#1  
قديم 10-10-2015, 07:57 AM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود غير متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 56,139
ورقة لماذا تحتاج الليبراليّة إلى الإسلام؟


لماذا تحتاج الليبراليّة إلى الإسلام؟
ــــــــــــــــ

(كريم محمد)
ــــــ

26 / 12 / 1436 هــ
10 / 10 / 2015 م
ــــــــــــــ

الليبراليّة الإسلام؟ 29-9-2015A.jpg



لماذا تحتاج الليبراليّة إلى الإسلام؟
------------------

كتبه: آنّا بروفيتولا ودانيال ستاينميتز-جينكينز
-------------------------------

ترجمة: كريم محمد
---------------

المصدر: Los Angeles Review Of Books
------------------------



تكتبُ أيان حيرسي علي كلّ أربعٍ أو خمس سنوات كتابًا يحذّر العالَم من أهوال الإسلام. وفي كتابها الأخير، المهرطق (Heretic)، تشعر حيرسي علي، بحقٍّ، بالحاجة لتبرير إنْ كان هنالك ضرورة لنشرها كتابًا آخر عن الموضوع ذاته. يبدو الوضع وكأنّها، في الوقت الحاضر، أكثر أملًا بمستقبل الإسلام. فكما تشرح: “حينما كتبتُ كتابي الأخير، البدويّ (Nomad)، ظننتُ أنّ الإسلام جلّ عن الإصلاح، وأنّه ربما كان من الأفضل للمتديّنين المؤمنين بالإسلام أن يقوموا باختيار إله آخر يعبدونه. وبعدما نشرتُ البدويّ بسبعةِ أشهر، جاء مطلع الربيع العربيّ […] لقد كنتُ على خطأ. فالمسلمون العاديّون مستعدّون للتغيير".



يكمن في لبّ كتابها: المهرطق الاعتقاد بأنّ مارتن لوثر الإسلام بحاجة لأن يبزغ ويصلح العقائد الثيولوجيّة التي تعيق الإسلام عن أن يكون متناغمًا مع الغرب الديمقراطيّ الليبراليّ. وعبر حجّتها هذه، تُنشئ [حيرسي علي] صلةً مباشرة بين الإصلاح البروتستانتيّ وأصول الحداثة العلمانيّة، والديمقراطيّة الليبراليّة، والرأسماليّة. فيمكن لمسار الإسلام إلى الغرب، حسب حيرسي علي، أن يُنجَز من خلال الإصلاح الثيولوجيّ وليس عن طريق التنازُل عن الإسلام، كما كانت قد اقترحتْ في السابق. وفي النهاية، ما يحتاجه الإسلام هو تنزيل (download) البروتستانتيّة.



ولكن، حيثما ترى حيرسي علي السبيل إلى الأمل تكمن أصول المشكلة بالضبط كما يُشخّصها كتاب جوزيف مسعد الأخير، الإسلام في الليبراليّة. يثبت كتابها ادّعاء مسعد الأساسيّ بأنّ مبشّري الليبراليّة الأمريكيين والأوروبيين يحاولون أن يبشّروا المسلمين -والعالم بأسره- بالنظام القيميّ العاقل الوحيد الموجود على ظهر البسيطة: أي نظام قيم الليبراليّة الغربيّة. وكما كان الوضع إبان الحروب الصليبيّة، سوف يُرغَم من يوصفون بالمسلمين المستبدين الرّافضين للبروتستانتيّة العلمانيّة أو نسخةً مُلبرلةً من الإسلام على تبديل دينهم عن طريق أيّة وسائل متاحة. أو بصيغةٍ أخرى، تصرّ قيم الليبراليّة المعمّمة عالميًّا على إنتاج إسلامٍ على شاكلتها.



ومن هنا أتى العنوان الفصيح لكتاب مسعد، الإسلام في الليبراليّة. إنّنا نخطئ، يقول مسعد، أستاذ السياسة والفكر العربيّ الحديث في جامعة كولومبيا، إنْ قبلنا المصطلحات التي تستخدمها حيرسي علي لطرح سؤالها: لماذا تغيب الليبراليّة عن الإسلام؟ فتحقيقاتٌ من هذا النوع تفترضُ، بعجالةٍ، أن ثمّة كيانًا متراصًّا يُدعى "إسلام" منفصلًا عن الليبراليّة. ويعيد مسعد تعريف مصطلحات الجدال بتأكيده بأنّ الإسلام يكمن في قلب الليبراليّة وفي قلب أوروبا. ويحاجج مسعد بأنّ الإسلام “كان هناك في لحظة ولادة الليبراليّة ولحظة ميلاد أوروبا". وبعيدًا عن تعيين ظاهرةٍ دينيّة أو ثقافيّة واضحة (clear-cut)، فإن "الإسلام"، بالأحرى، هو ما يجب أن يخضَع من أجل أن يقدّم الغرب نفسه على أنّه ليبراليّ وتقدّميّ. وهكذا، فإنّ الإسلام يُشكَّل في اللحظة ذاتها التي تشكِّل فيها الليبراليّةُ ذاتها.



وبالتالي، في قراءة مسعد، والتي ترتكز بشدّة على الإسهامات النظريّة لإدوارد سعيد، فإنّ الليبراليّة مرتكزةٌ تمامًا على هذه البنية الغربيّة للإسلام. فهو يُوضِح "كيف أنّ المخاوف حول ما شكّلته أوروبا هذه أو تشكّله -الاستبداد والتعصّب وكره النساء ورهاب المثليّة- أُسقِطَتْ على الإسلام"، ويؤكّد أنّه "فقط من خلال هذا الإسقاط، استطاعت أوروبا أن تظهر على أنها ديمقراطيّة ومتسامحة ومحبّة للنساء (philogynist) ومحبّة للمثليين (homophilic)، وباختصار على أنّها مُفرغة من الإسلام". فما ندعوه "الإسلام" هو الآخر الذي تعرّف الليبراليّة نفسها ضدّه ومن خلاله؛ وبالتالي، فلا يمكن لهذا "الإسلام" أن يوجد إلّا في الليبراليّة.



فكتاب الإسلام في الليبراليّة غير معنيّ، صراحةً، بالفروع والتأثيرات الدينيّة والثقافيّة المتنوعة والكثيرة للإسلام كما تُعاشُ وتُختبَر على نحوٍ مختلف في جميع أنحاء العالَم، إنّما بالأحرى معنيّ بحوْسلة (instrumentalization) الإسلام في الغرب. وعلى وجه الخصوص، يشير مسعد إلى أنّ "الديمقراطيّة" الليبراليّة الغربيّة -المصوّرة على أنّها دخيلة على "الإسلام"- تُعزَّز فقط للحدّط الذي تخدم فيه مشروعًا إمبرياليًّا. لا يهدف مسعد إلى كشف نفاق الحكومة الأمريكيّة تحت مسمّى السياسة الواقعيّة (realpolitik) فحسب، كما كان الحال، على سبيل المثال، عندما دعمت أنظمة إسلاميّة معادية للديمقراطيّة أثناء الحرب الباردة، ولكن هدفه بالأحرى هو لإبراز ما يجب على الغرب أن يتبرّأ منه أثناء تشكليه لنفسه على أنّه يمثّل تجسيدًا لما يُدعى بالليبراليّة العلمانيّة التي كانت في الواقع دائمًا وأبدًا مسيحيّة.



لعلّه من الممكن أن تُوطَّد حجّة مسعد حول الأصول البروتستانتيّة لليبراليّة عبر طرحها على أرضيّة تاريخيّة أكثر، حيث إنّ النقد المحدّد للعلمانيّة بوصفها بروتستانتيّة هي ثيمة كاثوليكيّة طويلة المدى للنقد الكاثوليكيّ ذي الأصول التاريخيّة المناوئة لعصر التنوير. وعلى سبيل المثال، فإنّ إحالته لكيف يتم تخيّل "الإسلام" في الغرب تتشابه بشدة مع الرؤى العلمانيّة والبروتستانتيّة طويلة المدى لـ"الكاثوليكيّة": فكلاهما [أي الإسلام والكاثوليكيّة] واقعان في العصور المظلمة ويجب عليهما أن يستوعبا نبراس الحداثة. وبهذا المعنى، تتشابكُ حجّة مسعد بأنّ الليبراليّة هي في الواقع بروتستانتيّة مُعلمَنة مع الانتقادات اللاذعة المكظومة التي طرحها مؤخرًا المدافعون الكاثوليكيون المعاصرون مثل المؤرّخ الفكريّ براد غيرغوري أو اللاهوتيّ الإنجليكانيّ جون ميلبانك. يوحي التشابه بين جينيالوجيّاتهم للبروتستانتيّة بأنّ المفكرين الكاثوليكيين والأكاديميين المتخصّصين في الإسلام قد وجدوا قضيّة مشتركةً ضدّ عدوّ مشترك: العلمانيّة. وقد يفسر هذا أيضًا لماذا قد أُولعَ طلال أسد، والذي تأثّر به مسعد وكثيرًا ما يستشهد بأعماله، مؤخرًا بالاستشهاد بالجماعانيّ [نسبةً إلى المذهب الجماعانيّ، وهو تقليد في الفلسفة السياسيّة] الكاثوليكيّ ألسادير ماكنتير. وبالطبع، فهذا لا يعني بأنّ حجّة مسعد كاثوليكيّة -حيث إنّها ليست كذلك بكلّ وضوح-، بل بالأحرى تعني أنّ هناك أُلفة اختياريّة مثيرة للانتباه بينها وبين تقليدٍ طويل من الدراسات الكاثوليكيّة الناقدة للعلمانيّة.



لندع هذه الجينيالوجيا المحدّدة لانتقاداته للعلمانيّة جانبًا، فمسعد لا تعوزه ندرة الأمثلة التي تربط خطابات القرن العشرين والقرن الحادي والعشرين عن الديمقراطيّة بالتوصيفات التنويريّة للاستبداد الشرقيّ -والتي تُظهر استمراريّة في كيف أنّ التصويرات الأوروبيّة والأمريكيّة للإسلام على أنّه استبداديّ أولًا، ومعادٍ للديمقراطيّة ثانيًا، هي بمثابةِ إزاحات لقلق الغرب ذاته حول استبداده هو وإخفاقاته الديمقراطيّة. ويعتمدُ مسعد على مجموعة متنوّعة من الأمثلة التاريخيّة لتفصيل وجهة نظره. فقد طوّرت شخصيات تنويريّة، مثل مونتسكيو، مفهوم الديمقراطيّة كنقيضٍ لـ"الاستبداد الشرقيّ"، واستخدم الأوروبيّون هذا الوضع الطبيعيّ المتخيَّل والقائم بين مَن استعمروهم لتبرير حكمهم الكولونياليّ الاستبداديّ. لقد استجدت ماري وولستونكرافت وغيرها من النسويّات الأوروبيّات الأوائل صورة المرأة المسلمة "المُستعبَدة" كطريقةٍ لاستنهاض رجال بلدانهنّ لأنْ يميّزوا أنفسهم عن المسلمين عبر منح الحقوق للمرأة الغربيّة البيضاء، على الرغم من الحقيقة أنه كان للمرأة المسلمة حق التملّك بينما كانت المرأة المسيحيّة الأوروبيّة محرومة منه. والواقع أنّه لم يعتبر وهب هذه الحقوق للمرأة البيضاء حصريًّا عملًا استبداديًّا أو همجيًّا.



ويشير مسعد لكيفيّة استمرار هذا النّهج في العلاقات الخارجيّة الأمريكيّة حاليًا. فعندما أثنى باراك أوباما، في عام ٢٠٠٩ بالقاهرة، على أندوسيا بوصفها دولة مسلمة متبنّية التعدديّة الدينيّة الغربيّة، فإن تصويره للولايات المتحدة على أنّها ديمقراطيّة اعتمدَ على نسيان رعاية الولايات المتحدة للإسلامويين الذين قاموا بذبح الشيوعيين الأندونيسيين، "وهو عبارة عن عدم تسامحٍ دبّرته الولايات المتحدة، حيث سوف يمتدّ لاحقًا إلى أفغانستان وإلى تعصُّب المسلمين اليَمِينيّين ضد المسيحيين في أماكن كمصر […] حيث قام أوباما لتوّه بإسداء النصائح بالتسامُح". ويستندُ تعميم الولايات المتحدة للتسامح في طول وعرض الكرة الأرضيّة على التنكّر من عدم تسامحها هي.



إن هذا النّقد الثاقب للسياسة الخارجية الأمريكيّة الحالية ليس مفاجئًا؛ ومع ذلك، فإنّ تقويم مسعد لحقل الدراسات الشرق أوسطيّة النسويّة للشذوذ مؤخرًا قد يثير مزيدًا من التشكُّك لدى بعض القرّاء. لكن تكمن إبداعيّة حجّة مسعد، على وجه التحديد، في إيضاحهِ بأنّ الأكاديميين الملتزمين سياسيًّا بمعادة الإمبرياليّة ظاهريًّا، يظلّون، إبستمولوجيًّا، ملتزمين بالإمبرياليّة.



وفي الفصل الثالث، حيث يردّ جزئيًّا على الانتقادات التي طالت كتابه السابق: اشتهاء العرب، يُفصّل مسعد كيف أنّ الأكاديميين المعاصرين الذين يطبقون نظريّة التشويذ (Queer theory) على دراسات الشرق الأوسط يدّعون أنهم ضدّ الأمميّة المثلية، ولكن رغم ذلك يستمرّون في تعميم الإبتسمولوجيا الجنسيّة الغربيّة على كلّ الكرة الأرضيّة دون كللٍ. ورغم أنّ مفهوم جاسبير بوارا (Jasbir Puar) عن القوميّة المثليّة الأمريكيّة يُبين كيف أنّ بعض الأقليات الجنسّية تتبنّى علنًا قضايا الإمبريالية الأمريكية، فهي تقيم هذا النقد، حسب مسعد، "دفاعًا عن الأشكال الليبراليّة لنشاطات وحركات الأمميّة المثليّة"، و"تظلّ ملتزمة بتعميم تصنيف الجنسانيّة حول العالَم، والذي لا تُسائله مطلقًا". فلا يمكن للمرء أن يبقى مناهضًا للإمبرياليّة في الوقت نفسه الذي يتبنّى فيه تعميم التصنيف الغربيّ للجنسانيّة على الكون بأجمعِه.



ومركّزًا على إرث واستمراريّة النسويّة الليبراليّة الغربيّة في الفصل الثاني، يُباشر مسعد نقدًا مُماثلًا للأكاديميّات النسويّات في حقل دراسات الشرق الأوسط. ومن ضمن هؤلاء ليلى أبو لغد، التي، مثلها مثل بوارا، تنتهي، في نهاية المطاف، إلى تمييز العمل التضامنٍيّ الدوليّ الجذريّ "الجيّد" عن المنظمات غير الحكوميّة الإمبرياليّة "السيّئة"، دون أن تشرحٍ كيفيّة عمل الأولى، سياسيًّا أو اقتصاديًّا، بمعزل عن الدوائر الإمبراليّة للسلطة. وبرغم توثيقها وتوضيحها للطبيعة التبشيريّة للنسويّة الليبراليّة، على نطاق واسع، فإنّ أبو لغد، مع ذلك، تقترح بأنّه على النساء الغربيّات مساعدة “أخواتهنّ” المسلمات، وهي حجّة لا يمكن الدفاع عنها في سياق نيو-كولونياليّ، حيث، وكما يقول مسعد، “يتضح أنّ مسألة ‘مشاعر القلق النابعة من النوايا الحسنة’ وتقديم الرجاءات لهنّ لأخذ الحيطة والحذر من الوقوع في فخاخ الثقافويّة ليست أقلّ من توصيفات خاطئة في أحسن الأحوال، أو خدعًا ليبراليّة وإمبرياليّة في أسوئها”.



إذًا، لا يشجب مسعد ببساطةٍ هؤلاء الذين يدّعون أنّهم معادون للإمبراليّة بأنّهم، عكس ما يدّعونه، إمبرياليّون؛ بل بالأحرى يأخذ التزماتهم على محمل الجدّ. فالأكاديميون والناشطون الذين ينقدون الليبرالية، ومن ثمّ يدعمون العمل التضامنيّ الفرديّ عبر بنى المنظمات غير الحكوميّة القائمة والممّولة -أمريكيًا أو أوروبيًا-، يبقون ملتزمين بفكرةٍ ليبراليةٍ لبّها بأنّه يمكن للإرادة (agency) الشخصيّة أن تعمل خارج نطاق السلطة المؤسّسيّة والبنيويّة. يقول مسعد، وخلافًا لهذا الطرح، إنّ أيّ مقاومةٍ لاعتناق الليبراليّة الآخذةِ في التمدد يستلزمُ الأخذ بعين الاعتبار للتاريخ الإمبرياليّ والكولونياليّ واستمراريّة علاقات السلطة هذه في الزمن الحاضر. أمّا عندما يقترحُ أكاديميّون ونشطاء سياسيّون بأنّه بإمكان حسني النية أن يقوموا بأنواع محددة من وظائف المنظمات غير الحكوميّة المموّلة غربيًّا متجاهلين هذا التاريخ، فهم إنّما ينتهون، مع الأسف، إلى دعم ما كانوا قد سعوا لنقده أصلًا في المقام الأوّل.



وكترياقٍ لهذه الاستمراريّة لسرديّة النسويّة الليبراليّة البيضاء، يستشهدُ مسعد بتحليل إندربل جريوال (Inderpal Grewal) لكيفيّة إنتاج هذا التقليد النسويّ للمعرفة، ويؤكّد أنّ النسويّة المسيحيّة الكولونياليّة هي "تأسيسيّة للحركة أنطولوجيًّا وإبستمولوجيًّا" في استعمالها لخطاب الحقوق المرتكِز على التصنيف المعمّم عالميًّا لـ"المرأة". لكن على الرّغم من أنّ مسعد ينتقدُ التصنيفَ الغربيّ لـ"الجندر" [النّوع الاجتماعيّ] والصعوبة المُواجَهة في ترجمته، فإنّه لا يستعرضُ بخاصّة تصنيفات "الرجل" و"المرأة"، تاركًا للقارئ أن يتساءل كيف يمكن التفكير في هذه التصنيفات عبر الدوائر الإمبرياليّة للسلطة أيضًا. ولما لنقده الإبستمولوجيّ الشامل لعلامات الهويّة الجنسيّة بالإضافةً إلى الجنسانيّة عامّةً، فبإمكانه أن يعزّز حجّته بتوسيع حجج جريوال وعبر معالجة واضحة لتصنيفات "الرجل" و"المرأة" وتأثّرهما بالإبستمولوجيا الغربيّة.



وبالفعل، يتساءل القارئُ عن أيّ دورٍ مُحكَمٍ تلعبُه النساء ورغباتُهُنّ في هذه المناقشات الإمبرياليّة. ولا يطرح الفصل الثاني مسألة شهوة النسويّات الليبراليّات بالذّات، وكيف يمكن أن تُحوسَل أو تُمثَّل (represented)، أبدًا. ويشيرُ مسعد في الفصل الثالث إلى أنّ أدبيّات الأمميّة المثليّة تكرّس اهتمامًا أقلّ بالنساء اللواتي يمارسن الجنسَ المثليّ ممّا تكرّسه للرجال الذين يمارسونه، دون توضيحٍ لهذه الظاهرة. وفي هذه الحالة، هل تستندُ النسويّة الليبراليّة البيضاء والأمميّة المثليّة على تعذُّريّة (unthinkability) شهوة النساء المسلمات؟ وهل النساء المسلمات بحاجة إلى أن يكنّ محروماتٍ من كلّ شهوةٍ من أجل أن يكنّ مُمثَّلاتٍ كضحايا سلبيين (passive)؟ وهل تُستخدَم غيرنتهنّ الجنسيّة (heterosexualization) (أو مثليّتهنّ الجنسيّة (homosexualization)) لتبرير التدخّلات الغربيّة؟ وكيف لشهوات النسويّات الغربيّات أن تكون محفزةً لأهدافهنّ التبشيريّة؟ إنّ استكشاف هذه الأسئلة بشكلٍ أوسع يعزّز من حجج مسعد.



بالإضافةٍ إلى استعراض كيف تواكب الليبراليّةُ النسويّةَ الغربيّة وتتماشى معها، فإنّ مسعد يُفصّل كيف يتخفّى المنطقُ الليبراليّ خلف الهياكل النظريّة التي يُظنّ أنّها تُشكّل التهديد الأكبر لليبراليّة. فالكثير مما يُطرح داخل نظريّة التشويذ (Queer theory)، والتي تُقدّم على أنّها راديكاليّة أو معاديّة للمعياريّة، تنتهي، في نهاية المطاف، إلى إعادة إدراج الفردانيّة داخل نمط معياريّ إلى حدّ بعيد. ويركّز مسعد، في الفصل الرابع، على التحليل النفسيّ، حيث إنّه يمكن للتركيز على النفوذ العميق للشهوات التي لا تحتكم لإرادة الفرد أو تحكمه أن يقدّم نقدًا لاذعًا لمفهوميْ الفردانيّة والإرادة الليبراليتيْن. بل وإنّ علماء التحليل النفسيّ، مثل فتحي بن سلامة، كثيرًا ما يضعون منهج التحليل النفسيّ في خدمة هذه المفاهيم تمامًا، ويقومون بالنهاية إلى بناء إسلامٍ ليبراليّ يجب أن يُتسامَح معه وأن ينضوي داخل الذات الغربيّة، بينما يشيّئون إسلامًا جهاديًّا لا يمكن التسامح معه بسبب مقاومته للمشروع السياسيّ الغربيّ. ويمكن استخدام التحليل النفسيّ لفهم تشكُّل (constitution) الذات الغربيّة عبر تنصّلاتها وإسقاطاتها؛ بدلًا من ذلك، يقوم بن سلامة "الواقع بين سندان العداء الاستشراقيّ لكلّ الإسلامات (Islams)، ومطرقة عدائه الخاصّ للإسلامٍ (الإسلامويّ) الأوحد"، باستخدام التحليل النفسيّ لتشييد وتعزيز العقلانيّة والليبراليّة الأوروبيّتيْن.



لقد تركّزت الكثير من الانتقادات لكتاب اشتهاء العرب، والتي سوف توجّه أيضًا بلا شك لكتاب الإسلام في الليبراليّة، على مخاوف بشأن مفهوم الفاعلية والإرادة (Agency). فقد عبّر أكاديميّون ونشطاء غربيّون، وكذلك أكاديميّون ونشطاء غير غربيين يعملون مع المنظمات غير الحكوميّة المموّلة من الغرب، عن إحباطٍ بأنّ مسعد ينفي الفاعليّة والإرادة عن أيّ شخص سواء من العاملين ضمن هذه المعايير أو عن الساعين للحصول على اعتراف بهوياتهم من خلالها. ولكن بدلًا من إنكار فاعلية وإرادة هؤلاء الأفراد، فما يكشفه مسعد، في الواقع، هو كيف أنّ هذا المفهوم للفاعليّة والإرادة يبقى بحد ذاته متواطئًا -بغضّ النظر عن النوايا الفرديّة- مع خصوصيّة إبستمولوجيّة غربيّة متنكّرة في زيّ الكونيّة. فلا يمكن تحقيق إلا أنواع معينة فقط من المطالب التي يمكن الإقرار والاعتراف بها بالفعل وفقًا للمعايير الغربيّة على حساب الفاعليّة والإرادة الممكنة لآخرين لا تتبع فاعليتُهم الإبستمولوجيا الغربيّة، وهو ما يجرّدهم من إمكانية الاعتراف بهم أو حتى الإقرار بوجودهم. وبعد أن يكشف مسعد عن أنّ الاعتراف بفاعليّة شخص ما تعتمد على مقدرته أن يترجم نفسه عبر شروط ومصطلحات يمكن الاعتراف بها أصلًا في الغرب، يموضع مسعد نفسه، بحزمٍ، في واقع الأمر إلى جانب أولئك الذين لا يمكن تعقّلهم وفقًا لتصنيفات وتعابير غربيّة. وعلاوة على ذلك، يقاوم مسعد المزيد من التحريض على الخطاب حول ممارسات هؤلاء الآخرين التي لا يمكن تعقلها غربيًّا عبر رفضه تقديم تقارير كمخبرٍ محليّ (native informant)، والتي يرغب الكثير من نقّاده أن يزوّدهم بها.



لقد عبّر منتقدو مسعد، كما بعض مؤيّدي مشروعه، عن قلق حول رفضه لصياغة مشروعٍ إيجابيّ. فإذا كان أغلب النشطاء والأكاديميين يقظةً وحوطةً وحسني النيّة يظلّون، كما يبدو، محصورين في صلب إبستمولوجيا غربيّة والتي تظلّ (أحيانًا عن غير عمدٍ) في خدمة الإمبرياليّة؛ حسنًا، فما العمل الآن؟ لا يقدّم مسعد إجابةً لهذا السؤال، رغم أنّه لا توجد إجابة واحدة سهلة بالطبع. لا يعارض مسعد أيّ إمكانيّة للتضامُن، بيد أنّه ضدّ الفعاليّة أحاديّة الاتجاه (unidirectional) التي تقوم بمناداة هؤلاء التي تسعى لحمايتهم دون مطالبتهم لها بذلك، والتي تعتبرهم غير قادرين لقيادة نضالهم الخاصّ بهم، وتصرّ على تعليمهم بدلًا من التعلّم منهم. فعلى العمل التضامنيّ أن يمارس بوعيٍ بالتاريخ والسياسات الكولونياليّة، وتأثيرهما المستمرّ على المنظمات غير الحكوميّة، وعلى منظّمات التنمية الأمميّة، وعلى البحث الأكاديميّ، وعلى رسم السياسات، فهو لا يجب أن يكون فقط ادعاءً لا أدائيًّا بكونه ضدّ الإمبرياليّة، لكن أن يعمل أدائيًّا لإبطال الخاصيّة الإبستمولوجيّة الغربيّة التي تسقط على العالم على أنّها كونيّة؛ وأخيرًا، فإنّه لا يمكن أن يحدث ذلك داخل نمطٍ أحاديّ الاتجاه يتبع ببساطةٍ الدوائر الإمبرياليّة للمعرفة، والمال، والسلطة، ويواصِل العملَ معارضًا لشيءٍ ما يُدعى "إسلام".



وفي حين أنّ تحليل مسعد للإحالة المتراصّة لما يسمّى بـ"الإسلام" هو موضع ترحيب تصحيحيّ لاستعماله [الإسلام] في الأكاديميا ووسائل الإعلام الغربيّة، فإنّ رفضه تعريف "الليبراليّة" قد يثبط بعض القراء. ولكنّه لا يعرّفها، يقينًا، لأنّ وجهة نظره تقوم تحديدًا على إظهار أنّ أيّ عددٍ من الأفعال الاستبداديّة يُنجر، عادةً، باسم الليبراليّة. وهل يعني ذلك أنّ "الليبراليّة" تُستعمَل تجريبيًّا أو بشكلٍ سجاليّ مثلها مثل الاستعمالات المتنوّعة لـ"الإسلام" التي ينتقدها عن حقٍّ؟ يبدو أن هذه، بالتأكيد، هي القضية.



أمّا بعد، فإنّ كتاب الإسلام في الليبراليّة كتاب يجب أن يقرأه أيّ شخصٍ مهتمّ بالدراسات الإسلاميّة. يذكّرنا هذا الكتاب بأنّه من أجل تجاوز الدراسات التي تدور حول ثُنائيّة مبسّطة بين الغرب واللاغرب، فعلينا ألّا ننسى أبدًا كيف أنّ هذه المقابلة بين الإسلام والليبراليّة قد تشكّلت وتواصل التأثير، بفعاليّةٍ، على الدراسات الأكاديميّة اليوم. ومن ناحيةٍ أخرى، تتطلّب دراسة "الإسلام" تفكيك (unpacking) هذا المصطلح الذي قد أصبح مُشيّأً ومؤشّرًا متفشّيًا بكلّ ما في الكلمة من معنى في كثيرٍ من الدراسات الغربيّة. أكثر من ذلك يقترح الكتابُ أنّ بعضًا ممّا يُدعى الدراسات الإسلاميّة هي دراسة لليبراليّة أكثر منها دراسة للإسلام. وبالتالي، فعلى أيّ أحدٍ يسعى لدراسة "الإسلام" داخل سياقٍ غربيّ أن يأخذ على عاتقه أيضًا، كموازٍ ضروريّ مرتبط بالدراسات الإسلاميّة، شيئًا ما قد يُدعى الدراسات الليبراليّة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: ملتقى شذرات

رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية

الكلمات الدلالية (Tags)
لماذا, الليبراليّة, الإسلام؟, تحتاج


يتصفح الموضوع حالياً : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
أدوات الموضوع

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


المواضيع المتشابهه للموضوع لماذا تحتاج الليبراليّة إلى الإسلام؟
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
لماذا قيد الإسلام تعدد الزوجات بأربع لا يزيد عليهن ؟ صباح الورد شذرات إسلامية 0 11-29-2013 08:01 AM
لماذا يشوه تاريخ الإسلام وحده ؟؟ Eng.Jordan شذرات إسلامية 0 11-14-2012 10:17 PM
لماذا ندعو إلى الإسلام ؟ Eng.Jordan شذرات إسلامية 0 03-25-2012 08:46 PM

   
|
 
 

  sitemap 

 


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 01:05 AM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.12 by vBS
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والمشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59