#1  
قديم 11-11-2012, 08:33 PM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,392
افتراضي التراث التقني في الشعر العربي في القرنين الرابع والخامس الهجريين



( المتنبي ، والرضي ، والمعري ) أنموذجا

ثائر سمير الشمري حسن عبد الهادي الدجيلي
جامعة بابل – كلية التربية الاساسية الجامعة المستنصرية / كلية الاداب
إنّ التعامل مع مادة التراث تعامل دقيق،وليس تعاملاً هامشياً ينطلق من أنّنا لانعد كل ما كان في الأمس تراثاً ، وكل مبدع اقتنى مادة في الماضي بانها منظومة تراثية ، فالأمر أعقد من ذلك بكثير ، كما انه ليس كل مادة تراثية تصلح أن تكون مادة مضيئة في عالم اليوم ، ولهذا فأن ثمة حدوداً للنظرية التراثية هي التي تجعلها تنخرط في الخطاب الابداعي مع النظرية الحديثة ، ليس من كون التراث هو : ((ما تراكم خلال الأزمنة من تقاليد وعادات وتجارب وخبرات وفنون وعلوم في شعب من الشعوب . وهو جزء أساس من قوامه الاجتماعي والانساني والسياسي والتاريخي والخلقي ))([1]) ، ولكن التراث هو ما يستحق الاسترفاد من هذا الموروث ، في كل بنية من بنيات الحياة اليومية ، وتفصيلاتها المعقدة ، وحدودها الشاسعة ، وهو من ثم ما يظل صامداً على الرغم من ولادة الكثير من المستجدات الخارجية على الأمة ، والأمة العربية ينطبق عليها هذا الوصف حالها حال أية أمة أخرى – وإن كان للاسلام اليد الطولى في تثبيت ركائز الكثير من القاعدة التراثية في أرض الزمن عموماً حاضراً ومستقبلاً ،عن طريق معجزته القرآن الكريم ،الذي شاء الله ان يجعله دستوره الباقي الى ان يشاء سبحانه وتعالى- .
ومع هذه الصورة تُطرح المفردة التراثية في المفردة الابداعية ملتحمة معها، ومكونة نصاً يستطيع التنفس في الزمن الحاضر على وفق اسلوبية المبدع.
وهذه الخامة الابداعية تُطرح في اصدارات المبدعين العرب كلهم ، ولا سيما الشعراء ([2]) ، إلاّ أنّ الشعراء تفردوا عن غيرهم كونهم يشعرون بما لايشعره غيرهم ([3]) ، وكونهم يطرحون الفكر ومحنة هذا الفكر في كل زمان كي يتسنى فهم الاطروحة الحقيقية لسلبيات الزمن ، وايجاد الادوات المناسبة لاصلاح شيء من هذه السلبيات – إن أمكن الاصلاح - ([4]).
وتحت قبة التراث بحثنا- ولسنين طوال- هذه المادة- لاعتزازنا بها- في كثير ممّا درسنا ، أو وقع في أيدينا من دواوين الشعراء من العصر الشعري التأسيسي الذي وصل إلينا – العصر الجاهلي - ، ومروراً بعصر صدر الاسلام، والعصر الراشدي والأموي والعباسي ، والمتأخر ، والحديث – الذي كان يشمل القرن العشرين برمته مع ما صدر في القرن الحادي والعشرين والى يومنا هذا – فوجدنا ظاهرة في النظرية التراثية ربما لم يتوافر للبعض تأمّلها ، أو التركيز فيها، وهي أنّ التراث المسترفد من لدن الخطاب الشعري العربي في عصوره كلها – ولاسيما في العصر العباسي – كان على نوعين -فيما يتعلق بطريقة توظيفه في داخل النص الشعري – وهما : الخطاب التراثي العام – إن صحّ التعبير – أو قل التقليدي ، وهو موجود عند أي شاعر في أكثر نتاجه التراثي وهو : استحضار مادة ماضية وادخالها في النص الشعري لسبب بسيط على سبيل الاستعراض ، او تقوية صورة أراد الشاعر عرضها باسنادها بمادة قديمة –وأكثر ما يكون ذلك في الفخر والمديح- وهذا التراث لا يعد ذات قيمة حية، لأنّ المتلقي – على الرغم من كل شيء- يشعر في النهاية أنّ المُستَرْفَدَ التراثي مقحم وليس أصيلاً، والنوع الثاني -وهو الأهم- استحضار التراث على أساس أنه جزء من المادة الحديثة ، أو هو المادة الحديثة جميعها، ولم نجد احداً تحدث عن هذا النوع المهم في الماضي([5])، والواقع ان الصورة التراثية في رحم هذا التراث مبنية على أساس الارتباط الحي بين المادة الحاضرة ومثيلتها الماضية برباط واحد يشعر المتلقي أحياناً باتحادها وعدم وجود أيّة بوادر ظاهرة ، او مخفية للانحلال، ويجعل النص الشعري العربي القديم أساس المادة الشعرية الحديثة التي قامت في أكثر انجازاتها على ما يسمى بقصيدة القناع التي يلحم فيها الشاعر بين جسد آني وروح ماضية، فيكوّن منهما كائناً حياً لا ينتمي الى الماضي ، ولا الى الحاضر، ولكنه بينهما ويعيش في الزمن الحاضر([6]).
وعند التركيز على الخطاب الشعري القديم نجد أن مناسبة هذه النصوص -ولا سيما في القرنين الرابع والخامس الهجريين- هي التي جعلت التراث في هيأة غير طبيعية يعيش في الحاضر، وألقت بالحاضر بعيداً ،أَلَا وهي مأساة الحاضر نفسه على الشاعر أو على الناس الذين يعيشون في هذا الحاضر([7])، فالمعاناة من تراكم الحدث السلبي-بغض النظر عن هذا الحدث- هو الذي جعل الشاعر يهرب الى الماضي لا لكي يبتعد عن الحاضر ، ولكن ليتحمل أعباء احضار ذلك الماضي-الذي لا بديل له ابداً- الى حاضره الأليم فيجعل هذا الماضي كطبيب معالج لهذا الحاضر بأسلوب الحاضر كي يتسنى للماضي أن يتحول الى حاضر والحاضر جزء منه([8])، واخيرًا فظاهرة الاغتراب هي السبب المهم الذي يقف خلف هذه النصوص([9]) .
وهذه النصوص –بالتالي- تشكل بواكير تهييج الثورة الاجتماعية على الحاضر المعيش مما يدخل النص نفسه في باكورة العمل السياسي غير المباشر، واخيرًا فالمادة الشعرية السياسية هي اساس هذا العمل الشعري.
وقد يكون طموح الشاعر بنفسه-الذي لايجد له مثيلاً في عصره- سبباً كافياً لجعل نسيجه الشعري لبنة أساس في تحديد معالم هذا الفن الشعري ([10])، بوصف الشاعر الانموذج اليتيم الذي يصلح لقيادة المجتمع لانه الوحيد الذي يفقه اصلاحه.
ولذلك اسمينا هذا النوع من التراث بـ(التراث التقني)،والسبب لان هذا التراث عريق في بنيته الفنية التوظيفية، وعريق في بنيته الفنية الخارجية من لغة ، واسلوب، وموسيقى، كما أنه عريق في بنيته الشكلية عموماً ،لأن الوحدة العضوية والموضوعية تتشكلان بسعة فيه، بحيث أن المتأمل العميق لا يقوى على فصل أي جزء من أجزائه من دون احداث عاهة مستديمة في النص.
وعندما نقبنا الدواوين العربية من العصر الجاهلي انتهاءً بعصرنا الراهن، وجدنا أن المسألة قليلة في هذه العصور كلها ([11]) إلاّ في العصر العباسي([12])، ولاسيما في القرنين الرابع والخامس الهجريين([13])-مع العلم ان العصر الحديث كانت هذه الظاهرة فيه طبيعية عن طريق قصيدة القناع-.
ولعل الازدهار الثقافي الشاسع، وسعة القدرة التعبيرية في هذين القرنين، كانا السببين الرئيسين لازدهار هذه الظاهرة، ويرتبط مع ذلك تعليل مهم جداً كان خلف تبني الشاعر العربي هذا المذهب في هذين القرنين ، وهو: سيطرة القوى الأجنبية متمثلة بالدولتين السلجوقية ، والبويهية على الدولة ، وماتبعه من بداية نمو لقيم ومبادئ وأعراف غير عربية في رحم الدولة العربية، مما جعل الشاعر العربي-ولاسيما المبدع- يتبنى مسألة الدفاع عن التراث العربي عموماً أمام الغريب الذي يتسرطن في الأرض العربية ، كما تحولت صورة القائد العربي المثال من صورتها الواقعية –التي كانت سائدة- لدى الشاعر الى صورة الشاعر نفسه بطريق غير مباشر ،وهو نصه الشعري.
ولقد وجدنا أنّ من جملة الاسباب التي جعلت التراث التقني يزدهر في هذين القرنين-الرابع والخامس- بالذات هو تصدي ثلاثة شعراء كبار للعملية الابداعية عموماً، والتراث التقني خصوصاً في هذه المرحلة، والذين صاروا رمزاً كبيراً للشعر العربي عموماً، وهم كل من :المتنبي([14])، والشريف الرضي([15])، وابي العلاء المعري([16]).
لهذا ارتأينا أخذ عينة واضحة لدراسة ظاهرة التراث التقني في هذه المرحلة عن طريق هؤلاء الشعراء فقط ليكونوا رمزاً للظاهرة عموماً([17]).
لقد اقتربت حياة كل واحد من هؤلاء الشعراء من الآخر، فالمتنبي -كما هو معروف –اتخذ من سيف الدولة الحمداني قاعدة لرسم صورة التراث العربي المثال في عصر فقدت به هذه الصورة، لذا كان سيف الدولة هو القائد العربي، والقائد الاسلامي ،والقائد القيمي ،والقائد الثقافي في آن معاً ([18])، وقد تعكز المتنبي على هذه الشخصية في بث شخصيته في ضمنها([19])، مما أدى بالتالي الى تأصيل فكرة آمن بها القدماء والمحدثون وهي: أنّ المتنبي كان يسعى الى الامارة اما بوصفه والياً في دولة سيف الدولة، أو خليفة له([20])، لأنه حينما ترك سيف الدولة- بعد القطيعة المعروفة التي حدثت بينهما- لم يرد منه بيت مدحي واحد حقيقي في غير سيف الدولة([21])، لذا كان شعره كله رسماً لهذه الصورة –أي صورة تفضيل سيف الدولة على غيره- مما حدا به الى أن يتناص([22]) كثيرا في شعره مع غيره-الكبار- ممن سبقه من الشعراء ، ولا سيما الذين كان لهم وضع مقارب منه في الهدف، أو في الابداع الشعري([23]).
وتوسع الشريف الرضي في فرش مساحة اختفاء المثال القدوة، عن طريق عكس المثال على نفسه مباشرة ،من خلال تاقلم التراث التقني الذي بثه بشدة في شعره([24]) ،مرتبطاً به مباشرة سواء كان ذلك عن طريق القيادة العربية عموماً، أوالقيادة الاسلامية الأصلية خصوصاً، كما أنه -في شعره- اتبع بشكل أو بآخر أسلوب المقارنة بين الأصيل المختفي إلاّ به –وهذا مصدره تراثي أصلاً- ، واللاأصيل الظاهر الآن والمتفشي في اكثر المجتمع ، ولهذا وجد في نفسه القيادة العربية الأصيلة –كونه عربياً خالصاً أباً عن جد- ، والقيادة الاسلامية الأصيلة -كونه شريفاً ونقيباً للطالبيين-.
لهذا أفاد الرضي بالاسترفاد من الماضي ، وأفاد من التناص مع كبار الشعراء القدماء، وبنى أكثر تناصاته على بنية الخطاب الشعري للمتنبي ، كما طور هدف المتنبي الشعري في الامارة أو الخلافة من الطريق غير المباشر الى الطريق المباشر به .
أما أبو العلاء المعري فقد تعاظم التراث التقني لديه كونه كان من أكبر مثقفي عصره ، فقد جمع بين الشعر و الفلسفة([25]) ، كما انه كان رهينا لمحبسين هما محبس الانعزال عن العالم([26]) الذي من أسبابه غياب المجتمع العربي الأصيل – فكأنه هرب الى التراث مباشرة- ، والمحبس الآخر هو محبس العمى([27])، الذي جعله يبدع في نتاجاته من جهة ، ويعبر عن الكثير من اطار المحنة الاجتماعية الحديثة من جهة أخرى ، لهذا كان انفتاحاً واسعاً في عرض الكثير من مفاتيح السلبيات الاجتماعية العصرية، أو المترسبة من عصور مضت.
ولهذا استرفد الكثير من أفكار المفكرين التراثيين ،ولا سيما الشعراء ،كما قام بالاقتداء بالمتنبي في شعره -عن طريق التناصات بينه وبين المتنبي- .
وعند استعراض بعض من نصوص التراث التقني لهؤلاء الشعراء سنجد خصوصيات هذا النموذج عندهم ، ودقائق هذه الخصوصيات .
ففي نص من نصوص المتنبي يتحدث الشاعر عن مقامه الرفيع الذي تجاوز الحدود ، حتى جعله كانه صورة مقدسة ، وقيادة انسانية عملاقة مما حدا بنقاد عصره أن يعدوه المستمسك الذي يثبتون من خلاله انه ادعى النبوة([28])،إذ قال:
ما مقامي بأرض نخلةَ إلاَّ كمُقام المسيحِ بينَ اليهودِ
مفرشي صهوةُ الحصانِ ولكـــنَّ قميصي مسرودةٌ من حديدِ
لأمَةٌ فاضةٌ أضاة دلاصٌ أحكمتْ نسجـها يـداداودِ
أين فضلي إذا قنعت من الدهـــرِ بعيشٍ مُعجَّل التنكـيد
أنا في أمة تداركها الله غر يب كصالح في ثمود([29])

فقد جمع الشاعر هنا بين صورة المسيح (عليه السلام) مع اليهود، وبين صورة داود (عليه السلام) وتفرده بمهنة نسج الدروع، وكلتا الصورتين تؤديان الى دلالة الاغتراب التي يشعر بها الشاعر كون المسيح(عليه السلام)كان غريبا بين اليهود ،وداود( عليه السلام) الذي تفرد بانتاجه الدروع، وتوسمها صورة القائد الذي يكافح سلبيات عصره لوحده، فضلاً عن صيغة الابداع الفريد التي تميز بها المتنبي كما تميز النبيان ( عليهما السلام) السابقان بابداعاتهما الفريدة أيضاً.
ويستحضر الشريف الرضي النبع نفسه لكن بصورة اوضح حينما يثبت ارتباط السلطان النقي به وعدم مشاركة الآخرين له، حينما قال:

أنا مولاكم وإن كنـتُ منكـم والدي حيدرٌ وأمـي البتـولُ
وإذا الناسُ أدركوا غاية الفخـ ر شآهم من قال جدي الرسولُ
يفرح الناسُ بـي لأني فضـلٌ والأنـامُ الـذي أراهُ فضولُ([30])
ففي الوقت الذي يؤكد التميز السلطاني يؤكد ارتباطه بالناس وكانه يريد أن يشفر الى مسألة كونه أمل الناس، أو منتخباً منهم عن طريق انتسابه للخليفة الراشدي الرابع(عليه السلام)، وابنة الرسول(صلى الله عليه واله وسلم) ، وكان ذلك يصب في أنه يمثل الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) في عصره .
ويؤكد الرضي الصورة هذه بسعة المكارم العريقة التي يتصف بها مما جعلته والد كل علاء بعد ما توارث الشروط الموضوعية لتسديد هذا العلاء، حينما قال:

ما عذرُ من ضربتْ به أعراقه حتى بلغن الى النبــي محمدِ
أن لا يمدَّ الى المكارمِ باعــه فينالُ منقطع العـلا والسـؤددِ
متـحلقاً حـتى تكون ذيولــه أبد الزمانِ عمـائماً للفرقـدِ([31]).
وينهل المعري من الصورة هذه ليثبت أنّ مزيته غير متصلة بأحد. ([32])
وننطلق من ذلك الى القيم العريقة التي تحولت الى تراث واضح في عصر هؤلاء الشعراء الذين رأوا في أنفسهم أدوات حقيقية لبث الدعوة من خلال تثبيت تلك القيم التي أوشكت على الاندثار في عصر حاول ايجاد قيم جديدة ، وغريبة عن قيم المجتمع العربي الاسلامي، فالمتنبي يعظ سجانه بأن لا يسمع من غير الثقاة، لأن مقالتهم فيها فساد للاسلام وقيمه العريقة، ولهذا فهو يتعكز على بعض الرموز السيئة كـ(اليهود)، و(أشقى ثمود) لكي يؤكد صدق دعوته تلك ، ولا يخفى مالهذه الرموز من علاقةقريبة مع صورة حديثة هي صورة الشهادة الكاذبة، وعلى المستوى البعيد صورة السجان الظالم ، فقال:
تُعَجـلُ فيَّ وجوب الحدودِ وحدي قُبيلَ وجـوبِ السجـودِ
وقيلَ: عدوتَ على العالمين بـيـن وِلادي وبـين القـعودِ
فمــا لكَ تقبلُ زورَ الكلامِ وقَدْرُ الشهـادةِ قَـدْرُ الشهـودِ
فلا تسمــعنَّ من الكامشين ولا تعبـأن بمحْــكِ اليهـودِ
وكن فارقاً بين دعوى أردتُ ودعـوى فعـلتُ بشأوٍ بعـيدِ
وفي جودِ كفيكَ ماجُدْتَ لي بنفسي ولو كنتُ أشقى ثمودِ ([33])
والشريف الرضي يرى أنّه –لولا مخافة الله- فالجاهلية تناسبنا أفضل من عصرنا لأنها ملتزمة بقيمها ، أما نحن فلم نلتزم بقيمنا –ونحن مسلمون- ،وكأنه صدى لمقولة الحسين ( عليه السلام) حينما تحدث الى أعدائه حول : انهم لو رجعوا الى أحسابهم –لو كانوا أحراراً -ما فعلوا فعلتهم معه، إذ يقول:
ولو كنتُ ذاهمـةٍ حُـرةٍ لرحلني الضيمُ عن منزلي
وكيف تقلـبُ ذي همـةٍ وقد لُزَّ بالقَرنِ الأطــولِ
اابى و لاحد أسطـو بهِ وأين الآباءُ من الأعـزلِ
ترى الجاهليةَ أحمى لنا وأنأى عن الموقف الأرذلِ
فلـولا الإله وتخـوافه رجعنا الى الطابـعِ الأولِ ([34])
اما المعري فيؤكد أن تفشي السيئين في عصره بحيث لا تجد خيرين ، حتى أنّ الأعمال السيئة الماضية تعد ذات مديات خيرة أيضاً، ولو حضر أصحاب هذه الأعمال لأعادوا النظر فيما فعلوا قياساً لقتامة الصورة السوداوية الحديثة التي تحول في أذهانهم صور ضحاياهم الى شهداء ، لأنهم بأعمالهم كانوا خيراً من المحدثين في اعمالهم ، إذ يقول:
لو بُعثَ المنصورُ نادى أيا مدينة التسليمِ لا تسلمِ
قد سكنَ القفرُ بنو هاشـمٍ وانتقل الملكُ إلى الديلمِ
لو كنتُ أدري أن عقباهم لذاكَ لم اقتلْ أبا مسلمِ
قد خدمَ الدولة مستنصحاً فألبستهُ خشية العظلمِ([35])
ويستحضر الشريف الرضي قضية سيادة النظريات المجردة للقيم - حتى لو لم تكن عربية اسلامية – أمَّا التطبيق فانه مفقود وبهذا فهو يلمح الى قضية النفاق التي بدأت تقلقل المجتمع مع مجيء رياح أجنبية اليه ، إذ يقول:
ما زلتُ اطرقُ المنازلَ بالنوى حتـى نزلتُ منازل النعمانِ
بالحيرة البيضاء حيـث تقابلت شُمُّ العمادِ عريضة الاعطان
شهدت بفضلِ الرافعـين قبابها وتبيـن البنيان فضل الباني
ما ينفع الماضين ان بقيت لـهم خطـط معمـرة بعمر فاني
ورأيت عجماء الطلول من البلى عـن منطقٍ عـربية التبيان
باقٍ بها حـظُّ العـيون وانـما لاحـظَّ فيـها اليومَ للآذان([36])
وفي الوقت الذي يستعرض الشريف الرضي – تناصاً – قول الامام علي (عليه السلام) في طرد الدنيا وذمها حينما كان الرضي ممثلاً له ولمكرماته في عصره في قوله:
إني اذا حلـب البخيـلُ لبانها أمسيت أحلبها دم الأوداج
خطبتني الدنيا فقلت لها ارجعي اني أراك كثيرة الازواج([37])
و نجد المعري يستحضر حكمة الامام علي ( عليه السلام) في قوله ( عليه السلام) :
اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا ، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا .
في قوله :
اعمل لاخراك شروى من يموتُ غداً
وادأب لدنياك فعل الغابر الباقي
إن البهائم مثل الانس غافلةٌ
وانما نحن بهم ذات ارباق ([38])
من ذلك وغيره نصل الى النتائج الاتية في هذا البحث :
1- امتاز التراث التقني في القرنين الرابع والخامس الهجريين عن بقية العصور كونه معبرًا عن حالة حية تمثلت برد فعل المبدع العربي تجاه مصادرة الكثير من القيم والمبادئ العربية الأصيلة بحلول السلطة الأجنبية على الدولة ، فكان الشاعر يحاول من خلال هذا التراث بعث القيم والمبادىء الأصيلة في عصره بحيث يبدو التراث مواكباً للحداثة وليس تراثاً فقط.
2- استطاع المبدع العربي ان يدخل التراث التقني الى نصه ويبنيه بناء محكماً بحيث اننا لانشعره حاضراً ولا ينتمي للماضي ، وبذلك كان مقدمة لما سمي بالعصر الحديث بقصيدة القناع ، وكان المتنبي ، والرضي ، والمعري رواداً في هذا الفن كما كانوا روادا في غيره.
هوامش البحث

([1]) ينظر مثلاً : الرائد /382 ، والمعجم الادبي / مادة ( تراث).

([2]) نستطيع ان نرى هذا التراث في ديوان أي شاعر سواء أكان قديماً ام حديثاً.

([3]) ينظر : اللسان / مادة ( شعر) .

([4]) لقد درس هذا الموضوع في العصر الحديث فقط لانه يعد ظاهرة مهمة جداً فيه وأبرز ما يظهر ذلك في قصيدة القناع ، ينظر مثلاً في ذلك :أثر التراث في الشعر العراقي الحديث ، وملامح الموروث القومي في القصيدة العراقية بعد سنة 1970 (ضمن كتاب دراسات نقدية في الادب العربي) .

([5]) وجدنا الصورة عند مجموعة من الشعراء الجاهليين في كل من دواوين مثلاً : ديوان امرئ القيس /18 ، 25 ، 63 ، 77 ، والحارث بن حلزة اليشكري / 36، 57 ، ودريد بن الصمة / 46 ، 57 ، 76 ، 78 ، وبعض الشعراء الاسلاميين ، مثلاً: ديوان كعب بن مالك / 60 ، 66 ، 87 ، وديوان أبي الأسود الدؤلي / 37 ، 48 ، 67 ، وديوان جرير / 48 ، 65 ، 75 ، وديوان الاخطل / 37 ، ومجموعة من الشعراء العباسيين من مثل :ديوان أبي نواس / 36 ، 95 ، 110 ، وديوان أبي تمام 1/ 45 ، 55 ،2/ 66 ، وديوان الببغاء / 77 ، 98، وفي العصور المتأخرة :ديوان الشاب الظريف /26 ، 47 ، والعصر الحديث : ديوان الجواهري/ 66 ،77 ،و ديوان نزار قباني / 56 ، 66 .

([6]) هذا واضح في أي نص حوى التراث .

([7])هذا واضح في أي نص حوى التراث .

([8])هذا واضح في أي نص حوى التراث .

([9]) ينظر مثلاً : ديوان المتنبي / 110 ، 112 ، 114 .

([10]) الدواوين التي اكتنزت هذه الظاهرة-ماقبل العصر العباسي- لاتتجاوز مجموعة محدودة جداً من الدواوين في كل عصر ، ففي العصر الجاهلي /ديوان امرئ القيس ، والحارث بن حلزة اليشكري ، ودريد بن الصمة ، والعصر الاسلامي : كعب بن مالك ، وأبو الأسود الدؤلي ، والعصور المتأخرة: الشاب الظريف ، والعصر الحديث اشهر من اهتمّ في ذلك : الجواهري ، ونزار قباني .

([11]) واشهر من اهتمّ في ذلك-على مستوى العصور عامة- : أبو نواس ، ومحمود الوراق ، وابو تمام ، والمتنبي ، والرضي ، والمعري ، والببغاء .

([12]) وأشهر من تصدّر ذلك هم شعراؤنا الذين ندرسهم الآن : المتنبي ، والرضي ، والمعري .

([13]) ينظر مثلاً :ديوان المتنبي / 60، 74 ، 112 ، 117 ، 129 ، 141 ، 159، 235 ، 261 ، 297 ، 357 ، 389 ، 403 ، 418 .

([14]) ينظر مثلاً: م.ن / 74 ،112، 129، 235.

([15]) ينظر مثلاً: ديوانه 1/56 ، 87 ، 89 ، 99 ، 102 ، 2/149 ، 155 ، 187، 197 ، 210 ، 299 .

([16]) ينظر مثلا : اللزوميات 1/ 25 ، 120، 133، 234، 2/11 ، 22، 33 .

([17])وذلك لأننا وجدنا أنّ الظاهرة عامرة في شعرهم بكثرة 0

([18]) ينظر : المتنبي وسيف الدولة /10-15.

([19])ينظر : م.ن /13-15.

([20])ينظر : المتنبي ظاهرة فذة /35.

([21])ينظر : م.ن /36.

([22])ينظر : م.ن /37.

([23]) ينظر:الشريف الرضي /17.

([24]) ينظر :ديوانه(مثلا)1 /25، 55، 66، 71،2/5، 16، 18، 44 .

([25]) ينظر : أبو العلاء المعري /36 ،والشعر والفلسفة/17.

([26])ينظر : الشعر والفلسفة /020

([27]) ينظر : المتنبي ظاهرة فذة / 27

([28]) ينظر مثلا: م.ن /16 .

([29])ديوانه / 160.

([30]) ديوانه 1/273.

([31]) م.ن 2/454 .

([32]) ينظر: أبو العلاء المعري/18.

([33]) ديوانه / 110.

([34]) ديوانه2/713.

([35]) اللزوميات2/ 332.

([36]) ديوانه 2/ 885 .

([37])م.ن 1 /186 .

([38]) اللزوميات2 /146.


المصادر والمراجع
- أبو العلاء المعري، د. أحمد عبد العزيز، دار الشروق –عمان، ط1، 2000.
- أثر التراث في الشعر العراقي الحديث ، د. احمد علي رستم ( مجلة الآداب اللبنانية ،ع4 ،1985 م ) .
- ديوان أبي الأسود الدؤلي ، تحقيق: د. عبد الكريم الدجيلي ، ط2 ، بيروت،1990.
-ديوان أبي تمام،تحقيق: دار الفارابي- بيروت، ط1 ، 1996.
- ديوان ابي نواس برواية الصولي ، تحقيق: د. بهجت الحديثي ، بغداد،ط1،1980 .
- ديوان الأخطل ، تحقيق: دار التراث – بيروت ، ط1 ،1992 .
- ديوان امرئ القيس ، تحقيق: محمد ابي الفضل ابراهيم ، ط1 ،1969 .
-ديوان الببغاء، تحقيق: دار التراث-بيروت،ط1 ،1995.
- ديوان جرير، تحقيق: دار صادر ، بيروت، ط1، 1985.
- ديوان الجواهري(المجموعة الكاملة)،دار الحرية للطباعة والنشر-بغداد،ط2، 2001.
- ديوان الحارث بن حلزة اليشكري، تحقيق: هاشم الطعان، دار صادر، بيروت، ط3، 1987.
- ديوان دريد بن الصمة، تحقيق: محمد خير البقاعي، دمشق، 1981.
-ديوان الشاب الظريف ، تحقيق: دار الغرب الاسلامي – بيروت ، ط1 ،2000.
- ديوان الشريف الرضي ، تحقيق: دار صادر،ودار بيروت – بيروت ، ط1،1961 .
- ديوان كعب بن مالك، تحقيق: د. سامي مكي العاني، بغداد ، 1975.
-ديوان المتنبي ، تحقيق: د. عبد المنعم خفاجي ، سعيد جودة السحار، د. عبد العزيز شرف ، مكتبة مصر – الفجالة ، د.ط ،د.ت .
- ديوان محمود الوراق ، تحقيق: دار صادر – بيروت ، ط1، 1999.
-ديوان نزار قباني ( الأعمال الشعرية الكاملة ) ،منشورات نزار قباني، بيروت-باريس ، ط14 ،1980 .
- الرائد،جبران مسعود،دار العلم للملايين-بيروت،ط1، 1980.
- الشريف الرضي ، محمود سامي، دار الشروق – عمان ،1999.
- الشعر والفلسفة ، د. أحمد عبد العزيز ( مجلة الفصول الاربعة – ليبيا - ع1 ، 1992 ).
-اللزوميات ، تحقيق: مجموعة من الاخصائيين ، دار الكتب العلمية – بيروت ، ط2 ،1986 .
- لسان العرب، ابن منظور (ت 711 هـ) ، تحقيق: مجموعة من الباحثين اللبنانيين، بيروت، ط1، 1995.
-المتنبي ظاهرة فذة ،د. احمد سامي ، دار الكتب العلمية – بيروت ، ط1 ،2000.
-المتنبي وسيف الدولة، د. أحمد سامي ، دار الكتب العلمية – بيروت ، ط 1،2000 .
-المعجم الادبي ،جبور عبد النور ، دار العلم للملايين – بيروت ، ط2، 1970.
- ملامح الموروث القومي في القصيدة العراقية بعد سنة 1970 ، د. محمود عبد الله الجادر ، ضمن كتاب ( دراسات نقدية في الادب العربي ) ، دار الحكمة للطباعة والنشر – الموصل ، 1990 .
المصدر: ملتقى شذرات

__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية

الكلمات الدلالية (Tags)
التراث, التقني, الرابع, الشعر, العربى, الهجريين, القرنين, والخامس


يتصفح الموضوع حالياً : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
أدوات الموضوع

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


المواضيع المتشابهه للموضوع التراث التقني في الشعر العربي في القرنين الرابع والخامس الهجريين
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
الحب في التراث العربي محمد خطاب الكاتب محمد خطاب ( فلسطين) 4 03-18-2016 11:10 AM
مدخل إلى التراث العربي الإسلامي عبدالناصر محمود دراسات ومراجع و بحوث اسلامية 0 10-25-2014 08:13 AM
الحجاز من خلال كتب الرحالة المشارقة خلال القرنين الثالث والرابع الهجريين .. دراسة تاريخية حضارية.pdf احمد ادريس بحوث ودراسات منوعة 0 04-08-2013 03:05 PM
الشعوبية ودورها في تشويه التراث العلمي العربي Eng.Jordan مقالات وتحليلات مختارة 0 11-20-2012 09:58 PM
المرأة والحب في الثراث العربي محمد خطاب أخبار ومختارات أدبية 3 01-17-2012 09:04 AM

   
|
 
 

  sitemap 

 


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 05:24 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.12 by vBS
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والمشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59