#1  
قديم 11-14-2016, 03:13 PM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,392
افتراضي إنشاء حضارة جديدة سياسة الموجة الثالثة .. الفين وهايدي توفلر ج2


إنشاء حضارة جديدة سياسة الموجة الثالثة / الفين وهيدي توفلر ترجمة: حافظ الجمالي ج2




الفصل الرابع الطريقة التي تنشئ بها الثروة في عام 1956، عَبّر الرجل القوي في الاتحاد السوفييتي نيكيتا خروتشيف، عن هذه الطريقة، بتبجّحه المشهور، قائلاً: "سوف نقبركم".. وكان يريد أن الشيوعية في السنوات القادمة، كانت ستسبق النظم الرأسمالية، اقتصادياً. ولكن هذا التبجح كان يحمل معه، ذلك التهديد بهزيمة عسكرية، ولقد انعكس ذلك في كل أرجاء المعمورة. ويبقى مع ذلك أنه في ذلك الحين، كانوا قلائل أولئك الذين يظنون- حتى ولو ببعض الغموض- أن ثورة من نوع النظام الغربي، في طريقة إنشاء الثروة، كانت على وشك أن تحوَّل التوازن العسكري في العالم- بل إنها كانت ستغير طبيعة الحرب نفسها. هذا الذي كان خروتشيف (وأكثر الأمريكيين) لا يعرفونه، هو أن عام 1956 كان العام الأول الذي لوحظ فيه أن القبات البيضاء ومستخدمي الخدمات، كانوا أكثر عدداً من القبات الزرقاء وعمال المعامل في الولايات المتحدة. كانت ذلك أول علامة على انحطاط الاقتصاد المصنعي للموجة الثانية، وبداية نشوء الموجة الثالثة. ولكي نحسن فهم التغيرات العجيبة في فن الحرب، التي جاءت في ذلك الحين، ولكي نتنبأ بالتغيرات الأخرى الأبعث على الدهشة والتي كان المستقبل يحتفظ بها لنا، ينبغي علينا أن ندرس الميزات العشر، الحاسمة، في اقتصاد الموجة الثالثة، وإليكم الآن - على الرغم من أننا سنكرر أقوالنا أحياناً- مفاتيح العائد، الاقتصادي والتزاحم العالمي. وكذلك أيضاً، مفاتيح الاقتصاد السياسي للقرن الواحد والعشرين. عوامل الإنتاج وعلى حين أن الأرض، والعمل، والمواد الأولية، ورأس المال، كانت العوامل الأساسية في إنتاج اقتصاد الموجة الثانية، فإن المعرفة - التي يُفهم منها هنا، بالمعنى الواسع، كلُّ مايتصل بالمعطيات، والإعلام، والصور، والرموز، والثقافة، والايديولوجيا والقيم - هي المصدر الأساسي لاقتصاد الموجة الثالثة. ولكن الفكرة القائلة بأن المعرفة تصبح البديل النهائي عن كل العوامل الأخرى للإنتاج تظل غير مفهومة كما ينبغي لها بل إن رجال الاقتصاد (علماءه)، والمحاسبين التقليديين مايزالون يجدون عناءاً في التلاؤم مع هذه الفكرة، لأنها صعبة أو عصيّة على الدخول إلى نطاق المقادير والكميات. وهذا الذي يجعل اقتصاد الموجة الثالثة، ثورياً حقاً، هو أنه إذا كانت الأرض، والعمل، والمواد الأولية، وحتى رأس المال، يمكن أن تُعدَّ كموارد ذات مدى محدود Finis فإن المعرفة من حيث المبدأ، لا تنتهي، وخلافاً لفرن، أو لسلسة تركيب([1])، نجد شركتين، استخداماها في الوقت نفسه، بالاعتماد على نفس المعرفة، للوصول إلى معرفة أكثر أيضاً. 2- قيم لا يمكن مسّها وعلى حين أنهم كانوا يقيسون قيمة أي شركةٍ من طراز الموجة الثانية بمصطلحات الموجود الفعلي، مثل الأملاك العقارية والمكنات والمخزون وقوائم التقويم، فإن قيمة المشاريع التي هي من طراز الموجة الثالثة، والناجحة، تقوم أكثر فأكثر، على قدرتها على كسب المعرفة، وتوليدها، وتوزيعها وتطبيقها، بصور استراتيجية وعملياتية. إن القيمة الحقيقية لمثل شركة كومباك Compaq وكوداك kodak وهيتاشي Hitachi أو Siemens تقومُ على أفكارُ وحدوس ومعلومات مخزّنة في رؤوس مستخدميهم، أو في بنوك المعطيات، أو الشهادات التي تحصل عليها هذه الشركات، أكثر مما نتعلق بالشاحنات، وخطوط الإنتاج، والثروات المادية الأخرى، التي يمكن التصرف بها. ثم إن رأس المال نفسه يقوم بعد الآن، وأكثر فأكثر، على ثروات لايستطاع لمسُها، أو لا يمكن أن تلمس. 3- تجزئة الإنتاج: إن الإنتاج الكثيف الذي يُعرَّف به اقتصاد الموجة الثانية يعتبر أكثر فأكثر، شيئاً فات أوانه، على حين أن الشركات تزود نفسها بأنظمة تصنيع، غنية الإعلام، بل وكثيراً ماتكون قد روبطت Reboti Sez (أي كُلَف بها، وبتشغيلها إنسان الروبو Robot) لكي تكون قادرة على تغيير صورة إنتاجها، بأسعار رخيصة، وقد تكون أحياناً مهيأة لكل طلبٍ ذي نوعية خاصة به، والنتيجة الثورية لهذا النموّ هي، في الواقع، "العدول عن الإنتاج الكثيف إلى الإنتاج الخفيف. ويُشجع التطوُّر باتجاه "التقنيات المرنة القادرة على التنويع وعلى تلبية اختيارات المستهلك، إلى الدرجة التي نرى معها أن متجر wal- Mart، يمكنه اليوم أن يقدِّم للمشتري مايقرب من 110.000 منتجٍ من نماذج وحجوم وأشكال وألوان مختلفة. ولكن وول- مارت يُسِّوق بالجملة. غير أن سوق الجملة نفسه، يتجزأ ليكوِّن أعشاشاً متمايزة، في الحين الذي تتنوّع فيه حاجات الزبائن ويرقى الإعلام بحيث يكون في وسع المصانع أن تنشئ أسواقاً صغيرة لتلبية الحاجات المتجددة. فالمتاجر و الحوانيت، والمساحات السطحية الكبرى المرخص بها، ونظام الطلب هاتفياً أو برقياً أو فاكسياً، والشراء عن طريق هاتف صغير، أو عن طريق الرسائل، بغية توزيع البضائع على الزبائن، في سوق يزداد تنويعها، ويُعدلُ فيها عن البضائع الموحدة التابعة للإنتاج الكثيف، وفي الوقت نفسه تُركَّز على الدعاية، مقاطع من السوق أصغر فأصغر، يُحصل عليها بوسائل إعلامية تزداد صغراً.. وما أزمة السلاسل التلفزيونية الكبرى، القديمة مثل A.B.C و CBC وNBC - على حين أن شركةTele commiu- nication أي شركة Denver، تقدِّم للمشاهدين مايقرب من 500 محطة تلفزيونية تتبادل العمل- إلا تأكيد على زوال غير متوقع لما يُسمَّى "بالجمهورالعام" ويستطيع الباعة، بفضل هذه الأنظمة أن يصيبوا المشترين، بدقة تتزايد من يوم إلى يوم. وهكذا فإن تخفيف الإنتاج المتواقت على مستوى الطلب، أو مستوى التوزيع، والتواصل، يثوّر الاقتصاد، بجعله يمر من تشابه مؤكد إلى اختلاف كبير. 4- العمل. ثم إن العمل نفسه قد تحوّل عما كان عليه، فالعمل القائم على القوة العضلية، واللامتخصّص، والمستند إلى حلول أي عامل محلّ الآخر، كان محرك الموجة الثانية. وكانت التربية الجماهيرية، على مثال المعمل، تهيئ العمال لعمل روتيني، ومتكرر، أما الموجة الثالثة، بالمقابل، فإنها تصحَبُ بعدم إمكانية التبادل المتزايد لليد العاملة، على حين أن حاجات اليد العاملة المختصة، ترتفع كما يرتفع السهم. إن القوة العضلية هي في الأساس قابلة للتبديد والاستهلاك. وهكذا فإن عاملاً ما، غير متخصص، يترك العمل أو يَسرَح، ويعوص عنه بسهولة، وبأجر يصل إلى الحد الأدنى. وبالمقابل فإن العامل الذي يكتسب درجة من الكفاءة المتخصصة، لما يتطلبه اقتصاد الموجة الثالثة، يجعلُ من الصعب والمكلف تغييره، لصعوبة الحصول على مثله. فإذا وجد حارس مسرّح من معمل كبير يعملُ لحساب الدفاع، تجاه مزاحمة كمية عنيفة من قبل عمال آخرين لا عمل لهم، يمكنه أن يجد عملاً كحارس في مدرسة مثلاً، أو في شركة لأعمال البرّ. وبالمقابل فإن المهندس الإلكتروني الذي أمضى سنين وسنين في بناء الأقمار الصناعية، لا يملكُ بالضرورة تلك المزايا المطلوبة للعمل في شركة متخصصة في تقنيات البيئة. والطبيب النسائي لا يملك ما يؤهله لجراحة الدماغ، وهكذا فإن الاختصاص الذي يزداد عمقاً والتجدّد السريع في أمر الكفاءات الضرورية، يقلّلان من إمكانية تبادل الاعمال أو اليد العاملة. وبمقدار ما تنمو الاقتصاداتُ، يَبرزُ تغيّرُ آخر على صورة "علاقة جديدة بين "العمل المباشر" والعمل غير المباشر. فالعمل المباشر، والإنتاج بالمصطلحات التقليدية (ولكن هذه تفقد معناها بسرعة) ثمرةٌ لجهد العمال الذين يُصنعون المنتج بصورة مشخصة في معاملهم. إنهم ينتجون القيمة المضافة، على حين أن كلّ المساهمات الأخرى. تعدُّ "غير منتجة" أو "غير مباشرة". اما في أيامنا هذه، فإنَّ هذه التمييزات يختلط أمرها، على حين أن العلاقة بين العمال وأصحاب الياقات البيضاء، من التقنيين أو الاختصاصيين، يهبط ليصبح على مستوى المعمل. ذلك أن العمل "اللامباشر" ينتج "على الأقل، مثل، هذه القيمة، إن لم يكن أكثر مما يعادل" العمل المباشر([2]). 5- التجديد: اقتصاديات اليابان وأوروبا، بعد أن شُفَيت من الحرب العالمية الثانية، أخذت المصانع الأمريكية، تخضع، في لنار المزاحمة. وطمعاً في مجابهتها، يصبح التجديد أمراً لابدَّ منه. ولابدَّ من أفكار جديدة من المنتجات والتقانات والسيرورات والتسويق والتمويل. وهكذا فإن مايشبه 1000 منتج جديد، تظهر في الأسواق الأمريكية، كلَّ شهر. وحتى قبل أن يحل الحاسوب 486 محل الحاسوب 386، كان الحاسوب 586 في طريقه إلى النضج. وهكذا فإن المصانع الذكية تشجع مستخدميها على اتخاذ المبادرة، وطرح أفكار جديدة، وحتى - إذا لزم الأمر- الاستغناء عن قواعد اللعبة. 6- السلّم (المدرج) تضيق، في عهد الموجة الثالثة، وحداتُ العمل، وبدلاً من العمال الذين يُهرعون بالآلاف، إلى أبواب المصنع نفسه - وهذه صورة كلاسيكية للاقتصاد الصناعي- نجد أن سُلم العمليات يتضاءل، في نفس الوقت الذي تصغر فيه أيضاً سُلم منتجات كثيرة. وتلك الكثرة من العمال الذين يقومون - في أهم مايقومون- بنفس العمل العضلي، تخلي المكان لمجموعات صغيرة متمايزة ومتميزة. وتقوم الشركات الكبرى بانتزاع الشحوم (أي بالاستغناء عن العمال الفائضين عن الحاجة)، كما أن الشركات الصغيرة تتضاعف. وعلى سبيل المثال، نقول: إن شركة IBM التي كان عندها 370000 عامل، تفسح المجال لصناع أكثر تواضعاً، في العالم كله. وحرصاً على البقاء، نجدها تسرح من العمال ماتستطيع، وتتجزأ هي نفسها إلى (13) وحدة عمل أصغر منها. أما في نظام الموجة الثالثة، فإن الشركات المعقدة كثيراً ما تغلّب اقتصاديات السُلّم (اقتصاد الشركات الكبيرة والانتاج الكثيف). وبتعبير آخر: إن الشركات الصغرى كثيراً ماتزيدُ في العدد على الشركات الكبرى. وكلما ازدادت الشراكة تعقيداً، تزداد الصعوبة على اليد اليسرى، أن تقوم بعمل اليد اليمنى (أي لا يكون العامل العادي قادراً على القيام بعمل العامل المتخصص). وتظهر بعضُ الشروخ طبعاً، ولكن يكثر مايلوح في الأفق من محاولات للتغلب على مافي عمل الكثرة من فوائد مرتقبة. وأما تلك الفكرة القديمة التي تقول: إن قوة أية شركة متعلقة بكبرها، فإنها تصبح فكرة أكل الدهر عليها... 7- التنظيم وطمعاً بالتلاؤم مع التغيرات التي تتتابع بسرعة كبيرة، تقومُ الشركات بالركض، معطية قصب السبق لمن يمزق بأسرع مايمكن، تلك البنى البيروقراطية التي خلفتها الموجة الثانية. وكان لشركات العهد الصناعي، تنظيمات متشابهة، إذ كان لها جميعاً تنظيم هرمي، بيروقراطي، من نوع واحد. أما في أيامنا فإن الأسواق والنقابات، وحاجات المستهلكين تسرع في التقلب والتغيير. وتُخضع المصانع لضغوط متنوعة، يُصبح معها التجانس البيروقراطي مرغماً على التنازل، لحساب البحث عن صور تنظيم غير معهودة من قبل. فكلمة "إعادة الهندسة، مثلاً، التي أصبحت أولى الكلمات قيمة في موضوع الإدارة، تحاول هذه إعادة تبنية([3]) المصنع أو الشركة، حول سيرورات؛ أكثر منها حول أسواق واختصاصات مجزّأة. وهكذا فإن البِنَى التي كانت مألوفةً وطبيعية، تمحّي لحساب تنظيمات أساسية matricie. ومجموعات مؤلفة من مشاريع ملائمة جداً للحاجات الانسانية (ol -hocratique)،([4]) ومراكز ربح. وفي الوقت نفسه تزداد تنوعاً، في تحالفاتها الاستراتيجية، وقيام شركات جمعية وكونسوريوهات، كثيراً ما تنسى الحدود الوطنية. ولما كانت الأسواق لا تقف عن التغيير، فإن الوضع المركّز، أقل أهمية من مرونة هامش المناورة. 8- اندماج الأنظمة: يتطلب التعقيد الاقتصادي المتزايد صوراً من الدمج والإدارة، أكثر رهافة مما كان مألوفاً، وأغنى وجوهاً.، وعلى هذا، فإن حالة المتجر (نابيسكو) ليست شاذة: إنه يجب على هذه الشركة- التي تبيع المواد الغذائية، أن تلبي، كل يوم، 500 طلب، فيها عدة مئات من آلاف المنتجات، وعليها أن ترسلها من 49 مصنعاً، و 13 مركز توزيع. وفي الوقت نفسه، يجب عليها أن تدير شؤون 30.000 عقد من المبيعات مع زبائنها ويحتاج الإشراف الذي يبلغ مثل هذا التعقيد، إلى صور جديدة من الإدارة، ودرجة أعلى من الدمج الممنهج. ومن هنا نشأت ضرورة حقن كميات كبيرة من المعلومات في برامج التنظيم. 9- البنية التحتية: وضماناً لانسجام المجموعة، ومتابعة كل المواد والمنتجات، وحسن توقيت التسليم (تسليم البضائع لأصحابها)، وإعلام المهندسين ورجال التسويق كلٍّ بمشاريعه، والاتصال بالمسؤولين في دائرة البحث والتنمية R. 8. D ([5])، وتقديم صورة منسجمة عما يجري، إلى الإدارة، تخصّص الشركة مليارات الدولارات للشبكات الإعلامية التي تصل الحواسيب بعضها ببعض، كما تصل مراكز المعطيات والتقانات الإعلامية الأخرى فيما بينها. وهذه البنية الإلكترونية الهائلة - التي كثيراً ماتقوم على استخدام الأقمار الصناعية- تصل مابين مصانع أو شركات كثيرة، مشركة إياها، في كثير من الأحيان، بالحواسيب وشبكات المموّنين، كما تصل بين الزبائن. وهنالك شبكات تصلُ بين شبكات أخرى، ولقد تعهدت اليابان بتحقيق هدف هام، تنفق عليه 250 مليار دولار،خلال خمس وعشرين سنة، من أجل إقامة شبكات أفضل، وأكثر سرعة. ومنذ أن كان "آل غور"، في مجلس الشيوخ، كان البطل الأول في وضع مشروع قانون، يهدف إلى تخصيص مليار دولار للمساهمة في إنشاء "شبكة وطنية للبحث والتعليم"، يكون عليها أن تعين الإعلام كما تعين الأوتوسترادات، السيارات. إن هذه المعابر الإلكترونية Sentiers electronioue، هي التي ستؤلف البنية التحتية الأساسية لاقتصاد الموجة الثالثة. 10- التسارع: ولا تزيد كل هذه التغيرات شيئاً، غير تسريع نسق العمليات والمبادلات التجارية. ويُعوِّض الزمن المكسوب عن الاقتصاديات التي تأخذ بمبدأ الإنتاج الكثيف. ولقد بلغت المزاحمة درجة من العنف، كما بلغت السرعات الضرورية درجة من الارتفاع، صرنا معها نتذكر المبدأ القديم (المثل القديم) القائل: الوقت من ذهب.. ولكن هذا المثل يطرأ عليه التحديث من يوم إلى يوم، لحساب من يقول اليوم: "إن كل دقيقة تمرُّ تزيد قيمتُها عن الدقيقة التي سبقتها...". وكما تشهد الوقائع، فإن تسليم البضائع المطلوبة في "وقت معين" كثر أو تكاثر إلى حد كبير. وكذلك زادت الضغوط التي تمارَس، للتقليل من الوقت اللازم لاتخاذ القرار، حتى لقد أصبح الزمن عاملاً متغيراً حرجاً Critique. وبدلاً من الهندسةENGINEERING/ البطيئة، المتتالية، والمتنامية، تنشأ تقنية التنظيم Organisation، المتواقت، وهكذا تدخل الشركات في صورة جديدة من التزاحم يسهل معها القول: إننا نتسابق مع الساعة". وقام Du Wayme Peterson ، المسؤول الكبير في شركة Merril - lynch بشرح مايقع، بقوله: إن المال يسير بسرعة أكبر من سرعة الضوء، فعلى الإعلام أن يمضي بسرعة أكبر". وعلى ذلك فإن الأعمال التجارية تصبح قريبة أكثر فأكثر من الزمن الحقيقي، بحكم التسارع، عندما نكون في عهود الموجة الثالثة. فإذا نظرنا إلى هذه السمات العشر، في مجموعها، والمختارة بين سمات كثيرة أخرى، وجدنا أنها تكشف عن تغيرات عظيمة في طريقة إنشاء الثروات، وعلى الرغم من أن الموجة الثالثة لم تكتمل، فإن تبني الولايات المتحدة واليابان وأوروبا الغربية نظامها الجديد، يُمثِّل من بعيد، ذلك التغيرُ الأعظم والأكبر أهمية، الذي عرفه الاقتصاد العالمي، منذ قامت المعامل المتفرقة المتناثرة، بتدشين الثورة الصناعية. ولكن هذا التحول التاريخي، الذي تسارع منذ النصف الأول للسبعينات، يبدو، وكأنه تقدّم تقدماً كبير في التسعينات، لكن الفكر الاقتصادي مع الأسف، مايزال متأخراً جداً في أمريكا. rrr الفصل الخامس الإمعان في المادية([6]) Materialo- machicime أو الماتريالو ماشيسم عندما كان رونالد ريغان مايزال يحتل البيت الأبيض، اجتمع فريق صغير ذات يوم حول طاولة غرفة الطعام العائلية" للنقاش حول المستقبل البعيد للولايات المتحدة. وكان بين هؤلاء ثمانية من علماء المستقبل (يعني المختصين بشؤون المستقبل). وانضم إليهم نائب الرئيس وثلاثة مستشارين كبار للرئيس، منهم دونالد ريغان، الذي كان قد عيّن منذ فترة قصيرة، كرئيس لمجموعة موظفي القصر الأبيض. وكان الاجتماع قد نُظِّم من قبل (أو على يد) مؤلفي هذه السطور، بناءاً على طلب من البيت الأبيض: وانفتح الاجتماع على ملاحظة مشتركة هي أنه إذا كان علماء المستقبل يختلفون اختلافاً كبيراً حول عدد من المشكلات التقنية، والاجتماعية، والسياسية، فإنهم كانوا مؤتلفين جميعاً في التفكير بأن الاقتصاد الأمريكي على وشك أن يعاني تغيراً عميقاً. وماكاد هذا الرأي يُعبر عنه، حتى انبرى رونالد ريغان، ليقول بعنف: "وإذن - وقال هذا متعجباً- أتظنون أننا سنعيش وبعضنا يقص للبعض الآخر شعره، أو سنعيش ونقطع الهمبورغر للأكلين؟! وأننا لن نكون أبداً دولة صناعية؟! وكان الرئيس ونائب الرئيس ينظران إلى كل الجهات بانتظار جواب ما. ولكن الضيوف الذكور كانوا يظهرون وكأنهم مذهولون، في أكثريتهم، مما ظهر في هذا الهجوم من مفاجأة وعنف. وكانت هيدي توفلر هي التي ردّت على هذا التحدّي، وقالت: كلا أيها السيد ريغان، وتذرعت بالصبر. ثم أضافت القول. إن الولايات المتحدة ستبقى دولة عظمى. والفرق هو أن الأشخاص الذين سيعملون في المعامل، سيكونون - أقل بقليل من عددهم الآن..". ثم أنها بعد أن شرحت مايفصل طرائق العمل التقليدية عن تلك التي تصلح لإنتاج الماسينتوش MACINTOSH ([7]) ذكرت أن الولايات المتحدة كانت، بلا أدنى ريب، واحدة من كبرى مصادر المنتجات الغذائية في العالم، على الرغم من أن الزراعة تشغلُ ما هو أقل من 2% من الشعب العامل. والواقع أنه في القرن الماضي، كلما تضاءل عدد العاملين في الزراعة، كانت هذه تعزّز مواقفها، ولا تتراجع. فلماذا لا يكون الأمر كذلك في القطاع الصناعي؟! والحقيقة أن مما يبعثُ على الدهشة، هو أن حجم الاستخدام الصناعي في الولايات المتحدة، بعد طلعات ونزلات، كان عام 1988 مثله عام 1968 تقريباً، أي أكثر بقليل من 19 مليون شخص.وكانت -الصناعة عام 1988 تساهم في الدخل القومي، كما كانت تفعل قبل ثلاثين سنة: ولكنها كانت تفعل ذلك، بجزء أقل، من الشعب العامل. ومن جهة أخرى، فإن ماحدث بعد ذلك شيء مكتوّبٌ، سهلٌ على الشرح. ذلك أن الشعب الأمريكي، من جهة أولى، وقسْمَهُ العامل من جهة ثانية، كان لهما أن يتابعها النمو كل المتابعة، ومن جهة أخرى فإن فريقاً كبيراً من الصناعيين أعادوا تنظيم صناعاتهم وأتمتوا طرق إنتاجهم في الثمانينات، وكان طبيعياً أن تهبط نسبة العاملين في الصناعة، بالنسبة إلى القطاعات الأخرى. وتبعاً لبعض التقديرات، يكون على البلاد أن تنشئ في السنوات العشر اللاحقة مالا يقل عن عشرة آلاف فرصة عمل، في اليوم الواحد، إلا أن قسماً قليلاً جداً من هذه، يمضي إلى القطاع الصناعي- وربما لن يكون هناك أية فرصة ولا ينبغي أن يوجد أية فرصة. وقد حدث مثل هذا التطوّر في اقتصادات اليابان، وأوروبا، (الغربية طبعاً). بيد أننا نسمع أحياناً، مايشبه كلمات رونالد ريغان من فم الناس الصناعيين، عندما تكون مؤسساتهم لا تُدار إدارة حسنة، أو من فم بعض النقابيين الذين يرون أعداد عمالهم تتناقص بقوة، أو على لسان بعض رجال الاقتصاد أو المؤرخين الذين يَدُقون الطبول لحساب العظمة الصناعية- تماماً كما لو أن أحداً ما، صرّح ذات يوم أنه يريد تخفيض الصناعة. وهناك وراء أكثر مايقال ويكتب، شعور من نوع ما، بأن الاستخدام في الأعمال اليدوية، أساساً، إذ ينتقل بالدرجة الأولى، إلى قطاع الخدمات والمهن الفكرية، لابُدَّ بصورة أو بأخرى، وأن يضير الاقتصاد في مجموعه، وأن قطاعاً صناعياً ضئيل الحجم (بمصطلحات عدد الوظائف أو فرص العمل) "يفرغ" البلاد من مادّتها أو جوهرها. وهذا مايذكرِّ بتصورات الفيزيوقراطيين الفرنسيين في القرن الثامن عشر، الذين كانوا لا يستطيعون تخيل قطاع الاقتصاد الصناعي ومستقبله بدون الزراعة لأنها هي النشاط المنتج الوحيد. المعنى الجديد للبطالة (البهالة ) تقوم الشكوى من "انحطاط الصناعة إلى حدٍّ كبير، على مصالح شخصية، وتستند إلى مفاهيم باطلة عن الثروة، والانتاج، والبطالة, فمنذ الستينات، أصبح الانتقال من العمل اليدوي أيام الموجة الثانية، إلى الخدمات. والفعاليات العالمية الرمزية Sujersymleolique.... حادثة عامة، مدهشة، وغير قابلة للانعكاس (غير عكوس). ذلك أن هذا النوع من الفعاليات، يشغلُ اليوم أكثر من ثلاثة أرباع الشعب العامل. أما على المستوى العالمي، فإن هذا الانتقال الكبير يجد مايوضحه، بشكل رائع، في هذا الحادث المدهش، فالصادارت العالمية من الخدمات ومن الخبرات العقلية، تبدو اليوم معادلة لصادرات الإلكترونيات والسيارات، أو، أيضاً، لمايُصدّر من المواد الغذائية والمحروقات. وكان المستقبليون قد تنبؤوا بهذا التطور، منذ الستينات. وبحكم أن المعنيين، تجاهلوا نُذرنا الأولى فإن هذا التطور قد تمّ بصورة أكثر فوضوية، مما كان ضرورياً. وبمقدار ماكانت الصناعات المتقادمة العهد التي تأخرت في تزويد إداراتها بالحواسيب والروبوتات، و بطء الأنظمة الإعلامية، في إعادة بناها، كانت ترى أنها سُبقت من قبل مزاحمين أكثر سرعة ومهارة. وصارَ تسريح العمال عظيماً. وكذلك كثُرت الإفلاسات. وكثيرون أولئك الذين عَزُوا هذا الخطأ إلى عدوانية الأجنبي، وارتفاع الفوائد المسرف أو انخفاضها المسرف، وإلى الإفراط في القيود، وإلى ألف عامل آخر. لاشك أن بعضاً من هذه الأسباب قد قامت بدورها، ولكن الخطأ لم يكن أقل من جانب الصناعات القديمة، مثل صناعة الصلب، والترسانات البحرية، وصناعات النسيج، وماكانت فيه من تصلب وعجرفة- وكانت هذه الشركات تهيمن منذ مدة طويلة على الاقتصاد، وانتهى قصر النظر، لدى إدارات هذه الصناعات، إلى معاقبة أولئك الذين كانوا بالتأكيد الأقل مسؤولية عن هذا الخطأ، والأقل قدرة على حماية أنفسهم- أي العمال. ولئن كان عددُ عمالِ الصناعة، قد ظل حتى عام 1988 على نفس المستوى الذي كان عليه عام 1968. فهذا لا يعني أن العمال المسرحين قد عادوا فوجدوا أعمالهم القديمة، بل إن الذي حدثَ هو أنه قامت نقابات من الموجة الثالثة لتحل محل الثانية، وكانت الشركات آنئذ بحاجة إلى قوة عمل مختلفة جذرياً من سابقاتها. وكانت مصانع الموجة الثانية تستخدم بالدرجة الأولى، عمالاً يمكن أن يحل أحدهم محل الآخر، وبالعكس، فإن عمليات الإنتاج المعاصرة للموجة الثالثة، كانت بحاجة إلى كفاءات متنوعة، ومتطورة باستمرار. وبتعبير آخر نقول إن العمال تنوعوا، ولم يعودوا قادرين على تبادل الأعمال، كسابقيهم، إلا بنسبة ضئيلة، وهذا مايعني أن مشكلة البطالة تطرح نفسها الآن، في أطر مختلفة جداً. وكان يمكنُ في الشركات السابقة للموجة الثالثة، حفز الاقتصاد، وخلق فرص عمل جديدة، بحقن جديد للتوظيفات، أو بزيادة القدرة الشرائية لدى المستهلكين. فلو أنه وجد مليون عاطل عن العمل، لكان من الممكن عندئذ تدفئة المكنة الاقتصادية، تدفئة كافية لاستيعاب هؤلاء العاطلين عن العمل. ذلك أن الاستخدامات كانت متماثلة، ولا تتطلب إلا القليل من الكفاءات، بحيث أن العامل كان يتعلم صورة عمله في أقل من ساعة، وهذا يعني أن من السهل على أي عامل أن يحل محل الآخر. أما في الاقتصاد العالي الرمزية، فإن الأمر ليس بنفس السهولة، ولهذا فإنه ليس يوسع نصائح كينيزي التقليدية، ولا المعالجات النقدية، أن تقدّم نتائج جيدة. ولنذكر أن John Maynard Keynes (حون مينار كينزي) في محاولته التغلّب على الأزمة الكبرى، أزمة الثلاثينات، دعا إلى زيادة الانفاقات العامة المموّلة على حساب عجز الموازنة، والمُعدة لملء جيوب المستهلكين. ومتى حصل هؤلاء على المال، فإنهم سيندفعون وراء المشتريات. وهذا مما يحفز رجال الصناعة على تكبير تجهيزاتهم، واستخدام أكبر للعاملين، وعندئذ نقول: وداعاً للبطالة. وكان رجالُ النقدِ يوصون بوسائل أخرى: مثل تغيير نسبة الفائدة، وزيادة أو تقليل الكتلة النقدية، وكانت هذه التدابير كافية لتنمية أو إضعاف القدرة الشرائية تبعاً للحاجات. أمّا في الاقتصاد العالمي اليوم، فإن مجرّد ملء جيوب المستهلكين بالمال، قد يؤدي بكل بساطة إلى جعله يمضي إلى ماوراء البحار، من غير أن يستفيد منه الاقتصاد الوطني أية فائدة. فالأمريكي الذي يشتري تلفزيوناً جديداً أو بلاتينة (للأسطوانات المضغوطة)([8])، لا يفعل شيئاً آخر غير نقل دولاراته إلى اليابان أو كوريا، أو ماليزيا، أو أي مكان آخر. وليس على المشتريات أن تزيد، بالضرورة، جملة الاستخدامات في الولايات المتحدة. غير أن في الاستراتيجيات العتيقة ثغرة أخرى أيضاً، من حيث أنها تظلّ مركزة على تداول النقد، لا على تداول المعرفة. بيد أنه لم يعد ممكناً، أن نقلل من البطالة، بمجرد زيادة عدد الاستخدامات، ذلك أن المشكلة لم تعد كمية فقط، إن البطالة قد أصبحت قضية "كيفٍ" لا قضية كم. وهؤلاء العاطلون عن العمل، بحاجة إلى المال، حاجة مُلحة، حفاظاً على بقائهم وبقاء أسرهم، وإنه لمن الضروري اجتماعياً، والمبرّر أخلاقياً، أن نقدّم لهم مساعدة من مستوى مقبول. غير أنّا في الاقتصاد العالي الرمزية، بحاجة إلى استراتيجية تقدّم بغية تخفيف حجم البطالة. ولا يمكن لهذه الاستراتيجية أن تكون ناجعة إلا بشرط الاستناد، لا إلى مساعدة مالية، بل إلى هبة معرفية وأكثر من ذلك أن الاستخدامات الجديدة قلّما يكون لها حظ في التحوِّل إلى معامل من النوع الذي مازلنا نتخيله. والشيء الذي يطلبونه (أي يطلبه العاطلون عن العمل)، ليس فقط هذا الاختصاص أو ذاك في الميكانيك، فقط، حتى ولا في الرياضيات، على مايدّعيه بعضُ الصناعيين - بل هو مساحةُ واسعة من الكفاءات الثقافية والقدرات أو الاستعدادات لتقبل العلاقات الاجتماعية. ويجب علينا أن نهيئ الناس، عن طريق النظام التعليمي و (التنظيمات المهنية) وبالتعليم المباشر.. لأعمال، من نوع صُوَر العناية التي يُمكن أن تقدم للشعب، شعب الموجة الثالثة (الذي يتنامى بسرعة) أو للأطفال أو لتعليم بعض المهن المتصلة بالخدمات الصحية، أو الأمان الشخصي، أو تعليم الآخرين، أو حسن قضاء أوقات الفراغ، أو زيادة التسليات، أو في قطاع السياحة وأشياء أخرى من هذا النوع. ويجب علينا أيضاً أن نبدأ باحترام هذه الخدمات، المقصورة حتى الآن على العالم الصناعي، بدلاً من شبه الاحتقار لأناس هذا القطاع، موحّدين بينه وبين صناع الهمبورغر، كما لو أن السيد ماكدونالد، يمكنه أن يرمز إلى مجموعة من الفعاليات، تشتمل في الوقت نفسه على التعليم، كما تشتمل على العمل في الوكالات العائلية (ماتعلق منها بالزوجين، أو مايتعلق بالحقوق العائلية) أو في مركز التصوير الشعاعي في مستشفى ما. وعدا ذلك، فإنه إذا كانت الأجور في قطاع الخدمات، هابطة جداً، فيما يقال، فإن الحلّ لا يكون في الأسى على الانحطاط النسبي للاستخدام في القطاع الصناعي، بل يكون في زيادة الإنتاجية في مختلف الخدمات، وابتكار صور مناسبة لتنظيم العمال، وللمفاوضات الجمعية. فالنقابات التي أُسست في الأصل، إما من أجل العمال المتخصصين، وإما لعمال الإنتاج الكثيف. يجب أن تتحول تحولاً كليّاً، أو ترك المجال حراً لبنى عالية الرمزية. فإذا أرادت النقابات أن تبقى حيّة، فإن عليها أن تَكُفَّ عن معاملة العمال، كما لو أنهم جمهور لا تميّز فيه، وأن تبدأ في النظر إليهم، كأفراد -شخصيات، وذلك بتقديم العون، لا بالوقوف ضد بعض التدابير الحسنة كالعمل في البيت والساعات المرنة، وتقاسم الوظائف والمراكز في العمل على سبيل المثال، بل في قبول هذا وأمثاله والخلاصة، فإن نمو الاقتصاد العالي الرمزية، يرغمنا على إعادة التفكير إعادة كلّية في مشكله البطالة. أما إعادة البحث في أقوال مهترئة، فإن ذلك يعني تحدِّي أولئك الذين يستفيدون منها. وهكذا فإن نظام خلق الثروة، في الموجة الثالثة، يُهدد السلطات المسيطرة التي تشغُل مراكز أُحسن الدفاع عنها في الشركات الكبرى، وفي النقابات والدول. طيف العمل العقلي. إن الاقتصاد العالي الرمزية لا يقضي على تصوراتنا المتآكلة القديمة العهد، في البطالة فقط، بل ويقضي أيضاً على طريقتنا في النظر إلى العمل نفسه. وعلينا، إذا أردنا فهم الواقع والصراعات من أجل السلطة، التي تنشأ عنه، أن نستنعين بمفردات جديدة. وهكذا فإن تقسيم الاقتصاد، إلى قطاعات يسمّونها مثلاً باسم "القطاع الزراعي" و"الصناعي" و"الخدمات، يزيد الموضوع غموضاً، بدلاً من أن يُوضّحهُ. ذلك أن سرعة التغيرات الحالية تقضي على هذه الصور من التمييز التي كانت، من قبل، شديدة الوضوح، وبدلاً من أن تتعلق بالتصنيفات القديمة، يكون من الأفضل أن ننظر إلى ماهو تحت الأسماء الشكلية، وأن نتساءل عما يجب أن يفعله المستخدمون في هذا المعمل أو ذاك، لكي يُنشئوا مايسمّى بالقيمة المضافة، ومتى طرحنا هذا السؤال، سرعان مانكتشف أن العمل في القطاعات الثلاثة، يقوم أكثر فأكثر على عمليات رمزية، في "عمل عقلي". أما اليوم، فإن مربي الماشية يحسبون نسب الكسب gain بالاستعانة بالحواسيب، ويقوم عمال "صناعة الحديد" بمراقبة لوحات الكترونية؛ ويُشغّل رجال المصارف المختصون بالتوظيف، كلَّ ميكروياتهم" السهلة الحمل، لكي يعملوا أو يتدخلوا في الأسواق المالية. وليس بالعظيم الأهمية إذا كان رجال الاقتصاد يفضلون الإشارة إلى هذه النشاطات، بقولهم: "زراعية"، أو "صناعية" أو "من قطاع الخدمات". وهكذا فإن المقولات المهنية نفسها تتخلخل. وعندما نقول عن شخص ما بأنه سائق مكنات أو مندوب تجاري، فهذا يعني تخيّل أشياء أكثر من تلك التي ينكشف عنها، ومن الأجدى والأنفع اليوم، أن نجمع العاملين تبعاً للعمليات الرمزية، أو العمل العقلي الذي يقومون به -من غير التوقف لمعرفة أي فئة يصنفون فيها وما إذا كانوا يعملون في متجر، أو في "نافلة" أو "معمل" أو "مستشفى" أو "ملعب". ونحن واجدون، فيما يمكن أن نسمِّيه."العمل العقلي"، الباحث العلمي، والمحلل المالي، والمبرمج الإعلامي، كما نجد المستخدم الوثائقي العادي. وقد يتساءل بعضهم، لم نحشرُ في نفس المجموعة، العالم والمستخدم في تجميع الوثائق؟! والجواب هو، فيما إذا كانت وظائفهما مختلفة فعلاً، أو أنهما يعملان كلا الاثنين في مستويات مختلفة جداً من التجريد.أو أنهما هما الاثنين- ومعهما ملايين الناس- لا يفعلون شيئاً آخر غير نقل الإعلام وإنشاء المزيد منه. إن عملهما رمزي كله. وحول وسط الطيف، سنجد مساحة كبيرة من"الاستخدامات،"المختلطة" منها أعمال تتطلب شيئاً من العمل المادي، وكذلك بعض التعامل مع الإعلام. فالسائق- الموزع في الـ Federal Express أو في الـ United Parcel service، يتعامل مع صناديق وحُزَم، ويسوق سيارة خدمة Scrvice؛ أما اليوم، فإنه يستخدم حاسوباً ordinateur موضوعاً في غرفته في المصانع العالية التكنولوجيا- رجل إعلامي عالي المستوى. وقل مثل ذلك في المستقبل في الفندق، والممرضة، وكثيرين آخرين. وهؤلاء أفراد لهم علاقاتٌ وصلاتٌ مع الجمهور، ولكنهم يقضون قسماً كبيراً من وقتهم، أيضاً، في إنتاج الإعلام وتقديمه. وإذا كنا في وكالات فورد، وجدنا أن الميكانيكين كانوا يظلون بلا ريب، ممتليء الأيدي بالشحم؛ ولكنهم، عما قريب، سيستخدمون نظاماً إعلامياً informatique (أو معلوماتياً)، أنشأهHeulett Packard ، سيساعدهم على ملاحظة الأعطال، ويقدم لهم باستمرار مئة خريطة تكنيكية، ومعطيات مختزنة في الذاكرات الإلكترونية. ويطلب منهم هذا النظام معلومات تكميلية حول السيارة التي يصلحونها؛ ويساعدهم على البحث، حدسياً، عما ينبغي لهم أو ما يحتاجون إليه في كتل من الأدوات؛ وهو ينشئ لهم علاقات استنتاجية، ويقود الناس، خلال المراحل المتتالية للعمل. تُرى أيكون هؤلاء عندما يتحادثون مع النظام، ميكانيكيين أم أناس يفكرون؟ وتلك المهام اليدوية، القائمة في الطرف السفلي من الطيف، هي التي تبدو في طريقها إلى الزوال. ولما كانت البروليتاريا هي الأقل عدداً، فإنها من الآن فصاعداً، أقلية. وأدق من ذلك أن نقول: إنه بمقدار ما ينكشف الاقتصاد العالي الرمزية، بكل ماله من قوة، فإن البروليتاريا، تصير كونيياتاريا، الفئة المعرفية.. واليوم، فإن القضايا الأساسية التي يجب أن تُطرح، حول عمل شخص ما، هي هذه: ماهي درجة أو نسبة مايشتمل عليه العمل من المعالجة المعلوماتية؟ وبأية درجة هو من التكرار أو القابلية للبرمجة، وأي مستوى من التجريد يقتضيها، وأي إمكانية يملكها العامل في الوصول إلى المصرف المركزي للمعلومات؛ وأي استقلال وأي درجة من المسؤولية يملكها؟ "ابتدائي" ضد "العالي" لا مجال لتغيّرات من هذا المستوى أو الضخامة، أن تتمّ من غير أن تؤدي إلى جملة صراعات على السلطة أو على محاولة التنبؤ: من سيربح فيها ومن سيخسر. وقد يكون من المفيد أن ننظر إلى المعامل(أو الشركات مثلاً)، هي أيضاً، من زاوية مكانها في طيف العمل العقلي.. ويجب علينا عندئذٍ ألا نصنفها في إطار"الصناعة" أو إطار"الخدمات" بل أن نُصنِّفها تبعاً لنوع العمل الذي يؤديه العاملون فيها، فعلياً. فشركة الـ CSX، مثلاً، تملك شبكات سكك حديدية في نصف الولايات المتحدة: وهي، في الوقت نفسه، واحدةٌ من أوائل الشركات العالمية للنقل البحري، ضمن الحاويات، ولكنها تعتبر نفسها أكثر فأكثر، كما لو أن الإعلام هو مهمتُها الأولى. ويرى Alex Mandl، أحد مديريها، أنّ الإعلام أحدُ العناصر الأعظم أهمية لخدمات شركته الناقلة. إنه لا يكفي أن نُسلِّم المنتجات. إذ أن الزبائن يريدون أن يكونوا مطلعين على مراحل تسليمها: فمتى تكون إرسالياتهم جاهزة، لكي يتم نقلها ثم ليتم استردادها؟ وأين هي في هذه اللحظة أو تلك؟ وكم ستكون الكلفة، وأي مشكلة يمكن أن توجد مع الجمارك، وأسئلة كثيرة أخرى. أما في شركاتنا، فإن الإعلام هو الذي يقوم بالدور الحركي(أو المحرك). وبتعبير آخر، فإن نسبة المستخدمين في شركة CSX، الذين يقعون في المراتب المتوسطة أو العليا، للطيف، لا يفتأ بتزايد. وهكذا نجد أننا مقودون إلى التفكير، أن الشركات يمكن، بالجملة، أن تَوزَّع بين"ابتدائية" و"وسطى"، و "عالية. وكما هي الحال في طيف العمل العقلي، فإنها تحتل في هذا الطيف، موقعاً يقابل حجم العمليات العقلية التي تقوم بها، كما يقابل التعقيد الموجود فيها. أما من الناحية(الابتدائية) فإن العمل العقلي يظل من حصّة بعض القادة، وملكاً لهم، فلا يترك لباقي المستخدمين إلا جهد عضلي، أو غير عقلي، على كل حال: ذلك أن هؤلاء العمال يكونون جهلة، أو أن ما يمكن أن يعرفوه، لا جدوى له في الإنتاج. وحتى في القطاع"العالي"، فإنه يمكن أن نلاحظ أمثلة كثيرة على"نقص الكفاءة"، أي تبسيط العمل، الذي يُرَدُّ إلى أدنى عناصره(أو مركباته) و مراقبته خطوة فخطوة. ومن حسن الحظ أن محاولات تطبيق هذه الطرائق التي أتمها أو قام بها فريدريك تايلور. F. TAYLOR، لاستخدامها في الإنتاج الصناعي، لبداية القرن العشرين، لم تعد الآن، إلا مجرد ظاهرة متخلفه من الماضي "الابتدائي" وليس تصوراً مسبقاً للمستقبل"الأعلى". ذلك أن كلّ مهمة بسيطة، يمكن تكرارها، دونما تفكير، ستدخل عما قريب في نظام"الروبتةRebotisation . وبالمعنى المعاكس، نقول إنه كلما اتجه الاقتصاد إلى إنتاج، جدير بالموجة الثالثة: اضطرت المصانع إلى إعادة النظر في دور المعرفة. أما في القطاع (العالي)، فإن الأكثر تقدماً من المصانع والشركات هي التي تقوم بها، بأكبر سرعة. وهي في الوقت نفسه، تُعيد تعريف العمل نفسه، وهذه تبدأ أو تعتمد على المبدأ القاتل: متى ردَدْنا العمل الجسدي إلى أدنى حدوده، وسلّمناه لآليات عالية التقنية، وتركنا العامل يعبر كل التعبير عن كفاياته الخاصة، رأينا أن الإنتاجية تعلو بوضوح، وتعلو معها الأرباح. إنها(أي المصانع العائدة للموجة الثالثة) تضع لنفسها هدفاً هو أن تستخدم عمالاً أو موظفين أقلّ عدداً،ولكنهم أكثر كفاءة، وأعلى راتباً. وحتى النشاطات، التي هي من النموذج المتوسط، والتي تستمر في استخدام اليد العاملة العادية، سنجدها تعتمد أكثر فأكثر، على"المعرفة" وترقى على سلم الطيف، طيف العمل العقلي.. وليست الشركات"العليا" عادة، من المؤسسات الخيرية، على الرغم من أن العمل يمضي لديها إلى أن يكون أقلّ إرهاقاً جسدياً، مما هي حاله في الإنتاج"البدائي"، ويكون محيطه أكثر إسعاداً، بل إنها تتطلّب من العاملين لديها، درجة عمل أرقى. ذلك أن المستخدمين يكونون محفوزين لاستخدام طاقاتهم العقلية، وكذلك إلى أن يوظفوا في عملهم، عواطفهم، وملكاتهم الحدسية، وخيالهم. ولهذا كان أنصار MARCUSE يدينون هذه الممارسات كصورة استغلال للمستخدمين، أسوأ أيضاً من سابقاتها. الأيديولوجيا"البدائية" كانت الثورة، في الاقتصادات الصناعية"الأولية" تقاس،عادة، بامتلاك أموال كان إنتاجها يعتبر(أو يُعَدُّ) جوهر الحياة الاقتصادية، وعلى العكس، فإن النشاطات الرمزية، أو نشاطات الخدمات، على الرغم من أنها لا يُستغنى عنها، لسوء الحظ، كانت تجد نفسها"غير منتجة". فإنتاج خيرات مادية- كالسيارات، والتراكتورات والتلفزيونات- كان يبدو كشيء "يقوم به الرجال أو لما هو أكثر من الرجال؛ وكانوا يشركون هذا بصفات أخرى مثل"العملي" و"الواقعي" أو"الإيجابي". وبالعكس فإن إنتاج المعرفة، بتبادل المعلومات، كان بالجملة" يرهق بأسوأ الأوصاف، ويُعَد"مجرد ورقيات". وكانت هذه المواقف تؤدي إلى فيضان من النتائج المترتبة عليها. مثال ذلك. القول: "إن الإنتاج يقوم على الجمع والتأليف بين موارد مالية، ومكنات، وقوة عمل يدوية. فالأولى " الأكثر أهميةً في مصنع ما، تكون مواد ملموسة أو أملاكاً محسوسة. ذلك أن الثروة القومية تنشأ من فائض الميزان التجاري. أما تبادل الخدمات فليس لها من الأهمية، إلا بقدر ما تيسّر تجارة البضائع؛ أما "التنشئة"(أي تكوين العامل، وما يثقف به، وما يعرفه أو يحسنه من أعمال أخرى) فإنها لا تُمثَل إلا بتبذير (للمال الحلال) ما لم يكن مهنياً وثيق الصلة بالعمل؛ أما البحث، فكان نوعاً من الهواية اللا واقعية؛ إذ ليس للفن( وفن البحث خاصة) من علاقة بعالم الأعمال. والأسوأ من هذا، أنه ضارٌ. وبالجملة فإن الشيء المهم في كلّ مادة، كان هو المادة. ومن جهة أخرى، فإن هذا النوع من الأفكار لم يكن وقفاً على رعاة الرأسمالية: بل إننا نجد ما يماثلها، في العالم الشيوعي. ذلك أنّ الرأسماليين الماركسيين شعروا -وهذا أقل ما يمكن أن يقال بحقهم- بصعوبة أكبر في دمج العمل"العالي" في هياكل ([9]) العمل عندهم. أما في المجال الفني، فإن الواقعية الاشتراكية، رسمت آلافاً من العمال السعداء، كانوا يبرزون نوعاً من العضلات على طريقة الـ SCHWARZENEGGER فوق بساط من آلات متراكبة، أو مداخن مصنع، أو قاطرة على البخار. والواقع أن تمجيد البروليتاريا- المنظور إليها، نظرياً، كما لو أنها طليعة التقدم، كان يعكس موضوعات اقتصاد"بدائي".. وكانت النتيجة الكلية أكثر بكثير من تجميع لا شكل له من الآراء، والموضوعات والمواقف المعزولة. وكان الأمر أمرَ إيديولوجية قادرة على تبرير نفسها، وتعزيز قوتها، بالاعتماد على عزمها الخاص- وهي إيديولوجيا تقوم على ماتريالو- ما شيسم materialo- machisme (نظرية مادية- ماكينية) وهذه تؤلف في الواقع إيديولوجية الصناعة الكثيفة الإنتاج، صناعة الموجة الثانية. وحدث يوماً ما أن الماتيريالو- ماشيسم(مادية المكنات) كانت تعني شيئاً ما. أما اليوم، أي في الحين الذي نجد فيه أن أكثرية المنتجات، تدين بقيمتها الحقيقية إلى المعرفة التي تتجسد فيها، فإن من الحمق والرجعية أن نأخذ بها. وكل بلد يختار الاعتماد على سياسة قائمة على هذه الإيديولوجيا، تحكم على نفسها بنفسها، في أن تكون بنغلاديش القرن الواحد والعشرين. الأيديولوجيا (العالية) إن المصانع والمؤسسات، والأشخاص المعنيين أكثر من كل الآخرين، بقدوم اقتصاد الموجة الثالثة، لم يُنضجوا بعد عقيدة منسجمة يقفون بها ضد المادية- الآلية؛ غير أن بعض الأفكار الأساسية بدأت تتجمع، لتكوين مثل هذه العقيدة. وتبدو أولى المواد الجزئية، للاقتصاد الجديد، في أعمال مجهولة لمؤلفين مثل أوجين لوبيل Eugen Loebl . الذي مات حديثاً، والذي قضى إحد عشر عاماً في السجن، في تشبكو سلوفاكبا. وكان أثناءها يعيد التفكير في الموضوعات الأساسية للاقتصاد الماركسي، وكذلك في موضوعات(([10]) الاقتصاد الغربي) ومثل Henry K. Hwoo من هونغ كونغ، الذي حَلّل "الأبعاد اللا ملحوظة للثروة: ومثل Genevois orio Giarini ، الذي يطبق مفاهيم المغامرة واللا تعيين على تحليل مستقبل نشاط الخدمات sevices ومثل الامريكي WALTER WEISSKOPF الذي يبحث في دور شروط اللا توازن في نمو الاقتصاد. أما الباحثون العلميون اليوم، فإنهم يتساءلون: كيف أن الأنظمة تتكيف في حالة الاضطراب، وكيف أن نظاماً ما، ينتهي بأن يتحرر من الأوضاع الفوضوية، وكيف أن نظماً في حالة التطور، تقفز إلى درجات عالية من النمو؟ وحقاً فإن كلّ هذه المسائل ذات أهمية كبيرة في فهم النشاط الاقتصادي. وهناك كتب في علم الإدارة تؤكد أنه يمكن "النجاح بفضل الفوضى". وهناك علماء اقتصاد يعيدون اكتشاف أعمال جوزيف شومبيتر Joseph Schumpeter الذي كان يرى أن"التهدم الخلاق" ضروري للتقدم. فمن(خلال) عاصفة لعروض الشراء OPA([11]) وإعادة بيع، وإعادة تنظيم، وإفلاسات ومشاركه في الرأسمال الخطر أو المخاطرة به capital - risque ..يعود الاقتصاد فيدخل في طريقه إلى إعادة بنيته التي تفوز بسنوات ضوئية في التقدم على الاقتصاد المصنعي القديم، بفضل تنوعه، وسرعة تطوره، وتعقده. وتقتضي "القفزة" التي تلقي بنا إلى درجة عالية من، السرعة والتنوع والتعقيد، أن تتم قفزة أخرى، باتجاه أشكال من الاندماج، أكثر ارتقاءاً، وأعظم تأنقاً. ولا يميل هذا التحول، بدوره، إلى الاكتمال، إلا برفع معالجة الإعلام إلى مستويات عليا. وكانت ثقافة العهد الصناعي المستلهمة من أعمال ديكارت العائدة إلى القرن السابع عشر، تفضل أولئك الذين يظهرون قدرة أكبر على رد المشكلات والسيرورات، إلى أصغر عناصرها. وعندما طبقت هذه الطريقة القائمة على الفصل المتتابع، والتحليل المكتمل Exhaustve، للإقتصاد على فهم الإنتاج، على صورة تتابع لمراحل معزولة. ان نموذج الإنتاج الجديد الذي يثيره الاقتصاد العالي الرمزية، الموجود حالياً يعارض سلفه معارضة مشهودة، أي يعارض النموذج السابق. ولما كان الجديد، يقوم على منظور منهجي، أو دمجي، فإنه يتصور الإنتاج، كسيرورة متزايدة التركيب والتواقت، حيث نجد المجموع البسيط للأجزاء لا يؤلف الكل، وحيث ما من واحدٍ منها يستطيع بصورة مطلقة أن يظل بلا علاقات مع الأجزاء الأخرى. والواقع هو أننا في الطريق إلى اكتشاف أن الإنتاج لا يبدأ ولا ينتهي، داخل المصنع. وهكذا فإن أحدث نماذج الإنتاج التي أنشئت من وجهة النظر الاقتصادية. تمدد دراسة السيرورة إلى ما فوقها، وما تحتها، وإلى ما تحتها خاصة، أي باتجاه المستقبل، على صورة خدمات بعد البيع، أو دعم للمنتج الذي تمّ بيعه، على نحو ما يُرى في حالة ضمان إصلاح السيارات أو العون الموعود للمشتري من قبل بائع الحواسيب، ولن يمضي إلا وقت قصير حتى يمتد مفهوم الإنتاج إلى أبعد من هذا أيضاً، فيشمل الفترة اللاحقة لاستهلاك المنتج أي حتى قبره، في شروط بيئية مقبولة. وعندئذٍ تكون المصانع مرغمة على وضع خطة مناسبة للقبر أو الدفن. وهذا ما يرغمها على إعادة النظر في خصائص مشاريعها، وحساباتها للكلفة، وصور إنتاجها. وأشياء أخرى أيضاً. فإذا هي أنجزت ذلك، فإنها تقدم مزيداً من الخدمات بالنسبة أو بالإضافة إلى وظيفة الإنتاج. وفي هذه اللحظة، سينظر إلى "الإنتاج" كما لو أنه جملة هذه الوظائف معاً. ويمكن أن يرقى التفكير، إلى ما هو أعلى من ذلك، لكي يشمل تنشئة المواطنين أو العاملين، والبيئة المجاورة، وخدمات أخرى. وإذا وصلنا إلى الحدّ الأخير، وجدنا وسائل لتحويل العامل"اليدوي" المستاء من سوء حظه، إلى"شخصية منتجة". وعندما تكون النشاطات(الفعاليات) عالية الرمزية، فإن العمال السعداء يرفعون مستوى إنتاجهم. وينشأ عن ذلك، أن عوامل الإنتاجية تعود إلى ما قبل البداية الرسمية ليوم العمل. وبطبيعة الحال فإن الأوفياء للأيام القديمة السعيدة، ينظرون إلى إعادة التعريف الموسّعة هذه، للإنتاج، كما لو أنها غامضة تماماً وغير معقولة، بأية حال. أما بالنسبة للجيل الجديد من قادة الاقتصاد العالي الرمزية، المنشئين والمعوّدين على التفكير في صيغة نظامية، أكثر من تعوّدهم وظائف معزولة، فإن هذا المفهوم ينشأ مباشرة عن الينبوع. والخلاصة، أن مفهوم الإنتاج، يعاد تكوينه حالياً، في إطار أكثر اتساعاً، وهو يشتمل على جوانبَ، ما كان لجيل الاقتصاديين ومؤدلجي التفكير"البدائي" أن يدخلوها في حساباتهم. ومنذ الآن، فإن ما يجسّد القيمة وينشئها، في كل لحظة، هو المعرفة، لا اليد العاملة، الرخيصة، والرموز، وليس المادة الأولية. ولنضف إلى ما سبق، أن إعادة الفحص العميقة لمصادر القيمة المضافة، تؤدي إلى نتائج ضخمة: إنها تقضي على المواضيع المشتركة بين أنصار الليبرالية- المتطرفة، والماركسيين، بقضائها على المادية- الماشيسمية، التي تستلهم أفكارهم منها أولئك وهؤلاء. وهكذا فإن التصورين المتقابلين اللذين يريدان أن تنشأ القيمة من عمل العامل المضني وحده. أو من عمل الرأسمالي صاحب المشاريع- ينكشفان خاطئين معاً، وخطيرين خادعين على الأرضية السياسية، كما هي الحال في المجال الاقتصادي. أما في الاقتصاد الجديد، فإن الآنسة المكلفة بشؤون الاستقبال ، شأنها شأن صاحب المصرف الممول، والميكانوغراف(مصور الآلات)، (أو واضع مشاريعها)، ومثل البائعة، كل هؤلاء بالإضافة إلى منشيء المنظومات الإعلامية، والمختص بالاتصالات، يشاركون جميعاً بخلق القيمة المضافة . والحادث الأكثر دلالة أيضاً، هو أن الزبون نفسه يقوم بمثل هذا هو أيضاً. ذلك أن القيمة تنشأ عن الجهد الجمعي، لا عن مرحلة معزولة في هذا المكان من السيرورة أو ذاك. ومهما يَعلْ نعيق الغربان، في الحسرة على النتائج المحزنة"لموت" القاعدة الاقتصادية المادية،أو على المحاولات الهادفة إلى السخرية من مفهوم"اقتصاد الإعلام"، فإن الأهمية المتزايدة للعمل العقلي، تستمر في تأكيد وجودها. وسيكون الأمر كذلك فيما يتعلق بتصور خلق الثروة. وهذا الذي نشهده، هو التقاء للتحولات التي تُلاحظ، في الآن نفسه في الإنتاج، وفي بنية رأس المال، وحتى في طبيعة العملة. ثم إنّ مجموع هذه التغيرات في طريقها إلى إقامة نظام ثوري يخلق الثروة، على مستوى الكرة الأرضية كلها. وكان ماركس هو نفسه، الذي قدّم التعريف الكلاسيكي للوضع الثوري. إنه ينشأ، تبعاً له، عندما تكون علاقات الإنتاج (أي طبيعة ملكيته ومراقبته أو التحكم فيه) عاملاً يَحدّ من نموّ وسائل الإنتاج (أي التكنولوجيا، بالعربي الفصيح.). وهذه الصيغة هي التي تجعلنا نفهم أزمة"العالم الاشتراكي". وكما أنّ هذه العلاقات عندما كانت إقطاعية، كانت تعرقل النموّ الصناعي، فإن علاقات النموذج الاشتراكي، قد حالت بين البلاد الاشتراكية وبين الاستفادة من النظام الجديد لخلق الثروة. rrr الفصل السادس اصطدام الاشتراكية بالمستقبل. إن انتهاء اشتراكية الشرق أو زوالها، الذي تم على أرضية مؤلمة من إراقة الدم في بوخارست، وباكو، وبيكين، ليست مجرد نتيجة للمصادفة. إذ لقد دخلت الاشتراكية، في مرحلة الاصطدام بالمستقبل. ولم تسقط الأنظمة الاشتراكية بفعل المؤامرات التي حاكتها ااـ CIA، أو بسبب محاصرة رأسمالية، ولابسبب عن اختناق اقتصادي أعِدَّ من الخارج. ثم إن حكومات أوروبا الشيوعية في الشرق، تخلّت عن مبادئ نظرية الأقنعة dominos، منذ أن أعلنت موسكو أنها لن ترسل بعد الآن كتائب عسكرية لحمايتها من شعوبها. غير أن أزمة الاشتراكية، في الاتحاد السوفييتي، والصين، وأماكن أخرى، تقول أن هذه الأزمة قضت على الاشتراكية، من حيث هي نظام، بفعل عوامل أكثر عمقاً. وكما أن اختراع طريقة الطباعة بحروفٍ متحركةِ تخيَّلها رجلٌ اسمه غوتنبرغ Gutenberg، في منتصف القرن الخامس عشر، قد أدى إلى الإصلاح البروتستانتي، فإن ظهور الأنفورماتيك infonmatique، في منتصف القرن العشرين وظهور وسائل الاتصال الجديدة،قد حطم هيمنة موسكو على الفكر في البلاد التي كان يحكمها أو يوجهها أو يبقيها في قبضته. أما أن يكون الاقتصاديون الماركسيون(وكثيرون آخرون، أكثر كلاسيكية) قد استطاعوا وصف العمال العقليين بكونهم "غير منتجين، فذلك من سخرية التاريخ نفسها، وذلك أن هؤلاء العمال "غير المنتجين" هم الذين عملوا أكثر من غيرهم، لدفع عجلة الاقتصادات الغربية، بدءاً من منتصف الخمسينيات. واليوم، حتى مع كل ما يقال عن "تناقضات" غير محلولة، فإن البلاد الرأسمالية ذات التقانة العالية أو المتقدمة، قد سبقت بقية العالم- سبقاً كبيراً،على المستوى الاقتصادي، إلى الدرجة التي يصبح معها حلم خروتشيف مشجياً. إنها رأسمالية تقوم على الأنفورماتيك(علم المعلوميات؟) وليست الاشتراكية المصنعية التي أنجزت ما يسميه الماركسيون"بالقفزة النوعية". وأمام انتشار الثورة في البلاد ذات التقانة المتقدمة، لم يكن للبلاد الاشتراكية من رد آخر، غير التحول إلى كتلة رجعية مفرطة، يقودها شيوخ كبار مشبعون بإيديولوجية القرن التاسع عشر، وكان ميخائيل غورباتشيف أول قائد سوفييتي، يعترف بهذا الواقع التاريخي. ففي خطاب له ألقي عام 1989، أي بعد ثلاثين سنة من ظهور النظام الجديد لخلق الثروة في الولايات المتحدة، كان يقول: "نكاد أن نكون آخر من فهم أنه" في عهد علم المعلوماتية" ليس هنالك من سيد قوي إلا المعرفة . وكان ماركس قد قدم التعريف الكلاسيكي للوضع الثوري. وهو يرى أن هذا الوضع يبرز، عندما تكون"علاقات الإنتاج" (أي طبيعة ملكيتها، والتحكم بها) تحد من تزايد نمو"وسائل الإنتاج" (أي التكنولوجيا بالقلم العريض).. إن هذه الصيغة تقدم لنا شرحاً لأزمة العالم الاشتراكي.. فكما أن"العلاقات الإقطاعية" حالت دون التنمية الصناعية، فكذلك الحال في"علاقات الإنتاج" الاشتراكية، عندما منعت البلاد الاشتراكية من الاستفادة من النظام الجديد لخلق الثروة، القائم على " المعلوماتية linformatique"([12]).وسرعة الاتصالات. ويقوم الخطأ الأساسي الملازم لتجربة الشعب الكبير الاشتراكي، على أفكارٍ تقادم العهدُ عليها، وظلّ هو يعمل بها، في نطاق جدوى المعرفة.. المكنة السابقة لعلم التوجيه. وبغض النظر عن بعض الإستثناءات القليلة، يمكن القول: إن الاشتراكية لم تؤد إلى غزارة الإنتاج، ولا إلى المساواة، ولا إلى الحرية. ولكنها أدت إلى نظام الحزب الواحد، والبيروقراطية الكثيفة،و شرطة سرّية عوجاء، ومراقبة حكومية عنيفة لوسائل الإعلام، والاحتفاظ بسر أو أسرار الحكم، وقمع الحرية الفكرية والفنية. وإذا تركنا جانباً أنهار الدم التي أُريقت من أجل إقامة هذا النظام، ودعمه وضمان استقراره، فإن نظرة سريعة إليه تكشف عن أن كل عنصر من هذه العناصر، ليس مجرد طريقة لتنظيم حياة الأفراد، بل- وبصورة أكثر عمقاً، بل هو صورةً لتنظيم المعرفة، وتقنينها، والرقابة عليها. إن وظيفة النظام السياسي القائم على الحزب الواحد، هو مراقبة الاتصالات السياسية، ولما لم يكن هنالك من حزب آخر، فإنه(أي النظام) يضيّق من تنوّع الإعلام السياسي الذي يتداول في المجتمع، ويكون حائلاً دون الأثر الإرتجاعي retroaetion، ومعمياً أولئك الذين يحتلون مراكز السلطة.. عن تعقيد المشاكل. ومنذئذٍ يصبح من الصعب جداً على النظام أن يلاحظ الأخطاء أو أن يُصَحّحها بمقدار ما يصعد فيه الإعلام- المتطابق بين مختلف عناصره- من القاعدة إلى القمة، بالطرق الوحيدة المرخَص بها، وبمقدار ما تنزل الأوامر، بنفس الطرق. وكانت الرقابة، من فوق إلى تحت- المعمول بها في البلاد الاشتراكية، تقوم على الكذب، وتشويه الإعلام، أو منعه. وذلك لأنه كان من أعسر الأشياء وأخطرها، نقل أخبار سيئة، فإذا نحن اخترنا أن نُحكم تبعاً لنظام الحزب الواحد، فهذا يعني في الواقع، أن نتخذ كل القرارات في شأن المعرفة. ثم إن البيروقراطية الساحقة التي أقامتها الاشتراكية في كل حلقة من حلقات الحياة. كانت وسيلة للتضييق على المعرفة. وكانت هذه البيروقراطية، تحبسها في جيوب معينة سلفاً، وتضيق الخناق على الاتصالات، بحيث تقصرها على "طرق رسمية" جاعلة كل اتصال، وكل تنظيم إعلامي، شيئاً غير مشروع. فالشرطة السرّية، ووضع يد الدولة على وسائل الإعلام، وإرهاب المفكرين، وقمع الحريات الفنية، كانت من بعض المحاولات الكثيرة للحد من الإعلام، وفرض الرقابة عليه ويستند كل واحد من هذه العناصر إلى موضوعةٍ وحيدة مهترئة ومتجاوَزة- حول المعرفة. وهي موضوعة توحي بالرأي المتعجرف الذي يرى أن أولئك الذين يملكون السلطة- من حقهم أن يعرفوا ما يجب على الآخرين أن يعرفوه. وكانت هذه الخصائص المشتركة بين كل البلاد الاشتراكية، تنشأ عن مفهوم المكنة السابقة للتوجيه([13])، على نحو ما كان مطبّقاً على المجتمع، والحياة معاً، وكانت تضمن، في الاقتصاد، غباءاً ظاهراً. وكانت مكنات الموجة الثانية،، تماماً كتلك التي كانت جزءاً من عالم ماركس في القرن التاسع عشر- تعمل، في أغلبيتها من دون أي مفعول رجعي. وكأنما يقال للعمال: حركوها؛ أشعلوا المحرك، وتبدأ هي، عندئذٍ، عملها دون أيِّ حساب لما يجري في محيطها الخارجي. وبالمقابل، فإن مكنات الموجة الثالثة، ذكية. فهي مجهزة بلواقط تعترض الإعلام من المحيط، وتلاحظ التغيرات الحاصلة، وتتلاءم معها بالنتيجة. إنها تنظم نفسها بنفسها. وهكذا يكون الفارق بينها وبين سابقاتها، فارقاً ثورياً.. وكان المنظّرون الماركسيون، تماماً كما تكشف عن ذلك مصطلحاتهم، يظلون متعثرين. بماضي الموجة الثانية، غائصين فيها. وهكذا فإن الصراع الطبقي كان يُمثل بالنسبة للاشتراكيين الماركسيين "قاطرة التاريخ". كانت إحدى المهام الأساسية لديهم أن يضعوا اليد على"مكنة الدولة"، وحتى على المجتمع نفسه، كأنه مكنة تماماً، يمكن أن تُمتح لتفيض رخاءاً وحرية على الناس. وعندما تولى لينين عام 1917 زمام السلطة صار الميكانيكي الأعلى. وكان يفهم، كمثقف لامع، أهمية الأفكار، ولكنه كان يحسب أن الإنتاج الرمزي -أي العقل نفسه- يمكنه هو أيضاً أن يبرمج. وهناك حيث كان ماركس يتحدث عن الحرية، كان لينبن، بعد استيلائه على السلطة، يحّمل نفسه مسؤولية المعرفة. وهكذا، فإنه ألحّ دوماً على أن يكون الفن، والثقافة، والعلم، والصحافة، وأي نشاط آخر، في خدمة استراتيجية كلية، وفي الوقت المراد، كانت فروع التربية المختلفة، بانتظار تنظيمها، في إدارات معيّنة، تمنح درجات بيروقراطية محدّدة، على أن تخضع هذه وغيرُها لسلطة الحزب والدولة. عندئذٍ سيستخدم "العمال المثقفون" في مؤسسات تراقبها، وتتحكم فيها وزارة للثقافة. وكذلك فإن النشر والإذاعة وأمثالها، تكون تحت إشراف الدولة، كما أن المعرفة تصبح هي نفسها دولاباً من دواليب الدولة. وهذه المقاربة الناقصة للمعرفة، والمتعارضة كل التعارض مع المبادئ الأساسية لكل تقدم اقتصادي في عصر "علم المعلوماتية" هي التي حالت دون كل تقدم في المصانع ذات المستوى الهابط. معضلة الملكية ويؤلف الانتشار الحالي لنظام خلق الثروة، في عهد الموجة الثالثة، تحدياً لأعمدة العقيدة الاشتراكية. ولنأخذ على سبيل المثال، موضوع الملكية. ومنذ زمن طويل، كان الاشتراكيون يتهمّون الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، بأنها السبب في القهر، والوهن، والبطالة، ومصائب العهد الصناعي الأخرى. ولكنْ لكل هذه القضايا حَل هو: ردّ المصانع إلى العمال، سواء أكان ذلك عن طريق الدولة، أم على يد المصانع الجماعية. وعندما تمت هذه المرحلة أو عندما تتم، فإن الأمور تتغير: فما من تبديد ينشأ عن التزاحم، بالإضافة إلى تخطيط عقلاني جداً، وإنتاج يُوَجَّه لمنفعة الناس، لا لربح بعض الناس، وتوظيف ذكي، مهمته أن يعمل على تقدم الاقتصاد. وبالجملة، فإن حلم الرخاء، لأول مرة في التاريخ، سيتحقق للجميع.. وفي القرن التاسع عشر، كانت هذه الأفكار تبدو وكأنها تعكس المعرفة العلمية الأكثر تقدماً. وحقاً، فإن الماركسيين كانوا يدّعون أنهم مضوا إلى ما بعد المثل العليا الطوباوية. وكانوا قد وصلوا إلى"اشتراكية علمية" حقيقية. وكان في وسع الطوباويين أن يحلموا بإنشاء مجموعات مستقلة داخلياً. وكان الاشتراكيون العلميون يعرفون أن مثل هذه التصورات، في مجتمع صناعي، في طور النموّ، لن تكون قابلة للتطبيق. ولئن كان بعض الطوباويين مثل شارل فوربيه، يلتفتون إلى الماضي الزراعي، فإن الاشتراكيين العلميين، كانوا يلتفتون إلى ما كان يسمى عندئذٍ باسم المستقبل الصناعي. وهكذا، فإنه لما جاءت النظم الاشتراكية، بعد ذلك، لتجرب التعاونيات، والإدارة العمالية، والتأميم، وحلولاً أخرى مشابهة، كان التدويل ( أو التأميم ([14]) الشكل المهيمن للملكية، في العالم الشيوعي كله. وحيثما كان، كانت الدولة -لا العمال- هي التي تصبح المستفيد الأول من الثورة الاشتراكية. وهكذا فإن الاشتراكية لم يتحقق لها الوفاء بوعودها، أي أنها لم تحقق تحسين شروط الحياة، تحسيناً جذرياً، للناس، وعندما هبط مستوى الحياة في الاتحاد السوفيتي، بعد الثورة، عُزي ذلك لا من غير بعض الحق، إلى آثار الحرب العالمية الأولى، وآثار الثورة المضادة. ثم بعد ذلك، جُعل الحصار الرأسمالي مسؤولاً عن صور العجز.ثم وثم كانت الحرب العالمية الثانية هي المجرم الأكبر المسؤول عن ذلك. ولكن لمَ كانت البضائع الأساسية، كالقهوة والبرتقال ناقصة أيضاً في موسكو، بعد ثلاثين سنة؟ وبصورة غريبة، وعلى الرغم من أن الاشتراكيين الأورثوذكس كانوا يتناقصون عدداً، فإنهم استمروا في الإيمان بضرورة تأميم الصناعة، والمالية. ففي البرازيل وبيرو، وجنوب أفريقيا، وحتى في البلاد الغربية المصنّعة، ما يزال يوجد أشياء لا تردد فيها، ولا شرط عليها، على الرغم من البراهين العكسية التي قدّمها التاريخ، إذ لا يزال بين الاشتراكيين من يرى أن "الإدارة العامة" للبلاد و(أي التأميم) شيء تقدمي، ويرفض العدول عن التأميم وعن تخصيص الاقتصاد. وصحيح أن الاقتصاد العالمي، المتزايد التحرّر، أكثر فأكثر، والمشادبه ، بصورة عمياء من قبل الشركات المتعددة الجنسية، يظل قلقا.ً ومن المؤسف أيضاً، أن اللبرلة لا تعود بخير على الفقراء، دوماً، إلا تبعاً للنموذج المعروف: نقطة فنقطة. و مع ذلك فإن لدينا عدداً كبيراً من الشهادات التي لا مراء فيها بأن الشركات المدولة تسيئ إلى عمالها، وتلوث الجو، وتؤذي أو تسيء التعامل مع الجمهور العام، بقدر ما تفعله الشركات الخاصة، على الأقل. والكثير منها أصبح شياطين في اللانجع ، والفساد والنهم. وكثيراً ما تشجع سوقاً سوداء كبيرة، تنسف مشروعية الدولة. ومن سخرية القدر، أن الشركات المؤممة، بدلاً من أن تكون طليعة التقدم التقني، كما هو موعود، أصبحت كلها، دون استثناء، رجعية -بل قل هي الشركات الأكثر بيروقراطية، والأبطأ في إعادة التنظيم.والأقل استعداداً للتلاؤم مع الحاجات المتغيرة للزبائن، والأكثر هلعاً من إشاعة الإعلام في المواطنين، وآخر من يتبنى التقانات الجديدة. وخلال أكثر من قرن، كان الاشتراكيون وأنصار الرأسمالية يتجابهون بعنف حول مشكلة الملكية الخاصة والملكية العامة. وكان مئات من الرجال والنساء يهبون حياتهم لمثل هذه المعركة. ولكن ما لم يتصوره أولئك وهؤلاء، هو أن نظاماً جديداً لخلق الثروة يجعل حججهم كلها باطلة تقريباً. ومع ذلك فإن هذا هو الذي حدث. ذلك أن شكل الملكية الأكثر أهمية، هو الذي لا تجد له أثراً بين يديك إنه عالي الرمزية. ويسمى"معرفة. ثم إن المعرفة نفسها يمكن أن يستخدمها أشخاص كثيرون، كي يخلقوا الثروة ويزيدوا إنتاج المعرفة. وعلى عكس المصانع والحقول، فإن المعرفة لا تقبل النضوب. التخطيط ( أوكم من برغي تسلّل على اليسار) وكان التخطيط المركزي هو العمود الثاني في كاتدرائية النظرية الاشتراكية. وبدلاً من أن يدع الفوضى تجتاج السوق، وتفسد الاقتصاد، يأتي التخطيط الذكي، من فوق إلى تحت، ليركز الموارد على قطاعات أساسية، ويزيد في النمو التكنولوجي. وعلى كل حال، فإن هذا التخطيط كان يتعلق بالمعرفة. ومنذ العشرينات من القرن العشرين كان الاقتصادي النمسوي، Luolwig von mises.يصف النقطة الضعيفة في هذا التخطيط. "بكونها، كعب أخيل([15])، الاشتراكي. ترى كم يجب على مصنع في أيركوتسك IRWKOUTSK أن ينتج من الأحذية؟ ومن أي نوع من مقاييس الأرجل؟ وكم من برغي سيُلولبُ إلى اليسار، ومن أي نوع من الورق؟ وأي نوع من النسب نضعها بين المحرق carlIuRa-teur والخيال، وكم روبل، أو زلوطي أوينّ يجب أن توظف في كلّ من العشرة آلاف من القطاعات الإنتاجية؟. إن أجيالاً من المخططين الاشتراكيين السليمي الوجدان، كانوا يتمزقون أمام مثل هذه الصعوبة. إنهم كانوا دوماً، يتطلبون المزيد من المعطيات، ويحصلون على مزيد من الأكاذيب. كانوا يعززون البيروقراطية. ولما لم يكونوا قادرين على الاعتماد على مؤشرات العرض والطلب الناشئة عن سوق تغمره المزاحمة. فقد حاولوا أن يقيسوا الاقتصاد بمصطلح الساعات، أو بالنظر إلى الأشياء تبعاً لما هي فيه، أكثر مما كانت تمثله بمصطلخات القيمة. ثم إنهم حاولوا، فيما بعد أن يقيسوه بالنموذج الإيكونومتري والتحليل(الدخولات، والخروجات) وما من شيء كان ينتظم أو ينجح. وكلما ازداد عليهم الإعلام، كان الاقتصاد يصبح أكثر تعقيداً وفوضى. وبعد أن مضى على الثورة الروسية 65 سنة، كان شعار الاتحاد الروسي الأذناب الطويلة الواقفة أمام المخازن، وليس المطرقة والمنجل. واليوم، في العالم الاشتراكي كله، أو الاشتراكي سابقاً، يتزاحم الناس، بغية إدخال اقتصاد السوق - إما كلياً كبولونياً؛ أو ببعض الخجل داخل النظام المخطط، كما هي الحال في الاتحاد السوفييتي. وعندئذ نجد المجدّدين الاشتراكيين يجمعون على الاعتراف بأن قضية ترك العرض والطلب، يتحكم في الأسعار- في بعض المجالات على الأقل- يقدم لهم مالم يكن التخطيط المركزي يؤمنه لهم،- أي علاقات تشير إلى ما يتطلبه الاقتصاد وما هو بحاجة إليه. بيد أن الاقتصاديين، عندما يتناقشون حول فهم هذه العلامات signaux، يهملون النظر إلى التغيير الأساسي الذي يقتضيه هذا المبدأ، وإلى الانتقالات الهائلة في السلطة، التي تنشأ عنه. وعلى هذا كان الفرق الأساسي بين اقتصاد مخطط مركزياً، وبين اقتصاد يساعده السوق، إنما يقوم على واقع أن الإعلام يمضي عمودياً، في الاقتصاد المركزي، على حين أن الكثير من الإعلام، في الاقتصاد الثاني(الحر) يمضي إما أفقياً وإما قطرياً، داخل النظام، فالمشترون والباعة يتبادلون المعلومات على كل المستويات، وفي كل الاتجاهات. ولا يهدّد هذا التغير، جملة كبار الموظفين في مجال التخطيط، أو القادة أنفسهم، بل يهدد ملايين من صغار البيروقراطيين، يقوم مصدر سلطتهم على مراقبة الإعلام المقدم على طول الطريق الرسمية. إن الطرائق الجديدة في خلق الثروة، تتطلب، الكثير الكثير من المعرفة، والكثير الكثير من الإعلام، ووسائل الاتصال، مما لايمكن أن تحظى به الاقتصادات المخططة. وهكذا فإن انطلاق الاقتصاد العالي الرمزية، قد مزق القاعدة الثانية للأرثوذكسية الاشتراكية... قمامة التاريخ. إن التركيز القوي الذي قامت به الاشتراكية، على التجهيزات الميكانيكية، وطريقتها في التركيز على الصناعة المعملية، وعدم اهتمامها بالزراعة وبالعمل الفكري، كل هذا يؤلف العمود الثالث، الذي انهار وتهدم. ففي الأعوام التي تبعت ثورة عام 1917، وعندما كان المال ضئيلاً لا يقوم بعبء بناء معامل الصلب، والسدود، ومصانع السيارات، التي كان الروس بحاجة إليها، تبنىّ القادة السوفييت نظرية التراكم الاشتراكي البدائي، الذي وضع خطوطه الاقتصادي E.A . PREOBRAJENSKL ! ويرى هذا الرجل، أنه يمكن أن نأخذ من الفلاحين، ذلك الرأسمال الضروري، عن طريق تخفيض مستوى حياتهم بالقوة إلى الحد الأدنى. وهكذا نحصل على الفوائض التي ستستخدم في تغذية الصناعة الثقيلة، ودفع أجور العمال.. وكنتيجة لهذا الانحياز إلى الصناعة، على نحو ما يُقال في الصين، صارت الزراعة وما تزال، قطاعاً منكوباً، في كل الاقتصادات الاشتراكية تقريباً. وبتعبير آخر نقول: إن البلاد الاشتراكية تابعت العمل ضمن استراتيجية الموجة الثانية، على حساب أفراد من الموجة الأولى. وزيادة على ذلك، فإن الاشتراكيين لم يحرموا أنفسهم من احتقار الخدمات وأصحاب الياقة البيضاء. ووضع العمل الجسدي(الفيزيائي) في منصة الشرف، لأن الهدف الأول للاشتراكية كان"التصنيع" بالقوة. وكان هذا الموقف الكثير الشيوع يتوازى مع الانتباه المركز على الإنتاج، لا على الاستهلاك. وكان الماركسيون الأنقياء، والقساة، يؤكدون الفكرة القائلة بأن الإعلام، والفن، والثقافة، والقانون، وكل إنتاج آخر للفكر ولا يصنع باليد"... كل هذه تنشأ" كبنية علوية فوقية"معلقة، إذا صح هذا التعبير، فوق"القاعدة الاقتصادية للمجتمع، على حين أنّ الرأي العام يرى أنه لابد من نوع من التفاعل بين الشيئين، يجد فيه كل واحد منهما ينعكس على الآخر. كانوا يرون أن البنية التحتية هي التي تحدد نوعية البنية الفوقية، وليس العكس. وأولئك الذين كانوا يؤمنون بالرأي المعاكس، كان ينظر إليهم"كمثاليين". وهذه صفة كانت في ذلك العهد لا يمكن أن يوصف الإنسان بما هو أسوأ منها. وكان الماركسيون يعتقدون أن للعمل الشاق أو العضلي من الأهمية أكثر مما للعمل العقلي. ولكن الثورة المعلوماتية برهنت على أن العكس هو الصحيح. ومع ذلك فإن المجتمعات ليست مجرد مكنات، ولا مجرد حواسيب، ولا يمكن أن تردّ إلى العمل اليدوي وحده، ولا إلى العمل العقلي وحده، ولا إلى القاعدة من تحت، والبنية العلوية من فوق. فإذا وضعت لهذا كله، صيغة أكثر دقة من هذا، قلت: إن المجتمعات تتألف من عدد كبير من العناصر. وإن هذه تتواصل فيما بينها، وفيما يشبه الفعل ورد الفعل، ولكن بتعقيد كبير في بنية هذا التآثر، وإن هذا كله يظل، كمجموعة حلقات ينعطف تآثرها بعضه على بعض. وبمقدار ما يزداد التعقيد ويتنامى يصبح أكثر حيوية لاقتصادها واستمرار بقائها البيئي. والخلاصة، إن هذا الاقتصاد الجديد، ذا المادة الأولية أو المواد الأولية التي لا تلمس ولا تحس، قد أحسن الانطلاق كمقابل لاشتراكية عالمية، لم تكن مهيأة له. إن صدمة الاشتراكية بالمستقبل كانت شؤماً عليها. rrr ([1]) المقصود بسلسلة التركيب(chaine du montage) معمل أو فرع من معمل يقدم لنا أداة ما، أو مكنة ما، أو منتجاً ما جاهزاً للعمل. ([2]) يريد المؤلف أن يقول: إن كثافة العمال في المصانع القديمة ، وعملهم غير المختص، كانا يعتبران أشياء هامة في الموجة الثانية، وكل شيء آخر يعتبر ثانوياً. أما العمل اللامباشر والمختص فإنه يصل إلى الانتاج نفسه، ويحصل على نفس القيمة المضافة (أو أكثر منها) في مصانع الموجة الثالثة. ([3]) تبنية، كلمة نعني بها تجديد البنية. (‏[4] )هذه الكلمة من أصل لاتيني، وهي في البداية Ad hoe أي ملائمة، ومناسبة أو على القدّ. ([5]) تعني الشبكة الوطنية للبحث والتعليم. أما الحرف 8 فيدل على حرف الـ(s). ([6]) عندما صدرت الطبعة العربية لكتاب توفلر: "تحول السلطة" كان عنوان مثل هذا الفصل يترجم بالإمعان في المادية. ([7]) أردية للوقاية من المطر ([8]) الاسطوانات المضغوطة هي نوع جديد من الاسطوانات التي اخترعت حديثاً. ([9]) -لشيما CHEMAS المخطط الفكري الأساسي لنظرية أو لنقل هيكلها. ([10]) الموضوعة: افتراض يقبله الانسان بدون برهان جدِّي ، حاسم، ولو كان له مايبرره. ([11]) الـ OPA هي عروض الشراء العامة لشركة أو أخرى.أي أن تقوم شركة بشراء شركة أخرى، بسعر ما، تتفق فيه على الشركة البائدة. ([12]) يطلق رجال"المعلوماتية" على كلمة linformatique اسم"علم المعلوماتية. وأظن أن هذا الإصطلاح غير موفق. ([13]) المكنة السابقة للتوجيه الذاتي: أي التي تصمم على أساس أن توجه نفسها بنفسها. ([14]) التأميم يعني ردّ الملكية إلى الأمة، ظاهرياً أما الواقع فإن هذا التأميم يُسَمى تدويلاً، أي ردّ كل الملكيات إلى الدولة، والأصح أنه رَدٌ إلى رجال الدولة، لاإلى الدولة بالمعنى الجدي. ([15]) كعب أخيل أو آشيل- وهذا بطل يوناني خرافي إلى حد كبير، وكان معروفاً أنه لا يموت إلا بإصابة.
المصدر: ملتقى شذرات

__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية

الكلمات الدلالية (Tags)
المندب, الثالثة, الفين, توفلر, جديدة, حضارة, سياسة, إنشاء, وهايدي


يتصفح الموضوع حالياً : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
أدوات الموضوع

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


المواضيع المتشابهه للموضوع إنشاء حضارة جديدة سياسة الموجة الثالثة .. الفين وهايدي توفلر ج2
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
توفلر... إننا نعيش اليوم حضارة الموجة الثالثة Eng.Jordan مقالات وتحليلات مختارة 1 11-14-2016 06:46 PM
إنشاء حضارة جديدة سياسة الموجة الثالثة.. الفين وهايدي توفلر ج 3 Eng.Jordan كتب ومراجع إلكترونية 0 11-14-2016 03:11 PM
إنشاء حضارة جديدة سياسة الموجة الثالثة .. الفين وهايدي توفلر ج1 Eng.Jordan كتب ومراجع إلكترونية 0 11-14-2016 03:09 PM
إنزال بري مصري عند باب المندب عبدالناصر محمود أخبار عربية وعالمية 0 03-28-2015 07:21 AM
إنشاء جمعية إسلامية جديدة عبدالناصر محمود المسلمون حول العالم 0 04-30-2014 08:25 AM

   
|
 
 

  sitemap 

 


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 05:24 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.12 by vBS
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والمشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59