#1  
قديم 06-28-2012, 06:39 PM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,392
افتراضي الخصوصية في الثقافة القومية العربية







( دور الإنتاجية والإبداع)



منشورات اتحاد الكتاب العرب
-----------------------------

1996


حقوق الطبع والترجمة والاقتباس محفوظة

لاتحاد الكتاب العرب


تمهيد


مهما اختلفت المعايير المستخدمة في تصنيف الثقافات البشرية من حيث التي تتبوؤها، أو من حيث وضعها في إحدى خانتين ( ثقافة متقدمة، ثقافة متخلفة )- مع التحفظ على هذا التصنيف – فإن الثقافة تبقى أحد أهم الأسباب التي تحفظ لأمة من الأمم تماسكها وتحصينها من عوامل التشرذم والتفتت والانحلال.
بالثقافة تحافظ المجتمعات على تماسكها ،وبها يتحول الكائن البشري كونه اجتماعي، فأحد أهم سمات الكائن البشري كونه اجتماعيا أي أنه مندمج في ثقافة المجتمع الذي ينتمي إليه، وهذا ما يعنيه(هوين- كاو تري) حين يقول:
<< نحن لا ندرك حقاَ فرادة الدور الذي تلعبه الثقافة في حياة شعب من الشعوب إلا عندما تتعرض هذه الثقافة وآلياتها غير المنظورة إلى الانحطاط إما بفعل غزو التكنولوجيا وإما نتيجة انتهاج سياسة مقصودة من الاعتداء الثقافة من أجانب أو على أيدي الوطنيين أنفسهم باسم العلم أو باسم ما يسمى تقدماَ000 >>(1)
وتعاني شعوب كثيرة تحررت في القرن العشرين ، من جبروت الهيمنة الاستعمارية من مشكلة تتعلق بوجودها ذاته تتحلى في الهوية الثقافة. فهي سعيها إلى الحركة والانفتاح على الحضارة المعاصرة تجد نفسها وهي في الفراغ الثقافي بسبب من انبهارها بعظمة التقدم العلمي والتقني الذي بلغته الحضارة المعاصرة0 فتشعر بأنها تكاد تفقد هويتها، خاصة وأن مراكز التفوق التقني المعاصرة تمعن في تفسير أسباب تقدمها فتحيلها إلى عقلانية من سماتها سلطان العقل والعلم دون <<الإحاطة الشاملة بتعدد العقلانيات ، إذ لم يعد هنالك عقلانية علمية واحدة >>(2)0 وتشتد هذه المعاناة حين ينحصر النظر إلى الثقافة من خلال عنصري العلم والتكنولوجيا فحسب، إذ أن الثقافة من منظور تاريخي شامل تبدو أكثر شمولية وعالمية0
وتجد أمم الأرض كافة نفسها في هذا العصر أمام المشروع الثقافي العربي بكل جبروته وسطوته وآلياته مصدراَ من مصادر الانبهار ، وكثيرة هي الشعوب التي تناست خصوصياتها وتنازلت عن كثير من مقومات هويتها فخسرت نفسها ولكنها لم تجد ضالتها في المشروع المذكور كونه لا يتعامل مع الآخرين إلا من باب الاستعلاء والإمعان في النهب الذي يطال كل شيء بما في ذلك المقومات الثقافية لشعوب الأرض خارج دائرته الخاصة 0 وهو في أساليبه تلك يعي تماماَ المدى الذي تمثله الذاتية الثقافية للشعوب التي استعمرتها ، من معوقات لاستمرار مشروعه ونموه 0 وقد تنوعت وسائل العدوان على ثقافات العالم الذي ما يزال يسمى بالعالم الثالث بوسائل شتى ، من الحملات التبشيرية التي تسترت وراء الدعوات الدينية إلى إشاعة نظم قيميه تتعارض مع المبادئ الأخلاقية لهذا العالم 0وقد تعاظم السطو الثقافي بفضل التقدم الهائل لأصحاب المشروع الغربي من حيث امتلاكهم للتكنولوجيا المتطورة وعلى الأخص وسائل الاتصال 0 فمن خلال وسائل الإعلام المختلفة يصدَر المشروع الغربي ثقافته وقيمه ونظام حياته في قالب جذاب براق حذر أو لأماني الشعوب وآمالها ومرتكزاتها الثقافية0 ولا يكتفي بذلك فحسب ولكنه حين يعوزه الأمر أبداَ عن استخدام الأسلحة التدميرية متخلياَ عن لبوسه الظاهري الذي يدعي الحرص على حقوق الإنسان وعلى القيم الديمقراطية 0----------------------------
(1)التربية الجديدة – العدد 25 –23.
(2) – المصدر السابق.



ولعل بروز ( النظام العالمي الجديد) الذي يخضع- - شئنا ذلك أم أبينا – إلى سلطانه المؤسسات الدولية ويسوق بعصاه من يشاء حيث يشاء أو أنه يتصرف في كثير من الأحيان وفق هذا المبدأ يبرز إلى حد كبير ما ينطوي عليه المشروع الثقافي الغربي من عنجهية ونزعة عدوانية على مصالح الشعوب الثقافي المغلوبة على أمرها ، خاصة تلك تنتمي إلى الجنوب0
ولن تجدي سياسة غمر الرأس بالرمل أحداَ 0 التخلف الاقتصادي والاجتماعي لن يفرح إلا مزيداَ من التخلف والتبعية0 والخروج من شرنقة التخلف والتبعية لا يكون ممكناَ إلا عبر الوعي بالأزمة المستحكمة والوعي بالدور الحيوي للثقافة التي تحفظ للأمة وحدة شخصيتها وتمنع عنها سيل الغزو الثقافي الذي يستهدف في النهاية وجودها 0 زلن يجدي التعري من التراث والانغماس في حضارة العصر فتيلاَ 0 لأنه يستحيل على الذات الخروج من جلدها مهما تراءى أن ذلك ممكناَ 0 في كتابه
(خوف الحرية) يشير (أريك فروم ) إلى مخاطر فقدان الذات وإحلال ذات أخرى مكانها بقولة:
<< إن فقدان الذات وإحلال ذات مكانها يدفع الفرد إلى حالة من انعدام الاطمئنان ،
فالشك يلاحقه ، إذ أنه أساساَ مرآة لتوقعات الآخرين منه بينما هو فقد هويته إلى حد كبير ، وفي سبيل تجاوز الهلع الناتج عن خسارة الهوية هذه نراه مضطراَ للبحث عن
هوية ما من خلال قبول واعتراف مستمرين به من قبل الآخرين >>0
فالوعي الثقافي يكون وعياَ بخصوص الثقافة القومية ، لكن هذا لا يعني رجعة إلى الوراء وتمسكاَ بكل ما في التراث وتنكراَ لطبيعة العصر وثقافات الأمم الأخرى 0
فتحصين الشخصية القومية يكون بالحرص على الخصوصية الثقافية للأمة مع إفساح
المجال واتباع كل الأساليب الممكنة التي تتيح لها التواصل مع ثقافة العصر واتجاهاته أي أنها حين تمد جذورها إلى تراثها لا تنغلق على ذاتها 0
ويحيلنا ذلك إلى البحث في قدرة الأمة على الإنتاج ، وفي تحديد بعض ملامح التمايز الثقافي وعلاقته 0 بمفهوم الشخصية المنتجة ثم إلى إلقاء الضوء على عوامل الضعف في الفكر العربي المعاصر وفي تجليان ذلك على ضعف الإنتاجية ،وسيقودنا البحث في أسباب ضعف الإنتاجية العربية وفي آفاق الثقافة العربية واتجاهاتها إلى الحديث عن دور الإبداع في بناء المشروع الثقافي العربي والحاجة إلى الإبداع في العصر التكنولوجي ، مع رسم ملامح الطريق إلى تفتح الفكر المبدع من خلال التعرف إلى أهمية تعلم حل المشكلات والاهتمام بفعالية التفكير وتدريب المتعلمين على التفكير ونوع الطرائق التي يحتاجها وشروط تعلمه0
إن ما يدفعنا إلى سلوك هذه الطريق التي أشرنا إلى أهم معالمها نابع من إدراك الدور الذي يقوم به التمايز الثقافي بين الأمم في الحد من تطرف أحدها وغلبته على ثقافات الأمم الأخرى وفرض نموذج وحيد لا يكون معه أي إمكان لمشاركة بناء ة من الثقافات الأخرى في إنماء حضارة إنسانية تحفظ للإنسان في أية بقعة من العالم حقه في الحياة والإسهام في تقدمها وجعلها جديرة بأن تعاش0


وليس هذا الذي نهدف إليه بدعة وإنما هو مع تجاوب اتجاهات العصر حيث يزداد اهتمام الشعوب قاطبة بتراثها وهي تسعى من خلال مفهوم التنمية لأن تحترم شخصيتها الثقافية 0 وهذا الاهتمام نابع من حاجة أساسية لأي جماعة تمثل فيما يسمى داخل علم النفس الفردي (بالحاجة إلى تأكيد الذات ) وعلى المستوى الجماعي
يسمى (تأكيد الهوية القومية ) من خلال التواصل مع إرث الأمة المادي والفكري
وهذا الأمر نجده واضحاَ في سعي الشعوب الحديثة الاستقلال للبحث عن جذورها
الثقافية كي لا تجد هويتها منقوصة
ويشكل التمايز الثقافي عقبة كأداء في وجه مشاريع الهيمنة والاستعلاء التي يمارسها المشروع الثقافي العربي بخاصة في نمطه الأمريكي فمجتمع القارة الجديدة – في الولايات المتحدة الأمريكية – مجتمع بلا جذور يقوم على ذرائعية لا تميز في مجال القيم الجوانب الروحية من الجوانب المادية ولا تقيم لهل وزناَ ، مثل هذا المجتمع الذي يتنكر للتمايز الثقافي ينطلق من موضوعة –غير صادقة بذاتها- تتمثل في اعتقاده بتفوقه وذكائه وإقامته لمفهوم في التمايز الثقافي يتمثل في الدرجة فحسب و لا يقيم وزنا للتمايز الكيفي والنوعي
ولا يعدم المشروع الغربي المذكور أنصاره خارج حدوده من أولئك الذين بهرهم تقدمه في المجالين العلمي والتقني لذا فهم يشددون علا أهمية الانسلاخ عن الماضي والركض وراء -مود يلات- المشروع إياه لا تعني الحياة في العصر الانخلاع من التمايز ولا تخلي الجماعات و الشعوب عن وحداتها ونحللها
إن التمايز الثقافي من حيث أنه يستند إلى عمليات نفسيه و اجتماعيه هو دليل نمو واتجاه بالا مه نحو النضج وكلما كان التمايز واضحا فانه يعبر عن مستوى افضل في قدرة صاحبه –فردا كان أم جماعة - على تنمية الجوانب الانفعالية وألوان السلوك الدفاعي ، مما يمكن الفرد أو الجماعة من التميز عن الآخرين ويزيد في قدرته على التنظيم والتحكم في الجوانب الرئيسية للشخصية في علاقاتها المختلفة0
يعبر الباحثون في العلوم الإنسانية عن سخطهم على كل الأنظمة التي تسعى إلى صوغ الأفراد لديها وفق قوالب محددة من خلال فضحهم للمخاطر المترتبة على ذلك من إماتة القدرة على الإبداع والتعبير وقسر الفكر وغيره 00 أيكون ذلك مقبولاَ إذا طبقناه على الجماعات والشعوب؟0










الخصوصية في الثقافة العربية

--مظاهر ضعفها والأخطار التي تهددها –




ليس بخاف على كل من له عين بصيره ما تتعرض له الشخصية القومية العربية ، من محن ، وما تزال بالعرب من كوارث خلال القرن العشرين بدءاَ من حملات التتريك التي اندفع في تعميمها الطورانيون في أواخر عهد الخلافة العثمانية مروراَ بعمليات التشويه والتزوير التي أسس لهل عملاء المخابرات البريطانية بوجه خاص عندما نشروا جواسيسهم في الجزيرة العربية ، إلى معاهدة سايكس بيكو – ووعد بلفور ثم بظهور الدويلات الإقليمية التي لا تزال قائمة إلى يومنا هذا ،والتي اكتسبت نمطاَ من الشرعية صار له حواريوه والمنافحون عنه والمؤد لجون له في أكثر من اتجاه ،وليس آخر ما جدَ على الساحة الثقافية العربية بعد ما حصل في حزيران (يونيو) 1967 – وما نتج عنه من حروب إقليمية وطائفية وصراعات أيديولوجية فقط تساقطت أوراق كثيرة ومعها كانت الثقافة العربية تنزف حتى أصبح المشككون بوحدتها يجدون الدفاع عن آرائهم ومعتقداتهم ومراميهم لا يلاقي من المصاعب إلا الشيء اليسير 0 فتشتيت الثقافة العربية في قنوات تلتقي بجنح كل منها نحو غاية مغايرة للأخرى لم يعد شيئاَ مستتراَ 0 والهدف من ذلك تفشيل المشروع الوحدوي القومي العربي وإسقاطه 0
فما اتجاهات الانغلاق القطري وتحكيم المصالح المحلية وجعلها في الترتيب أسبق على المصلحة القومية ، والادعاء بالانفتاح على تيارات الثقافة العالمية والغرق فيها إلا بعض من أشكال الاعتداء الثقافي الذي يحل بأمة تتعرض لصنوف كثيرة ومتنوعة من عدوان يستهدف وجودها ذاته


مظاهر الضعف والتبعية في الفكر العربي المعاصر

ثمة ظواهر كثيرة يرى المرء أنها أحد أسباب تخلف الثقافة العربية وتبعيتها منها :
1- القطيعة في الفكر القومي العربي المعاصر : بدأت أفكار القومية العربية وما يتعلق بها من حديث عن النهضة العربية والانبعاث القومي وما إلى ذلك من مفاهيم ومبادئ منذ نهاية القرن التاسع عشر وتعاظم ظهور هذه الأفكار مع إشراقة القرن العشرين 0 استندت الدعوات القومية إلى ركائز تاريخية ولغوية ، ولكن أبرز ما اتصفت به هذه الدعوات وما ارتبط بها من حركات أنها جميعاَ كانت تبدأ من الصفر تقريباَ ترمي بكل ما جاء به معاصروها أو من سبقها بفترة زمنية ليست طويلة بقصد منها إلى البرهنة على صدقها وعلى أنها التي فيها البلسم والشفاء0
لا ينكر أحد ما لشخص مثل (ساطع الحصري ) من باع طويلة في التنظيم للفكر القومي وفي الدفاع عن العروبة والتأسيس لبحوث ودراسات في الفكر القومي والثقافة القومية وفي استشرق المستقبل ووضع التربية والكشف عن دورها في بناء الصرح القومي وفي تربية الأجيال على الفكر القومي العربي0
لكن الرجل أهمل وعومل من بعض دارسي فكره على انه ظاهرة منقطعة عما قبلها وما بعدها وفتش له عن مصادر لفكرة خارج إطار الاهتمام القومي0
ولم يكن الأمر مقتصراَ على الدعوات المعادية للوحدة العربية والقومية بل آن الحركات القومية ذاتها تناسته وركنت تراثه في زوايا مهملة0
ومن خلال تصنيفات غير دقيقة موضوعة في غير إطارها صنف رجل النهضة العربية بين عميل وسلفي وذي توجه إقطاعيي أو بورجوازي وغير ذلك 0
علماَ أن العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر والعقدين الأول والثاني من القرن العشرين كانت غنية بالأفكار والكتابات والممارسات النهضوية التي لم تقم أية مؤسسة رسمية أو غير رسمية في إنشاء مراكز للبحث في تلك الفترة الاستفادة من كتابات أولئك الرواد وأفكارهم في البحث عن أسباب تعثر نهضتنا أو( استشهادنا الثقافي ) كما يقول أحد الكتاب 0 فيما خلا ما صدر عن وزارة الثقافة في سورية من جمع كمية لا بأس بها من تراث تلك الفترة 0 ومع ذلك فإن تحليل تلك الكتابات ووضعها في سياقها أمر لا غنى عنه كي نتغلب على تلك الفجوات القاتلة في فكرنا القومي والاجتماعي ولنتخلص من وسائل الرقيع وملء الفراغان وفق اجتهادات شخصية أ اعتبارات قطرية أ وإقليمية أو مذهبية وغير ذلك وإلا فأين الأبحاث التي تناولت بالدرس والتحليل والنقد والتقويم كتابات عبد الرحمن الكواكبي وشكيب ارسلان والتراث الغني الذي تركاه ،إضافة لما خلفه اليازجيين وآل البستاني وسواهم مروراَ بساطع الحصري وعبد الرحمن الشهبند ر وغيرهم ممن تتعرض كتب التاريخ المدرسية لعد أسمائهم أحيانا دون أن تكلف نفسها إضافة نماذج أو نصوص مما كتبوه لإعطاء تلك الحقبة من الدرس والتحميص0 فبينما نجد لدى الصينيين والكوريين الجنوبيين وحدهم على سبيل المثال – أكثر من عشرين معهداَ متخصصاَ في التدريس والبحث والدراسة للوطن العربي وحدة نجد أن مثل هذا لا يعطي ما يستحق من الاهتمام في المكان الذي هو بحاجة إلى معرفة أكثر من أي مكان آخر0
ألم يكن في ما طرحه ألئك الرواد الأوائل من اللبنانيين في القرن التاسع عشر , إن في لبنان ، وإن في مصر بعد نزوحهم إليها ، ما يستحق الدراسة بخاصة وأن أكثريتهم قد التزمت بالمنهج العلماني في التفكير ، بغض النظر عن البواعث التي جعلتهم في الطرف النقيض لما أعلن في الدولة العثمانية عن فكرة الجامعة الإسلامية ؟ واللامركزية التي تمثلت في دعاوى الجامعات العربية وفيما خلفه الكواكبي من تراث فكري خاصة في كتابه( طبائع الاستبداد ) ومن بعده ( آم القرى ) ، لم تحفظ هي الأخرى إلا بالعرض فقط دون أن توضع في مكانها كمرحلة نضوج الوعي القومي العربي ، وعلى ما أظن فإن الكتاب الذي أصدرته اللجنة العليا لحزب اللامركزية تحت عنوان << المؤتمر العربي الأول—القاهرة 1913 >> لم تعد طباعته رغماَ عن هذا المجال 0 ومن بعد ذلك لم تلق المقالات التي دبجت عن الفكرة القومية في جريدة ( القبلة) الحجازية التي شارك في تحريرها عضوان من أعضاء مؤتمر باريس هما محب الدين الخطيب وفؤاد الخطيب ، من العناية أكثر من كتاب <<المؤتمر العربي الأول >> 0 وقد جاء في إحدى مقالات << أحمد شاكر الكرمي >> المنشورة في << القبلة >>:
<< الأمة العربية ترجع إلى أصل واحد وتتكلم بلغة واحدة وهذا من أهم دواعي اجتماع الأمم ، فهي إذا تملك من دواعي الاتحاد الطبيعية ما يجعلها مستعدة لقبول الدعوة إلى الجامعة العربية أتم الاستعداد>>(!).
وفي هذا الإطار نذكر الكتاب الهام الذي صدر باللغة الفرنسية للكاتب نجيب عازوري 1881 –1916 ) وعنوانه الكامل ((يقظة الأمة العربية في تركية الآسيوية إزاء وجود مصالح لكل من الدول الأجنبية والكرسي ا لرسولي والبطريركية المسكونية واشتداد التنافس فيما بينها >> ومؤلف الكتاب شخصيه أثير حولها نقاشات كثيرة في فترة ترجمة الكتاب إلى العربية التي تأخرت عدة قرون 0(2)
وقبل ذلك في كتاب ( جورج أنطونيوس )<< يقظة العرب >>(3) الذي صدر في لندن عام 1938 والتي يقول ( اسعد رزوق ) أنها أهملت الإشارة ( إلى الصراع الذي تراءى لنحيب عاز وري آتياَ لا محالة بين ظاهرة القومية العربية (العروبة) وبين المساعي


(1)- وليد قزيها: المستقبل.العربي. العدد 4 –ص 25.

(2) – صدرت ترجمة الكتاب عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر --- بيروت 1978 – قام بالترجمة( د. أحمد أبو ملحم).

(3) –جورج انطونيوس(يقظة العرب) ترجمة ناصر الدين الأسد وإحسان عباس, دار العلم للملايين ط2 بيروت 1966








اليهودية الرامية إلى إنشاء دولة صهيونية في فلسطين )(1) نجد ذلك فيما كتبه عاز وري :

<< إن ظاهرتين هامتين ، متشابهتي الطبيعة بيد أنهما متعارضتان ، لم تجذبا انتباه أحد حتى الآن تتضحان في هذه الآونة الأخيرة في تركية الآسيوية، ، أعني يقظة الأمة العربية وجهد اليهود الخفي لإعادة تكوين مملكة إسرائيل القديمة على نطاق واسع ، ومصير هاتين الحركتين هو أن تتعاركا باستمرار حتى تنتصر إحداهما على الأخرى 0 وبالنتيجة النهائية لهذا الصراع بين هذين الشعبين اللذين يمثلان مبدأين متضاربين يتعلق بهما مصير العلم بأجمعه >>

أين من هذا ما نقرؤه من كتابات وتصريحات المهرولين بعد حوالي القرن من ظهور كتاب عاز وري ؟0

2 – البحث عن الذات خارج نموذج الفكر العربي :

------------------------------------------------ ينطبق ذلك على الإصدارات الثقافية والخطابات الأيديولوجية " وإذ أنها كانت تبشر دوماَ بالمخلص الذي هو في نموذج الآخرين 0 لعل نموذجها الأول كان الغرب الأوربي الذي انخدع فيه الفكر العربي أملا فيه الخلاص من التخلف الذي سببه الحكم العثماني بشتى أساليب تسلطه ومحاربته لكل فكر تنويري وتعميمه لنموذج تسلطي متخلف مكابر معاد لكل ما هو معقول 0 وقد لاقت الثورة الفرنسية صدى حسنا في أذهان الفئة المتنورة وكذلك كان للثورة الأمريكية صداها 0 فإذ يجد العرب أنهم قد خدعوا بالسياسة الإنكليزية – والفرنسية ووقعوا في أحابيلها الظالمة يمم بعضهم وجهه شطر القارة الجديدة000
وقد تبلغ ذلك الانبهار بالنموذج الثقافي الذي ساد في هذين النموذجين من تمجيد العقل والعلم حتى غدوا لدى البعض صنمين، وأصبح هم الكاتب والمفكر أن يكثر من استخدام مفاهيم العلمية والموضوعية والعقلانية ، ولم يكن ذلك لديهم في معظم الأحيان سوى اهتمام بالشكل على حساب المحتوى وقفز فوق الواقع 0 وسرعان ما انتشر بين ظهراني
(1)—أسعد رزوق : المستقبل العربي العدد 4 ص 86 ومابعدها.

الثقافة العربية والفكر العربي متحزبون إلى هذا المذهب دون ذاك00 بل أن المفكر الواحد كل يوم يجدف بمجداف جديد 00وقد لا نقع على واحد من المشتغلين بالفكر يثير قضية من القضايا بهدف معالجتها معالجة جديدة أو إلقاء ضوء جديد عليها وإنما محاولات لقسر الواقع والتفتيش فيه عما تنطبق عليه نظرية أو فكر أو فلسفة مما أخذ عن النموذج المستورد00000
ففي مجال الفلسفة مثلا تجد لدى بعضهم من << تنم النظرة المعينة للفلسفة لديه- عن نزعة علموية ، أي تتخذ من المعرفة العلمية نموذجاَ لكل أنواع المعرفة ، فلا تقف من العلم موقفاَ نقدياَ بل يصير هو معيار لكل نقد 000(1)
وليس الانبهار بالنموذج السوفيتي إلا أحد أشكال الانبهار بالنموذج الغربي إياه 0فاصتنع الفكر الربي من تاريخية قطعها من سياق العام وفصلها عن نظريات هذا النموذج 00 فنجد في ثنايا هذا النتاج الفكري تعبيرات معاصرة يضفيها هذا الباحث أو ذاك على أنظمة أو حركات أو تصورات ماضية 0ألم يعد البعض ما اتصف به الخليفة الراشدي عمر ابن الخطاب من عدل وإصغاء للرأي الآخر أنه ديمقراطية مبكرة في التاريخ 00 وأن أبا ذر الغفاري هو أول الاشتراكيين بل أنه ماركسي قبل أن يولد ماركس بقرون ؟00 وانتشرت بيننا فلسفات متنوعة رصفت رصفاَ دون النظر إلى أوضاعنا الاجتماعية والاقتصادية وظروفنا وتاريخنا00 وكثرت المصطلحات ذات الصفة التقريرية وتجاوز بها البعض إلى ألفاظ تقويمية تفرض فرضاَ فجرى تصنيف الناس وفقاَ لها بين يمين ويسار ، وتقدمية ورجعية 0
(1) عادل ظاهر:دور الفلسفة في المجتمع العربي – بحث قدم للمؤتمر الفلسفي العربي الأول الذي نظمته الجامعة الأردنية من 5 – 10 كانون الأول( ديسمبر) 1983 – ضمن البحوث المنشورة في الفلسفة في الوطن العربي – منشورات مركز دراسات الوحدة العربية – بيروت – أيلول ( سبتمبر ) 1985.




ويمكن تلخيص موقف الفكر العربي المعاصر من الآخر ( النموذج الغربي )—وهو ما يطلق عليه الأستاذ( حسن حفني ) ظاهرة التغريب-بما يلي:
n اعتبار الغرب النمط الأوحد لكل تقدم حضاري ولا نمط سواه0
n اعتبار الغرب الإنسانية جمعاء وأوربا هي مركز الثقل0
n اعتبار الغرب المعلم الأبدي واللاغرب التلميذ الأبدي (1)0
قد استتبع التتلمذ على النظريات الغربية المنداة بنموذج تنموي دون آخر ، وإذ تخيب بعض النماذج الأمل ، لا يعاد النظر فيه وفق نظرة نقدية بل تنتقل التبعية إلى مركز آخر 0 وقد ظهرت في ساحة الفكر العربي دعوات إلى النموذج الصيني والنموذج الياباني وأحياناَ النموذج الكوري الشمالي 00
ولعل أخطر ما أصاب العقل العربي هو الحالة من عدم التوازن التي خلفها سقوط المنظومة الاشتراكية وما تبعها من حالات التداعي والانهيار والإعلان عن الانضواء إلى سلة الإمبريالية الأمريكية والتوجه بالآمال إليها على أنها المخلص الأوحد رغماَ عن تاريخها المشبوه والمعادي للعروبة بشكل خاص 000
(1) – حسن حنفي:موقفنا الحضاري: من بحوث المؤتمر الفلسفي العربي الأول – المصدر السابق ص 30 .



فكأن ظاهرة التواكل قد أضحت مرضنا المزمن ونحن نطلب العون دائماَ من الخارج وكأن أوراق خلاصنا هي في أيدي غيرنا 0وقد كان علينا منذ البداية أن ندرك أن الأوراق << ليست في أيدي أمريكا ولا في الاتحاد السوفيتي 00 إن الأوراق في أيدينا>>(1)00
هذا البحث عن الذات خارج نموذجنا أدى بالمثقفين العرب بصورة عامة إلى الاستهانة بوحدة شخصية الأمة العربية في جو من الدعايات المجنونة لأنماط مستوردة وتابعة ، وآل ذلك إلى السقوط وإلى الضياع والتخلف وسيادة مفاهيم التنظيم القطعي الذي يستند إلى أمجاد من التطور السطحي والتنمية الفارغة من مضمونها الإنساني مستخدماَ ألوانا فاقعة يكرس حالة من التبعية والتخلف000
وكم كان حرياَ بنا أن نستقرئ النماذج الأخرى << لا كوصفة جاهزة إذا ما طبقناها نجحنا وإن لم نطبقها فشلنا ، بل كمنظور تاريخي يتيح لنا استشفاف التجربة التاريخية لدول سبقتنا في مضمار التنمية ورفع مستوى المعيشة للغالبية من سكانها 0
ومن خلال هذا الاستقراء نخرج بمنهج تحليلي نسلطه كالضوء الكاشف على واقعنا وتاريخنا << ونحاول من خلاله دراسة العوامل التي ما زالت تكبل الوطن العربي في واقع التخلف>>(2)

3—القطيعة بين المؤسسات التثقيفية والاتصالية في الوطن العربي
هذه القطيعة ليست قطيعة بين مؤسسات هذا القطر ومؤسسات القطر الآخر فحسب بل هي قطيعة داخل القطر الواحد 0 كل يغني في واديه ،علاقات شبه مقطوعة أو هي مقطوعة بين مؤسسة وأخرى وبين قطاع وآخر ، التعليم الجامعي لا صلة له بالمجتمع على الغالب 0 الجامعات جزر في محيط إن وجدت لا تتعلق على الأغلب بمحتوى التعليم أو طرائقه، إنما هي علاقات توظف لصالح مكاتب وتلبي مطالبها ليس أكثر0000

(1) – سمير أمين: ماذا يحدث في الإتحاد السوفييتي – المستقبل العربيع 114 ص 57.
(2) – ناديا رمسيس: النظرية الغربية والتنمية العربية:المستقبل العربي ع64 ص 50.




يكاد يشكل المثقفون خليطاَ غير متجانس، إن من حيث محتوى الثقافة ،أم من حيث الثقافة أم من حيث تفاعلهم مع الثقافات المطروحة 0 مثقف سلفي يتصف سلوكه غالباَ بالانفعالية اعتاد ترديد الكليشهات الجاهزة من النصوص ، لا يخرج من النص ومن إطار تفسيرات عفا عليها الزمن0
يتجه السلفيون بكافة اتجاهاتهم الدينية والحزبية الأخرى – ليست السلفية مقصورة على اتباع الأيديولوجيات الدينية ، بل هناك سلفيون ماركسيون وقوميون –بشكل متزايد إلى الاستشهاد بالنصوص << من أجل حسم أية مشكلة فكرية، ويعكس منهج الاستشهاد اتجاها إلى التخويف 00 ويمثل نوعاَ من الإرهاب>>0(1)
ومن المثقفين من أعادت تصديرهم إلينا بعض الجامعات الأجنبية فعادوا إلينا أشد جهلا وأكثر تخلفاَ مما كانوا قبل إيفادهم 0
وفي مجال الإدارة أو العمل في المؤسسات العامة لا يتخذ على الأغلب من درجة النمو الثقافي معياراَ للتكليف بالمهام والمسؤوليات مما يشجع على سيادة الكسل والركود 000
ومن تمظهرات القطيعة الثقافية أن المنظمات التي يؤسسها المثقفون ( اتحادات الكتاب والصحفيين ) سرعان ما يتحول العمل فيها إلى نوع من العمل المكتبي الذي لا يسمح بنهوض منتسبيها0 وهناك الكثير من الظواهر التي تنتج تخلفنا الثقافي :
(1) ---فؤاد زكريا: الفلسفة والدين في المتمع العربي المعاصر- في بحوث المؤتر الفلسفي العربي الأول( مصدر سابق ص46



منها عمليات الاقتباس والترجمة التي لا تستند إلى أسس واضحة وثابتة وإنما هي على الأغلب والأعم تتم بمبادرات شخصية تتبع ( الموضة ) وفي مجال الاختيار تستسهل موضوعات تتبناها 00 وهذا واضح في مجال الرواية والقصة والشعر والسينما والمسرح وغيرها لا يستثنى منها الأدب الموجه للأطفال 0 ومنها تسارع دور النشر التجارية وغيرها، مما يفترض أن تكون صمام أمان في وجه المتاجرة بالثقافة إلى ترويج البضاعة السائدة دونما نظر إلى أوليات في عملية الترجمة والاقتباس تفترضها الحاجات الملحة أو الأكثر إلحاحاَ00
4—الفعل الثقافي العربي ما يزال فعلاَ فرديا َإلى حد كبير والمقصود بالفعل الثقافي ذلك الفعل الذي يهدف إلى تحليل البنى الاجتماعية العربية ودراسة أسباب تخلفها وأدوات إنتاج تبعيتها ليتمكن من تلمس أسباب الخروج من وضع التردي إلى الفعل والإسهام في عملية تنموية شاملة 0 حتى الآن يبدو التعاون اللازم بين مؤسسات البحث العلمي العربي ما يزال في أدنى درجات التعاون المأمولة، ناهيك عن تعذر القيام بأبحاث تتناول مفصل هامة من حياتنا الاجتماعية والثقافية بسبب تخوف السلطات الرسمية ( التي إن سمحت إحداها بهذا الفعل أو ذاك إنما هي تريده أن يصب في خانة أهدافها ويخدم خططها الإعلامية ) لإحداث المزيد من الدعاية والتهويش 00 إن مثل هذه الأجواء لا تثمر أبحاثاَ قادرة على الإسهام في العمليات التنويمة كما أن سيادة مثل هذه الأجواء لا تنتج – أصلاَ – مثقفين حقيقيين كما يقول (
( م0 ا0 ماشيوكي ) 0
<< لقد كانت الفاشية غير قادرة على إنتاج طبقة حاكمة سياسية وثقافية تؤمن لها الهيمنة الأيديولوجية 00 وعندما أطيح بموسوليني عام 1943 لم نجد مثقفاَ واحداَ يقرأ أنه كان معه >>0(1)
(1) –غسان سلامة: المثقفون – الفكر العربي المعاصر –ع1 –ص 40





والساحة الثقافية المعاصرة هي ثقافة على الأكثر موجهة إلى نخب معزولة عن الجماهير المتروكة لعفويتها بدون سلاح أمام نظام اتصال عالمي يهدف إلى السيطرة وتفريغ الجماهير من قدراتها التي يمكن أن تؤثر على مسار الحراك الاجتماعي وثقافة الجماهير اليوم تؤسس لها وسائل الاتصال الحديثة ومراكز المعلومات المهيمنة بالسيل المتدفق من أفلام الكارتون والدعايات المتلفزة للسلع والمصنوعات الاستهلاكية ، والأفلام التي تحكي قصص الجاسوسية والخوارق0 أي أن مخرجات هذه الوسائل لا تؤدي في النهاية إلى تكوين اتجاهات سلبية من خلال ما بات يعرف ببرمجة السلوك الذي يجد منطلقاَ له من خلال المدرسة السلوكية في علم النفس حيث ردد ( واطسن) في كتابه ( السلوكية ) قوله:
<< لو وضع تحت تصرفي اثنا عشر ولداَ يتمتعون بصحة جيدة وبنية سليمة، وطلب مني أن أعلمهم بالطريقة التي أعتقد أنها المثلى للتعلم ، فإني قادر بطريقتي هذه بحيث يصبح أي من هؤلاء الأطفال مختصاَ في المجال الذي أختاره له 0 كأن يكون طبيباَ أو محاميا أو فناناَ أو00 بغض النظر عن مواهبه أو ميوله ، أو قدراته أو مهنة أبيه،
أو أي من أسلافه أو الجنس الذي ينتمي إليه>>0 أي أن الرغبة في تغيير سلوك شخص ما أو تعديله ، لا تحتاج سوى تغيير ظروفه البيئية0
فالإنسان كما يقول (***رت سلدز) ابن الظروف : << فلو غيرنا بيئات ثلاثين طفلاَ من أبناء قبيلة ( الهونتنوت) ، وهم شعب يعيش في جنوب أفريقيا ، وثلاثين طفلاَ من أبناء أرستقراطيي إنكلترا ، فيصبح الأرستقراطيون (هونتنوت) من كل النواحي العملية كما سيصير الهونتنوت محافظين صغاراَ>>0
ويعد ( ف 0 ب0 سكنر) أول من تحدث عن تقنية السلوك البشري ، ففي مقدمة كتابه
(ما وراء الحرية والكرامة ) يقول :
<< ما نحتاجه تقنية للسلوك، إذ لا يكفي أن ندعو إلى استخدام التقنية مع تفهم أعمق للقضايا الإنسانية0 فتقنية الفيزياء وعلم الحياة لا صلة لهما بقضايا الإنسان ، مثل انهيار النظم التعليمية ، أو سخط الجيل الصاعد ، وما شابه ذلك >>0(1)
وفي تحديده لأهداف هذه التقنية يقول:
<< إذا ما استطعنا ضبط نمو سكان العلم بالدقة التي تضبط بها مسار سفينة الفضاء أو تحسين الزراعة ، إنه سيصبح ممكناَ حل مشكلاتنا بسرعة ، وأن قيام علم النفس يقتصر على دراسة السلوك الخارجي للكائن الحي ، ذلك السلوك الذي يمكن إخضاعه للملاحظة والمشاهدة والقياس وذلك كفيل به ليكون موضوعياَ محدداَ>>0
ولا ينفصل هذا الاجتهاد الموجه لهندسة الشخصية الإنسانية على المستوى الفردي عن السعي للتأثير في الشخصية القومية 0 وليس غريباَ أن تكون دراسة الشخصية القومية تحظى بالتفكير والاهتمام كما في أبحاث المدرسة السلوكية000
وقد ارتبط مفهوم البناء الأساسي للشخصية باسم ( كارد نر ) الذي يعزى إليه أنه أول من استخدم هذا المفهوم في كتابه( الرد ومجتمعه—نيويورك 1939 )0 وتبني
كارد نر) مع (رالف بنتون) تعريفاَ للشخصية القومية أصبح شائعاَ لدى العديد من المهتمين بهذا الجانب من العلوم الإنسانية ويتلخص ب( البناء الأساسي للشخصية يشير إلى تشكيل الشخصية الذي يشترك فيه غالبية أعضاء المجتمع ، نتيجة للخيرات التي اكتسبوها معاَ>>(2). وأن الثقافات تنتقل داخل المجتمع من جيل إلى آخر0000

(1) – إسماعيل ملحم: هندسة الإنسانية – مجلة العربي العدد 367 ص118
(2) – السيد ياسين: الشخصية العربية – ص 46 - دار التنوير – بيروت 1981.

أما مصطلح الطابع الاجتماعي للشخصية القومية فيرتبط ب(أريك فروم) الذي يعده النواة التي ينهض على أساسها بناء الطابع الذي يترك فيه غالبية الأفراد الذين ينتمون
إلى ثقافة ما 0 وكان ذلك رداَ على نظرية (فرويد) في الطابع أو تعديلاَ لها حيث تتكون من افتراضين الأول الطابع الديناميكي لسمات الطباع على أساس أنها ليست مجرد عادات أو سلوك اكتسب بالتدريب المبكر ويمكن طرحه جانباَ حينما تنشاَ أنماط
جديدة من الثقافة 0 والثانية أن كل الدوافع تجد جذورها في اللبيدو(الرغبة الجنسية )(1)
لا شك في أن ( السلوكية) والدراسات الخاصة بالشخصية القومية قد لاقتا رواجاَ واسعاَ في البلدان الغربية وعلى الأخص في الولايات المتحدة الأمريكية ، وأنها جاءت ملبية للأهداف السياسية فيها في الوقت الذي خرجت فيه ( الولايات المتحدة)
من عزلتها معلنة الطلاق لمبدأ مونرو ( أمريكا للأمريكيين) ، وداخلة في اللعبة الاستعمارية كلاعب رئيسي توجهه الاحتكارات العالمية والسياسات الاقتصادية للشركات الكبرى000
وقد ارتبطت طريقة ( كيسنجر ) في حله للمشكلات التي تهم الولايات المتحدة الأمريكية بعبارة ( الخطوة خطوة) أو ( الخطوات الصغيرة) مستفيدة من أبحاث سكنر في تشكيل السلوك والتي ترى أن التحكم في سلوك شخص أو جماعة أو ضبطه مرتبط بتغير الظروف ، وهذا يتطلب فهماَ دقيقاَ للعلاقة بين السلوك والبيئة)0
وعلى هذا الأساس يؤكد (سكنر) ـأن التعلم والإنتاج لا يكونان بنفخ روح الافتخار والكرامة ، وإنما باكتشاف الخطأ في ظروف المتعلم أو المتدرب0 ويسمي السلوكيين الأنماط السلوكية ، والظروف والطوارئ الاجتماعية التي تولد فيها ( أفكار الثقافة ) أما التدعيمات والتعزيزات التي تظهر فيها هذه الطوارئ والظهور فتسمى( قيم الثقافة)000
(1) – م . س: ص 51.

بعض صور تمهيد الثقافة القومية والاعتداء عليها:
---------------------------------------------------
الخصوصية الحضارية لأمم الأرض قاطبة ( إزاء ما تقدم في الفقرة السابقة) مهددة أكثر من أي وقت مضى من المركز المهيمن الذي يحتضن ويحتكر المعارف والمعلومات0 وليس خافياَ هذا التهديد الذي تعدى الوسائل الناعمة إلى فرض السيطرة بالقوة العسكرية حيناَ وبالمخاتلة السياسية حيناَ آخر 0فسياسة العنف عادت تتبوأ الوسائل المتبعة وأصبحت نمطاَ سائداَ في سلوك مراكز الهيمنة 0 وإنها باتت تستخدم العصا الفولاذية بشكل فج وصريح أحياناَ تحت ستار الشرعية الدولية وأحياناَ باسم حماية حقوق الإنسان ، أو محاربة الإرهاب، أو مخالفة ( القانون الأمريكي )0
وهي بذلك تهدف إلى طمس الهوية القومية للأمم الأخرى أو تشويهها لاندماج العالم في الواحد الثقافي على حساب الخصوصية الثقافية للآخرين0000
وقد يظن أن هذا لم بعد يحدث إلا بعد تهاوي المنظومة الاشتراكية وانفكاكها ثم انحلالها 0 إلا أن الحقيقة ليست كذلك ، فمنذ أعلن (روبوتوم) وهو نائب وزير خارجية أمريكي سابق قائلاَ :
<<أية سياسة ينتجها بلد منتج للنفط مخالفة لمصلحة إحدى الشركات البترولية الأمريكية هي--- أوتوماتيكياَ—مخالفة لمصلحة الولايات المتحدة الأمريكية أي محالفة للمصلحة الوطنية>>(1)0
o إن مصالح الولايات المتحدة إذاَ ممتدة إلى آخر الكون 000 وهي لذلك تتبع أساليب من التهديد متنوعة نذكر منها على سبيل المثال:

1—لا تتورع الإمبريالية الحديثة عن استخدام أشد الوسائل دماراَ من أجل تمرير
مشروعها الثقافي وتأمين السيادة له وتعميمها00
(1) صالح زهر الدين: النفط والكيان الصهيوني – مجلة استراتيجيا 0 ع 102 ص(80)




























عندما ألقى سلاح الطيران الأمريكي القنبلة الذرية على اليابان حاسماَ بذلك الحرب العالمية الثانية لصالحة كأنه في نفس الوقت كان يعلن بأن الولايات المتحدة قد دخلت تاريخ ما بعد الحرب من باب العنف الأشد 0

تتابعت سلسلة الاعتداءات وسياسة العنف :الحرب الكورية ، الحرب الفيتنامية ،غزو غرينادا ، غزو بنما ، الغارة الجوية على ليبيا ، غزو نيكاراغوا ، سلسلة التدخلات المتواصلة على بلدان أمريكا اللاتينية ،الشروط المهنية في التفاوض والتعامل مع دول المنظومة الاشتراكية المؤودة، وما تفرع عنها من دول 00 سلسلة المؤامرات الظاهرة والمستترة على بلدان العالم الثالث 0 المؤامرات على دول عدم الانحياز ( الهند – مصر – الجزائر – إندونيسيا – يوغوسلافيا،00) أساليبها وحربها في الخليج



ماذا كان نصب المشروع الثقافي العربي في سلسلة العدوان الغربي ؟0 تعامل الغرب منذ البداية ربما لا يكون بعيداَ عن الأذهان أن الوطن العربي ما يزال منذ الحروب الصليبية تتناوبه موجات من الغزو المادي والثقافي ولا يزال 00

وليس غريباَ القول أن وحدة العرب السياسية والاقتصادية هي من منظور الغرب أمر

يستحيل السماح بتحقيقة0

عندما أعلن (ايزنهاور) بعد حرب السويس مبدأه المعروف يسد الفراغ بعد انحسار الاستعمار القديم ، ولاقى معارضة عربية عنيفة وشديدة ، لم تخضع الولايات المتحدة

للأمر الواقع ولكنها تمارس سياسة غير علنية للوصول إلى مرحلة يصبح فيها المبدأ

المذكور واقعاَ ملموساَ على الأرض وأظن أن ما آلت إليه الأمور اليوم وبعد أكثر من خمسة وثلاثين عاماَ ليس بعيداَ عن أهداف المبدأ المذكور (مبدأ سد الفراغ الناجم

عن رحيل الاستعمار القديم )0

ربما كان مبدأ ايزنهاور في حينه مجرد اختيار ولكنه فد تفرع عنه ومنه سلسلة غير متناهية من الدراسات والأبحاث والمؤامرات المتلاحقة التي اتخذت شكل العدوان

العسكري حيناَ ، وعمليات التهويش وأساليب من الإعلان متنوعة حيناَ آخر كانت كلها تهدف إلى خلط الأوراق وخلق نوع من عدم الثقة بين القوى الوطنية والقومية العربية إلى استعداء الأنظمة العربية الواحد ضد آخر000

ألم تشهد الساحة العربية تصدع جدار النهوض القومي والناس في كثير من الأحيان في غفلة من أمرهم يندفعون وراء شعارات مزوقة ويصفقون وهم لا يدرون أن ما يرونه ما هو إلا معاول هدم في الجسم العربي؟؟

ولم تكن الحرب المعلنة على العرب حراَ عسكرية واقتصادية فحسب ولكنها في الأساس حرب أخذت طابعاَ ثقافياَ0 كم تعرض مفهوم العربة ومفهوم القومية العربية
وهدف الوحدة إلى التزوير والتزييف والتشكيك 0 فكم سمعنا—مع الأسف من بعض المفكرين العرب صفات يطلقونها على الفكرة القومية والعمل القومي من شوفينية وتخلف وغير ذلك000
2—ومن باب التوضيح نشير فيما يلي إلى بعض الوقائع والوثائق التاريخية التي تؤكد كلها أن الرب مستهدفون في وحدتهم وفي شخصيتهم القومية وثقافتهم:
--- ما يزال الغرب محكوما بعقدة الخوف من نهوض العرب0 فهذا (نيتشة) يدل على هذه العقدة عندما يقول عن العرب:<<إن موجة من البربرية تقرع أبوابنا>>0(1)

(1) – أمانويل مانيه: في سلسلة محاضرات اليونسكو - منشورة في عدد خاص من المعلم العربي – ترجمها سامي الدروبي دمشق 1955.






n تشكيل ما يسمى بقوات التدخل السريع، والسعي المستمر للبحث عن قواعد عسكرية في المنطقة العربية،مبدأ كارتر المعروف بأمن الخليج ، وإعلان ريغان عن ضرورة إقامة قواعد عسكرية في الدول النفطية0
n جاء في تقرير لمبعوث مترنيخ إلى مصر عام 1833 :
n لا مفر من إقامة إمبراطورية عربية ، انبعاث الروح القومية العربية هي أول ما يلاحظه المراقب0
n في ذات الفترة ربط وزير خارجية بريطانيا بين الخوف من وحدة مصر وسورية أيام محمد علي وبين دعوته للصهيونية بهدف إعاقة هذه الوحدة0
n وفي تقرير للجنة الجامعة التي شكلتها حكومة ( تيرمان) عام 1907 من جامعتي لندن وباريس من الاختصاصيين في تاريخ الإمبراطورية ، جاء فيه أن مستقبل الإمبراطوريتين الفرنسية والإنكليزية مهدد في المنطقة المطلة على المتوسط من شرقه وجنوبه حيث يقطنها 35 مليوناَ من البشر ، وتتمتع بثروات طبيعية وبأسباب القوة والنهضة والوحدة00(1)
n وفي تقرير سري رفعه لورنس للمخابرات البريطانية في شهر كانون الثاني
n فبراير) 1912 0 جاء ما يلي :
n أهدافنا الرئيسية تفتيت الوحدة الإسلامية ودحر الإمبراطورية العثمانية وتدميرها0 إذا عرفنا كيف نعامل العرب وهم الأقل وعياَ للاستقرار من الأتراك فسيبقون في دوامة من الفوضى السياسية داخل دويلات صغيرة حاقدة ومتناثرة غير قابلة للتماسك :
n وكتب لورانس أيضَا إلى صديقته يقول
n وخاطرت لإيماني أن وقوف العرب إلى جانبنا هو عامل حيوي لتحقيق أملنا بانتصار سريع بخس الثمن في الشرق والأفضل لنا أن ننتصر وننكث بوعودنا من أن ننكسر(2).


(1) – راجع: جوزيف حجر- أوربا ومصير المشرق العربي – بيروت 1976.
(2) – زهدي فاتح: لورانس على خطى هرتزل – دار النفائس بيروت 1971.




وعن لورانس أيضا :
n إذا احسنا التصرف تجاه هذه البلاد فإنها سوف تبق كقطع الحجارة الملونة الصغيرة مجموعه من الأقاليم الصغيرة المتنافسة والعجزة عن التلاحم(1).
n في مؤتمر ( كامبل ترومان ) سنة 1907 والذي تضمن خبراء الاقتصاد والجغرافية والشؤون العسكرية من مختلف الدول الاستعمارية
n أوصى المؤتمر بما يلي :
n 1- من يسيطر على البحر المتوسط الشرقي يستطيع التحكم بالعالم
n 2-ضرورة أقامه حاجز بشري غريب وقوي يفصل الجزء الآسيوي عن الجزء الأفريقي في المنطقة العربية حليف للدول العربية ومعاد لسكان المنطقة (2) 0
n من كل ما سبق وبإضافة ظهور الثورة النفطية الهائلة في الوطن العربي نصل إلى نتيجة مفادها إن إمكانيات المنطقة العربية الهائلة كانت أحد أهم أسباب ما نالته وستناله هذه المنطقة من حملات شرسة مادية ومعنوية تستهدف الشخصية العربية أولاَ بتوجيه الطعنات المتعاظمة إلى مرتكزاتهاالثقافية ، فمحنة النهضة العربية المعاصرة تكمن في كونها << النهضة التي كان مقدراَ لها أن تكون الأغنى والأقوى في العالم لو لم تكن المغدورة بفعل غناها ذاته الذي التهم جنين مشروعها الثقافي وانقلب إلى وحش استهلاكي رهيب لكل ما ينتجه ويبنيه>>0(3).

(1)- محمود الحمصي:خطط التنمية العربية –مركز دراسات الوحدة العربية بيروت1980.
(2)صالح زهر الدين( مصدر سبق ذكرة) ص 9.
(3) - مطاع صفدي: في الفكر المعاصر – ع 17 – ص 11 .



n
الغزو الثقافي : لم يكتف الاستعمار سواء من خلال مركزه الأوربي سابقاَ ومن خلال مركزه الأقوى لاحقاَ في القارة الجديدة بإشهار أسلحته العسكرية والتهديد من خلال ترسانته المتفوقة تكنولوجيا0 ولكنه يغزو العالم الآخر < وقد يدخل – بل يدخل في عداد الآخر هنا دول ما سمي بالعالم الثالث ودول أوربا بشقيها الغربي والشرقي > بثقافته الأكثر شراسة وتدميراَ للشخصية الإنسانية من أسلحته ، وذلك بتعميم هذه الثقافة والسيطرة على العقول والنفوس بوساطة إدارة المعلومات وتوجيهها 0
وليس بخاف على أحد الاختلال الكبير في نظام الاتصال العالمي الذي يبرز كسلاح في يد الولايات المتحدة، يخدم استراتيجية الهيمنة العسكرية والاقتصادية :
<< المفارقات في الإعلام والاتصال تؤثر سلباَ في حرية المعلومات وتدفقها وفي الرؤية الموضوعية الدقيقة للحقائق والمشكلات ، وفي توظيف المعلومات لخدمة أغراض التنمية وتعزيز الذاتية الثقافية للشعوب والأمم الفقيرة 0 هذا النظام الدولي للإعلام والاتصال تحكمه اعتبارات دولية سياسية واقتصادية واجتماعية وحضارية تجعله وجهاَ آخر للنظام الاقتصادي الدولي القائم>>(1)0
ثقافة بلاد ( العم سام ) غدت نمطاَ عالمياَ في الثقافة ليس في مجال المعلومات والمعارف فحسب بل في نمط الحياة 0 الكوكاكولا،الهمبرغر الجينز ، الكاوبوي ميكي ماوس الرجل المطاطي إلى آخر القائمة التي تتصدر برامج الأطفال ، وواجهات المطاعم ومحلات بيع الألبسة 0 هذه الظواهر الغالبة على الثقافة الأمريكية باتت مصدر تخوف حتى لحلفاء أمريكا الأوربيين00
(1) – محمد أحمد الغنام: من أجل تربية أفضل – التربية الجديدة – ع 25 – ص9





ويفضل سطوة وسائل الاتصال وانتشار الأقمار الصناعية يجد المرء نفسه غير قادر على مقاومة الإغراءات التي تحملها من برامج وإعلانات استهلاكية طيلة الأربعة وعشرين ساعة يوميا"
فها هو ( ميكي وزملاؤه من شخصيات الأفلام الكرتونية وغيرها من مخترعات والت ديزني ) يصبحون افضل رفاق لأطفالنا00
هذا الخطر الذي يهدد الثقافة القومية ويمعن في الاعتداء عليها غدا هاجس الناس في قارات العالم الخمس 0 وهذه هي أوروبا لا تستطيع إخفاء هلعها من ذلك 00 فالناس بعد افتتاح مدينة (ديزني ) في فرنسا انقسموا بين مؤيدين ومعارضين 0 وقبل ذلك في عام 1985 نشرت مجلة ( لو بوان) الفرنسية مقالاَ بعنوان ( كيف نقاوم أمريكا) عبرت من خلاله عن القلق الذي يشغل بال المثقفين الفرنسيين:
<< بالنبيذ والشره والموضة تغزو أوروبا أمريكا؟ و بخطى محسوبة أمريكا الأقمار الصناعية الاتصالات تغرق أوروبا(000) وحين اجتمع وزراء الثقافة في الدول الأوربية في دلف، والكونسير الغنائي الذي نقل بالأقمار من هناك يوم 23 حزيران ( يونيه) كانت نجمته هي نجمة الروك بروس سيرغستين000وعلى عشب ملعب ريختر كان ثمة 30 ألف شاب بالجنز والقمصان الموشحة بأسماء جامعاتهم0 وعند أقدامهم آلاف علب الكوكا الفارغة ، وعلى المسرح فرقة E ستريت ترطن بالإنكليزية بشعار يؤذي كل قارتنا : ولد في الولايات المتحدة>>(1)0
وفي مجال آخر يتجلى الغزو الثقافي في منتجات ثقافية تتلق بأدوات التسلية وألعاب الأطفال فهذه شأنها شأن الأفلام والبرامج المتلفزة والمصدرة لأجهزة ( الفيديو ) ففيها تعميم لقيم يتشربها الناس في أثناء اللعب وملء أوقات الفراغ << منكرة طيلة الوقت وجود أي تأئير فيها وراء الهروب المؤقت من الواقع وحالة الاسترخاء المنتشية>>، كما يقول ( هر برت شيللر) في كتابه عقول المستقبل)0
هذه الصورة لثقافة تسعى بخطى حثيثة للسيطرة والهيمنة وتعميم نموذجها الوحيد على العالم ، هي من ضمن الخطر الأكبر لنظام عالمي جديد لا يحترم حقوق الآخرين وشخصياتهم، بل يسعى جاهدا لطمس كل هوية ثقافية 00 وليس الخطر كامناَ فيه فحسب ، بل إن الخطر الأعظم يكمن في حالة التواكل التي يستسلم لها الآخرون ، الذين استمرءوا الوصفات الجاهزة والأفكار الجاهزة والمأكولات المعلبة 00 وما يرتبط بذلك ويرافقه من ضعف في الإنتاجية له هو الآخر مسبباته 00 ولكن لكل داء دواء؟0
(1) – وردت هذه المقتطفات في ( الثقافة العالمية ) – العدد 25 – من خلال رسالة باريس التي كتبها الدكتور عبد الله عبد الدايم.




الإنتاجية في الوطن العربي

مفهوم الإنتاجية:


يقصد ب( الإنتاج) لغوياَ ، ما تصنعه الأمة من ثروات وما تستخرجه من باطن الأرض أما المقصود ب( الإنتاجية) فهو تلك الفاعلية في استثمار الموارد واستخدامها0 أما مستوى الإنتاجية فيحدد على أساس من معيار كفاءة الفاعلية0 ولكن هذا لا يعني أن اتفاقاَ على تحديد مفهوم الإنتاجية حاصل لدى الباحثين لهذا المفهوم ، وهم كثر وينتمون إلى اختصاصات مختلفة ، وداخل الاختصاص الواحد توجد أبحاثهم أيديولوجيات متعارضة0 إلا أننا قد نجد مرتكزات لهذا المفهوم لدى مختلف المهتمين به تتعلق بأهمية ارتفاع معدلات الزيادة في الإنتاج ،وخفض التكاليف ، وتقليص الهدر في الموارد وفي الجهد البشري إلى أدنى حد ممكن0 وفي مجال الجهد البشري يشار دوماَ إلى عدد من العوامل الهامة ذات العلاقة بدوافع العاملين والمديرين ، والكفاية في التصرف والإشراف00000
أما الخلاف في تحديد هذا المفهوم فقد يعود إلى ما ينطوي عليه من عناصر اقتصادية وإلى طريقة التعبير الكمي عن هذه العتاصر0
يؤكد الاقتصاديون ذوو النزعة الرأسمالية على تعريف الإنتاجية من خلال العلاقة بين مدخلات النشاط الاقتصادي ومخرجاته، ويستخرجون الإنتاجية بوساطة عملية
حسابية تهدف إلى تعريفها بقياس مدى كفاية الوحدة الاقتصادية بالنسبة التالية:
المخرجات

( العمل + المواد + رأس المال

:بحيث تشكل عناصر مقام الكسر معاَ مدخلات النشاط الاقتصادي ويلجئون من ناحية ثانية إلى تعريف الإنتاجية كونها ( الإنتاجية الكلية للعمل ) التي هي بين الإنتاج والعمل الكلي المستخدم فيه وفق القاعدة التالية :
الإنتاجية الكلية للعمل = القيمة النقدية للأرباح ( السعر × الإنتاج)
---------------------------------------
الأجر القياسي للعامل في الساعة
ويميز آخرون بين الإنتاجية الكلية للعمل الذي تمثله علاقة كمية الإنتاج بالعمل الإنساني المبذول فيه ، وبين إنتاجية العمل الذي تمثله كمية الإنتاج والعمل الكلي المبذول ( آي العمل الإنساني مضافا إليه العمل الذي يوجد في المعدات والآلات والمواد الخام)0
إلا أن مفهوم الإنتاجية في كلتا الحالتين لا يبعد عن أهمية العنصر البشري ودوره في رفع المستوى الفني للإنتاج وفي البحث عن أسباب وأساليب تضمن رفع تنظيم العمل وفي تحسين الأداء الوظيفي للفرد حينما كان موقعه في العمل الإنتاجي00
وموضوع الإنتاجية في عصرنا هذا مدار اهتمام الاقتصاديين وعلماء الاجتماع ، علم النفس ، والسياسيين 0 ويعود ذلك ، بصورة خاصة ، إلى تلك الصورة القاتمة التي تثير مكامن الخوف والقلق والعالم يودع قرناَ من عمر الحياة على الأرض ويستعد لاستقبال قرن جديد وتتلخص هذه الصورة ب:
<< الفوارق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والقومية والجنسية ، التي لم تعد محتملة حتى وإن لم يزد خطرها 0 مئات الملايين من البشر يعيشون تحت تهديد المجاعة المباشرة ، وملايين أخرى يخضعون للعذاب الجسدي والفكري وهم أشد بؤساَ من الآخرين 000 إننا مطالبون ليس فقط بإعادة قلب قوى الإنتاج والعلاقات الإنتاجية والاجتماعية، بل بإعادة قلب علاقاتنا مع النوع ، ومع المنظومة البيئية بأكملها>>(1)0
ونظرا لدور العنصر البشري في الإنتاجية وأهميته يجدر بنا أن نلجأ إلى تحديد مفهوم الشخصية المنتجة0
مفهوم الشخصية المنتجة:


الشخصية في اللغة ، صفات تميز الشخص من غيره 0 والمنتجة قد لا تكون هكذا لغوياَ وإنما الأصح المنتاجة أي الكثيرة الإنتاج 00
وفي كتب علم النفس تعريفات للشخصية تختلف عن بعضها درجات متقاربة، نأخذ منها التعريف الوارد في قاموس علم النفس وهو:
<<الشخصية هي تنظيم متكامل ودينامي للخصائص الجسيمة والخصائص العقلية المعرفية والخصائص المعنوية والخصائص الانفعالية والاجتماعية، ويتضح هذا التنظيم في تفاعل الفرد مع الأشخاص الآخرين وفي الحياة الاجتماعية المبنية على الأخذ والعطاء>>.
وحسب هذا التعريف فإن الشخصية تتجاوز المظاهر الخارجية للسلوك البشري لتشمل جماع صفات الفرد وأفكاره واستجاباته الداخلية.
وتبعاَ لهذا التعريف فإن للشخصية صفات تميزها ولكنها ليست ثابتة ساكنة وإنما هي حركة وتغير مستمرين وإن بدت من خلالها هوية الشخص على أنها استمرار الماضي في الحاضر وفي نظر الآخرين أيضاَ. إلا أن هذا الثبات كما رأينا ما هو إلا الإثبات نسبي. ويبدو بوضوح أن تغير الشخصية يبدأ منذ السنوات الأولى لحياة الفرد إلا أن سرعة هذه الحركة تختلف في مراحله من مراحل النمو عن غيرها لكنها لا تتوقف. وإن الحركة والتغير مرتبطان بعوامل كثيرة منها ما يتعلق بحوادث النمو ومنها ما له علاقة بالمحيط. ولكن هذه الحركة والتغير لا تعني استبدال شخصية بأخرى وإنما هي لصيقة بالثبات النسبي للشخصية ولا تتعارض معه. يولد الإنسان مزوداَ بقدرات واستعدادات كامنة قابلة للنمو والتشكل ولكن العوامل الحاسمة في ذلك إنما تعود إلى جملة الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي يوجد منها ويتفاعل معها. وحينما تكون المقارنة بين محتوى الحضارة ومحتوى الشخصية تبدو العلاقة بينهما على أوضح ما يكون إذ أن سلوك الفرد واستجاباته إزاء المؤثرات المختلفة يكاد يكون معادلا لنمط الحضارة التي ينتمي إليها من
(1) – جاك روبان: من التنمية الاجتماعية إلى النمو البشري – ترجمة شحاذة الحوشان ص 122 0 وزارة الثقافة دمشق - - 1977.



حيث الخصائص والعلاقات بشكل متكامل . مما يدعونا للتعبير عن ذلك بأن الشخصية بصورة ما تفصح عن ثقافة معينة وبصور تتعدد بتعدد الأفراد الذين ينتمون لهذه الثقافة.

وإضافة إلى خاصتي الثبات النسبي ( الهوية) والتغير في الشخصية فإن ثمة خاصة أخرى ندعوها ( وحدة الشخصية). فعلى الرغم من تجلي الشخصية بصور تختلف إحداها عن الأخرى قليلا أو كثيرا سواء من حيث المظهر الذاتي ام من حيث المظهر الموضوعي الا انها تظل بنية تنظيمها الداخلي وتتمثل ابرز معالمها في النظرة الى العالم والتعرض له والانضواء فيه. وتتمثل هذه الوحدة في ( وحدة الأنا – العالم) وهي في وحدتها هذه تنطوي على جانب اساسي يتمثل في الوعي الذي يرشد سلوكها.

والشخصية في تفاعلها القائم بينها وبين البيئة تنتظم ككل في اسلوب يشكل ما يمكن ان ندعوه (اتجاه الشخص). هذاالاتجاه يتصف بنوع من الثبات يصعب تبديله تبديلا كاملا.وهو الذي يحدد النمط الذي يتخذه السلوك ويعطيه طابعا مميزا.
. من هنا كان لجوء مدارس علم النفس الى تصنيف الناس في انماط يتميز كل منها بطابع او سمات معينة يقربنا هذا من خلع سمة على الشخصية تتعلق بالإنتاجية بحيث نصنف بعضها في خانة الشخصية المنتجة ، أي الشخصية القادرة على الإنتاج بأوسع معانية لا الاقتصار على الإنتاج المادي فحسب. فالشخصية المنتجة –بحسب
اريك فروم – تتميز بالمقدرة على استخدام قواها العقلية والجسمية وتحقيق امكاناتها الكامنة فيها . ويتصف صاحبها بانه ذو تفكير مستقل يحترم رفاقه ونفسه لا يعاني الكبت او القلق ويستطيع ان يحقق ذاته ويستمتع بحياته.(1)

مظاهر ضعف الإنتاجية العربية وتجلياتها:


تعاني بلدان ما يسمى بالعالم الثالث ومنها بطبيعة الحال بلدان الوطن العربي من تدني مستوى الإنتاجية على الرغم من أن بعض هذه البلدان – العربية – لا تعاني من الموارد والإمكانات، فكل الدراسات والأبحاث والإحصاءات تؤكد على توافر الإمكانات وعلى أن قدرة العرب في مجاراة العصر والإسهام في بناء الحضارة المعاصرة ممكنة، وأسباب ذلك متوافرة سواء من حيث امتلاك الأرض والمال او من حيث وجود جحافل من اليد الماهرة الخبيرة واليد القادرة على العمل في الزراعة والصناعة، لكن الملاحظ والثابت غير ذلك:

1 – رغما عن وجود الموارد فإنها لا تستغل بصورة ملائمة لأنها تعاني من سوء الاستخدام بل ويعاني بعضها من عدم الاستخدام أساسا.

2 – الظلم الاجتماعي يعرقل الجهود التي تهدف إلى تحسين الزراعة بصورة خاصة، ويؤدي إلى إنتاجية منخفضة من جانب المزارعين الصغار إما الملاك الكبار والمتنفذون فيحتكرون الانتفاع بخدمات الدولة في الإرشاد الزراعي والقروض.
(1) سيد عبد الحميد مرسي: إطار نظري لدراسة الشخصية – الفكر المعاصر – العدد 71 – يناير 1971.



3 – يتجه الإنتاج نحو المحاصيل الترفيه وإهمال المحاصيل الزراعية الضرورية. والاتجاه نحو إنتاج ما هو قابل للتصدير . ( فبينما كانت مالي تتعرض للجفاف زيدت المساحة المزروعة بمحصولي التصدير لديها وهما الفول السوداني والقطن بحوالي 50% وبما يزيد على 100% على الترتيب في الفترة ما بين
1965 – 1972 .(1) وتقوم الشركات الأوربية باستيراد طعام الفقراء من الدول الفقيرة ( الذرة الصفراء ، فول الصويا ، المنيهوت) لتسمين الماشية باعتبار هذه المحاصيل علفا رخيصا.(2)

4 – تدني الكفاية في إدارة عمليات التنمية وتنفيذها فبلدان العالم المتخلف تواجه منذ بدايات استقلالها مهما اقتصادية واجتماعية كبيرة جدا. ويطرح عاى هذه البلدان مهمة الانتقال من حالة التخلف والتبعية الى حالة التحرر والكفاية الإنتاجية وهذا يتطلب منها تطوير القاعدة الإنتاجية وتحسين كفاية الكوادر البشرية من إداريين وعمال وخبراء ، وتجاوز القيم التي ارتبطت تاريخيا بحالة التخلف القديم والتردي المزمن. ولم يكن أمام هذه البلدان سوى أن تنيط بالدولة مهمة القيام بالدور القائد أو المهيمن على مختلف الأنشطة الاقتصادية

(1) – فرنسيس مورلايه : صناعة الجوع – ترجمة أحمد حسان – ص 22 – عالم المعرفة الكويت 1983.
(2) – المنيهوت: نبات استوائي تستخدم جذوره الدرنية في استخراج النشاء والدقيق وهو طعام شعبي.


والاجتماعية لدفع عجلة التنمية مع ما في ذلك من مخاطرة ومكابرة حيث أن التعرض صارخ بين عظم المهام الملقاة على كاهل النسق السياسي في هذه البلدان وضالة القدرات المتوافرة . فيناط بالدولة في معظم البلدان المتخلفة ومنها بلدان الوطن العربي، إضافة لما هو مناط بالدولة التقليدية من تقديم الخدمات الاجتماعية مثل التعليم ومحو الأمية وإقامة المرافق العامة وإدارتها من نقل ومواصلات ورعاية صحية –إقامة المصانع والمنشآت وتمويل الزراعة إلى جانب دورها في صياغة العقائد السياسية والترويج لها ,وإقامة دولة حديثة تتجاوز ما هو سائد من نظم عشائرية وقبلية ورواسب إقليمية وطائفية (1).
ويجد هذا النسق السياسي المتنطع لحمل هذه الأعباء نفسه أمام أفكار تنموية يغري الباحثين في الترويج لهل ,ويسوغها على أنها نوع من البديهيان والمقصود بذلك ما يتصف به هذا النسق من تمركز السلطات والاستبداد وعمله على سيادة ثقافة تتصف بالخنوع والطابع العائلي للنظام السياسي, وطغيان الانفعال والعنف في معالجة المشكلات الطارئة ، مقابل النظم السياسية المتقدمة حيث السيادة للقانون ودولة المؤسسات وثقافة المشاركة والاحتكام لمقتضيات التفكير الوقائعي ونهاية عصر الأيديولوجيات.(2)


(1) –فايزبكتاش:مفهوم التخلف السياسي في دول العالم الثالث – ص 47 – مجلة العلوم الاجتماعية – العدد 7 – 1979
(2) - - نفسه : ص 48 .






5 – افتقار البرجوازية الطفيلية للحد الأدنى من المستويات الخلقية, فحيث انه لم تتبلور في المجتمعات المتخلفة البنى الطبقية تبدو البورجوازية الناشئة ذات طبيعة خاصة بسبب من تطفلها على جسد التنمية وبسبب من ظروف تشكيلها مما أدى إلى عدم امتلاكها للحد الأدنى من الأخلاق الذي لا بد منه في النهوض بالعملية التنموية مما أدى إلى ضعف الإنتاجية، ذلك أن هذه الطبقة النهمة للثروة والسلطة لا تعرف الشبع ولا تمتلك بعد النظر المطلوب على المستوى الاجتماعي ، فهي تطوع العام باستمرار لخدمة مصالحها الضيقة والآنية . وتتصف هذه الطبقة الهشة بسرعة قابليتها للفساد والإفساد . وسرعان ما تتحول هذه البورجوازية إلى بورجوازية دولة مبتعدة عن الواقع الثوري الذي تدعيه في بدايات تسلقها وتسللها وييسر لها هذا التمادي في إخفاء العيوب والتستر على الأخطاء والهروب من الاعتراف بها تحت غبار إعلامي تثيره على شكل زوابع مزوقة بشعارات التقدم والتصدي والصمود أمام الهجمة الإمبريالية ..هذا النمط السلوكي – مع الأسف – يتفشى حتى يصبح هو السائد عند الحكام والمحكومين وعند المثقفين وغيرهم..

وكثيرا ما يلجأ هذا النسق عند اكتشاف عوراته – وما أكثرها – إلى رد النتائج إلى أسباب خارجية متنصلا من المسؤولية. وباختصار فإن أهم ما يميز هكذا تفكير متخلف أنه يتصف بما ينطوي عليه نمط التفكير ( المانيلوفي) من أحلام ضخمة وفعالية منعدمة .(1)
(1) – المانيلوفية نسبة إلى شخصيات رواية( الأرواح الميتة ) ل (غوغول)




6—نزيف الأدمغة أو ما يعرف بهجرة العقول : سيل الهجرة من الدول النامية بعامة والدول العربية بخاصة إلى الدول المتقدمة صناعياَ وتكنولوجياَ بشك أحد مظاهر الخلل الديمغرافي في العالم ، هذا من حيث الكم أما من حيث الكيف فإن النسبة التي تكاد تصل إلى 100% من هؤلاء المهاجرين فهم من جيل الشباب الذين يفقرون بلدانهم من قوة العمل اللازمة لعمليات التنمية المختلفة وبين هؤلاء
ترتفع نسبة أصحاب الكفاءات العلمية ومعظم هؤلاء من الأطباء والمهندسين والمختصين بالعلوم الطبيعية ومن ذوي المهن الطبية والاختصاصات بالعلوم الإنسانية . ومعظمهم يهاجر إلى الولايات المتحدة أولاَ فكندا فالبلدان الأوربية..

وفي إحدى الإحصائيات عن مساهمة الدول النامية من أطباء كل من الولايات المتحدة وكندا يذكر أن هذه المساهمة تمثلت ب 58% من الأطباء و 42% من العلماء والمندسين (1). وما يزال سيل الهجرة مستمراَ وإذا حاولنا تحري أسباب ذلك فإننا واجدوه في :

1- العوامل الاقتصادية المتردية للبلدان العربية.
2- عوامل علمية تتعلق باعتماد البلدان العربية أساليب تعليمية قديمة لا تساعد عل ى الاستفادة من الطاقات الشابة والكفاءات العلمية.
3- معاناة المثقفين بعامة وأصحاب الكفاءات المتخصصة بخاصة من سوء التقدير لمواهبهم وقدراتهم وافتقار بلدانهم للأجهزة والمخابر والمعامل ومراكز الأبحاث التي يستطيعون بوساطتها إبراز قدراتهم وتنميتها وتطويرها.
(1) –فرج عبد القادر : علم النفس في خدمة العامل والإنتاج. الفكر المعاصر – ع 61 – ص 35 – مارس 1970.



4- عدم احترام الكفاءات المتوسطة وعدم إعطائها حقها في مجال الحياة الاجتماعية فيشعر المثقف أو المختص أنه غريب في بلده.
5- ضعف الطلب في معظم بلدان الوطن العربي –إن لم يكن نقل كلها – على نتائج البحوث. بينما نجد أن بعض مراكز الأبحاث وأجهزتها تجد ضالتها في استجابة الطلب الخارجي لها.
على سبيل المثال << تعاقدت بعض الجامعات والمؤسسات الأمريكية مع الأجهزة العلمية المصرية على 253 مشروعا بحثيا بخلاف (7) مشروعات بحثية تعاقدت عليها وزارة الزراعة مع الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية خصص لها 93 مليون جنيه خلال سنوات أربع كما ورد في محضر اجتماع شعبة البحث العلمي 16/9/1979 .

6- هناك هجرة داخل الوطن العربي من البلدان غير النفطية إلى بلدان النفط مما أدى إلى خلل في توزيع الكفاءات داخل الوطن العربي من جهة ,وإلى عدم الاستفادة المطلوبة من هذه الكفاءات في البلدان الجاذبة في اختصاصاتها إلا فيما نذر . وقد أدى ذلك إلى نتيجتين سلبيتين:
النتيجة الأولى :خلل و عدم استقرار في وضع هذه التي تتطلع باستمرار للفرصة المواتية للهجرة إلى بلدان الجذب


(1)- مجلة قضايا عربية ( م.س ) حاشية الصفحة 248.---------


النتيجة الثانية : عدم احترام هذه الكفاءات في بلدان الجذب ومعاملتها كأنها كفاءات ثانوية إزاء استخدام العمالة الوافدة من البلدان المتقدمة
7- إهمال الإنسان وتحية دوره من هدف التنمية إلى أداة من أدوات العملية الاقتصادية ففي تقرير التنمية العالمي الذي وزعه برنامج الأمم المتحدة للتنمية تحت عنوان ( تقرير التنمية البشرية السابع ) لعام 1996 ثمة ملاحظات هامة تشير إلى أن الفوارق الاقتصادية بين الدول الصناعية و النامية تنتقل من حالة اللامساواة إلى الحالة الإنسانية (1)
وثمة معلومات في ذلك التقرير تش إلى آن العمر المتوسط في الوطن العربي قد ارتفع من 45 إلى 65 سنة لكن نصف سكانة ما زالو محرومين من الماء النقي ومع تضاعف معدل تعليم الراشدين هناك ستون مليونا من الأميين ومع أن النمو الزراعي بلغ 5% إلا أن 73 مليونا لا يزالون تحت حد الفقر وعشرة ملايين لا يحصلون على القوت الضروري, ومع كل الخدمات الصحية فإن معدل وفيات مت هم دون الخامسة أكبر بأربع مرات من البلدان الصناعية .

8 – غياب التعاون العربي والتكامل في المجال التنموي :نمو النزعة القطرية رسوخ الدولة القطرية غيب كل مشاريع التكامل والوحدة في المجال الاقتصادي فرغما عن كل الاتفاقات والمعاهدات حول إقامة تكامل اقتصادي أو اتحاد اقتصادي أو سوق عربية مشتركة فإن تنفيذ ذلك يكاد لا يذكر في عصر يتجه فيه الاقتصاد العالمي نحو قيام التكتلات الإقليمية الواسعة


(!)الكفاح العربي 939 – 29/7/1996- صفحة-32.


وليس خافيا ما يشكل ذلك من خطر على مستقبل الوطن العربي من زيادة التشرذم ومن مخاطر الوقوع في شرك السياسات الدولية الرامية
إلى تزيف وتزوير كل مفاهيم الوحدة والعروبة.... وأقرب مثال على هذه الأخطار المحدقة مشروع الرق أوسطية الذي يريد منه أصحابه وحوار يوه أن يكون بديلاَ عن كل المشاريع الوحدوية الأخرى.

الإنتاجية وخيرات العلم والتصنيع:


التزمت الأقطار العربية في مرحلة ما بعد الاستقلال—شأنها في ذلك شأن معظم البلدان التي تحررت بعد الحرب العالمية الثانية من الاستعمار- بخيار العلم والتصنيع. واتخذت هذا الالتزام شكل إفساح المجال أمام الناشئة في الوطن العربي للولوج إلى صفوف الدراسة في المدارس التي أخذت بالانتشار في الأحياء المدينية والأرياف وفي مضارب البدو. لكن ذلك لم ينطلق من سياسات واحدة أو ذات توجهات متشابهة , فإذ تبنت بعض هذه الأقطار مجانية التعليم وإلزاميته في وقت
مبكر فإن بلداناَ أخرى تأخرت في تبني ذلك.
واتخذت القرارات سواء على المستوى القومي من خلال المنظمات والمجالس العربية في نطاق جامعة الدول العربية للتخلص من الأمية ورفع سن الالتزام وتبني التعليم الأساسي من خلال مفهومي( التربية والصفة الاجتماعية).
وقد تبنت استراتيجية تطوير التربية في البلاد العربية وأكدت على تطوير محتوى التربية المدرسية وطرقها عن طريق ( تزييف المدارس التقليدية)
على أن يكون ذلك جزءاَ متكاملاَ في التنمية الريفية الشاملة التي ترتكز على الشمول والتكامل في المشروعات, وتنظيم التربية على أساس مرحلي يوفق
بين جوانب الاستثمار في التربية وجوانب الاستهلاك والاعتماد في التنمية على أبناء الريف ودور التعليم الأساسي فيها.
وعلى الغم من حماسة وزارات التربية في الأقطار العربية لما جاء في استراتيجية تطوير التربية العربية حول رفع سن الإلزام ( عام 1979)إلا أن سن الإلزام لا زال مختلفا بين دولة وأخرى إضافة إلى أن بعض الدول العربية لم تلزم نفسها بتحديد ذلك(!).
وإذ يتأكد يومياَ أن لا تقدم لأمة من الأمم وما من ثقافة تدوم بدون العلم تبرز أهمية البحث والتطوير العلمي. ويطهر في هذه المجال القصور واضحاَ على مستوى الأقطار العربية إذ أن ما يخصص من إجمالي إنتاجها السنوي للبحث والتطوير من 3,. %إلى 9,. % وهذا يعادل 1000 مليون دولار في السنة أي بمعدل 4 دولارات للفرد الواحد وأن منظمات البحث العربية تربو على 700 منظمة توظف حوالي (30) ألف عالم ومهندس للبحث توظيفاَ كاملاَ وبالمقارنة مع بلدان أخرى
نجد أن مستوى التمويل العربي في هذا المجال منخفض بمقاييس العالم الثالث أذ أن الأقطار المتقدمة فيه تخصص 1% من مجمل دخلها القومي لذلك. وهو شديد الانخفاض بالنسبة للبلدان الصناعية. وإن منجزات البحث والتطوير في الأقطار العربية تكاد تكون ذات طبيعة تطبيقية حصراَ
وتبدو الصورة إذا عرفنا أن حصة العلوم الاجتماعية في أقل من 10% .
إضافة إلى أنه ( ليست السلامة والتلوث والرفاه البشري والصحة من مظاهر اهتمام الحكومات المحلية أو المركزية في الوطن العربي. هذا الحقل الذي يحتاج إلى عناية متزايدة , لأن التقانة في أيد مهملة سلاح خطير)(1).

وإذ يشهد العالم ثورات متزامنة في مجال الحاسوب وتقنيات الاتصال والإلكترونيات
الدقيقة فإن الوطن العربي في وضع لا يحسد عليه, حيث أن استخدام الحاسب لازال قاصراَ فحتى الآن لا يرف الحاصل على الشهادة الثانوية عنه إلا اسمه الأجنبي . وفي مجال البرمجة والمعلومات لا نجد لنا مكاناَ على طاولة محتكري المعلومات التي يصدرونها بالطريقة التي تخدم مصالحهم. فأجهزة الحاسب , والتلفاز, آلة الهاتف الحديثة , الراديو , التلكس , تكاد تكون حكراَ كاملاَ على الولايات المتحدة واليابان وفرنسا وهولندا وبريطانيا وألمانيا. وفي مجال الإنتاج الإلكتروني العلمي لأجهزة الاتصال تسيطر على 75 % منها شركات أمريكية ,
حيث أن الدخل الإجمالي لشركة الاتصالات الأمريكية ( AT&T )عام 1977 بلع 26 بليون دولار أي أكثر من الدخل الوطني لمائة وثماني عشرة دولة من دول الأمم المتحدة.
وفي مجال الإلكترونيات الدقيقة فإن هذه التقنية التي دخلت حياتنا من خلال الغسالة والراديو والتلفاز فما زلنا نعاني قصوراَ واضحاَ في معرفتها ودورها في التخفيف من حجم الآلة الكبيرة من التلوث.
وهكذا يبدو لدينا عجز في قدرتنا على دمج العلم دمجاَ عضوياَ في كياننا القومي .
لأنه مهما اصطنع الاقتباس لنفسه من وسائل ( لن يتحقق دون وجود هياكل علمية وإنتاجية راسخة لدى المقتبس تتيح له فرصة حقيقية للاستفادة منه (2).وليس ذلك فحسب , فقد درجت البلدان العربية على استيراد تكنولوجية جاهزة لا تمتلك المرونة من أجل تكيفها
-------------------------------------------------------------
(1) –انطوان زحلان: المستقبل العربي العدد 188 ص48
(2) – اسماعيا سرور شلش: قضية التكنولوجيا واستخدامها عربياَ, الفكر العربي العدد 7 ص 79.
------------------------------------------------------------------------------------------------------
----45 -------------
لتكون ملائمة لظروفها. فالتكنولوجيا قبل أن تكون سلعة للتجارة الدولية هي أولاَ معرفة وتنظيم. فالمعرفة والكفاءة الإدارية وطاقة الإبداع تشكل معا ركائز كل تطور تكنولوجي , فليست الآلة بحد ذاتها هي التي تسمح بتراكم الإنتاج , وبالتالي رفعة, بل هي تنظيم أفضل لشروط الإنتاج والإدخال الناجح لطرائق تقنية تزيد في أرباح الإنتاجية الناجمة عن التطور في التنظيم(1).
لكن النتائج التي وصلت إليها مشاريع التنمية والتطور السريع في توسع التعليم وتخريج الدفعات الكبيرة من حملة الشهادات ( بخاصة بعد التوسع في التعليم الجامعي الذي لم يرتكز على ربط الجامعة بالمجتمع إلا من نواحي شكلية بحيث تكاد تكون الأبحاث العلمية في مجالات العلوم الأساسية والإنسانية من الندرة بحيث لا تفي كثيرا بحاجات التطور والتقدم ) فهذا التوسع واستيراد التكنولوجيا لم يسهما في رفع الإنتاجية , بل إن الأمر على العكس من ذلك , إذ شهدت الأقطار العربية ضعفاَ واضحا في إنتاجيتها بالقياس إلى البلدان الصناعية. فقد انخفضت إنتاجية العمل في الوطن العربي 42% خلال فترة عشرين سنة نسبة إلى الولايات المتحدة(2).
( والعلم قد يكتسب والمعرفة التكنولوجية قد يمكن حيازتها, لكن ضعف القدرة على الإنتاج قد يحول دون الاستفادة من هذا العلم ومن هذه المعرفة التكنولوجية الممتازة,فبذرة التخلف -- على الرغم من كل شيء – ذات وظيفة رهيبة , تحول دون أن يكون لكل البريق الذي صاحب الإنجازات التحديثية ( تحديث الأجهزة العسكرية , إنشاء الجامعات, استخدام الخبراء والمستشارين) أية قدرات على استنبات تكنولوجية حديثة(3).

(1) – جورج قرم: الشركات المتعددة الجنسية في الفكر العربي العدد 7 ص19.
(2) انطوان زحلان : المستبل العربي العدد(180) ص 108.
(3) – جورج قرم : التنمية المفقودة – ص 14 –دار الطليعة – بيروت 1981.

فالذي حصل فعلاَ لم يكن سوى الإهمال في القدرات والموارد البيئية واستزراع الصناعات ومصانع دون تهيئة المناخ المناسب. أهملت الزراعة التي هي عصب أية عملية إنتاجية وأساس التوازن بين كل قطاعات الإنتاج والذي أدى بالمجتمعات الزراعية التي كانت متوازنة في الأصل إلى أن(أختل توازنها, فأصبحت تستورد حتى المواد الغذائية الطبيعية غير المصنعة لأنها تخلت عن أريافها المنتجة وقبعت في شققها المفروشة وبيوتها الصفيحية والتراب جوار المدن في تقليعة جديدة تمدينية تمشيا مع نزعة الفندقة المجتمعية أو المجتمع الكان في جميع المجالات حتى في مجال بناء الذات الإنسانية وأعني به تهافت التهافت على التعليم ودكاكينه وليس على التربية الفاعلة المخططة والمتوازنة والتي تقوم على السعي لاكتشاف الحاجات عند المتعلمين ومحاولة إشباع هذه الحاجات تلافيا لتربية فوقية استهلاكية فصامية>>(1).
أن أوهام التنمية التي عششت في رؤوسنا والتي استندت إلى اعتبارات غير أساسية الانبهار بحضارة الغرب وشعور بدونية قاتلة اعتبرت أن نقل التكنولوجية هوه من الأولويات لكل عملية تنموية , هذه الأوهام لم تستطع أن تنتج أكثر من دعايات إعلامية لهذا النظام أو ذاك ودعاوى في التقدم موهوبة ولم تضف سوى رتوش هشة على صور التنمية وخرائطها . وقد تأت البلدان النامية عن حقيقة مفادها أن التكنولوجيا القادرة على رفع الإنتاجية ليست سوى تلك التي تكون ثمرة جهد ومثابرة واستنفار لطاقات المجتمع بمختلف فئاته .
<< فاليابان الحديثة صنعها صغار الحرفيين جنباَ إلى جنب مع كبار الإقطاعيين, وإمبراطور جبار كان قد استوعب الحضارة الحديثة. وأمريكا الشمالية قد صنعها رعاة البقر بسواعدهم وعرق جبينهم, وإيمانهم بمجتمع جديد. وثورة أوروبا الصناعية في القرن الثامن عشر قام بها فلاحون حديثو العهد بالصناعة, وعمال مهرة بلا علم خاص>>(2).

(1)- غازي أبو شقرا: التكنولجيا والتكامل الحضاري –ص 139 – الفكر العربي ك2 1979.
(2)-التنمية المفقودة:ص 104.

----------------- 47 ---------------
وماذا نتج عن اعتماد التوسع العشوائي في التعليم غير المخطط والمدروس؟
لم ينتج عن ذلك سوى ابتعاد السواعد الشابة عن العمل في الريف بل وفي المصنع بانتظار التخرج من الجامعات,يبقى الشاب عالة على غيره طوال فترة تحصيلة التي تمتد إلى سن الثالثة والعشرين وفوق ذلك إلى سن الثلاثين دون أن يسهم في العملية الإنتاجية. وليس ذلك فحسب فقد ساد في المشاريع التنموية التركيز على الجانب الاقتصادي مقطوع الصلات عن جوانب الحياة الأخرى, وكان تقليد المراكز المقدمة هو السائد دون الالتفاف إلى القوى الذاتية
بل إهمالها وعرقلة نموها.
ونما نتيجة لما سبق اقتصاد طفيلي بدلا من تنمية<< القوى الإنتاجية والعلمية والتكنولوجية تنمية استراتيجية بعيدة المدى>> وأهملت عمليات التنمية الاعتماد على النفس ولم تعبأ<<بالإمكانات والطاقات والقوى الوطنية ولا
بتحديد مراحل التقدم استراتيجيا وتكتيكيا على ضوء التفاعل الجدلي بين الطاقة الوطنية منظوراَ إليها في تطورها من ناحية وبين القوى المحاصرة والضاغطة وكذا الحليفة والمواكبة لنا في عالم متغير من ناحية أخرى >>(1).
وفي الوطن العربي, ماذا حصدنا خلال العقود الماضية من خلال مشروعاتنا التنموية وسياساتنا في تطور ذاتياَ وشاملاَ؟ أم أنا لم نحصد سوى قيام بؤر صناعية لا تغني ولا تسمن بل شكلت في كثير من الأحيان عبئاَ ثقيلاَ على الإنسان العربي كونها مرتبطة بصورة أساسية بمراكز تصدير التكنولوجية.
فلا يمكنها أن تتطور أو تنمو لأنها تحتاج باستمرار للخبرات الأجنبية وإلى زرقها بالمعونة الفنية الغربية..
خيار العلم والتصنيع لدينا,لأنه لم يبن على قاعدة من الاعتماد على الذات واستنهاض قواها وقدرتها, أدى إلى حالة من التردي مضحكة مبكية..( وشر البلية ما يضحك). وتعبر العبارات التالية عن هذه الحالة بلغة تزخر بالمرارة وتصفها وصفاَ قد نخطئ إذا قلنا أنه يحمل شيئا من المغالاة.
<< لماذا تنقلب كل خططنا, كل مؤسساتنا, كل ثوراتنا بين عشية وضحاها إلى نماذج ( متطورة) عن تراث تخلفنا المعهود. كيف يدمر العليم في بلادنا؟..
كيف تهجر الأرياف إلى المدن والمدن إلى ما وراء البحار... ويتم التعاضد والتكافل بين مهندسي السيطرة الرقابية في مراكز التكنولوجية المتقدمة وبين أفواج من العملاء المتطوعين.. إنهم أعضاء في نادي التزييف والإجهاض والإخصاء لكل نباتات المشروع الثقافي المستقبل الذي تصنعه الأمة الناهضة.
هؤلاء الأفواج متخرجون إما من المؤسسات التقليدية التي اسمها الجهل , وصار اليوم اسمها الجهل المتعالم التي تخرج الأميين العصريين من حملة الشهادات العليا من جامعات الغرب المتخصصة في تأهيل شباب العالم الثالث لهذا النوع من ( العلم) أو من جامعات المدن الإفريقية والآسيوية وأوروبا الشرقية... إعادة إنتاج التخلف ضمن التقدم المسروق أو المستعار>>(1).
وهل أسهمت النظم التعليمية في الداخل في النهوض بالوعي الاجتماعي؟
الوعي الاجتماعي والتعليم جزءان في بنية اجتماعية فحين كانت الهيمنة في التعليم لنظم هندسها المستعمرين فقد لبت تلك النظم رغبات المستعمرين وحققت أهدافها. بحيث أن مخرجات التعليم كانت ذات نتائج إيجابية بالنسبة لمصالحهم وكانت تخدمها.
(1) – مطاع الصفدي : عصر الاستشهاد الثقافي –ص 4 – الفكر العربي المعاصر – ع 13 – تموز ( يوليو) 1981.

--------------------------------------------------49 --------------------------------

ومن المفروض بالنظام التعليمي في أي بلد من البلدان أن تكون مخرجاته غير محصورة في تلقين مهارات ومعارف وقتية تقتضيها الحاجة الآنية لسوق العمل , بل تجاوز ذلك إلى الإسهام في تشكيل شخصية منتجة فاعلة مبادرة بحيث يكون تحقيق مصالحها الفردية غير متعارض مع تحقيق مصالح الجماعة.
وقد شهدت التربية في حقبة الاستقلال محاولات إصلاحية كثيرة متنوعة لكنها – مع الأسف – كانت تركز دوما على الكم ولم تول اهتمامها إلى الكيف. فحل ما هدفت إليه تحقيق نسب مئوية مرتفعة في تعداد الذين يدخلون المدارس أو يتخرجون من مراحلها المختلة. فوقعت في فتنة الأرقام. والنتيجة أكداس من المتعلمين في قطاعات الخدمة المدنية ومؤسسات القطاع العام. ولا يغربن عن البال , كم هي مضللة هذه الوظائف التي يشغلها حملة الشهادات , إنها لا تعني – في الواقع – أكثر من أنها بطالة مقنعة ,
تسهم في تعميق التبعية وتعميم الاستهلاك وتعميق التمايزات الطبقية, وتشويه الارتباط بين العمل والتعليم وبين العمل والنقلة الاجتماعية. ناهيك عما تكشفه هوية هكذا نظام تعليمي من كبت رغبات المتعلمين وإحباطهم, وقهرهم بحرمانهم من إشباع حاجات مرحلة نمائية معينة مما يسهم في تهيئة ظروف اغتراب الطفل في سن مبكرة عن المدرسة وعن لحظة التعليم وعن شروط التعليم(1).
(1) –عبد الباسط عبد المعطي : التعليم وتزييف الوعي الاجتماعي ص 65و 67 –مجلة العلوم الاجتماعية مجاد 12 ع4- شتاء 1984.

-----------50 -----------------

الإنتاجية والشروط الذاتية والموضوعية:


لا تعبر الإنتاجية عن نمط الإنتاج ووسائله فقط, بل تعبر أيضاَ عن العلاقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والفكرية, كما تعبر عن المعايير الأخلاقية والقيم والاتجاهات
وهذا يقتضي إجراء تحديد شامل وموضوعي ودقيق لكل من الحاجات الاجتماعية والفردية وللإمكانات والموارد إضافة إلى تحديد القدرات المناسبة للعمل.

ولا تكون عملية تجاوز التبعية والتخلف في عصر التقدم المتسارع والمذهل للعلم والتكنولوجية ممكنة بدون ( استيعاب هذا العصر أي استيعاب معرفة ووسائل إنتاج البلدان المتقدمة لتحقيق نمطها الإنتاجي نفسه لتصبح في درجة تفوقها نفسها وتخطي ذلك بهدف تحقيق السبق). هذا الهدف البعيد والصعب يمكن أن يوضع له المعايير التي تقيس مدى تقدمه نحو مواكبة العصر في شرط من شروطه هو التحكم بالبيئة.....
لكن رفع مستوى الإنتاجية يستلزم أيضاَ شروطاَ لازمة وضرورية منها الحفاظ على الموارد الطبيعية ,والحد من سرعة استنفادها, إضافة إلى ***** البيئة بما يسمح في إبقائها مجالا حيوياَ يسهم في فسح المجال لعمليات إنتاجية متنوعة الأشكال والأهداف
وإذا تأملنا هذه الأهداف والشروط العامة فسنصل إلى نتيجة تشكل الهدف الهام والشرط الجوهري في ذلك ألا وهو الشرط البشري. إن اتباع سياسة مناسبة تؤدي إلى امتلاك الوسائل والطرائق المجدية لتكوين كادر من العاملين المنتجين هو وحده الكفيل بتطوير قدرات الإنسان وإطلاق طاقاته الإبداعية. ومن شأن عملية التكوين هذه أن تؤثر في الشروط الأخرى. ولنتأمل علاقة ذلك بالبيئة مثلاَ, فنرى أن الفتك بالبيئة وتلوثها إنما يتمان على يدي الإنسان نفسه, حتى أن أزمة البيئة غدت أزمة عالمية شملت بلدانا مختلفة الاتجاهات ومتفاوتة من حيث درجة التقدم والصناعي. فالإنسان وحده هو القادر على الحفظ على البيئة من أن يدمرها التقدم الاقتصادي, وهوا لذي يستطيع أن يؤمن للطبيعة قدرتها على التحديد ويوجه فاعليته بحيث يكون << استخدام المواد الأولية والطاقة عند إنتاج السلع وتوفير الخدمات العامة في حدود أقل كمية ممكنة لكي تحقق أكبر فائدة بأقل قدر من الموارد>>(1).
ويرتبط الشرط البشري ورفع كفايته, إلى حد بعيد وبصورة أساسية, بشعور العامل المنتج بأن حاجاته ملباة. وأن الاتقاء بتلبية الحاجات وفق بناء هرمي لا يعني الاتجاه نحو الحاجات العليا وإهمال الدنيا.إذ لا يمكن تلبية تلك الحاجات إذا كانت حاجات قاعدة الهرم محبطة, ولعل ترتيب( ماسلو) لهذه الحاجات هو الأقرب لإيضاح ذلك, حيث تقع في أسفل الهرم الأمور الأساسية المتمثلة بحاجات الإنسان إلى الطعام والماء والدفء والجنس وذلك بتوفير المأكل والشراب والملبس والمأوى والتكاثر. وتستلزم تلبية هذه الحاجات شروطا صحية تتعلق بشروط عمل مرضية وبتحديد لساعات العمل لصالح وقت أكبر من الفراغ, وابتعاد عما ينهك العضلات والانزعاج إضافة إلى المزيد من الأجر.
ويتمثل المدماك الثاني من هرم الحاجات بالنواحي التي تتعلق بحاجة الأمن التي تتضمن أسس وقواعد الحماية والأمن والنظام. وحسب فلسفة ( هيرزبرغ) تنطوي العوامل المتعلقة بهذه الحاجة على شروط لا بد منها تتمثل الضمان ضد الأخطار الخارجية, والاطمئنان إلى وجود راتب تقاعدي, ووجود شكل من أشكال الضمان الصحي والاجتماعي, مراعاة مبدأ الأقدمية في العمل وتحديد مستويات الأداء وتحقيق
شروط الأمن الصناعي. تفسح هذه العوامل والشروط مجالاَ صحياَ للإنتاجية فلا تعترضها معوقات تخلق لدى العاملين نشاطات غير مقبولة وروتينية لامكان للإبداع فيها مما يؤدي إلى نشوء حالة من التعارض بين حاجات العامل الشخصية وبين العمل نفسه. ذلك أن توقف حماية الأمن وازدهار الاقتصادي يؤثر سلباَ في إحساس الفرد بالانتماء الذي يواكبه نضج الشخصية.
(1) فرنربيغر: البيئة والتنمية – ص 65 ( تنمية المجتمع) – العدد 3 – 1987.

--------- 52 --------------------
وإذا نظرنا إلى كل من الشروط الصحية والعوامل المؤدية إلى الأمن والاطمئنان نرى أنها عوامل تتعلق بما يحيط بجو العمل ويتفق مع شروطه بحيث يغدو الأمر ملائماًْ لنموالإنتاجية وتقدمها. أما الشعور بالحرية فيشكل المدماك الثالث في هرم الحاجات بحيث أن الإنسان يحتاج لأن يشعر بأنه كائن مرغوب فيه وأن له مكانة بين الآخرين وإلا فإن شعوراَ بالغربة سوف يحول بينه وبين أن يعطي الإنتاجية جهده بحيث لا يؤدي إلى هدر في الموارد فحسب, بل وإلى تبديد الجهد ذاته. وما من شك في أن الشخصية المغتربة تكون على طرفي نقيض مع الشخصية المطمئنة التي تعد شرط الإنتاج والاقتصاد. واتجاه العامل نحو الأعمال ذات الفعالية مرهون بتحقيق هذه الحاجة بحيث يصبح المرء قادراَ على البحث عن الوسائل المحفزة لذلك من حلال سعيه للبحث عن الأصدقاء الودودين مما يعضد انتمائه وفتح المجال للتفاعل مع الآخرين والاتصاف بعلاقات شخصية ممتازة ونجاح في العمل مع الجماعة.
وفي صعود هرم الحاجات إلى المدماك الرابع تأتي ( منزلة الشخص) المتمثلة بطموحات خاصة ومميزة تقوده إلى النجاح والتفوق. وتتمثل الوسائل التي تحفز الفرد لتحقيق هذه الحاجة بحسب ( هيرزبرغ) بالالتزام بالعمل الذي يوجب إظهار الكفاءات التي تؤدي إلى شهرة اجتماعية ومهنية. وهنا يصبح النجاح مبنياَ على الجدارة, وحث الفرد على المشاركة بأفضل أشكالها في العمل مما يؤدي إلى حصول الفرد على حاجته إلى النجاح والتقدير. ولكن ذلك ليس مفروشاَ بالزهور إذ أن تحقيق ذلك يظل مشروطاَ باستجابة -الآخرين. وفي قمة هرم الحاجات تتربع الحاجة إلى تحقيق الذات التي هي مصدر للإبداع لا عند النابغين فحسب, بل وفي الحياة اليومية, ويرى ( روجرز) أن الإبداع يصدر أساساَ عن ميل عند الإنسان لتحقيق ذاته. فالفرد عندما تتفتح أمامه كامل قدرته يصبح سلوكه إبداعياَ(1).
وفي حالة إرضاء هذه الحاجة يصل المرء إلى منزلة الإرضاء الذاتي ويتم ذلك على مستويي الإنجاز والمعرفة. أما الوسائل التي تحفز إلى ذلك فتتمثل في قدرات الفرد وإمكاناته لإرضاء ذاته والبحث عن المكانة الاجتماعية والعمل المبدع ومواجهة التحديات, إضافة إلى الشعور بالاستقلالية والحرية وممارسة فن القيادة. ومرة أخرى نذكر بأنه ليس باستطاعة الفرد إشباع مستوى من هذه المستويات الخمسة قبل إشباع المستوى الذي هو أدنى منه.
إن تركيزنا على تلبية الحاجات الفردية على مختلف مستوياتها لا يعني الاهتمام بعلاقة الفرد بنوع العمل لأنه القمين برفع مستوى الإنتاجية فحسب. فلا الفرد ولا العمل موجودان في دائرة مغلقة أو في قلع بلقع ..
بل إن المناخ الاجتماعي هو القادر على أن يساعد أو يعيق الإنتاجية ويوجهها أيضاَ . وهذا المناخ الاجتماعي للعمل يهيئ الظروف المساعدة على النهوض بالإنتاجية ويتهيأ ذلك من خلال المشاركة الجماهيرية في التنمية وفي رسم الخطط الإنتاجية وتنفيذها.

المشاركة الجماهيرية:


تقتضي تنمية الكوادر البشرية في البداية رفع شبح التسلط والقمع والإرهاب وإيجاد آليات
لتحقيق المشاركة الفعلية في تحديد الحاجات والأهداف ومن بعد ذلك الإسهام في اتخاذ القرارات وتقويم مراحل التنفيذ والمتابعة ضمن إطار احترام حقوق الإنسان. ويرى ( إريك فروم) أنه إذا أمكن جعل العمال مشاركين نشيطين ومسؤولين وواعين لدورهم في العملية
(1) - حسن أحمد عيسى :الإبداع في العم والفن—ص 92 – سلسلة عالم المعرفة – 1989- الكويت

54


الإنتاجية ن فإن هؤلاء السلبيين غير المكترثين يمكن أن يصحوا على درجة عالية من الحيوية والقدرة والابتكار وخصوبة الخيال والرضا عن النفس. ولا يكون هذا الأمر ممكناَ إلا بوساطة إدارة إنسانية تحل محل الإدارة البيروقراطية كشرط من شروط المشاركة النشطة والمسؤولة فالإدارة البيروقراطية مميتة لأنها تدير شؤون العاملين كأنهم مجرد أشياء , وتنظر إلى الجانب الكمي في الأشياء أكثر من الاهتمام بنوعيتها. وهي تبني قراراتها على قواعد ثابتة مبنية على بيانات إحصائية. ولا تكون قرارات البيروقراطي استجابة للكائنات الإنسانية الحية التي تقف أمام مكتبة(1).
والمشاركة الجماهيرية الفعالة هي ما كانت مستمرة وشاملة لجميع الشعب وفي مختلف مراحل التنمية, لأن التنمية وفق المفهوم لا تكون محصورة في تحقيق أهداف سياسية واقتصادية فحسب , بل تستجيب أيضاَ للمتطلبات الثقافية والاجتماعية في سياق تنمية موحدة متعددة الأشكال متوازنة , إضافة إلى مراحل النظرة التكاملية من حيث امتداد هذه المشاركة إلى مراحل العملية كاملة: من المبادرة إلى التصميم فإعداد الخطط واتخاذ القرارات والتنفيذ والتسيير والمتابعة والتقويم وإعادة توجيه الخطة وأخيراَ المبادرة الجديدة(2).
أي أن البرامج والمشاريع لا تملى إملاء, وإنما يجب إفساح المجال فيها وتشجيع انبثاقها من القاعدة الواسعة لتكون المشاركة معبرة عن حرية الجماهير وإرادتها واختيارها.
واعتماداَ على مبدأ المشاركة الجماهيرية تغدو المنشأة الاقتصادية, أية منشأة, لا مجرد مؤسسة اقتصادية تكنولوجية بل مؤسسة اجتماعية يقوم كل أعضائها بأدوار شخصية في دورة حياتها وفي أسلوب تسييرها..


(1)- أرك فروم: الإنسان بين الجوهر والمظهر –ترجمة سعد زهران –عالم المعرفة – 107 – الكويت 1989 ص 107 وص199
(2) – هوين كاوتري: المشاركة الشعبية في التنمية – التربية الجديدة – 49 – ع16 .

55 ----------


فأمورها وفق هذا المنظور تصبح شأناَ يخص كل عضو فيها(1).
ويعيد كثير من الخبراء فشل السياسات التنموية في البلدان الأقل تقدما إلى إهمالها الواضح لمشاركة الجماهير. فالمشاركة هنا لا يقصد منها أن تكون وسيلة إنمائية بقدر ما هي تعبير عن حاجة إنسانية أساسية, وحق من حقوق الإنسان باعتباره من صناع التنمية ومن المستفيدين والمنتفعين بها.



موقع الفرد في منظومة العمل المنتج:


من الشروط التي تحدد مستوى الإنتاجية ما يتعلق بوضع العامل أو الفرد في منظومة العمل. فالمشاركة الشاملة والمستمرة ينبغي أن يتم بموازاتها فعل يعتمد على خطط شاملة تستند إلى معرفة دقيقة بمجالات العمل وأشكاله وطبيعة كل جزء من أجزائه, لموازنة حاجات الفرد وقدراته مع حاجات العمل ومتطلبات النجاح فيه, وتجنب الهدر في طاقات العنصر البشري من جهة, والتخلص من شعور معظم المؤسسات بثقل التكاليف التي تترتب عليها من جراء استخدام العنصر البشري وعدم استخدام طاقاته وقدراته في تحقيق إنتاجية أفضل من جهة أخرى.
لذلك يغدو مطلوباَ تحليل العمل بتجميع المعلومات عنه ورسم خريطة له تساعد على تحديد الموقع التنظيمي وعلاقته بالوظائف الأخرى الأدنى منه والأعلى وتوضح النشاطات الخاصة به وارتباطها بالأعمال

(1) – أريك فروم ( سبق ذكره) ص 195.

والواجبات التي تكون العمل نفسه(1). ويقتضي هذا البحث عن أفضل السبل لملاءمة استعدادات الفرد العقلية ومهاراته وخبراته للعمل, وتوافر الرغبة في العمل حيث يؤدي ذلك إلى استمتاعه به. ولا يخفى ما لذلك من أثار إيجابية على الصحة النفسية للعامل التي هي أحد الشروط التي لا غنى عنها في رفع مستوى الإنتاجية. ويستدعي ذلك ايلاء عملية التوجيه والإرشاد المهنيين الاهتمام اللازم والاستفادة من النتائج التي تقدمها, مما يقلل من الآثار السلبية لعمليات اختيار المهنة التي هي في الواقع لا تستند إلى أية أسس موضوعية, مما يؤدي إلى حالة تردي الإنتاجية السائدة....

التوجيه المهني والإرشاد:

يهتم علم النفس الصناعي بميدان العمل والإنتاج من خلال دراسته لمسائل الاختيار المهني والتوجيه والإرشاد والتأهيل والتدريب وغيرها.
فإذ يركز الاختيار المهني على اعتماد أفضل الطرق والوسائل لانتقاء العاملين المناسبين لعمل ما, وذلك من خلال تحليل العمل وتحديد الخصائص والصفات الجسمية والنفسية المختلفة التي لها علاقة بأساليب الأداء, فإن التوجيه والإرشاد يعكسان العملية بحيث تنصب الجهود على تحديد نوع العمل المناسب لشخص ما.
وتثبت الأبحاث النفسية والاجتماعية نجاح التوجيه المهني في ارتفاع مستوى أداء العمل وتحقيق الطمأنينة للعامل ورضاه عن عمله مما يقلل من ظاهرة ( دوران العمل) التي تشكو منها المؤسسات الإنتاجية والتي تهدد الإنتاج بالخسائر.


(1)- في مراجعة سهيل فهد سلامة – مجلة العلوم الإنسانية ع 24, ص 242 – الكويت 1986 لكتاب ( ج . هه برنادين)
و( ر.و.بتي) في كتابهما تقويم السلوك الإنساني في العمل. والطريقة المستخدمة في ذلك تسمى ( قياس توزيع الأداء).


57-----
أما الإرشاد فيقصد به تلك العملية التي ترافق الفرد ابتداء من مرحلة التوجيه المهني إلى مراحل ممارسته العمل فعلاَ فهو متمم للتوجيه المهني. فإذ يساعد التوجيه على التقليل من المشكلات التوافقية في العمل إلا أنه لا يقضي عليها تماماَ ,فثمة مشكلات ابرز خلال ممارسة العامل للعمل ومشكلات أخرى تتعلق بالجو العام والمشكلات الأسرية والصلات والعلاقات الاجتماعية داخل العمل وخارجه قد تؤثر سلباَ في نشاط العامل وهنا دور الإرشاد للمساعدة على إعادة التوازن المطلوب(1).

أسباب ضعف الإنتاجية في الوطن العربي:


إذ كانت الظروف البيئية ذات أثر فعال في شخصية الإنسان, وبالتالي على نشاطه في مجالات العمل والإنتاج, فتحقيق المناخ الطبيعي المناسب يغدو ضرورياَ لا بد منه في رفع مستولى أداء العامل. ويتعلق ذلك بالحالة الطبيعية للمؤسسة الإنتاجية ومدى توافر الشروط الصحية المناسبة من تهوية وإضاءة , وتوافر نظام عمل يخفف من وطأة التعب والجهد المبذولين كالتقيد بجعل فترات الراحة تتخلل ساعات الإجهاد بين الفينة والفينة, وإيجاد وسائل ترفيهية وتهيئة الظروف لممارسة أنشطة ترويحية وهوايات خاصة بكل عامل.
وقد استخلص ( ماير) من أبحاثه في موضوعات علم النفس الصناعي أن المؤسسات التي يتضمن برنامج العمل لديها عمل أسبوعية أقل, تكون الإنتاجية فيها أعلى مستوى من تلك البلدان التي يكون فيها يوم العمل أطول وعدد الساعات الأسبوعية للعمل أكثر. وهكذا فنحن نرى اليوم أن كثيراَ من بلدان العالم أخذت في الاتجاه إلى جعل العطلة الأسبوعية يومين بدلاَ من يوم واحد أو يوما ونصف اليوم.


(1)- فرج عبد القادر: علم النفس في خدمة العامل والإنتاج.. الفكر المعاصر -ع 61- ص35 – مارس 1970.

58
وإذا تفحصنا مدى الاستجابة إلى هذه الشروط في معظم المؤسسات الإنتاجية العربية فإلى أية نتيجة نصل ؟ لا نجانب الحقيقة إذا قلنا أن معظم هذه المؤسسات ---- إن لم نقل كلها –
لا تنطبق عليها المواصفات المذكورة آنفاَ من حيث تهيئة ظروف عمل طبيعية.أما بالنسبة لساعات العمل فإن هذه المؤسسات إذ تطبق إلى حد ما يوم عمل بثماني ساعات فإن الهدر خلالها كبير.أما بالنسبة للرواتب والأجور فإن تدنيها قد أدى إلى إكراه العامل أو الموظف على مزاولة عمل آخر إلى جانب عمله في المؤسسات الإنتاجية. مما ينتج عنه إطالة يوم العمل ليصل إلى أكثر من خمس عشرة ساعة في اليوم. ناهيك عن الوقت المهدور فيقطع المسافة بين العمل والمنزل في كثير من الأحيان, وصعوبة المواصلات, وهدر زمن آخر في سعي العامل لتأمين خبز أسرته وحاجاتها الأخرى حيث تعاني أقطار عدة من مشكلة التزاحم على منافذ بيع الخبز والسلع الغذائية الأخرى.
أما فيما يتعلق بتوفير الظروف النفسية والاجتماعية الضرورية لشعور العامل بالأمن والطمأنينة فقد بينت دراسات كل من ( ليفيت) و( هوايت) أهمية وجود جو إداري ديمقراطي في بيئة العمل في رفع مستوى أداء العامل ورضاه على نفسه وعمله على العكس مما يحصل في الجو الديكتاتوري والفوضوي(1).
ويضاف إلى ما سبق ما يتعلق بعدم اطمئنان العامل على مستقبلة حيث أن استمراره في العمل مرهون برضا رؤسائه ومزاجيتهم لا يسمح له أو لا ينتج عنه أداء جيد.
ثم أن المؤسسات الإنتاجية في البلدان الأقل تقدماَ ومنها الوطن العربي تعاني من غياب الروح الديمقراطية في العمل حيث تسود عقلية
(1) – فرج عبد القادر: علم النفس والشخصية المنتجة – الفكر المعاصر- ع 75 – ص 29 – مايو 1971.

59
الاستحواذ والتسلط والهيمنة وغياب العلاقات الموضوعية. يتصرف مدير العمل – ينطبق ذلك على مؤسسات القطاع العام أيضاَ – على المنشأة أو المؤسسة هي ملك شخصي له, فلا يتقيد معظم المديرين بالقوانين – إن كانت من حيث طبيعتها صحيحة, إن لم تكن هي نفسها جائرة – فالقوانين هي أمزجتهم والعلاقات التي تحددها نزوات ورغبات منحطة على الأغلب . فيخضع الإنسان في مثل هذه الأجواء غير الإنسانية وتتردى القيم والمعايير السلوكية, وتحكم بالأفراد ظروف لا تساعد على تفتح شخصياتهم, مما ينعكس سلباَ على مستوى الأداء في العمل.
وقد لا تأتي بجديد عندما نتحدث عما يعانيه العمال العرب حيث يضطرون للعمل في قطر عربي غير القطر الذي ينتمون إليه. وسنعرض في هذه الجزء من نص قصصي يبين ما تعانيه العمالة العربية في بعض الأقطار العربية:
-<< أنتم لدي رقيق. لقد وقعتم على ذلك. العقد هو صك رقكم.. يا.. وتابع أبو سحيم موجهاَ كلامه إلى عمال الباتون وهو يلوح بورقة يحملها في يده.
--- أنا كفيلكم ووجودكم في (بلدي) متوقف على هذه الكفالة.
--- لكن عمولة الكفالة كبيرة يا أبو سحيم وأنت رجل تخاف الله.. خمسون بالمائة من عرقنا؟
أنتم رضيتم بذلك. والخمسون هي ثمن إقامتكم. وإلا.. وفي اليوم التالي كان الرقيب ينتر بفهد المسعود صائحاَ:
اسمع يا فهد, يا مسعود.. في الغد تكون قد رحلت من هذه البلاد. أبو سحيم سحب كفالته لك, ولم يعد لك نصيب بالبقاء في هذه البلاد. أتسمع؟(1).


(1)- وهيب سراي الدين: الرقيق – مجموعة قصص – الفقرات من قصة الرقيق – اتحاد الكتاب العرب – دمشق 1985.

60

هذه الفقرات القصصية لا تكشف عن الأحوال المزرية التي يعيشها العمال العرب في أقطار عربية فحسب, ولكنها تفصح أيضاَ أساليب جديدة من الاسترقاق لا ترعى حرمة لدين أو مبدأ إنساني , وتصور إلى أي حد وصلت قيمة الإنسان العربي في عصر انحطاط القيم وازدهار البترول. فالإنسان العربي يصدق عليه – ربما أكثر من غيره – ما يصف به( إريك فروم) الإنسان ( السلعة) في عصر الاستهلاك. فاستخدام العمالة واستقدامها يقومان على أساس معاملة الإنسان معاملة السلعة, بل إن الإنسان نفسه يعرض نفسه في سوق العمالة على أنه ذو قيمة تبادلية. وقد فرضت الظروف الاجتماعية والاقتصادية على الإنسان العربي سواء أكان عاملاَ يستخدم قواه العضلية أم كان مثقفاَ أم تقنياَ – أن تتدنى شخصيته إلى مستوى يصدق عليه صفة الشخصية المسواقة. فموقف الإنسان من ذاته في مثل هذه الظروف لم يعد محدداَ بالكفاءة والتأهيل وأداء العمل فحسب ,بل في أن ينجح في المباراة مع الآخرين لإحراز النجاح وقبول الجهة الطالبة للعمل به
وليس من المبالغة الاستناد إلى الأحكام والخصائص التي يعتمدها ( فروم) في وصف نمط كهذا: لو أن كسب العيش لا يتطلب الاعتماد على معلومات الإنسان وخبرته وكفاءته لكان تقدير الإنسان لذاته متناسباَ تناسباَ طردياَ مع قدراته أي قيمته الانتفاعية, ولكن ذلك ليس هو المعمول به لأن النجاح يتوقف إلى حد كبير على كيفية بيع الإنسان شخصيته وممارسته لذاته على أنها سلعة معروضة للبيع فقط. التزاحم على أبواب السفارات واستخدام وسائل الرشوة والوساطة والمحسوبية مناظر مألوفة في عواصم الأقطار المصدرة( للناس)....
في أجواء كهذه لا يصبح اهتمام الإنسان مركزاَ حول حياته وسعادته وكرامته وإنما كيف يباع ويشرى في أسواق النخاسة الجديدة. ويصبح هدف طالب العمل تغيير جلده كما تقتضي الأحوال, لكي يكون مطلوباَ في السوق. فهو لم يعد الإنسان الذي يتمسك بشخصية فلا يغيرها.. بل يتلون باستمرار وفقاَ لقاعدة: أكون كما تريدني أن أكون(1).
هذه إشارات بسيطة تهدف إلى الكشف عن بعض أسباب تدني الإنتاجية في الوطن العربي وهي أسباب تعود في الدرجة الأولى إلى نظرة للإنسان تحط من قيمته, وقد تكون صادرة عن مبدأ ينطوي على عدم الثقة بالإنسان وعلى سيادة الأنانية والنزعة التسلطية, وعلى الاعتقاد بأن المستخدمين في العمليات الإنتاجية لا تحركهم إلا وسائل الترهيب والترغيب.

الإنتاجية والإدارة :


لا يمكن بحال من الأحوال أن نحذف دور الإدارة في الإنتاج وأثرها في أداء العامل لعمله.ولعل المهتمين بهذا الشأن مأخوذون في هذا العصر بالمثال الياباني حيث أن ارتفاع مستوى إنتاج الإدارة اليابانية وكفاءتها وتميزها عن مثيلاتها حتى في الدول الغربية وفي دول الشمال الأمريكي من الأمور التي يجد فيها البعض سر ارتفاع مستوى الإنتاجية إلى حد لا يجازى. ويقول( أحد أعضاء شركة جنرال الكتريك) في كفاءة هذه الإدارة أنها تتمثل في قدرتها على تجميع بعض العناصر والمبادئ المعروفة في نظام متكامل يعطيها لوناَ متميزاَ
ويمتاز نظام الإدارة هذه في استغلاله الأمثل للموارد البشرية من خلال اعتماده على مبادئ أهمها المبدآن التاليان:
المبدأ الأول: الموارد الأساسية لأية منظومة إنتاجية هي ثروتها الأساسية وأغلى أصولها جميعاَ.


(1) – أريك فروم (سبق ذكره) 157.
(2) – رفاعي محمد رفاعي: فلسفة الإدارة اليابانية في إدارة الموارد البشرية –ص 85 –مجلة العلوم الاجتماعية ع 12 شتاء 1984.

--------- 62 ------
المبدأ الثاني: وحدة المصلحة بين المؤسسة والعاملين فيها.فليس العاملون مجد أدوات في العملية الإنتاجية تستغل جهودهم, بل تحرص الإدارة بوسائل عملية على إشعار الفرد بالمنفعة المتبادلة بينه وبين المؤسسة. ويؤدي ذلك إلى اتباع سياسات في الإدارة تتمثل في :


1—ضمان الوظيفة مدى الحياة. مما يشعر العامل بالأمان والاطمئنان وبالعلاقة الوثيقة بالعمل. فلا هو مهدد يوماَ من الأيام بالفصل ولا تستغني المؤسسة أو الشركة عنه. فالعمالة مدى الحياة هي إحدى الخصائص الهامة عندهم. وهكذا فالانتماء يكون على أفضل وجوهه للعمل. وهو ما يعبر عنه الكاتب الياباني ( نيشيوكانجي) بقوله:
<< إن اليابانيين حين يتعارفون لا يهم أحدهم ماذا يعمل الآخر بمقدار ما يهمه معرفة اسم الشركة التي يعمل بها >>(1).
2--- اهتمام شمولي بالموظف : يمتد من الاهتمام بحياته الخاصة والأسرية منها وذلك جراء أداء الإدارة لدورها في معرفة شخصية وثيقة للمدير بموظفيه وحل المشكلات بروح جماعية وعدم التسرع في العقاب , وتوفير فرص الإشباع الاجتماعي والنفسي للعاملين( إعانات اجتماعية, منح دراسية للأولاد , تسهيل منح القروض..)(1).
3—مشاركة جماعية وحقيقية في صنع القرار: العمال مشاركون فعليون في القرارات. والإدارة تقوم بدور ضبط عمل الإنتاجية, والأوامر التي تصدرها الشركة هي من هذه المشاركة وليست أوامر تصدرها الإدارة. ويتحرك العمال نتيجة لذلك بدوافع منهم بما يكفل الكفاءة في العمل.


(1)—نيشيو كانجي: الطريق الموازي الذي سلكته اليابان للتحديث – الثقافة العالمية – ص86 – 16 أيار1984.
(2)--- رفاعي محمد رفاعي: ( سبق ذكره) ص 101 – 102.-----

--63 -----
4—التركيز على عمال الفريق والمسؤولية الجماعية,إذ يكافح العمال والإدارة معاَ من أجل زيادة أرباح الشركة. وهكذا فإن أهم ملامح الإنتاجية لديهم هو ما يقول عنه ( كانجي):
<< التراخي في بداية الأسبوع والتغيب عن العمل تكاد الشركات اليابانية لا تعرفهما. ويعود هذا بطبيعة الحال إلى الوعي الاجتماعي عند الموظفين الذين يعدون أنفسهم أعضاء في أسرة واحدة كبيرة>>.
5—اعتماد سياسة ذات معايير دقيقة في اختيار المديرين للقطاعات الإنتاجية , بحيث لا يجري التركيز على خصائص محددة وإنما يجري التنويع في الخصائص. فلا يؤخذ التخصص مثلاَ كمعيار لذلك. فليس من الضروري - على سبيل المثال – أن يكون مدير مؤسسة صناعية متخصصة بالأدوات الكهربائية مهندسا أو فنياَ في الكهرباء, بل قد يكون قانونياَ أو متخصصاَ بإدارة الأعمال أو مسك الدفاتر والحسابات.. لأن عمل المتخصص في مجال اختصاصه مباشرة أجدى من استهلاك جهده في عمل إداري يمكن أن يقوم به غيره.
إضافة لاتباع الإدارة أساليب في التنمية تعتمد التطوير التكنولوجي لأساليب الإنتاج ورفع كفاءة العاملين لديها.
والخلاصة: إن رفع مستوى الإنتاجية تحدد إلى حد كبير الموارد البشرية التي تتصف شخصية كل فرد فيها بأنها شخصية منتاجة تتميز بأداء متميز يؤدي إلى:

1—إنتاج كبير من حيث عدد الوحدات في الزمن المحدد. ويكون هذا الإنتاج جيداَ من حيث الكيف.
2 – غياب السلبيات من سلوكها كالتغيب عن العمل, وإساءة استخدام الآلة, والتفريط بالمواد الخام.
3 – نادراَ ما يتعرض صاحبها لإصابات العمل بعيداَ عن التذمر والشكوى
4 – تعامل جيد مع الرؤساء والزملاء وتقيد بنظم العمل وقوانينه..
ولا يتأتى للمرء أن يحوز على هذه المواصفات والخصائص إذا لم تكن الظروف مؤاتيه والحاجات الأساسية والاجتماعية والنفسية ملباة في جو من العمل تسوده علاقات إنسانية يشعر فيها العامل بإنسانيته ويطمئن على مستقبله, وتتاح له متطلبات الترويح والترفيه, وتأمين مستلزمات حياة كريمة من مسكن ملائم وتغذية مناسبة ومشاركة فعلية في كل مراحل الإنتاج.
ولكن ذلك لا يمكن أن يعطينا الصورة المناسبة لفهم آلية الإنتاجية العربية إلا من داخل صورة أوسع ومن خلال خلفية تسمح بتكوين صورة متكاملة لوضع الثقافة العربية. فما هي اتجاهات الثقافة العربية؟ وما هي الآفاق المتاحة؟
وبعد ذلك فأين ه المتطلبات التي يتهيأ تأسيساَ عليها إتاحة فرص تفتح الشخصية العربية ليصبح تعلم الإبداع جزءاَ من تربيتها؟.
الثقافة العربية( الآفاق والاتجاهات)
لا يبعث الواقع العربي الراهن على التفاؤل,فلا جبهته الداخلية متماسكة ولا يوجد في الأفق ما يوحي بأن هذه الجبهة قادرة-من خلال الصورة المطروحة الآن للأنظمة العربية- على الخروج من وضعها المتردي. كما أن الظروف الخارجية لا تمنح الفرصة الكافية للخروج من شرنقة التبعية والتخلف والتصارع والتخبط والتكالب على فتات موائد ما يسمى بدول المركز التي تشكل أحد طرفي المعادلة على حد تعبير بعض الكتاب والطرف الآخر هو دول الأطراف أي تلك الدول المسماة بالدول النامية وإضافة لما ذكر لعل أصعب ما تواجهه الأمة العربية في معركتها لإنشاء مشروعها الثقافي يتمثل في ذلك الصراع بين دعاة التمسك بالبنى التقليدية على المستوى الثقافي التي لا تنتج إلا التخلف , ودعاة اللحاق بالمشروع الغربي والاستسلام له والذي لا ينتج سوى التبعية. فكأن المشروع الثقافي العربي في كلتا الحالتين لا ينتج سوى تخلفه أو تبعيته. وفيما يلي أهم سمات الحالة الثقافية العربية الراهنة:
1-تخلف النظم التعليمية وقلقها: فسواء نظرنا إلى هذه النظم من جهة المحتوى أم من جهة الطرائق والأساليب والوسائل وأدوات التقويم فلا نكاد نلمح في الصورة ما يبعث التفاؤل في النفس . ولعل أوضح ما تشير إليه هذه الحالة هو غياب الفلسفة التربوية العربية الموحدة, ففي الوطن العربي فلسفات تربوية لا فلسفة واحدة حتى داخل القطر الواحد. داخل النظام التربوي الواحد تداخل لفلسفات متباينة.
أما من حيث الأسس التي يقوم عليها التعليم والطرائق المتبعة فإنها لا توحي بخروج النظم التربوية العربية عن نمط التلقين وهو النمط السائد في الحياة العربية حتى خارج نطاق التعليم.وليس غريباً على أحد الممارسات التي تتبعها وسائل الإعلام المختلفة في سائر الدول العربية من محاولة زج العقول كافة في بوتقة النظام السائد وما يتبع ذلك من تعطيل للفكر واستهانة بالعقل والعواطف وأبسط الحقوق القانونية والقيم الأخلاقية .وليس ذلك فحسب فالتلقين هو النمط السائد حتى داخل الأسرة وداخل المؤسسات الرسمية وشبه الرسمية الإنتاجية منها وغير الإنتاجية.
أما التعاون بين المؤسسات التعليمية العربية فيكاد يكون معدوماً رغماً عن ظهور بعض الاتفاقيات الثقافية والتربوية بين بعض الأقطار العربية.
كما أن الصلات داخل القطر الواحد تكاد تكون مقطوعة تماماً بين المؤسسات التثقيفية كل في واديه يعمل.. فإذ يفترض التكامل بين جهود المعلمين والإعلاميين مثلاً.. يكاد هذا الأمر يكون لا وجود له بل أن أحدها يمحو ما يفعله الآخر أو يشوشه وإلا فأين دور الخبراء والفنيين التربويين في عمل المؤسسات الإعلامية؟
2-تغييب دور الفرد وفاعليته وطمس القدرات الفردية والجماعية: رغم الدعاية الرعناء وشآبيب الإعلان التي تطمرها المنظمات الرسمية وأجهزة التسلط عن العناية بالمواطن وأخذ دوره في معركة البناء والتحرير وما أشبه من شعارات , فإن المواطن غائب تماماً لأن الأنظمة القهرية لم تستطع إلا أن تطمس شخصيته وهو مصاب بالإحباط لأن سياسة إطلاق الشعارات بنبرات عالية لم تفعل شيئاً سوى خذلان هذا المواطن الذي دفع دفعاً للهرب من طاحونة الكلام وتعمية المفاهيم ليرتد نحو القيم العتيقة المخالفة لروح العصر والتي لم تعد مناسبة لطبيعة التحولات التي توصل لها العالم ,ولكنه يجد فيها مأوى أكثر طمأنينة له لأن المناخ السائد صارت أهم أسباب التكيف معه أساليب الرياء والمداهنة والخداع.فإذ لا يجد المرء أمام كل الهزائم التي مني بها والتي تتالى وفق وتيرة متسارعة سوى تسويغات وتسميات (تخرج الفكر من عقاله) . لقد حشي قاموسنا الثقافي بمفاهيم لا يقبل تعريفاتها ولا تفسيراتها . إنها مفاهيم (النصر ) التي تسوغ الهزائم ..وحيث لا يجد المواطن في كل ما وعد به من أمن وفي كل ما صور له على أنه سبيل النصر والتقدم ما يشعره بالاطمئنان والأمان فإنه ارتد باحثاً عنهما في كنف القبيلة أو الطائفة,وارتد الناس إلى تداول الخرافات وكأنها البديل لكل ما وعدوا به من إنجاز العلم والتقنية وشعارات التقدم والحياة الأفضل…
عاد الناس يحنون إلى الثقافات الغيبية المغرقة في مجافاتها للعقل والمنطق. فالتحول عن الموضوعية والتفكير العلمي والمنطق وغياب الفكر النقدي لم يكن سوى بعض نتاجات الأزمة في الثقافة العربية التي تلعب خيبة الأمل من أجهزة التثقيف العربية دوراً هاماً في تشكيلها.. وليس التحول إلى الغيبيات مجرد نكوص أو ردة فعل طبيعية, بل إن الأنظمة المفلسة تروج لمثل هذه الثقافة في عملية منظمة للإجهاز على عوامل القوة في حركة المجتمع التاريخية بتشجيع كل ما هو معاد للعقل, وتسهم في ترويج الإشاعات والخزعبلات لتستفيق الجوانب المختلفة من الثقافة حيث تصبح ظواهر ***** والشعوذة والإيمان بالغيبيات وانتظار المفاجآت للتخلص من الأزمات هي أهم ما يبرز من ثقافة المجتمع, وهكذا تستفيق مع هذه الردة المتسارعة كل العلل الاجتماعية من عشائرية ومذهبية ويرتد الناس من حالة الولاء للأمة إلى الولاء للطائفة أو العشيرة.
"الأمة التي ليس لها في شؤونها حل ولا عقد-كما يقول جمال الدين الأفغاني في العروة الوثقى- هذه الأمة التي لا تستشار في مصالحها , ولا أثر إرادتها في منافعها العمومية , وإنما هي خاضعة لحكم واحد إرادته قانون ومشيئته نظام, بحكم ما يشاء ويفعل ما يريد تلك أمة لا تثبت على حال واحد, ولا ينضبط لها سير فيعتورها الشقاء .. ويتناولها العزل والذل"(1)
بعد عرض هذه الصورة القاتمة لما يعتور الساحة الثقافية العربية التي هي بطبيعة الحال الجانب المقروء من حياة الأمة في ترديها وانهزامها .. أما من مخرج من الأزمة؟؟ وكيف للأمة أن تنفض غبار تخلفها وتبعيتها وتبني قوتها الذاتية الفاعلة من أجا مستقبل أكثر إشراقاً وأوضح سبيلاً؟
1- المراهنة على وجود الأمة(أو الأمم بعامة) أو زوال الأمم من الوجود الإنساني ليست واردة فلا يمكن لأي تلفيق ميتا فيزيقي –كما قال أراغون- أن يحملنا على قبول التنازل عن هذا الواقع الحي الذي هو الأمة .. (لا يمكن أن يقوم أي تفاهم علمي على غير افتراض وجود الأمم واحترامها)
(2)

(1) 1980 عزت قرني:العدالة في النهضة العربية-ص7-سلسلة عالم المعرفة الكويت-
(2) من محاضرات اليونسكو-ترجمة سامي الدروبي-صدرت الترجمة في عدد -خاص من مجلة (المعلم العربي) دمشق 1955-تحت عنوان ( في الثقافة)



يعني هذا أن بناء ثقافة عربية تسهم في تدعيم الشخصية القومية للأمة العربية من ملامحها أن تكون قادرة على التعامل مع ظروف الحياة الراهنة وهي ثقافة ينبغي لها أن تكون ثقافة الأمة لا ثقافة النخبة بخاصة وأن انتشار التعليم قد عم طبقات الأمة كافة. هذه الثقافة لا تكون خارج نطاق اللغة العربية –والمقصود بذلك بطبيعة الحال الفصحى-حيث أن المعطيات كافة تدل على قابليتها للحياة والتجدد. وحيث أن التطورات الكمية والكيفية الناتجة عن انتشار التعليم تدل على أن الفصحى ليست عسيرة على التداول بين الأقطار العربية وأن كل المراهنات السابقة –أيام الأمية شبه الكاملة- لا تجد لها مرتكزاً ذا بال ودليلنا على ذلك سقوط كل الدعوات التي انتشرت وناضلت من أجل تعميم الأدب باللغة المحكية أو الكتابة بغير الحروف العربية وغير ذلك..ثم إن الدعوة إلى ثقافة الأمة التي تتعدى حلقات النخب المثقفة إلى الساحة الواسعة للجماهير لا تعني صياغة نظريات اجتماعية أو سياسية, بقدر ما يكون هدفها هو مخاطبة عقول الجماهير وإلهاب عواطفها بلغتها, والمقصود باللغة هنا ليس اللهجات العامية طبعاً, بل الانطلاق من مفاهيم الجماهير لتنميتها وتصحيحها. ومما ييسرها اتصافها بالمرونة بحيث يكون لها فسحة كافية من الحرية تسمح بالحوار وبعمليات الاكتشاف وتنمية الإبداع والفكر المبدع. وهذا لا يتحقق عن طريق مجابهة معتقدات الجماهير بصلافة تتجاهل قوة الأفكار الراسخة والتقاليد الشعبية والعادات التي يمتد عمرها طويلاً في التاريخ ولكن الأسلوب المطلوب هو في الاقتراب من ذلك بالتدريج وباستخدام وسائل مناسبة وأساليب للإقناع.
والمشروع الثقافي المطلوب لا ينهض به فرد أو جماعة محددة بل ينبغي له أن يكون مشروعاً جماعياً يبنيه القوميون الذين إن أرادوا أن يكونوا قادرين على تمثل حركة التاريخ فلا بد لهم من التآزر والتعاون واحترام الرأي الآخر وسلوك الحوار الديمقراطي بعيداً عن أي تسلط أو عسف من فئة على أخرى. ويقتضي ذلك من الأطراف كافة وعياً بعناصر الاتفاق وتدعيمها, وتحليل عوامل الخلاف ودراستها عاملاً بدون تشنج أو تعصب أو ادعاء الوصاية أو التزمت, ويقودنا هذا إلى ضرورة الكشف عن عورات أدبياتنا السياسية والإيديولوجية التي تراكمت في ثقافتنا القومية خلال عدد من العقود في النصف الثاني من هذا القرن بخاصة حيث سادت الخدعة ببعض الأدلجات وصار المثقف لا يجد قبولاً لأفكاره إلا إذا رصعها باستشهادات من هذا الصنم أو ذاك من أصنام الإيديولوجيا التي رسمتها السلطة الرسمية في بعض البلدان وموهت قوة الأفكار بمنجزات مادية هائلة من حيث الصورة وكما تصورها أجهزة الإعلام. وكثيراً ما استخدمت بعض النصوص كطلاء لعمليات الانتهاز والتسلق , ووسيلة للإيقاع بالآخرين بل لاتهامهم في وطنيتهم وإخلاصهم لأمتهم.
2- الوعي بخصوصية الثقافة القومية وقدرتها على تدعيم شخصية الأمة وتحصينها. ولكن ذلك لا يعني اتهام ثقافات الآخرين وإظهار العداء لكل ثقافة أخرى . فأي ثقافة تطمح للنمو وتعمل للعيش في هذا العصر لا يمكن لها أن تتنكر للآخرين وترفضهم رفضاً قاطعاً. وقد كان للثقافة العربية تجربتها مع الثقافات الأخرى , ودللت فيما مضى على مرونتها وحيويتها بأن أقبلت على الآخر –حينئذ-وتمثلت ثقافات الأمم الأخرى, دون أن تضيع خصوصيتها بل دعمت هذه الخصوصية.
وفي العصر الراهن لا يصعب على الأمة أن تجد في خبرتها الماضية الدروس التي تستفيد منها للتفاعل مع ثقافات الأمم الأخرى واستيعابها ليكون إسهامها في حضارة العصر ممكناً.ولكن هذه العلاقة مع الآخر لا يتيسر لها أن تصون الخصوصية الثقافية إن لم يكن هدفها توظيف ما تستوعبه من ثقافة العصر لخدمة الأغراض النهضوية. فالاستفادة من تفوق الحضارة المعاصرة تكنولوجياً وعلمياً وعقيدياً لا يكون بالنسج على منوال مثال ( أوروبا في العصر الحاضر وأمريكا) وإنما بنسج ثقافة تحفظ تمايزها وتستوعب التجارب, والبداية في ذلك والمنطلق يكون في فهم طبيعة العصر وفهم البيئة التي ترعرعت فيها الحضارة المعاصرة والوعي بأهم ملامح المستقبل.
3- الثقافة القومية في حفاظها على تمايزها وعنايتها بخصوصيتها تنطلق من مبدأ نهضوي يشدد على أن النهضة لا يمكن أن تبدأ من فراغ بل "لا بد لها من الانتظام في تراث , والشعوب لا تنتظم في تراث غيرها بل في تراثها هي"(1).
(1) محمد عابد الجابري: إشكالية الأصالة والمعاصرة في الفكر العربالعي- المستقبل ربي- ع 69-ص 61


ولكن هذا لا يعني الاعتقاد بصحة كل ما في التراث وصوابيته. بل لا بد من أن يقرأ التراث من جديد ليكون دليلاً وشاهداً على نزوع الأمة نحو الوحدة, وعاملاً من عوامل الأمن والاطمئنان على مستقبل الأمة حيث تجد نفسها في تاريخها. والأمة العربية في هذا المجال لا تفتقر إلى ما يحفظ لها هويتها ويؤكد على تواصل وجودها, ويوفر لها هذا كثيراً من الجهود التي تبذلها شعوب وأمم أخرى وهي تبحث عن جذور لها تحدد هويتها وتطمئنها على مستقبلها, فالهوية القومية والملامح الشخصية لا تبنيهما القرارات والإرادات الفوقية. ويدرك العالم المتحضر اليوم أهمية الماضي في توازن الحاضر وضمان المستقبل . ويحث المهتمون بقضايا شعوبهم ومصيرها على الاهتمام بالتاريخ ووعيه وتكوين الإحساس به لدى الأجيال لما لذلك من أهمية في الحفاظ على وحدة الشخصية القومية للأمة. فقد اعتبر الرئيس الفرنسي(ميتران) أن نقائض التاريخ تقود إلى فقدان الذاكرة الجماعية لدى الأجيال الجديدة. ففي التراث تتحصن الأمة من الذوبان في الآخر, وبوعيها له وقدرتها على الإبداع تستطيع أن تستفيد من تجارب الآخرين وتتمكن من تجديد هويتها فيصبح حاضرها استمراراً طبيعياً لماضيها وأساساً لانطلاقتها. فالتراث جزء من تاريخ الأمة وحين تفقد أمة ما ارتباطها بتراثها ستجد نفسها وقد أضاعت شخصيتها مع تاريخها وصارت لا تجارب لها تستفيد منها ولا خبرات تبني عليها خبرات جديدة..
يشرح ( جاك بيرك) أهمية التراث في حياة الأمة بقوله:
" إن الهوية لا تنفصل عن التاريخ. ولكن لكي نحافظ على الهوية عبر تتابع الأطوار التايخية لا بد من وجود ثوابت بدونها سيكون الأمر تغييراً في الكينونة. هل ثمة من يقول بوجود كائن يحل محل كائن آخر في مراحل حياة الإنسان طفلاً ومراهقاً وراشداً؟؟ أليس هو نفس الكائن الذي يتطور؟ إن ذلك ينطبق على الشعوب" (1).
(1) جاك بيرك: مقابلة أجراها بدر الدين عردوكي-الفكر العربي-ع 2- ص 281


هذا يعني إيلاء الثقافة التاريخية وتنمية الوعي بالتاريخ والحس التاريخي ما تستحق من اهتمام بحيث تسهم في تربية الناشئة وتفتيح ذهنها على وعي مفهوم الزمان, ومساعدتها على معرفة طرائق البحث التي تنير أفكارها في فهم نشأة الحضارة الإنسانية والتنبؤ بمستقبلها.وبالنسبة للإنسان العربي يكون للثقافة التاريخية دورها الذي يمكنه من إدراك أبعاد مفهوم العروبة وطبيعته المتجددة. على ألا تكون مادة هذه الثقافة التغني بأمجاد الأجداد ,بل تكون قادرة على مساعدة الشباب العربي على وعي التاريخ كونه أحد أهم عوامل تكوين الشخصية العربية والمسهم في تجديد هويتها واتجاهاتها . وليس من أهداف هذه الثقافة –مرة أخرى- إذكاء الحنين للماضي بل وعي حركة التاريخ وصلة الماضي بالراهن والمستقبل. فمثل هذه الثقافة لا يمكن لمخرجاتها أن تسهم في تحصين الشخصية القومية إن هي استمدت مادتها من مصادر تتعصب لهذه المرحلة التاريخية دون غيرها, أو لبعض المصادر المعينة بسبب من تعصبها لمذهب دون آخر. فالثقافة القادرة على الإيفاء بأهداف التربية القومية المطلوبة هي التي يكون من سماتها نقد المصادر والتعامل معها بروح نقدية موضوعية.
4- مراجعة شاملة لتراثنا الثقافي القريب, بخاصة ما أنتج منه خلال العقود الأخيرة والتعامل معه بنظرة نقدية متحررة من سلطان الدعاية والتهويش والتطرف.حدث في ميدان الفعل الثقافي ما يمكن أن نصفه بأية صفات لا تنتمي إلى الاتزان والتعقل. فقد تسابق المتبارون-من مفكرين وأحزاب- على التركيز على دور الأفكار في الفعل القومي العربي وفي الفعل السياسي بعامة من منطلقات إيديولوجية فيها الكثير من التسرع والمغالاة, وبتنا نرى ظاهرة اللعب على حبال مختلفة في الدعاية لهذه الفئة أو تلك, ولتسويغ هذا السلوك أو ذاك . وتضاربت على الساحة الثقافية الاتجاهات الماركسية(تروتكسية,ستالينية, خروتشوفية,غيفارية,غورباتشوفية……) بالاتجاهات القومية المغالية منها والمعتدلة…, بالاتجاهات الدينية المغرقة في رجعيتها والمنفتحة على العصر بهذه الدرجة أو تلك...
وغدت الساحة الثقافية ميدان مزودات, كل فريق يسارع من خطواته للتطرف في هذا الاتجاه أو ذاك, وقد نتج عن ذلك تشرذم الفئات والأحزاب والجماعات… وغدا المجال واسعاً لبروز ثقافة طفيلية(بل ثقافات طفيلية) على حساب الثقافة القومية, مما أعطى لقوى التخريب الفرص الكافية لنشر أفكارها التي لم يكن لديها هدف إلا في تخريب المقوم الثقافي للشخصية القومية.. حتى أن مثل هذه الدعوات التي أبعدت نفسها خارج إطارها الحقيقي بتنا نجدها تتردد على ألسنة وفي كتابات أعلام ثقافية, تكرس جهوداً لا يستهان بها في تنمية نزعات (لا عروبية). فها هو ذا عميد الأدب العربي الحديث (طه حسين) في كتابه(مستقبل الثقافة المصرية) ينطلق من مبدأ أن مصر لا تدين للعرب بشيء لأنها بنت أوروبا والغرب. وهذه النزعة التي يمكن إدراجها داخل ما يسمى (النزعة المتوسطية) عمت قطاعاً واسعاً من المفكرين والأدباء.. مما حدا ببعضهم إلى المناداة بهجر الحرف العربي والفصحى ونعتهما بالعقم وعدم ملاءمتهما لطبيعة العصر..
5- النهوض بالمشروع الثقافي العربي لا يكون ممكناً إلا بوسائل عصرية تفسح المجال واسعاً للفكر المبدع الذي لا يتيسر بدون تربية تنطلق من فلسفة تؤمن بالمستقبل والتطور وتهدف إلى بناء الشخصية التي لا تستهويها في المجال الثقافي الأسماء اللمعة ذات البريق, وهذا يعني أن صورة المثقف الذي يتعصب لكل ما يقرؤه ليست هي الصورة المطلوبة, بل إنها تلك التي تعنى بالإنسان ذي الفكر النقدي. وهذا يعني تربية الناشئة على ما يمكنها التحرر من سلطة الأفكار المسبقة.
والصورة السائدة للثقافة إلى حد كبير بين مثقفينا تتمثل بحفظة النصوص الذين ما يقرؤون بعمليات استعراضية.. ثقافة النصوص مع أهميتها وما يمكن أن يمتلك صاحبها من معارف ومعلومات لا مكن الاستغناء عنها ولا إنكار وظيفتها في فهم العصر والآخر إلا أنها في حالة المغالاة لا تفسح المجال للمثقف للإسهام بإضافة وإبداع ما من شأنه أن ينهض بثقافته على المستوى الفردي على الأقل. وجل ما يستطيعه اجترار نصوص محفوظة في عصر لم يعد بحاجة لأشخاص يختزنون الأفكار والمعلومات حيث تقوم الوسائل التكنولوجية المعاصرة بهذه الوظيفة بكفاءة أكبر , ثم إن إغلاق الذهن وتعويده على الحفظ الأصم والاستذكار ببراعة ليس أكثر ,لا يخرج صاحبه من دائرة التقليد.
وقد أدركت قوى الهيمنة والاستغلال والاستعباد منذ أمد ما لهذا النمط من المثقفين من دور في لجم القدرات الإبداعية. وفي المثال التالي توضيح لما أشرنا إليه وهو ما لخصه (أنور عبد الملك) لواقع التعليم في مصر أيام الاحتلال البريطاني :
" رأى دنلوب مستشار التربية أيام اللورد (كرومر) أن الضمان الوحيد لاستعباد مصر لا يكمن في الاحتلال العسكري والاستعمار الاقتصادي , وإنما في ضرب الفكر عند المصريين في الصميم بحيث يصبح عاجزاً عن التطور والإبداع ويظل معتمداً على غيره, ورأى أن هدفه لا يتحقق إلا إذا اتجه التعليم في مراحله المختلفة نحو الحفظ دون الناقشة,والترتيل دون النقد,والمحاكاة للمرجع والأستاذ دون مناقشة وتكوين رأي مستقل فيها, واحترام الكلمة المكتوبة دون امتحانها والتصارع الفكري معها"(1).
(1) أنور عبد الملك"دراسات في الثقافة الوطنية-ص 219-دار الطليعة-بيروت 1967


لا تتلاءم ثقافة النصوص مع طبيعة العصر واتجاهاته. فلم تعد مخرجات النظم التعليمية المطلوبة(متعلمون يجيدون القراءة والكتابة فحسب), بل أن أحد أهم أهداف التربية المعاصرة يتمثل في إعداد متعلمين قادرين على الاستفادة من كونهم يقرؤون ويكتبون. لذا فإن غالبية نظم التربية والتعليم في العالم تضع اليوم في الرأس من أهدافها تنمية ثقافة المتعلمين من خلال امتلاكهم طرائق في التفكير والبحث ليكونوا قادرين على تجاوز النصوص الموجودة تحت أياديهم إلى دائرة الإبداع والتجديد , وإلى آفاق التحرر من الآراء الجاهزة والأفكار المعلبة والقيم المحفوظة.ووسيلتها في ذلك تدريب العقل على التفكير بحيث يصبح حب العلم والبحث من اتجاهاته وتدريبه على الإبداع والابتكار.
6- المشروع الثقافي العربي بأهدافه النهضوية والإبداعية ,ثمة معوقات تحد من نموه تتمثل بوسائط الاتصال الحديثة حيث أنها باتت تستخدم تقنيات متطورة جداً في عمليات تسويقها وإعدادها ..ومن حيث قدرتها على الفعل في الثقافة إن في تعميق بعض جوانبها أم في تسطيح بعضها الآخر. وأخطر ما في وسائل الاتصال الحديثة التي تغلغلت في الحياة الثقافية للبشر في مختلف البلدان والمجتمعات أنها تمتلك من أدوات التوصيل وسرعتها ومن وسائل الجاذبية والتشويق ما يجعلها ذات آثار لا يمكن تجاهلها في ثقافات الناس المختلفة . والأدهى من ذلك والأكثر خطورة كون هذه الوسائط تقع في دائرة الهيمنة والتسلط التي تستغلها في غزوها الثقافي للشعوب الأقل تقدماً ونمواً من النواحي الاجتماعية والاقتصادية.
ولعل ما يقاسيه الوطن العربي من تسلط وسائط الاتصال الحديثة من القوة بحيث لا تمكن مقارنته مع ما تقاسيه شعوب أخرى لاعتبارات كثيرة تتعلق بخطورة وأهمية الوطن العربي بالنسبة للنظام الإعلامي نظراً لغناه من حيث الثروات الطبيعية ولموقعه الجغرافي المتميز ولأنه-وهو أهم من كل ما سبق- ذو خصوصية ثقافية ذات جذور وتاريخ تتناقض إلى حد كبير مع اتجاهات ثقافة المركز المهيمن حالياً في العالم. وتتمثل مخاطر وسائط الاتصال الحديثة في تدفق المعلومات الذي لا رادع له يحمي هذه المنطقة من عمليات الاختراق الثقافي بخاصة في عصر الأقمار الصناعية وبسبب من وقوع المنطقة العربية تحت تأثير إعلاميات متباينة تتعرض لها يومياً عبر وسائل الإذاعة والتلفزة من البلدان المجاورة.(التلفزات الأوروبية المتاخمة لبلدان شمالي أفريقية, والتلفزة التركية والإيرانية المتاخمة لمناطق شمال سورية والعراق ومنطقة الخليج الغربي). مما يسهم في شيوع فوضى ثقافية عربية. ومما يزيد من خطورة ذلك غياب سياسة إعلامية عربية موحدة ناهيك عن شعور عدم الثقة في أجهزة الإعلام العربية من قبل المواطن بخاصة بسبب من خضوعها لسياسات قطرية تفتقر لعناصر التنسيق فيما بينها إضافة لاستخدامها في الدعاية لأنظمة همها تزو يق نفسها وشتم الأنظمة التي تعدها منافسة لها.
ما سبق يدعونا للتأكيد على أهمية العمل الجاد الهادف إلى تحقيق مناعة إعلامية تخدم الأمن الثقافي العربي وتحافظ على اللغة العربية.
(1)
ويستلزم ذلك وجود استراتيجية عربية يتجند المثقفون للدعوة لها, تستند إلى أساس من التوجه إلى امتلاك تكنولوجيا تسمح لنا –كعرب- بدخول العصر وتوظف لإنجاز مهام ثقافية يعنى بها مختصون في مجالات الإعلام والتربية, وتستوعب الطاقات القومية وأن تكون السياسات الإعلامية والسياسات التربوية متكاملة وتعمل في اتجاه واحد(2).

(1) مصطفى المصمودي:النظام الإعلامي الجديد- ص 267- سلسلة عالم المعرفة-الكويت 1985
(2) المصدر نفسه:ص 288


الإلحاح على أهمية الخصوصية الثقافية والحفاظ على تنميتها دون أن تذوب في الثقافة المهيمنة (ثقافة المركز الغربي) مهمة قومية يتحمل مسئوليتها المثقفون على مختلف انتماءاتهم الاجتماعية انطلاقاً من مبد(الشخصية القومية هي كائن حي) ينطبق عليها ما ينطبق على الكائنات الحية من حيث خصائص النمو واتجاهاته.ولا يمكن عزل هذا النمو عن ماضي الكائن كونه جزءاً منه. والأمة العربية شأنها في ذلك شأن أية جماعة بشرية تستبطن ماضيها. وليست الثقافة الفاعلة والقادرة على الحياة إلا تلك التي يكون من خصائصها فهم طبيعة النمو بالنسبة للأمة من خلال حل رموز تراثها وإعادة تركيب نفسها من خلال ذلك ومن خلال تركيب العناصر التي عرفتها الجماعات الأخرى في أثناء تطورها التاريخي.ولا يكون التعامل مع الثقافات الأخرى انبهاراً بها أو انصهاراً فيها كما لا يكون نفوراً منها وانفصالاً عنها, بل توظيفها في خدمة وحدة الشخصية القومية والحفاظ على مقومها الثقافي المتميز, وإدراك " ما هو قومي ليس كبعد من أبعاد الثقافة القومية فحسب بل من حيث أنه الوحيد الممكن تاريخياً في الماضي والحاضر والمستقبل"(1).
وأخيراً وليس أخرا,إن المشروع الثقافي العربي تعتوره الكثير من المخاطر والصعوبات ولكن الأمة العربية-مهما كان ليلها حالكاً- قادرة على تجاوز محنتها, ولن تعدم الوسائل الكفيلة لصد مخاطر الغزو والاختراق الثقافي الذي يستهدف وجود الأمة ذاته, وهي تستطيع عبر مشروعها الوحدوي الكبير مهما تأخر تحقيقه أن تصنع نموذجها وأن تحمي ثقافتها من الضياع وتنهض بها وتتخلص من كل مظاهر التخلف والتبعية مهما بعد الزمن..
ولعل تلمس أسباب الضعف ومواطن الخطر يقودنا للإلحاح على أهمية التفكير المبدع وتنميته في تجاوز ذلك ووضعنا على الطريق السليمة.
(1)ليلى السائح:شؤون عربية-ع 7- ص84.




أهمية الإبداع في المشروع الثقافي العربي


النزعة إلى التكرار والنقل والاتباع, ومجافاة التجديد والابتكار ظاهرة لا تخطئها العين في الحياة العربية المعاصرة. وقد تحدثت عن هذه الظاهرة ودرستها أبحاث كثيرة وأبرزت ما في حياتنا الاجتماعية والفكرية والسياسية من عدوات لدودة للإبداع والمبدعين.
وليس جديداً التأكيد اليوم على أهمية البحث عن الأساليب والطرائق والوسائل في معركة الأمة العربية وصراعها من أجل البقاء ولتمتلك القدرة على المبادرة , فالحياة المعاصرة ترذل السكون والتردد ولا ترحم أولئك الذين يديرون ظهورهم لحركة التطور ويسلمون زمام أمورهم للأقدار. فامتلاك الأمة زمام نفسها والقدرة على استخدام وامتلاك أسلحة مكافئة ومناسبة لما بلغته الحضارة المعاصرة من تطور وتقدم هي بعض وسائل مواجهة التحديات الراهنة وتراكمات العصور الماضية . ولعله من بديهيات الأمور التركيز على أهمية إنتاج الوسائل الضرورية لتثبيت الأقدام في الأجواء الدولية العاصفة, أو إعادة إنتاجها سواء كانت تلك الوسائل مما يتعلق بالمهارات أو بالمعارف أو بالقيم. ولا يعني هذا أن نرذل ما وصل إليه الآخرون من تقدم في المعارف والتقنيات , بل لا بد من العمل بهدف الوصول إلى تلك الدرجة التي يصير معها ممكناً "المشاركة في إنتاج المعرفة بوساطة استثمار النتائج العلمية الحالية والأدوات المنهجية السائدة أينما وجدت, ومحاولة التفكير فيها بما يسمح بإخصابها والمشاركة في تجارب بإعادة بنائها"(1). وإلا فلا أمل لنا في اختراق السدود وأدوات الحصار التي أحيطت بها البلدان النامية من سيادة نمط الحياة الاستهلاكية, بحيث تكتوي هذه المجتمعات بنار ذلك الأتون الرهيب الذي يصهر كل شيء ليعود ويشكله على نمط يخدم مراكز الهيمنة والاستغلال فيغدو تشييء الناس وهندسة تفكيرهم وسلوكهم واتجاهاتهم بعضاً من نتاج ضبط السلوك البشري الذي تبرمجه مخابر التسلط والاستغلال والاستهتار بقيم الشعب ومعاملة الناس كسلع في سوق الاستهلاك العالمي..
(1) كمال عبد اللطيف: صعوبات الاستعمال المنهجي للمفاهيم-الفكر العربي المعاصر-ع 47 ص 32.


وسنذكر –فيما بعد-وسائل وأساليب وتقنيات تنتجها مراكز الأبحاث والمخابر الغربية من مركز تسلطها الجديد في القارة الجديدة تهدف إلى هندسة السلوك الإنساني دون أخذ في الاعتبار لما تنطوي الشخصية الإنسانية عليه من تفرد وقيم روحية وأخلاقية. وإلا فبماذا تفسر صرعات المجتمع الرأسمالي التي يصدرها عبر وسائله التكنولوجية المتطورة وموديلاته ونماذجه؟ تأتينا على حين غرة محدثة الانبهار وهي التي لا ينقصها شيء من معرفة أساليب التشوق والإثارة, ثم ما تلبث أن تغدو زوابع بل عواصف هوجاء تلف كل شيء بتيارها الجارف فلا تدع مجالاً لتحليل أو تفكير أو نقاش فنفقد القدرة على أن نملك من أمورنا ولو النزر اليسير.. حتى العلم ومناهجه وقواعد البحث فيه تصدر جاهزة تتعامل معها مجتمعاتنا تعاملها مع المأكولات المعلبة والألبسة الجاهزة, نكررها ونمعن في تكرارها مشدوهين بما تحفل به من مزايا لم نكتشفها دون إعمال لتفكير ودونما حاجة إلى السعي لإعادة إنتاجها,فنتيه في ممارسة النقل معطلين تفكيرنا.
فمن أين لنا أن ننشد حريتنا ونحن لسنا بقادرين على "إعادة إنتاج المعايير التي يتميز بها الإبداع عن التكرار والخلق عن الاستبدال والتغيير عن التخريب"(1)؟.
(1) مطاع صفدي: عصر الاستشهاد الثقافي-الفكر العربي المعاصر-العدد 13-ص 10


من هنا يستمد تعلم الإبداع مشروعيته, فالقدرة على الفعل الحضاري وتجاوز حالة التبعية التي تتمثل بالتكرار واللهاث وراء تجارب الآخرين والانبهار بكل عناصر حضارتهم , ليسا ممكنين بدون ولادة عصر الإبداع العربي. وبلوغ أدنى درجات النجاح في صنع المشروع الحضاري الجديد ليس ممكناً إلا بامتلاك قدرات إبداعية بعيداً عن انتظار المخلص الذي يأتي من وراء الحدود, أو من عالم الغيب ليأخذ بيدنا من مستنقع الدوران حول النفس وبنفس المكان.
والمشروع الثقافي العربي بخاصة والمشروع النهضوي العربي بعامة لا يتكونان خارج إطار الاتصال والتواصل اجتماعياً وثقافياً وتاريخياً. فلم تكن عمليات التراجع والتردي التي ميزت الحياة العربية في القرون القريبة الماضية عمليات انفصام عن تاريخ الأمة وحضارتها فحسب, بل كانت انقطاعاً في عمليات الإبداع.فما أن خبا الفعل المبدع حتى سكنت الحياة العربية. واليوم فلا سبيل إلى تخطي حواجز وموانع وسدود التخلف والتبعية إلا بتنمية القدرات الإبداعية على المستويين الفردي والاجتماعي. وهذا يعني النهوض بالعلوم والسلوكية اعتماداً على دراسات حقيقية تنطلق من رؤية شاملة للبنى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية, لا الأخذ بمقاربات هذه العلوم واتجاهاتها جاهزة, لأنها في واقع الأمر نتاج استقراءات لبيئات ومجتمعات مغايرة. فلا بد من جهود جماعية متعاظمة تعمل على إعادة إنتاج هذه المقاربات ونقدها, كيما نبلغ الطمأنينة اللازمة التي تعزز خطانا على أننا سائرون على طريق صحيحة وبخطوات متماسكة. وهذا لا يعني بطبيعة الحال الابتداء من الصفر, مواصلة الطريق تحتاج إلى المزيد من المعارف, ولكن عن طريق المزيد من النقد(للوصول إلى نماذجنا وموديلاتنا الخاصة بنا) فإذا ما التقى النقد والمعرفة "قامت سلطة العلم كأعلى السلطات"(1) وهذا هو الذي قصده شاعر المكسيك (كارلوس فونتيس) في مقابلة معه:
"لقد نجمت إخفاقاتنا السابقة عن حقيقة أننا لم نكن قادرين على العثور على موديلاتنا السابقة ونماذجنا الخاصة"
(2).

(1) المصدر السابق: ص 13
(2) مجلة الكر مل: عدد 18-ص 114


ولكن المعرفة وإن كانت هي في الأساس لكل توجه,
لكنها ليست الضالة التي ننشد لديها المداواة لبعض أدوائنا وعللنا. فهي وإن كانت شرطاً ضرورياً لدفع المشروع القومي العربي إلى أمام, إلا أنها ليست بالشرط الكافي لذلك, فلا بد من الفعل الإبداعي ويكون ذلك بحفز القدرات الإبداعية كافة في الفرد والجماعة والطريق إلى ذلك هو الوعي لشخصيتنا القومية وتوفر الإرادة اللازمة للحفاظ على هويتها. فالشخص المقلد والأمة المقلدة إذ ينسخان ذاتهما عن الآخرين نسخاً فإنهما غنما يمسخان شخصيتهما مسخاً.
والخروج من دائرة التخلف والتبعية يدعونا لتعلم
الإبداع الذي لا شيء يقوم مقامه لمغالبة حمى المجتمع الاستهلاكي وأتونه فقد " علمنا التاريخ دوماً ألا سبيل لمغالبة ندرة الموارد وشحها إلا عن طريق العقل المبدع المبتكر,عن طريق المادة الرمادية , عن طريق تلك القوة الفكرية التي تقوى على استبدال مورد جديد بمورد قديم, وأن تحل طاقة بديلة مكان طاقة زائلة(….) فالعقل المبدع المبتكر هو سبيل تجديد التربية, وسبيل التغلب على أزمتها ومغالبة ما فيها من نقص الإمكانات والموارد شريطة أن تعنى التربية بتكوين ذلك العقل(….) أجيال تنتظر, وأفواه جائعة تفغر فاها,وأزمات عاصفة تلوح في الأفق, ومن رؤاها ينبغي أن نستمد العزم على أن يكون التجديد في التربية بعض رسالتنا القومية والإنسانية"(1).
فالحاجة إلى تعلم الإبداع ماسة وهي ليست محصورة فيما ذكر آنفاً فحسب, بل هي تلح لأسباب أخرى أيضاً نتلمسها فيما بعد, بعد أن نحدد طبيعة الإبداع والفكر المبدع.
(1) د.عبد الله عبد الدائم: من محاضرة له في المؤتمر الثاني لتطوير التعليم ما قبل الجامعي- دمشق 1986


طبيعة الإبداع والفكر المبدع

خلقت الحضارة المعاصرة كثيراً من النتاجات التي أدت إلى تواكل المجتمعات المتخلفة على الفتات الذي تلقيه إليها المجتمعات المتقدمة, فباتت الأولى تنتظر حلولاً جاهزة لمشاكلها تستعيرها أو تنقلها, وتطلبها من البلدان المتقدمة على شكل هبات تقدم لها أو قروض أو ما شابه ذلك.. وهي في ذلك تمعن في ابتعادها عن الإبداع وتتخذ من الاتباع والنقل والتقليد سبيلاً لها, وفي هذا ما فيه من تعميق الأسباب التي تؤدي إلى مزيد من التبعية والتخلف. ولعل المرء لا تخطئ عينه هذه النتيجة عند ملاحظة ما آلت إليه صناعات العالم النامي واقتصادياته, بخاصة عندما بنت مشاريعها التنموية على أساس من البعد الاقتصادي مهملة الجوانب الأخرى للتنمية وعلى الأخص ما يتعلق منها بنمو الكائن البشري الذي توليه البلدان المتقدمة عنايتها بحيث أن تربية الناشئة تهدف بالدرجة الأولى إلى استنهاض سائر قدراتهم الجسدية والعقلية بهدف الإسهام في عمليات البناء والنهوض الاجتماعي والاقتصادي, باحثة باستمرار عن أنسب الطرائق وأكثرها فاعلية في تعلم الإبداع وتنمية القدرات الإبداعية.
وقبل أن يلج البحث إلى الطرائق والأساليب والمبادئ التي تستند إليها التربية بالإبداع. نرى من المستحسن أن نلقي نظرة سريعة محاولين إيجاد أجوبة لبعض الأسئلة في هذا الصدد. من هو المبدع؟؟ وهل القدرة على الإبداع وقف على عدد محدود من البشر؟؟ وهل يظهر الإبداع ويتجلى الفعل المبدع بتلقائية عند صاحبه؟؟ أم أنه وليد ظروف ذاتية وأخرى موضوعية؟؟
يترتب على علاقة الإنسان بالبيئة العديد من المشكلات التي تتطلب منه البحث عن حلول لها. ونميز في الحلول التي يتعامل بها الناس مع هذه المشكلات حلولاً فيها الكثير من مظاهر الجدة والمخالفة للمألوف, وأخرى أقل حظاً من ذلك أو أنها تتوافق مع ما ألفه الناس أو أكثريتهم. ويتجلى الإبداع بصورة بديهية في تلك التي تتصف أساليبها بالجدة والابتكار.
ويكون تكيف الإنسان مع البيئة عادة في مستوى أعلى مما هو عليه عند الحيوان. أي أن تكيف الإنسان وقدرته على إيجاد حلول للمشكلات التي تعترضه هو في مستوى أعلى مما نجده عند الحيوان. بخاصة وان الإنسان لا يوظف قدرات أولية ذات طبيعة غريزية بحتة في عملية التكيف, بل إنه يوظف تفكيره. والتفكير نم حيث هو نشاط إنساني هو نشاط عقلي عالي المستوى لأنه يكون موجهاً نحو كشف العلاقات بين الظواهر أو الأشياء في كليتها, فلا يعنى بما هو فردي إلا بهدف توظيفه في عملية أو عمليات عقلية تنطوي على الفهم والتفسير والتحليل والتركيب وقد تتجاوز ذلك إلى النقد والتقويم في إطار من البحث عن القوانين والمبادئ التي تنظم هذه العلاقات. وهذا النشاط يكون مركباً لأن الإنسان يحشد فيه فعاليات إرادية متعددة معتمداً على نتائج تصل إليها قدراته الإدراكية وفعالياته العقلية الأخرى من انتباه وتذكر وتخيل.
ويستخدم التفكير من حيث أنه نشاط عقلي المفاهيم والمبادئ ثم يطورها ويكتشف مفاهيم جديدة ويدخل في صميم الفعاليات والأنشطة العقلية المختلفة.
وفعالية التفكير دوماً هي ذات محتوى, فحيث يكون المرء في حالة تفكير فإنه يوجه طاقاته الذهنية ومهاراته العملية والعقلية نحو موقف محدد أو مشكلة أو شيء, والحلول التي يصلها عن هذه الطريق تتميز بكونها حلولاً ذات كفاية عالية المستوى إذا ما قيست بالحلول العفوية أو بردود الفعل الانعكاسية التي تصدر فيبعض الحالات. وكونها أكثر رقمياً من غيرها فإنها على الأغلب تؤدي إلى نتاجات توفر الوقت والجهد في إعادة استعمالها. ولأنها تتصف بالتعقيد فلا تقتصر حلولها عادة على ما هو آني ومؤقت بل تتجاوز ذلك نحو تحقيق غايات ذات طبيعة مستقبلية لأنها ذات قدرة على استبصار المستقبل والتنبؤ ببعض جوانبه والمعرفة بعواقب الأفعال, وإن اختلف الأمر من شخص لآخر. وهذا لا يعني أن المقاربات التي تحققها فعالية التفكير تكون دائماً صائبة, فهي قد تكون في بعض الأحيان مجانبه للصواب وفي أحيان أخرى قد تتراوح مقارباتها بين الصواب والخطأ.
والنشاط الفكري يمثل اليوم محط الآمال البشرية في المحافظة على وجود النوع الإنساني وفي زيادة قدرته على التكيف الإيجابي والاستمرار في تحسين ظروف الحياة, وفي أن يكون البشر أكثر قدرة على تفهمهم لمسألة استيعاب كل ما يصل الدماغ من معلومات ومعارف. فليس باستطاعة الذاكرة مهما بلغت طاقتها على الحفظ واختزان المعلومات والخبرات أن تلبي الحاجة إلى التلاؤم المتوازن مع عصر التفجر المعلوماتي والتقني..
كما أن تنشيط الفكر البشري تفرضه إضافة لما ذكر الضرورات التي ترتبت على تجاوز التفكير العلمي لتلك الأنماط التقليدية من التفكير التي سادت إلى وقت قريب وكانت غاية ما تطمح إليه موضوعية البحث, وهي أنماط ترسم التجربة حدودها وتقوم على طرائق في التفكير اعتاد الناس عليها في تطبيق بعض الأنشطة المتعلقة بالمعرفة. وقد بلغت الثقة بتلك الطرائق حداً جعل الناس يعتقدون أنها البلسم الشافي الكافي لحل كل مشكلة تعترض الطريق البشري. وكأن المرء يكفيه أن يمتلك طريقة ما أو مجموعة من الطرائق ليمتلك آلة التفكير(أورغانون أرسطو أو الأورغانون الجديد بحسب بيكون), وليحيط بكل ما يجري حوله.وما تزال كتب المنطق المدرسية تشير بنوع من القداسة إلى مثل هذه الطرائق. وهي كما نعلم تعتمد حدوداً في الاستدلال يجري تسلسلها وفق قواعد ثابتة تكون معياراً لعملية التفكير ذاتها وتقاس نتائجها من خلال قاعدة الانتقال عبر الحدود المتوسطة من مقدمات لها تسميتها وشروطها. ولكن الاستدلال بأنواعه المختلفة يتعرض اليوم للنقد بعد تلك النقلات النوعية في المعارف مما أدى إلى ما يشبه الانقلابات الجذرية في عملية حيازة المعرفة مما يعلن عن عقم الطرائق التقليدية وعدم ملاءمتها للإحاطة بآفاق المعارف والتطور العلمي سواء في علوم الرياضيات و وعلوم الطبيعة والعلوم الإنسانية.

ويمثل الإبداع بالنسبة لعمليات التفكير المختلفة

الثقافة العربية( الآفاق والاتجاهات)
لا يبعث الواقع العربي الراهن على التفاؤل,فلا جبهته الداخلية متماسكة ولا يوجد في الأفق ما يوحي بأن هذه الجبهة قادرة-من خلال الصورة المطروحة الآن للأنظمة العربية- على الخروج من وضعها المتردي. كما أن الظروف الخارجية لا تمنح الفرصة الكافية للخروج من شرنقة التبعية والتخلف والتصارع والتخبط والتكالب على فتات موائد ما يسمى بدول المركز التي تشكل أحد طرفي المعادلة على حد تعبير بعض الكتاب والطرف الآخر هو دول الأطراف أي تلك الدول المسماة بالدول النامية وإضافة لما ذكر لعل أصعب ما تواجهه الأمة العربية في معركتها لإنشاء مشروعها الثقافي يتمثل في ذلك الصراع بين دعاة التمسك بالبنى التقليدية على المستوى الثقافي التي لا تنتج إلا التخلف , ودعاة اللحاق بالمشروع الغربي والاستسلام له والذي لا ينتج سوى التبعية. فكأن المشروع الثقافي العربي في كلتا الحالتين لا ينتج سوى تخلفه أو تبعيته. وفيما يلي أهم سمات الحالة الثقافية العربية الراهنة:
1-تخلف النظم التعليمية وقلقها: فسواء نظرنا إلى هذه النظم من جهة المحتوى أم من جهة الطرائق والأساليب والوسائل وأدوات التقويم فلا نكاد نلمح في الصورة ما يبعث التفاؤل في النفس . ولعل أوضح ما تشير إليه هذه الحالة هو غياب الفلسفة التربوية العربية الموحدة, ففي الوطن العربي فلسفات تربوية لا فلسفة واحدة حتى داخل القطر الواحد. داخل النظام التربوي الواحد تداخل لفلسفات متباينة.
أما من حيث الأسس التي يقوم عليها التعليم والطرائق المتبعة فإنها لا توحي بخروج النظم التربوية العربية عن نمط التلقين وهو النمط السائد في الحياة العربية حتى خارج نطاق التعليم.وليس غريباً على أحد الممارسات التي تتبعها وسائل الإعلام المختلفة في سائر الدول العربية من محاولة زج العقول كافة في بوتقة النظام السائد وما يتبع ذلك من تعطيل للفكر واستهانة بالعقل والعواطف وأبسط الحقوق القانونية والقيم الأخلاقية .وليس ذلك فحسب فالتلقين هو النمط السائد حتى داخل الأسرة وداخل المؤسسات الرسمية وشبه الرسمية الإنتاجية منها وغير الإنتاجية.
أما التعاون بين المؤسسات التعليمية العربية فيكاد يكون معدوماً رغماً عن ظهور بعض الاتفاقيات الثقافية والتربوية بين بعض الأقطار العربية.
كما أن الصلات داخل القطر الواحد تكاد تكون مقطوعة تماماً بين المؤسسات التثقيفية كل في واديه يعمل.. فإذ يفترض التكامل بين جهود المعلمين والإعلاميين مثلاً.. يكاد هذا الأمر يكون لا وجود له بل أن أحدها يمحو ما يفعله الآخر أو يشوشه وإلا فأين دور الخبراء والفنيين التربويين في عمل المؤسسات الإعلامية؟
2-تغييب دور الفرد وفاعليته وطمس القدرات الفردية والجماعية: رغم الدعاية الرعناء وشآبيب الإعلان التي تطمرها المنظمات الرسمية وأجهزة التسلط عن العناية بالمواطن وأخذ دوره في معركة البناء والتحرير وما أشبه من شعارات , فإن المواطن غائب تماماً لأن الأنظمة القهرية لم تستطع إلا أن تطمس شخصيته وهو مصاب بالإحباط لأن سياسة إطلاق الشعارات بنبرات عالية لم تفعل شيئاً سوى خذلان هذا المواطن الذي دفع دفعاً للهرب من طاحونة الكلام وتعمية المفاهيم ليرتد نحو القيم العتيقة المخالفة لروح العصر والتي لم تعد مناسبة لطبيعة التحولات التي توصل لها العالم ,ولكنه يجد فيها مأوى أكثر طمأنينة له لأن المناخ السائد صارت أهم أسباب التكيف معه أساليب الرياء والمداهنة والخداع.فإذ لا يجد المرء أمام كل الهزائم التي مني بها والتي تتالى وفق وتيرة متسارعة سوى تسويغات وتسميات (تخرج الفكر من عقاله) . لقد حشي قاموسنا الثقافي بمفاهيم لا يقبل تعريفاتها ولا تفسيراتها . إنها مفاهيم (النصر ) التي تسوغ الهزائم ..وحيث لا يجد المواطن في كل ما وعد به من أمن وفي كل ما صور له على أنه سبيل النصر والتقدم ما يشعره بالاطمئنان والأمان فإنه ارتد باحثاً عنهما في كنف القبيلة أو الطائفة,وارتد الناس إلى تداول الخرافات وكأنها البديل لكل ما وعدوا به من إنجاز العلم والتقنية وشعارات التقدم والحياة الأفضل…
عاد الناس يحنون إلى الثقافات الغيبية المغرقة في مجافاتها للعقل والمنطق. فالتحول عن الموضوعية والتفكير العلمي والمنطق وغياب الفكر النقدي لم يكن سوى بعض نتاجات الأزمة في الثقافة العربية التي تلعب خيبة الأمل من أجهزة التثقيف العربية دوراً هاماً في تشكيلها.. وليس التحول إلى الغيبيات مجرد نكوص أو ردة فعل طبيعية, بل إن الأنظمة المفلسة تروج لمثل هذه الثقافة في عملية منظمة للإجهاز على عوامل القوة في حركة المجتمع التاريخية بتشجيع كل ما هو معاد للعقل, وتسهم في ترويج الإشاعات والخزعبلات لتستفيق الجوانب المختلفة من الثقافة حيث تصبح ظواهر ***** والشعوذة والإيمان بالغيبيات وانتظار المفاجآت للتخلص من الأزمات هي أهم ما يبرز من ثقافة المجتمع, وهكذا تستفيق مع هذه الردة المتسارعة كل العلل الاجتماعية من عشائرية ومذهبية ويرتد الناس من حالة الولاء للأمة إلى الولاء للطائفة أو العشيرة.
"الأمة التي ليس لها في شؤونها حل ولا عقد-كما يقول جمال الدين الأفغاني في العروة الوثقى- هذه الأمة التي لا تستشار في مصالحها , ولا أثر إرادتها في منافعها العمومية , وإنما هي خاضعة لحكم واحد إرادته قانون ومشيئته نظام, بحكم ما يشاء ويفعل ما يريد تلك أمة لا تثبت على حال واحد, ولا ينضبط لها سير فيعتورها الشقاء .. ويتناولها العزل والذل"(1)
بعد عرض هذه الصورة القاتمة لما يعتور الساحة الثقافية العربية التي هي بطبيعة الحال الجانب المقروء من حياة الأمة في ترديها وانهزامها .. أما من مخرج من الأزمة؟؟ وكيف للأمة أن تنفض غبار تخلفها وتبعيتها وتبني قوتها الذاتية الفاعلة من أجا مستقبل أكثر إشراقاً وأوضح سبيلاً؟
1- المراهنة على وجود الأمة(أو الأمم بعامة) أو زوال الأمم من الوجود الإنساني ليست واردة فلا يمكن لأي تلفيق ميتافيزيقي –كما قال أراغون- أن يحملنا على قبول التنازل عن هذا الواقع الحي الذي هو الأمة .. (لا يمكن أن يقوم أي تفاهم علمي على غير افتراض وجود الأمم واحترامها)
(2)

(3) عزت قرني:العدالة في النهضة العربية-ص7-سلسلة عالم المعرفة-الكويت-1980
(4) من محاضرات اليونيسكو-ترجمة سامي الدروبي-صدرت الترجمة في عدد خاص من مجلة (المعلم العربي) دمشق 1955-تحت عنوان ( في الثقافة)



يعني هذا أن بناء ثقافة عربية تسهم في تدعيم الشخصية القومية للأمة العربية من ملامحها أن تكون قادرة على التعامل مع ظروف الحياة الراهنة وهي ثقافة ينبغي لها أن تكون ثقافة الأمة لا ثقافة النخبة بخاصة وأن انتشار التعليم قد عم طبقات الأمة كافة. هذه الثقافة لا تكون خارج نطاق اللغة العربية –والمقصود بذلك بطبيعة الحال الفصحى-حيث أن المعطيات كافة تدل على قابليتها للحياة والتجدد. وحيث أن التطورات الكمية والكيفية الناتجة عن انتشار التعليم تدل على أن الفصحى ليست عسيرة على التداول بين الأقطار العربية وأن كل المراهنات السابقة –أيام الأمية شبه الكاملة- لا تجد لها مرتكزاً ذا بال ودليلنا على ذلك سقوط كل الدعوات التي انتشرت وناضلت من أجل تعميم الأدب باللغة المحكية أو الكتابة بغير الحروف العربية وغير ذلك..ثم إن الدعوة إلى ثقافة الأمة التي تتعدى حلقات النخب المثقفة إلى الساحة الواسعة للجماهير لا تعني صياغة نظريات اجتماعية أو سياسية, بقدر ما يكون هدفها هو مخاطبة عقول الجماهير وإلهاب عواطفها بلغتها, والمقصود باللغة هنا ليس اللهجات العامية طبعاً, بل الانطلاق من مفاهيم الجماهير لتنميتها وتصحيحها. ومما ييسرها اتصافها بالمرونة بحيث يكون لها فسحة كافية من الحرية تسمح بالحوار وبعمليات الاكتشاف وتنمية الإبداع والفكر المبدع. وهذا لا يتحقق عن طريق مجابهة معتقدات الجماهير بصلافة تتجاهل قوة الأفكار الراسخة والتقاليد الشعبية والعادات التي يمتد عمرها طويلاً في التاريخ ولكن الأسلوب المطلوب هو في الاقتراب من ذلك بالتدريج وباستخدام وسائل مناسبة وأساليب للإقناع.
والمشروع الثقافي المطلوب لا ينهض به فرد أو جماعة محددة بل ينبغي له أن يكون مشروعاً جماعياً يبنيه القوميون الذين إن أرادوا أن يكونوا قادرين على تمثل حركة التاريخ فلا بد لهم من التآزر والتعاون واحترام الرأي الآخر وسلوك الحوار الديمقراطي بعيداً عن أي تسلط أو عسف من فئة على أخرى. ويقتضي ذلك من الأطراف كافة وعياً بعناصر الاتفاق وتدعيمها, وتحليل عوامل الخلاف ودراستها عاملاً عاملاً بدون تشنج أو تعصب أو ادعاء الوصاية أو التزمت, ويقودنا هذا إلى ضرورة الكشف عن عورات أدبياتنا السياسية والإيديولوجية التي تراكمت في ثقافتنا القومية خلال عدد من العقود في النصف الثاني من هذا القرن بخاصة حيث سادت الخدعة ببعض الأدلجات وصار المثقف لا يجد قبولاً لأفكاره إلا إذا رصعها باستشهادات من هذا الصنم أو ذاك من أصنام الإيديولوجيا التي رسمتها السلطة الرسمية في بعض البلدان وموهت قوة الأفكار بمنجزات مادية هائلة من حيث الصورة وكما تصورها أجهزة الإعلام. وكثيراً ما استخدمت بعض النصوص كطلاء لعمليات الانتهاز والتسلق , ووسيلة للإيقاع بالآخرين بل لاتهامهم في وطنيتهم وإخلاصهم لأمتهم.
2- الوعي بخصوصية الثقافة القومية وقدرتها على تدعيم شخصية الأمة وتحصينها. ولكن ذلك لا يعني اتهام ثقافات الآخرين وإظهار العداء لكل ثقافة أخرى . فأي ثقافة تطمح للنمو وتعمل للعيش في هذا العصر لا يمكن لها أن تتنكر للآخرين وترفضهم رفضاً قاطعاً. وقد كان للثقافة العربية تجربتها مع الثقافات الأخرى , ودللت فيما مضى على مرونتها وحيويتها بأن أقبلت على الآخر –حينئذ-وتمثلت ثقافات الأمم الأخرى, دون أن تضيع خصوصيتها بل دعمت هذه الخصوصية.
وفي العصر الراهن لا يصعب على الأمة أن تجد في خبرتها الماضية الدروس التي تستفيد منها للتفاعل مع ثقافات الأمم الأخرى واستيعابها ليكون إسهامها في حضارة العصر ممكناً.ولكن هذه العلاقة مع الآخر لا يتيسر لها أن تصون الخصوصية الثقافية إن لم يكن هدفها توظيف ما تستوعبه من ثقافة العصر لخدمة الأغراض النهضوية. فالاستفادة من تفوق الحضارة المعاصرة تكنولوجياً وعلمياً وعقيدياً لا يكون بالنسج على منوال مثال ( أوروبا في العصر الحاضر وأمريكا) وإنما بنسج ثقافة تحفظ تمايزها وتستوعب التجارب, والبداية في ذلك والمنطلق يكون في فهم طبيعة العصر وفهم البيئة التي ترعرعت فيها الحضارة المعاصرة والوعي بأهم ملامح المستقبل.
3- الثقافة القومية في حفاظها على تمايزها وعنايتها بخصوصيتها تنطلق من مبدأ نهضوي يشدد على أن النهضة لا يمكن أن تبدأ من فراغ بل "لا بد لها من الانتظام في تراث , والشعوب لا تنتظم في تراث غيرها بل في تراثها هي"(1).
(2) محمد عابد الجابري: إشكالية الأصالة والمعاصرة في الفكر العربي- المستقبل العربي- ع 69-ص 61


ولكن هذا لا يعني الاعتقاد بصحة كل ما في التراث وصوابيته. بل لا بد من أن يقرأ التراث من جديد ليكون دليلاً وشاهداً على نزوع الأمة نحو الوحدة, وعاملاً من عوامل الأمن والاطمئنان على مستقبل الأمة حيث تجد نفسها في تاريخها. والأمة العربية في هذا المجال لا تفتقر إلى ما يحفظ لها هويتها ويؤكد على تواصل وجودها, ويوفر لها هذا كثيراً من الجهود التي تبذلها شعوب وأمم أخرى وهي تبحث عن جذور لها تحدد هويتها وتطمئنها على مستقبلها, فالهوية القومية والملامح الشخصية لا تبنيهما القرارات والإرادات الفوقية. ويدرك العالم المتحضر اليوم أهمية الماضي في توازن الحاضر وضمان المستقبل . ويحث المهتمون بقضايا شعوبهم ومصيرها على الاهتمام بالتاريخ ووعيه وتكوين الإحساس به لدى الأجيال لما لذلك من أهمية في الحفاظ على وحدة الشخصية القومية للأمة. فقد اعتبر الرئيس الفرنسي(ميتران) أن نقائض التاريخ تقود إلى فقدان الذاكرة الجماعية لدى الأجيال الجديدة. ففي التراث تتحصن الأمة من الذوبان في الآخر, وبوعيها له وقدرتها على الإبداع تستطيع أن تستفيد من تجارب الآخرين وتتمكن من تجديد هويتها فيصبح حاضرها استمراراً طبيعياً لماضيها وأساساً لانطلاقتها. فالتراث جزء من تاريخ الأمة وحين تفقد أمة ما ارتباطها بتراثها ستجد نفسها وقد أضاعت شخصيتها مع تاريخها وصارت لا تجارب لها تستفيد منها ولا خبرات تبني عليها خبرات جديدة..
يشرح ( جاك بيرك) أهمية التراث في حياة الأمة بقوله:
" إن الهوية لا تنفصل عن التاريخ. ولكن لكي نحافظ على الهوية عبر تتابع الأطوار التايخية لا بد من وجود ثوابت بدونها سيكون الأمر تغييراً في الكينونة. هل ثمة من يقول بوجود كائن يحل محل كائن آخر في مراحل حياة الإنسان طفلاً ومراهقاً وراشداً؟؟ أليس هو نفس الكائن الذي يتطور؟ إن ذلك ينطبق على الشعوب" (1).
(2) جاك بيرك: مقابلة أجراها بدر الدين عردوكي-الفكر العربي-ع 2- ص 281


هذا يعني إيلاء الثقافة التاريخية وتنمية الوعي بالتاريخ والحس التاريخي ما تستحق من اهتمام بحيث تسهم في تربية الناشئة وتفتيح ذهنها على وعي مفهوم الزمان, ومساعدتها على معرفة طرائق البحث التي تنير أفكارها في فهم نشأة الحضارة الإنسانية والتنبؤ بمستقبلها.وبالنسبة للإنسان العربي يكون للثقافة التاريخية دورها الذي يمكنه من إدراك أبعاد مفهوم العروبة وطبيعته المتجددة. على ألا تكون مادة هذه الثقافة التغني بأمجاد الأجداد ,بل تكون قادرة على مساعدة الشباب العربي على وعي التاريخ كونه أحد أهم عوامل تكوين الشخصية العربية والمسهم في تجديد هويتها واتجاهاتها . وليس من أهداف هذه الثقافة –مرة أخرى- إذكاء الحنين للماضي بل وعي حركة التاريخ وصلة الماضي بالراهن والمستقبل. فمثل هذه الثقافة لا يمكن لمخرجاتها أن تسهم في تحصين الشخصية القومية إن هي استمدت مادتها من مصادر تتعصب لهذه المرحلة التاريخية دون غيرها, أو لبعض المصادر المعينة بسبب من تعصبها لمذهب دون آخر. فالثقافة القادرة على الإيفاء بأهداف التربية القومية المطلوبة هي التي يكون من سماتها نقد المصادر والتعامل معها بروح نقدية موضوعية.
4- مراجعة شاملة لتراثنا الثقافي القريب, بخاصة ما أنتج منه خلال العقود الأخيرة والتعامل معه بنظرة نقدية متحررة من سلطان الدعاية والتهويش والتطرف.حدث في ميدان الفعل الثقافي ما يمكن أن نصفه بأية صفات لا تنتمي إلى الاتزان والتعقل. فقد تسابق المتبارون-من مفكرين وأحزاب- على التركيز على دور الأفكار في الفعل القومي العربي وفي الفعل السياسي بعامة من منطلقات إيديولوجية فيها الكثير من التسرع والمغالاة, وبتنا نرى ظاهرة اللعب على حبال مختلفة في الدعاية لهذه الفئة أو تلك, ولتسويغ هذا السلوك أو ذاك . وتضاربت على الساحة الثقافية الاتجاهات الماركسية(تروتكسية,ستالينية, خروتشوفية,غيفارية,غورباتشوفية……) بالاتجاهات القومية المغالية منها والمعتدلة…, بالاتجاهات الدينية المغرقة في رجعيتها والمنفتحة على العصر بهذه الدرجة أو تلك...
وغدت الساحة الثقافية ميدان مزاودات, كل فريق يسارع من خطواته للتطرف في هذا الاتجاه أو ذاك, وقد نتج عن ذلك تشرذم الفئات والأحزاب والجماعات… وغدا المجال واسعاً لبروز ثقافة طفيلية(بل ثقافات طفيلية) على حساب الثقافة القومية, مما أعطى لقوى التخريب الفرص الكافية لنشر أفكارها التي لم يكن لديها هدف إلا في تخريب المقوم الثقافي للشخصية القومية.. حتى أن مثل هذه الدعوات التي أبعدت نفسها خارج إطارها الحقيقي بتنا نجدها تتردد على ألسنة وفي كتابات أعلام ثقافية, تكرس جهوداً لا يستهان بها في تنمية نزعات (لا عروبية). فها هو ذا عميد الأدب العربي الحديث (طه حسين) في كتابه(مستقبل الثقافة المصرية) ينطلق من مبدأ أن مصر لا تدين للعرب بشيء لأنها بنت أوروبا والغرب. وهذه النزعة التي يمكن إدراجها داخل ما يسمى (النزعة المتوسطية) عمت قطاعاً واسعاً من المفكرين والأدباء.. مما حدا ببعضهم إلى المناداة بهجر الحرف العربي والفصحى ونعتهما بالعقم وعدم ملاءمتهما لطبيعة العصر..
5- النهوض بالمشروع الثقافي العربي لا يكون ممكناً إلا بوسائل عصرية تفسح المجال واسعاً للفكر المبدع الذي لا يتيسر بدون تربية تنطلق من فلسفة تؤمن بالمستقبل والتطور وتهدف إلى بناء الشخصية التي لا تستهويها في المجال الثقافي الأسماء اللمعة ذات البريق, وهذا يعني أن صورة المثقف الذي يتعصب لكل ما يقرؤه ليست هي الصورة المطلوبة, بل إنها تلك التي تعنى بالإنسان ذي الفكر النقدي. وهذا يعني تربية الناشئة على ما يمكنها التحرر من سلطة الأفكار المسبقة.
والصورة السائدة للثقافة إلى حد كبير بين مثقفينا تتمثل بحفظة النصوص الذين ما يقرؤون بعمليات استعراضية.. ثقافة النصوص مع أهميتها وما يمكن أن يمتلك صاحبها من معارف ومعلومات لا مكن الاستغناء عنها ولا إنكار وظيفتها في فهم العصر والآخر إلا أنها في حالة المغالاة لا تفسح المجال للمثقف للإسهام بإضافة وإبداع ما من شأنه أن ينهض بثقافته على المستوى الفردي على الأقل. وجل ما يستطيعه اجترار نصوص محفوظة في عصر لم يعد بحاجة لأشخاص يختزنون الأفكار والمعلومات حيث تقوم الوسائل التكنولوجية المعاصرة بهذه الوظيفة بكفاءة أكبر , ثم إن إغلاق الذهن وتعويده على الحفظ الأصم والاستذكار ببراعة ليس أكثر ,لا يخرج صاحبه من دائرة التقليد.
وقد أدركت قوى الهيمنة والاستغلال والاستعباد منذ أمد ما لهذا النمط من المثقفين من دور في لجم القدرات الإبداعية. وفي المثال التالي توضيح لما أشرنا إليه وهو ما لخصه (أنور عبد الملك) لواقع التعليم في مصر أيام الاحتلال البريطاني :
" رأى دنلوب مستشار التربية أيام اللورد (كرومر) أن الضمان الوحيد لاستعباد مصر لا يكمن في الاحتلال العسكري والاستعمار الاقتصادي , وإنما في ضرب الفكر عند المصريين في الصميم بحيث يصبح عاجزاً عن التطور والإبداع ويظل معتمداً على غيره, ورأى أن هدفه لا يتحقق إلا إذا اتجه التعليم في مراحله المختلفة نحو الحفظ دون الناقشة,والترتيل دون النقد,والمحاكاة للمرجع والأستاذ دون مناقشة وتكوين رأي مستقل فيها, واحترام الكلمة المكتوبة دون امتحانها والتصارع الفكري معها"(1).
(2) أنور عبد الملك"دراسات في الثقافة الوطنية-ص 219-دار الطليعة-بيروت 1967


لا تتلاءم ثقافة النصوص مع طبيعة العصر واتجاهاته. فلم تعد مخرجات النظم التعليمية المطلوبة(متعلمون يجيدون القراءة والكتابة فحسب), بل أن أحد أهم أهداف التربية المعاصرة يتمثل في إعداد متعلمين قادرين على الاستفادة من كونهم يقرؤون ويكتبون. لذا فإن غالبية نظم التربية والتعليم في العالم تضع اليوم في الرأس من أهدافها تنمية ثقافة المتعلمين من خلال امتلاكهم طرائق في التفكير والبحث ليكونوا قادرين على تجاوز النصوص الموجودة تحت أياديهم إلى دائرة الإبداع والتجديد , وإلى آفاق التحرر من الآراء الجاهزة والأفكار المعلبة والقيم المحفوظة.ووسيلتها في ذلك تدريب العقل على التفكير بحيث يصبح حب العلم والبحث من اتجاهاته وتدريبه على الإبداع والابتكار.
6- المشروع الثقافي العربي بأهدافه النهضوية والإبداعية ,ثمة معوقات تحد من نموه تتمثل بوسائط الاتصال الحديثة حيث أنها باتت تستخدم تقنيات متطورة جداً في عمليات تسويقها وإعدادها ..ومن حيث قدرتها على الفعل في الثقافة إن في تعميق بعض جوانبها أم في تسطيح بعضها الآخر. وأخطر ما في وسائل الاتصال الحديثة التي تغلغلت في الحياة الثقافية للبشر في مختلف البلدان والمجتمعات أنها تمتلك من أدوات التوصيل وسرعتها ومن وسائل الجاذبية والتشويق ما يجعلها ذات آثار لا يمكن تجاهلها في ثقافات الناس المختلفة . والأدهى من ذلك والأكثر خطورة كون هذه الوسائط تقع في دائرة الهيمنة والتسلط التي تستغلها في غزوها الثقافي للشعوب الأقل تقدماً ونمواً من النواحي الاجتماعية والاقتصادية.
ولعل ما يقاسيه الوطن العربي من تسلط وسائط الاتصال الحديثة من القوة بحيث لا تمكن مقارنته مع ما تقاسيه شعوب أخرى لاعتبارات كثيرة تتعلق بخطورة وأهمية الوطن العربي بالنسبة للنظام الإعلامي نظراً لغناه من حيث الثروات الطبيعية ولموقعه الجغرافي المتميز ولأنه-وهو أهم من كل ما سبق- ذو خصوصية ثقافية ذات جذور وتاريخ تتناقض إلى حد كبير مع اتجاهات ثقافة المركز المهيمن حالياً في العالم. وتتمثل مخاطر وسائط الاتصال الحديثة في تدفق المعلومات الذي لا رادع له يحمي هذه المنطقة من عمليات الاختراق الثقافي بخاصة في عصر الأقمار الصناعية وبسبب من وقوع المنطقة العربية تحت تأثير إعلاميات متباينة تتعرض لها يومياً عبر وسائل الإذاعة والتلفزة من البلدان المجاورة.(التلفزات الأوروبية المتاخمة لبلدان شمالي أفريقية, والتلفزة التركية والإيرانية المتاخمة لمناطق شمال سورية والعراق ومنطقة الخليج الغربي). مما يسهم في شيوع فوضى ثقافية عربية. ومما يزيد من خطورة ذلك غياب سياسة إعلامية عربية موحدة ناهيك عن شعور عدم الثقة في أجهزة الإعلام العربية من قبل المواطن بخاصة بسبب من خضوعها لسياسات قطرية تفتقر لعناصر التنسيق فيما بينها إضافة لاستخدامها في الدعاية لأنظمة همها تزويق نفسها وشتم الأنظمة التي تعدها منافسة لها.
ما سبق يدعونا للتأكيد على أهمية العمل الجاد الهادف إلى تحقيق مناعة إعلامية تخدم الأمن الثقافي العربي وتحافظ على اللغة العربية.
(1)
ويستلزم ذلك وجود استراتيجية عربية يتجند المثقفون للدعوة لها, تستند إلى أساس من التوجه إلى امتلاك تكنولوجيا تسمح لنا –كعرب- بدخول العصر وتوظف لإنجاز مهام ثقافية يعنى بها مختصون في مجالات الإعلام والتربية, وتستوعب الطاقات القومية وأن تكون السياسات الإعلامية والسياسات التربوية متكاملة وتعمل في اتجاه واحد(2).

(3) مصطفى المصمودي:النظام الإعلامي الجديد- ص 267- سلسلة عالم المعرفة-الكويت 1985
(4) المصدر نفسه:ص 288


الإلحاح على أهمية الخصوصية الثقافية والحفاظ على تنميتها دون أن تذوب في الثقافة المهيمنة (ثقافة المركز الغربي) مهمة قومية يتحمل مسؤوليتها المثقفون على مختلف انتماءاتهم الاجتماعية انطلاقاً من مبد(الشخصية القومية هي كائن حي) ينطبق عليها ما ينطبق على الكائنات الحية من حيث خصائص النمو واتجاهاته.ولا يمكن عزل هذا النمو عن ماضي الكائن كونه جزءاً منه. والأمة العربية شأنها في ذلك شأن أية جماعة بشرية تستبطن ماضيها. وليست الثقافة الفاعلة والقادرة على الحياة إلا تلك التي يكون من خصائصها فهم طبيعة النمو بالنسبة للأمة من خلال حل رموز تراثها وإعادة تركيب نفسها من خلال ذلك ومن خلال تركيب العناصر التي عرفتها الجماعات الأخرى في أثناء تطورها التاريخي.ولا يكون التعامل مع الثقافات الأخرى انبهاراً بها أو انصهاراً فيها كما لا يكون نفوراً منها وانفصالاً عنها, بل توظيفها في خدمة وحدة الشخصية القومية والحفاظ على مقومها الثقافي المتميز, وإدراك " ما هو قومي ليس كبعد من أبعاد الثقافة القومية فحسب بل من حيث أنه الوحيد الممكن تاريخياً في الماضي والحاضر والمستقبل"(1).
وأخيراً وليس آخراً,إن المشروع الثقافي العربي تعتوره الكثير من المخاطر والصعوبات ولكن الأمة العربية-مهما كان ليلها حالكاً- قادرة على تجاوز محنتها, ولن تعدم الوسائل الكفيلة لصد مخاطر الغزو والاختراق الثقافي الذي يستهدف وجود الأمة ذاته, وهي تستطيع عبر مشروعها الوحدوي الكبير مهما تأخر تحقيقه أن تصنع نموذجها وأن تحمي ثقافتها من الضياع وتنهض بها وتتخلص من كل مظاهر التخلف والتبعية مهما بعد الزمن..
ولعل تلمس أسباب الضعف ومواطن الخطر يقودنا للإلحاح على أهمية التفكير المبدع وتنميته في تجاوز ذلك ووضعنا على الطريق السليمة.
(1)ليلى السائح:شؤون عربية-ع 7- ص84.




أهمية الإبداع في المشروع الثقافي العربي


النزعة إلى التكرار والنقل والاتباع, ومجافاة التجديد والابتكار ظاهرة لا تخطئها العين في الحياة العربية المعاصرة. وقد تحدثت عن هذه الظاهرة ودرستها أبحاث كثيرة وأبرزت ما في حياتنا الاجتماعية والفكرية والسياسية من عدوات لدودة للإبداع والمبدعين.
وليس جديداً التأكيد اليوم على أهمية البحث عن الأساليب والطرائق والوسائل في معركة الأمة العربية وصراعها من أجل البقاء ولتمتلك القدرة على المبادرة , فالحياة المعاصرة ترذل السكون والتردد ولا ترحم أولئك الذين يديرون ظهورهم لحركة التطور ويسلمون زمام أمورهم للأقدار. فامتلاك الأمة زمام نفسها والقدرة على استخدام وامتلاك أسلحة مكافئة ومناسبة لما بلغته الحضارة المعاصرة من تطور وتقدم هي بعض وسائل مواجهة التحديات الراهنة وتراكمات العصور الماضية . ولعله من بديهيات الأمور التركيز على أهمية إنتاج الوسائل الضرورية لتثبيت الأقدام في الأجواء الدولية العاصفة, أو إعادة إنتاجها سواء كانت تلك الوسائل مما يتعلق بالمهارات أو بالمعارف أو بالقيم. ولا يعني هذا أن نرذل ما وصل إليه الآخرون من تقدم في المعارف والتقنيات , بل لا بد من العمل بهدف الوصول إلى تلك الدرجة التي يصير معها ممكناً "المشاركة في إنتاج المعرفة بوساطة استثمار النتائج العلمية الحالية والأدوات المنهجية السائدة أينما وجدت, ومحاولة التفكير فيها بما يسمح بإخصابها والمشاركة في تجارب بإعادة بنائها"(1). وإلا فلا أمل لنا في اختراق السدود وأدوات الحصار التي أحيطت بها البلدان النامية من سيادة نمط الحياة الاستهلاكية, بحيث تكتوي هذه المجتمعات بنار ذلك الأتون الرهيب الذي يصهر كل شيء ليعود ويشكله على نمط يخدم مراكز الهيمنة والاستغلال فيغدو تشييء الناس وهندسة تفكيرهم وسلوكهم واتجاهاتهم بعضاً من نتاج ضبط السلوك البشري الذي تبرمجه مخابر التسلط والاستغلال والاستهتار بقيم الشعب ومعاملة الناس كسلع في سوق الاستهلاك العالمي..
(2) كمال عبد اللطيف: صعوبات الاستعمال المنهجي للمفاهيم-الفكر العربي المعاصر-ع 47 ص 32.


وسنذكر –فيما بعد-وسائل وأساليب وتقنيات تنتجها مراكز الأبحاث والمخابر الغربية من مركز تسلطها الجديد في القارة الجديدة تهدف إلى هندسة السلوك الإنساني دون أخذ في الاعتبار لما تنطوي الشخصية الإنسانية عليه من تفرد وقيم روحية وأخلاقية. وإلا فبماذا تفسر صرعات المجتمع الرأسمالي التي يصدرها عبر وسائله التكنولوجية المتطورة وموديلاته ونماذجه؟ تأتينا على حين غرة محدثة الانبهار وهي التي لا ينقصها شيء من معرفة أساليب التشوق والإثارة, ثم ما تلبث أن تغدو زوابع بل عواصف هوجاء تلف كل شيء بتيارها الجارف فلا تدع مجالاً لتحليل أو تفكير أو نقاش فنفقد القدرة على أن نملك من أمورنا ولو النزر اليسير.. حتى العلم ومناهجه وقواعد البحث فيه تصدر جاهزة تتعامل معها مجتمعاتنا تعاملها مع المأكولات المعلبة والألبسة الجاهزة, نكررها ونمعن في تكرارها مشدوهين بما تحفل به من مزايا لم نكتشفها دون إعمال لتفكير ودونما حاجة إلى السعي لإعادة إنتاجها,فنتيه في ممارسة النقل معطلين تفكيرنا.
فمن أين لنا أن ننشد حريتنا ونحن لسنا بقادرين على "إعادة إنتاج المعايير التي يتميز بها الإبداع عن التكرار والخلق عن الاستبدال والتغيير عن التخريب"(1)؟.
(2) مطاع صفدي: عصر الاستشهاد الثقافي-الفكر العربي المعاصر-العدد 13-ص 10


من هنا يستمد تعلم الإبداع مشروعيته, فالقدرة على الفعل الحضاري وتجاوز حالة التبعية التي تتمثل بالتكرار واللهاث وراء تجارب الآخرين والانبهار بكل عناصر حضارتهم , ليسا ممكنين بدون ولادة عصر الإبداع العربي. وبلوغ أدنى درجات النجاح في صنع المشروع الحضاري الجديد ليس ممكناً إلا بامتلاك قدرات إبداعية بعيداً عن انتظار المخلص الذي يأتي من وراء الحدود, أو من عالم الغيب ليأخذ بيدنا من مستنقع الدوران حول النفس وبنفس المكان.
والمشروع الثقافي العربي بخاصة والمشروع النهضوي العربي بعامة لا يتكونان خارج إطار الاتصال والتواصل اجتماعياً وثقافياً وتاريخياً. فلم تكن عمليات التراجع والتردي التي ميزت الحياة العربية في القرون القريبة الماضية عمليات انفصام عن تاريخ الأمة وحضارتها فحسب, بل كانت انقطاعاً في عمليات الإبداع.فما أن خبا الفعل المبدع حتى سكنت الحياة العربية. واليوم فلا سبيل إلى تخطي حواجز وموانع وسدود التخلف والتبعية إلا بتنمية القدرات الإبداعية على المستويين الفردي والاجتماعي. وهذا يعني النهوض بالعلوم والسلوكية اعتماداً على دراسات حقيقية تنطلق من رؤية شاملة للبنى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية, لا الأخذ بمقاربات هذه العلوم واتجاهاتها جاهزة, لأنها في واقع الأمر نتاج استقراءات لبيئات ومجتمعات مغايرة. فلا بد من جهود جماعية متعاظمة تعمل على إعادة إنتاج هذه المقاربات ونقدها, كيما نبلغ الطمأنينة اللازمة التي تعزز خطانا على أننا سائرون على طريق صحيحة وبخطوات متماسكة. وهذا لا يعني بطبيعة الحال الابتداء من الصفر, مواصلة الطريق تحتاج إلى المزيد من المعارف, ولكن عن طريق المزيد من النقد(للوصول إلى نماذجنا وموديلاتنا الخاصة بنا) فإذا ما التقى النقد والمعرفة "قامت سلطة العلم كأعلى السلطات"(1) وهذا هو الذي قصده شاعر المكسيك (كارلوس فونتيس) في مقابلة معه:
"لقد نجمت إخفاقاتنا السابقة عن حقيقة أننا لم نكن قادرين على العثور على موديلاتنا السابقة ونماذجنا الخاصة"
(2).

(3) المصدر السابق: ص 13
(4) مجلة الكرمل: عدد 18-ص 114


ولكن المعرفة وإن كانت هي في الأساس لكل توجه,
لكنها ليست الضالة التي ننشد لديها المداواة لبعض أدوائنا وعللنا. فهي وإن كانت شرطاً ضرورياً لدفع المشروع القومي العربي إلى أمام, إلا أنها ليست بالشرط الكافي لذلك, فلا بد من الفعل الإبداعي ويكون ذلك بحفز القدرات الإبداعية كافة في الفرد والجماعة والطريق إلى ذلك هو الوعي لشخصيتنا القومية وتوفر الإرادة اللازمة للحفاظ على هويتها. فالشخص المقلد والأمة المقلدة إذ ينسخان ذاتهما عن الآخرين نسخاً فإنهما غنما يمسخان شخصيتهما مسخاً.
والخروج من دائرة التخلف والتبعية يدعونا لتعلم
الإبداع الذي لا شيء يقوم مقامه لمغالبة حمى المجتمع الاستهلاكي وأتونه فقد " علمنا التاريخ دوماً ألا سبيل لمغالبة ندرة الموارد وشحها إلا عن طريق العقل المبدع المبتكر,عن طريق المادة الرمادية , عن طريق تلك القوة الفكرية التي تقوى على استبدال مورد جديد بمورد قديم, وأن تحل طاقة بديلة مكان طاقة زائلة(….) فالعقل المبدع المبتكر هو سبيل تجديد التربية, وسبيل التغلب على أزمتها ومغالبة ما فيها من نقص الإمكانات والموارد شريطة أن تعنى التربية بتكوين ذلك العقل(….) أجيال تنتظر, وأفواه جائعة تفغر فاها,وأزمات عاصفة تلوح في الأفق, ومن رؤاها ينبغي أن نستمد العزم على أن يكون التجديد في التربية بعض رسالتنا القومية والإنسانية"(1).
فالحاجة إلى تعلم الإبداع ماسة وهي ليست محصورة فيما ذكر آنفاً فحسب, بل هي تلح لأسباب أخرى أيضاً نتلمسها فيما بعد, بعد أن نحدد طبيعة الإبداع والفكر المبدع.
(2) د.عبد الله عبد الدائم: من محاضرة له في المؤتمر الثاني لتطوير التعليم ما قبل الجامعي- دمشق 1986


طبيعة الإبداع والفكر المبدع

خلقت الحضارة المعاصرة كثيراً من النتاجات التي أدت إلى تواكل المجتمعات المتخلفة على الفتات الذي تلقيه إليها المجتمعات المتقدمة, فباتت الأولى تنتظر حلولاً جاهزة لمشاكلها تستعيرها أو تنقلها, وتطلبها من البلدان المتقدمة على شكل هبات تقدم لها أو قروض أو ما شابه ذلك.. وهي في ذلك تمعن في ابتعادها عن الإبداع وتتخذ من الاتباع والنقل والتقليد سبيلاً لها, وفي هذا ما فيه من تعميق الأسباب التي تؤدي إلى مزيد من التبعية والتخلف. ولعل المرء لا تخطئ عينه هذه النتيجة عند ملاحظة ما آلت إليه صناعات العالم النامي واقتصادياته, بخاصة عندما بنت مشاريعها التنموية على أساس من البعد الاقتصادي مهملة الجوانب الأخرى للتنمية وعلى الأخص ما يتعلق منها بنمو الكائن البشري الذي توليه البلدان المتقدمة عنايتها بحيث أن تربية الناشئة تهدف بالدرجة الأولى إلى استنهاض سائر قدراتهم الجسدية والعقلية بهدف الإسهام في عمليات البناء والنهوض الاجتماعي والاقتصادي, باحثة باستمرار عن أنسب الطرائق وأكثرها فاعلية في تعلم الإبداع وتنمية القدرات الإبداعية.
وقبل أن يلج البحث إلى الطرائق والأساليب والمبادئ التي تستند إليها التربية بالإبداع. نرى من المستحسن أن نلقي نظرة سريعة محاولين إيجاد أجوبة لبعض الأسئلة في هذا الصدد. من هو المبدع؟؟ وهل القدرة على الإبداع وقف على عدد محدود من البشر؟؟ وهل يظهر الإبداع ويتجلى الفعل المبدع بتلقائية عند صاحبه؟؟ أم أنه وليد ظروف ذاتية وأخرى موضوعية؟؟
يترتب على علاقة الإنسان بالبيئة العديد من المشكلات التي تتطلب منه البحث عن حلول لها. ونميز في الحلول التي يتعامل بها الناس مع هذه المشكلات حلولاً فيها الكثير من مظاهر الجدة والمخالفة للمألوف, وأخرى أقل حظاً من ذلك أو أنها تتوافق مع ما ألفه الناس أو أكثريتهم. ويتجلى الإبداع بصورة بديهية في تلك التي تتصف أساليبها بالجدة والابتكار.
ويكون تكيف الإنسان مع البيئة عادة في مستوى أعلى مما هو عليه عند الحيوان. أي أن تكيف الإنسان وقدرته على إيجاد حلول للمشكلات التي تعترضه هو في مستوى أعلى مما نجده عند الحيوان. بخاصة وان الإنسان لا يوظف قدرات أولية ذات طبيعة غريزية بحتة في عملية التكيف, بل إنه يوظف تفكيره. والتفكير نم حيث هو نشاط إنساني هو نشاط عقلي عالي المستوى لأنه يكون موجهاً نحو كشف العلاقات بين الظواهر أو الأشياء في كليتها, فلا يعنى بما هو فردي إلا بهدف توظيفه في عملية أو عمليات عقلية تنطوي على الفهم والتفسير والتحليل والتركيب وقد تتجاوز ذلك إلى النقد والتقويم في إطار من البحث عن القوانين والمبادئ التي تنظم هذه العلاقات. وهذا النشاط يكون مركباً لأن الإنسان يحشد فيه فعاليات إرادية متعددة معتمداً على نتائج تصل إليها قدراته الإدراكية وفعالياته العقلية الأخرى من انتباه وتذكر وتخيل.
ويستخدم التفكير من حيث أنه نشاط عقلي المفاهيم والمبادئ ثم يطورها ويكتشف مفاهيم جديدة ويدخل في صميم الفعاليات والأنشطة العقلية المختلفة.
وفعالية التفكير دوماً هي ذات محتوى, فحيث يكون المرء في حالة تفكير فإنه يوجه طاقاته الذهنية ومهاراته العملية والعقلية نحو موقف محدد أو مشكلة أو شيء, والحلول التي يصلها عن هذه الطريق تتميز بكونها حلولاً ذات كفاية عالية المستوى إذا ما قيست بالحلول العفوية أو بردود الفعل الانعكاسية التي تصدر فيبعض الحالات. وكونها أكثر رقمياً من غيرها فإنها على الأغلب تؤدي إلى نتاجات توفر الوقت والجهد في إعادة استعمالها. ولأنها تتصف بالتعقيد فلا تقتصر حلولها عادة على ما هو آني ومؤقت بل تتجاوز ذلك نحو تحقيق غايات ذات طبيعة مستقبلية لأنها ذات قدرة على استبصار المستقبل والتنبؤ ببعض جوانبه والمعرفة بعواقب الأفعال, وإن اختلف الأمر من شخص لآخر. وهذا لا يعني أن المقاربات التي تحققها فعالية التفكير تكون دائماً صائبة, فهي قد تكون في بعض الأحيان مجانبة للصواب وفي أحيان أخرى قد تتراوح مقارباتها بين الصواب والخطأ.
والنشاط الفكري يمثل اليوم محط الآمال البشرية في المحافظة على وجود النوع الإنساني وفي زيادة قدرته على التكيف الإيجابي والاستمرار في تحسين ظروف الحياة, وفي أن يكون البشر أكثر قدرة على تفهمهم لمسألة استيعاب كل ما يصل الدماغ من معلومات ومعارف. فليس باستطاعة الذاكرة مهما بلغت طاقتها على الحفظ واختزان المعلومات والخبرات أن تلبي الحاجة إلى التلاؤم المتوازن مع عصر التفجر المعلوماتي والتقني..
كما أن تنشيط الفكر البشري تفرضه إضافة لما ذكر الضرورات التي ترتبت على تجاوز التفكير العلمي لتلك الأنماط التقليدية من التفكير التي سادت إلى وقت قريب وكانت غاية ما تطمح إليه موضوعية البحث, وهي أنماط ترسم التجربة حدودها وتقوم على طرائق في التفكير اعتاد الناس عليها في تطبيق بعض الأنشطة المتعلقة بالمعرفة. وقد بلغت الثقة بتلك الطرائق حداً جعل الناس يعتقدون أنها البلسم الشافي الكافي لحل كل مشكلة تعترض الطريق البشري. وكأن المرء يكفيه أن يمتلك طريقة ما أو مجموعة من الطرائق ليمتلك آلة التفكير(أورغانون أرسطو أو الأورغانون الجديد بحسب بيكون), وليحيط بكل ما يجري حوله.وما تزال كتب المنطق المدرسية تشير بنوع من القداسة إلى مثل هذه الطرائق. وهي كما نعلم تعتمد حدوداً في الاستدلال يجري تسلسلها وفق قواعد ثابتة تكون معياراً لعملية التفكير ذاتها وتقاس نتائجها من خلال قاعدة الانتقال عبر الحدود المتوسطة من مقدمات لها تسمياتها وشروطها. ولكن الاستدلال بأنواعه المختلفة يتعرض اليوم للنقد بعد تلك النقلات النوعية في المعارف مما أدى إلى ما يشبه الانقلابات الجذرية في عملية حيازة المعرفة مما يعلن عن عقم الطرائق التقليدية وعدم ملاءمتها للإحاطة بآفاق المعارف والتطور العلمي سواء في علوم الرياضيات و وعلوم الطبيعة والعلوم الإنسانية.

ويمثل الإبداع بالنسبة لعمليات التفكير المختلفة






أهمية الإبداع في المشروع الثقافي العربي


النزعة إلى التكرار والنقل والاتباع ، ومجافاة التجديد والابتكار ظاهرة لا تخطئها العين في الحياة العربية المعاصرة . وقد تحدثت عن هذه الظاهرة ودرستها أبحاث كثيرة وأبرزت ما في حياتنا الاجتماعية والفكرية والسياسية من عدا وات لدودة للإبداع والمبدعين.
وليس جديدا التأكد اليوم على أهمية البحث عن الأساليب والطرائق والوسائل في معركة الأمة العربية وصراعها من أجل البقاء ولتمتلك القدرة على المبادرة ، فالحياة المعاصرة ترذل السكون والتردد ولا ترحم أولئك الذين يديرون ظهورهم لحركة التطور ويسلمون زمام أمورهم للأقدار فامتلاك الأمة زمام نفسها ، والقدرة على استخدام وامتلاك أسلحة مكافئة ومناسبة لما بلغته الحضارة المعاصرة من تطور وتقدم هي بعض وسائل مواجهة التحديات الراهنة وتراكمات العصور الماضية ولعل من بديهيات الأمور التركيز على أهمية إنتاج الوسائل الضرورية لتثبيت الأقدام في الأجواء الدولية العاصفة ، أو إعادة إنتاجها سواء كانت تلك الوسائل مما يتعلق بالمهارات أم بالمعارف أم بالقيم. ولا يعني هذا أن نرذل ما وصل إليه الآخرون من تقدم في المعارف والتقنيات، بل لا بد من العمل بهدف الوصول إلى تلك الدرجة التي يصير معها ممكناَ << المشاركة في إنتاج المعرفة بوساطة استثمار النتائج العلمية الحالية والأدوات المنهجية السائدة أين وجدت ، ومحاولة التفكير فيها بما يسمح بإخصابها والمشاركة في بإعادة بنائها>>
وإلا فلا لأمل لنا في اختراق السدود وأدوات الحصار التي أحيطت بها البلدان النامية من سيادة نمط الحياة الاستهلاكي والحضارة الاستهلاكية، بحيث تكتوي هذه المجتمعات بنار ذلك الأتون الرهيب الذي يصهر كل شئ ليعود ويشكله على نمط يخدم مراكز الهيمنة والاستغلال فيغدو تشي الناس وهندسة تفكيرهم وسلوكهم واتجاهاتهم بعضاَ من نتاج ضبط السلوك البشري الذي تبرمجه مخابر التسلط والاستغلال والاستهتار بقيم الشعب ومعاملة الناس كسلع في سوق الاستهلاك العالمي...
وسنذكر – فيما بعد – بوسائل وأساليب وتقنيات تنتجها مراكز الأبحاث والمخابر الغربية من مركز تسلطها الجديد في القارة الجديدة تهدف إلى هندسة السلوك الإنساني دون أخذ في الاعتبار لما تنطوي الشخصية الإنسانية عليه من تفرد وقيم روحية وأخلاقية. وإلا فبماذا تفسر صرعات المجتمع الرأسمالي التي يصدرها عبر وسائله التكنولوجية المتطورة وموديلاته ونماذجه؟ تأتينا على حين غرة محدثة الانبهار وهي التي لا ينقصها شيء من معرفة أساليب التشويق والإثارة ,ثم ما تلبث ان تغدو زوابع بل عواصف هوجاء – تلف كل شيء بتيارها الجارف فلا تدع مجالا لتحليل أو تفكير فنفقد القدرة على إن نملك من أمورنا ولو النزر اليسير..حتى العلم ومناهجه وقواعد البحث فيه تصدر جاهزة تتعامل معها مجتمعاتنا تعاملها مع المأكولات المعلبة والألبسة الجاهزة, نكررها ونمعن في تكرارها مشدوهين بما نحفل به من مزايا لم نكتشفها دونما إعمال لتفكير ودونما حاجه إلى السعي لإعادة إنتاجها, فنتيه في ممارسة النقل معطلين تفكيرنا ..
فمن أين لنا أن ننشد حريتنا ونحن لسنا بقادرين على <<إعادة إنتاج المعايير التي يتميز بها الإبداع عن التكرار والخلق عن الاستبدال والتغيير عن التخريب >> ؟ .
من هنا يستمد تعلم الإبداع مشروعيته,فالقدرة على الفعل الحضاري وتجاوز حالة التبعية التي تتمثل بالتكرار واللهاث وراء منجزات الآخرين والانبهار بكل عناصر حضارتهم, ليسا ممكنين بدون ولادة عصر الإبداع العربي . وبلوغ أدنى درجات النجاح في صنع المشروع الحضاري الجديد ليس ممكناً إلا بامتلاك قدرات إبداعية بعيداً عن انتظار المخلص الذي يأتي من وراء الحدود, أو من عالم الغي ليأخذ بيدنا من مستنقع الدوران حول النفس وبنفس المكان.

والمشروع الثقافي العربي بخاصة والمشروع النهضوي العربي بعامة لا يتكونان خارج إطار الاتصال والتواصل اجتماعياَ وثقافياَ وتاريخياَ. فلم تكن عمليات التراجع والتردي التي ميزت الحياة العربية في القرون القريبة الماضية عمليات انفصام عن تاريخ الأمة وحضارتها فحسب ، بل كانت انقطاعاَ في عملية الإبداع . فما أن خبا الفعل المبدع حتى سكنت الحياة العربية. واليوم فلا سبيل إلى تخطي حواجز وموانع وسدود التخلف والتبعية إلا بتنمية القدرات الإبداعية على المستويين الفردي والاجتماعي. وهذا يعني النهوض بالعلوم السلوكية اعتماداَ على دراسات حقيقية تنطلق من رؤية شاملة للبنى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، لا الأخذ بمقاربات هذه العلوم واتجاهاتها جاهزة، لأنها في واقع الأمر نتائج استقرءات لبيئات ومجتمعات مغايرة. فلا بد من جهود جماعية متعاظمة تعمل على إعادة إنتاج هذه المقاربات ونقدها، كيما نبلغ الطمأنينة اللازمة التي تعزز خطانا على أننا سائرون على طريق صحيحة وبخطوات متماسكة . وهذا لا يعني بطبيعة الحال الابتداء من الصفر، مواصلة الطريق تحتاج إلى مزيد من المعارف ولكن عن طريق المزيد من النقد( للوصول إلى نمازجنا و موديلاتنا الخاصة بنا) فإذا ما التقى النقد والمعرفة << قامت سلطة العلم كأعلى السلطات>> وهذا الذي قصده شاعر المكسيك ( كار لوس فونتيس) في مقابلة معه
<<لقد نجمت إخفاقاتنا السابقة عن حقيقة أننا لم نكن قادرين على العثور على موديلاتنا السابقة ونماذجنا الخاصة>>. ولكن المعرفة وإن كانت هي في الأساس لكل توجه ، لكنها ليست الضآلة التي تنشد لديها المداواة لبعض أدوائنا وعللنا.
فهي وإن كانت شرطا ضروريا لدفع المشروع القومي العربي إلى أمام ، إلا أنها ليست بالشرط الكافي لذلك ، فلا بد من الفعل الإبداعي ويكون ذلك بحفز القدرات الإبداعية كافة في الفرد والجماعة والطريق إلى ذلك هو الوعي لشخصيتنا القومية وتوفر الإرادة اللازمة للحفاظ على هويتها. فالشخص المقلد والأمة المقلدة إذ ينسخان ذاتهما عن الآخرين نسخاَ فإنهما إنما يمسخان شخصيتهما مسخاَ...

والخروج من دائرة التخلف والتبعية يدعونا لتعلم الإبداع الذي لا شيء يقوم مقامه لمغالبة حمى المجتمع الاستهلاكي وأتونه فقد << علمنا التاريخ دوما ألا سبيل إلى مغالبة ندرة الموارد وشحها إلا عن طريق العقل المبدع المبتكر ، وعن طريق المادة الرمادية، عن طريق تلك القوة الفكرية التي تقوى على استبدال مورد جديد بمورد قديم وأن تحل طاقة بديلة مكان طلقة زائلة(...) فالعقل المبدع المبتكر هو سبيل تجديد التربية، وسبيل التغلب على أزمتها ومغالبة ما فيها من نقص الإمكانات والموارد شريطة أن تعني التربية بتكوين ذلك العقل(...) أجيال تنتظر، وأفواه جائعة تفغر فاها وأزمات عاصفة تلوح في الأفق ، ومن رؤاها ينبغي أن نستمد العزم على أن يكون التجديد في التربية بعض رسالتنا القومية والإنسانية>>
فالحاجة إلى تعلم الإبداع ماسة وهي ليست محصورة فيما ذكر آنفاَ فحسب، بل تلح لأسباب أخرى أيضاَ نتلمسها فيما بعد ، بعد أن نحدد طبيعة الإبداع والفكر المبدع.

طبيعة الإبداع والفكر المبدع


خلقت الحضارة المعاصرة كثيراَ من النتاجات التي أدت إلى تواكل المجتمعات المتخلفة على الفتات الذي تلقيه إليها المجتمعات المتقدمة ، فباتت الأولى تنتظر حلولاَ جاهزة لمشاكلها تستعيرها أو تنقلها ، وتطلبها من البلدان المتقدمة على شكل هبات تقدم لها أو قروض وما شابه ذلك ..
وهي في ذلك تمعن في ابتعادها عن الإبداع وتتخذ من الأتباع والنقل والتقليد سبيلاَ لها وفي هذا ما فيه من تعميق الأسباب التي تؤدي إلى مزيد من التبعية والتخلف. ولعل المرء لا تخطئ عينه هذه النتيجة عند ملاحظة ما آلت إليه صناعات العالم النامي واقتصادياته ، بخاصة عندما بنت مشاريعها التنمية على أساس من البعد الاقتصادي مهملة الجوانب الأخرى للتنمية وعلى الأخص ما يتعلق منها بنمو الكائن البشري الذي توليه البلدان المتقدمة عنايتها بحيث أن تربية الناشئة تهدف بالدرجة الأولى إلى استنهاض سائر قدراتهم الجسدية والعقلية بهدف الإسهام في عمليات البناء والنهوض الاجتماعي والاقتصادي ، باحثة باستمرار عن أنسب الطرائق وأكثرها فاعلية في تعلم الإبداع وتنمية القدرات الإبداعية.

وقبل أن يلج إلى الطرائق والأساليب والمبادئ التي تستند إليها التربية بالإبداع ، نرى من المستحسن أن نلقي نظرة سريعة محاولين إيجاد أجوبة لبعض الأسئلة في هذا الصدد. من هو المبدع؟ وهل القدرة على الإبداع وقف على عدد محدود من البشر؟ وهل يظهر الإبداع أو يتجلى الفعل المبدع بتلقائية عند صاحبه؟ أم أنه وليد ظروف ذاتية وأخرى موضوعية؟
يترتب على علاقة الإنسان بالبيئة العديد من المشكلات التي تتطلب منه البحث عن حلول لها . ونميز في الحلول التي يتعامل بها الناس مع هذه المشكلات حلولاَ فيها من مظاهر الجدة والمخالفة للمألوف، وأخرى أقل حظاَ من ذلك أو أنها تتوافق مع ما ألفه الناس أو أكثريتهم. ويتجلى الإبداع بصورة بديهية في تلك التي تتصف أساليبها بالجدة والابتكار
ويكون تكيف الإنسان مع البيئة عادة في مستوى أعلى مما هو عليه عند الحيوان.
أي أن تكيف الإنسان وقدرته على إيجاد حلول للمشكلات التي تعترضه هو في مستوى أعلى مما نجده عند الحيوان . بخاصة وأن الإنسان لا يوظف قدرات أولية ذات طبيعة غريزية بحتة في عملية التكيف، بل إنه يوظف تفكيره. والتفكير من حيث هو نشاط إنساني هو نشاط عقلي عالي المستوى لأنه يكون موجهاَ نحو كشف العلاقات بين الظواهر أو الأشياء في كليتها ، فلا يعنى بما هو فردي إلا بهدف توظيفه في عملية أو عمليات عقلية تنطوي على الفهم والتفسير والتحليل والتركيب وقد تتجاوز ذلك إلى النقد والتقويم في إطار من البحث عن القوانين والمبادئ التي تنظم هذه العلاقات . وهذا النشاط يكون مركباَ لأن الإنسان يحشد فيه فعاليات إرادية متعددة معتمداَ على نتائج تصل إليها قدراته الإدراكية وفعالياته العقلية الأخرى من انتباه وتذكر وتخيل.
ويستخدم التفكير ، من حيث أنه نشاط عقلي، المفاهيم والمبادئ ثم يطورها ويكتشف مفاهيم جديدة ويدخل في صميم الفعاليات والأنشطة العقلية المختلفة.
وفعالية التفكير دوماَ هي ذات محتوى ، فحيث يكون المرء في حالة تفكير ، فإنه يوجه طاقاته الذهنية ومهاراته العملية والعقلية نحو موقف محدد أو مشكلة أو شيء، والحلول التي يصلها عن الطريق تتميز بكونها حلولا ذات كفاية عالية المستوى إذا ما قيست بالحلول العفوية أو بردود الفعل الانعكاسية التي تصدر في بعض الحالات. وكونها أكثر رقمياَ من غيرها فإنها على الأغلب تؤدي إلى نتاجات توفر الوقت والجهد في إعادة استعمالها . ولأنها تتصف بالتعقيد فلا تقتصر حلولها عادة على ما هو آني ومؤقت بل تتجاوز ذلك نحو تحقيق غايات ذات طبيعة مستقبلية لأنها ذات قدرة على استبصار المستقبل والتنبؤ ببعض جوانبه والمعرفة بعواقب الأفعال وإن اختلف الأمر من شخص لآخر . وهذا يعني أن المقاربات التي تحققها فعالية التفكير تكون دائما صائبة، فهي قد تكون في بعض الأحيان مجانبة للصواب وفي أحيان أخرى قد تتراوح مقارباتها بين الصواب والخطأ .
والنشاط الفكري يمثل اليوم محط آمال البشرية في المحافظة على وجود النوع الإنساني وفي زيادة قدرته على التكيف الإيجابي والاستمرار في تحسين ظروف الحياة, وفي أن يكون البشر أكثر قدرة على تفهمهم لمسألة استيعاب كل ما يصل الدماغ من معلومات ومعارف. فليس باستطاعة الذاكرة مهما بلغت طاقتها على الحفظ واختزان المعلومات والخبرات أن تلبي الحاجة إلى التلاؤم المتوازن مع عصر التفجر المعلوماتي والتقني .....

كما أن تنشيط الفكر البشري تفرضه إضافة لما ذكر الضرورات التي ترتبت على تجوز التفكير العلمي لتلك الأنماط التقليدية من التفكير التي سادت إلى وقت قريب وكانت غاية ما تطمح إليه موضوعات البحث, وهي أنماط ترسم التجربة حدودها وتقوم على طرائق في التفكير اعتاد الناس عليها في تطبيق بعض الأنشطة المتعلقة بالمعرفة. وقد بلغت الثقة بتلك الطرائق حداَ جعل الناس يعتقدون أنها البلسم الشافي الكافي لحل كل مشكلة تعترض النشاط البشري.وكأن المرء يكفيه أن يمتلك طريقه ما أو مجموعة من الطرائق ليمتلك آلة التفكير ( اورغانون أر سطو,أو الأرغانون الجديد بحسب بيكون), وليحيط بكل ما يجري حوله. وما تزال كتب المنطق المدرسية تشير بنوع من القداسة إلى مثل هذه الطرائق. وهي كما نعلم تعتمد حدوداَ في الاستدلال يجري تسلسلها وفق قواعد ثابتة تكون معياراَ لعملية التفكير ذاتها وتقاس نتائجها من خلال قاعدة الانتقال عبر الحدود المتوسطة من مقدمات لها تسمياتها وشروطها. ولكن الاستدلال بأنواعه المختلفة يتعرض اليوم للنقد بعد تلك النقلات النوعية في المعارف مما أدى إلى ما يشبه الانقلابات الجذرية في حيازة المعرفة مما يعلن عن عقم الطرائق التقليدية وعدم ملاءمتها للإحاطة بآفاق المعارف والتطور العلمي سواء في علوم الرياضيات وعلوم الطبيعة والعلوم الإنسانية.
ويمثل الإبداع بالنسبة لعمليات التفكير المختلفة أعمق وأوسع وأعقد نوع من أنواعها,
وهو ما يسوغ الاختلاف في تحديد طبيعته. فقد عده بعض الباحثين شكلاَ من أشكال الذكاء العالي , أو أنه الذكاء في أعلى مستوياته, ولكنه يجاوز الذكاء. فإذا كان الذكاء يمثل القدرة على حل المشكلات , فإن الإبداع يتجاوز ذلك إلى شق دروب جديدة وخلق عوامل مبتكرة مباينة للمألوف . لذلك, وتمييزاَ له عن الذكاء , يصطلح البعض أن يسميه بالذكاء المباعد أو المخالف, بينما يطلق على الذكاء في مستواه المألوف الذكاء المقارب الذي يعتمد في مواجهته للمشكلات على أساليب مألوفة, أما الإبداع فهو أقل التزاماَ بالمألوف ولا ينحصر عادة بالاستجابة الحيدة وإنما باستجابات مفتوحة . وبذلك يكون الإبداع بحاجة إلى نوع من التفكير – إن صحت العبارة – منطلقاَ متشعباَ يبحث عن استجابات وحلول ليست مما تألفه أو تعتمد عليه أسئلة اختبارات الذكاء المألوفة. مما تقدم يكون الإبداع قفزة فوق الروابط المنطقية المتعرف عليها لأنه يتجلى باستجابات جديدة, أو أنه كما يقول ( اينشتاين): <<لعبة المزج بين عناصر وصيغ جديدة >>. أو كما عبر عنه ويلسون على أنه:<<شيء مبتكر نحكم عليه في ضوء محك اجتماعي, بمعنى أنه جديد بالنسبة للمجتمع, وفي محك نفسي, بمعنى أنه جديد بالنسبة للشخص نفسه>>(1).
(1) من أجل تعريف الإبداع راجع مصطفى حجازي: التفكير الابتكاري – الفكر العربي – العدد 21 – ص 327.

------- 86 --------------------


وليس الإبداع وقفاَ على مجال واحد من مجالات السلوك والتفكير, لذلك فوصفه على أنه مهارة عقلية ليس دقيقاَ لأنه يتضمن إضافة إلى ذلك تجليات ذات طبيعة وجدانيه كالقدرة على الإحساس بالمشكلات. وأنه لمن المعروف لدى الناس أن المبدع يمتاز بحساسية مرهفة وقدرة على الإدراك الدقيق للثغرات والإحساس بالمشكلات وإثارتها.
ويكشف الباحثون في التحليل العاملي للإبداع عن عدد من الصفات يمتاز بها المبدعون منها :

1—القدرة على إنتاج أكبر عدد من الأفكار المبتكرة ويوصف المبدع بسيولة الأفكار وسهولة توليدها.
2--- القدرة على تغيير الحالة الذهبية وفقاَ لتغيير المواقف, وذلك على عكس ما نجده عند أولئك الذين تتصف استجاباتهم بالتصلب والعناد والتشبث بحلول معينة لا يبارحونها.
3--- يكتشف المبدع في الموقف مالا يستطيعه الآخرون. ويمتاز تفكيره بالانفتاح على البيئة والقدرة على رؤية المشكلات ورهافة الحساسية بها.
4--- الابتعاد عن المألوف والحلول التقليدية وعدم تكرار أفكار الآخرين.
5---- الربط بين جوانب الخبرة وإعادة بنائها بنا جديداَ يثير في معظم الأحيان معارضة الناس وعداواتهم. ويحدث تاريخ العلوم والآداب والفنون عن العديد من الحالات التي كان يناصب بها الناس المبدعين, ويعرضونهم للخطر.
6 --- يمتاز المبدعون بالقدرة على مواصلة الاتجاه الذي يسهم في تشكيل أدائهم الإبداعي, ولا يتفق ذلك إلا لمن يكون بذل الجهد ومواصلة العمل بعضاَ من الصفات التي يتمتع بها.

والآن كيف نفسر طهور هذه القدرات عند الإنسان المبدع؟ هل هي نتاج وراثي؟ أم أنها نتائج لعوامل أخرى لا يمكن ردها لعوامل الوراثة, أو القول أنها هبة من هبات الطبيعة...؟

في عرض القدرات التي ينطوي عليها الفعل المبدع أو المبتكر وجدنا أن الإبداع هو في أحد جوانبه قدرات معرفية تتطلب ثراء في المعلومات وتنوعاَ في المعارف. أما الجوانب الأخرى في الفعل المبدع , أو الشروط التي تساعد على ظهوره فمنها دوافع الإنسان , هذه الدوافع التي جعل( ماسلو)على رأسها أو في أعلى الهرم منها ( دوافع تحقيق الذات) الذي عده مصدراَ للإبداع. فالفعل المبدع بحسب ذلك يمثل التعبير عن تحقيق الذات الذي يجعل الإنسان في صراع مع بيئته مما يحفزه على الابتكار لا في مجال واحد فحسب, بل في مجالات وأنشطة مختلفة ومتنوعة. ووفقاَ لذلك يكون المبدعون متقبلين لأنفسهم يثقون بها ن ويعتمدون عليها, ويتمتعون بالصحة النفسية والكامل النفسي.

أما ( روجرز) فإنه يرى مصدر الفعل المبدع في ميل الإنسان ليحقق ذاته ويستغل أقصى إمكاناته, ويضيف أن خبرته في مجال العلاج النفسي أثبتت له أن الشخص عندما يتفتح أمام كل خبرته يصبح سلوكه إبداعياَ,ويكون إبداعه بناءَ مما يساعده على الشفاء.(1)

والقدرات الإبداعية – كما هو معروف – تتفجر انطلاقاَ من رغبة جامحة تطغى على سائر اهتمامات صاحبها, فتشحذ همته, وتحفزه على الابتكار. ولا يفوتنا هنا التذكير بأن الإبداع ليس جهداَ فردياَ فحسب, بل قد يكون نتيجة جهد جماعي. فالجماعة التي تجد نفسها أمام تحديات خارجية أو داخلية, ولو لم يتوفر لها العباقرة, تجعلها قوة الدافع قادرة على شحن أعضائها وإثارة الحماسة في نفوسهم.فإن صدر الإبداع عن فرد أو أفراد لكنه يظل فعلاَ جماعياَ, فإذا لم تشحن الجماعة الفرد أو الأفراد وتعزز فيهم الحاجة إلى الابتكار فلا جدوى من كل الخطط والخطب.
(1)—حسن أحمد عيسى: الإبداع في العلم والفن –ص 82- سلسلة عالم المعرفة- الكويت ت 2 1980.

----------- 88 -----------
ويعلل –جاك أتالي)(1) نهضة بعض البلدان وتفوقها على غيرها بالتحديات التي تفرضها البيئة على البشر ويعطي على ذلك أمثلة منها:
<< امستردام التي كانت تنقصها المساحات الكافية من الأرض لإنتاج القمح طورت في القرن السابع عشر صناعة الملونات, ولندن التي كان يعوزها فحم الحطب ابتدعت بنجاح الآلة البخارية..>>(2)
<< أسباب الصعود الياباني المدهش هي في جوهرها ثقافة(...) ضيق المساحة القابلة للسكن دفع إلى إنتاج الأشياء الصغيرة الحجم, والخوف من العزلة أدى إلى تطوير وسائل الاتصال. وقلة مصادر الطاقة إلى البحث من بدائل إعلامية للانتقال. وتواتر الهزات الأرضية إلى تطوير أشياء خفيفة الوزن سهلة النقل, قليلة الكلفة, سهلة التبديل. وأخيراَ تعلمت اليابان من تاريخها الطويل المتميز بالعنف كيف تدير التبادلات بطريقة ناجعة.

هذه الخصائص الثقافية تجعل اليابان تعتمد على المستقبل, فالادخار يتقدمالاستثمار, والتصدير يتقدم الاستيراد, والشبكات التجارية تتقدم على التجهيزات الجماعية>>.(3)

فللفعل المبدع أيضاَ شروطه الاجتماعية إذا. فالمجتمع بما يملكه من مصادر وتحديات يفتح القدرات الإبداعية وييسر للمبدعين إتيانهم بالجديد بخاصة حين لا يكون هذا المجتمع مثبطاَ للهمم , ساخراَ بالجديد, مضيفاَ على المجددين, وائداَ لكل سلوك أو فعل أو فكرة لا تتفق مع ما استقر لديه من عادات وأفكار وتقاليد.

(1) جاك أتالي مستشار الرئيس الفرنسي ميتران. والفقرات منقولة عن كتابه( آفاق المستقبل) ترجمة: محمد زكريا اسماعيل –دارللملايين – نيسان 1991.
(2)- المصدر نفسه ص 58.
(3)- المصدر نفسه ص 90 – 91 .

--------------- 89 --------------------
ونعود إلى الشروط الذاتية لظهور الفعل المبدع وهي المتعلقة بسمات الشخصية التي يفترض فيها الصحة النفسية والتكامل والتوافق,على عكس ما كان سائداَ – أو أنه ما يزال لدى بعض الناس – من أن المبدعين ما هم إلا أنصاف مجانين أو أكثر من ذلك.
فكون الإبداع بحاجة إلى الجهد والقدرة على مواصلة الاتجاه يشترط المزاج المستقر عند الشخص بخاصة في فترات العمل, وتوافر العاطفة المتأججة وهما بعض أسس الخلق والابتكار. إلا أن الانفعال إذا تعدى درجة معينة – وهي تختلف من شخص لأخر – يصبح له دور سلبي يتمثل في كف الإنجاز لأن السلوك يصبح مضطرباَ ومشتتاَ لا يمكن الإنسان من مواصلة العمل ومتابعة بذل الجهد.
وكذلك الأمر بالنسبة للقلق فهو في حدود معقولة يشكل عنصراَ باعثاَ للجهد, ولكنه إن تعدى ذلك يصبح عائقاَ.
وأخيراَ لا ننسى ما للشغف بالموضوع عند الشخص من قدرة على الربط بين المبدع وعمليات الإبداع, وهذا الحب يدفع بالمرء لأن يظل متعلقاَ بموضوعه دائباَ على العمل بهدف إنجاز الحلول التي يرضاها له .
الحاجة إلى تعلم الإبداع
الفجوة الواسعة بيننا وبين الدول المتقدمة تعيدنا باستمرار إلى السؤال: متى وكيف ؟ متى نستطيع أن نواكب التقدم التكنولوجي الذي بلغته البشرية؟ كيف يتسنى لنا أن نتجاوز تخلفنا وتبعيتنا؟
لعل هذا السؤال هو من أهم الموجبات للقول بأنا أحوج ما نكون إلى تعلم الإبداع, وهذا لا يعني كما قد يتبادر إلى الذهن البحث عن تلك الطرائق والأساليب التي تفجر الطاقات الإبداعية التي قلما يخلو منها إنسان.
تضعنا الحضارة المعاصرة وما تتصف به من تقدم وتفجر على المستويين المعرفي والتكنولوجي أمام مسؤولية البحث عن طرائق اللحاق بركب التغيير المذهل هذا من جهة , ومن جهة ثانية فالحضارة المعاصرة غنية بالأسباب والمشكلات التي يقتضي التعامل معها أن نكون جماعة وأفراد قادرين على التكيف الإيجابي معها. من هذه الأسباب والمشكلات:
أولاَ --- بلغت الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية درجات عالية من التعقيد والتشابك)
وتعدد المظاهر والمشكلات الناجمة والمعبرة عنها وتقتضي هذه المسألة وجود عقول غير عادية تتعامل معها بإيجابية, وهذا ما يسوغ الدعوة للبحث عن حلول مثمرة سريعة للمشكلات المطروحة, أي أن هذا العصر تتطلب مشكلاته مستويات من التفكير والسلوك تمتاز بالقدرة على الابتكار. والمشكلات التي يعاني منها العالم المعاصر تتمثل في :

1- مشاكل التلوث والحاجة الماسة لبيئة سليمة, والتلوث قد غدا اليوم مشكلة حقيقية تنذر الكون بأوخم العواقب التي تطال ., إضافة الحاجات الإنسان الأساسية من ماء وهواء وغذاء , وجود الإنسان على سطح المعمورة.
2- التنافس في مجال الإسراف بالطاقة وما ينتج عنه من أسباب تدعو للبحث لابتكار وسائل أكثر شجاعة في ترشيد الاستهلاك, وما يتفرع عن ذلك من مشكلات التفاوت بين الدول المصدرة للطاقة والمستوردة الرئيسية لها وبينها وبين الدول الفقيرة.
3- مخاطر انتشار الحروب الإقليمية التي فجرتها مرحلة ما بعد الحرب الباردة وانهيار أحد طرفي الصراع الرئيسيين فيها. وهذه الحروب التي تنذر في النهاية بحرب شاملة على مستوى العالم في لحظة قد لا يحسب حسابها. وقد تأتي مفاجئة لأن ما أمكن تسويقه في حل بعض المشكلات منطقياَ قد لا يجد مما سيؤدي إلى انتكاسات على المستوى الدولي لا يمكن إيجاد حلول كافية لها ورب شرارة سببت حريقاَ غير متوقع.
4- ما يطرحه ما أخذ يعرف بالنظام الدولي الجديد من أسباب الهيمنة من مركز واحد والمخاطر المترتبة على ذلك والتي تتمل بالنسبة لمنطقتنا بمزيد من الانتهاك لأسباب تطورنا, والوقوف بشراسة ضد أية بادرة تنم عن قدرتنا على النهوض.

وهذا ما يعني أن وسائلنا التقليدية التي تثبت عجزها في معالجة أوضاعنا ومشكلاتنا في ظروف سابقة أصبحت اليوم أشد عجزاَ مما كانت عليه, بل أنها قد برهنت على أنها تجديف ضد تيار الأحداث. وتجديف العاجز.
5- المواجهة الحادة بين الشمال ودول الجنوب وتجاهل الثانية من حيث حقوقها من معطيات العصر وإغراقها بالديون. والفروق الحادة داخل هذه المجموعة الثانية بين الأغنياء والفقراء, وبين من هم في سدة السلطة ومن هم في القاع السياسي والاجتماعي, وما ينجم عن مثل هذا الواقع من عنف وقمع واستغلال وتمييز عنصري وطائفي وتقاتل ديني وسياسي وما إلى ذلك من مشكلات وصعوبات اجتماعية... كل ذلك يعني الحاجة إلى حلول جريئة وغير عادية لا سبيل إليها بوسائل التفكير القديمة.

ثانياَ—تسارع التقدم المعرفي والتكنولوجي, ونمو وسائل الاتصال وتنوعها, هذا التسارع الذي لا مندوحة لأية أمة من الأمم, مهما كان نصيبها من المشاركة فيه, من أن تقع تحت تأثير نتائجه بشكل أو بآخر.فأما أن تتكيف معه بالسرعة المطلوبة, وتتفاعل معه أخذاَ وعطاء وإما أن تنفعل به فتكون كمن يصاب بالدوار لا يدري يساره من يمينه ولا فوقه من تحته. وفي كتابه ( صدمة المستقبل) يصف (آلن توفلر) بعض ملامح هذا التسارع ومخاطره المرتقبة على البشرية فيقسم الخمسين ألف سنة الأخيرة من حياة الإنسان علة الأرض إلى (800) دورة , مدة كل منها ( 62) سنة منها 650 دورة أمضاها الإنسان قاطناَ في الكهوف والمغاور, ومعظم الأدوات والمنتجات التي يستخدمها البشر حالياَ قد كانت من نتاج الدورة الأخيرة من الدورات الثمانمائة المذكورة. (1)
وهناك تصنيف آخر يبرز التزايد المدهش في المعرفة البشرية يجد أن المعرفة قديماً قد احتاجت لتتضاعف مدة 1750 سنة,ولكنها تضاعفت بعد ذلك في مدة 150 سنة, وفي المرة الثالثة حصل ذلك في مدة 50 سنة,أما في المرة الرابعة فقد تضاعفت المعرفة في مدة 10 سنوات فقط, (وهو ما حصل في عقد السبعينيات من القرن الحالي ). وإذا استمر الأمر كذلك فإن طفاً يولد اليوم سوف يشهد تضاعف المعرفة 32 مرة , في مدة لا يكون عمرة قد تجاوز فيها الخمسين سنة !
هذا التفجر المعرفي المتعاظم يطرح بصورة أكثر إلحاحا أهمية تعلم الإبداع والحاجة إليه. وتقتضي مسايرة الزمن سرعة في التعليم . وهذا يعني بطلان ما اعتادت عليه النظم
التربوية التقليدية من التركيز على المتعلم
(1) عبد الله سليمان ! الموهبة والمستقبل – عالم الفكر 14/2503 .


--------- 93 ---------------


المتوسط. وقد غدا هاجس التفجر المعرفي مصدر شعور يقض مضاجع المهتمين. بمستقبل الجنس البشري سواء في البلدان المتخلفة وفي البلدان المتقدمة, لنر إلى (تورانس ) وهو يعدد بعض إنجازات اليابان في مجال الاختراع يحث مواطنيه في الولايات المتحدة الأمريكية على التعلم من ذلك البلد الذي احتلته الولايات المتحدة ثلاثة عقود ونصف وهو يشير إلى أن اليابان <<تقود العالم في ميدان الاختراع وبراءته, وفي عدد ما تنشره من الروايات, وانخفاض معدلات الجريمة ووسائل خفض التلوث في البيئة وبناء السفن, وتصدير الإسمنت والترانزيستور, والميكروسكوبات الإلكترونية, والبيانو >>.(1)

ويرى ( روجرز) أن التكيف الإبداعي هو الاختيار الذي لا بد منه فيما نحن نواجه هذا التفجر المعرفي المتعاظم فيقول في كتابه( نحو نظرية في الإبداع):
<< في الوقت الذي تتقدم فيه المعرفة, بناءة كانت أم مخربة, في ثبات وقفزات كبيرة إلى عصر ذري هائل, يبدو أن التكيف الإبداعي هو الاحتمال الوحيد الذي يمكن الإنسان من أن يصبح متمشيا مع التغيير المتعدد الجوانب , ففي الوقت الذي تتقدم فيه الاكتشافات العلمية والاختراعات على أساس متوالية هندسية, يصبح الأفراد السلبيون الذين يخضعون لثقافات عاجزين عن التعامل مع القضايا والمشكلات المتزايدة. وما لم يستطع الأفراد والجماعات والأمم المعقدة, فإن النور سينطفئ , وما لم يستطع الإنسان أن يأتي بأساليب جديدة وأصلية للتكيف مع بيئته بسرعة تماثل سرعة العلم في تغيير البيئة, فإن ثقافتنا ستضمحل وسيكون الثمن الذي
(1) عبد اله سليمان: عوامل الابتكار في الثقافة العربية المعاصرة – مجلة العلوم الاجتماعية – المجلد 13 – ع1 – ص 10

94 -----------


ندفعه لافتقارنا إلى الابتكار ليس فقط سوء تكيف الفرد وتوترات الجماعة بل أيضاَ الإبادة>>(1)

ثالثاَ: استجابة النظم التربوية وطرائق التعليم وأساليب التعليم لتحديات العصر
-------------------------------------------------------------------------
ومتطلبات المستقبل: ليس من المهم إدراك أن التغير سمة من سمات المواجهات الكبرى التي تتحدى الإنسان, بل المهم أيضاَ القدرة على التنبؤ بالتغيرات الممكنة الحدوث وإعداد العدة للتكيف معها. فالتحدي الذي يواجه التربية اليوم يتمثل في قدرتها على الاستجابة التي تمكن المتعلمين من تكوين صورة إيجابية قوية عن المستقبل, مما يسمح بتحديد الأشياء التي سيكون المتعلم مدفوعاَ إلى تعلمها وإنجازها , إذ أن المستقبل يتطلب عقولاَ مبدعة .
ونجد لدى ( تورانس) أسبابا أخرى تتعلق بحاجة تعلم الإبداع وتنمية الفكر المبدع, حيث يقول:
<< إن عصر الفضاء يأخذنا إلى أماكن لم تعد فيها الأفكار القديمة المريحة صالحة.
فالأخطار التي تهدد بقاء الإنسان تدفعنا إلى التفكير في أفضل ما يمكن أن يصير إليه البشر, وإلى البحث عن طرق جديدة لتمكين الأطفال من تحقيق إمكاناتهم الابتكاريه, نحن لا نعرف ما يمكن أن يصير إليه الإنسان, ولكن ليس هناك ما يشير إلى أن تطوره يدخل مرحلته الأخيرة, لأن نمو الإنسان ونمو تفكيره الإبتكاري في استمرار. إن الإنسان اليوم سيبدو للأجيال القادمة ساذجاَ وأحمق, مثلما يبدو لنا إنسان الكهف>> (2).
فالتربية التي يمكن المتعلم من التكيف مع المستقبل وتوقعاته والتعامل معه والتخطيط له والتأثير فيه هي تلك التي تنمي في الإنسان قدراته على نحو يستطيع معه أن يفكر بطريقة مختلفة عن المألوف والمعتاد, وأن يستنبط البدائل المناسبة على الدوام ويبتكر سبل التعامل مع المستقبل.

(1) المصدر السابق –ص 11.
(2) عالم الفكر 14 / 3 – ص 255.

--------------------95 -------------



رابعاَ – الحاجة إلى تدريب المتعلم على التفكير: يتزايد قلق الإنسان في عصرنا وخوفه من أخطار أصبحت ماثلة للعيان يتعرض لها الفكر البشري نتيجة لتعاظم دور وسائط الاتصال الحديثة واتساع مجالاتها وزيادة قدراتها. فهي تمطر الناس بوابل من المعلومات الجاهزة الناجزة الموجه منها وغير الموجه. فالثورة في وسط الاتصال تنذر بانتهاء دور التفكير وتقاعده عن العمل واستقالته عن البحث والاكتشاف والنقد, وليس ذلك فحسب , بل أنها تنذر بما هو أشد خطراَ, فقد استقر الحكم من أيام الإغريق على يد ( أبقراط) على أن المخ هو مكان التفكير, وقيل آنئذ أن ( أبقراط قد عثر على عقل الإنسان داخل جمجمته) . ولكن هذا المخ يبدو أنه قد أصبح في دائرة الخطر إذا ما استمر الحال على إهماله مما سيؤدي إلى تدني كفايته يوماَ بعد آخر. وقد يؤدي ذلك إلى توقف المخ عن أداء مهمته في التفكير بحسب ما هو شائع من أن ( العضو الذي لا يستخدم يضمر), أي أن الإنسان مهدد في خسران دماغه. وقد نبهت ( ماريان دياموند) الباحثة الأمريكية إلى ذلك الخطر بقولها:
<< استعمل دماغك وإلا فقدته>>. وذلك نتيجة لتجاربها على الحيوانات , حيث وجدت أن قشرة المخ لا تنمو إلا إذا عاشت هذه الحيوانات في بيئة ثرية تحفزها على البحث وعلى مزيد من عمليات التلاؤم والتكيف والاكتشاف.
أما ما ينتج عن تدفق المعلومات والأفكار الجاهزة فهو تعطيل المخ مما سيؤدي في النهاية إلى تساقط التغصنات العصبية داخله مما يحصل عنه التصاق أكبر بين خلايا المخ.

خامساَ: الحاجة إلى إعادة التوازن في مجال المعلومات وتقنياتها:

يعيش عالم اليوم حالة من الخلل الخطير في مجال المعلومات وتقنياتها ( مما يؤثر سلباَ على حرية المعلومات وحرية تدفقها وعلى الرؤية الموضوعية الدقيقة للحقائق والمشكلات وعلى توظيف المعلومات لخدمة أغراض التنمية وتعزيز الذاتية الثقافية للشعوب والأمم النامية....هذا النظام للإعلام والاتصال تحكمه اعتبارات سياسية اقتصادية واجتماعية وحضارية على المستوى الدولي.. ولتلتمس الخلل ووعي مخاطره فيما يلي أمثلة توضح ذلك :
بلغ عدد الكتب التي تم نشرها عام 1979 (558000) كتاب في الدول المتقدمة التي يقدر سكانها ب (26,6 % من مجموع سكان العالم, مقابل 131000 كتاب في بقية الدول التي يبلغ سكانها 73,4% من سكان العالم ) (1)
وقد نشرت اليونسكو في كتابها السنوي عام 1981 البيانات الإعلامية التالية :





























المادة
عددها في الوطن العربي
عدد عددها في العالم


الكتب المنشورة
6300 كتاب
689000 كتاب
عدد الكتب لكل مليون من السكان
41 كتاب
155 كتاب
عدد الصحف اليومية
110 صحيفة
8 8240 صحيفة

النسخ الموزعة لكل ألف من السكان
33 نسخة
134 نسخة المعدل العالمي

استهلاك المادة الصحفية المطبوعة
0,1 مليون طن
252
2،25 مليون طن في العالم

نصيب الفرد من الاستهلاك
0,6 كغ
5,8 5,8 مليون طن في العالم

إنتاج للأفلام الطويلة
65 فيلما في الوطن العربي
3580580 فيلم في العالم

عدد دور السينما
1600 داراَ
247000 دار

عدد المقاعد
1,100,000 مقعد
72 م 72 مليون مقعد

عدد المقاعد لكل 100 من السكان
8 مقاعد
22 22 مقعد

عدد مراكز البث الإذاعي
300مركز
28 000 28 مركز

عدد أجهزة الراديو
22 مليون جهاز
1 1140 مليون

عدد مراكز البث التلفزيوني
190 مركزاَ
32900 مركز
عدد أجهزة التلفزيون
6,4 مليون جهاز
471 471 مليون جهاز

عدد الأجهزة لكل ألف من السكان
42 جهازاَ
1 139 جهازا





(1) محمد أحمد الغنام: الإعلام من أجل تربية أفضل – مجلة ( التربية الجديدة )- العدد 25 ص 5 وما بعدها.
(2) م. س – ص 14 .

--------------------------- 97 ---------------



تعلم الإبداع

تجد التربية نفسها أمام امتحان يهدد المدرسة كمؤسسة, إذ أن إمكاناتها محددة , والعنصر الأساسي فيها الذي هو المعلم الموكل بتحقيق أهداف التربية بلغ شعوره بالغبن في نمط المجتمع الاستهلاكي حداَ لا يحسد علية. فهو يعاني من ضغط ظروف قاهرة تحد من حريته وتحجز قدراته الإبداعية. فالدور التلقيني للمدرسة أصبح غير ذي أهمية. وبرزت الحاجة إلى نقل وظيفة التربية المدرسية من مجرد حشو الذهن بالمعلومات إلى وظيفة ترتكز على أساس من تدريب المتعلم على مهارة التفكير وتعلمه كيف يتعلم التفكير.

فطرائق التعلم والتعليم التي الفتها العصور السابقة لا تتناسب اليوم مع عصر تفجر المعرفة بل صار مطلوباَ البحث عن تربية تكون قادرة على تحويل مدخلاتها إلى مخرجات يتوافر فيها عنصر الإبداع. وهذا لا يعني التفتيش عن أصحاب المواهب ورعايتهم فحسب , بل استنفار طاقات المتعلم وإيجاد الوسائل والطرائق لحفز هذه الطاقات وتدربها على الفعل المبدع. في مقابلة مع ( بنيامين بلوم) أجاب:
<< كل الناس لديهم قدرات كامنة لعمل الأشياء, لكن المشكلة تكمن في إيجاد الطريقة المناسبة التي يمكن بوساطتها رفع الركام الذي يغلف تلك القدرات. وأن تمكنهم من التفوق في المجالات التي يهتمون بها أكثر من غيرها>>(1).

كل فرد يختزن بشكل عام إمكانات وقدرات, ولديه قابليات, فلا بد من البحث عن أفضل الوسائل والطرائق لتنميتها.
(1) – من مقابلة معه منشورة في ( الثقافة العالمية) - العدد 26 -ص 110

---------------------------- 98 ----------------

ولا تستطيع الطرائق والأساليب التقليدية أن تفي بالغرض المطلوب. ولكن هذا يعني أن امتلاك الطريقة المناسبة كاف لتأدية الهدف. ولكن لم يكن إيذاناَ للإقلاع عن الطرائق القديمة التي أثبتت عقمها, وواقع الحال أنا كثيراَ ما نغير في التسميات دون أن نفسح في المجال للتعمق في جوهر الطريقة, وفي معرفة أهدافها وخصائصها, فقد أدخلت – على
سبيل المثال --- في مناهج إعداد المعلمين والمدرسين بعض الطرائق الحديثة الفعالة, وما حصل لم يكن سوى الوقوف عند حدود تعريف هذه الطرائق وأخذ العلم بوجودها, وتحولت بمرور الوقت إلى دروس مجردة أو مجموعة من التمارين يتقنها المتعلمون لأغراض الامتحان ليس أكثر, وإن لجأ إليها بعض المعلمين جعلوها تنحصر في حدود ضيقة أو أنها تنحصر – بالنسبة لطريقة حل المشكلات مثلاَ – في مشكلات ذات حلول مسبقة ويكون على المتعلم أن يتذكر إجابات وحلولاَ تمرن عليها من قبل بوساطة
التلقين (1), بينما تهدف الطرائق الفعالة أساساَ إلى عدم تقييد فكر المتعلم بعادات فكرية معينة.
فالتعلم الفعال لا يعتمد في الواقع الحال على نمط محدد من التعلم أو على طرائق ذات تقنيات محددة, بل يستخدم تقنيات مختلفة متعددة الاتجاهات مع إعطاء حرية كاملة للمتعلم في البحث والمناقشة واكتشاف الحلول في جو مفتوح يعطيه إحساسا بالكفاءة والمقدرة على التحكم في مصيره والتأثير في القرارات ذات العلاقة بالموضوع المعروض للدراسة وبحياة المتعلم ذاته.
ولا يتيسر ذلك إلا بتمحور التعلم حول الحياة , بحيث يكون التفكير مرتبطاَ بوجود مشكلات تتحدى ذهن المتعلم فتبعث لديه نشاطاَ عقلياَ وعملياَ يدور حولها.
(1) عبد الحليم السيد: النشاط الإبداعي – مجلة الفكر المعاصر – العدد 62

------ 99 --------
وليست الحياة بالنسبة للكائن الإنساني سوى سلسلة من المشكلات يواجهها دوماَ ويعمل على حلها. والبون شاسع بين إنسان يتجه ذهنه نحو المشكلات التي تعترضه فيسعى إلى حلها بما يملك من خبرات ومهارات سابقة, وبين آخر يستسلم لها ويلتمس حلولها عند الآخرين أو في بطون الكتب,( سعي الطلبة وراء المسائل المحلوله والملخصات الجاهزة بدلاَ من اكتشاف الحلول بالجهود الذاتية). فالأول لا ينتظر الحلول الجاهزة ولا يبحث بل يسعى إلى اكتشافها. وشتان بين النتائج التي يحصل عليها كل منهما.
فمن يستسهل استعارة الحلول من الآخرين والاكتفاء بالجاهز منها لا يتطور تفكيره.بل يبقى تفكيراَ نقلياَ يتأثر بما عند الآخرين, ويقف أمام ما يستجد له من مشكلات أو صعوبات مكتوف اليدين, ويرى في حالة الحيرة والقلق التي تنتابه آنئذ أنها إحدى الويلات أو الكوارث التي تزلزل كيانه. وهو حين يدركه حل جاهز يعتقد أنه هبة أو منحة حصل عليها, فلا يشعر بلذة الاكتشاف ونشوة إدراك الحل وانفتاح ذهنه على طرق أبواب المجهول ليحصل على المعارف التي تبدد الظلمات من أمام ناظريه. والتعلم الذي لا يتحدى الذهن يخلو من الجاذبية والتشويق فيؤدي إلى انحطاط همة المتعلم وطموحه ويغدو متسكعاَ على موائد الآخرين . بينما تعلم الإبداع يجعل من المتعلم ذلك الشخص الناقد السؤول المستفسر
المناقش والمجانف(1) ويتطلب هذا نوعاَ من المرونة في المناهج وفي الطرائق وأساليب التعامل. ونجمل فيما يلي بعضاَ من المبادئ التي تساعد على تعلم الإبداع:

1 - كل متعلم لديه القابلية لتنمية القدرات الإبداعية عنده


(1) – يستخدم( فاخر عاقل) مصطلح التفكير المجانف مقابل التفكير المتقارب . وذلك في محاضرة له أمام المؤتمر الثاني لتطوير التعليم ما قبل الجامعي – دمشق 1986 .-------- 100 ---
وما على المعلم إلا أن يسعى إلى مساعدته على اكتشاف هذه القدرات بطرائق
وأساليب متنوعة , وأن يعمل على تحسين ظروف المتعلم. فليس مقصوداَ أو مطلوباَ غ إمداد المتعلم بمادة تعليمية فحسب, إذ ليس الهدف من التعلم الإبداعي إنتاج مكتبات حية صغيرة بل أن يتعلم كيف يفكر ويسهم في نموه المعرفي, لأن المعرفة – كما يقول برونر – فعالية وليست نتيجة.
2—أن يتجه التعلم نحو مساعدة المتعلم على مواجهة المشكلات الملحة وحلها, وعلى مواجهة المستقبل والمشركة في صنعه. ولا يعني هذا اقتصاره على جانب واحد أو مجال محدد, بل أن يشمل التعلم مجالات الأهداف التربوية كافة المعرفية والمهارية والوجدانية, ويتجه التعلم إلى الاهتمام بتنمية فكر يتصف بالطلاقة والمرونة والتوجه نحو المستقبل. ويركز في محتوى التعليم على الوظيفة التوجيهية التي تمكن من التنبؤ بالعالم الذي سيعيش فيه المتعلم. ويعني هذه عدم الاقتصار بالتركيز في الناحية المعرفية على مستويات التذكر والفهم والاستيعاب فحسب, بل تجاوز ذلك إلى مستويات التطبيق والتحليل والتركيب والتقويم وحل المشكلات والنقد. وبهذا تتكون الخبرات الإبداعية التي يتزود بها المتعلم من خلال التدريبات المتواصلة على التفكير المستقل والتمثل الذاتي للمعارف واستخدامها في تحقيق أهداف جديدة. ويتم ذلك من حلال الربط المستمر في إطار موحد, بالمجالين المهاري والوجداني, فلا إهمال لأحدها من أجل غيره. ومثل هذا التعلم يحل مشكلة الفاقد التربوي الذي يتصف به التعلم من أجل التذكر.
3—اتباع طرائق تعتمد التعلم الذاتي والأنشطة التطبيقية الميدانية ودمج المدرسة في البيئة وإتاحة المثيرات الثقافية والاجتماعية وإثراء المدرسة بها. كما يسمح للمتعلم بحرية اكتشاف البيئة وبالاستقلال وحرية إبداء الرأي وعم التأكيد على المسايرة.
ونقتطف فيما يلي مقطع من كتاب (دراسات في الثقافة الوطنية ). يبين كيف كانت السياسات التعليمية للمستعمرين تمنع هذا النوع من التعلم وتعمم تعليماً يقتل الإبداع ويبقي على الاتباع وهو ما حصل في تلك السياسة التعليمية في مصر إبان الاحتلال البريطاني أيام ( كرومر) ومستشاره التربوي ( دانلوب ) :
<< رأى دنلوب أنه ليتحقق الهدف لا بد من أـن يتجه التعليم نحو الحفظ دون المناقشة والترتيل دون النقد, ومحاكاة المراجع وتقليد الأساتذة دون تشريحها, وتكوين رأي مستقل فيها>>(1).

4—إعادة النظر في وسائل التقويم والامتحانات وعدم النظر على نتائج الامتحان على أنها تعكس الحكم النهائي على قدرات المتعلمين. فلا بد من تنويع وتغيير النظرة إليها على أنه مفتاح العملية التربوية وأنه وسيلة من وسائلها ليس أكثر, وأنه وسيلة قياس لوضع تقدير محدد أو تقرير نجاح المتعلم وفشله بقدر ما هو عنصر التعلم المتقن ووسيلة للكشف عن وسائل النقص في الطرائق والمحتوى والوسائل.
(1) – أنور عبد الملك: دراسات في الثقافة الوطنية – دار الطليعة – بيروت 1967 – ص219 .

------------------------------- 102 ---------------------
5 –العمل ضمن الجماعة بشكل معيناَ ودفع الإبداع. فتبادل الأفكار والمناقشة المستمرة بين أفراد الجماعة في جو من الديمقراطية يعطيان مردوداَ أفضل وهذا ما تؤكده حاجة الباحثين من وقت لآخر لأن يكونوا مع بعضهم. فاللقاءات المتتابعة مع الآخرين تستلهم الأفكار. كما أن رؤية المشكلات وحلها ينمان بشكل أفضل عندما يعانيها لأكثر من شخص واحد. فالتفاعل يولد حلولا ويكشف جوانب جديدة ومشكلات إضافية تحتاج بحثا أجد وهكذا...

6 – على أن الأهم من كل ما ذكر هو إعداد المعلم القادر على تحقيق الأهداف المتمثلة بتعلم الإبداع, ويتطلب منه ذلك الإيمان بأهمية تعلم الإبداع والحاجة إليه وامتلاك القدرة على التفاعل والاتصال, وهو ما يدعونا للتأكيد على أهمية انتهاج استراتيجية عربية موحدة في مجال إعداد المعلين وتدريبهم في أثناء الخدمة على تعلم الإبداع......



---خاتمة ---

إن تعلم الإبداع والعمل على تنمية الشخصية المنتجة حاجة فردية من حاجات إنسان العصر, وحاجة قومية وإنسانية للتكيف مع عصر التفجر المعرفي والتكنولوجي, وللقدرة على فعالية وسائل الهيمنة والسيطرة التي تسعى إليها مراكز التسلط والإذلال التي تعمل على ترويج وتعميم أخلاقيات المجتمع الاستهلاكي وأنماطه والتي لا تؤدي من حيث النتيجة إلا إلى المزيد من الأتباع والتقليد وإلى المزيد من التبعية والتخلف.
وينبغي للعرب أن ينظروا إلى تعلم الإبداع وتكوين الشخصية المنتجة على أنهما أحد عناصر النجاح في مغالبة حالات التقهقر والتردي, والانطلاق نحو بناء مشروعهم الثقافي, على أن يتم ذلك داخل عملية تنموية شاملة هدفها ومحورها الإنسان العربي, متوجهة إليه ومؤكدة على وحدة الشخصية القومية للأمة العربية, قادراَ على إيقاظ قوى الإبداع في المجتمع العربي.
ولا يكون إنجاز المشروع الحضاري العربي ممكناَ وفعالاَ من خلال العمل القطري بل داخل عملية توحيدية مستمرة كيلا يتعرض هذا المشروع لخطر الاستفراد به والتزييف له, وبالتالي السباحة خارج السياق العام لحركة التاريخ المعاصر( حركة التجمعات البشرية الكبيرة).

ولكن ذلك ليس ممكناَ إلا من خلال استراتيجية عربية موحدة تصنعها الجماهير بإرادتها وبوساطة تنظيماتها الذاتية, لا يعرضها من أعلى . إن هذا المشروع النهضوي هو اليوم أكثر من أي وقت مضى بحاجة إلى أجواء من الديمقراطية وإلى عمل جماهيري جاد تصنعه الممارسات النضالية الدائبة لرفع الوصاية عن الجماهير وإتاحة فرص من الحرية والعمل الجاد المحصن بالرقابة الديمقراطية. كما أنه بحاجة لأن تأخذ هذه الاستراتيجية بعين الاعتبار دور الإبداع والفعل المبدع في عملية النهوض القومي وما يترتب على ذلك من رعاية واهتمام يستلزمان تطوير وسائل البحث التربوي والاستفادة من المواهب وتفريغ الموهوبين والمبدعين.





النهاية.




























المحتوى

--تمهيد 5


الخصوصية في الثقافة العربية 11

الإنتاجية في الوطن العربي 32

الثقافة العربية( الواقع والآفاق) 66

أهمية الإبداع في المشروع الثقافي العربي 79

خاتمة 104
























صدر للمؤلف




1—العروبة( دراسات في وحدة الشخصية القومية للأمة العربية) – اتحاد الكتاب العرب –دمشق 1987.

2 – كيف نعتني بالطفل وأدبه – دار علاء الدين – دمشق 1994

3 – تعلم الطفل في الأسرة والمدرسة – دار علاء الدين – دمشق 1995

*بالاشتراك:

1--- كتب التربية العامة وعلم النفس التربوي – المقرر تدريسها في دور المعلمين ومعاهد إعداد المدرسين – المطبوعات المدرسية – دمشق وعددها (8) كتب

2 – سويداء سورية ( موسوعة جبل العرب) – دار علاء الدين – دمشق 1995

· كما للمؤلف عشرات الأبحاث والدراسات والقصص القصيرة في دوريات عربية أخرى.


















الملحم, إسماعيل, الخصوصية في الثقافة القومية

العربية,( دور الإنتاجية والإبداع),



دور, الطبعة الأولى, منشورات اتحاد الكتاب العرب


*


مطبعة اتحاد الكتاب العرب


2000/11/1996


رقم الإبداع في مكتبة الأسد الوطنية:

الخصوصية في الثقافة القومية العربية .. دور الإنتاجية والإبداع

اسماعيل الملحم, دمشق : اتحاد الكتاب العرب,1996 ,133 ص35 سم

1 –40956 , 306 م ل ح خ

2 – 40956 , 303 م ل ح خ

3 – العنوان

4 – الملحم

ع / 1569, 10/ 1996 مكتبة الأسد
إسماعيل الملحم



الخصوصية في الثقافة القومية العربية

( دور الإنتاجية والإبداع)



منشورات اتحاد الكتاب العرب
-----------------------------

1996


حقوق الطبع والترجمة والاقتباس محفوظة

لاتحاد الكتاب العرب
المصدر: ملتقى شذرات

__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية

الكلمات الدلالية (Tags)
الثقافة, الخصوصية, العربية, القومية


يتصفح الموضوع حالياً : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
أدوات الموضوع

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


المواضيع المتشابهه للموضوع الخصوصية في الثقافة القومية العربية
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
نقد القومية العربية على ضوء الإسلام والواقع Eng.Jordan شذرات إسلامية 0 02-25-2016 10:45 AM
نشأة الثقافة العربية الإسلامية .. نظــرة إلى العراق Eng.Jordan دراسات و مراجع و بحوث أدبية ولغوية 0 06-21-2013 02:47 PM
الثقافة العربية الإسلامية في داغستان Eng.Jordan أخبار ومختارات أدبية 0 12-17-2012 10:18 PM
هيمنة الثقافة الغربية على الثقافات الأخرى Eng.Jordan أخبار ومختارات أدبية 0 11-14-2012 01:50 PM
حال القومية العربية في العصر الحاضر تراتيل شذرات إسلامية 6 01-29-2012 11:03 PM

   
|
 
 

  sitemap 

 


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 05:49 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.12 by vBS
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والمشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59