#1  
قديم 02-04-2017, 04:22 PM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,373
افتراضي "اليوم السابع" ترصد كيف صنع المواطن الصينى معجزة بلاده


[COLOR=#DF2829 !important]محمد الدسوقى رشدى [/COLOR] لكل فرد نقطة انطلاق، ولكل وطن حدث يجعل ما بعد، غير الذى كان قبله..
فى اليابان يؤرخون لزمنهم بما قبل القنبلة النووية وما بعدها، وفى ألمانيا يكتبون تاريخهم بمقارنة ما كان قبل هدم سور برلين وما حدث بعد إزالته، وفى الصين تحدد الحياة بما كان قبل تأسيس الجمهورية الشعبية فى 1949، وماحدث بعدها من قفزات متتالية نحو القمة.

"اليوم السابع" 12201423145447.jpg

نحن فى مصر نبحث عن نقطة انطلاق، عشنا سنوات كثيرة نتمنى ظهور تلك النقطة، هذا الحدث الذى يمكنا من وضعه فى المنتصف بين «مصر قبل كذا» و«مصر بعد كذا»، حدث الأمر لكنه لم يكن فارقًا بالشكل الذى يجعل الصورة مختلفة تمامًا، كما حدث فى ألمانيا واليابان والصين.

مصر قبل 73 غير مصر بعدها قطعًا، ومصر قبل اغتيال السادات غير بعدها فعلًا، ومصر بعد مبارك غير مصر التى كانت تحت سيطرته، ومصر بعد 30 يونيو تختلف عن مصر التى كان يريد الإخوان امتلاكها، ورغم ذلك لم يصنع حدث واحد فيها تلك العلامة الفارقة القادرة على نقل مصر إلى المقدمة، رغم أن كل حدث فيها كفيل بأن يغير مسار دول، وأقدار أوطان.

لم يحدث فى مصر التغيير المناسب والملائم لحجم الأحداث، لتتبقى لديك نتيجة وحيدة تقول بأن الأزمة كامنة فى العنصر البشرى، ربما لم يستوعب الأحداث، وربما لم يدرك اللحظة التى يجعل منها منصة انطلاق، وربما لا يملك الإرادة الكافية لتطويع الأحداث لخدمته كما فعل أهل اليابان وألمانيا والصين.. تحديدًا الصين.

وتحديد الصين هنا، لأن كل الدراسات والتأملات الخاصة بالتجربة الصينية تشير- دون شك- إلى المواطن الصينى كرأس حربة فى التغيير، ودفع وطنه إلى الأمام، بإرادة نقلت الصين من صفوف الفقراء إلى ذلك الصف الذى تناطح فيه الولايات المتحدة الأمريكية على قمة العالم.

منذ أيام كنت هناك، فى العاصمة الصينية بكين، حيث الأضواء والأنوار والزحام.. السير فى شوارع بكين المنتظمة كما خطوط الحاسب الآلى، والواقعة كما الوديان بين جبال شاهقة من المبانى الخرسانية الحديثة الطراز، المتطورة المعمار، وبين آلاف السيارات الفارهة، أمر كافٍ للإيمان بشعار الحملة الإعلانية لمنتجات أديداس الشهيرة.. «Impossible is Nothing»، المستحيل لا شىء، خاصة مع إدراك الحالة التى كانت عليها بكين قبل 20 عامًا من الآن، وكيف انتقلت من وضعها العشوائى القبيح إلى شكلها الحضارى الحالى.

وهذا هو تقريبًا ملخص التجربة الصينية.. الإرادة التى خلقت للمواطنين قبل أهل السياسة والسلطة القدرة على البناء والإنجاز السريع، القدرة على تصدير إحساس التغيير والرغبة فى التطور إلى كل مواطن على أرض الصين، القدرة على إقناع المواطن الصينى بأنه أساس المعادلة كلها، إذا استوعب وتفهم وتحمل وقدم التضحية خلف الأخرى سيحصل فى النهاية على وطن أفضل.

وهذا هو ما نحتاج بالضبط إلى استيراده من الصين، المواطن الصينى أو روح المواطن الصينى إن شئنا الدقة، نحتاج إلى استيراده أكثر من الفوانيس، وكل الأطنان التى تصل مصر من الصين، نحتاج إلى تلك الروح التى تجاهلت رغبة الغربة فى تحطيم حلم الصين التى تعاملت مع كل التدخل الغربى فى شؤون بلادها، وكل الاتهامات الأمريكية للسياسة الصينية برد عملى، هو المزيد من العمل.

ربما لهذا السبب ذهب عبدالفتاح السيسى إلى الصين، يطلب منهم الإرادة، السرعة فى البناء والإنجاز، يطلب منهم خبرة إعادة بناء الدولة وتقديمها مرة أخرى فى ثوب القوة، لا ثوب الباحث عن الإعالة، ربما كان ذلك هدفه، أو ربما تلك أمنية خلقتها الأجواء الصينية، وقصص الانتقال من مركبة ذيل العالم إلى حيث كابينة قيادته. السير فى هذا الطريق، طريق اعتقاد أن السيسى أراد من التجربة الصينية خبرتها فى إحياء الإرادة الشعبية، وإعادة بناء وطن من كومة رماده، تعززه طبيعة الزيارة وظروفها، وبدايتها وخاتمتها، والرسالة التى كررها السيسى على مسامع الصينيين فى كل الاجتماعات مرة على سبيل الإشارة، ومرة بطريقة حازمة، ومرة ثالثة فى هيئة شرط مسبوق قبل أى تعاقد أو استثمار.

بدأ السيسى زيارته بالعلم وأنهاها بالعلم، بدأ أولى فعاليات زيارته للصين بلقاء رؤساء أكثر من 36 جامعة ومركز بحث صينيًا، وأنهاها بزياة مقاطعة «سيشوان» إحدى أكبر القلاع الصناعية وأهمها فى الصين، والتى تضم بشكل أساسى مشروعات البحث العلمى والتكنولوجى، ومصانع الطاقة التقليدية والجديدة والمتجددة، وربما تعزز لك هذه البداية إدراك السلطة فى مصر إلى أن ما تريده من الصين ليس المال ولا العون السياسى بقدر ما تريد العلم، أو سر خلطة صناعة الإرادة الصينية لبناء دولة قوية.

فى النصف الأول من القرن العشرين سقطت الصين فى فخ الحروب الأهلية التى قسمت البلاد إلى معسكرين سياسيين رئيسيين، هما «الكومينتانج»، الحزب القومى الصينى، والشيوعيين، حتى انتهت أعمال العنف الكبرى فى عام 1949 عندما حسم الشيوعيون الحرب الأهلية، وأسسوا جمهورية الصين الشعبية.. رقميًا يعتبر البعض هذا العام هو بداية التجربة الصينية، لكن الحقيقة تقول إن عام 1978 هو البداية الحقيقية لظهور الصين فى ثوبها الجديد، لأنه كان العام الذى حققت فيه الصين معدلات نمو إيجابية بحد أدنى %6 سنويًا، رغم ما اعترضته من عقبات، ومن بعده نجح القطاع الخاص الصناعى فى الصين أن يحقق نموًا فى 3 أعوام من عام 1980 حتى 1993 بلغ %11.5 سنويًا، وكان النمو الصينى قويًا، ولم يأت مصادفة أو على عجل، بدليل أنه حينما تعرضت اقتصاديات دول شرق وجنوب شرق آسيا لهزة كبيرة فى 1997 حتى بدايات 1999 كان الاقتصاد الصينى يسير بخطوات ثابتة، محققًا نموًا كبيرًا بلغ %8.8، ومن يومها تتنامى القوى الصينية بشكل منتظم وقوى وثابت.

كيف حدث ذلك؟!
يجب أن تعود مرة أخرى إلى ما قبل 1949 لتكتشف أن الصين فى هذا الوقت كانت دولة فقيرة وضعيفة، تعداد سكانها 500 مليون، لا يعرفون طريقًا ولا علمًا ولا مستقبلًا، وقتها أدرك قادة الصين ومواطنوها أن اتساع الفجوة بينهم وبين العالم فيما يخص الاقتصاد، وسرعة التنمية، فعملوا على إصلاح النظام الاقتصادى، وإعادة تأهيل المواطن الصينى للمرحلة الجديدة، لتأتى الانطلاقة الكبرى مع تولى الأمور «دينج هسياو ينج» الأب الروحى للنهضة الحديثة، الذى عمل على التحول التدريجى من الاقتصاد المخطط إلى اقتصاد السوق، والمزج بين الاثنين، ومحاولة الاستفادة من التكنولوجيا المتقدمة، وفتح الباب أمام الاستثمارات الأجنبية. وقد حدد «دنج شياونيج» ثلاث نقاط أساسية تحرص عليها الصين، هى: «دعم العمل من أجل حكومة نظيفة وأمينة، بذل الجهود لتضييق الفجوة فى التنمية الاقتصادية بين شرق الصين وغربها، ملاحظة الضغوط المتزايدة للتضخم المحتمل»، وفى هذه الفترة بدأ الإصلاح يتم بشكل منهجى، بدأ أولًا فى الريف، وتعميم مسؤولية الانتفاع من الأراضى على الفلاحين، ثم ألغت الحكومة نظام توحيد الشراء وتحديد الحصص، وألغت كثيرًا من السياسات الحكومية، كنظام توحيد الشراء للفلاحين بتنشيط الاقتصاد المتنوع، وإنشاء المؤسسات الريفية، الأمر الذى أثار حماس الفلاحين فى الإنتاج إلى حد كبير، وهذا ما نحتاج إلى فعله مع الفلاحين فى مصر الآن، نحتاج إلى إحيائهم من جديد.

المرحلة الثانية للإصلاح بدأت فى عام 1984، وتم نقل إصلاح النظام الاقتصادى من الريف إلى المدن، وخلال تلك الفترة تحمل المواطن الصينى مرحلة من التقشف لا يمكن الاستهانة بها، بل يجب التعامل معها كدلالة على عظمة المواطن الصينى، ودوره الكبير فى هذه النقلة النوعية لوطنه فى سنوات قليلة، حتى أن تحمله لهذا التقشف ساهم كثيرًا فى عدم إطالة مدته، حيث أعلنت الحكومة عام 1992 عن نهاية برنامج التقشف، وأبدت اهتمامها بالإسراف فى جهود الإصلاح والانفتاح الاقتصادى الخارجى مع التأكيد على مبدأ «اشتراكية جديدة ذات ملامح صينية».

وبعد تجربة الإصلاح والانفتاح لمدة عشر سنوات، استطاعت الصين بلورة مفهوم اقتصاد السوق الاشتراكى، لتحديث تسوية عملية ونظرية بين الحفاظ على دور الدولة التدخلى فى الاقتصاد من وجهة، وخلق فضاءات أو جزر اقتصادية ليبرالية من جهة أخرى، ربطتها بالاقتصاد العالمى، تلك التجربة سمحت لها بالاندماج دون أن تعانى من الزلازل التى تواكب عادة التحول من الاقتصاد المغلق إلى الاقتصاد المفتوح.

كل ما سبق أدى إلى نتيجة واحدة، أينما تذهب بوجهك ستجد الصين، إما فى شكل منتج، أو مواطن ينتج، حتى أسواق الدول الصناعية يسيطر عليها المنتج الصينى أو الخبرة الصينية، وأغلب دوريات الأبحاث العلمية لا تخلو من اسم لباحث صينى، حتى دورى كرة السلة للمحترفين فى أمريكا يتصدر مشهده لاعب أو اثنان من الصين.

كيف وصلت الصين إلى هذا؟، كيف نجح هذا الوطن المنغلق على نفسه حتى سنوات قليلة مضت فى الانطلاق بهذا الشكل؟، كيف يهرول الجميع خلف السوق الصينية؟.. على هذه الأسئلة توجد العديد من الإجابات الخاصة بدراسات، ووجهات نظر اقتصادية وسياسية، لكن تبقى الإجابة الوحيدة المشبعة والمنطقية والقابلة للتصديق هى المواطن الصينى الذى يعرفه العالم بأنه الأيدى العاملة الرخيصة والماهرة، بينما تعرفه الصين بأنه المادة الخام التى تشكل مستقبل هذا الوطن كقوة عظمى، لأنه ليس كل يد عاملة رخيصة قادرة على أن تفعل ما فعله المواطن الصينى، فلم تفعل ذلك اليد العاملة فى الهند وباكستان وأمريكا اللاتينية ودول أفريقيا، لأن اليد العاملة فى الصين تميزت بالعلم الذى جعل منها أيدى عاملة مؤهلة ومدربة تدريبًا جيدًا، كما تتوفر ‏بأعداد كبيرة مؤهلات نادرة فى مجالات الهندسة والعلوم التطبيقية ‏والاقتصاد وتقنية المعلومات، وكل ذلك حدث ببساطة لأن الصين وضعت نظام تعليم ملزمًا، يتطور حسب ظروف السوق، بحيث يبقى قادرًا دومًا على تزويد السوق بهذه الوفرة من ‏الكفاءات.

وهنا يكمن السر.. سر الإمبراطورية الصينية فى مواطن يمتلك عزيمة، ودولة لديها إرادة على تطوير هذا المواطن، والحفاظ على روحه كما هى، روح قادرة على البناء والتطور، وغير منفصلة أبدًا عن سوق العمل.


"اليوم السابع" 1.jpg

الصينيون يحققون حلمهم ويصنعون المعجزة الاقتصادية..سر حملة «خط الجماهير» التى كانت السبب فى التخلص من البيروقراطية.. وكيف تحولت الصين من «مصنع العالم» إلى المستثمر الأكبر فى الخارج بـ 500 مليار دولار

يوسف أيوب

فى نهاية نوفمبر 2013 زرت الصين بهدف التعرف على تجربتها مع الصحافة، وهناك وجدت أن الصحافة ليست مجرد المهنة التى تنقل المعلومة أو الخدمة للقراء، بل إنها صناعة متكاملة، فالمؤسسات الصحفية هناك مملوكة للدولة أو شركات حكومية أو غرف تجارية، ولدى كل منها مشروعاتها المرتبطة بها، فالمؤسسة الصحفية لا تقتصر على إصدار صحيفة أو مجلة، إنما لديها أذرع اقتصادية متعددة، فهى تضارب فى البورصة، وتمتلك العقارات التى تقوم بتأجيرها أو بيعها، ولدى بعضها شركات سياحة وشركات أخرى استثمارية، لذلك نادرًا ما تجد مؤسسة صحفية معرضة للخسارة، بل على العكس هناك مؤسسات تحقق أرباحًا سنوية تتخطى المليارى دولار، يُوزع جزء كبير منها على العاملين بهذه المؤسسة.

ما تقوم به المؤسسات الصحفية فى الصين هو جزء من منظومة متكاملة ليست مقصورة على قطاع معين أو مدينة أو قرية، إنما نموذج ستراه بعينك فى كل مكان، لذلك لا تجد وصفًا لما يحدث هناك أقل من وصف «المعجزة الصينية»، وهو ما يطلق عليه الصينيون أنفسهم لفظ «الحلم الصينى»، وأيًا كانت المسميات، فإن الثابت أننا أمام تجربة تستحق الدراسة علها تكون مفيدة لنا.

1 - الحلم الصينى فى كل مكان

ففى كتابه «عن الصين» قال وزير الخارجية الأمريكى الأسبق هنرى كيسنجر إنه لم يتوقع أن ترتفع قوة الصين إلى هذا الحد فى النظام الدولى بعد أربعين سنة من تبنيها سياسة الإصلاح والانفتاح، وهو الارتفاع أو الصعود الذى اعتبرته أيضًا وسائل الإعلام الغربية أنه الظاهرة الأكثر تأثيرًا فى سياسة العالم فى العقد الأول من القرن الحادى والعشرين.
هذا الارتفاع أو الصعود مرتبط بالحلم الصينى الذى أخذ- ومازال يأخذ- حيزًا كبيرًا من المناقشات السياسية والاقتصادية الصينية، سواء داخل اجتماعات الحزب الشيوعى الحاكم، أو فى المنتديات العامة، هذا الحلم ليس له سقف محدد، فهو يشمل رغبة أكثر من مليار و400 مليون صينى فى تحديث بلدهم فى كل القطاعات، ثم المشاركة مع العالم بعد أن أصبحت الصين مفتوحة لكل صاحب حلم من أى مكان على الأرض. حلم الصين هو الثقافة التى يريد النظام الحالى فى بكين زرعه داخل نفوس كل صينى، لذلك تجده متجسدًا فى كل مكان، فى الإعلام والسينما والشوارع، أينما تذهب سترى أمامك الحلم الصينى المبنىّ على الإبداع والتسامح والحيوية.
فى الصين، وحينما تلتقى مسؤولًا وتتحدث معه عن المعجزة ستجده يرد عليك بتلقائية أن ما يفعلونه ليس بمعجزة، إنما تستطيع أى دولة نامية أن تفعله، وتحقق ما حققته الصين إذا كانت لديها أهداف واضحة للقيادة ولكل فرد، ومشروع قومى قابل للتنفيذ، وإرادة سياسية، وقيادة لديها الكفاءة لإدارة التنمية، وحشد الجهود للعمل بجدية دون تهاون مع الفشل والانحراف، فإذا توافرت هذه العناصر تتحقق ما يسمونه حلمًا، ونسميه نحن معجزة.

2 - تحفيز المواطنين ودفع جرعة الأمل فى غد أفضل

لعل أهم ما يمكن استنباطه من تجربة الصين أن نجاحها لم يكن فقط مرتبطًا بالعوامل الحسابية للنمو الاقتصادى، بقدر ارتباطها بالعوامل المعنوية، فالقيادة الصينية تعمل منذ فترة على تحفيز المواطنين، ودفع جرعة الأمل فى غد أفضل، والتى فجرها العمل السياسى فى نفوس الصينيين، كما أن الصين وهى تحاول جذب الاستثمارات الأجنبية فإنها لا تقتصر على الأقوال، إنما الأفعال التى تجعل المستثمرين يدركون أنهم لا يذهبون إلى بلد إلا إذا كانوا سيحققون فيه أكبر قدر من الربح المضمون، ويستطيعون تحويل أرباحهم دون الوقوع فى براثن البيروقراطية والرشاوى والعمولات، وهو ما تقوم به الصين التى توفر للمستثمرين الأجانب عوامل أساسية، مثل المطارات والموانى والطرق والمواصلات الحديثة والمنتظمة بريًا وبحريًا وجويًا، ووسائل الاتصال التى تمكنهم من الاتصال بأى مكان فى العالم دون مشاكل، فضلاً على مناخ استثمارى جاذب، من قوانين وفرص استثمارية لن تجد لها منافس، على الأقل فى المنطقة المحيطة بها.
ولا يمكن إغفال أن أحد أسرار التقدم فى الصين أنها أصبحت تحترم أصحاب الخبرة والكفاءة، وتؤمن بأنها دون هؤلاء سيبقى المجتمع الصينى متخلفًا، وهذا ما جعل أعدادًا كبيرة من الخبراء الصينيين المهاجرين فى الغرب يعودون إلى وطنهم، ويقبلون العمل فى قيادة المصانع ومراكز التطوير التكنولوجى بدخول أقل مما يحصلون عليه فى الغرب، لشعورهم بأن وطنهم يحتاج إليهم.

3 - الخروج من الأزمة الاقتصادية العالمية

كان غريبًا أن تخرج الصين من الأزمة الاقتصادية العالمية دون أن يصيبها شئىء، لكن المتعمق فى الاقتصاد الصينى سيكتشف أن هناك عدة أسباب كانت تقف خلف ذلك، وأوصلت التنين الصينى إلى المكانة التى يتبوأها حاليًا، ويبقى أهم سبب هو المواطن الصينى نفسه الذى صنع بيديه المعجزة الاقتصادية.
حتى نعرف ماذا فعل المواطن الصينى لبلده يجب أولاً أن نتعرف على الوضع الذى تعيشه الصين الآن، فالحكومة وقبل أن يسدل الستار على 2014 قالت إنها تسعى للحفاظ على استقرار معدل النمو الاقتصادى خلال عام 2015، مع الالتزام بسياسة مالية ونقدية حكيمة، مشيرة إلى أنها ستسرع بالإصلاح فى تسعة مجالات فى العام المقبل، بما فى ذلك سوق رأس المال، والنفاذ إلى السوق بالنسبة للبنوك الخاصة.
وقال بيان صدر عن اجتماع حكومى حول السياسة الاقتصادية المستقبلية للصين نهاية ديسمبر إن الاستقرار من أهم عوامل سياسات الاقتصاد الكلى، وإن السياسة المالية لابد أن تكون أقوى، والسياسة النقدية لابد أن تكون أكثر عملية، وألمح البيان إلى أن الصين يمكنها تحقيق أهدافها الاقتصادية والاجتماعية لعام 2014 بشكل جيد نسبيًا، مع بقاء الاقتصاد فى نطاق معقول رغم البيانات الاقتصادية التى توقعت أن الصين قد لا تتمكن من تحقيق هدف النمو السنوى بنسبة %7.5، بسبب التحديات التى تواجه الشركات، وظهور مخاطر اقتصادية.
وحافظ الاقتصاد الصينى على زخمه خلال السنوات الست الماضية من عمر الأزمة المالية والاقتصادية التى ضربت المراكز الرأسمالية، ففى الوقت الذى يعانى فيه الاقتصاد الرأسمالى فى أوروبا وأمريكا واليابان من مخاطر استمرار الأزمة، وقيادة الاقتصاد العالمى نحو المجهول، ما زال الاقتصاد الصينى يسجل معدلات نمو مرتفعة، أقلها %7.7 خلال العامين الماضيين، متجاوزًا حتى توقعات الحكومة الصينية، علمًا بأن معدل النمو الاقتصادى العالمى %2.7، ولم يقتصر الأمر على ذلك، فالاقتصاد الصينى أصبح يشكل ضعف الاقتصاد اليابانى على الرغم من أن الاقتصاد الصينى لم يتجاوز الاقتصاد اليابانى إلا عام 2010، حين احتل المرتبة الثانية فى العالم بعد الولايات المتحدة الأمريكية، وكل المؤشرات تقول إن الاقتصاد الصينى ماض بخطوات ثابتة نحو تجاوز الاقتصاد الأمريكى ليتربع على قمة الاقتصاد العالمى.
لا شك أن الاقتصاد الصينى يتمتع بحيوية وديناميكية مكنته من تحقيق إصلاحات دائمة لمواكبة التطورات، والتكيف مع المستجدات ومواجهة المفاجآت.

4 - التاريخ يكتب الانطلاقة

لا يمكن النظر إلى القفزة الهائلة التى شهدتها الصين دون التطرق للتاريخ، فقبل عام 1949 كانت الصين بلدًا زراعيًا، لكن جرى التحول حينما دعمت الولايات المتحدة اليابان فى الحرب الكورية، فجاء رد الاتحاد السوفيتى على هذا التحالف الأمريكى اليابانى بالاستثمار فى الصين لإنتاج الأسلحة والآليات الثقيلة، فتحولت الصين خلال سنوات قليلة من بلد زراعى بالكامل إلى بلد صناعى، ثم تراكمت خبرة التصنيع خلال الخمسينيات والستينيات والسبعينيات، لكن ظل التصنيع مرتبطًا بالدولة طيلة هذه الفترة، ولم يكن هناك أى دور للأفراد، إلى أن حدثت الطفرة، فالصين كانت بلدًا اشتراكيًا، أى أن اقتصادها يعتمد على التخطيط، كما كانت لجنة مراقبة الانضباط فى الحزب الشيوعى الحاكم هى من يحدد أوجه تخصيص موارد الدولة، وفى أواخر السبعينيات وبعد أن ظهر القصور فى الاقتصاد الموجه، وبدا أن النظام الاقتصادى على وشك الانهيار، ولد النظام الجديد فى أواخر السبعينيات، بعدما قررت اللجنة المركزية للحزب الشيوعى التحول إلى اقتصاد السوق، لكن على الطريقة الصينية التى تعتمد الإصلاح تدريجيًا، وليس بنظام الصدمة. وبدأ الإصلاح فى المناطق الريفية بتدشين نظام الأسر المنتجة، ثم واصل انتشاره فى البلاد، وفى ثلاث سنوات طال الإصلاح قطاع الصناعة الذى استمرت به الصين فى انفتاحها الاقتصادى حتى انضمت إلى منظمة التجارة العالمية عام 2001.
المهم فى تجربة الصين الاقتصادية أن السوق الحرة هناك تنشطها المبادرة الفردية، وتخطط وتنسق لها الحكومة، وهذا ما يفسر النمو السريع للاقتصاد الصينى، وقد سمح للأفراد بإنشاء مشاريعهم الصناعية، وإنماء ثرواتهم الفردية، وهو ما أضفى الحيوية على المجتمع، وجعل الحزب الشيوعى الحاكم ينجح فى تحقيق التنمية الاستراتيجية، ولم يتوقف الأمر لدى الصينيين عند إمداد السوق المحلية بالمنتجات الصناعية الاستهلاكية، إنما يتطلعون إلى السوق العالمية.
وللتجربة الصينية وجه مهم، فالشركات المملوكة للدولة أو ما تسمى بالشركات الحكومية تقوم بعدة وظائف حيث تقوم بإنقاذ السوق عند الفشل، وبتحسين القدرة التنافسية للإنتاج المحلى، وبطرق مجالات يعزف عنها القطاع الخاص، ولذلك فإن الشركات الحكومية تستحوذ على قرابة %50 من حجم نشاط الاقتصاد الصينى، مركزة فى الأساس على مجالات معينة، مثل الصناعات الثقيلة التى لا يمكن للقطاع الخاص التنافس فيها، فعلى سبيل المثال استثمرت الدولة مبالغ طائلة فى القطار السريع، وهو مشروع له مستقبل واعد، إنه «مشروع الحكومة الصينية».

5 - انطلاق شركات إنترنت صينية فى 2014

وبنظرة إلى الصين فى 2014 سنجد أنها شهدت علامات واعدة، منها ازدهار صناعة التكنولوجيا، فهناك أكثر من 10 شركات إنترنت صينية أطلقت عروضها العامة الأولية فى سوق الأسهم بالولايات المتحدة، من بينها شركة «على بابا»، وتستعد بكين للسماح للسوق بأن تلعب دورًا حاسمًا فى الاقتصاد، وسوف تتخذ خطوات إصلاحية فيما يتعلق بالأراضى والضرائب، والشركات المملوكة للدولة، ونظام التسجيل المنزلى، وكشفت التقارير الاقتصادية الدولية عن تحقيق الصين قفزات اقتصادية كبيرة خلال العام الماضى فى حجم تجارتها مع دول العالم المختلفة، حيث ذكرت وكالة أنباء «شينخوا» فى تقرير لها أن الجمارك الصينية أكدت أن إجمالى قيمة الصادرات والواردات فى الصين تجاوز 4 تريليونات دولار أمريكى للمرة الأولى، ليصل إلى 4.16 تريليون دولار أمريكى خلال العام الماضى.

6 - مكافحة الفساد أولى خطوات الإصلاح

ويعد عام 2014 هو أول عام كامل لتعميق الإصلاح بشكل شامل فى الصين، وهو ما تم إعلانه خلال اجتماع مهم للحزب الشيوعى الصينى فى نوفمبر عام 2013، حيث اجتمعت المجموعة القيادية للإصلاح الشامل ثمانى مرات خلال عام 2014، وتم الانتهاء بشكل أساسى من ثمانين مهمة إصلاح أساسية محددة لعام 2014، وخلال العام الماضى قامت الصين بتفويض وإلغاء مئات البنود المتعلقة بالفحوصات والموافقات الإدارية، وتم إطلاق جولة جديدة من اتجاه «الحضرنة» جنبًا إلى جنب مع إصلاح نظام توزيع الدخل، ونظام تسجيل الأسر.
والإصلاح هناك مقترن بمحاربة الفساد المتفشى الذى ترى القيادة الصينية أنه قد يهدد وجود الحزب والدولة، وخلال العام الماضى تم إحالة مجموعة من كبار المسوؤلين، سواء ما زالوا فى الخدمة أو تقاعدوا إلى التحقيق، من بينهم تشو يونج كانغ، وشو تساى هو، ولينج جى هوا، وسو رونج، ومنذ نقل السلطة فى نهاية عام 2012 تم التحقيق مع العشرات من المسؤولين على مستوى الوزراء أو معاقبتهم وفقًا للقانون، وخلال النصف الأول من العام الحالى قامت سلطات مكافحة الفساد بمعاقبة أكثر من 84 ألف مسؤول بزيادة %30 على أساس سنوى، كما أطلقت الصين أيضا حملة لصيد الثعالب خلال العام الحالى لضبط المسؤولين الذين يشتبه فى تورطهم فى جرائم اقتصادية وفروا خارج البلاد. وانتهت حملة «خط الجماهير» التى استمرت عامًا كاملًا فى أكتوبر الماضى، وتهدف الحملة للتخلص من أنماط العمل غير المرغوب فيها، والتى تشمل الشكلية، والبيروقراطية، ومذهب المتعة والبذخ.
وبعد عامين من تطبيق «نظام النقاط الثمانى» انخفض إنفاق الهيئات الحكومية بدرجة كبيرة، وأصبح المناخ لأنماط الحياة والعمل المقتصدة شائعًا، وتعد روح حملة «خط الجماهير» واحدة من الأدوات الرئيسية التى قادت الحزب الشيوعى الحاكم لتحقيق نجاح ثورى ولن تنتهى تلك الروح أبدًا، وحددت القيادة الصينية ترتيبات وخططًا مؤسسية للعديد من المجالات الأخرى، وهو ما لا يهدف فقط لتحقيق هدف بناء مجتمع شامل يتسم بالرخاء بحلول عام 2020، إنما أيضًا الحفاظ على الاستقرار الطويل المدى للبلاد.
وتبنى الحزب الشيوعى الصينى خطة إصلاح قانونى شاملة خلال اجتماع مهم فى أكتوبر الماضى، اعتبرت خارطة طريق جديدة تهدف لدفع حكم القانون فى ثانى أكبر اقتصاد فى العالم خلال فترة تتراوح بين خمسة وعشرة أعوام مقبلة أو أطول.

7 - مصنع العالم يتحول لسوق مفتوحة

معجزة الصين مرتبطة بأمر آخر، فحتى وقت قريب جدًا كانت تلقب بـ«مصنع العالم»، لكن الفترة الأخيرة شهدت تغيرًا فى مسيرة انتقال الصناعة الدولية، فلم تعد الصين دولة كبيرة من حيث جذب الاستثمارات الأجنبية فحسب، إنما أيضًا من حيث توظيف أموالها فى الخارج، فمن المتوقع أن يصل حجم الاستثمارات المتراكمة للمؤسسات الصينية فى الخارج إلى 500 مليار دولار أمريكى فى نهاية الخطة الخمسية الـ12 2011/ 2015، فى حين يبلغ حجم المشاريع فى الخارج 250 مليار دولار أمريكى، حسبما قال تشن رون يون، مسؤول من وزارة التجارة الصينية، ونقله عنه وكالة «شينخوا» نهاية ديسمبر الماضى. وأظهرت البيانات الصادرة من الوزارة أن حجم الاستثمارات للمؤسسات الصينية فى الخارج قد وصل الآن إلى ما يزيد على 320 مليار دولار أمريكى، مع بلوغ إجمالى أصولها أكثر من 1.6 تريليون دولار أمريكى.


"اليوم السابع" 2.jpg

القائد الفرنسى حذر من «العملاق النائم فى الشرق» منذ قرنين..الصين تحقق نبوءة نابليون بونابرت بعد 200 عام..البشر هم سر التجربة الصينية والقادة هناك لم يعتبروا الـ1.4 مليار نسمة «عبئا وحملا ثقيلا»

عادل السنهورى

يسألونك عن سر المعجزة الصينية وعن التنين الأصفر الأسطورى الذى يوشك أن ينطلق ليتربع على عرش الاقتصاد العالمى.

قديما وقبل قرنين من الزمان أى قبل 200 عام توقع القائد الفرنسى نابليون بونابرت ما يحدث الآن من النمو الصينى وتأهبه ليصبح القوة الاقتصادية الأولى فى العالم، قال نابليون عندما ذكروا عنده اسم الصين: «هناك فى أقصى الشرق ينام عملاق..اتركوه لأنه عندما يستيقظ سيحرك العالم».

نبوءة بونابرت تتحقق والعالم يقف على أطراف أقدامه متطلعا للتنين الذى يسعى ويسير بخطى متسارعة وواثقة نحو قمة الاقتصاد العالمى، والسر فى الإنسان الصينى وطبيعة تكوينه الأخلاقى والدينى ونشأته الاجتماعية التى تدمن العمل والإنتاج والإتقان والتفانى والإخلاص والجد والمثابرة، حتى أصبح الشعب كله «إيد عاملة واحدة» لا هم لها سوى الإنتاج برغم كثير من المشاكل والتحديات الداخلية والخارجية، وهو ما يدهش الكثيرين بأن الشعب الصينى تعداده مليار و400 مليون، ومع ذلك لا يعتبره المسؤولون هناك عبئا على خطط التنمية والتقدم والازدهار، بل «ثروة قومية» حقيقية لتنفيذ الحلم الصينى الذى يتجسد الآن على الأرض.

فى غضون السنوات القليلة الماضية، استطاع الاقتصاد الصينى أن يقفز قفزة كبيرة، متحديا ومنافسا لاقتصاديات الدول الكبرى، ليصبح ثانى أكبر اقتصاد فى العالم بعد الولايات المتحدة الأمريكية، وعلى عكس ما يثار بأن التعداد السكانى يعد عاملا سلبيا، فإن الصين استطاعت من خلال الأيدى العاملة والتخطيط الناجح أن تفتح أسواقا جديدة وتنمى من تجارتها الخارجية، والتى تجاوزت 523 مليار دولار فى النصف الأول من العام الماضى فقط.

وبلعبة الأرقام التى يذكرها صندوق النقد فى تقاريره الأخيرة فقد بلغت تقديرات الناتج المحلى الإجمالى للصين فى عام 2014 نحو 9.469 تريليون دولار، فى الوقت الذى يقدر فيه الناتج المحلى الإجمالى الأمريكى بالأسعار الجارية بنحو 17.416 تريليون دولار، أى أن الناتج المحلى الإجمالى الصينى بالأسعار الجارية يمثل نحو 54.4 فى المائة من الناتج المحلى الإجمالى الأمريكى فقط.

الأمر لا يتوقف فقط عن واقع الأرقام الحالية، وإنما يصل للتوقعات بأن يصل الناتج المحلى الإجمالى للصين فى 2019 إلى 15.5 تريليون دولار، وحسب الخطة الموضوعة للصينين فالعام 2020 قد يشهد الإعلان الرسمى عن تربع العرش العالمى بنسبة نمو %10 وهو ما يصيب العالم الغربى والأمريكى على وجه الخصوص بالرعب، ففى السنوات العشرة الماضية وقبلها بدأ الحديث داخل الولايات المتحدة عن هجرة نحو 3 ملايين وظيفة فى مجال التصنيع إلى الصين والبضائع الصينية تملأ الأسواق الأمريكية إلى درجة الإغراق والعجز التجارى الأمريكى مع الصين فى تزايد.

القلق الأمريكى ليس فقط من النمو الاقتصادى للتنين الصينى وإنما أيضا من النمو العسكرى الصينى وزيادة حجم الإنفاق التى يقدرها البنتاجون خلال عام 2020 بحوالى 200 مليار دولار، ورغم ذلك الصعود فعندما تسأل مسؤولا صينيا عن صحوة التنين يجيبك فى أدب جم وتواضع: نحن مازلنا دولة نامية نحاول أن نعمل ونجتهد ولا نرغب فى أية مواجهات مباشرة مع أحد.

هذا السؤال وجهته لكل مسؤول صينى التقيته أثناء زيارتى لجزيرة هونج كونج وكانت الإجابة دائما: «مازلنا دولة نامية ولكننا نعمل دون ضجيج». فى تلك الأثناء كانت أكذوبة «فيروس السارس» فى أوجها والعالم يرتعد خوفا من انتشار الفيروس، ومع ذلك أثار اندهاشى واستغرابى عدم اكتراث الصينيين أو خوفهم من الفيروس الوهمى رغم بعض الإجراءات الطبية البسيطة فى المطارات، وخاصة فى مطار هونج كونج أحد أكبر المطارات فى العالم.

وفى مناسبة تجارية وأثناء افتتاح معرض لعب الأطفال الدولى سألت وزير التجارة فى الجزيرة عن سر عدم الاكتراث، فقال بإجابة بسيطة ومدهشة «هكذا اعتدنا من الأمريكان عند كل نمو فى الناتج المحلى الصينى، إما الحرب بافتعال مشاكل فى تايوان أو إشعال حرب الفيروسات ضد الصين». الحديث كان قبل حوالى 8 سنوات من اعتصامات هونج كونج الأخيرة.

لذلك فالتنين أو المارد الصينى لم يرغب طوال تلك الفترة فى الدخول فى مواجهات مباشرة مع واشنطن رغم الضجيج الأمريكى حول الديمقراطية وحرية الرأى فى الصين، ومحاولة الضغط الاقتصادى عليها بفرض رسوم إغراق ومطالبات بتعويم العملة الصينية - اليوان - التنين يمارس مع الفيل الأمريكى لعبة «النفس والانتظار الطويل» والرهان على المستقبل القريب وبسياسة العمل والإنتاج دون ضجيج وهذا سر التفوق والمعجزة.

الصين تدرك وهى تحقق تجربتها أن هناك بالتأكيد عقبات فى الطريق، أهمها عدم رغبة واشنطن فى نهوض العملاق ويقظته، ولذلك لا سبيل إلا بالتحالف مع روسيا بوتين، خاصة أن بكين تعتمد اعتماد كبيرا على الطاقة والتكنولوجيا العسكرية الروسية.

فى هونج كونج وفى شوارعها تذكرت شعار تحول إلى نشيد فى بداية عهد ثورة يوليو وتأسيس الاتحاد القومى قبل الاتحاد الاشتراكى يقول: «الاتحاد والنظام والعمل» لحث الناس على تطبيق الشعار.

ثلاثية النشيد وجدتها فى قلب شوارع الجزيرة الصينية، فالناس تعمل بجد كما يقول الكتاب، وتحافظ على النظام والنظافة فى الشوارع الضيقة، فمساحة الجزيرة ألف كيلومتر مربع فقط ويعيش عليها نحو 7 ملايين نسمة ونصف، وبالتالى تفرض الطبيعة الصخرية والجبلية استغلال كل «شبر» فى الجزيرة، فليس هناك فواصل بين المبانى العامة والخاصة، فهى ممر عام للناس من بنك إلى فندق إلى مطعم إلى مبنى سكنى للعبور إلى الضفة الأخرى من الشارع.

نفس الحال بالنسبة للمواصلات العامة التى تنتشر بأنواعها المختلفة فى الجزيرة، فالجراجات العامة تمر منها أيضا الحافلات العامة بانتظام والناس تنتظر فى نظام وهدوء.

هونج كونج التى عادت فى أواخر التسعينيات إلى الأرض الأم- الصين- ما زالت تمتلك استقلاليَّة عاليةً ونظاماً سياسياً مختلفاً عن ذاك فى البر الصينى، وذلك وفق مبدأ «بلد واحد، نظامان مختلفان» الذى يُكرِّس للمدينة حكمها الذاتى.

فللمدينة استقلالية قضائية تتبع هيكلها للقانون العام، كما أنَّ لديها قانوناً أساسياً مستقلاً، وينصّ دستورها الذى تم وضعه عقب نقل ملكيتها من بريطانيا إلى الصين على أنَّها ستحوز «درجةً من الاستقلالية» فى كلِّ جوانب الدولة، باستثناء العلاقات الدبلوماسية الدولية والبنية العسكريَّة. لدى المدينة نظامٌ سياسى تعدُّدى مزدهر، وتتولَّى اختيار رئيس حكومتها لجنة انتخابيَّة من 400 إلى 1.200 عضو، ويظلُّ هذا النظام قائماً طوال السنوات العشرين الأولى من الحكم الصينى.

لكن سر المعجزة الصينية فى الأرض الأم امتدت تركيبته إلى الجزيرة التى كانت فى يوم من الأيام مكانا صخريا وصحراء جرداء فتحولت إلى واحد من أكبر المراكز الاقتصادية الرَّائدة فى العالم، ومقر لأكبر البنوك والمصارف والشركات المالية العالمية فيوجد بها حوالى 55 منشأة مالية عالمية وليست محلية فقط، إذ تمتاز باقتصادٍ رأس مالىّ مزدهر يقوم على الضرائب المنخفضة والتجارة الحرَّة، وتعتبر عملة المدينة- دولار هونج كونج- العملة الثامنة الأكثر تداولاً على مستوى العالم، بسبب صغر مساحة المدينة وكثرة السكَّان، وتتميز ببنية تحتية غريبة وعجيبة لا مثيل لها فى العالم تسمح بكثافة سكانية أكبر، وهو ما حول المدينة إلى مركزٍ للعمارة الحديثة وجعل منها المدينة الأكثر علوًّا فى العالم، كما تسبَّب تطوير شبكة المواصلات فيها فى أن أصبح يعتمد أكثر من %90 من سكَّانها على النقل العام، وهو المعدَّل الأعلى عالمياً، وتتميَّز هونج كونج كذلك بمراتب دولية متقدِّمة فى مجالاتٍ عديدةٍ أخرى، مثل الحرية الاقتصادية وجودة الحياة وغيرها.

بالمناسبة كان سبب زيارتى لهونج كونج هو حضور معرض دولى للعب الأطفال فى العالم..! وللعلم فقد تحفظت على دعوة الزيارة فى البداية ثم زال هذا التحفظ والغضب، عندما عرفت أن هونج كونج وحدها تصدر لعب أطفال للعالم بنحو 17 مليار دولار سنويا أى ما يساوى 8 أضعاف إجمالى صادرات مصر للخارج «150 مليار جنيه» حسب آخر الأرقام، لذلك السلع الصينية وليس لعب الأطفال فقط تغزو العالم وتلبى احتياجات ومتطلبات المستهلك البسيط بسبب «الثروة البشرية» الصينية التى تحولت إلى قوة إنتاج جبارة فى كل بيت وشقة وناد ومدرسة وجامعة، المشروعات الصغيرة فى كل مكان، والتجربة الاقتصادية الصينية عبر ربع قرن أو أكثر هى نموذج فى كيفية تحقيق نهضة أمة فى صمت ودون أناشيد وأغان. وتعد التجربة الأكثر إثارة فى العالم. خلطة عجيبة وتمازج فريد بين ثوابت الفكر الاشتراكى وأفكاره الموروثة.. وقواعد وآليات اقتصاد السوق الحر.

لم تبع الصين القطاع العام «ثروتها الكبرى» مثلما فعلت حكومات مصرية فى التسعينيات بل عملت على تطويره وتحسينه ومنحه مزايا المنافسة، وفتحت الباب أمام الاستثمارات الأجنبية والوطنية، وأصبحت ثانى أكبر مستقبل للاستثمارات الأجنبية فى العالم بعد الولايات المتحدة.

نجت الصين من مفرمة العولمة والأمركة وبدأت خطة إصلاح خاصة وبهدوء ودون إحداث خلل وإرباك داخلى ودون التخلى عن ثوابت التجربة الصينية وحققت ما أرادت. ففى عام 87 كان حجم التجارة الخارجية للصين لا يتجاوز 21 مليار دولار معظمها- وللمفاجأة- كان عبارة عن واردات من الخارج.

بعد ذلك وفى نهاية التسعينيات وبدايات الألفية الثالثة بلغ الرقم 630 مليار دولار منها 320 مليار صادرات والآن يلامس الرقم حد الألف مليار دولار النسبة الكبرى صادرات.

بشكل عام الزيارة الأخيرة للرئيس السيسى للصين واطلاعه عن قرب ومشاهدة للتجربة الصينية التى اعتمدت فى الأول والآخر على البشر واعتبرتهم ثروة وقوة للإنتاج والعمل تجلعنا نتفاءل بعض الشىء للاستفادة من التجربة وليس استنساخها، فالتجارب لا تستنسخ ولكن يستفاد من بعض جوانبها، فالحث على العمل والإنتاج والثقة فى البشر والكتلة السكانية الرهيبة فى الصين هى أهم عوامل نجاح التجربة.

الصين لم تنقطع عن تاريخها وعقيدتها السياسية والاقتصادية وإنما وضعت خطة إصلاح للتطوير دون التدمير وهذا أيضا سر النجاح.

عموما كل المؤسسات الدولية الاقتصادية تترقب ما يحدث فى الصين وبين الحين والآخر تنتظر مؤسسات غربية ملامح أى تباطؤ أو إعياء للاقتصاد الصينى مثلما تحذر البيانات الاقتصادية الأخيرة من ركود محتمل بعد أكثر من ثلاثة عقود من النمو المبهر.. وأصحاب ذلك يقولون، إن هناك علامات عديدة على الإعياء، مشيرين إلى سوق العقارات البارد وارتفاع إجمالى الدين وتكلفة العمالة، وكل هذه العوامل مجتمعة من وجهة نظرهم تدفع إلى تراجع حاد فى معدل نمو ثانى أكبر اقتصاد فى العالم.

صحيح أن هناك مشكلات فى الاقتصاد الصينى لا ينبغى إغفالها، وبسبب سرعة ونطاق النمو فى البلاد خلال العقود الماضية، أصبح صناع السياسات أكثر يقظة إزاء المخاطر الهيكلية التى يمكن أن تسحب الاقتصاد إلى الوراء على الأمد الطويل، وفى هذه النقطة أطلق المتشائمون تحذيراتهم، لكن توقعاتهم ليست صائبة، فالاقتصاد الصينى ظهر أقوى من المتوقع، ومن المرجح أن ينمو بنسبة 7.5 بالمئة هذا العام، وهو معدل ما زال مرتفعا فى ظل إصلاحات مؤلمة، البعض يرى أن الاقتصاد الصينى دخل الوضع «العادى الجديد» بمعدل نمو أبطأ لكن عالى الجودة، وقد أصبح وضع «العادى الجديد» محل توافق من أعلى قائد إلى أصغر صاحب أعمال، وتشير شعبية هذا «الشعار» إلى التحول فى عقلية الشعب الصينى، نمو أبطأ يرجح أن يستمر لفترة وليس علامة على الفشل، لكن غياب الإصلاح يمكن أن يكون قاتلا للنمو المستدام على الأمد الطويل. وبالنسبة لصناع السياسات، فإنهم أقل قلقا حيال فقدان أهداف النمو الرسمية، لكنهم يجمعون على التخلى عن طفرات نمو على الأجل القصير من أجل إصلاحات صارمة ستؤتى ثمارها فى نهاية المطاف.

القبول الوطنى الواسع واليقظة- كما تشير التقارير- إزاء أرقام النمو من شأنه أن يساعد فى بناء اقتصاد أقوى** نمو أبطأ، لكن بطالة أبطأ بقيادة الابتكار وصناعة الخدمات، مقارنة بنمو مرتفع ومعدل بطالة مرتفع بقيادة الاستثمارات والصادرات فى الماضى، وقد شهد عام 2014 علامات واعدة على هذا التحول،** إسهام الاستهلاك النهائى فى الناتج الاقتصادى تجاوز نظيره من الاستثمار، وأصبح الاقتصاد المدفوع بالخدمات والاستهلاك يتشكل تدريجيا.

ولعل الأبرز هو ازدهار صناعة التكنولوجيا الصينية فى السنوات الأخيرة، فأكثر من 10 شركات إنترنت صينية أطلقت عروضها العامة الأولية فى سوق الأسهم بالولايات المتحدة فى عام 2014 من بينها شركة «على بابا» التى خلقت أكبر صفقة اكتتاب عام فى التاريخ.

وترمز حيوية صناعة التكنولوجيا الصينية إلى الاستدامة الاقتصادية للدولة، التى تقف فى تناقض حاد مع بعض الصناعات التقليدية عالية الاستثمار والتى تعانى من الطاقة الفائضة، ويلاحظ بالكاد أن الابتكار يغير سريعا من وجه الاقتصاد الصينى. ويقف المنظمون على أهبة الاستعداد لإضافة الزخم فى بناء الاقتصاد الابتكارى، وتعهدوا بتبسيط الموافقات الإدارية وتحرير معدلات الفائدة وتوفير التمويل الكلى لدعم المشاريع الصغيرة. وكما تعهدت فى أواخر 2014 تستعد بكين للسماح للسوق بأن تلعب دورا حاسما فى الاقتصاد، وسوف تتخذ خطوات إصلاحية فيما يتعلق بالأراضى والضرائب.

إجمالا نبوءة بونابرت تتحقق والمارد يتحرك بقوة السيل نحو الهدف، وعلينا أن نستفيد منه ونطلب منه العلم ونحتذى به فى العمل والإنتاج والإخلاص لتحقيق ما نحلم به أو على الأقل نسير من خلاله على الطريق الصحيح للتنمية والازدهار.

المصدر: ملتقى شذرات

__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية

الكلمات الدلالية (Tags)
"اليوم, معجزة, المواطن, السابع", الشيوخ, بلاده, ترشح


يتصفح الموضوع حالياً : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
أدوات الموضوع

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


المواضيع المتشابهه للموضوع "اليوم السابع" ترصد كيف صنع المواطن الصينى معجزة بلاده
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
مظاهرة "إلكترونية" و"مفاجآت" تزامنا مع اليوم العالمي للمرأة عبدالناصر محمود شذرات مصرية 0 03-08-2014 08:48 AM
"جراسا"ترصد اقتراب صخره بحجم 3 ملاعب قدم نحو الأرض يوم 17-2 Eng.Jordan أخبار منوعة 0 02-15-2014 06:54 PM
زيباري: خروج العراق من "الفصل السابع" يوم تاريخي ام زهرة أخبار عربية وعالمية 0 06-28-2013 07:57 PM
صدر حديثا "عزيزى المواطن المسلم لماذا أنت متخلف؟" Eng.Jordan أخبار ومختارات أدبية 0 08-25-2012 12:06 PM
"فورين بوليسي" ترصد أكبر 14 كذبة أمريكية في 2011 Eng.Jordan مقالات وتحليلات مختارة 0 05-04-2012 06:21 PM

   
|
 
 

  sitemap 

 


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 02:37 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.12 by vBS
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والمشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59