة على العرب، هكذا لا دليل غير النية التي لم يطلع عليها أحد، دون الأخذ في الحسبان الواقع الموضوعي الذي أثبت ظواهر الهجوم الأوربي الذي بدأ من جهة الإسبان والبرتغاليين وطوق العالم العربي لولا النجدة العثمانية، أما أوربا التي تعلم أن كولومبس استهدف إحياء الحروب الصليبية والعودة إلى احتلال بيت المقدس كما صرح بنفسه، فلم تشوه الكشوف الجغرافية وما زالت تحتفي بإنجازاتها الضخمة، ونحن نرفض أي إنجاز، فإذا قام العثمانيون بمشاريع مواصلات ضخمة قلنا إن هدفهم إحكام قبضتهم على بلادنا، وكأن المطلوب من أي دولة إرخاء قبضتها على أراضيها وتركها لقمة سائغة للأعداء لاسيما في زمن الهجوم العام، أما أن يكون إنشاء شبكة المواصلات في الولايات المتحدة لأسباب استيطانية وعسكرية فهذا ما لم يلفت انتباه أحد إلا للتبجيل والمديح، وإذا لم يقم العثمانيون بهذه المشاريع قلنا عزلونا عن العالم!

الفهم غير الصحيح لقاعدة المقارنة التاريخية بين الحضارات:
-----------------------------------

تشيع المقارنة الحضارية في الأوساط الشعبية كالتالي: مقارنة النموذج الداخلي الغربي بالواقع الشرقي دون تحديد دقيق للمسئوليات، نعم فالغرب ديمقراطي إنساني عقلاني دون معرفة التكاليف التي أوصلته إلى هذا المستوى، والتي يكون فيها اضطهاد القائم بالمقارنة، فهو وأمته وبلاده جزء أساسي من المعادلة التي أوصلت الغرب إلى هذه الرفاهية، فحصول 20% من سكان الأرض على 80% من مواردها يعني بلا شك أن يحصلوا على حياة مرفهة يتطلع كل الناس للانضمام إليها دون معرفة أن هذه الرفاهية قائمة أصلاً على نهبهم، فهم يرون واقع الغرب في داخله ويشطبون مسئوليته عن الأوضاع في الخارج برغم قوته وهيمنته وسيطرته العالمية، أما على مستوى الثقافة فإن المثقف يرى الغرب في كتب النظريات: هناك حرية وديمقراطية وإنسانية وعقلانية وعلمانية، دون البحث عن تكاليف تطبيقاتها العملية التي تطلبت إبادة ثلاث قارات (الأمريكتان وأستراليا) واستعمار الرابعة (آسيا) واسترقاق الخامسة (إفريقيا)، حتى استقر الأمر اليوم على معادلة النهب السابقة التي سعى إليها الغرب منذ نهضته وتقسم العالم بين نخبة مرفهة وأغلبية مقهورة بالنظام العالمي والقانون الدولي، والعصا لمن عصى، هذه التكاليف لا يراها المقارن ويقتصر على وضع النظريات البراقة في مواجهة سلبيات واقعية أو مضخمة من تاريخ الإسلام، مع أن المفروض هو مقارنة نظرية بنظرية أو واقع بواقع كما قال المفكر الكبير روجيه غارودي، ولا يجوز أن تكون الأحكام مزدوجة فنذم الدولة العثمانية بسبب ضريبة الدوشرمة التي كانت تجمع الأولاد من شرق أوربا لتعليمهم وترقيتهم في السلك الوظيفي والعسكري العثماني، وإن كان ذلك بأسلوب مرفوض شرعاً بسبب فرض الإسلام عليهم، وفي الوقت نفسه أن نعلي من شأن الثورة الصناعية الغربية برغم كل الأذى الذي ألحقته بالأطفال العمال الذي بدأ بعدما انتهى العمل أصلاً بالضريبة العثمانية، ولا يجوز أن نختزل التاريخ العثماني في عادة قتل إخوة السلطان ونترك الممارسة نفسها في التاريخ الإنجليزي الذي لا يحصل إلا على التبجيل والترفيع.

ولهذا فإن أنصار التغريب عادة ما يقدسون نموذجاً غربياً مثالياً لا وجود له في الواقع ويطالبون الآخرين بنفس الدرجة من تقدسيه الذي لا يمكن أن يقوم إلا على الجهل؛ لأننا لو حاولنا البحث سنجد أن العيوب نفسها التي عابوها على تراثنا وتاريخنا حقاً أو افتراء، موجودة نفسها في تواريخ الآخرين، ولكن معظم الانحرافات الكبرى في تاريخ الإسلام (الحكم الوراثي، التعالي العربي ونقيضه الشعوبي، تجاوزات معاملة الرقيق) تمت ضد الشريعة الإسلامية، ومعظم الانحرافات في تاريخ الغرب (العنصرية وحروب الاستعمار والإبادة ونشر الأفيون والاسترقاق والاستغلال والنهب والديون وتفكيك المجتمعات وتدمير وسائل معيشتها وجعلها تابعة وإدامة تخلفها) تمت بسبب الفكر الغربي النفعي وبعيداً عن الشعوذة الفكرية المطالبة بآلية تصحيح الأخطاء ذاتياً ومنع الانحراف بمؤسسات لا يبدو أنها قدمت الكثير لضحايا التاريخ الغربي نفسه، في الوقت الذي لم تصمد فيه طويلاً عدة انحرافات في تاريخ الحضارة الإسلامية، وإذا كان الإسلام «لم يوقف» انحرافات أتباعه فإن الحضارة الغربية شجعت انحرافات أتباعها ولا يبدو أنها قادرة على أكثر من تحديث أشكال الانحراف لا إلغائها، فمن الاسترقاق إلى الاستعمار إلى التجارة الحرة، وفي كل مرة تنتهي مصيبة وتبدأ مراجعتها والبكاء على ضحاياها تبدأ طامة أخرى دون أن نرى نهاية لهذا النفق المظلم في معاملة الآخرين والتي توثقت بإلصاقهم برتبة «العالم الثالث» الذي مازال في مكانه ودرجته المتأخرة المنفصلة بعالم افتراضي كامل (العالم الثاني) عن الجنة الغربية النخبوية الحصرية بعد زوال القطبية الثنائية، بل لقد كانت هذه القطبية حافزاً للمعسكرين على التنافس في تقديم الإغراءات والامتيازات للمتأخرين (كما حدث في اليابان)، وهو ما لم تعد إليه حاجة اليوم، في الوقت الذي يضمن فيه ثبات القيم الإسلامية استمرار مرجعية تتجاوز ترسيخ الانحرافات عبر التاريخ وتدعو باستمرار لتطهيره منها مهما طال زمنها كالحكم الوراثي الذي لا يصلح أي تبرير بهلواني في إلصاقه بالأحكام الشرعية.

يظن البعض أن كون الحضارة الإسلامية كانت عظيمة وسائدة يعني أن ليس فيها عيوب وثغرات، وأن التطرق إلى هذه العيوب يعني شطباً مطلقاً ونزولاً إلى الهاوية، وليسوا مستعدين لسماع أن بعض حكام الدولة الأموية مثلاً فرضوا الجزية على من أسلم من غير العرب محافظة على إيرادات الدولة، وهي حقيقة ثابتة نجدها في جميع الكتب التي أرخت لحياة الخليفة الراشد الخامس عمر بن عبد العزيز الذي ألغى هذا التجاوز لأن الله بعث محمداً هادياً ولم يبعثه جابياً، ولكن علينا أن نتذكر ونحن نتحدث عن هذا التجاوز أن تبني العصبية العربية أفضى إلى نهاية الدولة في عمر رجل واحد (92 سنة) ثم تسلم الأعاجم راية المشروع الإسلامي وحملوه على أكتافهم حتى تنحى العرب في النهاية عن السلطة لصالح من هم أكثر حماساً منهم، دون أن تتوقف مشاركة أحد في المسيرة، إذن قامت دورة الحضارة الإسلامية بتصحيح الخلل من الداخل وفي النهاية اندمجت كل المجتمعات التي فتحها المسلمون في منظومتهم ولم يعد هناك تراتبيات عرقية، بل وجدنا عواصم الحضارة الإسلامية تنتشر خارج المهد العربي في سمرقند وبخارى ونيسابور وأصفهان وقرطبة ودلهي وغزنة والقيروان وفاس وإسطنبول والقاهرة وتمبكتو، ولم يتم قمعها لصالح أي استغلال عربي كما فعل الاستعمار الغربي.

إن على من يكيل المديح للجنة الغربية أن يعرف بالضبط مكانه منها، أي مكان أمته وبلاده وأهله، لا مكانه الفردي بصفته قادراً على الدخول في خدمة هذه العزبة أو الالتحاق بها عبر أمواج البحر، وأن يعرف ما يقدمه صاحبها لنشر الرخاء في العالم حوله وليس في بيته فقط وعلى حساب الآخرين، أما بغير ذلك فسنظل كالضحية التي تتباهى بما أنجزه اللص بمسروقاته من ممتلكاتها (أعجب كثيراً من ضحايا يقعون تحت الاحتلال الصهيوني ويفاخرون بإنجازات الغرب مع أن من أهمها اختلاق الكيان الذي يضطهدهم ويقتل ويشرد وينهب شعبهم وكأنهم بتباهيهم بتقنية الغرب يبيعون أوطانهم بجهاز هاتف جوال!

• أهمية القراءة في تفعيل الثقافة التاريخية العامة ومعالجة الثغرات في قراءة التاريخ:
-----------------------------------

القراءة هي وسيلة التحصيل الثقافي التاريخي الأضمن، ومن يريد الاطلاع على التاريخ وامتلاك ناصيته ويتمكن منه عليه أن يقرأ كثيراً في الكتب والمراجع المتخصصة ويطلع على مؤلفات لمؤرخين ذوي توجهات مختلفة، حينئذ سيقرأ الحدث الواحد من أكثر من زاوية ويتمكن من معرفة الثمين من السقيم من الأقوال المتعلقة بتفسيره وما هو الصحيح والمكذوب والضعيف من الوقائع المتصلة به كما سيعرف الحدود التي يمكن الذهاب إليها في تفسير الحدث حتى لو كانت بعيدة الاحتمال، وقد يقوم بالتحقيق في الحوادث كما يفعل شرطي التحري ليستخرج الحقيقة من أكوام الزيف، والاعترافات مما بين السطور، وهذه هي أكثر الطرق وثاقة للحصانة الثقافية عند العقول الراجحة، والأهم من كل هذا سيتعلم القارئ كيف تكون آداب العلماء وطريقة عرضهم للمعلومات بتوثيق مكثف وخلق رفيع يجعلهم كلما ازدادوا علماً زاد يقينهم بجهلهم، وبغير سعة الاطلاع هذه ستكون المصادر إشاعة من هنا، ومشهداً تلفزيونياً من هناك، وسطراً منحولاً من هذا، وكذبة من ذاك، أي باختصار ستكون الثقافة التاريخية مشوهة وتجعل صاحبها يخبط خبط عشواء ويأتي من البدع ما يخرج عن طبيعة التأريخ نفسه فضلاً عن الخروج عن طبيعة سرد الواقعة موضع الحديث، والمصيبة أن المتحدث بذلك الجهل يظن أنه يتكلم بلسان الحقيقة النهائية التي لا مرد لها، ويدافع عنها بكل وسيلة ممكنة ويصبح اللجوء حينئذ إلى العنف الكلامي والبذاءة اللفظية فضلاً عن السخرية والتهكم بالمخالف هو النتيجة الطبيعية والتعويض المنطقي عن قلة استعمال البضاعة الثقافية وذلك في محاولة لفرض الرأي الشخصي وسيتحول الحوار من زمالة نحو معرفة الحقيقة إلى حلبة مصارعة كلامية حرة يكون الهدف فيها هو الظهور والانتصار والغلبة بالضربة القاضية فننسى الهدف الرئيس بل تكون الحقيقة هي الضحية الكبرى وتستمر طاحونة الجهل والتخلف في طحننا بين دواليبها.






ـــــــــــــــــــــــــــــــ
رد مع اقتباس
  #5  
قديم 07-10-2018, 07:01 AM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود غير متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 55,968
ورقة نظرة المستشرقين والمستغربين.. للنص التاريخي

نظرة المستشرقين والمستغربين.. للنص التاريخي
ـــــــــــــــــــــــــ

(د. عثمان سعيد العاني)
ــــــــــــ

26 / 10 / 1439 هــ
10 / 7 / 2018 م
ـــــــــــــ







الشرق مصدر النور، ومولد الحضارات، وأصل الديانات، وملتقى القارات القديمة، ومجمع الحكايات، ومنطلق البدايات، ومفترق النهايات، ومصدر المعرفة، ومنبع الحكمة.. فيه يتحرك «بندول» ساعة الزمان، فيتحرك التاريخ معه من الشرق إلى الغرب، لتظهر حضارات وتفنى أخرى!

ولا يخفى أن شمس الحضارة الإسلامية حينما أشرقت غيرت معالم البشرية وأثرت في مسارها فأنارت الدنيا بعدلها وعلومها، فهي تميزت بكونها حضارة تتفاعل مع محيطها، وتتحرك بانسيابية مثل انسيابية الماء الذي يعلو أرضاً يبست فتمزقت، ليحولها إلى خضراء يانعة، تؤتي أكلها كل حين؛ وبعضها لا يقبل الماء لكونها أرضاً سبخة لا تنبت شيئاً[1]، فكان للإسلام أثره فقد نقلتْ القيم الإسلامية العرب والعجم من حياة محدودة إلى حضارة منشودة، ومن عصبية التفكير إلى عالمية التأثير، لتكون قيم الإسلام هي الغاية التي تسعى إليها الإنسانية[2].

ولهذا فإن الحضارة الإسلامية حكم على غيرها، لكونها حضارة عامة لكل الناس شاملة لكل الفنون، متسلسلة في مسارها، عميقة من حيث جذورها، أصيلة في منطلقها، شاملة بتأثيرها، حضارة بشرية استمدت قوتها من عقيدة الإسلام، ومن فتوى الفقهاء، وتجارب أهلها، فينزل الفقه إما لتحقيق مصلحة أو دفع مفسدة[3].

ولذلك كانت الحضارة الإسلامية أول ميدان يستهدفه المستشرقون من الغرب، والمستغربون من الشرق، فيخضعونها من حيث الحكم إلى نتائج قامت على مقدمات دراسية لحضارة أخرى أوربية كانت أو شرقية، وهي لا ترقى أن تكون مثل الحضارة الإسلامية من حيث الرفعة والعلو، فضلاً أن تكون تلك الحضارة حَكَماً عليها، ثم ينطلق المستشرقون وأتباعهم من بعد استهدافهم للتاريخ إلى استهداف الفقه ثم الحديث ثم القرآن الكريم، فتنهار منظومة الحضارة الإسلامية بانهيار قيمة الفقه الإسلامي لكون الحضارة الإسلامية هي المخرج التطبيقي والعملي لحركة الفقه الإسلامي الاستنباطية من تفاعل جمع نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية مع التفكير.

والفرق بين ذات المستشرقين والمستغربين يكمن في جغرافيا المكان من حيث النشأة، مع بعض الفروق المنهجية في طرق النظر في الحضارة الإسلامية.

نجد الأستاذ إدورد سعيد يبين «الاستشراق» بقوله: «أسلوب تفكير يقوم على التميز الوجودي والمعرفي بين ما يسمى الشرق، وبين ما يسمى - في معظم الأحيان - الغرب»[4].

وأما التعريف الخاص للاستشراق بأنه: «تعبير يدل على الاتجاه نحو الشرق، ويطلق على كل من يبحث في أمور الشرقيين وثقافتهم وتاريخهم؛ ويقصد به ذلك التيار الفكري الذي يتمثل في إجراء الدراسات المختلفة عن الشرق الإسلامي، والتي تشمل حضارته وأديانه وآدابه ولغاته وثقافته»[5]، وقد نشأ الاستشراق مبكراً بعد الحروب الصليبية بعوامل سياسية ودوافع دينية[6].

ويعرف الاستغراب أو التغريب بأنه: «تيار فكري كبير ذو أبعاد سياسية واجتماعية وثقافية وفنية، يرمي إلى صبْغ حياة الأمم بعامة، والمسلمين بخاصة، بالأسلوب الغربي، وذلك بهدف إلغاء شخصيتهم المستقلة وخصائصهم المتفردة وجعلهم أسرى التبعية الكاملة للحضارة الغربية»[7]، ولهذا ولد من «الاستغراب» الأفكار الليبرالية والعلمانية وغيرها، وهي بذلك تمهد لنظرية النظام العالمي الجديد[8]، لتكون القيم الغربية «الأمريكية» أصلاً تحتكم إليه الشعوب، وتحكم أمريكا به، والمعيار الذي يقاس عليه الرقي والتقدم[9]، فتوضع الخطط والبرامج لدول الشرق بحسب ما يوافق القيم الأمريكية الخاصة بالشرق، وتقوم السياسة على قراءة التاريخ بما ينسجم مع تلك القيم[10].

ويمكن أن نحدد المنطلقات الذاتية الدافعة والمحركة لحركة المستشرقين والمستغربين من خلال تحليل البيئة المؤثرة في تكوين المستشرق والمستغرب، كما يلي:

١- الموقف من الدين: نجد أغلب المستشرقين ينطلقون من كونهم ينتمون إلى دينهم، فالعقيدة المسيحية وقراءة الكتاب المقدس بشقيه القديم والجديد، هي محور الدائرة التي ينطلق منها المستشرقون في الغالب، ويفترقون في كيفية التعامل مع مادة القراءة، لكنهم يحتكمون إلى قواعد حاكمة ملزمة لنتائج الدراسة[11].

وأما المستغربون فنجدهم ينطلقون من منطلقات ليست لها علاقة بالإسلام في أصلها، فهم في بحثهم لا ينطلقون من دائرة العلوم الإسلامية، ولا يعتمدون الرؤية الإسلامية في دراساتهم، لذلك نجدهم وإن اختلفوا في تعاطيهم للجوانب الحضارة الإسلامية بين لبراليين وعلمانيين وحداثيين وغيرهم، فهم متفقون في أهدافهم ويصلون لنتائج متقاربة؛ من رفض لنظريات الحكم في الحضارة الإسلامية، مع التشكيك في صلاحية الفقه الإسلامي في إدارة منظومة الحياة!

٢- الموقف من النص: نجد أغلب المستشرقين يأخذون بالنص دون النظر إلى صحته، وإذا صح عندهم فلا ينظرون إلى مصداقيته من حيث الموضوع، وذلك يرجع إلى تأثير الكتاب المقدس فيهم، فهم لا ينظرون إلى سند الكتاب المقدس، ولا ينظرون إلى مصداقية النص من حيث انطباقه على حقائق الأمور!

ومثلهم وقع المستغربون من الباحثين في ذلك فلم يتأثروا بمنهج القرآن الكريم مثل المستشرقين، بل كانوا في ذلك في مقام التابع لأي إثارة للشبهات دون مقام المتشبه في تقدس النص! ليكون مقام المستشرقين - برغم تعصبهم - أعلى من مقامه القائم على تشكيك المقدس، والفرق بين ثبوت النص القرآني وثبوت نصوص الكتاب المقدس معروف[12]، كما أخذوا بمنهج المستشرقين في النظر إلى الحديث، وكيفية إسقاط الخبر التاريخي الذي يفتقد إلى التثبت على الحضارة الإسلامية[13].

٣- مناهج البحث في المؤسسات المعرفية الغربية: قامت على دراسة الشرق من زاوية مبدأ «الشك المطلق» في كل شيء، مع التسليم الكلي لمسلك الغرب في التفكير، فيظهر دور أغلبهم كأستاذ ناقد، وليس كباحث متجرد، لكون طرق البحث في هذه المؤسسات في الغالب يتعامل مع معطيات الشرق بحسب التفسير المادي للتاريخ[14]، مع إهمال مقصود للبعد الروحي للقيم التاريخية الموجودة في المشرق المسلم[15].

ونجد المستغربين كذلك يسلك أغلبهم مسلك الشك والنقد والحكم المجرد على الأصول الواضحة [16] دون أن يستند في ما ينتج عنهم إلى قواعد تفكير ومعتبرة وأساليب بحثية مقررة.

فتكون نتيجة المنهجين، أن كل ما أنتجه الشرق الأصل فيه الشك والظن ما لم يقم دليل على قبوله! وعلى الضد منه أن كل ما أنتجه الغرب الأصل فيه القبول ما لم يقم دليل على إعمال الشك فيه! فنجد الباحثين المستغربين يجعلون من أقوال المستشرقين والغربيين مصدراً يلهمهم ويرشدهم، عندها تكون الدراسة معتبرة من حيث الجودة، ولها أثرها من حيث التطبيق[17]!

٤- أثر الدولة على نوع الدراسة[18]: نجد أثر القرار السياسي يظهر في نوع الدراسة ونوع الطلاب الذين يدرسون الشرق (الإسلام)، ولهذا نجد أن هناك فرقاً بين التفسير «المثالي للتاريخ» متمثلاً بما كتبه هيجل، والتفسير «المادي للتاريخ» متمثلاً بما كتبه ماركس، والتفسير «الحضاري للتاريخ» متمثلاً بما كتبه تونبي[19]، مما يولد لنا نظريات لا تقوم على أصول يحتكم إليها، وهذا ما توصل إليه أوزوالد شبنجلر وأرنولد توينبي[20]، وكذلك باول شمتز[21].
ومثل ذلك نجد حركة الاستغراب، والتي تأثرت أيضاً بالقرارات السياسية، والمؤسسات البحثية الموجهة فكرياً، فأغلب البعثات التي أرسلت إلى الغرب رجعت وهي متأثرة بالغرب وتدين له بالولاء[22]، ليولد جيل من خريجي الغرب كجيش يحتل مقاعد التدريس في الجامعات العربية[23].

ويمكن أن نحدد عناصر الافتراق بين المنهج الاستشراقي والاستغرابي من جهة والمنهج الإسلامي في التعامل مع التاريخ بما يلي:

١- المنهج الإسلامي ينطلق من ضوابط تضبط مصادر المعرفة من حيث أصلها ونشوئها، وكذلك يضبط القواعد المؤسسة للبحث في هذه المصادر؛ فنجد علم الحديث وضبط الرجال أصلاً في ضبط نقل النص؛ وقواعد الاستنباط هي المرجع في تخريج الحكم من النص، وكل خبر تاريخي يفتقد إلى شروط الخبر الصحيح لا يعد ولا يعتبر في الحكم، لكون مصداقيته محط نظر، وقابلة للأخذ والرد؛ بينما نجد الباحثين المستغربين والمستشرقين ينظرون إلى النص التاريخي على أنه أصل يرجع إليه في الحكم على الإسلام وحضارته، مهما كان هذا النص ومهما كانت فحواه.

ولهذا وجب إعمال قواعد التحري التي وضعها أهل الفقه وعمل بها القضاة في تحري الدعوى، فكل دعوى من باحث لا تخضع لضوابط معتبرة فهي مردودة مرفوضة، وهذا الأصل لا يدركه من سلك منهج الغرب في بحثه، فنجد مثلاً الإمام الغزالي يضع قاعدة تحكم الأخذ بالتاريخ (الزمن) في ضبط النتائج قائلاً: «إِنْ أَشْكَلَ التَّارِيخُ، فَيُطْلَبُ الْحُكْمُ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ»[24]، فمثل هذه القواعد التي تناثرت في كتب الفقه الإسلامي تحتاج إلى جمع، ولهذا يدخل التاريخ كضابط للحركة المعرفية للأحكام، قال الإمام السرخسي: «طلب التَّارِيخ ليعلم بِهِ النَّاسِخ من الْمَنْسُوخ، وَإِذا لم يُوجد ذَلِك يَقع التَّعَارُض بَينهما»[25]، وإذا وقع التعارض دون مرجح ذاتي هنا يُبحث عن مرجح خارجي؛ هذا في ما يخص ترجيح الأحكام بكيف، فما يشترط في ثبوت النصوص من القرآن والسنة النبوية أشد من غيرها من النصوص، والحكم من على غيرها من حيث التدوين، فلا يقدم المظنون على الثابت، كما لا يقدم الشك على اليقين؛ ومثل هذا لا نجده في المنهج الغربي فالنص يثبت عندهم لكونه مقدساً مع غياب لمنهج ثبوته ونقده.

٢- مصادر المعرفة في الحضارة الإسلامية تنطلق من حركة العلوم الشرعية، والتي بدورها تؤثر في حركة العلوم الأخرى، وخير شاهد على أثر العلوم الشرعية في ازدهار العلوم الأخرى أننا لا نكاد نجد عالماً في الفقه إلا وكان عالماً في علم آخر من هندسة وطب وفلك وغيرها[26]؛ كما يظهر أثر هذه العلوم في تشريعات الحكم والدولة بشكل تراكمي وكمّي ونوعي من قوانين وطرق حكمية مع بيانها.

٣- عدم قدسية المنتج البشري الفردي الخاص، والحكم عليه من خلال نتاج الجهد البشري العام، المؤيد بظواهر النصوص؛ فلا قديسة إلا للنص.

فنجد أثر الاجتهاد البشري في إدراك العلوم معتبراً، لكن مدى قبوله يعتمد على الأثر، ولهذا فقدسية الأشخاص غير معتبرة، وعلى العكس من هذا نجد أن المستشرقين والمستغربين يقدسون بعض الأشخاص على حساب مصداقية المنتج الخاص بهم!

٤- الجزء ليس أصلاً في الحكم على الكل، فدائرة الحاكم ليست هي المعيار الذي نحتكم لما ينتج منه فيكون أصلاً في الحكم على الحضارة الإسلامية، لكون الحضارة الإسلامية هي منتج «جمعي» من جهة، وهي أيضاً منتج «كمي» تراكمي، فالسلطة للأمة من حيث العموم، وإدارة الدولة للحاكم من حيث الخصوص، والحكم على الخاص «خاص» من قبيل الاستثناء، والحكم على العام «عام» من قبيل القاعدة القابلة للقياس؛ فمفهوم السلطة في الحضارة الإسلامية لا ينحصر بالخليفة أو السلطان، فهو يتعدى إلى غيرهم، فمسؤولية العمل والحركة نابعة من ذات المجتمع، تؤثر بالسلطان، والسلطان يؤثر في جانب من الجوانب، لنجد أثر الفقهاء والمفكرين في حركة الحضارة الإسلامية، واستمراريتها واضح، هذا الأثر هو بمثابة خط التصحيح لمسار الدولة، وهو قريب من المجتمع أكثر من قربه من المؤسسة الرسمية.

هذا الفارق يغيب عند قراءتنا للحضارة الأوربية مثلاً، فقد ارتبطت بالدولة ومؤسساتها الرسمية والدينية، ولهذا يستخدم المستشرقون والمستغربون وحدة القياس الأوربية في الحكم على الحضارة الإسلامية، وهذا شذوذ في المنهج وخروج عن أصول البحث العلمي المتجرد، وهذا فارق يستحق الوقوف عنده.

يبقى هذا الموضع موضوعاً قابلاً للبحث والتوسع، فنحن بحاجة لقراءة قواعد للتاريخ شبيهة بالقواعد الفقهية، مع إدراك طرق استنباط أصيلة تساهم في مخرج يناسب العصر وحاجة الأجيال.

---------------------------------------------
[1] ينظر: زيغرد هونكه، شمس العرب تسطع على الغرب، ترجمة: فاروق بيضون، دار الجيل، بيروت، الطبعة الثانية: 1993م.
[2] ينظر ما كتبه: الشيخ إبي الحسن الندوي، ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟، مكتبة الإيمان، المنصورة - مصر؛ أحمد علي الملا، أثر العلماء المسلمين في الحضارة الإسلامية، دار الفكر، دمشق، الطبعة الثانية، 1981م.
[3] يقول ديونت: «إن قيام الحضارة الإسلامية واضمحلالها لمن الظواهر الكبرى في التاريخ. لقد ظل الإسلام خمسة قرون من عام 700م إلى عام 1200م يتزعم العالم كله في القوة، والنظام، وبسطة الملك، وجميع الطباع والأخلاق، وفي ارتفاع مستوى الحياة، وفي التشريع الإنساني الرحيم، والتسامح الديني، والآداب، والبحث العلمي، والعلوم، والطب، والفلسفة» وِل ديورَانت، قصة الحضارة، تقديم: الدكتور محيي الدين صابر، ترجمة: الدكتور زكي نجيب محمود وآخرين، دار الجيل، لبنان، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس، 1988م، ج13، ص382.
[4] إدورد سعيد، الاستشراق المفاهيم الغربية للشرق، ترجمة: محمد عناني، رؤية، القاهرة، 2006م، ص45.
[5] ينظر: الموسوعة الميسرة، أصدرتها: الندوة العالمية للشباب الإسلامي، الطبعة: الرابعة، 1420هـ، ج2، ص687.
[6] أول المستشرقين غربرت الفرنسي الذي أصبح بابا الفاتيكان باسم (سلفستر الثاني) (999-1002م، 389-393هـ) حيث درس في قرطبة. ينظر: عمر فروخ، المستشرقون ما لهم وما عليهم، بحث منشور: الاستشراق، دار الشؤون الثقافية، بغداد، العدد: 1، كانون الثاني، 1987م، ص54.
[7] ينظر: الموسوعة الميسرة، ج2، ص698؛ أنور الجندي، أهداف التغريب في العالم الإسلامي، سلسلة قضايا إسلامية معاصرة، يصدرها: الأزهر، القاهرة، ص3.
[8] تقوم نظرية فرانسيس فوكوياما على أن بعد صراع الحضارات سيتم غلبة حضارة الغرب على الشرق، تحت سلطة نظام عالمي جديد، ينظر كتابه: نهاية التاريخ وخاتم البشر، ترجمة: حسين أحمد أمين، مركز الأهرام، القاهرة، الطبعة الأولى، 1993م، مثلاً عند كلامه في مبحث: الثورة الليبرالية على النطاق العالمي، ص51، وكلامه عن الإسلام 56، وكلامه في مبحث: محاولة لكتابة تاريخ عالمي، ص65.
[9] ينظر ما كتبه هنري كسنجر عن المثالية الأمريكية ووجوب الإيمان بها وأنها أساس النظام العالمي الجديد: هنري كسنجر، الدبلوماسية من الحرب الباردة وحتى يومنا هذا، ترجمة: مالك فاضل البديري، الدار الأهلية، عمان - الأردن، الطبعة الأولى، 1995م، ص573 وما بعدها.
[10] فرق السياسي المعروف زيغنيو بريجنسكي بين السيطرة على العالم وقيادة العالم بالنسبة للنظام العالمي الجديد، لتتحقق القيادة للعالم عن طريق نشر العولمة وشيوع القيم، حيث يقول: «لا تمثل العولمة بالنسبة إلى النخبة السياسية والاقتصادية الأمريكية مجرد حقيقة ظاهرة للعين المجردة، بل هي معيار واضح. فهي توفر آلية تفسيرية ووصفة معيارية. وهي ليست مجرد أداة تشخيصية فحسب، بل برنامج عمل أيضاً. وهي النواحي المجتمعية للعولمة، في صيغة منظومة، ترتقي إلى مذهب يستند إلى التأكيد الأخلاقي الواثق من حتميته التاريخية»، الاختيار.. السيطرة على العالم أم قيادة العالم؟، دار الكتاب العربي، بيروت، 2004م، ص161.
[11] وهو يمثل بـ«الطغيان الديني» على الدراسات الغربية. ينظر: سفر الحوالي، العلمانية نشأتها وتطورها وآثارها في الحياة الإسلامية المعاصرة، دار الهجرة، ص128.
[12] ينظر نقد سند الكتاب المقدس: عثمان سعيد العاني، الأساطير اليهودية حول أرض المسجد الأقصى، دار النهضة، دمشق، الطبعة الأولى، 2010م، ص15-18، 28-41؛ وقد وقع في مثل التيه بعض مراجع الشيعة مثل أبي القاسم الخوئي، حيث ينفي التواتر في ثوابت القراءات القرآنية، ويثبته في القرآن الكريم! وهو لا يدرك طرق التخريج في هذا المسألة. ينظر: أبو القاسم الخوئي، البيان في تفسير القرآن، أنوار الهدى، إيران، الطبعة الثامنة، 1989م، ص156-160؛ ورد كل ما قاله من خلال تحري ما كتب في ضبط النص والقراءات عند سلف وخلف الأمة. ينظر: عبد اللطيف الخطيب، معجم القراءات، دار سعد الدين، دمشق، الطبعة الأولى، 2002م، ويقع في أحد عشر مجلداً؛ وكذلك: غانم قدوري الحمد، رسم المصحف، لجنة الاحتفال بمطلع القرن الخامس عشر الهجري، بغداد، الطبعة الأولى، 1982م.
[13] نجد مثلاً أن محمد أركون يسلك مسلك المستشرقين في كيفية التعامل مع الحديث النبوي، فيقع في سوء بحث وشذوذ تفكير، حيث يجعل ما دونه البخاري ومسلم في صنف واحد مثل ما دونه الكليني والطوسي. وعلم الجرح والتعديل علم خاص بالحضارة الإسلامية لا نجد مثله عند الشيعة أو غيرهم، وقد أدرك مثل هذا النقص المرجع الشيعي (أبو القاسم الخوئي: ت 1899-1992م) في موسوعته المشهورة: معجم رجال الحديث، مؤسسة الإمام الخوئي، النجف، الطبعة الأولى، في المجلد الأول، تحت مبحث «الحاجة إلى علم الرجال»، ص19، و«رواية الكتب الأربعة ليست قطعية الصدور» لوجود الكذابين والوضاعين، ص22، دون أن يدرك آلية كتابة الحديث وكيفية التدوين وكأن البخاري أو مسلماً أو غيرهما دونوا الحديث باجتهاد شخصي منهم وليس أنهم جمعوا ما أنتجه الاجتهاد الجمعي لمن سبقهم، وبقي ما دونه محل أخذ ونقد حتى تحول إلى مصدر من مصادر النصوص وليس مصدراً من مصادر الفتوى، لكون الفتوى تعالج النص بتحليل وضوابط استنباطية وأصولية، ثم يستخدم مصطلحات نصرانية للحكم على المخرج العلمي الإسلامي! مثل مصطلح اللاهوتية ومبدأ الأرثوذكسية في التدوين! هذا نموذج من خروجه عن المنهج العلمي الإسلامي. ينظر: محمد أركون، الفكر الإسلامي نقد واجتهاد، ترجمة وتعليق: هاشم صالح، دار الساقي، بيروت، الطبعة الرابعة: 2007م، ص107 وما بعدها.
[14] ينظر: سالم البهنساوي، تهافت العلمانية في الصحافة العربية، دار الوفاء، مصر، الطبعة: الأولى، 1990م، ص142.
[15] هو ما يسميه الدكتور عماد الدين خليل بـ«البعد الثالث»، الذي يتحرك بين ثنائيات متضادة أو متقاربة، فيكون بمثابة العامود الحامل لكفتي الميزان فيحقق التوازن المطلوب في التصور والحكم. ينظر: عماد الدين خليل، تهافت العلمانية، دار ابن كثير، دمشق، الطبعة الأولى، 2008م، ص118؛ يقول الدكتور عماد الدين خليل عند كلامه عن الحضارة الإسلامية: «إنها الحضارة التي قدرت، انطلاقاً من رؤيتها هذه، على أن تجمع في كل متناسق واحد: الوحي والوجود، والإيمان والعقل، والظاهر والباطن، والحضور والغياب، والمادة والروح، والقدر والاختيار، والضرورة والجمال، والطبيعة وما وراءها، والتراب والحركة، والمنفعة والقيمة، والفردية والجماعية، والعدل والحرية، واليقين والتجريب، والوحدة والتنوع، والإشباع والتزهد، والمتعة والانضباط، والثبات والتطور، والدنيا والآخرة، والأرض والسماء، والفناء والخلود». عماد الدين خليل، مدخل إلى الحضارة الإسلامية، المركز الثقافي العربي، المغرب، الطبعة الأولى، 2005م، ص59.
[16] نجد الجابري يحاكم تاريخ الحضارة باعتباره تاريخاً لمنتج مغلق منكفئ على ذاته، لا يقبل الانفتاح! علماً أن واقع المخرج التطبيقي الفقهي يشهد كيف تم استيعاب المتغيرات التي مرت بالحضارة الإسلامية، وهذا ما نتج من طرق إدارة الدولة في الحضارة الإسلامية لكل ما يتعلق بجوانب الحياة، لكن الجابري يجعل من تعميمه حكماً مسلماً به، يفتقد إلى بيان كيف استنبطه! ينظر مبحث «الدين والدولة في المرجعية التراثية»، محمد عابد الجابري، الدين والدولة وتطبيقات الشريعة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، الطبعة: الأولى، 1996م، ص57-63.
[17] يرصد هذا الاضطراب المنهجي لدى المستشرقين الدكتور محمد عابد الجابري في مبحثه «كيف نعيش عصرنا؟ كيف نتعامل مع تراثنا؟»، ليقع في اضطراب آخر! فيسلك مسلك المستغربين، ينظر: الجابري، نحن والتراث.. قراءة معاصرة في تراثنا الفلسفي، المركز الثقافي العربي، بيروت، الطبعة: السادسة، 1993م، ص14-26.
[18] وهو يمثل بـ«الطغيان السياسي» على الدراسات الغربية. ينظر: سفر الحوالي، العلمانية، ص133.
[19] ينظر: عماد الدين خليل، التفسير الإسلامي للتاريخ، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة الأولى، 1975م، ص23، 40، 70؛ فرانسيس فوكوياما، نهاية التاريخ وخاتم البشر، كلامه في مبحث:«محاولة لكتابة تاريخ عالمي» عن هيجيل وماركس، ص65- 74.
[20] حيث كتب أوزوالد شبنجلر كتابه «أفول نجم الغرب»، فنجد أثر هذا الكتاب في أفكار توينبي وفي كتابه «دراسة التاريخ». ينظر: فرانسيس فوكوياما، نهاية التاريخ وخاتم البشر، ص75.
[21] حيث كتب «الإسلام قوة الغد العالمية»، ترجمة: محمود شامة، مكتبة وهبة، القاهرة، 1973م.
[22] يروي لنا الدكتور عمر كيف عرض عليه المستشرق وليم مارسيه (1872-1956م) وولويس ماسينيون (1883-1962م) أن يعلموه مجاناً في باريس ويترك ألمانيا، «ثم إذا رجعت إلى بيروت.. وجدت منصباً ينتظرك»، فكان رد الدكتور عمر فروخ شديداً. ينظر: عمر فروخ، المستشرقون ما لهم وما عليهم، بحث منشور: الاستشراق، دار الشؤون الثقافية، بغداد، العدد: 1، يناير، 1987م، ص62.
[23] هناك مصادر يرجع إليها لبيان حركة التغريب، منها: محمد محمد حسين، الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر، المطبعة النموذجية، القاهرة، الطبعة الثانية، الجزء1، ص224-348، وقد ذكر فيها حركة التغريب وقادتها؛ أحمد فهد بركات الشوابكة، حركة الجامعة الإسلامية، مكتبة المنار، الأردن، الطبعة الأولى، 1984م، ص105-115؛ صابر طعيمة، أخطار الغزو الفكري على العالم الإسلامي بحوث حول العقائد الوافدة، عالم الكتب، بيروت، الطبعة الأولى، 1984م، ص207-219.
[24] أبو حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي حجة الإسلام (ت: 505هــ)، المستصفى، تحقيق: محمد عبد السلام عبد الشافي، دار الكتب العلمية، الطبعة: الأولى، 1993م، ص254.
[25] شمس الأئمة السرخسي: محمد بن أحمد بن أبي سهل (ت: 483هـ)، أصول السرخسي، دار المعرفة، بيروت، ج2، ص12.
[26] ينظر مثلاً متحف الحضارة الإسلامية في إسطنبول، وأثر حركة الفقهاء في تطوير العلوم. فؤاد سزكين، متحف إسطنبول لتاريخ العلوم والتكنولوجيا في الإسلام نظرة عامة، شركة إسطنبول، بلدية إسطنبول الكبرى، الطبعة الأولى، 2010م، حيث ذكر سزكين الصفات التي تميز الحضارة الإسلامية، وذكر منها: النقد المنصف، والاستعداد لذكر المصادر (الأمانة العلمية)، والتدوين المبكر، والموازنة بين النظري والعملي، والرصد المستمر، وتحصيل العلم من الكتاب والأستاذ معاً.




ـــــــــــــــــــــــــــــ
رد مع اقتباس
  #6  
قديم 07-10-2018, 07:10 AM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود غير متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 55,968
29 قراءة في فكر هشام جعيط ومنهجه

قراءة في فكر هشام جعيط ومنهجه
ــــــــــــــــ

(د. زبير خلف الله)
ــــــــ

26 / 10 / 1439 هـــ
10 / 7 / 2018 م
ــــــــــــــ




[IMG]http://www.theonlyquran.com/quran_****/29_48.png[/IMG]






يعد المؤرخ والمفكر التونسي د. محمد هشام جعيط من أهم المفكرين العرب الذين اشتغلوا ونقبوا في التاريخ الإسلامي وأعطوا أهمية كبرى لمناقشة جملة الإشكاليات المركزية في التاريخ الإسلامي وأهم مكونات الفكر الإسلامي والموروث الحضاري بشكل عام. ولعل من أهم القضايا المركزية التي تناولها دكتور جعيط مسألة نقد الشخصية العربية والثقافة الإسلامية والأزمات التي عاشها المسلمون وأهم الإشكاليات الكبرى التي واجهوها، كما تناول جعيط علاقة الإسلام بأوربا، وكذلك التركيز على التعمق في دراسة السيرة النبوية وشخصية النبي صلى الله عليه وسلم مستخدماً في ذلك المنهج التاريخي الذي تتداخل فيه جملة من العلوم الأخرى كالأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع وعلم النفس وعلم الأديان والفلسفة حتى يتسنى له تقديم قراءة أكثر موضوعية وبعيدة عن التحليل الإيماني الذي يرى فيه أنه محاولة لاغتيال الحقيقة التاريخية.
الظروف التاريخية التي شكلت فكر جعيط

لعل بعض القارئين لا يرون أهمية لهذا العنوان في هذه الدراسة لأن شخصية جعيط ليست هي المقصودة هنا في هذه الدراسة، ولكني أقول إنني أحاول أن أستخدم المنهج نفسه الذي اتبعه جعيط في قراءته لجملة الإشكاليات الفكرية والتاريخية والدينية في موروثنا الحضاري، فمعرفة الظروف التاريخية التي نشأ فيها جعيط ستساعدنا حتماً في فهم ملامحه الفكرية وأهم المصادر التي شكلت فكره وأثرت فيه سواء من داخل الحقل المعرفي العربي والإسلامي أو حتى من بقية الحقول المعرفية والمدارس التاريخية الأخرى التي كان لها الأثر الكبير في تشكيل رؤيته الفكرية والتاريخية.

جعيط الذي ولد سنة 1935م مفكر مخضرم عاش فترة الاستعمار الفرنسي والحرب العالمية الثانية ودرس في مدرسة الصادقية التي تختلف في منهجها التعليمي عن التعليم الزيتوني، كما أنه أكمل دراساته العليا في فرنسا وعاش مدة شبابه في أوربا، ولا شك أن جعيط تشبع بالفكر الغربي خلال وجوده في فرنسا مما جعله يتأثر بأهم المدارس التاريخية التي ظهرت في أوربا خصوصاً المنهج التاريخي الذي اعتمدته المدارس الاستشراقية الأوربية في دراستها للتاريخ الإسلامي ودين الإسلام ونصوصه المركزية. كما أن جعيط عاش مرحلة ما بعد الاستعمار أي في فترة الاستقلال وما نتج عنها من تحولات جذرية في بنية المجتمعات العربية والإسلامية، خصوصاً تونس البلد الذي يعيش فيه جعيط، والذي لم يكن منسجماً مع النمط السياسي البورقيبي وكذلك النمط المجتمعي الذي عاش فيه، برغم أن جعيط ينحدر من عائلة علمية وبرجوازية متدينة فهو ابن عبد العزيز جعيط شيخ جامع الزيتونة والذي كان مختلفاً مع بورقيبة صاحب المشروع الحداثي الساعي إلى بناء تونس على النمط الأوربي. كل هذه الظروف كان لها الأثر الكبير في تشكيل النسيج الفكري لهشام جعيط وحركت فيه الرغبة في مناقشة كل المسلمات والقراءات التي يعتقد كثير من العرب والمسلمين أنها الحقيقة المطلقة.
إن حالة التخضرم التي عاشها جعيط بين فترة الاستعمار وفترة ما بعد الاستعمار هي التي ستنعكس حتماً على طبيعة وملامح فكر جعيط وستتحكم في قراءاته للموروث الثقافي الإسلامي مما قد يلمح لحالات من التناقض والغموض في دراساته جراء حالة التخضرم التي عاشها.

جعيط مفكر يتقاذفه القلق والحيرة
==============

لعل من أهم ما يميز هشام جعيط عن بقية المفكرين الآخرين من العرب والمسلمين الذين يتبنون المنهج التاريخي في تحليلهم للدراسات الإسلامية مثل أركون وعبد المجيد الشرفي وغيرهم أنه مفكر يعتقد أن الإسلام هو العنصر الأساس الذي يشكل الشخصية العربية والإسلامية وأنه لا يمكن الاستغناء عليه، ويرى أنه عامل محدد في بناء هذه الشخصية، ولكن يعتقد أن الذي يجب تغييره في ذلك هو الفهم الخاطئ للإسلام وللتاريخ الإسلامي الذي يحاول الكثير من المفكرين الإسلاميين قراءته قراءة إيمانية تغيب الحقيقة وتغتالها لتنتج لنا ثقافة إسلامية مأزومة خالية من كل علمية وموضوعية.
جعيط يختلف عن الدكتور عبد المجيد الشرفي الذي يختلف في طريقة تناوله لمجمل هذه القضايا الكبرى في التاريخ الإسلامي عن الدكتور هشام جعيط، وبغض النظر عن الاختلافات إلا إنهما يتفقان بشكل عام في المنطلق المنهجي وهو المنهجي التاريخي، وربما هذا يعود إلى تأثر كلا الطرفين بالفكر الاستشراقي الذي كانت تحركه بشكل خاص نزعة معادية للإسلام وللحضارة الإسلامية.

هذا التأثر بالمدرسة الاستشراقية لدى جعيط يجعل فكره يتسم بالحيرة والتناقض في الوقت نفسه، ويجعل رؤيته للنص الديني مثلاً هي قراءة من خارج سياقه وبأدوات لا تنسجم مع الحقل المعرفي الإسلامي، لأنها من إنتاج معرفي مختلف تماماً عن الثقافة الإسلامية التي كان لزاماً على جعيط أن ينتج منهجاً جديداً لتشريح مثل هذه القضايا، ويستنبط أدوات تشريحية تكون منسجمة مع النص الديني ومع طبيعة الظروف التاريخية التي ظهر فيها، والاعتماد على وثائق مادية وليست قراءات وتأويلات نابعة من سياقات معرفية مختلفة تماماً في مزاجها ومكوناتها عن السياقات المعرفية العربية الإسلامية.
من هذا المنطلق نلمح حالة من القلق لدى المفكر جعيط خلال تحليله لجملة هذه القضايا المركزية في الحقل المعرفي الإسلامي، ربما يعود هذا القلق إلى أن جملة الأبحاث التي انطلق منها لم تكن قلقاً نابعاً من ذات جعيط ومن حالة البحث عن إجابات مقنعة كانت تراود خلده وخلد كل المفكرين العرب، بل كان هذا القلق قد تشكل من خارج ذاته أي مما أنتجه المستشرقون الأوربيون الذين كانت تحركهم دوافع أخرى تتصل بعملية التشكيك في أن القرآن كتاب سماوي أنزل على النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ولعل ما نتج عن هذا القلق الخارجي الذي تلبست به شخصية جعيط حالة من الحيرة العامة في إيجاد إجابة عميقة لهذا القلق الكامن في مساراته الفكرية والأكاديمية. ونحن بمجرد أن نقوم بتفحص لجل كتب هشام جعيط نجد أنه لم يتناول قضايا جديدة بل هو يتناول ما طرحه المستشرقون الغربيون بداية من القرن الثامن عشر والتاسع عشر حتى إننا نلمح أن جعيط يسكن في داخله مستشرقون يوحون إليه بما يريدون.

ولست هنا أتهجم عليه ولكن أقول إن جل العناوين لكتبه لا تخلو من وجود حكم مسبق أولي مستورد من خارج المنظومة المعرفية والفكرية والحضارية لهذه القضايا مثل عنوان كتابه «أزمة الثقافة الإسلامية» أو كتابه «الفتنة الكبرى» وغيرهما، وهذه عناوين لا توحي إلا بخلل في المنهجية وفي أدوات التحليل التي انطلق منها هشام جعيط، وحتى المبررات التي توصل إليها هي مبررات تخلو من معقولية وتوحي بأنها استنتاجات قطعية في نظره برغم أنه يلمح إلى نسبية الحقيقة في البحث العلمي. هذا القلق غير النابع من الذات والمستورد من خارج ذاته وحالة الحيرة التي تلمحها في فكر جعيط حوّل قراءته إلى قراءة منبتة عن جذورها وعن تربتها الحقيقية مثلما هو الحال لدى محمد أركون وعبد المجيد الشرفي ومحمد شحرور ونصر حامد أبو زيد وغيرهم من المفكرين العرب.
منهج جعيط وجملة الأسئلة المطروحة
قراءة فكر جعيط على مستوى المنهج:
اعتمد الدكتور جعيط في أبحاثه على علم التاريخ أو المنهج التاريخي الذي يرى أنه بلغ درجة من المصداقية قربته كثيراً من العلوم الصحيحة، وهو يستعمل علم التاريخ بتداخل مع مجموعة أخرى من العلوم والمعارف مثل الأنثروبولوجيا (علم الأجناس) والفيلولوجيا.
ويلخص جعيط منهجه في التعامل مع هذا الموضوع بقوله: «إنه استقراء الماضي متسلحاً بمعرفة دقيقة بالمصادر والمراجع وبالتعاطف اللازم مع موضوعه وبرحابة صدر وثقابة الفكر»، ويضيف قائلاً: «ما سنحاوله هنا هو إعطاء نظرة أنثروبولوجية للثقافة العربية قبل الإسلام أولاً، واستقراء للنص القرآني وتتبع التأثيرات الخارجية والنظر النقدي في المصادر التاريخية والبيوجرافية».

والحقيقة إن ميل جعيط إلى المنهج التاريخي يعود بالدرجة الأولى إلى تأثره بالمدارس الاستشراقية التي أوجدت هذا المنهج من أجل البحث عن أي أخطاء داخل الإسلام خصوصاً على مستوى نصوصه المركزية وبالأخص القرآن، المُشَكِّل للبنية المعرفية والفلسفية للإسلام، كما ركزت هذه المدارس الاستشراقية على شخصية النبي محمد صلى الله عليه وسلم ودرست تاريخه ظناً منها أنها قادرة أن تكشف أن النبي صلى الله عليه وسلم قد يكون استقى القرآن من عند قسيسين ورهبان أو من اليهود أو السريانيين.

والحقيقة إن هذا المنهج يتميز بصرامة كبيرة في البحث والتنقيب لكن برغم ذلك فإن المستشرقين أخضعوه إلى جملة أحكامهم المسبقة وإلى نواياهم المعادية للإسلام، لكن هذا لا يعني أن كل المستشرقين كذلك، فمنهم من التزم بهذا المنهج وخرج بنتائج مبهرة تثبت أحقية الإسلام والقرآن.

ومهما يكن من نية هؤلاء إلا إن هذه المدرسة التاريخية انتشرت في أوربا وصار لها رواد كثيرون حتى في العالم العربي، ولعل هشام جعيط من هؤلاء الباحثين الذين وجدوا ضالتهم في هذا المنهج من أجل تقديم قراءات جديدة للتاريخ الإسلامي.
صحيح أن التزام جعيط بهذا المنهج الصعب أمر مطلوب وجيد غير أن جملة الإشكاليات التي تعرض لها بل حتى الاستنتاجات التي وصل إليها هي في الحقيقة استنتاجات قديمة وصل إليها المستشرقون وعملوا على ترويجها وأوهموا الناس بصحة استنتاجاتهم، لذلك فنحن نرى جعيط لا يستطيع أن يجزم بشكل مطلق بما وصل إليه من استنتاج، وهنا تكمن حالة القلق والحيرة لدى جعيط التي ذكرناها في البداية.

غير أن هذا المنهج بقدر ما يحتوي على فاعلية للوصول إلى جملة من الحقائق إلا أنه يلغي المنهج الخاص الذي يتضمنه النص القرآن مثلاً، فالقرآن ليس بالنص العادي الذي يمكن أن يطبق عليه مثل هذا المنهج لأنه في حد ذاته نص متعدد الأبعاد والدلالات والأوجه، وهذا التعدد يحتاج إلى منهج ينسجم مع بنيته النصية والدلالية، ولا أعتقد أن المنهج التاريخي الذي استورده جعيط من المستشرقين قادر على أن يقتحم أعماق محيطات القرآن.

فالنص القرآني هو نص من عند الله الذي بين أنه سيحفظ كتابه من أي تحريف أو نقصان أو زيادة، فإذا كان جعيط يؤمن بأن الله هو صاحب الكتاب تعهد بحفظ كتابه فكيف يمكن أن يحدث في القرآن نقص أو زيادة أو تحريف، ألا يدل هذا على تناقض بين ما ينطلق منه المنهج التاريخي وبين ما يوجد في القرآن من حقائق تتجاوز المنهج التاريخي وكل المناهج الأخرى.

إن حيرة جعيط وقلقه لا يقف في حدود المنهجية التي تناول بها بل يمس أيضاً جملة القضايا التي طرحها وجملة الاستنتاجات والخلاصات التي وصل إليها، فهي أيضاً أصابها القلق والحيرة بل وقعت في التناقض وظلت رهينة الاحتمال، وهذا ما يعترف به جعيط عندما يستخدم لفظ «ربما» كدليل على أنه لم يستطع الجزم بذلك. فكيف كان قلقه وحيرته على المستوى المضموني؟

قراءة فكرة جعيط على المستوى المضموني:
----------------------

في ما يخص ما كتب عن حياة الرسول اعتبر جعيط أن المصادر التاريخية مثل سيرة ابن إسحاق أو ابن هشام أو غيرهما «لا تعطي إجابات علمية دقيقة؛ نظراً لتأخر تدوين هذه السير ولغلبة النزعة الوعظية عليها». أما الكتابات الحديثة فقد اعتبر أن «أغلبها لا يرقى حتى إلى ما كتبه القدامى من حيث القيمة العلمية»، واستثنى من هذا الحكم كتاب «حياة محمد» لمحمد حسين هيكل، الذي اعتبره «آخر الكتابات المحترمة». وأكد على أن غرض الباحث دائماً هو «مناقشة المسلمات» وأن «المعرفة التاريخية تبقى نسبية ومتغيرة بتغير المصادر والوثائق»، كما أشار إلى أن هناك نقاط استفهام عديدة تطرح حول معرفتنا عن تلك الحقبة؛ لأن هناك نقصاً في هذه الوثائق، وهو نقص أدركه كل من اشتغل على الشأن الديني أياً كان هذا الدين. إلا إن وجود هذه الصعوبات لا ينفي إمكانية إنشاء معرفة تاريخية عن الدين مستقلة ومختلفة عن الأبحاث الفقهية.

لم يستبعد الدكتور هشام جعيط في كتابه المعنون بـ«تاريخية الدعوة المحمدية في مكة» أن تكون بعض العبارات والآيات زيدت في النص القرآني عند تدوينه. واعتبر أن التأثيرات المسيحية على القرآن لا يمكن إنكارها. وعن محمد صلى الله عليه وسلم قال إنه ولد في حدود سنة 580م، وإنه كان يدعى «قثم» قبل بعثته، وتزوج وهو في الثالثة والعشرين وبعث في الثلاثين، وإنه لم يكن أبداً أمياً. ويذهب جعيط إلى أن النتائج التي تم التوصل إليها في دراسته للسيرة النبوية هي ثمرة «عشرات السنوات من البحث والدراسة وفق مناهج علمية صارمة»، وأنه إذ ينشرها فلأنه على يقين بأن ما يورده من «حقائق ينشر لأول مرة».

ويثبت الكاتب بالنسبة للقرآن أنه جمع في عهد النبي محمد صلى الله عليه وسلم وأنه سهر شخصياً على جمعه وكتابته. غير أن هذا لم يمنعه من إيراد احتمال أن تكون هناك آيات أو كلمات سقطت من القرآن وأخرى زيدت فيه. ويضرب مثلاً على ذلك بقوله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38] ، ويرى جعيط أن هذه الآية لا تنسجم مع نسق الآية التي وضعت فيها، إضافة إلى أن {أَمْرُهُمْ} أي حكم المسلمين لأنفسهم في زمن النبي عن طريق الشورى غير مقبول، «فاعتماد مبدأ الشورى يكون مقبولاً بعد النبي، أما في حياته فلا؛ لأنه هو ولي الأمر حينها». كما استغرب الكاتب أن يرد الخطاب بصيغة الغائب في حين أن الرسول كان بينهم.

والحقيقة إن ما طرحه جعيط من جملة الإشكاليات سبق أن طرح معظمها مستشرق ألماني في القرن الـ19 الميلادي.
إن الخطأ المنهجي الذي قام به جعيط وهو يحلل النص أنه أهمل تحليل النص من داخله واعتمد على تأويلات وتفسيرات من خارجه، وهذا في الحقيقة أفرز استنتاجات مبهمة وغير دقيقة بل متناقضة فالقرآن في داخله يطرح تحدياً على كل من يريد أن يجد فيه خطأ إلا إن جعيط ومن قبل المستشرقين يتجاهلون هذا ويخسرون المعركة ضد التحدي القرآني ويخرجون باستنتاجات قائمة على التأويل والاحتمالات والفرضيات، وهذا في الحقيقة ليس تحليلاً علمياً قائماً على الحجة والبرهان.
وبالنسبة إلى شخصية النبي صلى الله عليه وسلم يزعم جعيط أنه ولد 580م وليس سنة 571، ويعتقد أن ولادته ليست مرتبطة بهجمة أبرهة الحبشي على جزيرة العرب ويرى أن ربط المسلمين ولادة النبي بعام الفيل هو ربط غيبي يحمل بعداً رمزياً دينياً. كما يرى أن الرسول صلى الله عليه وسلم نزل عليه الوحي في سن الثلاثين وليس في سن الأربعين. كذلك يزعم أن الاسم الحقيقي للنبي هو قثم وليس محمداً وأن هذا الاسم حصل عليه في المدينة.

ومهما كانت الفرضية التي يطرحها إلا أن جعيط يحاول أن يقنعنا أن ما وصل إليه استنتاجات وصل إليها بعد طويل من البحث وأخفى أن هذه المقولات هي لمستشرقين في الغرب ذكروا مثل هذا ولم يقدموا أي دليل على ذلك مكتفين فقط بتأويلات وتخمينات لا ترتقي إلى درجة العلمية.

إن جعيط كما وقع في قلق وحيرة على المستوى المنهجي فقد وقع أيضاً في قلق وحيرة مضمونية أي على مستوى الإشكاليات والأحداث التي قام بتحليلها، بل إنه وقع في عدة تناقضات فكل الروايات المتواترة تبرز أن الرسول صلى الله عليه وسلم اسمه محمد وهو يذكر اسمه بنفسه إلا أن جعيط ومن قبله المستشرقون يقولون ربما كان اسمه محمد. فلو كان الاسم الحقيقي للنبي قثم فما العيب في إظهاره ولماذا تم تركه؟ كما أن تاريخ ولادة النبي لماذا يتم ربطه بحدث أبرهة الحبشي فقد كان بإمكان العرب أيضاً أن يربطوه بأي حدث آخر ربما أفضل وأشد، ثم إن أغلب الروايات تثبت أن النبي نزل عليه الوحي وهو في الأربعين غير أن جعيط ينكر تاريخ ولادته من ناحية ويعترف بتاريخ نزول الوحي عليه فمن أين تحقق من تاريخ نزول الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم. ويضيف الكاتب جملة أخرى من الاستنتاجات التي توصل إليها بخصوص النبي محمد صلى الله عليه وسلم منها أن والده توفي بعد ولادته وأن زواج محمد صلى الله عليه وسلم من خديجة رضي الله عنها كان في سن الثالثة والعشرين لكن جعيط لا يقدم أية أدلة مقنعة على ذلك ويكتفي بالتأويلات والفرضيات وهذا لا يستقيم في البحث التاريخي بل حتى المنهج التاريخي نفسه لا يقبله ولم يلتزم به حتى المستشرقون الذين تحكمت فيهم أحكام وأفكار مسبقة حولت الاستنتاجات نحو هذه الأحكام.

لم يكتف جعيط بذلك بل اعتبر أن النبي صلى الله عليه وسلم ربما يكون قد تأثر بالنصرانية وتلقى منها تعليماتها خلال رحلاته إلى الشام للتجارة، ويرى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن أمياً بل كان يعرف السريانية بحسب رأيه، ويخلص جعيط بعد أن يحاول تبيين مواطن التشابه بين القرآن وعدد من الكتب المقدسة التي سبقته إلى القول: «كمؤرخين يجب أن نقر بتأثير المسيحية السورية على إسكاتولوجيا (العلم الأخروي) القرآن وعلى قسط وافر من الأفكار والتعبيرات، وأن القرآن كنص من القرن السابع الميلادي ووثيقة من هذه الفترة قد أخذ من موروثها ببراعة فائقة».

ما ذهب إليه جعيط من أن الرسول لم يكن أمياً هو مخالف لما ورد في النص القرآن الذي وضح أن النبي لم يكن يعرف القراءة والكتابة وأن أمية النبي إثبات لمعجزة القرآن فلو كان النبي يعرف القراءة والكتابة لماذا يشبه نفسه في القرآن بالأمي، أليس تشبيه الذات بالأمية نقيصة في حق الإنسان! خصوصاً أن أعداءه في قريش كانوا سيتهمونه بالتحريف والتزوير وبأنه أخذ من ديانات أخرى، فلم لم يدعِ هذا مثلاً ورقة بن نوفل الذي كان عالماً بالأديان في زمن النبي عليه السلام!.

الحقيقة إن النتائج التي وصل إليها جعيط ليست حقائق وإنما تخمينات قائمة على تأويلات ليست من إنتاجه بل استنتاجات سبقه إليها المستشرقون.




ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية

الكلمات الدلالية (Tags)
للتاريخ, العلمانية, الإسلامي, القراءة


يتصفح الموضوع حالياً : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
أدوات الموضوع

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


المواضيع المتشابهه للموضوع القراءة العلمانية للتاريخ الإسلامي
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
د. محمد الرشيد قريش يكتب .. شهادتي للتاريخ (23- ج) صرح المخض عن الزبد Eng.Jordan بحوث ودراسات منوعة 0 11-19-2016 11:34 AM
معركة التعليم الإسلامي مع العلمانية التركية عبدالناصر محمود المسلمون حول العالم 0 12-03-2014 08:46 AM
الحرب العلمانية على الوقف الإسلامي عبدالناصر محمود مقالات وتحليلات مختارة 0 11-29-2014 08:31 AM
العلمانية تتمدد وتتضخم في العالم الإسلامي عبدالناصر محمود مقالات وتحليلات مختارة 0 11-14-2014 08:11 AM
العلمانية التركية و العلمانية المصرية : توافق أم تطابق ؟! عبدالناصر محمود مقالات وتحليلات مختارة 0 06-13-2013 09:38 AM

   
|
 
 

  sitemap 

 


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 11:54 AM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.12 by vBS
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والمشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59