#1  
قديم 01-09-2012, 01:03 AM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,392
افتراضي مقدمة ابن خلدون


مقدمة ابن خلدون

القسم الأول من المقدمة في فضل علم التاريخ و تحقيق مذاهبه و الالماع لما يعرض للمؤرخين من المغالط و ذكر شيىء من أسبابها

اعلم أن فن التاريخ فن عزيز المذهب جم الفوائد شريف الغاية إذ هو يوقفنا على أحوال الماضين من الأمم في أخلاقهم. و الأنبياء في سيرهم. و الملوك في دولهم و سياستهم. حتى تتم فائدة الإقتداء في ذلك لمن يرومه في أحوال الدين و الدنيا فهو محتاج إلى مآخذ متعددة و معارف متنوعة و حسن نظر و تثبت يفضيان بصاحبهما إلى الحق و ينكبان به عن المزلات و المغالط لأن الأخبار إذا اعتمد فيها على مجرد النقل و لم تحكم أصول العادة و قواعد السياسة و طبيعة العمران و الأحوال في الاجتماع الإنساني و لا قيس الغائب منها بالشاهد و الحاضر بالذاهب فربما لم يؤمن فيها من العثور و مزلة القدم و الحيد عن جادة الصدق و كثيراً ما وقع للمؤرخين و المفسرين و أئمة النقل من المغالط في الحكايات و الوقائع لاعتمادهم فيها على مجرد النقل غثاً أو سميناً و لم يعرضوها على أصولها و لا قاسوها بأشباهها و لا سبروها بمعيار الحكمة و الوقوف على طبائع الكائنات و تحكيم النظر و البصيرة في الأخبار فضلوا عن الحق و تاهوا في بيداء الوهم و الغلط و لا سيما في إحصاء الأعداد من الأموال و العساكر إذا عرضت في الحكايات إذ هي مظنة الكذب و مطية الهذر و لا بد من ردها إلى الأصول و عرضها على القواعد.
و هذا كما نقل المسعودي و كثير من المؤرخين في جيوش بني إسرائيل بأن موسى عليه السلام أحصاهم في التيه بعد أن أجاز من يطيق حمل السلاح خاصة من ابن عشرين فما فوقها فكانوا ستمائة ألف أو يزيدون و يذهل في ذلك عن تقدير مصر و الشام و اتساعهما لمثل هذا العدد من الجيوش لكل مملكة من الممالك حصة من الحامية تتسع لها و تقوم بوظائفها و تضيق عما فوقها تشهد بذلك العوائد المعروفة و الأحوال المألوفة ثم أن مثل هذه الجيوش البالغة إلى مثل هذا العدد يبعد أن يقع بينها زحف أو قتال لضيق مساحة الأرض عنها و بعدها إذا اصطفت عن مدى البصر مرتين أو ثلاثاً أو أزيد فكيف يقتتل هذان الفريقان أو تكون غلبة أحد الصفين و شيىء من جوانبه لا يشعر بالجانب الآخر و الحاضر يشهد لذلك فالماضي أشبه بالآتي من الماء بالماء.
و لقد كان ملك الفرس و دولتهم أعظم من ملك بني إسرائيل بكثير يشهد لذلك ما كان من غلب بختنصر لهم و التهامه بلادهم و استيلائه على أمرهم و تخريب بيت المقدس قاعدة ملتهم و سلطانهم و هو من بعض عمال مملكة فارس يقال إنه كان مرزبان المغرب من تخومها و كانت ممالكهم بالعراقين و خراسان و ما وراء النهر و الأبواب أوسع من ممالك بني إسرائيل بكثير و مع ذلك لم تبلغ جيوش الفرس قط مثل هذا العدد و لا قريباً منه و أعظم ما كانت جموعهم بالقادسية مائة و عشرين ألفاً كلهم متبوع على ما نقله سيف قال و كانوا في أتباعهم أكثر من مائتي ألف و عن عائشة و الزهري فأن جموع رستم الذين زحف بهم سعد بالقادسية إنما كانوا ستين ألفاً كلهم متبوع و أيضاً فلو بلغ بنو إسرائيل مثل هذا العدد لاتسع نطاق ملكهم و انفسح مدى دولتهم فإن العمالات و الممالك في الدول على نسبة الحامية و القبيل القائمين بها في قتلها و كثرتها حسبما نبين في فضل الممالك من الكتاب الأول و القوم لم تتسع ممالكهم إلى غير الأردن و فلسطين من الشام و بلاد يثرب و خيبر من الحجاز على ما هو المعروف.
و أيضاً فالذي بين موسى و إسرائيل إنما في أربعة آباء على ما ذكره المحققون فإنه موسى بن عمران بن يصهر بن قاهت بفتح الهاء وكسرها ابن لاري بكسر الواو و فتحها ابن يعقوب و هو إسرائيل الله هكذا نسبه في التوراة و المدة بينهما على ما نقله المسعودي قال دخل إسرائيل مصر مع ولده الأسباط و أولادهم حين أتوا إلى يوسف سبعين نفساً و كان مقامهم بمصر إلى أن خرجوا مع موسى عليه السلام إلى التيه مائتين و عشرين سنة تتداولهم ملوك القبط من الفراعنة و يبعد أن يتشعب النسل في أربعة أجيال إلى مثل هذا العدد و إن زعموا أن عدد تلك الجيوش إنما كان في زمن سليمان و من بعده فبعيد أيضاً إذ ليس بين سليمان و إسرائيل إلا أحد عشر أباً فإنه سليمان بن داود بن يشا بن عوفيذ و يقال ابن عوفذ ابن باعز و يقال بوعز بن سلمون بن نحشون بن عمينوذب و يقال حميناذاب بن رم بن حصرون و يقال حسرون بن بارس و يقال ببرس بن يهوذا بن يعقوب و لا يتشعب النسل في أحد عشر من الولد إلى مثل هذا العدد الذي زعموه اللهم إلى المئتين و الآلاف فربما يكون و أما أن يتجاوز إلى ما بعدهما من عقود الأعداد فبعيد و اعتبر ذلك في الحاضر المشاهد و القريب المعروف تجد زعمهم باطلاً و نقلهم كاذباً.
و الذي ثبت في الاسرائيليات أن جنود سليمان كانت اثني عشر ألفاً خاصة و أن مقرباته كانت ألفاً و أربعمائة فرس مرتبطة على أبوابه هذا هو الصحيح من أخبارهم و لا يلتفت إلى خرافات العامة منهم و في أيام سليمان عليه السلام و ملكه كان عنفوان دولتهم و أتساع ملكهم هذا و قد نجد الكافة من أهل المصر إذا أفاضوا في الحديث عن عساكر الدول التي لعهدهم أو قريباً منه و تفاوضوا في الأخبار عن جيوش المسلمين أو النصارى أو أخذوا في إحصاء أموال الجبايات و خراج السلطان و نفقات المترفين و بضائع الأغنياء الموسرين توغلوا في العدد و تجاوزوا حدود العوائد و طاوعوا وساوس الأعراب فإذا استكشف أصحاب الدواوين عن عساكرهم و استنبطت أحوال أهل الثروة في بضائعهم و فوائدهم و استجليت عوائد المترفين في نفقاتهم لم تجد معشار ما يعدونه و ما ذلك إلا لولوع النفس يالغرائب و سهولة التجاوز على اللسان و الغفلة على المتعقب و المنتقد حتى لا يحاسب نفسه على خطإ و لا عمد و لا يطالبه في الخبر بتوسط و لا عدالة ولا يرجعها إلى بحث و تفتيش فيرسل عنانه و يسيم في مراتع الكذب لسانه و يتخذ آيات الله هزءاً و يشتري لهو الحديث ليصل عن سبيل الله و حسبك بها صفقة خاسرة.
و من الأخبار الواهية للمؤرخين ما ينقلونه كافة في أخبار التبابعة ملوك اليمن و جزيرة العرب أنهم كانوا يغزون من قراهم باليمن إلى أفريقية و البربر من بلاد المغرب و أن أفريقش بن قيس بن صيفي من أعاظم ملوكهم الأول و كان لعهد موسى عليه السلام أو قبله بقليل غزا أفريقية و أثخن في البربر و أنه الذي سماهم بهذا الاسم حين سمع رطانتهم و قال ما هذه البربرة فأخذ هذا الاسم عنه و دعوا به من حينئذ و أنه لما انصرف من المغرب حجز هنالك قبائل من حمير فأقاموا بها و اختلطوا بأهلها و منهم صنهاجة و كتامة و من هذا ذهب الطبري و الجرجاني و المسعودي و ابن الكلبي و البيلي إلى أن صنهاجة و كتامة من حمير وتاباه نسابة البربر و هو الصحيح و ذكر المسعودي أيضاً أن ذا الإذعار من ملوكهم قبل أفريقش و كان على عهد سليمان عليه السلام غزا المغرب و دوخه و كذلك ذكر مثله عن ياسر ابنه من بعده و إنه بلغ وادي الرمل في بلاد المغرب و لم يجد فيه مسلكاً لكثرة الرمل فرجع و كذلك يقولون في تبع الآخر و هو أسعد أبو كرب و كان على عهد يستأنف من ملوك الفرس الكيانية أنه ملك الموصل و أذربيجان و لقي الترك فهزمهم و أثخن ثم غزاهم ثانية و ثالثة كذلك و أنه بعد ذلك أغزى ثلاثة من بنيه بلاد فارس و إلى بلاد الصغد من بلاد أمم الترك وراء النهر و إلى بلاد الروم فملك الأول البلاد إلى سمرقند و قطع المفازة إلى الصين فوجد أخاه الثاني الذي غزا إلى سمرقند قد سبقه إليها ثم فأثخنا في بلاد الصين و رجعا جميعاً بالغنائم و تركوا ببلاد الصين قبائل من حمير فهم بها إلى هذا العهد و بلغ الثالث إلى قسطنطينية فدرسها و دوخ بلاد الروم و رجع.
و هذه الأخبار كلها بعيدة عن الصحة عريقة في الوهم و الغلط و أشبه بأحاديث القصص الموضوعة. و ذلك أن ملك التبابعة إنما كان بجزيرة العرب و قرارهم و كرسيهم بصنعاء اليمن. و جزيرة العرب يحيط بها البحر من ثلاث جهاتها فبحر الهند من الجنوب و بحر فارس الهابط منه إلى البصرة من المشرق و بحر السويس الهابط منه إلى السويس من أعمال مصر من جهة المغرب كما تراه في مصور الجغرافيا فلا يجد السالكون من اليمن إلى المغرب طريقاً من غير السويس و المسلك هناك ما بين بحر السويس و البحر الشامي قدر مرحلتين فما دونهما و يبعد أن يمر بهذا المسلك ملك عظيم في عساكر موفورة من غير أن يصير من أعماله هذه ممتنع في العادة. و قد كان بتلك الأعمال العمالقة و كنعان بالشام و القبط بمصر ثم ملك العمالقة مصر و ملك بنو إسرائيل الشام و لم ينقل قط أن التبابعة حاربوا أحداً من هؤلاء الأمم. و لا ملكوا شيئاً من تلك الأعمال و أيضاً فالشقة من البحر إلى المغرب بعيدة و الأزودة و العلوفة للعساكر كثيرة فإذا ساروا في غير أعمالهم احتاجوا إلى انتهاب الزرع و النعم و انتهاب البلاد فيما يمرون عليه و لا يكفي ذلك للأزودة و للعلوفة عادة و إن نقلوا كفايتهم من ذلك من أعمالهم فلا تفي لهم الرواحل بنقله فلا بد و أن يمروا في طريقهم كلها بأعمال قد ملكوها و دوخوها لتكون الميرة منها و إن قلنا أن تلك العساكر تمر بهؤلاء الأمم من غير أن تهيجهم فتحصل لهم الميرة بالمسالمة فذلك أبعد و أشد امتناعاً فدل على أن هذه الأخبار واهية أو موضوعة.
و أما وادي الرمل الذي يعجز السالك فلم يسمع قط في ذكره في المغرب على كثرة سالكه و من يقص طرقه من الركاب و القرى في كل عصر و كل جهة و هو على ما ذكروه من الغرابة تتوفر الدواعي على نقله. و أما غزوهم بلاد الشرق و أرض الترك و إن كان طريقه أوسع من مسالك السويس إلا أن الشقة هنا أبعد و أمم فارس و الروم معترضون فيها دون الترك و لم نقل قط أن التبابعة ملكوا بلاد فارس و لا بلاد الروم و إنما كانوا يحاربون أهل فارس على حدود بلاد العراق و ما بين البحرين و الحيرة و الجزيرة بين دجلة و الفرات و ما بينهما في الأعمال و قد وقع ذلك بين ذي الإذعار منهم و كيكاوس من ملوك الكيانية و بين تبع الأصغر أبي كرب و يستاسف معهم أيضاً و مع ملوك الطوائف بعد الكيانية و الساسانية في من بعدهم بمجاوزة أرض فارس بالغزو إلى بلاد الترك و التبت و هو ممتنع عادة من بعدهم أجل الأمم المعترضة منهم و الحاجة إلى الأزودة و العلوفات مع بعد الشقة كما مر فالأخبار بذلك واهية مدخولة و هي لو كانت صحيحة النقل لكان ذلك قادحاً فيها فكيف و هي لم تنقل من وجه صحيح و قول ابن إسحاق في خبر يثرب و الأوس و الخزرج أن تبعاً الآخر سار إلى المشرق محمولاً على العراق و بلاد فارس و أما بلاد الترك و التبت فلا يصح غزوهم إليها بوجه لما تقرر فلا تثق بما يلقى إليك من ذلك و تأمل الأخبار و أعرضها على القوانين الصحيحة يقع لك تمحيصها بأحسن وجه و الله الهادي إلى الصواب.

فصل ـ القسم الثاني من المقدمة في فضل علم التاريخ و تحقيق مذاهبه و الالماع لما يعرض للمؤرخين من المغالط و ذكر شيىء من أسبابها

و أبعد من ذلك و أعرق في الوهم ما يتناقله المفسرون في تفسير سورة و الفجر في قوله تعالى ألم تر كيف فعل ربك بعاد * إرم ذات العماد فيجعلون لفظة إرم اسماً لمدينة وصفت بأنها ذات عماد أي أساطين و ينقلون أنه كان لعاد بن عوص بن إرم ابنان هما شديد و شداد ملكا من بعده و هلك شديد فخلص الملك لشداد و دانت له ملوكهم و سمع وصف الجنة فقال لأبنين مثلها فبنى مدينة إرم في صحارى عدن في مدة ثلثمائة سنة و كان عمره تسعمائة سنة و أنها مدينة عظيمة قصورها من الذهب و أساطينها من الزبرجد و الياقوت و فيها أصناف الشجر و الأنهار المطردة و لما تم بناؤها سار إليها بأهل مملكته حتى إذا كان منها على مسيرة يوم و ليلة بعث الله عليهم صيحة من السماء فهلكوا كلهم. ذكر ذلك الطبري و الثعالبي و الزمخشري و غيرهم من المفسرين و ينقلون عن عبد الله بن قلابة من الصحابة أنه خرج في طلب إبل له فوقع عليها و حمل منها ما قدر عليه و بلغ خبره معاوية فأحضره و قص عليه فبحث عن كعب الأخبار و سأله عن ذلك فقال هي إرم ذات العماد من سيدخلها رجل من المسلمين أحمر أشقر قصير على حاجبه خال و على عنقه خال يخرج في طلب إبل له ثم التفت فأبصر ابن قلابة فقال هذا و الله ذلك الرجل.
و هذه المدينة لم يسمع لها خبر من يومئذ في شيىء من بقاع الأرض و صحارى عدن التي زعموا أنها بنيت فيها هي في وسط اليمن و مازال عمرانه متعاقباً و الأدلاء تقص طرقه من كل وجه و لم ينقل عن هذه المدينة خبر و لا ذكرها أحد من الإخباريين و لا من الأمم و لو قالوا أنها درست فيما درس من الآثار لكان أشبه إلا أن ظاهر كلامهم أنها موجودة و بعضهم يقول أنها دمشق بناء على أن قوم عاد ملكوها و قد ينتهي الهذيان ببعضهم إلى أنها غائبة و إنما يعثر عليها أهل الرياضة و ***** مزاعم كلها أشبه بالخرافات و الذي حمل المفسرين على ذلك ما اقتضته صناعة الإعراب في لفظة ذات العماد أنها صفة إرم و حملوا العماد على الأساطين فتعين أن يكون بناء و رشح لهم ذلك قراءة ابن الزبير عاد إرم على الإضافة من غير تنويون ثم وقفوا على تلك الحكايات التي هي أشبه بالأقاصيص الموضوعة التي هي أقرب إلى الكذب المنقولة في عداد المضحكات و إلا فالعماد هي عماد الأخبية بل الخيام و إن أريد بها الأساطين فلا بدع في وصفهم بأنهم أهل بناء و أساطين على العموم بما اشتهر من قوتهم لأنه بناء خاص في مدينة معينة أو غيرها و إن أضيفت كما في قراءة ابن الزبير فعلى إضافة الفصيلة إلى القبيلة كما تقول قريش كنانة و إلياس مضر و ربيعة نزار أي ضرورة إلى هذا المحمل البعيد الذي تمحلت لتوجيهه لأمثال هذه الحكايات الواهية التي ينزه كتاب الله عن مثلها لبعدها عن الصحة.
و من الحكايات المدخولة للمؤرخين ما ينقلونه كافة في سبب نكبة الرشيد للبرامكة من قصة العباسة أخته مع جعفر بن يحيى بن خالد مولاه و أنه لكلفه بمكانهما من معاقرته إياهما الخمر أذن لهما في عقد النكاح دون الخلوة حرصاً على اجتماعهما في مجلسه و أن العباسة تحيلت عليه في التماس الخلوة به لما شغفها من حبه حتى واقعها زعموا في حالة السكر فحملت و وشي بذلك للرشيد فاستغضب و هيهات ذلك من منصب العباسة في دينها و أبويها و جلالها و أنها بنت عبد الله بن عباس و ليس بينها و بينه إلا أربعة رجال هم أشراف الدين و عظماء الملة من بعده. و العباسة بنت محمد المهدي ابن عبد الله أبي جعفر المنصور بن محمد السجاد ابن علي أبي الخلفاء ابن عبد الله ترجمان القرآن ابن العباس عم النبي صلى الله عليه و سلم ابنة خليفة أخت خليفة محفوفة بالملك العزيز و الخلافة النبوية و صحبة الرسول و عمومته و إقامة الملة و نور الوحي و مهبط الملائكة من سائر جهاتها قريبة عهد ببداوة العروبية و سذاجة الذين البعيدة عن عوائد الترف و مراتع الفواحش فأين يطلب الصون و العفاف إذا ذهب عنها أو أين توجد الطهارة و الذكاء إذا فقدا من بيتها أو كيف تلحم نسبها بجعفر بن يحيى و تدنس شرفها العربي بمولى من موالي العجم بملكة جده من الفرس أو بولاء جدها من عمومة الرسول و أشراف قريش و غايته أن جذبت دولتهم بضبعه وضبع أبيه و استخلصتهم و رقتهم إلى منازل الأشراف و كيف يسوغ من الرشيد أن يصهر إلى موالي الأعاجم على بعد همته و عظم آبائه و لو نظر المتأمل في ذلك نظر المنصف و قاس العباسة بابنة ملك من عظماء ملوك زمانه لاستنكف لها عن مثله مع مولى من موالي دولتها و في سلطان قومها و استنكره و لج في تكذيبه و ابن قدر العباسة و الرشيد من الناس.
و إنما نكب البرامكة ما كان من استبدادهم على الدولة و احتجافهم أموال الجباية حتى كان الرشيد يطلب اليسير من المال فلا يصل إليه فغلبوه على أمره و شاركوه في سلطانه و لم يكن له منهم تصرف في أمور ملكه فعظمت آثارهم و بعد صيتهم و عمروا مراتب الدولة و خططها بالرؤساء من ولدهم و صنائعهم و احتازوها عمن سواهم من وزارة و كتابة و قيادة و حجابة و سيف و قلم. يقال إنه كان بدار الرشيد من ولد يحيى بن خالد خمسة و عشرون رئيساً من بين صاحب سيف و صاحب قلم زاحموا فيها أهل الدولة بالمناكب و دفعوهم عنها بالراح لمكان أبيهم يحيى بن كفالة هارون ولي عهد و خليفة حتى شب في حجره و درج من عشه و غلب على أمره و كان يدعوه يا أبت فتوجه الإيثار من السلطان إليهم وعظمت الدالة منهم و انبسط الجاه عندهم و انصرفت نحوهم الوجوه و خضعت لهم الرقاب و قصرت عليهم الآمال و تخطت إليهم من أقصى التخوم هدايا الملوك و تحف الأمراء و تسربت إلى خزائنهم في سبيل التزلف و الاستمالة أموال الجباية و أفاضوا في رجال الشيعة و عظماء القرابة العطاء و طوقوهم المنن و كسبوا من بيوتات الأشراف المعدم و فكوا العاني و مدحوا بما لم يمدح به خليفتهم و أسنوا لعفاتهم الجوائز و الصلات و استولوا على القرى و الضياع من الضواحي و الأمصار في سائر الممالك حتى أسفوا البطالة و أحقدوا الخاصة و أغصوا أهل الولاية فكشفت لهم وجوه المنافسة و الحسد و دبت إلى مهادهم الوثير من الدولة عقارب السعاية حتى لقد كان بنو خطبة أخوال جعفر من أعظم الساعين عليهم لم تعطفهم لما وقر في نفوسهم من الحسد عواطف الرحم و لا وزعتهم أواصر القرابة و قارن ذلك عند مخدومهم نواشيء الغيرة و الاستنكاف من الحجر و الأنفة و كان الحقود التي بعثتها منهم صغائر الدالة. و انتهى بها الإصرار على شأنهم إلى كبائر المخالفة كقصتهم في يحيى بن عبد الله بن حسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب أخي محمد المهدي الملقب بالنفس الزكية الخارج على المنصور و يحيى هذا هو الذي استنزله الفضل بن يحيى من بلاد الديلم على أمان الرشيد بخطه و بذل لهم فيه ألف ألف درهم على ما ذكره الطبري و دفعه الرشيد إلى جعفر و جعل اعتقاله بداره و إلى نظره فحبسه مدة ثم حملته الدالة على تخلية سبيله و الاستبداد بحل عقاله حرماً لدماء أهل البيت بزعمه و دالة على السلطان في حكمه. و سأله الرشيد عنه لما و شي به أليه ففطن و قال أطلقته فأبدى له وجه الاستحسان و أسرها في نفسه فأوجد السبيل بذلك على نفسه و قومه حتى ثل عرشهم و ألقيت عليهم سماؤهم و خسفت الأرض بهم و بدارهم و ذهبت سلفاً و مثلاً للآخرين أيامهم و من تأمل أخبارهم و استقصى سير الدولة و سيرهم وجد ذلك محقق الأسر ممهد الأسباب و انظر ما نقله ابن عبد ربه في مفاوضة الرشيد عم جده داود بن علي في شأن نكبتهم و ما ذكره في باب الشعراء في كتاب العقد به محاورة الأصمعي للرشيد و للفضل بن يحيى في سمرهم تتفهم أنه إنما قتلتهم الغيرة و المنافسة في الاستبداد من الخليفة فمن دونه و كذلك ما تحيل به أعداؤهم من البطانة فيما دسوه للمغنين من الشعر احتيالاً على إسماعه للخليفة و تحريك حفائظه لهم و هو قوله:
ليت هنداً أنجزتنا ما تعد و شفت أنفسنا مما نجد
و استبدت مرةً واحدةًإنما العاجز من لايستبد
و إن الرشيد لما سمعها قال أي و الله إني عاجز حتى بعثوا بأمثالي هذه كامن غيرته و سلطوا عليهم بأس انتقامه نعوذ بالله من غلبة الرجال و سوء الحال.
و أما ما تموه له الحكاية من معاقرة الرشيد الخمر و اقتران سكره بسكر الندمان فحاشا الله ما علمنا عليه من سوء و أين هذا من حال الرشيد و قيامه بما يجب لمنصب الخلافة من الدين و العدالة و ما كان عليه من صحابة العلماء و الأولياء و محاوراته للفضيل بن عياض و ابن السمك و العمري و مكاتبته سفيان الثوري و بكائه من مواعظهم و دعائه بمكة في طوافه و ما كان عليه من العبادة و المحافظة على أوقات الصلوات و شهود الصبح لأول وقتها. حكى الطبري و غيره أنه كان يصلي في كل يوم مائة ركعة نافلة و كان يغزو عاماً و يحج عاماً و لقد زجر ابن أبي مريم مضحكه في سمره حين تعرض له بمثل ذلك في الصلاة لما سمعه يقرأ وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون و قال و الله ما أدري لم ؟ فما تمالك الرشيد أن ضحك ثم التفت إليه مغضباً و قال يا ابن أبي مريم في الصلاة أيضاً إياك إياك و القرآن و الدين و لك ما شئت بعدهما و أيضاً فقد كان من العلم و السذاجة بمكان لقرب عهده من سلفه المنتحلين لذلك و لم يكن بينه و بين جده أبي جعفر بعيد زمن إنما خلفه غلاماً و قد كان أبو جعفر بمكان من العلم و الدين قبل الخلافة و بعدها و هو القائل لمالك حين أشار عليه بتأليف الموطإ يا أبا عبد الله إنه لم يبقى على وجه الأرض أعلم مني و منك و إني قد شغلتني الخلافة فضع أنت للناس كتاباً ينتفعون به تجنب فيه رخص ابن عباس و شدائد ابن عمر و وطئه للناس توطئة قال مالك فوالله. لقد علمني التصنيف يومئذ و لقد أدركه ابنه المهدي أبو الرشيد هذا و هو يتورع عن كسوة الجديد لعياله من بيت المال و دخل عليه يوماً و هو بمجلسه يباشر الخياطين في إرقاع الخلقان من ثياب عياله فاستنكف المهدي من ذلك و قال يا أمير المؤمنين على كسوة هذه العيال عامناً هذا من عطائي فقال له لك ذلك و لم يصده عنه و لا سمح بالإنفاق فيه من أموال المسلمين فكيف يليق بالرشيد على قرب العهد من هذا الخليفة و أبوته و ما ربي عليه من أمثال هذه السير في أهل بيته و التخلق بها أن يعاقر الخمر أو يجاهر بها و قد كانت حالة الأشراف من العرب الجاهلية في اجتناب الخمر معلومة و لم يكن الكرم شجرتهم و كان شربها مذمة عند الكثير منهم و الرشيد و آباؤه كانوا على ثبج من اجتناب المذمومات في دينهم و دنياهم و التخلق بالمحامد و أوصاف الكمال و نزعات العرب. و انظر ما نقله الطبري و المسعودي في في قصة جبريل بن بختيشوع الطبيب حين أحضر له السمك في مائدته فحماه عنه ثم أمر صاحب المائدة بحمله إلى منزله و فطن الرشيد و ارتاب به و دس خادمه حتى عاينه يتناوله فاعد ابن بختيشوع للاعتذار ثلاث قطع من السمك في ثلاثة أقداح خلط إحداها باللحم المعالج بالتوابل و البقول و البوارد و الحلوى و صب على الثانية ماءً مثلجاً و على الثالثة خمراً صرفاً و قال في الأول و الثاني هذا طعام أمير المؤمنين إن خلط السمك بغيره أو لم يخلطه و قال في الثالث هذا طعام ابن بختيشوع و دفعها إلى صاحب المائدة حتى إذا انتبه الرشيد و أحضره للتوبيخ، أحضر الثلاثة الأقداح فوجد صاحب الخمر قد اختلط و أماع و تفتت و وجد الآخرين قد فسدا و تغيرت رائحتهما فكانت له في ذلك معذرة و تبين من ذلك أن حال الرشيد في اجتناب الخمر كانت معروفة عند بطانته و أهل مائدته و لقد ثبت عنه أنه عهد بحبس أبي نواس لما بلغه من انهماكه في المعاقرة حتى تاب و أقلع و إنما كان الرشيد يشرب نبيذ التمر على مذهب أهل العراق و فتاويهم فيها معروفة و أما الخمر الصرف فلا سبيل إلى اتهامه بها و لا تقليد الأخبار الواهية فيها فلم يكن الرجل بحيث يواقع محرماً من أكبر الكبائر عند أهل الملة و لقد كان أولئك القوم كلهم بمنحاة من ارتكاب السرف و الترف في ملابسهم و زينتهم و سائر متناولاتهم لما كانوا عليه من خشونة البداوة و سذاجة الدين التي لم يفارقوها بعد فما ظنك بما يخرج عن الإباحة إلى الحظر و عن الحلة إلى الحرمة و لقد اتفق المؤرخون الطبري و المسعودي و غيرهم على أن جميع من سلف من خلفاء بني أمية و بني العباس إنما كانوا يركبون بالحلية الخفيفة من الفضة في المناطق و السيوف و اللجم و السروج و أن أول خليفة أحدث الركوب بحلية الذهب هو المعتز بن المتوكل ثامن الخلفاء بعد الرشيد و هكذا كان حالهم أيضاً في ملابسهم فما ظنك بمشاربهم و يتبين ذلك بأتم من هذا إذا فهمت طبيعة الدولة في أولها من البداوة و الغضاضة كما نشرح في مسائل الكتاب الأول إن شاء الله و الله الهادي إلى الصواب. و يناسب هذا أو قريب منه ما ينقلونه كافة عن يحيى بن أكثم قاضي المأمون و صاحبه و أنه كان يعاقر الخمر و أنه سكر ليلة مع شربه فدفن في الريحان حتى أفاق و ينشدون على لسانه:
يا سيدي و أمير الناس كلهم قد جار في حكمه من كان يسقيني
إني غفلت عن الساقي فصيرني كما تراني سليب العقل و الدين
و حال ابن أكثم و المأمون في ذلك من حال الرشيد و شرابهم إنما كان النبيذ و لم يكن محظوراً عندهم و أما السكر فليس من شأنهم و صحابته للمأمون إنما كانت خلة في الدين و لقد ثبت أنه كان ينام معه في البيت و نقل في فضائل المأمون و حسن عشرته أنه انتبه ذات ليلة عطشان فقام يتحسس و يتلمس الإناء مخافة أن يوقظ يحيى بن أكثم و ثبت أنهما كانا يصليان الصبح جميعاً فإن هذا من المعاقرة و أيضاً فإن يحيى بن أكثم كان من علية أهل الحديث و قد أثنى عليه الإمام أحمد بن حنبل و إسماعيل القاضي و خرج عنه التزمذي كتابه الجامع و ذكر المزني الحافظ أن البخاري روى عنه في غير الجامع فالقدح فيه قدح في جميعهم و كذلك ما ينبزه المجان بالميل إلى الغلمان بهتاناً على الله و فرية على العلماء و يستندون في ذلك إلى أخبار القصاص الواهية التي لعلها من افتراء أعدائه فإنه كان محسوداً في كماله خلته للسلطان و كان مقامه من العلم و الدين منزهاً عن مثل ذلك و قد ذكر لابن حنبل ما يرميه به الناس فقال سبحان الله سبحان الله و من يقول هذا و أنكر ذلك إنكاراً شديداً وأثنى عليه إسماعيل القاضي فقيل له ما كان يقال فيه فقال معاذ الله أن تزول عدالة مثله بتكذيب باغ و حاسد و قال أيضاً يحيى بن أكثم أبرأ إلى الله من أن يكون فيه شيىء مما كان يرمى به من أمر الغلمان و لقد كنت أقف على سرائره فأجده شديد الخوف من الله لكنه كانت فيه دعابة و حسن خلق فرمى بما رمى به ابن حيان في الثقات و قال لا يشتغل بما يحكى عنه لأن أكثرها لا يصح عنه و من أمثال هذه الحكايات ما نقله ابن عبد ربه صاحب العقد من حديث الزنبيل في سبب إصهار المأمون إلى الحسن بن سهل في بنته بوران و أنه عثر في بعض الليالي في تطوافه بسكك بغداد في زنبيل مدلى من بعض السطوح بمعالق و جدل مغارة الفتل من الحرير فاعتقده و تناول المعالق فاهتزت و ذهب به صعداً إلى مجلس شأنه كذا و وصف من زينة فرشه و تنصيد ابنته و جمال رؤيته ما يستوقف الطرف و يملك النفس و أن امرأة برزت له من خلل الستور في ذلك المجلس رائقة الجمال فتانة المحاسن فحيته و دعته إلى المنادمة فلم يزل يعاقرها الخمر حتى الصباح و رجع إلى أصحابه بمكانهم من انتظاره و قد شغفته حباً بعثه على الإصهار إلى أبيها و أين هذا كله من حال المأمون المعروفة في دينه و علمه و اقتفائه سنن الخلفاء الراشدين من آبائه و أخذه بسير الخلفاء الأربعة أركان الملة و مناظرته العلماء و حفظه لحدود الله تعالى في صلواته، أحكامه فكيف تصح عنه أحوال الفساق المستهترين في التطواف بالليل و طروق المنازل و غشيان السمر سبيل عشاق الأعراب و أين ذلك من منصب ابنة الحسن بن سهل و شرفها و ما كان بدار أبيها من الصون و العفاف و أمثال هذه الحكايات كثيرة و في كتب المؤرخين معروفة و إنما يبعث على وضعها و الحديث بها الانهماك في اللذات المحرمة و هتك قناع المخدرات و يتعللون بالتأسي بالقوم فيما يأتونه من طاعة لذاتهم فلذلك تراهم كثيراً ما يلهجون بأشباه هذه الأخبار و ينقرون عنها عند تصفحهم لأوراق الدواوين و لو ائتسوا بهم في غير هذا من أحوالهم و صفات الكمال اللائقة بهم المشهورة عنهم لكان خيراً لهم لو كانوا يعلمون. و لقد عذلت يوماً بعض الأمراء من أبناء الملوك في كلفه بتعلم الغناء و ولوعه بالأوتار و قلت له ليس هذا من شأنك و لا يليق بمنصبك فقال لي أفلا ترى إلى إبراهيم بن المهدي كيف كان إمام هذه الصناعة و رئيس المغنين في زمانه فقلت له يا سبحان الله و هلا تأسيت بأبيه أو أخيه أو ما رأيت كيف قعد ذلك بإبراهيم عن مناصبهم فصم عن عذلي و أعرض و الله يهدي من يشاء.
و من الأخبار الواهية ما يذهب إليه الكثير من المؤرخين و الأثبات في العبيديين خلفاء الشيعة بالقيروان و القاهرة من نفيهم عن أهل البيت صلوات الله عليهم و الطعن في نسبهم إلى اسماعيل الإمام ابن جعفر الصادق يعتمدون في ذلك على أحاديث لفقت للمستضعفين من خلفاء بني العباس تزلفاً إليهم بالقدح فيمن ناصبهم و تفنناً في الشمات بعدوهم حسبما تذكر بعض هذه الأحاديث في أخبارهم و يغفلون عن التفطن لشواهد الواقعات و أدلة الأحوال التي اقتضت خلاف ذلك من تكذيب دعواهم و الرد عليهم.
فإنهم متفقون في حديثهم عن مبدأ دولة الشيعة أن أبا عبد الله المحتسب لما دعي بكتامة للرضى من آل محمد و اشتهر خبره و علم تحويمه على عبيد الله المهدي و ابنه أبي القاسم خشيا على أنفسهما فهربا من المشرق محل الخلافة و اجتازا بمصر و أنهما خرجا من الاسكندرية في زي التجار و نمي خبرهما إلى عيسى النوشري عامل مصر و الاسكندرية فسرح في طلبهما الخيالة حتى إذا أدركا خفي حالهما على تابعهما بما لبسوا به من الشارة و الزي فأفلتوا إلى المغرب. و أن المعتضد أوعز إلى الأغالبة أمراء أفريقيا بالقيروان و بني مدرار أمراء سجلماسة بأخذ الآفاق عليهما وإذكاء العيون في طلبهما فعثر اليشع صاحب سجلماسة من آل مدرار على خفي مكانهما ببلده و اعتقلهما مرضاة للخليفة.
القسم الثالث من المقدمة في فضل علم التاريخ و تحقيق مذاهبه و الالماع لما يعرض للمؤرخين من المغالط و ذكر شيىء من أسبابها
هذا قبل أن تظهر الشيعة على الأغالبة بالقيروان ثم كان بعد ذلك ما كان من ظهور دعوتهم بالمغرب و أفريقية ثم باليمن ثم بالاسكندرية ثم بمصر و الشام و الحجاز و قاسموا بني العباس في ممالك الإسلام شق الأبلمة و كادوا يلجون عليهم مواطنهم و يزايلون من أمرهم و لقد أظهر دعوتهم ببغداد و عراقها الأمير البساسيري من موالي الديلم المتغلبين على خلفاء بني العباس في مغاضبت جرت بينه و بين أمراء العجم و خطب لهم على منابرها حولاً كاملاً و مازال بنو العباس يغصون بمكانهم و دولتهم و ملوك بني أمية وراء البحر ينادون بالويل و الحرب منهم و كيف يقع هذا كله لدعي في النسب يكذب في انتحال الأمر و اعتبر حال القرمطي إذ كان دعياً في انتسابه كيف تلاشت دعوته و تفرقت اتباعه و ظهر سريعاً على خبثهم و مكرهم فساءت عاقبتهم و ذاقوا و بال أمرهم و لو كان أمر العبيد بين كذلك لعرف و لو بعد مهلة:
ومهما يكن عند امرىء من خليقة و إن خالها تخفى على الناس تعلم
فقد اتصلت دولتهم نحواً من مائين و ستين سنة و ملكوا مقام إبراهيم عليه السلام و مصلاه و موطن الرسول صلى الله عليه وسلم و مدفنه و موقف الحجيج و مهبط الملائكة ثم انقرض أمرهم و شيعتهم في ذلك كله على أتم ما كانوا عليه من الطاعة لهم و الحب فيهم و اعتقادهم بنسب الإمام إسماعيل بن جعفر الصادق و لقد خرخوا مراراً بعد ذهاب الدولة و دروس أثرها داعين إلى بدعتهم هاتفين بأسماء صبيان من أعقابهم يزعمون استحقاقهم للخلافة و يذهبون إلى تعيينهم بالوصية ممن سلف قبلهم من الأيمة و لو ارتابوا في نسبهم لما ركبوا أعناق الأخطار في الانتصار لهم فصاحب البدعة لا يلبس في أمره و لا يشبه في بدعته و لا يكذب نفسه فيما ينتحله.
والعجب من القاضي أبي بكر الباقلاني شيخ النظار من المتكلمين كيف يجنح إلى هذه المقالة المرجوحة و يرى هذا الرأي الضعيف فأن كان ذلك لما كانوا عليه من الإلحاد في الدين و التعمق في الرافضية فليس ذلك بدافع في صدر دعوتهم و ليس إثبات منتسبهم بالذي يغني عنهم من الله شيئاً في كفرهم فقد قال تعالى لنوح عليه السلام في شأن ابنه إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم و قال صلى الله عليه وسلم لفاطمة يعظها يا فاطمة إعملي فلن أغني عنك من الله شيئاً و متى عرف امرؤ قضيةً و استيقن أمراً وجب عليه أن يصدع به و الله يقول الحق و هو يهدي السبيل و القوم كانوا في مجال الظنون الدول بهم و تحت رقبة من الطغاة لتوفر شيعتهم و انتشارهم في القاصية بدعوتهم و تكرر خروجهم مرة بعد أخرى فلاذت رجالاتهم بالاختفاء و لم يكادوا يعرفون كما قيل:
فلو تسأل الأيام ما اسمي ما درت و أين مكاني ما عرفن مكانيا
حتى لقد سمي محمد بن إسماعيل الامام جد عبد الله المهدي بالمكتوم سمته بذلك شيعتهم لما إتفقوا عليه من إخفائه حذراً من المتغلبين عليهم فتوصل شيعة بني العباس بذلك عند ظهورهم إلى الطعن في نسبهم و ازدلفوا بهذا الرأي القائل للمستضعفين من خلفائهم و أعجب به أولياؤهم و أمراء دولتهم المتولون لحروبهم مع الأعداء يدفعون به عن أنفسهم و سلطانهم معرة العجز عن المقاومة و المدافعة لمن غلبهم على الشام و مصر و الحجاز من البربر الكتامين شيعة العبيديين و أهل دعوتهم حتى لقد أسجل القضاة ببغداد بنفيهم عن هذا النسب و شهد بذلك عندهم من أعلام الناس جماعة منهم الشريف الرضي و أخوة المرتضى و ابن البطحاوي و من العلماء أبو حامد الأسفراييني و القدوري و الصيمري و ابن الأكفاني و الأبيوردي و أبو عبد الله بن النعمان فقيه الشيعة و غيرهم من أعلام الأمة ببغداد في يوم مشهود و ذلك سنة ستين و أربعمائة في أيام القادر و كانت شهادتهم في ذلك على السماع لما اشتهر وعرف بين الناس ببغداد و غالبها شيعة بني العباس الطاعنون في هذا النسب فنقله الأخباريون كما سمعوه و رووه حسبما وعوه و الحق من ورائه. و في كتاب المعتضد في شأن عبيد الله إلى ابن الأغلب بالقيروان و ابن مدرار بسجلماسة أصدق شاهد و أوضح دليل على صحة نسبهم فالمعتضد أقعد بنسب أهل البيت من كل أحد و الدولة و السلطان سوق للعالم ت*** إليه بضائع العلوم والصنائع تلتمس في ضوال الحكم تحدى إليه ركائب الروايات و الأخبار و ما نفق فيها نفق عند الكافة فأن تنزهت الدولة عن التعسف و الميل و الأفن و السفسفة و سلكت النهج الأمم و لم تجر عن قصد السبيل نفق في سوقها الأبريز الخالص و اللجين المصفى و أن ذهبت مع الأغراض و الحقود و ماجت بسماسرة العرب البغي و الباطل نفق البهرج و الزائف و الناقد البصير قسطاس نظره و ميزان بحثه و ملتمسه.
و مثل هذا و أبعد منه كثيراً ما يتناجى به الطاعنون في نسب إدريس بن إدريس بن عبد الله بن حسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضوان الله عليهم الإمام بعد أبيه بالمغرب الأقصى و يعرضون تعريض الحد بالتظنن في الحمل المخلف عن إدريس الأكبر إنه لراشد مولاهم قبحهم الله و أبعدهم ما أجهلهم أما يعلمون أن إدريس الأكبر كان إصهاره في البربر و إنه منذ دخل المغرب إلى أن توفاه الله عز و جل عريق في البدو و أن حال البادية في مثل ذلك غير خافية لا مكامن لهم يتأتى فيها الريب و أحوال حرمهم أجمعين بمزأى من جاراتهن و مسمع من جيرانهن لتلاصق الجدران و تطافن البنيان و عدم الفواصل بين المساكن و قد كان راشد يتولى خدمة الحرم أجمع من بعد مولاه بمشهد من أوليائهم و شيعتهم و مراقبة من كافتهم و قد أتفق برابرة المغرب الأقصى عامة على بيعة إدريس الأصغر من بعد أبيه و آتوه طاعتهم عن رضى و إصفاق و بايعوه على الموت الأحمر و خاضوا دونه بحار المنايا في حروبه و غزواته و لو حدثوا أنفسهم بمثل هذه الريبة أو قرعت أسماعهم و لو من عدو كاشح أو منافق مرتاب لتخلف عن ذلك و لو بعضهم كلا و الله إنما صدرت هذه الكلمات من بني العباس أقتالهم و من بني الأغلب عمالهم كانوا بأفريقية و ولاتهم.
و ذلك إنه لما فر إدريس الأكبر إلى المغرب من وقعة بلخ أوعز الهادي إلى الأغالبة أن يقعدوا له بالمراصد و يذكوا عليه العيون فلم يظفروا به و خلص إلى المغرب فتم أمره و ظهرت دعوته و ظهر الرشيد من بعد ذلك على ما كان من واضح مولاهم و عاملهم على الاسكندرية من دسيسة التشيع للعلوية و إدهانه في نجاة إدريس إلى المغرب فقتله و دس الشماخ من موالي المهدي أبيه للتحيل على قتل إدريس فأظهر اللحاق به و البراءة من بني العباس مواليه فاشتمل عليه إدريس و خلطه بنفسه و ناوله الشماخ في بعض خلواته سماً استهلكه به و وقع خبر مهلكه من بني العباس أحسن المواقع لما رجوه من قطع أسباب الدعوة العلوية بالمغرب و اقتلاع جرثومتها و لما تأدى إليهم خبر الحمل المخلف لإدريس فلم يكن لهم إلا كلا و لا إذا بالدعوة قد عادت و الشيعة بالمغرب قد ظهرت و دولتهم بإدريس بن إدريس قد تجددت فكان ذلك عليهم أنكى من و وقع الشهاب وكان الفشل و الهرم قد نزلا بدولة العرب عن أن يسموا إلى القاصية فلم يكن منتهى قدرة الرشيد على إدريس الأكبر بمكانه من قاصية المغرب و اشتمال البربر عليه إلا التحيل في إهلاكه بالسموم فعند ذلك فزعوا إلى أوليائهم من الأغالبة بأفريقية في سد تلك الفرجة من ناحيتهم و حسم الداء المتوقع بالدولة من قبلهم و اقتلاع تلك العروق قبل أن تشج منهم يخاطبهم بذلك المأمون و من بعده من خلفائهم فكان الأغالبة عن برابرة المغرب الأقصى أعجز و لمثلها من الزبون على ملوكهم أحوج لما طرق الخلافة من انتزاء ممالك العجم على سدتها و امتطائهم صهوة التغلب عليها و تصريفهم أحكامها طوع أغراضهم في رجالها و جبايتها و أهل خططها و سائر نقضها و إبرامها كما قال شاعرهم
خليفة في قفص بين وصيف و بغا
يتوك ماقالا له كما تقول الببغا
المصدر: ملتقى شذرات

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 01-09-2012, 01:08 AM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,392
افتراضي

فخشي هؤلاء الأمراء الأغالبة بوادر السعايات و تلوا بالمعاذير فطوراً باحتقار المغرب و أهله و طوراً بالإرهاب بشأن إدريس الخارج به ومن قام مقامه من أعقابه يخاطبونه بتجاوزه حدود التخوم من عمله و ينفذون سكته في تحفهم و هداياهم و مرتفع جبايتهم تعريضاً باستفحاله و تهويلاً باشتداد شوكته و تعظيماً لما دفعوا إليه من مطالبته و مراسه و تهديداً بقلب الدعوة إن ألجئوا إليه و طوراً يطعنون في نسب إدريس بمثل ذلك الطعن الكاذب تخفيضاً لشأنه لا يبالون بصدقه من كذبه لبعد المسافة و أفن عقول من خلف بن صبية بني العباس و ممالكهم العجم في القبول من كل قائل و السمع لكل ناعق و لم يزل هذا دأبهم حتى انقضى أمر الأغالبة فقرعت هذه الكلمة الشنعاء أسماع الغوغاء و صر عليها بعض الطاعنين أذنه و اعتدها ذريعة إلى النيل من خلفهم عند المنافسة. و ما لهم قبحهم الله و العدول عن مقاصد الشريعة فلا تعارض فيها بين المقطوع و المظنون و إدريس ولد على فراش أبيه و الولد للفراش.
على أن تنزيه أهل البيت عن مثل هذا من عقائد أهل الإيمان فالله سبحانه قد أذهب عنهم الرجس و طهرهم تطهيراً ففراش إدريس طاهر من الدنس و منزه عن الرجس بحكم القرآن و من اعتقد خلاف هذا فقد باء بإثمه و ولج الكفر من بابه و إنما أطنبت في هذا الرد سداً لأبواب الريب و دفعاً في صدر الحاسد لما سمعته أذناي من قائله المعتدي عليهم القادح في نسبهم بفريته و ينقله بزعمه عن بعض مؤرخين المغرب ممن انحرف عن أهل البيت و ارتاب في الإيمان بسلفهم و إلا فالمحل منزه عن ذلك معصوم منه و نفي العيب حيث يستحيل العيب عيب لكني جادلت عنهم في الحياة الدنيا و أرجو أن يجادلوا عني يوم القيامة و لتعلم أن أكثر الطاعنين في نسبهم إنما هم الحسدة لأعقاب إدريس هذا من منتهم إلى أهل البيت أو دخيل فيهم فإن ادعاء هذا النسب الكريم دعوى شرف عريضة على الأمم و الأجيال من أهل الآفاق فتعرض التهمة فيه.
و لما كان نسب بني إدريس هؤلاء بمواطنهم من فارس و سائر ديار المغرب قد بلغ من الشهرة و الوضوح مبلغاً لا يكاد يلحق و لا يطمع أحد في دركه إذ هو نقل الأمة و الجيل من الخلف عن الأمة و الجيل من السلف و بيت جدهم إدريس مختط فاس و مؤسسها من بيوتهم و مسجده لصق محلتهم و دروبهم و سيفه منتضى برأس المأذنة العظمى من قرار بلدهم و غير ذلك من آثاره التي جاوزت أخبارها حدود التواتر مرات و كادت تلحق بالعيان فإذا نظر غيرهم من أهل هذا النسب إلى ما أتاهم الله من أمثالها و ما عضد شرفهم النبوي من جلال الملك الذي كان لسلفهم بالمغرب و استيقن أنه بمعزل عن ذلك و أنه لا يبلغ مد أحدهم و لا نصيفه أ و أن غاية أمر المنتمين إلى البيت الكريم ممن لم يحصل له أمثال هذه الشواهد أن يسلم لهم حالهم لأن الناس مصدوقون في أنسابهم و بون ما بين العلم و الظن و اليقين و التسليم فإذا علم بذلك من نفسه غص بريقه و ود كثير منهم لو يردونهم عن شرفهم ذلك سوقة و وضعاء حسداً من عند أنفسهم فيرجعون إلى العناد و ارتكاب اللجاج و البهت بمثل هذا الطعن الفائل و القول المكذوب تعللاً بالمساواة في الظنة و المشابهة في تطرق الاحتمال و هيهات لهم ذلك فليس في المغرب فيما نعلمه من أهل هذا البيت الكريم من يبلغ في صراحة نسبه و وضوحه مبالغ أعقاب إدريس هذا من آل الحسن.
و كبراؤهم لهذا العهد بنو عمران بفاس من ولد يحيى الخوطي بن محمد بن يحيى العوام بن القاسم بن إدريس بن إدريس و هم نقباء أهل البيت هناك و الساكنون ببيت جدهم ادريس و لهم السيادة على أهل المغرب كافة حسبما نذكرهم عند ذكر الأدارسة إن شاء الله تعالى و يلحق بهذه المقالات الفاسدة و المذاهب الفائلة ما يتناوله ضعفة الرأي من فقهاء المغرب من القدح في الإمام المهدي صاحب دولة الموحدين و نسبته إلى الشعوذة و التلبيس فيما أتاه من القيام بالتوحيد الحق و النعي على أهل البغي قبله و تكذيبهم لجميع مدعياته في ذلك حتى فيما يزعم الموحدون أتباعه من انتسابه في أهل البيت و إنما حمل الفقهاء على تكذيبه ما كمن في نفوسهم من حسده على شأنه فإنهم لما رأوا من أنفسهم مناهضته في العلم و الفتيا و في الدين بزعمهم ثم امتاز عنهم بأنه متبوع الرأي مسموع القول موطؤ العقب نفسوا ذلك عليه و غضوا منه بالقدح في مذاهبه و التكذيب لمدعياته و أيضاً فكانوا يؤنسون من ملوك المتونة أعدائه تجلةً و كرامةً لم تكن لهم من غيرهم لما كانوا عليه من السذاجة و انتحال الديانة فكان لحملة العلم بدولتهم مكان من الوجاهة و الإنتصاب للشورى كل في بلده و على قدره في قومه فأصبحوا بذلك شيعة لهم و حرباً لعدوهم و نقموا على المهدي ما جاء به من خلافهم و التثريب عليهم و المناصبة، لهم تشيعاً للمتونة و تعصباً لدولتهم و مكان الرجل غير مكانهم و حاله على غير معتقداتهم و ما ظنك برجل نقم على أهل الدولة ما نقم من أحوالهم و خالف اجتهاده فقهاؤهم فنادى في قومه و دعا إلى جهادهم بنفسه فاقتلع الدولة من أصولها و جعل عاليها سافلها أعظم ما كانت قوةً و أشد شوكة و أعز أنصاراً و حاميةً و تساقطت في ذلك من أتباعه نفوس لا يحصيها إلا خالقها و قد بايعوه على الموت و وقوه بأنفسهم من الهلكة و تقربوا إلى الله تعالى بإتلاف مهجهم في إظهار تلك الدعوة و التعصب لتلك الكلمة حتى علت على الكلم و دالت بالعدوتين من الدول و هو بحاله من التقشف و الحصر و الصبر على المكاره و التقلل من الدنيا حتى قبضه الله و ليس على شيىء من الحظ و المتاع في دنياه حتى الولد الذي ربما تجنح أليه النفوس و تخادع عن تمنيه فليت شعري ما الذي قصد بذلك إن لم يكن و جه الله و هو لم يحصل له حظ من الدنيا في عاجله و مع هذا فلو كان قصده غير صالح لما تم أمره و انفسحت دعوته سنة الله التي قد خلت في عباده و أما انكارهم نسبه في أهل البيت فلا تعضده حجة لهم مع أنه إن ثبت أنه ادعاه و انتسب إليه فلا دليل يقوم على بطلانه لأن الناس مصدقون في أنسابهم و إن قالوا أن الرئاسة لا تكون على قوم في غير أهل جلدتهم كما هو الصحيح حسبما يأتي في الفصل الأول من هذا الكتاب و الرجل قد رأس سائر المصامدة و دانوا باتباعه و الانقياد إليه و إلى عصابته من هرغة حتى تم أمر الله في دعوته فأعلم أن هذا النسب الفاطمي لم يكن أمر المهدي يتوقف عليه و لا اتبعه الناس بسببه و إنما كان اتباعهم له بعصبية الهريغة و المصمودية و مكانه منها و رسوخ شجرته فيها و كان ذلك النسب الفاطمي خفياً قد درس عند الناس ليبقى عنده و عند عشيرته يتناقلونه بينهم فيكون النسب الأول كأنه انسلخ منه و لبس جلدة هؤلاء و ظهر فيها فلا يضره الانتساب الأول في عصبيته إذ هو مجهول عند أهل العصابة و مثل هذا واقع كثيراً إذا كان النسب الأول خفياً. و انظز قصة عرفجة و جرير في رئاسة بجيلة و كيف كان عرفجة من الأزد و لبس جلدة بجيلة حتى تنازع مع جرير رئاستهم عند عمر رضي الله عنه كما هو مذكور تتفهم منه وجه الحق و الله الهادي للصواب و قد كدنا أن نخرج عن غرض الكتاب بالإطناب في هذه المغالط فقد زلت أقدام كثير من الأثبات و المؤرخين الحفاظ في مثل هذه الأحاديث و الآراء و علقت أفكارهم و نقلها عنهم الكافة من ضعفة النظر و الغفلة عن القياس و تلقوها هم أيضاً كذلك من غير بحث و لا روية و اندرجت في محفوظاتهم حتى صار فن التاريخ واهياً مختلطاً و ناظره مرتبكاً وعد من مناحي العامة فإذا يحتاج صاحب هذا الفن إلى العلم بقواعد السياسة و طبائع الموجودات و اختلاف الأمم و البقاع و الأعصار في السير و الأخلاق و العوائد و النحل و المذاهب و سائر الأحوال و الإحاطة بالحاضر من ذلك و مماثلة ما بينه و بين الغائب من الوفاق أو بون ما بينهما من الخلاف و تعليل المتفق منها و المختلف و القيام على أصول الدول و الملل و مبادىء ظهورها و أسباب حدوثها و دواعي كونها و أحوال القائمين بها و أخبارهم حتى يكون مستوعباً لأسباب كل خبره و حينئذ يعرض خبر المنقول على ما عنده من القواعد و الأصول فإن وافقها و جرى على مقتضها كان صحيحاً و إلا زيفه و استغنى عنه و ما استكبر القدماء علم التاريخ إلا لذلك حتى انتحله الطبري و البخاري و ابن إسحاق من قبلهما و أمثالهم من علماء الأمة و قد ذهل الكثير عن هذا السر فيه حتى صار انتحاله مجهلة و استخف العوام و من لا رسوخ له في المعارف مطالعته و حمله و الخوض فيه و التطفل عليه فاختلط المرعي بالهمل و اللباب بالقشر و الصادق بالكاذب و إلى الله عاقبة الأمور و من الغلط الخفي في التاريخ الذهول عن تبدل الأحوال في الأمم و الأجيال بتبدل الأعصار و مرور الأيام و هو داء دوي شديد الخفاء إذ لا يقع إلا بعد أحقاب متطاولة فلا يكاد يتفطن له إلا الآحاد من أهل الخليقة و ذلك أن أحوال العالم و الأمم و عوائدهم و نحلهم لا تدوم على وتيرة واحدة و منهاح مستقر إنما هو اختلاف على الأيام و الأزمنة و انتقال من حال إلى حال و كما يكون ذلك في الأشخاص و الأوقات و الأمصار فكذلك يقع في الآفاق و الأقطار و الأزمنة و الدول سنة الله التي قد خلت في عباده و قد كانت في العالم أمم الفرس الأولى و السريانيون و النبط و التبابعة و بنو إسرائيل و القبط و كانوا على أحوال خاصة بهم في دولهم و ممالكهم و سياستهم و صنائعهم و لغاتهم و اصطلاحاتهم و سائر مشاركاتهم مع أبناء جنسهم وأحوال اعتمارهم للعالم تشهد بها آثارهم ثم جاء من بعدهم الفرق الثانية و الروم و العرب فتبدلت تلك الأحوال و انقلبت بها العوائد إلى ما يجانسها أو يشابهها و إلى ما يباينها أو يباعدها ثم جاء الإسلام بدولة مضر فانقلبت تلك الأحوال و أجمع انقلابة أخرى و صارت إلى ما أكثره فتعارف لهذا العهد بأخذه الخلف عن السلف ثم درست دولة العرب و أيامهم و ذهبت الأسلاف الذين شيدوا عزمهم و مهدوا ملكهم و صار الأمر في أيدي سواهم من العجم مثل الترك بالمشرق و البربر بالمغرب و الفرنجة بالشمال فذهبت بذهابهم أمم و انقلبت أحوال و عوائد نسي شأنها و أغفل أمرها و السبب الشائع في تبدل الأحوال و العوائد أن عوائد كل جيل تابعة لعوائد سلطانه كما يقال في الأمثال الحكمية الناس على دين الملك و أهل الملك و السلطان إذا استولوا على الدولة و الأمر فلابد من أن يفزعوا إلى عوائد من قبلهم و يأخذون الكثير منها و لا يغفلون عوائد جيلهم مع ذلك فيقع في عوائد الدولة بعض المخالفة لعوائد الجيل الأول فإذا جاءت دولة أخرى من بعدهم و مزجت من عوائدهم و عوائدها خالفت أيضاً بعض الشيىء و كانت للأولى أشد مخالفة ثم لا يزال التدريج في المخالفة حتى ينتهي إلى المباينة بالجملة فما دامت الأمم و الأجيال تتعاقب في الملك و السلطان لا تزال المخالفة في العوائد و الأحوال واقعة. و القياس و المحاكاة للإنسان طبيعة معروفة و من الغلط غير مأمونة تخرجه مع الذهول و الغفلة عن قصده و تعوج به عن مرامه فربما يسمع السامع كثيراً من أخبار الماضين و لا يتفطن لما وقع من تغير الأحوال و انقلابها فيجريها لأول وهلة على ما عرف و يقيسها بما شهد و قد يكون الفرق بينهما كثيراً فيقع في مهواة من الغلط فمن هذا الباب ما ينقله المؤرخون من أحوال الحجاج و أن أباه كان من المعلمين مع أن التعليم لهذا العهد من جملة الصنائع المعاشية البعيدة من اعتزاز أهل العصبية و المعلم مستضعف مسكين منقطع الجذم فيتشوف الكثير من المستضعفين أهل الحرف و الصنائع المعاشية إلى نيل الرتب التي ليسوا لها بأهل و يعدونها من الممكنات لهم فتذهب بهم وساوس المطامع و ربما انقطع حبلها من أيديهم فسقطوا في مهواة الهلكة و التلف و لا يعلمون استحالتها في حقهم و أنهم أهل حرف و صنائع للمعاش و أن التعليم صدر الإسلام و الدولتين لم كذلك و لم يكن العلم بالجملة صناعة إنما كان نقلاً لما سمع من الشارع و تعليماً لما جهل من الذين على جهة البلاغ فكان أهل الأنساب و العصبة الذين قاموا بالملة ثم الذين يعلمون كتاب الله و سنة نبيه صلى الله عليه و سلم على معنى التبليغ الخبري لا على وجه التعليم الصناعي إذ هو كتابهم المنزل على الرسول منهم و به هداياتهم و الإسلام دينهم قاتلوا عليه و قتلوا و اختصوا به من بين الأمم و شرفوا فيحرصون على تبليغ ذلك و تفهيمه للأمة لا تصدهم عنه لائمة الكبر و لا يزغهم عاذل الأنفة و يشهد لذلك بعث النبي صلى الله عليه و سلم كبار أصحابه مع وفود العرب يعلمونهم حدود الإسلام و ما جاء به من شرائع الدين بعث في ذلك من أصحابه العشرة فمن بعدهم فما استقر الإسلام و وشجت عروق الملة حتى تناولها الأمم البعيدة من أيدي أهلها و استحالت بمرور الأيام أحوالها و كثر استنباط الأحكام الشرعية من النصوص لتعدد الوقائع و تلاحقها فاحتاج ذلك لقانون يحفظه من الخطإ و صار العلم ملكةً يحتاج إلى التعلم فأصبح من جملة الصنائع و الحرف كما يأتي ذكره في فصل العلم و التعليم و اشتغل أهل العصبية بالقيام بالملك و السلطان فدفع لعلم من قام به من سواهم و أصبح حرفة للمعاش و شمخت أنوف المترفين و أهل السلطان عن التصدي للتعليم و اختص انتحاله بالمستضعفين و صار منتحله محتقراً عند أهل العصبية و الملك و الحجاج بن يوسف كان أبوه من سادات ثقيف و أشرافهم و مكانهم من عصبية العرب و مناهضة قريش في الشرف ما علمت و لم يكن تعليمه للقرآن على ما هو الأمر عليه لهذا العهد من أنه حرفة للمعاش و أنما كان على ما وصفناه من الأمر الأول في الإسلام و من هذا الباب أيضاً ما يتوهمه المتصفحون لكتب التاريخ إذا سمعوا أحوال القضاة و ما كانوا عليه من الرئاسة في الحروب و قود العساكر فتترامى بهم و ساوس الهمم إلى مثل تلك الرتب يحسبون أن الشأن خطة القضاء لهذا العهد على ما كان عليه من قبل و يظنون بابن أبي عامر صاحب هشام المستبد عليه و ابن عباس من ملوك الطوائف بإشبيلية إذا سمعوا أن آباءهم كانوا قضاة أنهم مثل القضاة لهذا العهد و لا يتفطنون لما وقع في رتبة القضاء من مخالفة العوائد كما نبينه في فصل القضاء من الكتاب الأول و ابن أبي عامر و ابن عباد كانا من قبائل العرب القائمين بالدولة الأموية بالأندلس و أهل عصبيتها و كان مكانهم فيها معلوماً و لم يكن نيلهم لما نالوه من الرئاسة و الملك بخطة القضاء كما هي لهذا العهد بل إنما كان القضاء في الأمر القديم لأهل العصبية من قبيل الدولة و مواليه كما هي الوزارة لعهدنا بالمغرب و انظر خروجهم بالعساكر في الطرائف و تقليدهم عظائم الأمور التي لا تقلد إلا لمن له الغنى فيها بالعصبية فيغلط السامع في ذلك و يحمل الأحوال على غير ما هي و أكثر ما يقع في هذا الغلط ضعفاء البصائر من أهل الأندلس لهذا العهد لفقدان العصبية في مواطنهم منذ أعصار بعيدة بفناء العرب و دولتهم بها و خروجهم عن ملكة أهل العصبيات من البربر فبقيت أنسابهم العربية محفوظة و الذريعة إلى العز من العصبية و التناصر مفقودة بل صاروا من جملة الرعايا المتخاذلين الذين من تعبدهم القهر و رئموا للمذلة يحسبون أن أنسابهم مع مخالطة الدولة هي التي يكون لهم بها الغلب و التحكم فتجد أهل الحرف و الصنائع منهم متصدين لذلك ساعين في نيله فأما من باشر أحوال القبائل و العصبية و دولهم بالعدوة الغربية و كيف يكون التغلب بين الأمم و العشائر فقلما يغلطون في ذلك و يخطئون في اعتباره. و من هذا الباب أيضاً ما يسلكه المؤرخون عند ذكر الدول و نسق ملوكها فيذكرون اسمه و نسبه و أباه و أمه و نساءه و لقبه و خاتمه و قاضيه و حاجبه و وزيره كل ذلك تقليد لمؤرخي الدولتين من غير تفطن لمقاصدهم و المؤرخون لذلك العهد كانوا يضعون تواريخهم لأهل الدولة و أبناؤها متشوفون إلى سير أسلافهم و معرفة أحوالهم ليقتفوا آثارهم و ينسجوا على منوالهم حتى في اصطناع الرجال من خلف دولتهم و تقليد الخطط و المراتب لأبناء صنائعهم و ذويهم و القضاة أيضاً كانوا من أهل عصبية الدولة و في عداد الوزراء كما ذكرناه لك فيحتاجون إلى ذكر ذلك كله و أما حين تباينت الدول و تباعد ما بين العصور و وقف الغرض على معرفة الملوك بأنفسهم خاصة و نسب الدول بعضها من بعض في قوتها و غلبتها و من كان يناهضها من الأمم أو يقصر عنها فما الفائدة للمصنف في هذا العهد في ذكر الأنباء و النساء و نقش الخاتم و اللقب و القاضي و الوزير و الحاجب من دولة قديمة لا يعرف فيها أصولهم و لا أنسابهم و لا مقاماتهم إنما حملهم على ذلك التقليد و الغفلة عن مقاصد المؤلفين الأقدمين و الذهول عن تحري الأغراض من التاريخ اللهم إلا ذكر الوزراء الذين عظمت آثارهم و عمت على الملوك أخبارهم كالحجاج و بني المهلب و البرامكة و بني سهل بن نوبخت و كافور الأخشيدي و ابن أبي عامر و أمثالهم فغير نكير الالماع بآبائهم و الاشارة إلى أحوالهم لانتظامهم في عداد الملوك. و لنذكر هنا فائدة نختم كلامنا في هذا الفصل بها و هي أن التاريخ إنما هو ذكر الأخبار الخاصة بعصر أو جيل فأما ذكر الأحوال العامة للآفاق و الأجيال و الأعصار فهو أس للمؤرخ تنبني عليه أكثر مقاصده و تتبين به أخباره و قد كان الناس يفردونه بالتأليف كما فعله المسعودي في كتاب مروج الذهب شرح فيه أحوال الأمم و الآفاق لعهده في عصر الثلاثين و الثلاثمائة غرباً و شرقاً و ذكر نحلهم و عوائدهم و وصف البلدان و الجبال و البحار و الممالك و الدول و فرق شعوب العرب و العجم فصار إماماً لمؤرخين يرجعون إليه و أصلاً يعولون في تحقيق الكثير من أخبارهم عليه ثم جاء البكري من بعده ففعل مثل ذلك في المسالك و الممالك خاصة دون غيرها من الأحوال لأن الأمم و الأجيال لعهده لم يقع فيها كثير انتقال و لا عظيم تغير و أما لهذا العهد و هو آخر المائة الثامنة فقد انقلبت أحوال المغرب الذي نحن شاهدوه و تبدلت بالجملة و اعتاض من أجيال البربر أهله على القدم بما طرأ فيه من لدن المائة الخامسة من أجيال العرب بما كسروهم و غلبوهم و انتزعوا منهم عامة الأوطان و شاركوهم فيما بقي من البلدان لملكهم هذا إلى ما نزل بالعمران شرقاً و غرباً في منتصف هذه المائة الثامنة من الطاعون الجارف الذي تحيف الأمم و ذهب بأهل الجيل و طوى كثيراً من محاسن العمران و محاها و جاء للدول على حين هرمها و بلوغ الغاية من مداها فقلص من ظلالها و فل من حدها و أوهن من سلطانها و تداعت إلى التلاشي و الاضمحلال أموالها و انتقض عمران الأرض بانتقاض البشر فخربت الأمصار و المصانع و درست السبل و المعالم و خلت الديار و المنازل و ضعفت الدول و القبائل و تبدل الساكن و كأني بالمشرق قد نزل به مثل ما نزل بالمغرب لكن على نسبته و مقدار عمرانه و كأنما نادى لسان الكون في العالم بالخمول و الانقباض فبادر بالإجابة و الله وارث الأرض و من عليها و إذا تبدلت الأحوال جملة فكأنما تبدل الخلق من أصله و تحول العالم بأسره و كأنه خلق جديد و نشأة مستأنفة و عالم محدث فاحتاج لهذا العهد من يدون أحوال الخليقة و الآفاق و أجيالها و العوائد و النحل التي تبدلت لأهلها و يقفو مسلك المسعودي لعصره ليكون أصلاً يقتدي به من يأتي من المؤرخين من بعده و أنا ذاكر في كتابي هذا ما أمكنني منه في هذا القطر المغربي إما صريحاً أو مندرجاً في أخباره و تلويحاً لاختصاص قصدي في التأليف بالمغرب و أحوال أجياله و أممه و ذكر ممالكه و دوله دون ما سواه من الأقطار لعدم اطلاعي على أحوال المشرق و أممه و أن الأخبار المتناقلة لا تفي كنه ما أريده منه و المسعودي إنما استوفى ذلك لبعد رحلته و تقلبه في البلاد كما ذكر في كتابه مع أنه لما ذكر المغرب قصر في استيفاء أحواله و فوق كل ذي علم عليم و مرد العلم كله إلى الله و البشر عاجز قاصر و الاعتراف متعين واجب و من كان الله في عونه تيسرت
عليه المذاهب و انجحت له المساعي و المطالب و نحن آخذون بعون الله فيما رمناه من أغراض التأليف و الله المسدد و المعين و عليه التكلان و قد بقي علينا أن نقدم مقدمة في كيفية وضع الحروف التي ليست من لغات العرب إذا عرضت في كتابنا هذا.
اعلم أن الحروف في النطق كما يأتي شرحه بعد هي كيفيات الأصوات الخارجة من الحنجرة تعرض من تقطيع الصوت بقرع اللهاة و أطراف اللسان مع الحنك و الحلق و الأضراس أو بقرع الشفتين أيضاً فتتغاير كيفيات الأصوات بتغاير ذلك القرع و تجيء الحروف متمايزة في السمع و تتركب منها الكلمات الدالة على ما في الضمائر و ليست الأمم كلها متساوية في النطق بتلك الحروف فقد يكون لأمة مني الحروف ما ليس لأمة أخرى و الحروف التي نطقت بها العرب هي ثمانية و عشرون حرفاً كما عرفت و نجد للعبرانيين حروفاً ليست في لغتنا و في لغتنا أيضاً حروف ليست في لغتهم و كذلك الإفرنج و الترك و البربر و غير هؤلاء من العجم ثم إن أهل الكتاب من العرب اصطلحوا في الدلالة على حروفهم المسموعة بأوضاع حروف مكتوبة متميزة بأشخاصها كوضع ألف وباء و جيم وراء و طأ إلى آخر الثمانية و العشرين و إذا عرض لهم الحرف الذي ليس من حروف لغتهم بقي مهملاً عن الدلالة الكتابية مغفلاً عن البيان و ربما يرسمه بعض الكتاب بشكل الحرف الذي يكتنفه من لغتنا قبله أو بعده و ليس بكاف في الدلالة بل هو تغيير للحرف من أصله. و لما كان كتابنا مشتملاً على أخبار البربر و بعض العجم و كانت تعرض لنا في أسمائهم أو بعض كلماتهم حروف ليست من لغة كتابنا و لا اصطلاح أوضاعناً اضطررنا إلى بيانه و لم نكتف برسم الحرف الذي يليه كما قلناه لأنه عندنا غير واف بالدلالة عليه فاصطلحت في كتابي هذا على أن أضع ذلك الحرف العجمي بما يدل على الحرفين اللذين يكتنفانه ليتوسط القارىء بالنطق به بين مخرجي ذينك الحرفين فتحصل تأديته و إنما اقتبست ذلك من رسم أهل المصحف حروف الإشمام كالصراط في قراءة خلف فإن النطق بصاده فيها معجم متوسط بين الصاد و الزاي فوضعوا الصاد و رسموا في داخلها شكل الزاي و دل ذلك عندهم على التوسط بين الحرفين فكذلك رسمت أنا الكاف حرف يتوسط بين حرفين من حروفنا كالكاف المتوسطة عند البربر بين الكاف الصريحة عندنا و الجيم أو القاف مثل اسم بلكين فأضعها كافاً و أنقطها بنقطة الجيم واحدة من أسفل أو بنقطة القاف واحدة من فوق أو اثنتين فيدل ذلك على أنه متوسط بين الكاف و الجيم أو القاف و هذا الحرف أكثر ما يجيء في لغة البربر و ما جاء من غيره فعلى هذا القياس أضع الحرف المتوسط بين حرفين من لغتنا بالحرفين معاً ليعلم القارىء أنه متوسط فينطق به كذلك فنكون قد دللنا عليه و لو وضعناه برسم الحرف الواحد عن جانبه لكنا قد صرفناه من مخرجه إلى مخرج الحرف الذي من لغتنا و غيرنا لغة القوم فأعلم ذلك و الله الموفق للصواب بمنه و فضله.
الكتاب الأول في طبيعة العمران في الخليقة و ما يعرض فيها من البدو و الحصر و التغلب و الكسب و المعاش و الصنائع و العلوم و نحوها و ما لذلك من العلل و الأسباب
إعلم أنه لما كانت حقيقة التاريخ أنه خبر عن الاجتماع الانساني الذي هو عمران العالم و ما يعرض لطبيعة ذلك العمران من الأحوال مثل التوحش و التأنس و العصبيات و أصناف التغلبات للبشر بعضهم على بعض و ما ينشأ عن ذلك من الملك و الدول و مراتبها و ما ينتحله البشر بأعمالهم و مساعيهم من الكسب و المعاش والعلوم و الصنائع و سائر ما يحدث من ذلك العمران بطبيعته من الأحوال. و لما كان الكذب متطرقاً للخبر بطبعته و له أسباه تقتضيه. فمنها التشيعات للآراء و المذاهب فإن النفس إذا كانت على حال الاعتدال في قبول الخبر أعطته حقه من التمحيص و النظر حتى تتبين صدقه من كذبه و إذا خامرها تشيع لرأي أو نحلة قبلت ما يوافقها من الأخبار لأول وهلة. و كان ذلك الميل و التشيع غطاء على عين بصيرتها عن الانتقاد و التمحيص فتقع في قبول الكذب و نقله. و من الأسباب المقتضية للكذب في الأخبار أيضاً الثقة بالناقلين و تمحيص ذلك يرجع إلى التعديل و التجريح. و منها الذهول عن المقاصد فكثير من الناقلين لا يعرف القصد بما عاين أو سمع و ينقل الخبر على ما في ظنه و تخمينه فيقع في الكذب.
و منها توهم الصدق و هو كثير و إنما يجيء في الأكثر من جهة الثقة بالناقلين و منها الجهل بتطبيق الأحوال على الوقائع لأجل ما يداخلها من التلبيس و التصنع فينقلها المخبر كما رآها و هي بالتصنع على غير الحق في نفسه. و منها تقرب الناس في الأكثر لأصحاب التجلة و المراتب بالثناء و المدح و تحسين الأحوال و إشاعة الذكر بذلك فيستفيض الإخبار بها على غير حقيقة فالنفوس مولعة بحب الثناء و الناس متطلعون إلى الدنيا و أسبابها من جاه أو ثروة و ليسوا في الأكثر براغبين في الفصائل و لا متنافسين في أهلها. و من الأسباب المقتضية له أيضاً و هي سابقة على جميع ما تقدم الجهل بطبائع الأحوال في العمران فإن كل حادث من الحوادث ذاتاً كان أو فعلاً لا بد له من طبيعة تخصه في ذاته و فيما يعرض له من أحواله فإذا كان السامع عارفاً بطبائع الحوادث و الأحوال في الوجود و مقتضياتها أعانه ذلك في تمحيص الخبر على تمييز الصدق من الكذب و هذا أبلغ في التمحيص من كل وجه يعرض و كثيراً ما يعرض للسامعين قبول الأخبار المستحيلة و ينقلونها و تؤثرعنهم كما نقله المسعودي عن الإسكندر لما صدته دواب البحر عن بناء الاسكندرية و كيف أتخذ صندوق الزجاج و غاص فيه إلى قعر البحر حتى صور تلك الدواب الشيطانية التي رآها و عمل تماثيلها من أجساد معدنية و نصبها حذاء البنيان ففرت تلك الدواب حين خرجت و عاينتها و تم بناؤها في حكاية طويلة من أحاديث خرافة مستحيلة من قبل اتخاذه التابوت الزجاجي و مصادمة البحر و أمواجه بجرمه و من قبل أن الملوك لا تحمل أنفسها على مثل هذا الغرور و من اعتمده منهم فقد عرض نفسه للهلكة و انتقاض العقدة و اجتماع الناس إلى غيره و في ذلك إتلافه و لا ينظرون به رجوعه من غروره ذلك طرفة عين و من قبل أن الجن لا يعرف لها صورة و لا تماثيل تختص بها إنما هي قادرة على التشكيل و ما يذكره من كثرة الرؤوس لها فإنما المراد به البشاعة و التهويل لا إنه حقيقة. و هذه كلها قادحة في تلك الحكاية و القادح المحيل لها من طريق الوجود أبين من هذا كله و هو أن المنغمس في الماء و لو كان في الصندوق يضيق عليه الهواء للتنفس الطبيعي و تسخن روحه بسرعة لقلته فيفقد صاحبه الهواء البارد المعدل لمزاج الرئة و الروح القلبي و يهلك مكانه و هذا هو السبب في هلاك أهل الحمامات إذا أطبقت عليهم عن الهواء البارد و المتدلين في الآبار و المطامير العميقة المهوى إذا سخن هواؤها بالمعونة و لم تداخلها الرياح فتخلخلها فإن المتدلى فيها يهلك لحينه و بهذا السبب يكون موت الحوت إذا فارق البحر فإن الهواء لا يكفيه في تعديل رئته إذ هو حار بإفراط و الماء الذي يعدله بارد و الهواء الذي في خرج إليه حار فيستولي الحار على روحه الحيواني و يهلك دفعة و منه هلاك المصعوقين و أمثال ذلك ومن الأخبار المستحيلة ما نقله المسعودي أيضاً في تمثال الزرزور الذي برومة تجتمع إليه الزرازير في يوم معلوم من السنة حاملة للزيتون و منه يتخذون زيتهم و انظر ما أبعد ذلك عن المجرى الطبيعي في اتخاذ الزيت
و منها ما نقله البكري في بناء المدينة المسماة ذات الأبواب تحيط بأكثر من ثلاثين مرحلة و تشتمل على عشرة آلاف باب و المدن إنما اتخذت للتحصن و الاعتصام كما يأتي و هذه خرجت عن أن يحاط بها فلا يكون فيها حصن و لا معتصم و كما نقله المسعودي أيضاً في حديث مدينة النحاس و أنها مدينة كل بنائها نحاس بصحراء سجلماسة ظفر بها موسى بن نصير في غروته إلى المغرب و أنها مغلقة الأبواب و أن الصاعد إليها من أسوارها إذا أشرف على الحائط صفق و رمي بنفسه فلا يرجع آخر الدهر في حديث مستحيل عادة من خرافات القصاص و صحراء سجلماسة قد نفضها الركاب و الأدلاء و لم يقفوا لهذه المدينة على خبرهم أن هذه الأحوال التي ذكروا عنها كلها مستحيل عادةً مناف للأمور الطبيعية في بناء المدن و اختطاطها و أن المعادن غاية الموجود منها أن يصرف في الآنية و الخرثي و أما تشييد مدينة منها فكما تراه من الاستحالة و البعد و أمثال ذلك كثيرة و تمحيصه إنما هو بمعرفة طبائع العمران و هو أحسن الوجوه و أوثقها في تمحيص الأخبار وتمييز صدقها من كذبها و هو سابق على التمحيص بتعديل الرواة و لا يرجع إلى تعديل الرواة حتى يعلم أن ذلك الخبر في نفسه ممكن أو ممتنع و أما إذا كان مستحيلاً فلا فائدة للنظر في التعديل و التجريح و لقد عد أهل النظر من المطاعن في الخبر استحالة مدلول اللفظ و تأويله بما لا يقبله العقل وإنما كان التعديل و التجريح هو المعتبر في صحة الأخبار الشرعية لأن معظمها تكاليف إنشائية أوجب الشارع العمل بها حتى حصل الظن بصدقها و سبيل صحة الظن الثقة بالرواة بالعدالة و الضبط. و أما الأخبار عن الواقعات فلا بد في صدقها و صحتها من اعتبار المطابقة فلذلك وجب أن ينظر في إمكان وقوعه و صار فيها ذلك أهم من التعديل و مقدماً عليه إذ فائدة الإنشاء مقتبسة منه فقط و فائدة الخبر منه و من الخارج بالمطابقة و إذا كان ذلك فالقانون في تمييز الحق من الباطل في الأخبار بالإمكان و الاستحالة أن ننظر في الاجتماع البشري الذي هو العمران و نميز ما يلحقه من الأحوال لذاته و بمقتضى طبعه و ما يكون عارضاً لا يعتد به و ما لا يمكن أن يعرض له و إذا فعلنا ذلك كان ذلك لنا قانوناً في تمييز الحق من الباطل في الأخبار و الصدق من الكذب بوجه برهاني لا مدخل للشك فيه و حينئذ فإذا سمعنا عن شيىء من الأحوال الواقعة في العمران علمنا ما نحكم بقبوله مما نحكم بتزييفه و كان ذلك لنا معياراً صحيحاً يتحرى به المؤرخون طريق الصدق و الصواب فيما ينقلونه و هذا هو غرض هذا الكتاب الأول من تأليفنا و كأن هذا علم مستقل بنفسه فإنه ذو موضوع و هو العمران البشري و الاجتماع الإنساني و ذو مسائل و هي بيان ما يلحقه من العوارض و الأحوال لذاته واحدة بعد أخرى و هذا شأن كل علم من العلوم وضعياً كان أو عقلياً.
و إعلم أن الكلام في هذا الغرض مستحدث الصنعة غريب النزعة عزيز الفائدة اعثر عليه البحث و أدى إليه الغوص و ليس من علم الخطابة إنما هو الأقوال المقنعة النافعة في استمالة الجمهور إلى رأي أو صدهم عنه و لا هو أيضاً من علم السياسة المدنية إذ السياسة المدنية هي تدبير المنزل أو المدينة بما يجب بمقتضى الأخلاق و الحكمة ليحمل الجمهور على منهاح يكون فيه حفظ النوع و بقاؤه فقد خالف موضوعه موضوع هذين الفنين اللذين ربما يشبهانه و كأنه علم مسنبط النشأة و لعمري لم أقف على الكلام في منحاه لأحد من الخليقة ما أدري ألغفلتهم عن ذلك و ليس الظن بهم أو لعلهم كتبوا في هذا الغرض و استوفوه و لم يصل إلينا فالعلوم كثيرة و الحكماء في أمم النوع الانساني متعددون و ما لم يصل إلينا من العلوم أكثر مما وصل فأين علوم الفرس التي أمر عمر رضى الله عنه بمحوها عند الفتح و أين علوم الكلدانيين و السريانيين و أهل بابل و ما ظهر عليهم من آثارها و نتائجها و أين علوم القبط و من قبلهم و إنما وصل إلينا علوم أمة واحدة و هم يونان خاصة لكلف المأمون بإخراجها من لغتهم و اقتداره على ذلك بكثرة المترجمين و بذل الأموال فيها و لم نقف على شيىء من علوم غيرهم و إذا كانت كل حقيقة متعلقة طبيعية يصلح أن نبحث عما يعرض لها من العوارض لذاتها وجب أن يكون باعتبار كل مفهوم و حقيقة علم من العلوم يخصه لكن الحكماء لعلهم إنما لاحظوا في ذلك العناية بالثمرات و هذا إنما ثمرته في الأخبار فقط كما رأيت و إن كانت مسائله في ذاتها و في اختصاصها شريفة لكن ثمرته تصحيح الأخبار و هي ضعيفة فلهذا هجروه و الله أعلم و ما أوتيتم من العلم إلا قليلاً و هذا الفن الذي لاح لنا النظر فيه نجد منة مسائل تجري بالعرض لأهل العلوم في براهين علومهم و هي من جنس مسائله بالموضوع و الطلب مثل ما يذكره الحكماء و العلماء في إثبات النبوة من أن البشر متعاونون في وجودهم فيحتاجون فيه إلى الحاكم و الوازع و مثل ما يذكر في أصول الفقه في باب إثبات اللغات أن الناس محتاجون إلى العبارة عن المقاصد بطبيعة التعاون و الاجتماع و تبيان العبارات أخف و مثل ما يذكره الفقهاء في تعليل الأحكام الشرعية بالمقاصد في أن الزنا مخلط للأنساب مفسد للنوع و أن القتل أيضاً مفسد للنوع و أن الظلم مؤذن بخراب العمران المفضي لفساد النوع غير ذلك من سائر المقاصد الشرعية في الأحكام فإنها كلها مبنية على المحافظة على العمران فكان لها النظر فيما يعرض له و هو ظاهر من كلامنا هذا في هذه المسائل الممثلة و كذلك أيضاً يقع إلينا القليل من مسائله في كلمات متفقرقة لحكماء الخليقة لكهم لم يستوفوه فمن كلام الموبذان بهرام بن بهرام في حكاية البوم التي نقلها المسعودي أيها الملك إن الملك لا يتم عزه إلا بالشريعة و القيام لله بطاعته و التصرف تحت أمره و نهيه و لا قوام للشريعة إلا بالملك و لا عز للملك إلا بالرجال و لا قوام للرجال إلا بالمال و لا سبيل للمال إلا بالعمارة و لا سبيل للعمارة إلا بالعدل و العدل الميزان المنصوب بين الخليقة نصبه الرب و جعل له قيماً و هو الملك. و من كلام أنوشروان في هذا المعنى بعينه الملك بالجند و الجند بالمال و المال بالخراج و الخراج بالعمارة و العمارة بالعدل و العدل بإصلاح العمال و إصلاح العمال باستقامة الوزراء و رأس الكل بافتقاد الملك حال رعيته بنفسه و اقتداره على تأديتها حتى يملكها و لا تملكه و في الكتاب المنسوب لأرسطو في السياسة المتداول بين الناس جزء صالح منه إلا أنه غير مستوف و لا معطى حقه من البراهين و مختلط بغيره و قد أشار في ذلك الكتاب إلى هذه الكلمات التي نقلناها عن الموبذان و أنوشروان و جعلها في الدائرة القريبة التي أعظم القول فيها هو قوله: العالم بستان سياجه الدولة و الدولة سلطان تحيا به السنة السنة سياسة يسوسها الملك الملك نظام يعضده الجند الجند أعوان يكفلهم المال المال رزق تجمعه الرعية الرعية عبيد يكنفهم العدل العدل مألوف و به قوائم العالم العالم بستان ثم ترجع إلى أول الكلام. فهذه ثمان كلمات حكمية سياسية ارتبط بعضها ببعض و ارتدت أعجازها إلى صدورها و اتصلت في دائرة لا يتعين طرفها فخر بعثوره عليها و عظم من فوائدها. و أنت إذا تأملت كلامنا في فصل الدول و الملك و أعطيته حقه من التصفح و التفهم عثرت في أثنائه على تفسير هذه الكلمات و تفصيل إجمالها مستوفى بيناً بأوعب بياناً و أوضح دليل و برهان أطلعنا الله عليه من غير تعليم أرسطو و لا إفادة موبذان و كذلك تجد في كلام ابن المقفع و ما يستطرد في رسائله من ذكر السياسات الكثير من مسائل كتابنا هذا غير مبرهنة كما برهناه إنما يجليها في الذكرعلى منحى الخطابة في أسلوب الترسل و بلاغة الكلام و كذلك حوم القاضي أبو بكر الطرطوشي في كتاب سراج الملوك و بوبه على أبواب تقرب من أبواب كتابنا هذا و مسائله لكنه لم يصادف فيه الرمية و لا أصاب الشاكلة و لا استوفى المسائل و لا أوضح الأدلة إنما يبوب الباب للمسألة ثم يستكثر من الأحادث و الآثار و ينقل كلمات متفرقة لحكماء الفرس مثل بزر جمهر و الموبذان و حكماء الهند و المأثور عن دانيال و هرمس و غيرهم من أكابر الخليقة و لا يكشف عن التحقيق قناعاً و لا يرفع البراهين الطبيعية حجاباً إنما هو نقل و تركيب شبيه بالمواعظ و كأنه حوم على العرض و لم يصادفه و لا تحقق قصده و لا استوفى مسائله و نحن ألهمنا الله إلى ذلك إلهاماً و أعثرنا على علم جعلنا بين نكرة و جهينة خبره فإن كنت قد استوفيت مسائله و ميزت عن سائر الصنائع أنظاره و أنحاءه فتوفيق من الله و هداية و أن فاتني شيىء في إحصائه و اشتبهت بغير فللناظر التحقق إصلاحه ولي الفضل لأني نهجت له السبيل و أوضحت له الطريق و الله يهدي بنوره من يشاء. و نحن الآن نبين في هذا الكتاب ما يعرض للبشر في اجتماعهم من أحوال العمران في الملك و الكسب و العلوم و الصنائع بوجوه برهانية يتضح بها التحقيق في معارف الخاصة و العامة و تندفع بها الأوهام و ترفع الشكوك. و نقول لما كان الإنسان متميزاً عن سائر الحيوانات بخواص اختص بها فمنها العلوم و الصنائع التي هي نتيجة الفكر الذي تميز به عن الحيوانات و شرف بوصفه على المخلوقات و منها الحاجة إلى الحكم الوازع و السلطان القاهر إذ لا يمكن وجوده دون ذلك من بين الحيوانات كلها إلا ما يقال عن النحل و الجراد و هذه و أن كان لها مثل ذلك فبطريق إلهامي لا بفكر و روية و منها السعي في المعاش و الاعتمال في تحصيله من وجوهه و اكتساب أسبابه لما جعل الله من الافتقار إلى الغذاء في حياته و بقائه و هداه إلى التماسه و طلبه فإن تعالى أعطى كل شيء خلقه ثم هدى و منهما العمران و هو التساكن و التنازل في مصر أو حلة للأنس بالعشير و اقتضاء الحاجات لما في طباعهم من التعاون على المعاش كما نبينه و من هذا العمران ما يكون بدوياً و هو الذي يكون في الضواحي و في الجبال و في الحلل المنتجعة في القفار و أطراف الرمال و منه ما يكون حضرياً و هو الذي بالأمصار و القرى و المدن والمدر للاعتصام بها و التحصن بجدرانها و له في كل هذه الأحوال أمور تعرض من حيث الاجتماع عروضاً ذاتياً له فلا جرم انحصر الكلام في هذا الكتاب في ستة فصول.
الأول في العمران البشري على الجملة و أصنافه و قسطه من الأرض.
و الثاني في العمران البدوي في و ذكر القبائل و الأمم الوحشية. و الثالث في الدول و الخلافة و الملك و ذكر المراتب السلطانية و الرابع في العمران الحضري و البلدان و الأمصار. و الخامس في الصنائع و المعاش و الكسب و وجوهه. و السادس في العلوم و اكتسابها و تعلمها. و قد قدمت العمران البدوي لأنه سابق على جميعها كما نبين لك بعد و كذا تقديم الملك على البلدان و الأمصار وأما تقديم المعاش فلإن المعاش ضروري طبيعي و تعلم العلم كمالي أو حاجي و الطبيعي أقدم من الكمالي و جعلت الصنائع مع الكسب لأنها منه ببعض الوجوه و من حيث العمران كما نبين لك بعد و الله الموفق للصواب و المعين عليه.
الباب الأول من الكتاب الأول في العمران البشري على الجملة و فيه مقدمات
الأولى في أن الاجتماع الإنساني ضروري و يعبر الحكماء عن هذا بقولهم الإنسان مدني بالطبع أي لا بد له من الاجتماع الذي هو المدينة في اصطلاحهم و هو معنى العمران و بيانه أن الله سبحانه خلق الإنسان و ركبه على صورة لا يصح حياتها و بقاؤها إلا بالغذاء و هداه إلى التماسه بفطرته و بما ركب فيه من القدرة على تحصيله إلا أن قدرة الواحد من البشر قاصرة عن تحصيل حاجته من ذلك الغذاء غير موفية له بمادة حياته منه و لو فرضنا منه أقل ما يمكن فرصة و هو قوت يوم من الحنطة مثلاً فلا يحصل إلا بعلاج كثير من الطحن و العجن و الطبخ و كل واحد من هذه الأعمال الثلاثة يحتاج إلى مواعين و آلات لا تتم إلا بصناعات متعددة من حداد و نجار و فاخوري وهب أنه يأكله حباً من غير علاج فهو أيضاً يحتاج في تحصيله أيضاً حباً إلى أعمال أخرى أكثر من هذه من الزراعة و الحصاد و الدراس الذي يخرج الحب من غلاف السنبل و يحتاج كل واحد من هذه آلات متعددة و صنائع كثيرة أكثر من الأولى بكثير و يستحيل أن تفي بذلك كله أو ببعضه قدرة الواحد فلا بد من اجتماع القدر الكثيرة من أبناء جنسه ليحصل القوت له و لهم فيحصل بالتعاون قدر الكفاية من الحاجة لأكثر منهم بإضعاف و كذلك يحتاج كل واحد منهم أيضاً في الدفاع عن نفسه إلى الاستعانة بأبناء جنسه لأن الله سبحانه لما ركب الطباع في الحيوانات كلها و قسم القدر بينها جعل حظوظ كثير من الحيوانات العجم من القدرة أكمل من حظ الإنسان فقدرة الفرس مثلاً أعظم بكثير من قدرة الإنسان و كذا قدرة الحمار و الثور و قدرة الأسد و الفيل أضعاف من قدرته. و لما كان العدوان طبيعياً في الحيوان جعل لكل واحد منها عضواً يختص بمدافعته ما يصل إليه من عادية غيره و جعل للإنسان عوضاً من ذلك كله الفكر و اليد فاليد مهيئة للصنائع بخدمة الفكر و الصنائع تحصل له الآلات التي تنوب له عن الجوارح المعدة في سائر الحيوانات للدفاع مثل الرماح التي تنوب عن القرون الناطحة و السيوف النائبة عن المخالب الجارحة و التراس النائبة عن البشرات الجاسية إلى غير ذلك و غيره مما ذكره جالينوس في كتاب منافع الأعضاء فالواحد من البشر لا تقاوم قدرته قدرة واحد من الحيوانات العجم سيما المفترسة فهو عاجز عن مدافعتها وحده بالجملة و لا تفي قدرته أيضاً باستعمال الآلات المعدة لها فلا بد في ذلك كله من التعاون عليه بأبناء جنسه و ما لم يكن هذا التعاون فلا يحصل له قوت و لا غذاءاً و لا تتم حياته لما ركبه الله تعالى عليه من الحاجة إلى الغذاء في حياته و لا يحصل له أيضاً دفاع عن نفسه لفقدان السلاح فيكون فريسة للحيوانات و يعاجله الهلاك عن مدى حياته و يبطل نوع البشر و إذا كان التعاون حصل له القوت للغذاء و السلاح للمدافعة و تمت حكمة الله في بقائه و حفظ نوعه فإذن هذا الاجتماع ضروري للنوع الإنساني و إلا لم يكمل و جودهم و ما أراده الله من اعتمار العالم بهم و استخلافه إياهم و هذا هو معنى العمران الذي جعلناه موضوعاً لهذا العلم و في هذا الكلام نوع إثبات للموضوع في فنه الذي هو موضوع له و هذا و أن لم يكن واجباً على صاحب الفن لما تقرر في الصناعة المنطقية أنه ليس على صاحب علم إثبات الموضوع في ذلك العلم فليس أيضاً من المنوعات عندهم فيكون إثباته من التبرعات و الله الموفق بفضله. ثم أن هذا الاجتماع إذا حصل للبشر كما قررناه و تم عمران العالم بهم فلا بد من وازع يدفع بعضهم عن بعض لما في طباعهم الحيوانية من العدوان و الظلم و ليست السلاح التي جعلت دافعة لعدوان الحيوانات العجم عنهم كافية في دفع العدوان عنهم لأنها موجودة لجميعهم فلا بد من شيىء آخر يدفع عدوان بعضهم عن بعض. و لا يكون من غيرهم لقصور جميع الحيوانات عن مداركهم و إلهاماتهم فيكون ذلك الوازع واحداً منهم يكون له عليهم الغلبة و السلطان و اليد القاهرة حتى لا يصل أحد إلى غيره بعدوان و هذا هو معنى الملك و قد تبين لك بهذا أن للإنسان خاصة طبيعية و لا بد لهم منها و قد يوجد في بعض الحيوانات العجم على ما ذكره الحكماء كما في النحل و الجراد لما استقرىء فيها من الحكم و الانقياد و الاتباع لرئيس من أشخاصها متميز عنهم في خلقه و جثمانه إلا أن ذلك موجود لغير الإنسان بمقتضى الفطرة و الهداية لا بمقتضى الفكرة و السياسة أعطى كل شيء خلقه ثم هدى و تزيد الفلاسفة على هذا البرهان حيث يحاولون إثبات النبوة بالدليل! العقلي و أنها خاصة طبيعية للإنسان فيقررون هذا البرهان إلى غاية و أنه لا بد للبشر من الحكم الوازع ثم يقولون بعد ذلك و ذلك الحكم يكون بشرع مفروض من عند الله يأتي به واحد من البشر و أنه لا بد أن يكون متميزاً عنهم بما يودع الله فيه في خواص هدايته ليقع التسليم له و القبول منه حتى يتم الحكم فيهم و عليهم من غير إنكار و لا تزيف و هذه القضية للحكماء غير برهانية كما تراه إذ الوجود و حياة البشر قد تتم من دون ذلك بما يفرضه الحاكم لنفسه أو بالعصبية التي يقتدر بها على قهرهم و حملهم على جادته فأهل الكتاب و المتبعون للأنبياء قليلون بالنسبة إلى المجوس الذين ليس لهم كتاب فإنهم أكثر أهل العالم و مع ذلك فقد كانت لهم الدول و الآثار فضلاً عن الحياة و كذلك هي لهم لهذا العهد في الأقاليم المنحرفة في الشمال و الجنوب بخلاف حياة البشر فوضى دون وازع لهم البتة فإنه يمتنع و بهذا يتبين لك غلطهم في وجوب النبوات و أنه ليس بعقلي و إنما مدركه الشرع كما هو مذهب السلف من الأمة و الله ولي التوفيق و الهداية.
المقدمة الثانية في قسط العمران من الأرض و الإشارة إلى بعض ما فيه من الأشجار و الأنهار و الأقاليم
اعلم أنه تبين في كتب الحكماء الناظرين في أحوال العالم أن شكل الأرض كروي و أنها محفوفة بعنصر الماء كأنها عنبة طافية عليه فانحسر الماء عن بعض جوانبها لما أراد الله من تكوين الحيوانات فيها و عمرانها بالنوع البشري الذي له الخلافة على سائرها و قد يتوهم من ذلك أن الماء تحت الأرض و ليس بصحيح و أنما النحت الطبيعي قلب بالأرض و وسط كرتها الذي هو مركزها و الكل يطلبه بما فيه من الثقل و ما عدا ذلك من جوانبها و أما الماء المحيط بها فهو فوق الأرض و أن قيل في شيىء منها إنه تحت الأرض فبالإضافة إلى جهة أخرى منه. و أما الذي انحسر عنه الماء من الأرض فهو النصف من سطح كرتها في شكل دائرة أحاط العنصر الماء من بها من جميع جهاتها بحراً يسمى البحر المحيط و يسمى أيضاً لبلايه بتفخيم اللام الثانية و يسمى أوقيانوس أسماء أعجمية و يقال له البحر الأخضر و الأسود ثم أن هذا المنكشف من الأرض للعمران فيه القفار و الخلاء أكثر من عمرانه و الخالي من جهة الجنوب منه أكثر من جهة الشمال و إنما المعمور منه أميل إلى الجانب الشمالي على شكل مسطح كروي ينتهي من جهة الجنوب إلى خط الاستواء و من جهة الشمال إلى خط كروي و وراءه الجبال الفاصلة بينه و بين الماء العنصري الذي بينهما سد يأجوج و مأجوج و هذه الجبال مائلة إلى جهة المشرق و ينتهي من المشرق و المغرب إلى عنصر الماء أيضاً بقطعتين من الدائرة المحيطة و هذا المنكشف من الأرض قالوا هو مقدار النصف من الكرة أو أقل و المعمور منه مقدار ربعه و هو المنقسم بالأقاليم السبعة و خط الاستواء يقسم الأرض بنصفين من المغرب إلى المشرق و هو طول الأرض و أكبر خط في كرتها كما أن منطقة فلك البروج و دائرة فعدل النهار أكبر خط في الفلك و منطقة البروج منقسمة بثلثمائة و ستين درجة و الدرجة من مسافة الأرض خمسة و عشرون فرسخاً و الفرسخ اثنا عشر ألف ذراع و الذراع أربعة و عشرون إصبعاً و الإصبع ست حبات شعير مصفوفة ملصق بعضها إلى بعض ظهراً لبطن و بين دائرة فعدل النهار التي تقسم الفلك بنصفين و تسامت خط الاستواء من الأرض و بين كل واحد من القطبين تسعون درجة لكن العمارة في الجهة الشمالية من خط الاستواء أربع و ستون درجة و الباقي منها خلاء لا عمارة فيه لشدة البرد و الجمود كما كانت الجهة الجنوبية خلاء كلها لشدة الحر كما نبين ذلك كله إن شاء الله تعالى. ثم إن المخبرين عن هذا المعمور و حدوده و عما فيه من الأمصار و المدن و الجبال و البحار و الأنهار و القفار و الرمال مثل بطليموس في كتاب الجغرافيا و صاحب كتاب زخار من بعده قسموا هذا المعمور بسبعة أقسام يسمونها الأقاليم السبعة بحدود وهمية بين المشرق و المغرب متساوية في العرض مختلفة في الطول فالإقليم الأول أطول مما بعده و هكذا الثاني إلى آخرها فيكون السابع أقصر لما اقتضاه وضع الدائرة الناشئة عن انحسار الماء عن كرة الأرض و كل واحد من هذه الأقاليم عندهم منقسم بعشرة أجزاء من المغرب إلى المشرق على التوالي و في كل جزء الخبر عن أحواله و أحوال عمرانه. و ذكروا أن هذا البحر المحيط يخرج من جهة المغرب في الأقليم الرابع البحر الرومي المعروف يبدأ في خليج فتضايق في عرض اثني عشر ميلاً أو نحوها ما بين طنجة و طريف و يسمى أن الزقاق ثم يذهب مشرقاً و ينفسح إلى عرض ستمائة ميل و نهايته في آخر الجزء الرابع من الإقليم الرابع على ألف فرسخ و مائة و ستين فرسخاً من مبدأه و عليه هنالك سواحل الشام و عليه من جهة الجنوب سواحل المغرب أولها طنجة عند الخليج ثم أفريقية ثم برقة إذ الاسكندرية و من جهة الشمال سواحل القسطنطينية عند الخليج ثم البنادقة ثم رومة ثم الافرنجة ثم الاندلس إلى طريف عند أن الزقاق قبالة طنجة و يسمى هذا البحر الرومي و الشامي و فيه جزر كثيرة عامرة كبار مثل أقريطش و قبرص و صقلية و ميورقة و سردانية قالوا: و يخرج منه في جهة الشمال بحران آخران من خليجين. أحدهما مسامت للقسطنطينية يبدأ من هذا البحر متضايقاً في عرض رمية السهم و يمر ثلاثة بحار فيتصل بالقسطنطينية ثم ينفسح في عرض أربعة أميال و يمر في جريه ستين ميلاً و يسمى خليج القسطنطينية ثم يخرج من فوهة عرضها ستة أميال فيمد بحر نيطش و هو بحر ينحرف من هنالك في مذهبه إلى ناحية الشرق فيمر بأرض هرقلة و ينتهي إلى بلاد الخزرية على ألف و ثلثمائة ميل من فوهته و عليه من الجانبين أمم من الروم و الترك و برجان و الروس. و البحر الثاني من خليجي هذا البحر الرومي و هو بحر البنادقة يخرج من بلاد الروم على سمت الشمال فإذا انتهى إلى سمت الجبل انحرف في سمت المغرب إلى بلاد البنادقة و ينتهي إلى بلاد إنكلاية على ألف و مائة ميل من مبدإه و على حافتيه من البنادقة و الروم و غيرهم أمم و يسمى خليج البنادقة. قالوا و ينساح من هذا البحر المحيط أيضاً من الشرق و على ثلاث عشرة درجة في الشمال من خط الاستواء بحر عظيم متسع يمر في الجنوب قليلاً حتى ينتهي إلى الإقليم الأول ثم يمر فيه مغرباً إلى أن ينتهي في الجزء الخامس منه إلى بلاد الحبشة و الزنج و إلى بلاد باب المندب منه على أربعة آلاف فرسخ من مبدئه و يسمى البحر الصيني و الهندي و الحبشي و عليه من جهة الجنوب بلاد الزنج و بلاد بربر التي ذكرها امرؤ القيس في شعره و ليسوا من البربر الذين هم قبائل المغرب ثم بلد سفالة و أرض الواق واق و أمم أخر ليس بعدهم إلا القفار و الخلاء و عليه من جهة الشمال الصين من عند مبدئه ثم الهند ثم السند ثم سواحل اليمن من الأحقاف و زبيد و غيرها ثم بلاد الزنج عند نهايته و بعدهم الحبشة. قالوا و يخرج من هذا البحر الحبشي بحران آخران أحدهما يخرج من نهايته عند باب المندب فيبدأ متضايقاً ثم يمر مستبحراً إلى ناحية الشمال و مغرباً قليلاً إلى أن بنتهي إلى القلزم في الجزء الخامس من الإقليم الثاني على ألف و أربعمائة ميل من مبدئه في و يسمى بحر القلزم و بحر السويس و بينه و بين فسطاط مصر من هنالك ثلاث مراحل و عليه من جهة الشرق سواحل اليمن ثم الحجاز و جدة ثم مدين و أيلة و فازان عند نهايته و من جهة الغرب سواحل الصعيد، و عيذاب و سواكن وزيلع ثم بلاد الحبشة عند مبدئه و آخره عند القلزم يسامت البحر الرومي عند العريش و بينهما نحو ست مراحل و مازال الملوك في الإسلام و قبله يرمون خرق ما بينهما و لم يتم ذلك. و البحر الثاني من هذا البحر الحبشي و يسمى الخليج الأخضر يخرج ما بين بلاد السند و الأحقاف من اليمن و يمر إلى ناحية الشمال مغرباً قليلاً إلى أن ينتهي إلى الأبلة من سواحل البصرة في الجزء السادس من الإقليم الثاني على أربعمائة فرسخ و أربعين فرسخاً من مبدئه و يسمى بحر فارس و عليه من جهة الشرق سواحل السند و مكران و كرمان و فارس و الأبلة و عند نهايته من جهة الغرب سواحل البحرين و اليمامة و عمان و الشحر و الأحقاف عند مبدئه و فيما بين بحر فارس و القلزم و جزيرة العرب كأنها داخلة من البر في البحر يحيط بها البحر الحبشي من الجنوب و بحر القلزم من الغرب و بحر فارس من الشرق و تفضي إلى العراق بين الشام و البصرة على ألف و خمسمائة ميل بينهما و هنالك الكوفة و القادسية و بغداد و إيوان كسرى و الحيرة و وراء ذلك أمم الأعاجم من الترك و الخزر و غيرهم و في جزيرة العرب بلاد الحجاز في جهة الغرب منها و بلاد اليمامة و البحرين و عمان في جهة الشرق منها و بلاد اليمن في جهة الجنوب منها و سواحله على البحر الحبشي. قالوا و في هذا المعمور بحر آخر منقطع من سائر البحار في ناحية الشمال بأرض الديلم يسمى بحر جرجان و طبرستان طوله ألف ميل في عرض ستمائة ميل في غربه أذربيجان والديلم و في شرقه أرض الترك و خوارزم و في جنوبه طبرستان و في شماله أرض الخزر و اللان. هذه جملة البحار المشهورة التي ذكرها أهل الجغرافيا. قالوا و في هذا الجزء المعمور أنهار كثيرة أعظمها أربعة أنهار و هي النيل و الفرات و دجلة و نهر بلخ المسمى جيحون. فأما النيل فمبدأه من جبل عظيم وراء خط الاستواء بست عشرة درجة على سمت الجزء الرابع من الإقليم الأول و يسمى جبل القمر و لا يعلم في الأرض جبل أعلى منه تخرج منه عيون كثيرة فيصب بعضها في الحيرة هناك و بعضها في أخرى ثم تخرج أنهار من البحيرتين فتصب كلها في بحيرة واحدة عند خط الاستواء على عشر مراحل من الجبل و يخرج من هذه البحيرة نهران يذهب أحدهما إلى ناحية الشمال على سمته و يمر ببلاد النوبة ثم بلاد مصر فإذا جاوزها تشعب في شعب مقاربة يسمى كل واحد منها خليجاً و تصب كلها في البحر الرومي عند الإسكندرية و يسمى نيل مصر و عليه الصيعد من شرقه و الواحات من غربه و يذهب الآخر منعطفاً إلى المغرب ثم يمر على سمته إلى أن يصب ي البحر المحيط و هو نهر السودان و أممهم كلهم على ضفتيه. و أما الفرات فمبدؤه من بلاد أرمينية في الجزء السادس من الإقليم الخامس و يمر جنوباً في أرض الروم و ملطية إلى منبج ثم يمر بصفين ثم بالرقة ثم بالكوفة إلى أن ينتهي إلى البطحاء التي بين البصرة و واسط و من هناك يصب في البحر الحبشي و تن*** إليه في طريقه أنهار كثيرة و يخرج منه أنهار أخرى تصب في دجلة. و أما دجلة فمبدؤها عين ببلاد جلاط من أرمينية أيضاً و تمر على سمت الجنوب بالموصل و أذربيجان و بغداد إلى واسط فتتفرق إلى خلجان كلها تصب في بحيرة البصرة و تفضي إلى بحر فارس و هو في الشرق على يمين الفرات و ين*** إليه أنهار كثيرة عظيمة من كل جانب و فيما بين الفرات و دجلة من أوله جزيرة الموصل قبالة الشام من عدوتي الفرات و قبالة أذربيجان من عدوة دجلة. و أما نهر جيحون فمبدؤه من بلخ في الجزء الثامن من الإقليم الثالث من عيون هناك كثيرة و تن*** إليه أنهار عظام و يذهب من الجنوب إلى الشمال فيمر ببلاد خراسان ثم يخرج معها إلى بلاد خوارزم في الجزء الثامن من الإقليم الخامس فيصب في بحيرة الجرجانية التي بأسفل مدينتها و هي مسيرة شهر في مثله و إليها ينصب نهر فرغانة و الشاش الآتي من بلاد الترك و على غربي نهر جيحون بلاد خراسان و خوارزم و على شرقه بلاد بخارى و ترمذ و سمرقند و من هنالك إلى ما وراءه بلاد الترك و فرغانة و الجرجانية و أمم الأعاجم و قد ذكر ذلك كله بطليموس في كتابه و الشريف في كتاب روجار و صوروا في الجغرافيا جميع ما في المعمور من الجبال و البحار و الأودية و استوفوا من ذلك ملا حاجة انا به لطوله ولأن عنايتنا في الأكثر إنما هي بالمغرب الذي هو وطن البربر و بالأوطان التي للعرب من المشرق والله الموفق.
رد مع اقتباس
  #3  
قديم 01-09-2012, 01:31 AM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,392
افتراضي

تكملة لهذه المقدمة الثانية في أن الربع الشمالي من الأرض أكثر عمراناً من الربع الجنوبي و ذكر السبب في ذلك
و نحن نرى بالمشاهدة و الأخبار المتواترة أن الأول و الثاني من الأقاليم لمعمورة أقل عمراناً مما بعدهما و ما وجد من عمرانه فيتخلله الخلاء و لقفار و الرمال و البحر الهندي الذي في الشرق منهما و أمم هذين الإقليمين و أناسيهما ليست لهم الكثرة البالغة و أمصاره و مدنه كذلك و الثالث و الرابع و ما بعدهما بخلاف ذلك فالقفار فيها قليلة و الرمال كذلك أو معدومة و أممها و أناسيها تجوز الحد من الكثرة و أمصارها و مدنها تجاوز الحد عدداً و العمران فيها مندرج ما بين الثالث و السادس و الجنوب خلاء كله و قد ذكر كثير من الحكماء أن ذلك لإفراط الحر و قلة ميل الشمس فيها عن سمت الرؤوس فلنوضح ذلك ببرهانه و يتبين منه سبب كثرة العمارة فيما بين الثالث و الرابع من جانب الشمال إلى الخامس و السابع. فنقول إن قطبي الفلك الجنوبي و الشمالي إذا كانا على الأفق فهنالك دائرة عظيمة تقسم الفلك بنصفين هي أعظم الدوائر المارة من المشرق إلى المغرب و تسمى دائرة معدل النهار و قد تبين في موضعه من الهيئة أن الفلك الأعلى متحرك من المشرق إلى المغرب حركة يومية يحرك بها سائر الأفلاك في جوفه قهراً و هذه الحركة محسوسة و كذلك تبين أن للكواكب في أفلاكها حركة مخالفة لهذه الحركة و هي من المغرب إلى المشرق و تختلف آمادها باختلاف حركة الكواكب في السرعة و البطء و ممرات هذه الكواكب في أفلاكها توازيها كلها دائرة عظيمة من الفلك الأعلى تقسمه بنصفين و هي دائرة فلك البروج منقسمة باثني عشر برجاً و هي على ما تبين في موضعه مقاطعة لدائرة معدل النهار على نقطتين متقابلتين من البروج هما أول الحمل و أول الميزان فتقسمهما دائرة معدل النهار بنصفين نصف مائل عن معدل النهار إلى الشمال و هو من أول الحمل إلى آخر السنبلة و نصف مائل عنه إلى الجنوب و هو من أول الميزان إلى آخر الحوت و إذا وقع القطبان على الأفق في جميع نواحي الأرض كان على سطح الأرض خط واحد يسامت دائرة معدل النهار يمر من المغرب إلى المشرق و يسمى خط الاستواء و وقع هذا الخط بالرصد على ما زعموا في مبدإ الإقليم الأول من الأقاليم السبعة و العمران كله في الجهة الشمالية يرتفع عن آفاق هذا المعمور بالتدريج إلى أن ينتهي ارتفاعه إلى أربع، و ستين درجة و هنالك ينقطع العمران و هو آخر الإقليم السابع، إذا ارتفع على الأفق و بقيت تسعين درجة و هي التي بين القطب و دائرة معدل النهار على الأفق و بقيت ستة من البروج فوق الأفق و هي الشمالية و ستة تحت الأفق و هي الجنوبية و العمارة فيما بين الأربعة و الستين إلى التسعين ممتنعة لأن الحر و البرد حينئذ لا يحصلان ممتزجين لبعد الزمان بينهما يحصل التكوين فإذاً الشمس تسامت الرؤوس على خط الاستواء في رأس الحمل و الميزان ثم تميل في المسامتة إلى رأس السرطان ورأس الجدي و يكون نهاية ميلها عن دائرة معدل النهار أربعاً و عشرين درجة ثم إذا ارتفع القطب الشمالي عن الأفق مالت دائرة معدل النهار عن سمت الرؤوس بمقدار ارتفاع و انخفض القطب الجنوبي كذلك بمقدار متساو في الثلاثة وهو المسمى عند أهل المواقيت عرض البلد و إذا مالت دائرة معدل النهار عن سمت الرؤوس علت عليها البروج الشمالية مندرجة في مقدار علوها إلى رأس السرطان و انخفضت البروج الجنوبية من الأفق كذلك إلى رأس الجدي لانحرافها إلى الجانبين في أفق الاستواء كما قلناه فلا يزال الأفق الشمالي يرتفع حتى يصير أبعد الشمالية و هو رأس السرطان في سمت الرؤوس و ذلك حيث يكون عرض البلد أربعاً و عشرين في الحجاز و ما يليه و هذا هو الميل الذي إذا مال رأس السرطان عن معدل النهار في أفق الاستواء ارتفع بارتفاع القطب الشمالي حتى صار مسامتاً فإذا ارتفع القطب أكثر من أربع و عشرين نزلت الشمس عن المسامتة و لا تزال في انخفاض إلى أن يكون ارتفاع القطب أربعاً و ستين و يكون انخفاض الشمس عن المسامتة كذلك و انخفاض القطب الجنوبي عن الأفق مثلها فينقطع التكوين لإفراط البرد و الجمد و طول زمانه غير ممتزج بالحر. ثم إن الشمس عند المسامتة و ما يقاربها تبعث الأشعة قائمة و فيما دون المسامتة على زوايا منفرجة و حادة و إذا كانت زوايا الأشعة قائمة عظم الضوء و انتشر بخلافه في المنفرجة و الحادة فلهذا يكون الحر عند المسامتة و ما يقرب منها أكثر منه فيما بعد لأن الضوء سبب الحر و التسخين.
ثم أن المسامتة في خط الاستواء تكون مرتين في السنة عند نقطتي الحمل و الميزان و إذا مالت فغير بعيد و لا يكاد الحر يعتدل في آخر ميلها عند رأس السرطان و الجدي إلا أن صعدت إلى المسامتة فتبقى الأشعة القائمة الزوايا تلح على ذلك الأفق و يطول مكثها أو يدوم فيشتعل الهواء حرارة و يفرط في شدتها و كذا ما دامت الشمس تسامت مرتين فيما بعد خط الاستواء إلى عرض أربع و عشرين فإن الأشعة ملحة على الأفق في ذلك بقريب من إلحاحها في خط الاستواء و إفراط الحر يفعل في الهواء تجفيفاً و يبساً يمنع من التكوين لأنه إذا أفرط الحر جفت المياه و الرطوبات و فسد التكويني في المعدن و الحيوان و النبات إذ التكوين لا يكون إلا بالرطوبة ثم إذا مال رأس السرطان عن سمت الرؤوس في عرض خمس و عشرين فما بعده نزلت الشمس عن المسامتة فيصير الحر إلى الاعتدال أو يميل عنه ميلاً قليلاً فيكون التكوين و يتزايد على التدريج إلى أن يفرط البرد في شدته لقلة الضوء و كون الأشعة منفرجة الزوايا فينقص التكوين و يفسد بيد أن فساد التكوين من جهة شدة الحر أعظم منه من جهة شدة البرد لأن الحر أسرع تأثيراً في التجفيف من تأثير البرد في الجمد فلذلك كان العمران في الإقليم الأول و الثاني قليلاً و في الثالث و الرابع و الخامس متوسطاً لاعتدال الحر بنقصان الضوء و في السادس و السابع كثيراً لنقصان الحر و أن كيفية البرد لا تؤثر عند أولها في فساد التكوين كما يفعل الحر إذ لا تجفيف فيها إلا عند الإفراط بما يعرض لها حينئذ من اليبس كما بعد السابع فلهذا كان العمران في الربع الشمالي أكثر و أوفر و الله أعلم. و من هنا أخذ الحكماء خلاء خط الاستواء و ما وراءه و أورد عليهم أنه مغمور بالمشاهدة و الأخبار المتواترة فكيف يتم البرهان على ذلك و الظاهر أنهم لم يريدوا امتناع العمران فيه بالكلية إنما أداهم البرهان إلى أن فساد التكوين فيه قري بإفراط الحر و العمران فيه إما ممتنع أو ممكن أقلي و هو كذلك فإن خط الاستواء و الذي وراءه و إن كان فيه عمران كما نقل فهو قليل جداً. و قد زعم ابن رشد أن خط الاستواء معتدل و أن ما وراءه في الجنوب بمثابة ما وراءه في الشمال فيعمر منه ما عمر من هذا و الذي قاله غير ممتنع من جهة فساد التكوين و إنما امتنع فيما وراء خط الاستواء في الجنوب من جهة أن العنصر المائي غمر وجه الأرض هنالك إلى الحد الذي كان مقابله من الجهة الشمالية قابلاً للتكوين و لما امتنع المعتدل لغيبة الماء تبعه ما سواه لأن العمران متدرج و يأخذ في التدريج من جهة الوجود لا من جهة الامتناع و أما القول بامتناعه في خط الاستواء فيرده النقل المتواتر و الله أعلم. و لنرسم بعد هذا الكلام صورة الجغرافيا كما رسمها صاحب كتاب روجار ثم نأخذ في تفصيل الكلام عليها إلى أخره.

القسم الأول من تفصيل الكلام على هذه الجغرافيا
إعلم أن الحكماء قسموا هذا المعمور كما تقدم ذكره على سبعة أقسام من الشمال إلى الجنوب يسمون كل قسم منها إقليماً فانقسم المعمور من الأرض كله على هذه السبعة الأقاليم كل واحد منها أخذ من الغرب إلى الشرق على طوله. فالأول منها مار من المغرب إلى المشرق مع خط الاستواء بحده من جهة الجنوب و ليس وراءه هنالك إلا القفار و الرمال و بعض عمارة إن صحت فهي كلا عمارة و يليه من جهة شمالية الإقليم الثاني ثم الثالث كذلك ثم الرابع و الخامس و السادس و السابع و هو آخر العمران من جهة الشمال و ليس وراء السابع إلا الخلاء و القفار إلى أن ينتهي إلى البحر المحيط كالحال فيما وراء الإقليم الأول في جهة الجنوب إلا أن الخلاء في جهة الشمالي أقل بكثير من الخلاء الذي في جهة الجنوب. ثم أن أزمنة الليل و النهار تتفاوت في هذه الأقاليم بسبب ميل الشمس عن دائرة معدلي النهار و ارتفاع القطب الشمالي عن آفاقها فيتفاوت قوس الليل و النهار لذلك و ينتهي طول الليل و النهار في آخر الإقليم الأول و ذلك عند حلول الشمس برأس الجدي لليل و برأس السرطان للنهار كل واحد منهما إلى ثلاث عشرة ساعة و كذلك في آخر الإقليم الثاني مما يلي الشمال فينتهي، طول النهار فيه عند حلول الشمس برأس السرطان و هو منقلبها الصيفي إلى ثلاث عشرة ساعة و نصف ساعين و مثله أطول الليل عند منقلبها الشتوي برأس الجدي و يبقى للأقصر من الليل و النهار ما يبقى بعد الثلاث عشرة و نصف من جملة أربع و عشرين الساعات الزمانية لمجموع الليل و النهار و هي دورة الفلك الكاملة و كذلك في آخر الإقليم الثالث مما يلي الشمال أيضاً ينتهيان إلى أربع عشرة ساعة و في آخر الرابع إلى أربع عشرة ساعة و نصف ساعة و في آخر الخامس إلى خمس عشرة ساعة و في آخر السادس إلى خمس عشرة ساعة و نصف و إلى آخر السابع إلى ست عشرة ساعة و هنالك ينقطع العمران فيكون تفاوت هذه الأقاليم في الأطول من ليلها و نهارها بنصف ساعة لكل إقليمه يتزايد من أوله في ناحية الجنوب إلى آخر في ناحية الشمال موزعة على أجزاء هذا البعد. و أما عرض البلدان في هذه الأقاليم و هو عبارة عن بعد ما بين سمت رأس البلد و دائرة معدل النهار الذي هو سمت رأس خط الاستواء و بمثله سواء ينخفض القطب الجنوبي عن أفق ذلك البلد و يرتفع القطب الشمالي عنه و هو ثلاثة أبعاد متساوية تسمى عرض البلد كما مر ذلك قبل. و المتكلمون على هذه الجغرافيا قسموا كل واحد من هذه الأقاليم السبعة في طوله من المغرب إلى المشرق بعشرة أجزاء متساوية و يذكرون ما اشتمل عليه كل جزء منها من البلدان و الأمصار و الجبال و الأنهار و المسافات بينها في المسالك و نحن الآن نوجز القول في ذلك و نذكر مشاهير البلدان و الأنهار و البحار في كل جزء منها و نحاذي بذلك ما وقع في كتاب نزهة المشتاق الذي ألفه العلوي الأدريسي الحمودي لملك صقلية من الإفرنج و هو زخار بن زخار عندما كان نازلاً عليه بصقلية بعد خروج صقلية من إمارة مالقة و كان تأليفه للكتاب في منتصف المائة السادسة و جمع له كتباً جمة للمسعودي و ابن خرداذيه و الحوقلي و القدري و ابن إسحاق المنجم و بطليموس و غيرهم و نبدأ منها بالإقليم الأول إلى آخرها و الله سبحانه و تعالى يعصمنا بمنه و فضله.
الإقليم الأول، و فيه من جهة غربيه الجزائر الخالدات التي منها بدأ بطليموس بأخذ أطوال البلاد و ليست في بسيط الإقليم و إنما هي في البحر المحيط في جزر متكثرة أكبرها و أشهرها ثلاث و يقال أنها معمورة و قد بلغنا أن سفائن من الإفرنج مرت بها في أواسط هذه المائة و قاتلوهم فغنموا منهم و سبوا و باعوا بعض أسراهم بسواحل المغرب الأقصى و صاروا إلى خدمة السلطان فلما تعلموا اللسان العربي أخبروا عن حال جزائرهم و أنهم يحتفرون الأرض للزراعة بالقرون و أن الحديد مفقود بأرضهم و عيشهم من الشعير و ماشيتهم المعز و قتالهم بالحجارة يرمونها إلى خلف و عبادتهم السجود للشمس إذا طلعت و لا يعرفون ديناً و لم تبلغهم دعوة و لا يوقف على مكان هذه الجزائر إلا بالعثور لا بالقصد إليها لأن سفر السفن في البحر إنما هو بالرياح و معرفة جهات مهابها و إلى أين يوصل إذا مرت على الاستقامة من البلاد التي في ممر ذلك المهب و إذا اختلف المهب و علم حيث يوصل على الاستقامة حوذي به القلع محاذاة يحمل السفينة بها على قوانين في ذلك محصلة عند النواتية و الملاحين الذين هم رؤساء السفن في البحر و البلاد التي في حافات البحر الرومي و في عدوته مكتوبة كلها في صحيفة على شكل ما هي عليه في الوجود و في وضعها في سواحل البحر على ترتيبها و مهاب الرياح و ممراتها على اختلافها معها في تلك الصحيفة و يسمونها الكنباص و عليها يعتمدون في أسفارهم و هذا كله مفقود في البحر المحيط فلذلك لا تلج فيه السفن لأنها إن غابت عن مرأى السواحل فقل أن تهتدي إلى الرجوع إليها مع ما ينعقد في جو هذا البحر و على سطح مائه من الأبخرة الممانعة للسفن في مسيرها و هي لبعدها لا تدركها أضواء الشمس المنعكسة من سطح الأرض فتحللها فلذلك عسر الاهتداء إليها و صعب الوقوف على خبرها. و أما الجزء الأول من هذا الإقليم ففيه مصب النيل الآتي من مبدئه عند جبل القمر كما ذكرناه و يسمى نيل السودان و يذهب إلى البحر المحيط فيصب فيه عند جزيرة أوليك و على هذا النيل مدينة سلا و تكرور و غانة و كلها لهذا العهد في مملكة ملك مالي من أمم السودان و إلى بلادهم تسافر تجار المغرب الأقصى و بالقرب منها من شماليها بلاد لمتونة و سائر طوائف الملثمين و مفاوز يجولون فيها و في جنوبي هذا النيل قوم من السودان يقال لهم (( لملم )) و هم كفار و يكتوون في وجوههم و أصداغهم و أهل غانة و التكرور يغيرون عليهم و يسبونهم و يبيعونهم للتجار في***ونهم إلى المغرب و كلهم عامة رقيقهم و ليس وراءهم في الجنوب عمران يعتبر إلا أناسي أقرب إلى الحيوان العجم من الناطق يسكنون الفيافي و الكهوف و يأكلون العشب و الحبوب غير مهيأة و ربما يأكل بعضهم بعضاً و ليسوا في عداد البشر. و فواكه بلاد السودان كلها من قصور صحراء المغرب مثل توات و تكدرارين و وركلان. فكان في غانة فيما يقال ملك و دولة لقوم من العلويين يعرفون ببني صالح و قال صاحب كتاب روجار إنه صالح بن عبد الله بن حسن بن الحسن و لا يعرف صالح هذا في ولد عبد الله بن حسن و قد ذهبت هذه الدولة لهذا العهد و صارت غانة لسلطان مالي و في شرقي هذا البلد في الجزء الثالث من الإقليم بلد ( كوكو ) على نهر ينبع من بعض الجبال هنالك و يمر مغرباً فيغوص في رمال الجزء الثالث و كان ملك كوكو قائماً بنفسه ثم استولى عليها سلطان مالي و أصبحت في مملكته و خربت لهذا العهد من أجل فتنة وقعت هناك نذكرها عند ذكر دولة مالي في محلها من تاريخ البربر و في جنوبي بلد كوكو بلاد كاتم من أمم السودان و بعدهم و نغارة على ضفة النيل من شماليه و في شرقي بلاد و نغارة و كاتم بلاد زغاوة و تاجرة المتصلة بأرض النوبة في الجزء الرابع من هذا الإقليم و فيه يمر نيل مصر ذاهباً من مبدإه عند خط الاستواء إلى البحر الرومي في الشمال و مخرج هذا النيل من جبل القمر الذي فوق خط الاستواء بست عشرة درجة و اختلفوا في ضبط هذه اللفظة فضبطها بعضهم يفتح القاف و الميم نسبة إلى قمر السماء لشدة بياضه و كثرة ضوءه و في كتاب المشترك لياقوت بضم القاف و سكون الميم نسبةً إلى قوم من أهل الهند و كذا ضبطه ابن سعيد فيخرج من هذا الجبل عشر عيون تجتمع كل خمسة منها في بحيرة و بينهما ستة أميال و يخرج من كل واحدة من البحيرتين ثلاثة أنهار تجتمع كلها في بطيحة واحدة في أسفلها جبل معترض يشق البحيرة من ناحية الشمال و ينقسم ماؤها بقسمين فيمر الغربي منه إلى بلاد السودان مغرباً حتى يصب في البحر المحيط و يخرج الشرقي منه ذاهباً إلى الشمال على بلاد الحبشة و النوبة و فيما بينهما و ينقسما في أعلى أرض مصر فيصب ثلاثة من جداوله في البحر الرومي عند الإسكندرية. و رشيد و دمياط و يصب واحد في بحيرة ملحة قبل أن يتصل بالبحر في وسط هذا الإقليم الأول و على هذا النيل به بلاد النوبة و الحبشة و بعض بلاد الواحات إلى أسوان و حاضرة بلاد النوبة مدينة دنقلة و هي في غربي هذا النيل و بعدها علوة و بلاق و بعدهما جبل الجنادل على ستة مراحل من بلاق في الشمال و هو جبل عال من جهة مصر و منخفض من جهة النوبة فينفذ فيه النيل و يصب في مهوى بعيد صباً هائلاً فلا يمكن أن تسلكه المراكب بل يحول الوسق من مراكب السودان فيحمل على الظهر إلى بلد أسوان قاعدة الصعيد إلى فوق الجنادل و بين الجنادل و أسوان اثنتا عشرة مرحلة و الواحات في غربيها عدوة النيل و هي الآن خراب و بها آثار العمارة القديمة. و في وسط هذا الإقليم في الجزء الخامس منه بلاد الحبشة على واد يأتي من وراء خط الاستواء ذاهباً إلى أرض النوبة فيصب هناك في النيل الهابط إلى مصر و قد وهم فيه كثير من الناس و زعموا أنه من نيل القمر و بطليموس ذكره في كتاب الجغرافيا و ذكر أنه ليس من هذا النيل. و إلى وسط هذا الإقليم في الجزء الخاص ينتهي بحر الهند الذي يدخل من ناحية الصين و يغمر عامة هذا الإقليم إلى هذا الجزء الخامس فلا يبقى فيه عمران إلا ما كان في الجزائر التي في داخله و هي متمددة يقال تنتهي إلى ألف جزيرة أو فيما على سواحله من جهة الشمال و ليس منها في هذا الإقليم الأول إلا طرف من بلاد الصين في جهة الشرق و في بلاد اليمن. و في الجزء السادس من هذا الإقليم فيما بين البحرين الهابطين من هذا البحر الهندي إلى جهة الشمال و هما بحر قلزم و بحر فارس و فيما بينهما جزيرة العرب و تشتمل على بلاد اليمن و بلاد الشحر في شرقيها على ساحل هذا البحر الهندي و على بلاد الحجاز و اليمامة و ما إليهما كما نذكره في الإقليم الثاني و ما بعده فأما الذي على ساحل هذا البحر من غربيه فبلد زالع من أطراف بلاد الحبشة و مجالات البجة في شمالي الحبشة ما بين جبل العلاقي أعالي الصعيد و بين بحر القلزم الهابط من البحر الهندي و تحت بلاد زالع من جهة الشمال في هذا الجزء خليج باب المندب يضيق البحر الهابط هنالك بمزاحمة جبل المندب المائل في وسط البحر الهندي ممتداً مع ساحل اليمن من الجنوب إلى الشمال في طول اثني عشر ميلاً فيضيق البحر بسبب ذلك إلى أن يصير في عرض ثلاثة أميال أو نحوها و يسمى باب المندب و عليه تمر مراكب اليمن إلى ساحل السويس قريباً من مصر و تحت باب المندب جزيرة سواكن و دهلك و قبالته من غربيه مجالات البخة من أمم السودان كما ذكرناه و من شرقيه في هذا الجزء تهائم اليمن و منها على ساحله بلد علي بن يعقوب و في جهة الجنوب من بلد زالع و على ساحل هذا البحر من غربيه ترى بربر يتلو بعضها بعضاً و ينعطف من جنوبيه إلى آخر الجزء السادس و يليها هنالك من جهة شرقيها بلاد الزنج ثم بلاد سفالة من ساحله الجنوبي بلاد الوقواق متصلة إلى آخر الجزء العاشر من هذا الإقليم عند مدخل هذا البحر من البحر المحيط. و أما جزائر هذا البحر فكثيرة. من أعظمها جزيرة سرنديب مدورة الشكل. و بها الجبل المشهور يقال ليس في الأرض أعلى منه و هي قبالة سفالة. ثم جزيرة القمر و هي جزيرة مستطيلة تبدأ من قبالة أرض سفالة و تذهب إلى الشرق منحرفة بكثير إلى أن تقرب من سواحل أعالي الصين و يحتف بها في هذا البحر من جنوبيها جزائر الوقواق و من شرقيها جزائر السيلان إلى جزائر أخر في هذا البحر كثيرة العدد و فيها أنواع الطيب و الأفاويه و فيها يقال معادن الذهب و الزمرد و عامة أهلها على دين المجوسية و فيهم ملوك متعددون و بهذه الجزائر من أحوالي العمران عجائب ذكرها أهل الجغرافيا و على الضفة الشمالية من هذا البحر في الجزء السادس من هذا الإقليم بلاد اليمن كلها فمن جهة بحر القلزم بلد زبيد و المهجم و تهامة اليمن و بعدها بلد صغيرة مقر الإمامة الزبدية و هي بعيدة عن البحر الجنوبي و عن البحر الشرقي و فيما بعد ذلك مدينة عدن و في شمالها صنعاء و بعدهما إلى المشرق أرض الأحقاف و ظفار و بعدها أرض حضر موت ثم بلاد الشحر ما بين البحر الجنوبي و بحر فارس. و هذه القطعة من الجزء السادس هي التي الكشف عنها البحر من أجزاء هذا الإقليم الوسطى و ينكشف بعدها قليل من الجزء التاسع و أكثر منه من العاشر فيه أعالي بلاد الصين و من مدنه الشهيرة خانكو و قبالتها من جهة الشرق جزائر السيلان و قد تقدم ذكرها و هذا آخر الكلام في الإقليم الأول و الله سبحانه و تعالى و لي التوفيق بمنه و فضله.
الإقليم الثاني: و هو متصل بالأول من جهة الشمال و قبالة المغرب منه في البحر المحيط جزيرتان من الجزائر الخالدات التي مر ذكرها و في الجزء الأول و الثاني منه في الجانب الأعلى منهما أرض قنورية و بعدها في جهة الشرق أعالي أرض غانة ثم مجالات زغاوة من السودان و في الجانب الأسفل منهما صحراء نستر متصلة من الغرب إلى الشرق ذات مفاوز تسلك فيها التجار ما بين بلاد المغرب و بلاد السودان و فيها مجالات الملثمين من صنهاجة و هم شعوب كثيرة ما بين كزولة و لمتونة و مسراتة و لمطة و وريكة و على سمت هذه المفاوز شرقاً أرض فزان ثم مجالات أزكار من قبائل البربر ذاهبة إلى أعالي الجزء الثالث على سمتها في الشرق و بعدها من هذا الجزء الثالث و هي جهة الشمال منه بقية أرض وذان و على سمتها شرقاً أرض سنترية و تسمى الواحات الداخلة و في الجزء الرابع من أعلاه بقية أرض الباجويين ثم يعترض في وسط هذا الجزء بلاد الصعيد حافات النيل الذاهب من مبدأه في الإقليم الأول إلى مصبه في البحر فيمر في هذا الجزء بين الجبلين الحاجزين و هما جبل الواحات من غربيه و جبل المقطم من شرقيه و عليه من أعلاه بلد أسنا و أرمنت و يتصل كذلك حافاته إلى أسيوط و قوص ثم إلى صول و يفترق النيل هنالك على شعبين ينتهي الأيمن منهما في هذا الجزء عند اللاهون و الأيسر عند دلاص و فيما بينهما أعالي ديار مصر و في الشرق من جبل المقطم صحارى عيذاب ذاهبة في الجزء الخامس إلى أن تنتهي إلى بحر السويس و هو بحر القلزم الهابط من البحر الهندي في الجنوب إلى جهة الشمال و في عدوته الشرقية من هذا الجزء أرض الحجاز من جبل يلملم إلى بلاد يثرب في وسط الحجاز مكة شرفها الله و في ساحلها مدينة جدة تقابل بلد عيذاب في العدوة الغربية من هذا البحر. و في الجزء السادس من غربيه بلاد نجد أعلاها في الجنوب و تبالة و جرش إلى عكاظ من الشمال و تحت نجد من هذا الجزء بقية أرض الحجاز و على سمتها في الشرق بلاد نجران و خيبر و تحتها أرض اليمامة و على سمت نجران في الشرق أرض سبأ و مأرب ثم أرض الشحر و ينتهي إلى بحر فارس و هو البحر الثاني الهابط من البحر الهندي إلى الشمال كما مر و يذهب في هذا الجزء بانحراف إلى الغرب فيمر ما بين شرقيه و جوفيه قطعة مثلثة عليها من أعلاه مدينة قلهات و هي ساحل الشحر ثم تحتها على ساحله بلاد عمال. ثم بلاد البحرين و هجر منها في آخر الجزء و في الجزء السابع في الأعلى من غربيه قطعة من بحر فارس تتصل بم القطعة الأخرى في السادس و يغمر بحر الهند جانبه الأعلى كله و عليه هنالك بلاد السند إلى بلاد مكران و يقابلها بلاد الطوبران و هي من السند أيضاً فيتصل السند كله في الجانب الغربي من هذا الجزء و تحول المفاوز بينه و بين أرض الهند و يمر فيه نهره الآتي من ناحية بلاد الهند و يصب في البحر الهندي في الجنوب و أول بلاد الهند على ساحل البحر الهندي و في سمتها شرقاً بلاد بلهرا و تحتها الملتان بلاد الصنم المعظم عندهم، ثم إلى أسفل من السند، ثم إلى أعالي بلاد سجستان. و في الجزء الثامن من غربيه بقية بلاد بلهرا من الهند، و على سمتها شرقاً بلاد القندهار. ثم بلاد منيبار و في الجانب الأعلى على ساحل البحر الهندي و تحتها في الجالب الأسفل أرض كابل و بعدها شرقاً إلى البحر المحيط بلاد القنوج ما بين قشمير الداخلة و قشمير الخارجة عند آخر الإقليم و في الجزء التاسع ثم في الجانب الغربي منه بلاد الهند الأقصى و يتصل فيه إلى الجانب الشرقي فيتصل من أعلاه إلى العاشر و تبقى في أسفل ذلك الجانب قطعة من بلاد الصين فيها مدينة شيغون ثم تتصل بلاد الصين في الجزء العاشر كله إلى البحر المحيط و الله و رسوله أعلم و به سبحانه التوفيق و هو و لي الفضل و الكرم.
الإقليم الثالث: و هو متصل بالثاني من جهة الشمال ففي الجزء الأول منه و على نحو الثلث من أعلاه جبل درن معترض فيه من غربيه عند البحر المحيط إلى الشرق عند آخر و يسكن هذا الجبل من البربر أمم لا يحصيهم إلا خالقهم حسبما يأتي ذكره و في القطعة التي بين هذا الجبل و الإقليم الثاني و على البحر المحيط منها رباط ماسة و يتصل به شرقاً بلاد سوس و نول و على سمتها شرقاً بلاد درعة ثم بلاد سجلماسة ثم قطعة من صحراء نستر المفازة التي ذكرناها في الإقليم الثاني و هذا الجبل مطل على هذه البلاد كلها في هذا الجزء و هو قليل الثنايا و المسالك في هذه الناحية الغربية إلى أن يسامت وادي ملوية فتكثر ثناياه و مسالكه إلى أن ينتهي و في هذه الناحية منه أمم المصامدة ثم هنتانة ثم تينملك ثم كدميوه ثم مشكورة و ثم آخر المصامدة فيه ثم قبائل صنهاكة و هم صنهاجة و في آخر هذا الجزء منه بعض قبائل زناتة و يتصل به هنالك من جوفيه جبل أوراس و هو جبل كتامة و بعد ذلك أمم أخرى من البرابرة نذكرهم في أماكنهم. ثم إن جبل درن هذا من جهة غربيه مطل على بلاد المغرب الأقصى و هي في جوفيه ففي الناحية الجنوبية منها بلاد مراكش و أغمات و تادلاً و على البحر المحيط منها رباط أسفى و مدينة سلا و في الجوف عن بلاد مراكش بلاد فاس و مكناسة و تازا و قصر كتامة و هذه هي التي تسمى المغرب الأقصى في عرف أهلها و على ساحل البحر المحيط منها بلدان أصيلا و العرايش و في سمت هذه البلاد شرقاً بلاد المغرب الأوسط و قاعدتها تلمسان و في سواحلها على البحر الرومي بلد هنين و وهران و الجزائر لأن هذا البحر الرومي يخرج من البحر المحيط من خليج طنجة في الناحية الغربية من الإقليم الرابع و يذهب مشرقاً فينتهي إلى بلاد الشام فإذا خرج من الخليج المتضايق غير بعيد انفسح جنوباً و شمالاً فدخل في الإقليم الثالث و الخامس فلهذا كان على ساحله من هذا الإقليم الثالث الكثير في بلاده ثم يتصل ببلاد الجزائر من شرقيها بلاد بجاية في ساحل البحر ثم قسطنطينية في الشرق منها و في آخر الجزء الأول و على مرحلة من هذا البحر في جنوبي هذه البلاد و مرتفعاً إلى جنوب المغرب الأوسط بلد أشير ثم بلد المسيلة ثم الزاب و قاعدته بسكرة تحت جبل أوراس المتصل بدرن كما مر و ذلك عند آخر هذا الجزء من جهة الشرق و الجزء الثالث من هذا الإقليم على هيئة الجزء الأول ثم جبل درن على نحو الثلث من جنوبه ذاهباً فيه من غرب إلى شرق فيقسمه بقطعتين و يعبر البحر الرومي مسافة من شماله فالقطعة الجنوبية عن جبل درن غربيها كله مفاوز و في الشرق منها بلد عذامس و في سمتها شرقاً أرض و دان التي بقيتها في الإقليم الثاني كما مر و القطعة الجوفية عن جبل درن ما بينه و بين البحر الرومي في الغرب منها جبل أوراس و تبسة و الأوبس و على ساحل البحر بلد بونة ثم في سمت هذه البلاد شرقاً بلاد أفريقية فعلى ساحل البحر مدينة تونس ثم السوسة ثم المهدية و في جنوب هذه البلاد تحت جبل درن بلاد الجريد توزر و قفصة و نفراوة و فيما بينها و بين السواحل مدينة القيروان و جبل و سلات و سبيطلة و على سمت هذه البلاد كلها شرقاً بلد طرابلس على البحر الرومي و بإزائها في الجنوب جبل دمر و نقرة من قبائل هوارة متصلة بجبل درن و في مقابلة غذامس التي مر في نهرها في آخر القطعة الجنوبية و آخر هذا الجزء في الشرق سويقة ابن مشكورة على البحر و في جنوبها مجالات العرب في أرض و دان و في الجزء الثالث من هذا الإقليم يمر أيضاً فيه جبل درن إلا أنه ينعطف عند آخر إلى الشمال و يذهب على سمته إلى أن يدخل في البحر الرومي و يسمى هنالك طرف أوثان و البحر الرومي من شماليه يغمر طائفة منه إلى أن يضايق ما بينه و بين جبل درن فالذي وراء الجبل في الجنوب و في الغرب منه بقية أرض و دان. و مجالات العرب فيها ثم زويلة ابن خطاب ثم رمال و قفار إلى آخر الجزء في الشرقي و فيما بين الجبل و البحر في الغرب منه بلد سرت على البحر ثم خلاء و قفار تجول فيها العرب ثم أجدابية ثم برقة عند منعطف الجبل ثم طلمسة على البحر هنالك ثم في شرقي المنعطف من الجبل مجالات هيب و رواحة إلى آخر الجزء و في الجزء الرابع من هذا الإقليم و في الأعلى من غربيه صحارى برقيق و أسفل منها بلاد هيب و رواحة ثم يدخل البحر الرومي في هذا الجزء فيغير طائفة منه إلى الجنوب حتى يزاحم طرفه الأعلى و يبقى بينه و بين آخر الجزء فيها قفار تجول فيها العرب و على سمتها شرقاً بلاد الفيوم و هي على مصب أحد الشعبين من النيل الذي يمر على اللاهون من بلاد الصعيد في الجزء الرابع من الإقليم الثاني و يصب في بحيرة فيوم و على سمته شرقاً أرض مصر و مدينتها الشهيرة على الشعب الثاني الذي يمر بدلاص من بلاد الصعيد عند آخر الجزء الثاني و يفترق هذا الشعب افتراقه ثانية من تحت مصر على شعبين آخرين من شطنوف و زفتي و ينقسم الأيمن منهما من قرمط بشعبين آخرين و يصب جميعها في البحر الرومي فعلى مصب الغربي من هذا الشعب بلد الإسكندرية و على مصب الوسط بلد رشيد و على مصب الشرقي بلد دمياط و بين مصر و القاهرة و بين هذه السواحل البحرية أسافل الديار المصرية كلها محشوة عمراناً و فلجاً و في الجزء الخاص من هذا الإقليم بلاد الشام و كثرها على ما أصف و ذلك لأن بحر القلزم ينتهي من الجنوب و في الغرب منه عند السويس لأنه في ممره مبتدىء من البحر الهندي إلى الشمال ينعطف آخذاً إلى جهة الغرب فتكون قطعة من انعطافه في الجزء طويلة فينتهي في الطرف الغربي منه إلى السويس و على هذه القطعة بغد السويس فاران ثم جبل الطور ثم أيلة مدين ثم الحوراء في آخرها و من هنالك ينعطف بساحله إلى الجنوب في أرضي الحجاز كما مر في الإقليم الثاني في الجزء الخامس منه و في الناحية الشمالية من هذا الجزء قطعة من البحر الرومي غمرت كثيراً من غربيه عليها الفرما و العريش و قارب طرفها بلد القلزم فيضايق ما بينهما من هنالك و بقي شبه الباب مفضياً إلى أرض الشام و في غربي هذا الباب فحص التيه أرض جرداء لا تنبت كانت مجالاً لبني إسرائيل بعد خروجهم من مصر و قبل دخولهم إلى الشام أربعين سنة كما قصة القرآن، و في هذه القطعة من البحر الرومي في هذا الجزء طائفة من جزيرة قبرص و بقيتها في الإقليم الرابع كما نذكره و على ساحل هذه القطعة عند الطرف المتضايق لبحر السويس بلد العريش و هو آخر الديار المصرية و عسقلان و بينهما طرف هذا البحر ثم تنحط هذه القطعة في انعطافها من هنالك إلى الإقليم الرابع عند طرابلس و غزة و هنالك ينتهي البحر الرومي في جهة الشرق و على هذه القطعة أكثر سواحل الشام ففي شرقه غزة ثم عسقلان و بانحراف يسير عنها إلى الشمال بلد قيسارية ثم كذلك بلد عكاء ثم صور ثم صيداء ثم ينعطف البحر إلى الشمال في الإقليم الرابع و يقابل هذه البلاد الساحلية من هذه القطعة في هذا الجزء جبل عظيها يخرج من ساحل أيلة من بحر القلزم و يذهب في ناحية الشمال منحرفاً إلى الشرق إلى أن يجاوز هذا الجزء و يسمى جبل اللكام و كأنه حاجز بين أرض مصر و الشام ففي طرفه عند أيلة العقبة التي يفر عليها الحجاج من مصر إلى مكة ثم بعدها في ناحية الشمال مدفن الخليل عليه الصلاة و السلام عند جبل السراة يتصل من عند جبل اللكام المذكور من شمال العقبة ذاهباً على سمت الشرق ثم ينعطف قليلاً و في شرقه هنالك بلد الحجر و ديار ثمود و تيماء و دومة الجندل و هي أسافل الحجاز و فوقها جبل رضوى و حصون خيبر في جهة الجنوب عنها و فيما بين جبل السراة و بحر القلزم صحراء تبوك و في شمال جبل السراة مدينة القدس عند جبل اللكام ثم الأردن ثم طبرية و في شرقيها بلاد الغور إلى أذرعات و في سمتها دومة الجندل آخر هذا الجزء و هي آخر الحجاز. و عند منعطف جبل اللكام إلى الشمال من آخر هذا الجزء مدينة دمشق مقابلة صيدا و بيروت من القطعة البحرية و جبل اللكام يعترض بينها و بينها و على سنت دمشق في الشرق مدينة بعلبك ثم مدينة حمص في الجهة الشمالية آخر الجزء عند منقطع جبل اللكام و في الشرق عن بعلبك و حمص بلد تدمر و مجالات البادية إلى آخر الجزء و في الجزء السادس من أعلاه مجالات الأعراب تحت بلاد نجد و اليمامة ما بين جبل العرج و الصمان إلى البحرين و هجر على بحر فارس و في أسافل هذا الجزء تحت المجالات بلد الحيرة و القادسية و مغايض الفرات. و فيما بعدها شرقاً مدينة البصرة و في هذا الجزء ينتهي بحر فارس عند عبادان و الأيلة من أسافل الجزء من شماله و يصب! فيه عند عبادان نهر دجلة بعد أن ينقسم بجداول كثيرة و تختلط به جداول أخرى من الفرات ثم تجتمع كلها عند عبادان و تصب في بحر فارس و هذه القطعة من البحر متسعة في أعلاه مضايقة في آخر في شرقيه و ضيقة عند منتهاه مضايقة للحد الشمالي منه و على عدوتها الغربية منه أسافل البحرين و هجر و الاحساء و في غربها أخطب و الصمان و بقية أرض اليمامة و على عدوته الشرقية سواحل فارس من أعلاها و هو من عند آخر الجزء من الشرق لما على طرف قد امتد من هذا البحر مشرقاً و وراءه إلى الجنوب في هذا الجزء جبال القفص من كرمان و تحت هرمز على الساحل بلد سيراف و نجيرم على ساحل هذا البحر و في شرقيه إلى آخر هذا الجزء و تحت هرمز بلاد فارس مثل سابور و دار أبجرد و نسا و إصطخر و الشاهجان و شيراز و هي قاعدتها كلها و تحت بلاد فارس إلى الشمال عند طرف البحر بلاد خوزستان و منها الأهواز و تستر و صدى و سابور و السوس و رام هرمز و غيرها و أزجال و هي حد ما بين فارس و خوزستان و في شرقي بلاد خوزستان جبال الأكراد متصلة إلى نواحي أصبهان و بها مساكنهم و مجالاتهم وراءها في أرض فارس و تسمى الرسوم. و في الجزء السابع في الأعلى منه من المغرب بقية جبال القفص و يليها من الجنوب و الشمال بلاد كرمان و مكران و من مدنها الرودن و الشيرجان و جيرفت و يزدشير و البهرج و تحت أرض كرمان إلى الشمال بقية بلاد فارس إلى حدود أصبهان و مدينة أصبهان في طرف هذا الجزء ما بين غربه و شماله ثم في المشرق عن بلاد كرمان و بلاد فارس أرض سجستان و كوهستان في الجنوب و أرض كوهستان في الشمال عنها و يتوسط بين كرمان و فارس و بين سجستان و كوهستان، و في وسط هذا الجزء المفاوز العظمى القليلة المسالك لصعوبتها من مدن سجستان بست الطاق و أما كوهستان فهي من بلاد خراسان و من مشاهير بلاد سرخس و قوهستان آخر الجزء. و في الجزء الثامن غربه و جنوبه مجالات الحلج من أمم الترك متصلة بأرض سجستان من غربها و بأرض كابل الهند من جنوبها و في الشمال عن هذه المجالاة جبال الغور و بلادها و قاعدتها غزنة فرضة الهند و في آخر الغور من الشمال بلاد أستراباذ ثم في الشمال غرباً إلى أخر الجزء بلاد هراة أوسط خراسان و بها أسفراين و قاشان و بوشنج و مرو الروذ و الطالقان و الجوزجان و تنتهي خراسان هنالك إلى نهر جيحون.
القسم الثاني من تفصيل الكلام على هذه الجغرافيا
و على هذا النهر من بلاد خراسان من غرببه مدينة بلخ و في شرقيه مدينة ترمذ و مدينة بلخ كانت كرسي مملكة الترك و هذا النهر نهر جيحون مخرجه من بلاد و جار في حدود بذخشان مما يلي الهند و يخرج من جنوب هذا الجزء و عند آخر من الشرق فينعطف عن قرب مغرباً إلى وسط الجزء و يسمى هنالك نهر خرناب ثم ينعطف إلى الشمال حتى يمر بخراسان و يذهب على سنته إلى أن يصب في بحيرة خوارزم في الإقليم لخامس كما نذكره و يمده عند انعطافه في وسط الجزء من الجنوب إلى الشمال خمسة أنهار عظيمة من بلاد الختل و الوخش من شرقيه و أنهار أخرى من جبال البتم من شرقيه أيضاً و جوفي الجبل حتى يتسع و يعظم بما لا كفاء له و من هذه الأنهار الخمسة الممدة له نهر و خشاب يخرج من بلاد التبت و هي بين الجنوب و الشرق من هذا الجزء فيمر مغرباً بالحر إلى الشمال إلى أن يخرج إلى الجزء التاسع قريباً من شمال هذا الجزء يعترضه في طريقه جبل عظيم يمر من وسط الجنوب في هذا الجزء و يذهب مشرقاً بانحراف إلى الشمال إلى أن يخرج إلى الجزء التاسع قريباً من شمال هذا الجزء فيجوز بلاد التبت إلى القطعة الشرقية الجنوبية من هذا الجزء و يحول بين الترك و بين بلاد الختل و ليس فيه إلا مسلك واحد في وسط الشرق من هذا الجزء جعل فيه الفصل بن يحيى سداً و بنى فيه باباً كسد ياجوج و ماجوج فإذا خرج نهر و خشاب من بلاد التبت و اعترضه هذا الجبل فيمر تحته في مدى بعيد إلى أن يمر في بلاد الوخش و يصب في نهر جيحون عند حدود بلخ ثم يمر هابطاً إلى الترمذ في الشمال إلى بلاد الجوزجان و في الشرق عن بلاد الغور فيما بينها و بين نهر جيحون بلاد الناسان من خراسان و في العدوة الشرقية هنالك من النهر بلاد الختل و أكثرها جبال و بلاد الوخش و يحدها من جهة الشمال جبال البتم تخرج من طرف خراسان غربي نهر جيحون و تذهب مشرقةً إلى أن يتصل طرفها بالجبل العظيم الذي خلفه بلاد التبت و يمر تحته نهر و خشاب كما قلناه فيتصل عند باب الفضل بن يحيى و يمر نهر جيحون بين هذه الجبال و أنهار أخرى تصب فيه منها نهر بلاد الوخش يصب فيه من الشرق تحت الترمذ إلي جهة الشمال و نهر بلخ يخرج من جبال البتم مبدإه عند الجوزجان و يصب فيه من غربيه و على هذا النهر من غربيه بلاد آمد من خراسان و في شرقي النهر من هنالك أرض الصغد و أسر وشنة من بلاد الترك و في شرقها أرض فرغانة أيضاً إلى آخر الجزء شرقاً و كل بلاد الترك تحوزها جبال البتم إلى شمالها و في الجزء التاسع من غربه أرض التبت إلى وسط الجزء و في جنوبيها بلاد الهند و في شرقيها بلاد الصين إلى آخر الجزء و في أسفل هذا الجزء شمالاً عن بلاد التبت بلاد الخزلجية من بلاد الترك إلى آخر الجزء شرقاً و شمالاً و يتصل بها من غربيها أرض فرغانة أيضاً إلى آخر الجزء شرقاً و من شرقيها أرض التغرغر من الترك إلى الجزء شرقاً و شمالاً. و في الجزء العاشر في الجنوب منه جميعاً بقية الصين و أسافله و في الشمال بقية بلاد التغرغر ثم شرقاً عنهم بلاد خرخير من الترك أيضاً إلى آخر الجزء شرقاً و في الشمال من أرض خرخير بلاد كتمان من الترك و قبالتها في البحر المحيط جزيرة الياقوت في وسط جبل مستدير لا منفذ منه إليها و لا مسلك و الصعود إلى أعلاه من خارجه صعب في الغاية و في الجزيرة حيات قتالة و حصى من الياقوت كثيرة فيحتال أهل تلك الناحية بما يلهمهم الله إليه و أهل هذه البلاد في هذا الجزء التاسع و العاشر فيما وراء خراسان و الجبال كلها مجالات للترك أمم لا تحصى و هم ظواعن رحالة أهل إبل و شاء و بقر و خيل للنتاج و الركوب و الأكل و طوائفهم كثيرة لا يحصيهم إلا خالقهم و فيهم مسلمون مما يلي بلاد النهر نهر جيحون و يغزون الكفار منهم الدائنين بالمجوسية فيبيعون رقيقهم لمن يليهم و يخرجون إلى بلاد خراسان و الهند و العراق
الإقليم الرابع: يتصل بالثالث من جهة الشمال. و الجزء الأول منه في غربيه قطعة من البحر المحيط مستطيلة من أوله جنوباً إلى آخر شمالاً و عليها في الجنوب مدينة طنجة و من هذه القطعة تحت طنجة من البحر المحيط إلى البحر الرومي في خليج متضايق بمقدار اثني عشر ميلاً ما بين طريف و الجزيرة الخضراء شمالاً و قصر المجاز و سبتة جنوباً و يذهب مشرقاً إلى أن ينتهي إلى وسط الجزء الخامس من هذا الإقليم و ينفسح في ذهابه بتدريج إلى أن يغمر الأربعة الأجزاء و أكثر الخامس من هذا الإقليم الثالث و الخامس كما سنذكره و يسمى هذا البحر البحر الشامي أيضاً و فيه جزائر كثيرة أعظمها في جهة الغرب يابسة ثم ما يرقة ثم منرقة ثم سردانية ثم صقلية و هي أعظمها ثم بلونس ثم أقريطش ثم قبرص كما نذكرها كلها في أجزائها التي وقعت فيها و يخرج من هذا البحر الرومي عند آخر الجزء الثالث منه و في الجزء الثالث من الإقليم الخامس خليج البنادقة يذهب إلى ناحية الشمال ثم ينعطف عند وسط الجزء من جوفه و يمر مغرباً إلى أن ينتهي في الجزء الثاني من الخامس و يخرج منه أيضاً في آخر الجزء الرابع شرقاً من الإقليم الخامس خليج القسطنطينية يمر في الشمال متضايقاً في عرض رمية السهم إلى آخر الإقليم ثم يفضي إلى الجزء الرابع من الإقليم السادس و ينعطف إلى بحر نيطش ذاهباً إلى الشرق في الجزء الخامس كله و نصف السادس من الإقليم السادس كما نذكر ذلك في أماكنه و عندما يخرج هذا البحر الرومي من البحر المحيط في خليج طنجة و ينفسح إلى الإقليم الثالث. يبقى في الجنوب عن الخليج قطعة صغيرة من هذا الجزء فيها مدينة طنجة على مجمع البحرين و بعدها مدينة سبتة على البحر الرومي ثم قطأون ثم باديس ثم يغمر هذا البحر بقية هذا الجزء شرقاً و يخرج إلى الثالث و أكثر العمارة في هذا الجزء في شماله و شمال الخليج منه و هي كلها بلاد الأندلس الغربية منها ما بين البحر المحيط و البحر الرومي أولها طريف عند مجمع البحرين و في الشرق منها على ساحل البحر الرومي الجزيرة الخضراء ثم مالقة ثم المنقب ثم المرية و تحت هذه من لدن البحر المحيط غرباً و على مقربة منه شريش ثم لبلة و قبالتها فيه جزيرة قادس و في الشرق عن شريش و لبلة إشبيلية ثم أستجة و قرطبة و مديلة ثم غرناطة و جيان و أبدة ثم و اديش و بسطة و تحت هذه شنتمرية و شلب على البحر المحيط غرباً و في الشرق عنهما بطلموس و ماردة و يابرة ثم غافق و بزجالة ثم قلعة رياح و تحت هذه أشبونة على البحر المحيط غرباً و على نهر باجة و في الشرق عنها شنترين و موزية على النهر المذكور ثم قنطرة السيف و يسامت اشبونة من جهة الشرق جبل الشارات يبدأ من المغرب هنالك و يذهب مشرقاً مع آخر الجزء من شماليه فينتهي إلى مدينة سالم فيما بعد النصف منه و تحت هذا الجبل طلبيرة في الشرق من فورنة ثم طليطلة ثم وادي الحجارة ثم مدينة سالم و عند أول هذا الجبل فيما بينه و بين أشبونة بلد قلمرية و هذه غربي الأندلس. و أما شرقي الأندلس فعلى ساحل البحر الرومي منها بعد المرية قرطاجنة ثم لفتة ثم دانية ثم بلنسية إلى طرطوشة آخر الجزء في الشرق، و تحتها شمالاً ليورقة و شقورة تتاخمان بسطة و قلعة رياح من غرب الأندلس ثم مرسية شرقاً ثم شاطبة تحت بلنسية شمالاً ثم شقر ثم طرطوشة ثم طركونة آخر الجزء ثم تحت هذه شمالاً أرض منجالة وريدة متاخمان لشقورة و طليطلة من الغرب ثم أفراغة شرقاً تحت طرطوشة و شمالاً عنها ثم في الشرق عن مدينة سالم تقلة أيوب ثم سرقسطة ثم لاردة آخر الجزء شرقاً و شمالاً. و الجزء الثاني من هذا الإقليم غمر الماء جميعه إلا قطعة من غربيه في الشمال فيها بقية جبل البرنات و معناه جبل الثنايا و السالك يخرج إليه من آخر الجزء الأول من الإقليم الخامس يبدأ من الطرف المنتهي، من البحر المحيط عند آخر ذلك الجزء جنوباً و شرقاً و يمر في الجنوب بالحر إلى الشرق فيخرج في هذا الإقليم الرابع منحرفاً عن الجزء الأول منه إلى هذا الجزء الثاني فيقع فيه قطعة منه تفضي ثناياها إلى البر المتصل و تسمى أرض غشكونية و فيه مدينة خريدة و قرقشونة و على ساحل البحر الرومي من هذه القطعة مدينة برشلونة ثم أربونة و في هذا البحر الذي غمر الجزء جزائر كثيرة و الكثير منها غير مسكون لصغرها ففي غربيه جزيرة سردانية و في شرقيه جزيرة صقلية متسعة الأقطار يقال إن دورها سبعمائة ميل و بها مدن كثيرة من مشاهيرها سرقوسة و بلرم و طرابغة و مازر و مسيني و هذه الجزيرة تقابل أرض أفريقية و فيما بينهما جزيرة أعدوش و مالطة. و الجزء الثالث من هذا الإقليم مغمور أيضاً بالبحر إلا ثلاث قطع من ناحية الشمالي الغربية منها أرض قلورية و الوسطى من أرض أبكيردة و الشرقية من بلاد البنادقة. و الجزء الرابع من هذا الإقليم مغمور أيضاً بالبحر كما مر و جزائره كثيرة و أكثرها غير مسكون كما في الثالث و المغمور منها جزيرة بلونس في الناحية الغريبة الشمالية و جزيرة أقريطش مستطيلة من وسط الجزء إلى ما بين الجنوب و الشرق منة. و الجزء الخامس من هذا الإقليم غمر البحر منه مثلثة كبيرة بين الجنوب و الغرب ينتهي الضلع الغربي منها إلى، آخر الجزء في الشمال و ينتهي الضلع الجنوبي منها إلى نحو الثلثين من الجزء و يبقى في الجالب الشرقي من الجزء قطعة نحو الثلث يمر الشمالي منها إلى الغرب منعطفاً مع البحر كما قلناه و في النصف الجنوبي منها أسافل الشام و يمر في وسطها جبل اللكام إلى أن ينتهي إلى آخر الشام في الشمال فينعطف من هنالك ذاهباً إلى القطر الشرقي الشمالي و يسمى بعد انعطافه جبل السلسلة و من هنالك يخرج إلى الإقليم الخامس و يجوز من عند منعطفه قطعة من بلاد الجزيرة إلى جهة الشرق و يقوم من عند منعطفه من جهة المغرب جبال متصلة بعضها ببعض إلى أن ينتهي إلى طرف خارج من البحر الرومي متأخر إلى آخر الجزء من الشمالي و بين هذه الجبال ثنايا تسمى الدروب و هي التي تفضي إلى بلاد الأرمن و في هذا الجزء قطعة منها بين هذه الجبال و بين جبل السلسلة فأما الجهة الجنوبية التي قدمنا أن فيها أسافل الشام و أن جبل اللكام معترض فيها بين البحر الرومي و آخر الجزء من الجنوب إلى الشمال فعلى ساحلي البحر بلد أنطرطوس في أول الجزء من الجنوب متاخمة لغزة و طرابلس على ساحله من الإقليم الثالث و في شمال أنطرطوس جبلة ثم اللاذقية ثم إسكندرونة ثم سلوقية و بعدها شمالاً بلاد الروم و أما جبل اللكام المعترض بين البحر و آخر الجزء بحافاته فيصاقبه من بلاد الشام من أعلى الجزء جنوباً من غربيه حصن الحواني و هو للحشيشة الإسماعيلية و يعرفون لهذا العهد بالفداوية و يسمى مصيات و هو قبالة أنطرطوس و قبالة هذا الحصن في شرق الجبل بلد سلمية في الشمال عن حمص و في الشمال و في مصيات بين الجبل و البحر بلد انطاكية و يقابلها في شرق الجبل المعرة و في شرقها المراغة و في شمال انطاكية المصيصة ثم أذنة ثم طرسوس آخر الشام و يحاذيها من غرب الجبل قنسرين ثم عين زربة و قبالة قنسرين في شرق الجبل حلب و يقابل عين زربة منبج آخر الشام. و أما الدروب فعن يمينها ما بينها و بين البحر الرومي بلاد الروم التي هي لهذا العهد للتركمان و سلطانها ابن عثمان و في ساحل البحر منها بلد أنطاكية و العلايا. و أما بلاد الأرمن التي بين جبل الدروب و جبل السلسلة ففيها بلد مرعش و ملطية و المعرة إلى آخر الجزء الشمالي و يخرج من الجزء الخامس في بلاد الأرمن نهر جيحان و نهر سيحان في شرقيه فيمر بها جيحان جنوباً حتى يتجاوز الدروب ثم يمر بطرسوس ثم بالمصيصة ثم ينعطف هابطاً إلى الشمال و مغرباً حتى يصب في البحر الرومي جنوب سلوقية و يمر نهر سيحان مؤازياً لنهر جيحان فيحاذى المعرة و مرعش و يتجاوز جبال الدروب إلى أرض الشام ثم يمر بعين زربة و يحوز عن نهر جيحان ثم ينعطف إلى الشمال مغرباً فيختلط بنهر جيحان عند المصيصة و من غربها و أما بلاد الجزيرة التي يحيط بها منعطف جبل اللكام إلى جبل السلسلة ففي جنوبها الرافضة و الرقة ثم حران ثم سروج و الرها ثم نصيبين ثم سميساط و آمد تحت جبل السلسلة و آخر الجزء من شماله و هو أيضاً آخر الجزء من شرقيه و يمر في وسط هذه القطعة نهر الفرات و نهر دجلة يخرجان من الإقليم الخامس و يمران في بلاد الأرمن جنوباً إلى أن يتجاوزا جبل السلسلة فيمر نهر الفرات من غربي سميساط و سروج و ينحرف إلى الشرق فيمر بقرب الرافضة و الرقة و يخرج إلى الجزء السادس و يمر دجلة شرق آمد و ينعطف قريباً إلى الشرق فيخرج قريباً إلى الجزء السادس و في الجزء السادس من هذا الإقليم من غربيه بلاد الجزيرة و في الشرق منها بلاد العراق متصلة بها تنتهي في الشرق إلى قرب آخر الجزء و يعترض من آخر العراق هنالك جبل أصبهان هابطاً من جنوب الجزء منحرفاً إلى الغرب فإذا انتهي إلى وسط الجزء من آخر في الشمال يذهب مغرباً إلى أن يخرج من الجزء السادس و يتصل على سنته بجبل السلسلة في الجزء الخامس فينقطع هذا الجزة السادس بقطعتين غربية و شرقية ففي الغربية من جنوبيها مخرج الفرات من الخامس و في شماليها مخرج دجلة منه أما الفرات فأول ما يخرج إلى السادس يمر بقرقيسيا و يخرج من هنالك جدول إلى الشمال ينساب في أرض الجزيرة و يغوص في نواحيها و يمر من قرقيسيا غير بعيد ثم ينعطف إلى الجنوب فيمر بقرب الخابور إلى غرب الرحبة و يخرج منه جداول من هنالك يمر جنوباً و لبقى صفين في غربيه ثم ينعطف شرقاً و ينقسم بشعوب فيمر بعضها بالكوفة و بعضها بقصر ابن هبيرة و بالجامعين و تخرج جميعاً في جنوب الجزء إلى الإقليم الثالث فيغوص هنالك في شرق الحيرة و القادسية و يخرج الفرات من الرحبة مشرقاً على سمته إلى هيت من شمالها يمر إلى الزاب و الأنبار من جنوبهما ثم يصب في دجلة عند بغداد. و أما نهر دجلة فإذا دخل من الجزء الخامس إلى هذا الجزء يمر بجزيرة ابن عمر على شمالها ثم بالموصل كذلك و تكريت و ينتهي إلى الحديثة فينعطف جنوباً و تبقى الحديثة في شرقه و الزاب الكبير و الصغير كذلك و يمر على سمته جنوباً و في غرب القادسية إلى أن ينتهي إلى بغداد و يختلط بالفرات ثم يمر جنوباً على غرب جرجرايا إلى أن يخرج من الجزء إلى الإقليم الثالث فتنتشر هنالك شعوبه و جداوله ثم يجتمع و يصب هنالك في بحر فارس عند عبادان و فيما بين نهر دجلة و الفرات قبل مجمعهما كما يبغداد هي بلاد الجزيرة و يختلط بنهر دجلة بعد مفارقته ببغداد نهر آخر يأتي من الجهة الشرقية الشمالية منه و ينتهي إلى بلاد النهروان قبالة بغداد شرقاً ثم ينعطف جنوباً و يختلط بدجلة قبل خروجه إلى الإقليم الثالث و يبقى ما بين هذا النهر و بين جبل العراق و الأعاجم بلد جلولاء و في شرقها عند الجبل بلد حلوان و صيمرة. و أما القطعة الغربية من الجزء فيعترض، جبل يبدأ من جبل الأعاجيم مشرقاً إلى آخر الجزء و يسمى جبل شهرزور و يقسمها بقطعتين في الجنوب من هذه القطعة الصغرى بلد خونجان من الغرب و الشمال عن أصبهان و تسمى هذه القطعة بلد الهلوس و في وسطها بلد نهاوند و في شمالها بلد شهرزور غرباً عند ملتقى الجبلين و الدينور شرقاً عند آخر الجزء و في القطعة الصغرى الثانية من بلاد أرمينية قاعدتها المراغة و الذي يقابلها من جبل العراق يسمى باريا و هو مساكن للأكراد و الزاب الكبير و الصغير الذي على دجلة من ورائه و في آخر هذه القطعة من جهة الشرق بلاد أذربيجان و منها تبريز و البيدقان و في الزاوية الشرقية الشمالية من هذا الجزء قطعة من بحر نيطش و هو بحر الخزر و في الجزء السابع من هذا الإقليم من غربه و جنوبه معظم بلاد الهلوس و فيها همذان و قزوين و بقيتها في الإقليم الثالث و فيها هنالك أصبهان و يحيط بها من الجنوب جبل يخرج من غربها و يمر بالإقليم الثالث ثم ينعطف من الجزء السادس إلى الإقليم الرابع و يتصل بجبل العراق في شرقيه الذي مر ذكره هنالك و إنه محيط ببلاد الهلوس في القطعة الشرقية و يهبط هذا الجبل المحيط بأصبهان من الإقليم الثالث إلى جهة الشمال و يخرج إلى هذا الجزء السابع محيط ببلاد الهلوس من شرقها و تحته هنالك قاشان ثم قم و ينعطف في قرب النصف من طريقه مغرباً بعض الشيء ثم يرجع مستديراً فيذهب مشرقاً و منحرفاً إلى الشمال حتى يخرج إلى الإقليم الخامس و يشتمل على منعطفه و استدارته على بلد الري في شرقيه و يبدأ من منعطفه جبل آخر يمر غرباً إلى آخر هذا الجزء و من جنوبه من هنالك قزوين و من جانبه الشمالي و جانب جبل الري المتصل معه ذاهباً إلى الشرق و الشمال إلى وسط الجزء ثم إلى الإقليم الخاص بلاد طبرستان فيما بين هذه الجبال و بين قطعة من بحر طبرستان و يدخل من الإقليم الخامس في هذا الجزء في نحو النصف من غربه إلى شرقه و يعترض عند جبل الري و عند انعطافه إلى الغرب جبل متصل يمر على سمته مشرقاً و بانحران قليل إلى الجنوب حتى يدخل في الجزء الثامن من غربه و يبقى بين جبل الري و هذا الجبل من عند مبدأهما بلاد جرجان فيما بين الجبلين و منها بسطام و وراء هذا الجبل قطعة من هذا الجزء فيها بقية المفازة التي بين فارس و خراسان و هي في شرقيه قاشان و في آخرها عند هذا الجبل بلد أستراباذ و حافات هذا الجبل من شرقيه إلى آخر الجزء بلاد نيسابور من خراسان ففي جنوب الجبل و شرق المفازة بلد نيسابور ثم مرو الشاهجان آخر الجزء و في شماله و شرقي جرجان بلد مهرجان و خازرون و طوس آخر الجزء شرقاً و كل هذا تحت الجبل و في الشمال عنها بلاد نسا و يحيط بها عند زاوية الجزئين الشمال و الشرق مفاوز معطلة. و في الجزء الثامن من هذا الإقليم و في غربيه نهر جيحون ذاهباً من الجنوب إلى الشمال ففي عدوته الغربية رمم و آمل من بلاد خراسان و الظاهرية و الجرجانية من بلاد خوارزم و يحيط بالزاوية الغربية الجنوبية منه جبل أستراباذ المعترض في الجزء السابع قبله و يخرج في هذا الجزء من غربيه و يحيط بهذه الزاوية و فيها بقية بلاد هراة و الجوزخان حتى يتصل بجبل البتم كما ذكرناه هنالك و في شرقي نهر جيحون من هذا الجزء و في الجنوب منه بلاد بخارى ثم بلاد الصغد و قاعدتها سمرقند ثم سردارا و أشنة و منها خجندة آخر الجزء شرقاً و في الشمال عن سمرقند و سردار و أشنة أرض إيلاق ثم في الشمال عن إيلاق أرض الشاش إلى آخر الجزء شرقاً و يأخذ قطعة من الجزء التاسع في جنوب تلك القطعة بقية أرض فرغانة و يخرج من تلك القطعة التي في الجزء التاسع نهر الشاش يمر معترضاً في الجزء الثامن إلى أن ينصب في نهر جيحون عند مخرجه من هذا الجزء الثامن في شماله إلى الإقليم الخامس و يختلط معه في أرض إيلاق نهر يأتي من الجزء التاسع من الإقليم الثالث من تخوم بلاد التبت و يختلط معه قبل مخرجه من الجزء التاسع نهر فرغانة و على سمت نهر الشاش جبل جبراغون يبدأ من الإقليم الخامس و ينعطف شرقاً و منحرفاً إلى الجنوب حتى يخرج إلى الجزء التاسع محيطاً بأرض الشاش ثم ينعطف في الجزء التاسع فيحيط بالشاش و فرغانة هناك إلى جنوبه فيدخل في الإقليم الثالث و بين نهر الشاش و طرف هذا الجبل في وسط هذا الجزء بلاد فاراب و بينه و بين أرض بخارى و خوارزم مفاوز معطلة و في زاوية هذا الجزء من الشمال و الشرق أرض خجندة و فيها بلد إسبيجاب و طراز. و في الجزء التاسع من هذا الإقليم في غربيه بعد أرض فرغانة و الشاش أرض الخزلجية في الجنوب و أرض الخليجة في الشمال و في شرقي الجزء كله أرض الكيماكية و يتصل في الجزء العاشر كله إلى جبل قوقيا آخر الجزء شرقاً و على قطعة من البحر المحيط هنالك و هو جبل يأجوج و مأجوج و هذه الأمم كلها من شعوب الترك. انتهي.
الإقليم الخامس: الجزء الأول منه أكثره مغمور بالماء إلا قليلاً من جنوبه شرقه لأن البحر المحيط بهذه الجهة الغربية دخل في الإقليم الخامس و السادس و السابع عن الدائرة المحيطة بالإقليم فأما المنكشف من جنوبه فقطعة على شكل مثلث متصلة من هنالك بالأندلس و عليها بقيتها و يحيط بها البحر من جهتين كأنهما ضلعان محيطان بزاوية المثلث ففيها من بقية غرب الأندلس سعيور على البحر عند أول الجزء من الجنوب و الغرب و سلمنكة شرقاً عنها و في جوفها سمورة و في الشرق عن سلمنكة أيلة آخر الجنوب و أرض قستالية شرقاً عنها و فيها مدينة شقونية و في شمالها أرض ليون و برغشت ثم وراءها في الشمال أرض جليقية إلى زاوية القطعة و فيها على البحر المحيط في آخر الضلع الغربي بلد شنتياقو و معناه يعقوب و فيها من شرق بلاد الأندلس مدينة شطلية عند آخر الجزء في الجنوب و شرقاً عن قستالية و في شمالها و شرقها و شقة و بنبلونة على سمتها شرقاً و شمالاً و في غرب بنبلونة قشتالة ثم ناجزة فيما بينها و بين برغشت و يعترض وسط هذه القطعة جبل عظيم محاذ للبحر و للضلع الشمالي الشرقي منه و على قرب و يتصل به و بطرف البحر عند بنبلونة في جهة الشرق الذي ذكرنا من قبل أن يتصل في الجنوب بالبحر الرومي في الإقليم الرابع و يصير حجراً على بلاد الأندلس من جهة الشرق و ثناياه لها أبواب تفضي إلى بلاد غشكونية من أمم الفرنج فمنها من الإقليم الرابع برشلونة و أربونة على ساحل البحر الرومي و خريدة و قرقشونة وراءهما في الشمال و منها من الإقليم الخامس طلوشة شمالاً عن خريدة. و أما المنكشف في هذا الجزء من جهة الشرق فقطعة على شكل مثلث مستطيل زاويته الحادة وراء البرنات شرقاً و فيها على البحر المحيط على رأي القطعة التي يتصل بها جبل البرنات بلد نيونة و في آخر هذه القطعة في الناحية الشرقية الشمالية من الجزء أرض بنطو من الفرنج إلى آخر الجزء. و في الجزء الثاني من الناحية الغربية منه أرض غشكونية و في شمالها أرض بنطو و برغشت و قد ذكرناهما و في شرق بلاد غشكونية في شمالها قطعة أرض من البحر الرومي دخلت في هذا الجزء كالضرس مائلة إلى الشرق قليلاً و صارت بلاد غشكونية في غربها داخلة في جون من البحر و على رأس هذه القطعة شمالاً بلاد جنوة و على سمتها في الشمال جبل نيت جون و في شماله و على سمعه أرض برغونة و في الشرق عن طرف جنوة الخارج من البحر الرومي طرف آخر خارج منه يبقى بينهما جون داخل من البر في البحر في غزبيه نيش و في شرقيه مدينة رومة العظمى كرسي ملك الإفرنجة و مسكن البابا بطركهم الأعظم و فيها من المباني الضخمة و الهياكل الهائلة و الكنائس العادية ما هو معروف الأخبار و من عجائبها النهر الجاري في وسطها من المشرق إلى المغرب مفروش قاعه ببلاط النحاس و فيها كنيسة بطرس و بولس من الحواريين و هما مدفونان بها و في الشمال عن بلاد رومة بلاد أقرنصيصة إلى آخر الجزء، و على هذا الطرف من البحر الذي في جنوبه رومة بلاد نابل في الجانب الشرقي منه متصلة ببلد قلورية من بلاد الفرنج و في شمالها طرف من خليج البنادقة دخل في هذا الجزء من الجزء الثالث مغرباً و محاذياً للشمال من هذا الجزء و انتهى إلى نحو الثلث منه و عليه كثير من بلاد البنادقة دخل في هذا الجزء من جنوبه فيما بينه و بين البحر المحيط و من شماله بلاد إنكلاية في الإقليم السادس. و في الجزء الثالث من هذا الإقليم في غربيه بلاد قلورية بين خليج البنادقة و البحر الرومي يحيط بها من شرقيه يصل من برها في الإقليم الرابع في البحر الرومي في جون بين طرفين خرجا من البحر على سمت الشمال إلى هذا الجزء في شرقي بلاد قلورية بلاد أنكيردة في جون بين خليج البنادقة و البحر الرومي و يدخل طرف من هذا الجزء في الجون في الإقليم الرابع و في البحر الرومي و يحيط به من شرقيه خليج البنادقة من البحر الرومي ذاهباً إلى سمت الشمال ثم ينعطف إلى الغرب محاذياً لآخر الجزء الشمالي و يخرج على سمته من الإقليم الرابع جبل عظيم يوازيه و يذهب معه إلى الشمال ثم يغرب معه في الإقليم السادس إلى أن ينتهي قبالة خليج في شماليه في بلاد إنكلاية من أمم اللمانيين كما نذكر و على هذا الخليج و بينه و بين هذا الجبل ماداما ذاهبين إلى الشمال بلاد البنادقة فإذا ذهبا إلى المغرب فبينهما بلاد حروايا ثم بلاد الألمانيين عند طرف الخليج. و في الجزء الرابع من هذا الإقليم قطعة من البحر الرومي خرجت إليه من الإقليم الرابع مضرسةً كلها بقطع من البحر و يخرج منها إلى الشمال و بين كل ضرسين منها طرف من البحر في الجون بينهما و في آخر الجزء شرقاً قطع من البحر و يخرج منها إلى الشمال خليج القسطنطينية يخرج من هذا الطرف الجنوبي و يذهب على سمت الشمال إلى أن يدخل في الإقليم السادس و ينعطف من هنالك عن قرب مشرقاً إلى بحر نيطش في الجزء الخامس و بعض الرابع قبلة و السادس بعدة من الإقليم السادس كما نذكر و بلد القسطنطينية في شرقي هذا الخليج عند آخر الجزء من الشمال و هي المدينة العظيمة التي كانت كرسي القياصرة و بها من آثار البناء و الضخامة ما كثرت عنه الأحاديث و القطعة التي، ما بين البحر الرومي و خليج القسطنطينية من هذا الجزء و فيها بلاد مقدونية التي كانت لليونانيين و منها ابتداء ملكهم و في شرقي هذا الخليج إلى آخر الجزء قطعة من أرض باطوس و أظنها لهذا العهد مجالات للتركمان و بها ملك ابن عثمان و قاعدته بها بورصة و كانت من قبلهم للروم و غلبهم عليها لما الأمم إلى أن صارت للتركمان. و في الجزء الخاص من هذا الإقليم من غربيه و جنوبيه أرض باطوس و في الشمال عنها إلى آخر الجزء بلاد عمورية و في شرقي عمورية نهر قباقب الذي يمد الغرات و يخرج من جبل هنالك و يذهب في الجنوب حتى يخالط الفرات قبل وصوله من هذا الجزء إلى ممره في الإقليم الرابع و هنالك في غربيه آخر الجزء في مبدأ سيحال ثم نهر جيحان غربيه الذاهبين على سمته و قد مر ذكرهما و في شرقه هنالك مبدأ نهر دجلة الذاهب على سمته و في موازاته حتى يخالطه عند بغداد و في الزاوية التي بين الجنوب و الشرق من هذا الجزء وراء الجبل الذي يبدأ منه نهر دجلة بلد ميافارقين و نهر قباقب الذي ذكرناه يقسم هذا الجزء بقطعتين إحداهما غربية جنوبية و فيها أرض باطوس كما قلناه و أسافلها إلى آخر الجزء شمالاً و وراء الجبل الذي يبدأ منه نهر قباقب أرض عمورية كما قلناه و القطعة الثانية شرقية شمالية على الثلث في الجنوب منها مبدأ دجلة و الفرات و في الشمال بلاد البيلقان متصلة بأرضي عمورية من وراء جبل قباقب و هي عريبة و في آخرها عند مبدإ الفرات بلد خرشنة و في الزاوية الشرقية الشمالية قطعة من بحر نيطش الذي يمده خليج القسطنطينية.
رد مع اقتباس
  #4  
قديم 01-09-2012, 01:50 AM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,392
افتراضي

القسم الثالث من تفصيل الكلام على هذه الجغرافيا
و في الجزء السادس من هذا الإقليم في جنوبه و غربه بلاد ارمينية متصلة إلى أن يتجاوز وسط الجزء إلى جانب الشرق و فيها بلدان أردن في الجنوب و الغرب و في شمالها تفليس و دبيل و في شرق أردن مدينة خلاط ثم بردعة في جنوبها بانحراف إلى الشرق مدينة أرمينية و من هنالك مخرج بلاد أرمينية إلى الإقليم الرابع و فيها هنالك بلد المراغة في شرقي جبل الأكراد المسمى بأرمى و قد مر ذكره في الجزء السادس منه و يتاخم بلاد أرمينية في هذا الجزء و في الإقليم الرابع قبله من جهة الشرق فيها بلاد أذربيجان و آخرها في هذا الجزء شرقاً بلاد اردبيل على قطعة من بحر طبرستان دخلت في الناحية الشرقية من الجزء السابع و يسمى بحر طبرسان و عليه من شماله في هذا الجزء قطعة من بلاد الخزر و هم التركمان و يبدأ من عند آخر هذه القطعة البحرية في الشمال جبال يتصل بعضها ببعض على سمت الغرب إلى الجزء الخاص فتمر فيه منعطفة و محيطة ببلد ميافارقين و يخرج إلى الإقليم الرابع عند آمد و يتصل بجبل السلسلة في أسافل الشام و من هنالك يتصل بجبل اللكام كما مر و بين هذه الجبال الشمالية في هذا الجزء ثنايا كالأبواب تفضي من الجانبين ففي جنوبيها بلاد الأبواب متصلة في الشرق إلى بحر طبرستان و عليه من هذه البلاد مدينة باب الأبواب و تتصل بلاد الأبواب في الغرب من ناحية جنوبيها ببلد أرمينية و بينهما في الشرق و بين بلاد أذربيجان الجنوبية بلاد الزاب متصلة إلى بحر طبرستان و في شمال هذه الجبال قطعة من هذا الجزء في غربها مملكة السرير في الزاوية الغربية الشمالية منها و في زاوية الجزء كله قطعة أيضاً من بحر نيطش الذي يمده خليج القسطنطينية و قد مر ذكره و يخف بهذه القطعة من نيطش بلاد السرير وعليها منها بلد أطرابزيدة و تتصل بلاد السرير بين جبل الأبواب و الجهة الشمالية من الجزء إلى أن ينتهي شرقاً إلى جبل حاجز بينها و بين أرض الخزر و عند آخرها مدينة صول و وراء هذا الجبل الحاجز قطعة من أرض الخزر تنتهي إلى الزاوية الشرقية الشمالية من هذا الجزء من بحر طبرستان و آخر الجزء شمالاً. و الجزء السابع من هذا الإقليم غربيه كله مغمور ببحر طبرستان و خرج من جنوبه في الإقليم الرابع القطعة التي ذكرنا هنالك أن عليها بلاد طبرستان و جبال الديلم إلى قزوين و في غربي تلك القطعة متصلة بها القطعة التي في الجزء السادس من الإقليم الرابع و يتصل بها من شمالها القطعة التي في الجزء السادس من شرقه أيضاً و ينكشف من هذا الجزء قطعة عند زاويته الشمالية الغربية يصب فيها نهر أثل في هذا البحر و يبقى من هذا الجزء في ناحية المشرق قطعة منكشفة من البحر هي مجالات للغز من أمم الترك يحيط بها جبل من جهة الجنوب داخل في الجزء الثامن و يذهب في الغرب إلى ما دون وسطه فينعطف إلى الشمال إلى أن يلاقي بحر طبرستان فيحتف به ذاهباً معه إلى بقيته في الإقليم السادس ثم ينعطف مع طرفه و يفارقه و يسمى هنالك جبل سياه و يذهب مغرباً إلى الجزء السادس من الإقليم السادس ثم يرجع جنوباً إلى الجزء السادس من الإقليم الخامس و هذا الطرف منه و هو الذي اعترض في هذا الجزء بين أرض السرير و أرض الخزر و اتصلت بأرض الخزر في الجزء السادس و السابع حافات هذا الجبل المسمى جبل سياه كما سيأتي. و الجزء الثامن من هذا الإقليم الخامس كله مجالات للغز من أمم الترك و في الجهة الجنوبية الغربية. منه بحيرة خوارزم التي يصب فيها نهر جيحون دورها ثلاثمائة ميل و يصب فيها أنهار كثيرة من أرض هذه المجالات و في الجهة الشمالية الشرقية منه بحيرة عرعون دورها أربعمائة ميل و ماؤها حلو و في الناحية الشمالية من هذا الجزء جبل مرغار و معناه جبل الثلج لأنه لا يذوب فيه و هو متصل بآخر الجزء و في الجنوب عن بحيرة عرعون جبل من الحجر الصلد لا ينبت شيئاً يسمى عرعون و به سميت البحيرة و ين*** منه و من جبل مرغار شمالي البحيرة أنهار لا تنحصر عدتها فتصب فيها من الجانبين. و في الجزء التاسع من هذا الإقليم بلاد أركس من أمم الترك في غرب بلاد الغز و شرق بلاد الكيماكية و يحف به من جهة الشرق آخر الجزء جبل قوقيا المحيط بيأجوج و مأجوج يعترض هنالك من الجنوب إلى الشمال حتى ينعطف أول دخوله من الجزء العاشر و قد كان دخل إليه من آخر الجزء العاشر من الإقليم الرابع قبله و احتف هنالك بالبحر المحيط إلى آخر الجزء في الشمال ثم انعطف مغرباً في الجزء العاشر من الإقليم الرابع إلى ما دون نصفه و أحاط من أوله إلى هنا ببلاد الكيماكية ثم خرج إلى الجزء العاشر من الإقليم الخامس فذهب فيه مغرباً إلى آخره و بقيت في جنوبه من هذا الجزء قطعة مستطيلة إلى الغرب قبل آخر بلاد الكيماكية ثم خرج إلى الجزء التاسع في شرقيه و في الأعلى منه و انعطف قريباً إلى الشمال و ذهب على سمته إلى الجزء التاسع من الإقليم السادس و فيه السد هنالك كما نذكره و بقيت منه القطعة التي أحاط بها جبل قوقيا عند الزاوية الشرقية الشمالية من هذا الجزء مستطيلة إلى الجنوب و هي من بلاد يأجوج و مأجوج و في الجزء العاشر من هذا الإقليم أرض يأجوج و مأجوج فتصله في كله إلا قطعةً من البحر غمرت طرفاً في شرقيه من جنوبه إلى شماله إلا القطعة التي يفصلها إلى جهة الجنوب و الغرب جبل قوقيا حين مر فيه و ما سوى ذلك فأرض يأجوج و مأخوج و الله سبحانه و تعالى أعلم.
الإقليم السادس. فالجزء الأول منه غمر البحر أكثر من نصفه و استدار شرقاً مع الناحية الشمالية ثم ذهب مع الناحية الشرقية إلى الجنوب و انتهى قريباً من الناحية الجنوبية فانكشف قطعة من هذه الأرض في هذا الجزء داخلة بين الطرفين و في الزاوية الجنوبية الشرقية من البحر المحيط كالجون فيه و ينفسح طولاً و عرضاً و هي كلها أرض بريطانية و في بابها بين الطرفين و في الزاوية الجنوبية الشرقية من هذا الجزء بلاد صاقس متصلة ببلاد بنطو التي مر ذكرها في الجزء الأول و الثاني من الإقليم الخامس. و الجزء الثاني من هذا الإقليم دخل البحر المحيط من غربه و شماله فمن غربه قطعة مستطيلة أكبر من نصفه الشمالي من شرق أرض بريطانية في الجزء الأول و اتصلت بها القطعة الأخرى في الشمال من غربه إلى شرقه و انفسحت في النصف الغربي منه بعض الشيء و فيه هنالك قطعة من جزيرة أنكلترا و هي جزيرة عظيمة مشتملة على مدن و بها ملك ضخم و بقيتها في الإقليم السابع و في جنوب هذه القطعة و جزيرتها في النصف الغربي من هذا الجزء بلاد أرمندية و بلاد أفلادش متصلين بها ثم بلاد إفرنسية جنوباً و غرباً من هذا الجزء و بلاد برغونية شرقاً عنها و كلها لأمم الإفرنجة و بلاد اللمانيين في النصف الشرقي من الجزء فجنوبه بلاد أنكلاية ثم بلاد برغونية شمالاً ثم أرض لهويكة و شطونية و على قطعة البحر المحيط في الزاوية الشمالية الشرقية أرض أفريرة و كلها لأمم اللمانيين. و في الجزء الثالث من هذا الإقليم في الناحية الغربية بلاد مراتية في الجنوب و بلاد شطونية في الشمال و في الناحية الشرقية بلاد أنكوية في الجنوب و بلاد بلونية في الشمال يعترض بينهما جبل بلواط داخلاً من الجزء الرابع و يمر مغرباً بانحراف إلى الشمال إلى أن يقف في بلاد شطونية آخر النصف الغربي. و في الجزء الرابع في ناحية الجنوب أرض جثولية و تحتها في الشمال بلاد الروسية و يفصل بينهما جبل بلواط من أول الجزء غرباً إلى أن يقف في النصف الشرقي و في شرق أرض جثولية بلاد جرمانية و في الزاوية الجنوبية الشرقية أرض القسطنطينية و مدينتها عند آخر الخليج الخارج من البحر الرومي و عند مدفعه في بحر نيطش فيقع قطيعة من بحر نيطش في أعالي الناحية الشرقية من هذا الجزء و يمدها الخليج و بينهما في الزاوية بلد مسيناه. و في الجزء الخامس من الإقليم السادس ثم في الناحية الجنوبية عند بحر نيطش يتصل من الخليج في آخر الجزء الرابع و يخرج من سمته مشرقاً فيمر في هذا الجزء كله و في بعض السادس على طول ألف و ثلاثمائة ميل من مبدإه في عرض ستمائة ميل و يبقى وراء هذا البحر في الناحية الجنوبية من هذا الجزء في غربها إلى شرقها بر مستطيل في غربه هرقلية على ساحل بحر نيطش متصلة بأرض البيلقان من الإقليم الخامس و في شرقه بلاد اللانية و قاعدتها سوتلي على بحر نيطش و في شمال بحر نيطش في هذا الجزء غرباً أرض ترخان و شرقاً بلاد الروسية و كلها على ساحل هذا البحر و بلاد الروسية محيطة ببلاد ترخان من شرقها في هذا الجزء من شمالها في الجزء الخامس من الإقليم السابع و من غربها في الجزء الرابع من هذا الإقليم. و في الجزء السادس في غربيه بقية بحر نيطش و ينحرف قليلا إلى الشمال و يبقى بينه هنالك و بين آخر الجزء شمالاً بلاد قمانية و في جنوبه منفسحاً إلى الشمال بما انحرف هو كذلك بقية بلاد اللانية التي كانت آخر جنوبه في الجزء الخامس و في الناحية الشرقية من هذا الجزء متصل أرض الخزر و في شرقها أرض برطاس و في الزاوية الشرقية الشمالية أرض بلغار و في الزاوية الشرقية الجنوبية أرض بلجر يجوزها هناك قطعة من جبل سياكوه المنعطف مع بحر الخزر في الجزء السابع بعده و يذهب بعد مفارقته مغرباً فيجوز في هذه القطعة و يدخل إلى الجزء السادس من الإقليم الخامس فيتصل هنالك بجبل الأبواب و عليه من هنالك ناحية بلاد الخزر. و في الجزء السابع من هذا الإقليم في الناحية الجنوبية ما جازه جبل سياه بعد مفارقته بحر طبرستان و هو قطعة من أرض الخزر إلى آخر الجزء غرباً و في شرقها القطعة من بحر طبرستان التي يجوزها هذا الجبل من شرقها و شمالها و وراء جبل سياه في الناحية الغربية الشمالية أرض برطاس و في الناحية الشرقية من الجزء أرض شحرب و يخناك و هم أمم الترك. و في الجزء الثامن و الناحية الجنوبية منة كلها أرض الجولخ من الترك في الناحية الشمالية غربا و الأرض المنتنة و شرق الأرض التي يقال إن يأجوج و مأجوج خرباها قبل بناء السد و في هذه الأرض المنتنة مبدأ نهر الأثل من أعظم أنهار العالم و ممره في بلاد الترك و مصبه في بحر طبرستان في الإقليم الخامس في الجزء السابع منه و هو كثير الانعطاف يخرج من جبل من الأرض المنتنة من ثلاثة ينابيع تجتمع في نهر واحد و يمر على سمت الغرب إلى آخر السابع من هذا الإقليم فينعطف شمالاً إلى الجزء السابع من الإقليم السابع فيمر في طرفه بين الجنوب و المغرب فيخرج في الجزء السادس من السابع و يذهب مغرباً غير بعيد ثم ينعطف ثانية إلى الجنوب و يرجع إلى الجزء السادس من الإقليم السادس و يخرج منه جدول يذهب مغرباً و يصب في بحر نيطش في ذلك الجزء و يمر هو في قطعة بين الشمال و الشرق في بلاد بلغار فيخرج في الجزء السابع من الإقليم السادس ثم ينعطف ثالثةً إلى الجنوب و ينفذ في جبل سياه و يمر في بلاد الخزر و يخرج إلى الإقليم الخامس في الجزء السابع منه فيصب هنالك في بحر طبرستان في القطعة التي انكشفت من الجزء عند الزاوية الغربية الجنوبية. والجزء التاسع من هذا الإقليم في الجانب الغربي منه بلاد خفشاخ من الترك و هم قفجاق و بلاد الشركس منهم أيضاً و في الشرق منه بلاد يأجوج يفصل بينهما جبل قوقيا المحيط و قد مر ذكره يبدأ من البحر المحيط في شرق الإقليم الرابع و يذهب معه إلى آخر الإقليم في الشمال و يفارقه مغرباً و بانحراف إلى الشمال حتى يدخل في الجزء التاسع من الإقليم الخامس فيرجع إلى سمته الأول حتى يدخل في هذا الجزء التاسع من الإقليم من جنوبه إلى شماله بانحراف إلى المغرب و في وسطه ههنا السد الذي بناه الإسكندر ثم يخرج على سمته إلى الإقليم السابع و في الجزء التاسع منه فيمر فيه إلى الجنوب إلى أن يلقى البحر المحيط في شماله ثم ينعطف معه من هنالك مغرباً إلى الإقليم السابع إلى الجزء الخامس منه فيتصل هنالك بقطعة من البحر المحيط في غربيه و في وسط هذا الجزء التاسع هو السد الذي بناه الإسكندر كما قلناه و الصحيح من خبره في القرآن و قد ذكر عبد الله بن خرداذبة في كتابه في الجغرافيا أن الواثق رأى في منامه كأن السد انفتح فانتبه فزعاً و بعث سلاما الترجمان فوقف عليه و جاء بخبره وصفه في حكاية طويلة ليست من مقاصد كتابنا هذا و في الجزء العاشر من هذا الإقليم بلاد مأجوج متصلة فيه إلى آخره على قطعة من هنالك من البحر المحيط أحاطت به من شرقه و شماله مستطيلة في الشمال و عريضة بعض الشيء في الشرق.
الإقليم السابع: و البحر المحيط قد غمر عامته من جهة الشمال إلى وسط الجزء الخامس حيث يتصل بجبل قوقيا المحيط بيأجوج و مأجوج. فالجزء الأول و الثاني مغموران بالماء إلا ما انكشف من جزيرة أنكلترا التي معظمها في الثاني و في الأول منها طرف انعطف بانحراف إلى الشمال و بقيتها مع قطعة من البحر مستديرة عليه في الجزء الثاني من الإقليم السادس و هي مذكورة هناك والمجاز منها إلى البر في هذه القطعة سعة اثني عشر ميلاً و وراء هذه الجزيرة في شمال الجزء الثاني جزيرة رسلاندة مستطيلةً من الغرب إلى الشرق. و الجزء الثالث من هذا الإقليم مغمور أكثره بالبحر إلا قطعة مستطيلة في جنوبه و تتسع في شرقها و فيها هنالك متصل أرض فلونية التي مر ذكرها في الثالث من الإقليم السادس و أنها في شماله و في القطعة من البحر التي تغمر هذا الجزء ثم في الجانب الغربي منها مستديرةً فسيحةً و تتصل بالبر من باب في جنوبها يفضي إلى بلاد فلونية و في شمالها. جزيرة برقاعة و في نسخة بوقاعة مستطيلة مع الشمال من المغرب إلى المشرق. و الجزء الرابع من هذا الإقليم شماله كله مغمور بالبحر المحيط من المغرب إلى المشرق و جنوبه منكشف و في غربه أرض قيمازك من الترك و في شرقها بلاد طست ثم أرض رسلان إلى آخر الجزء شرقاً وهي دائمة الثلوج و عمرانها قليل و يتصل ببلاد الروسية في الإقليم السادس و في الجزء الرابع و الخامس منه و في الجزء الخامس من هذا الإقليم في الناحية الغربية منه بلاد الروسية و ينتهي في الشمال إلى قطعة من البحر المحيط التي يتصل بها جبل قوقيا كما ذكرناه من قبل و في الناحية الشرقية منه متصل أرض القمانية التي على قطعة بحر نيطش من الجزء السادس من الإقليم السادس و ينتهي إلى بحيرة طرمى من هذا الجزء و هي عذبة تن*** إليها أنهار كثيرة من الجبال عن الجنوب و الشمال و في شمال الناحية الشرقية من هذا الجزء أرض التتارية من الترك و في نسخة التركمان إلى آخره و في الجزء السادس من الناحية الغربية الجنوبية متصل بلاد القمانية و في وسط الناحية بحيرة عثور عذبةً تن*** إليها الأنهار من الجبال في النواحي الشرقية و هي جامدة دائماً لشدة البرد إلا قليلاً في زمن الصيف و في شرق بلاد القمانية بلاد الروسية التي كان مبدؤها في الإقليم السادس في الناحية الشرقية الشمالية من الجزء الخامس منه و في الزاوية الجنوبية الشرقية من هذا الجزء بقية أرض بلغار التي كان مبدؤها في الإقليم السادس و في الناحية الشرقية الشمالية من الجزء السادس منه و في وسط هذه القطعة من أرض بلغار منعطف نهر أثل القطعة الأولى إلى الجنوب كما مر و في آخر هذا الجزء السادس من شماله جبل قوقيا متصل من غربه إلى شرقه و في الجزء السابع من هذا الإقليم في غربه بقية أرض يخناك من أمم الترك و كان من مبدؤها من الناحية الشمالية الشرقية من الجزء السادس قبله و في الناحية الجنوبية الغربية من هذا الجزء و يخرج إلى الإقليم السادس من فوقه و في الناحية الشرقية بقية أرض سحرب ثم بقية الأرض المنتنة إلى آخر الجزء شرقاً و في آخر الجزء من جهة الشمال جبل قوقيا المحيط متصلا من غربه إلى شرقه. و في الجزء الثامن من هذا الإقليم في الجنوبية الغربية منه متصل الأرض المنتنة و في شرقها الأرض المحفورة و هي من العجائب خرق عظيم في الأرض بعيد المهوى فسيح الأقطار ممتنع الوصول إلى قعره يستدل على عمرانه بالدخان في النهار و النيران في الليل تضيء و تخفى و ربما رئي فيها نهر يشقها من الجنوب إلى الشمال و في الناحية الشرقية من هذا الجزء البلاد الخراب المتاخمة للسد و في آخر الشمال منه جبل قوقيا متصلاً من الشرق إلى الغرب و في الجزء التاسع من هذا الإقليم في الجانب الغربي منه بلاد خفشاخ و هم قفجق يجوزها جبل قوقيا حين ينعطف من شماله عند البحر المحيط و يذهب في وسطه إلى الجنوب بانحراف إلى الشرق فيخرج في الجزء التاسع من الإقليم السادس و يمر معترضاً فيه و في وسطه هنالك سد. يأجوج و مأجوج و قد ذكرناه و في الناحية الشرقية من هذا الجزء أرض يأجوج وراء جبل قوقيا على البحر قليلة العرض مستطيلةً أحاطت به من شرقه و شماله. و الجزء العاشر غمر البحر جميعه. هذا آخر الكلام على الجغرافيا و أقاليمها السبعة و في خلق السموات و الأرض و اختلاف الليل و النهار لآيات للعالمين.
المقدمة الثالثة في المعتدل من الأقاليم و المنحرف و تأثير الهواء في ألوان البشر و الكثير في أحوالهم
قد بينا أن المعمور من هذا المنكشف من الأرض إنما هو وسطه لإفراط الحر في الجنوب منه و البرد في الشمال. و لما كان الجانبان من الشمال و الجنوب متضادين من الحر و البرد وجب أن تندرج الكيفية من كليهما إلى الوسط فيكون معتدلاً فالإقليم الرابع أعدل العمران و الذي حافاته من الثالث و الخامس أقرب إلى الاعتدال و الذي يليهما و الثاني و السادس بعيدان من الاعتدال و الأول و السابع أبعد بكثير فلهذا كانت العلوم و الصنائع و المباني و الملابس و الأقوات و الفواكه بل و الحيوانات و جميع ما يتكون في هذه الأقاليم الثلاثة المتوسطة مخصوصة بالاعتدال و سكانها من البشر أعدل أجساماً و ألواناً و أخلاقاً و أدياناً حتى النبؤات فإنما توجد في الأكثر فيها و لم نقف على خبر بعثة في الأقاليم الجنوبية و لا الشمالية و ذلك أن الأنبياء و الرسل إنما يختص بهم أكمل النوع في خلقهم و أخلاقهم قال تعالى: كنتم خير أمة أخرجت للناس و ذلك ليتم القبول بما يأتيهم به الأنبياء من عند الله و أهل هذه الأقاليم أكمل لوجود الاعتدال لهم فتجده على غاية من التوسط في مساكنهم و ملابسهم و أقواتهم و صنائعهم يتخذون البيوت المنجدة بالحجارة المنمقة بالصناعة و يتناغون في استجادة الآلات والمواعين ويذهبون في ذلك إلى الغاية وتوجد لديهم المعادن الطبيعية من الذهب و الفضة و الحديد و النحاس و الرصاص و القصدير و يتصرفون في معاملاتهم بالنقدين العزيزين و يبعدون عن الانحراف في عامة أحوالهم و هؤلاء أهل المغرب و الشام و الحجاز و اليمن و العراقين و الهند و السند و الصين و كذلك الأندلس و من قرب منها من الفرنجة و الجلالقة و الروم و اليونانيين و من كان مع هؤلاء أو قريباً منهم في هذه الأقاليم المعتدلة و لهذا كان العراق و الشام أعدل هذه كلها لأنها وسط من جميع الجهات. و أما الأقاليم البعيدة من الاعتدال مثل الأول و الثاني و السادس و السابع فأهلها أبعد من الاعتدال في جميع أحوالهم فبناؤهم بالطين و القصب و أقواتهم من الذرة و العشب و ملابسهم من أوراق الشجر يخصفونها عليهم أو الجلود و أكثرهم عرايا من اللباس و فواكه بلادهم و أدمها غريبة التكوين مائلة إلى الانحراف و معاملاتهم بغير الحجرين الشريفين من نحاس أو حديد أو جلود يقدرونها للمعاملات و أخلاقهم مع ذلك قريبة من خلق الحيوانات العجم حتى لينقل عن الكثير من السودان أهل الإقليم الأول أنهم يسكنون الكهوف و الغياض و يأكلون العشب و أنهم متوحشون غير مستأنسين يأكل بعضهم بعضاً و كذا الصقالبة و السبب في ذلك أنهم لبعدهم عن الاعتدال يقرب عرض أمزجتهم و أخلاقهم من عرض الحيوانات العجم و يبعدون عن الإنسانية بمقدار ذلك و كذلك أحوالهم في الديانة أيضاً فلا يعرفون نبؤةً و لا يدينون بشريعة إلا من قرب منهم من جوانب الاعتدال و هو في الأقل النادر مثل الحبشة المجاورين لليمن الدائنين بالنصرانية فيما قبل الإسلام و ما بعده لهذا العهد و مثل أهل مالي و كوكو و التكرور المجاورين لأرض المغرب الدائنين بالإسلام لهذا العهد يقال أنهم دانوا به في المائة السابعة و مثل من دان بالنصرانية من أمم الصقالبة و الإفرنجة و الترك من الشمال و من سوى هؤلاء من أهل تلك الأقاليم المنحرفة جنوباً و شمالاً فالدين مجهول عندهم و العلم مفقود بينهم و جميع أحوالهم بعيدة من أحوال الأناسي قريبة من أحوال البهائم و يخلق ما لا تعلمون و لا يعترض على هذا القول بوجود اليمن و حضرموت و الأحقاف و بلاد الحجاز و اليمامة و ما يليها من جزيرة العرب في الإقليم الأول و الثاني فأن جزيرة العرب كلها أحاطت بها البحار من الجهات الثلاث كما ذكرنا فكان لرطوبتها أثر في رطوبة هوائها فنقص ذلك من اليبس و الانحراف الذي يقتضيه الحر و صار فيها بعض الاعتدال بسبب رطوبة البحر. و قد توهم بعض النسابين ممن لا علم لديه بطبائع الكائنات أن السودان هم ولد حام بن نوح اختصوا بلون السواد لدعوة كانت عليه من أبيه ظهر أثرها في لونه و فيما جعل الله من الرق في عقبه و ينقلون في ذلك حكاية من خرافات القصاص و دعاء نوح على ابنه حام قد وقع في التوراة و ليس فيه ذكر السواد و إنما دعا عليه بأن يكون ولده عبيداً لولد إخوته لا غير و في القول بنسبة السواد إلى حام غفلة عن طبيعة الحر و البرد و أثرهما في الهواء و فيما يتكون فيه من الحيوانات و ذلك أن هذا اللون شمل أهل الإقليم الأول و الثاني من مزاج هوائهم للحرارة المتضاعفة بالجنوب فأن الشمس تسامت رؤوسهم مرتين في كل سنة قريبة إحداهما من الأخرى فتطول المسامتة عامة الفصول فيكثر الضوء لأجلها و يلح القيظ الشديد عليهم و تسود جلودهم لإفراط الحر ونظير هذين الإقليمين مما يقابلهما من الشمال الإقليم السابع والسادس شمل سكانهما أيضاً البياض من مزاج هوائهم للبرد المفرط بالشمال إذ الشمس لا تزال بأفقهم في دائرة مرأى العين أو ما قرب منها و لا ترتفع إلى المسامتة و لا ما قرب منها فيضعف الحر فيها و يشتد البرد عامة الفصول فتبيض ألوان أهلها و تنتهي إلى الزعورة و يتبع ذلك ما يقتضيه مزاج البرد المفرط من زرقة العيون و برش الجلود و صهوبة الشعور و توسطت بينهما الأقاليم الثلاثة الخامس و الرابع و الثالث فكان لها في الاعتدال الذي هو مزاج المتوسط حظ وافر و الرابع أبلغها في الاعتدال غاية لنهايته في التوسط كما قدمناه فكان لأهله من الاعتدال في خلقهم و خلقهم ما اقتضاه مزاج أهويتهم و تبعه من جانبيه الثالث و الخامس و أن لم يبلغا غاية التوسط لميل هذا قليلا إلى الجنوب الحار و هذا قليلا إلى الشمال البارد إلا أنهما لم ينتهيا إلى الانحراف و كانت الأقاليم الأربعة منحرفة و أهلها كذلك في خلقهم و خلقهم فالأول و الثاني للحر و السواد و السابع للبرد و البياض و يسمى سكان الجنوب من الإقليمين الأول والثاني باسم الحبشة و الزنج و السودان أسماء مترادفة على الأمم المتغيرة بالسواد و إن كان اسم الحبشة مختصاً منهم بمن تجاه مكة و اليمن و الزنج بمن تجاه بحر الهند و ليست هذه الأسماء لهم من أجل انتسابهم إلى آدمي أسود لا حام و لا غيره و قد نجد من السودان أهل الجنوب من يسكن الربع المعتدل أو السابع المنحرف إلى البياض فتبيض ألوان أعقابهم على التدريج مع الأيام و بالعكس فيمن يسكن من أهل الشمال أو الرابع بالجنوب فتسود ألوان أعقابهم و في ذلك دليل على أن اللون تابع لمزاج الهواء قال ابن سينا في أرجوزته في الطب
بالزنج حر غير الأجساداحتى كسا جلودها سوادا
و الصقلب اكتسبت البياضاحتى غدت جلودها بضاضا
و أما أهل الشمال فلم يسموا باعتبار ألوانهم لأن البياض كان لوناً لأهل تلك اللغة الواضعة للأسماء فلم يكن فيه غرابة تحمل على اعتباره في التسمية لموافقته و اعتياده و وجدنا سكانه من الترك و الصقالبة و الطغرغر و الخزر و اللان و الكثير من الإفرنجة و يأجوج و مأجوج أسماءً متفرفةً و أجيالاً متعددة مسمين بأسماء متنوعة و أما أهل الأقاليم الثلاثة المتوسطة أهل الاعتدال في خلقهم و سيرهم و كافة الأحوال الطبيعية للاعتمار لديهم من المعاش و المساكن و الصنائع و العلوم و الرئاسات و الملك فكانت فيهم النبؤات و الملك و الدول و الشرائع و العلوم و البلدان و الأمصار و المباني و الفراسة و الصنائع الفائقة و سائر الأحوال المعتدلة و أهل هذه الأقاليم التي وقفنا على أخبارهم مثل العرب و الروم و فارس و بنى إسرائيل و اليونان و أهل السند و الهند و الصين. و لما رأى النسابون اختلاف هذه الأمم بسماتها و شعارها حسبوا ذلك لأجل الأنساب فجعلوا أهل الجنوب كلهم السودان من ولد حام و ارتابوا في ألوانهم فتكلفوا نقل تلك الحكاية الواهية و جعلوا أهل الشمال كلهم أو أكثرهم من ولد يافث و أكثر الأمم المعتدلة و أهل الوسط المنتحلين للعلوم و الصنائع و الملل و الشرائع و السياسة و الملك من ولد سام و هذا الزعم إن صادف الحق في انتساب هؤلاء فليس ذلك بقياس مطرد إنما هو إخبار عن الواقع لا أن تسمية أهل الجنوب بالسودان و الحبشان من أجل انتسابهم إلى حام الأسود. و ما أداهم إلى هذا الغلط إلا اعتقادهم أن التمييز بين الأمم إنما يقع بالأنساب فقط و ليس كذلك فإن التمييز للجيل أو الأمة يكون بالنسب في بعضهم كما للعرب و بني إسرائيل و الفرس و يكون بالجهة و السمة كما للزنج و الحبشة و الصقالبة و السودان و يكون بالعوائد و الشعار و النسب كما للعرب. و يكون بغير ذلك من أحوال الأمم و خواصهم و مميزاتهم فتعميم القول في أهل جهة معينة من جنوب أو شمال بأنهم من ولد فلان المعروف لما شملهم من نحلة أو لون أو سمة وجدت لذلك الأب إنما هو من الأغاليط التي أوقع فيها الغفلة عن طبائع الأكوان و الجهات أن هذه كلها تتبدل في الأعقاب و لا يجب استمرارها سنة الله في عباده و لن تجد لسنة الله تبديلاً و الله و رسوله أعلم بغيبه و أحكم و هو المولى المنعم الرؤوف الرحيم.
المقدمة الرابعة في أثر الهواء في أخلاق البشر
قد رأينا من خلق السودان على العموم الخفة و الطيش و كثرة الطرب فتجدهم مولعين بالرقص على كل توقيع موصوفين بالحمق في كل قطر و السبب الصحيح في ذلك أنه تقرر في موضعه من الحكمة أن طبيعة الفرح و السرور هي انتشار الروح الحيواني و تفشيه و طبيعة الحزن بالعكس و هو انقباضه و تكاثفه. و تقرر أن الحرارة مفشية للهواء و البخار مخلخلة له زائدة في كميته و لهذا يجد المنتشي من الفرح و السرور مالا يعبر عنه و ذلك بما يداخل بخار الروح في القلب من الحرارة العزيزية التي تبعثها سورة الخمر في الروح من مزاجه فيتفشى الروح و تجيء طبيعة الفرح و كذلك نجد المتنعمين بالحمامات إذا تنفسوا في هوائها و اتصلت حرارة الهواء في أرواحهم فتسخنت لذلك حدث لهم فرح و ربما انبعث الكثير منهم بالغناء الناشئ عن السرور. و لما كان السودان ساكنين في الإقليم الحار و استولى الحر على أمزجتهم و في أصل تكوينهم كان في أرواحهم من الحرارة على نسبة أبدانهم و إقليمهم فتكون أرواحهم بالقياس إلى أرواح أهل الإقليم الرابع أشد حراً فتكون أكثر تفشياً فتكون أسرع فرحاً و سروراً و أكثر انبساطاً و يجيء الطيش على أثر هذه وكذلك يلحق بهم قليلا أهل البلاد البحرية لما كان هواؤها متضاعف الحرارة بما ينعكس عليه من أضواء بسيط البحر و أشعته كانت حصتهم من توابع الحرارة في الفرح و الخفة موجودة أكثر من بلاد التلول و الجبال الباردة و قد نجد يسيراً من ذلك في أهل البلاد الجزيرية من الإقليم الثالث لتوفر الحرارة فيها و في هوائها لأنها عريقة في الجنوب عن الأرياف و التلول و اعتبر ذلك أيضاً بأهل مصر فإنها مثل عرض البلاد الجزيرية أو قريباً منها كيف غلب الفرح عليهم و الخفة و الغفلة عن العواقب حتى أنهم لا يدخرون أقوات سنتهم و لا شهرهم و عامةً مأكلهم من أسواقهم. و لما كانت فاس من بلاد المغرب بالعكس منها في التوغل في التلول الباردة كيف ترى أهلها مطرقين إطراق الحزن و كيف أفرطوا في نظر العواقب حتى أن الرجل منهم ليدخر قوت سنتين من حبوب الحنطة و يباكر الأسواق لشراء قوته ليومه مخافة أن يرزأ شيئاً من مدخره وتتبع ذلك في الأقاليم و البلدان تجد في الأخلاق أثراً من كيفيات الهواء و الله الخلاق العليم و قد تعرض المسعودي للبحث عن السبب في خفة السودان و طيشهم و كثرة الطرب فيهم و حاول تعليله فلم يأت بشيء أكثر من أنه نقل عن جالينوس و يعقوب بن إسحاق الكندي أن ذلك لضعف أدمغتهم و ما نشأ عنه من ضعف عقولهم و هذا كلام لا محصل له و لا برهان فيه و الله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
المقدمة الخامسة في اختلاف أحوال العمران في الخصب و الجوع و ما ينشأ عن ذلك من الآثار في أبدان البشر و أخلاقهم
إعلم أن هذه الأقاليم المعتدلة ليس كلها يوجد بها الخصب و لا كل سكانها في رغد من العيش بل فيها ما يوجد لأهله خصب العيش من الحبوب و الأدم و الحنطة و الفواكه. لزكاء المنابت و اعتدال الطينة و وفور العمران و فيها الأرض الحرة الترب لا تنبت زرعاً و لا عشباً بالجملة فسكانها في شظف من العيش مثل أهل الحجاز و جنوب اليمن و مثل الملثمين من صنبهاجة الساكنين بصحراء المغرب و أطراف الرمال فيما بين البربر و السودان فإن هؤلاء يفقدون الحبوب و الأدم جملةً و إنما أغذيتهم و أقواتهم الألبان و اللحوم و مثل العرب أيضاً الجائلين في القفار فإنهم و إن كانوا يأخذون الحبوب و الأدم من التلول إلا أن ذلك في الأحايين و تحت ربقة من حاميتها و على الإقلال لقلة وجدهم فلا يتوصلون منه إلى سد الخلة أو دونها فضلاً عن الرغد و الخصب و تجدهم يقتصرون في غالب أحوالهم على الألبان و تعوضهم من الحنطة أحسن معاض و تجد مع ذلك هؤلاء الفاقدين للحبوب و الأدم من أهل القفار أحسن حالاً في جسومهم و أخلاقهم من أهل التلول المنغمسين في العيش فألوانهم أصفى و أبدانهم أنقى و أشكالهم أتم و أحسن و أخلاقهم أبعد من الانحراف و أذهانهم اثقب في المعارف و الإدراكات هذا أمر تشهد له التجربة في كل جيل منهم فكثير ما بين العرب و البربر فيما وصفناه و بين الملثمين و أهل التلول يعرف ذلك من خبره و السبب في ذلك و الله أعلم أن كثرة الأغذية و كثرة الأخلاط الفاسدة العفنة و رطوباتها تولد في الجسم فضلات رديئةً تنشأ عنها بعد افظارها في غير نسبة و يتبع ذلك انكساف الألوان و قبح الأشكال من كثرة اللحم كما قلناه و تغطي الرطوبات على الأذهان و الأفكار بما يصعد إلى الدماغ من أبخرتها الردية فتجيء البلادة و الغفلة و الانحراف عن الاعتدال بالجملة و اعتبر ذلك في حيوان القفر و مواطن الجدب من الغزال و النعام و المها و الزرافة و الحمر الوحشية و البقر مع أمثالها من حيوان التلول و الأرياف و المراعي الخصبة كيف تجد بينها بوناً بعيداً في صفاء أديمها و حسن رونقها و أشكالها و تناسب أعضائها و حدة مداركها فالغزال أخو المعز و الزرافة أخو البعير و الحمار و البقر أخو الحمار و البقر و البون بينها ما رأيت و ما ذاك إلا لأجل أن الخصب في التلول فعل في أ بدان هذه من الفضلات الردية و الأخلاط الفاسدة ما ظهر عليها أثره و الجوع لحيوان القفر حسن في خلقها و أشكالها ما شاء و اعتبر ذلك في الآدميين أيضاً فإنا نجد أهل الأقاليم المخصبة العيش الكثيرة الزرع و الضرع و الأدم و الفواكه يتصف أهلها غالباً بالبلادة في أذهانهم و الخشونة في أجسامهم و هذا شان البربر المنغمسين في الأدم و الحنطة مع المتقشفين في عيشهم المقتصرين على الشعير أو الذرة مثل المصامدة منهم و أهل غمارة و السوس فتجد هؤلاء أحسن حالاً في عقولهم و جسومهم و كذا أهل بلاد المغرب على الجملة المنغمسين في الأدم و البر مع أهل الأندلس المفقود بأرضهم السمن حملةً و غالب عيشهم الذرة فتجد لأهل الأندلس من ذكاء العقول و خفة الأجسام و قبول التعليم مالا يوجد لغيرهم و كذا أهل الضواحي من المغرب بالجملة مع أهل الحضر و الأمصار فأن الأمصار و إن كانوا مكثرين مثلهم من الأدم ومخصبين في العيش إلا أن استعمالهم إياها بعد العلاج بالطبخ و التلطيف بما يخلطون معها فيذهب لذلك غلظها و يرق قوامها و عامة مآكلهم لحوم الضأن و الدجاج و لا يغبطون السمن من بين الأدم لتفاهته فتقل الرطوبات لذلك في أغذيتهم و يخف ما تؤديه إلى أجسامهم من الفضلات الردية فلذلك تجد جسوم أهل الأمصار ألطف من جسوم البادية المخشنين في العيش و كذلك تجد المعودين بالجوع من أهل البادية لا فضلات في جسومهم غليظةً و لا لطيفةً. و اعلم أن أثر هذا الخصب في البدن و أحواله يظهر حتى في حال الدين و العبادة فنجد المتقشفين من أهل البادية أو الحاضرة ممن يأخذ نفسه بالجوع و التجافي عن الملاذ أحسن ديناً و إقبالاً على العبادة من أهل الترف و الخصب بل نجد أهل الدين قليلين في المدن و الأمصار لما يعمها من القساوة و الغفلة المتصلة بالإكثار من اللحمان و الأدم و لباب البر و يختص وجود العباد و الزهاد لذلك بالمتقشفين في غذائهم من أهل البوادي و كذلك نجد هؤلاء المخصبين في العيش المنغمسين في طيباته من أهل البادية و من أهل الحواضر و الأمصار إذا نزلت بهم السنون و أخذتهم المجاعات يسرع إليهم الهلاك أكثر من غيرهم مثل برابرة المغرب و أهل مدينة فاس و مصر فيما يبلغنا لا مثل العرب أهل القفر و الصحراء و لا مثل أهل بلاد النخل الذين غالب عيشهم التمر و لا مثل أهل أفريقية لهذا العهد الذين غالب عيشهم الشعير و الزيت و أهل الأندلس الذين غالب عيشيم الذرة و الزيت فإن هؤلاء و أن أخذتهم السنون و المجاعات فلا تنال منهم ما تنال من أولئك و لا يكثر فيهما الهلاك بالجوع بل و لا يندر و السبب في ذلك و الله أعلم أن المنغمسين في الخصب المتعودين للأدم و السمن خصوصاً تكتسب من ذلك أمعائهم رطوبة فوق رطوبتها الأصلية المزاجية حتى تجاوز حدها فإذا خولف بها العادة بقلة الأقوات و فقدان الأدم و استعمال الخشن غير المألوف من الغذاء أسرع إلى المعا اليبس و الانكماش و هو ضعيف في الغاية في فيسرع إليه المرض و يهلك صاحبه دفعةً لأنه من المقاتل فالهالكون في المجاعات إنما قتلهم الشبع المعتاد السابق لا الجوع الحادث اللاحق. و أما المتعودون لقلة الأدم و السمن فلا تزال رطوبتهم الأصلية واقفةً عند حدها من غير زيادة و هي قابلة لجميع الأغذية الطبيعة فلا يقع في معاهم بتبدل الأغذية يبس و لا انحراف فيسلمون في الغالب من الهلاك الذي يعرض لغيرهم بالخصب و كثرة الأدم في المآكل و أصل هذا كله أن تعلم أن الأغذية و ائتلافها أو تركها إنما هو بالعادة فمن عود نفسه غذاء و لاءمه تناوله كان له مألوفاً و صار الخروج عنه و التبدل به داءً ما لم يخرج عن غرض الغذاء بالجملة كالسموم و اليتوع و ما أفرط في الانحراف فأما ما وجد فيه التغذي و الملاءمة فيصير غذاء مألوفاً بالعادة فإذا أخذ الانسان نفسه باستعمال اللبن و البقل عوضاً عن الحنطة حتى صار له ديدناً فقد حصل له ذلك غذاء و استغنى به عن الحنطة و الحبوب من غير شك و كذا من عود نفسه الصبر على الجوع و الاستغناء عن الطعام كما ينقل عن أهل الرياضيات فإنا نسمع عنهم في ذلك أخباراً غريبة يكاد ينكرها من لا يعرفها و السبب في ذلك العادة فإن النفس إذا ألفت شيئاً صار من جبلتها و طبيعتها لأنها كثيرة التلون فإذا حصل لها اعتياد الجوع بالتدريج و الرياضة فقد حصل ذلك عادةً طبيعيةً لها و ما يتوهمه الأطباء من أن الجوع مهلك فليس على ما يتوهمونه إلا إذا حملت النفس عليه دفعة و قطع عنها الغذاء بالكلية فإنه حينئذ ينحسم المعاء و يناله المرض الذي يخشى معه الهلاك و أما إذا كان ذلك القدر تدريجاً و رياضةً بإقلال الغذاء شيئاً فشيئاً كما يفعله المتصوفة فهو بمعزل عن الهلاك و هذا التدريج ضروري حتى في الرجوع عن هذه الرياضة فإنه إذا رجع به إلى الغذاء الأول دفعةً خيف عليه الهلاك و إنما يرجع به كما بدأ في الرياضة بالتدريج و لقد شاهدنا من يصبر على الجوع أربعين يوماً و صالاً و أكثر. و حضر أشياخناً بمجلس السلطان أبى الحسن و قد رفع إليه امرأتان من أهل الجزيرة الخضراء و رندة حبستا أنفسهما عن الأكل جملة منذ سنين و شاع أمرهما و وقع اختبارهما فصح شأنهما و اتصل على ذلك حالهما إلى أن ماتتا و رأينا كثيراً من أصحابنا أيضاً من يقتصر على حليب شاة من المعز يلتقم ثديها في بعض النهار أو عند الإفطار و يكون ذلك غذاءه و استدام على ذلك خمس عشرة سنةً و غيرهم كثيرون و لا يستنكر ذلك. و اعلم أن الجوع أصلح للبدن من إكثار الأغذية بكل وجه لمن قدر عليه أو على الإقلال منها أو على الإقلال منها و إن له أثراً في الأجسام و العقول في صفاتها و صلاحها كما قلناه و اعتبر ذلك بآثار الأغذية التي تحصل عنها في الجسوم فقد رأينا المتغذين بلحوم الحيوانات الفاخرة العظيمة الجثمان تنشأ أجيالهم كذلك و هذا مشاهد في أهل البادية مع أهل الحاضرة و كذا المتغذون بألبان الإبل و لحومها أيضاً مع ما يؤثر في أخلاقهم من الصبر و الاحتمال و القدرة على حمل الأثقال الموجود ذلك للإبل و تنشأ أمعاؤهم أيضاً على نسبة أمعاء الإبل في الصحة و الغلظ فلا يطرقها الوهن و لا ينالها من مدار الأغذية ما ينال غيرهم فيشربون اليتوعات لاستطلاق بطونهم غير محجوبة كالحنظل قبل طبخه و الدرياس و القربيون و لا ينال أمعاءهم منها ضرر و هي لو تناولها أهل الحضر الرقيقة أمعاؤهم بما نشأت عليه من لطيف الأغذية لكان الهلاك أسرع إليهم من طرفة العين لما فيها من السمية و من تأثير الأغذية في الأبدان ما ذكره أهل الفلاحة و شاهده أهل التجربة أن الدجاج إذا غذيت بالحبوب المطبوخة في بعر الإبل و اتخذ بيضها ثم حضنت عليه جاء الدجاج منها أعظم ما يكون و قد يستغنون عن تغذيتها و طبخ الحبوب بطرح ذلك البعر مع البيض المحضن فيجيء دجاجها في غاية العظم و أمثال ذلك كثيرة فإذا رأينا هذه الآثار من الأغذية في الأبدان فلا شك أن للجوع أيضاً آثارا في الأبدان لأن الضدين على نسبة واحدة في الـتأثير و عدمه فيكون تأثير الجوع في نقاء الأبدان من الزيادات الفاسدة و الرطوبات المختلطة المخلة بالجسم والعقل كما كان الغذاء مؤثراً في وجود ذلك الجسم و الله محيط بعلمه.
المقدمة السادسة في أصناف المدركين من البشر بالفطرة أو الرياضة و يتقدمه الكلام في الوحي و الرؤيا
إعلم أن الله سبحانه اصطفى من البشر أشخاصاً فضلهم بخطابه و فطرهم على معرفته و جعلهم وسائل بينهم و بين عباده يعرفونهم بمصالحهم و يحرضونهم على هدايتهم و يأخذون بحجزاتهم عن النار و يدلونهم على طريق النجاة و كان فيما يلقيه إليهم من المعارف ويظهره على ألسنتهم من الخوارق و الأخبار الكائنات المغيبة عن البشر التي لا سبيل إلى معرفتها إلا من الله بوساطتهم و لا يعلمونها إلا بتعليم الله إياهم قال صلى الله عليه وسلم ألا و أني لا أعلم إلا ما علمني الله و اعلم أن خبرهم في ذلك من خاصيته و ضرورته الصدق لما يتبين لك عند بيان لك عند بيان حقيقة النبؤة و علامة هذا الصنف من البشر أن توجد لهم في حال الوحي غيبة عن الحاضرين معهم مع غطيط كأنها غشي أو إغماء في رأي العين و ليست منهما في شيء و إنما هي في الحقيقة استغراق في لقاء الملك ******** بإدراكهم المناسب لهم الخارج عن مدارك البشر بالكلية ثم يتنزل إلى المدارك البشرية إما بسماع دوي من الكلام فيتفهمه أو يتمثل له صورة شخص يخاطبه بما جاء به من عند الله ثم تنجلي عنه تلك الحال و قد وعى ما القي إليه قال صلى الله عليه و سلم: و قد سئل عن الوحي أحياناً يأتيني مثل صلصلة الجرس و هو أشده علي فيفصم عني و قد وعيت ما قال و أحياناً يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول و يدركه أثناء ذلك من الشدة و الغط مالا يعبر عنه ففي الحديث كان مما يعالج من التنزيل شدة و قالت عائشة كان ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه و إن جبينه ليتفصد عرقاً و قال تعالى: إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً و لأجل هذه الغاية في تنزل الوحي كان المشركون يرمون الأنبياء بالجنون و يقولون له رئي أو تابع من الجن و إنما لبس عليهم بما شاهدوه من ظاهر تلك الأحوال و من يضلل الله فما له من هاد. و من علاماتهم أيضاً أنه يوجد لهم قبل الوحي خلق الخير و الزكاء و مجانبة المذمومات و الرجس أجمع و هذا هو معنى العصمة و كأنه مفطور على التنزه عن المذمومات و المنافرة لها و كأنها منافية لجبلته و في الصحيح أنه حمل الحجارة و هو غلام مع عمه العباس لبناء الكعبة فجعلها في إزاره فانكشف فسقط مغشياً عليه حتى استتر بإزاره و دعي إلى مجتمع وليمة فيها عرس و لعب فأصابه غشي النوم إلى أن طلعت الشمس و لم يحضر شيئاً من شأنهم بل نزهه الله عن ذلك كله حتى إنه بجبلته يتنزه عن المطعومات المستكرهة فقد كان صلى الله عليه و سلم لا يقرب البصل و الثوم فقيل له في ذلك فقال إني أناجي من لا تناجون و انظر لما أخبر النبي صلى الله عليه و سلم خديجة رضي الله عنها بحال الوحي أول ما فجأته و أرادت اختباره فقالت اجعلني بينك و بين ثوبك فلما فعل ذلك ذهب عنه فقالت إنه ملك و ليس بشيطان و معناه أنه لا يقرب النساء و كذلك سألته عن أحب الثياب إليه أن يأتيه فيها فقال البياض و الخضرة فقالت إنه الملك يعني أن البياض و الخضرة من ألوان الخير و الملائكة و السواد من ألوان الشر و الشياطين و أمثال ذلك. و من علاماتهم أيضاً دعاؤهم إلى الدين و العبادة من الصلاة و الصدقة و العفاف و قد استدلت خديجة على صدقه صلى الله عليه و سلم بذلك و كذلك أبو بكر و لم يحتاجا في أمره إلى دليل خارج عن حاله و خلقه و في الصحيح أن هرقل حين جاءه كتاب النبي صلى الله عليه و سلم يدعوه إلى الإسلام أحضر من وجد ببلده من قريش و فيهم أبو سفيان ليسألهم عن حاله فكان فيما سأل أن قال بما يأمركم فقال أبو سفيان بالصلاة و الزكاة و الصلة و العفاف إلى آخر ما سأل فأجابه فقال إن يكن ما تقول حقاً فهو نبي و سيملك ما تحت قدمي هاتين و العفاف الذي أشار إليه هرقل هو العصمة فانظر كيف أخذ من العصمة و الدعاء إلى الدين والعبادة دليلاً على صحة نبؤته و لم يحتج إلى معجزة فدل على أن ذلك من علامات النبؤة. و من علاماتهم أيضاً أن يكونوا ذوي حسب في قومهم و في الصحيح ما بعث الله نبياً إلا في منعة من قومه و في رواية أخرى في ثروة من قومه استدركه الحاكم على الصحيحين و في مسئلة هرقل لأبي سفيان كما هو في الصحيح قال كيف هو فيكم فقال أبو سفيان هو فينا ذو حسب فقال هرقل والرسل تبعث في أحساب قومها و معناه أن تكون له عصبة و شوكة تمنعه عي أذى الكفار حتى يبلغ رسالة ربه و يتم مراد الله من إكمال دينه و ملته. و من علاماتهم أيضاً وقوع الخوارق لهم شاهدةً بصدقهم و هي أفعال يعجز البشر عن مثلها فسميت بذلك معجزةً و ليست من جنس مقدور العباد و إنما تقع في غير محل قدرتهم و للناس في كيفية وقوعها و دلالتها على تصديق الأنبياء خلاف فالمتكلمون بناء على القول بالفاعل المختار قائلون بأنها و اقعة بقدرة الله لا بفعل النبي و إن كانت أفعال العباد عند المعتزلة صادرة عنهم إلا أن المعجزة لا تكون من جنس أفعالهم و ليس للنبي فيها عند سائر المتكلمين إلا التحدي بها بأذن الله و هو أن يستدل بها النبي صلى الله عليه و سلم قبل وقوعها على صدقه في مدعاه فإذا وقعت تنزلت منزلة القول الصريح من الله بأنه صادق و تكون دلالتها حينئذ على الصدق قطعية فالمعجزة الدالة بمجموع الخارق و التحدي و لذلك كان التحدي جزء منها و عبارة المتكلمين صفة نفسها و هو واحد لأنه معنى الذاتي عندهم و التحدي هو الفارق بينها و بين الكرامة و ***** إذ لا حاجة فيهما إلى التصديق فلا وجود للتحدي إلا إن وجد اتفاقاً و إن وقع التحدي في الكرامة عند من يجيزها و كانت لها دلالة فإنما هي على الولاية و هي غير النبؤة و من هنا منع الأستاذ أبو إسحق و غيره وقوع الخوارق كرامة فراراً من الالتباس بالنبؤة عند التحدي بالولاية و قد أريناك المغايرة بينهما و إنه يتحدى بغير ما يتحدى به النبي فلا لبس على أن النقل عن الأستاذ في ذلك ليس صريحاً و ربما حمل على إنكار لأن تقع خوارق الأنبياء لهم بناء على اختصاص كل من الفريقين بخوارقه. و أما المعتزلة فالمانع من وقوع الكرامة عندهم أن الخوارق ليست من أفعال العباد و أفعالهم معتادة فلا فرق و أما وقوعها على يد الكاذب تلبيساً فهو محال أما عند الأشعرية فلأن صفة نفس المعجزة التصديق و الهداية فلو وقعت بخلاف ذلك انقلب الدليل شبهةً و الهداية ضلالةً و التصديق كذباً و استحالت الحقائق و انقلبت صفات النفس و ما يلزم من فرض وقوعه المحال لا يكون ممكناً و أما عند المعتزلة فلأن وقوع الدليل شبهة و الهداية ضلالة قبيح فلا يقع من الله. و أما الحكماء فالخارق عندهم من فعل النبي و لو كان في غير محل القدرة بناء على مذهبهم في الإيجاب الذاتي و وقوع الحوادث بعضها عن بعض متوقف عن الأسباب و الشروط الحادثة مستندة أخيراً إلى الواجب الفاعل بالذات لا بالاختيار و أن النفس النبوية عندهم لها خواص ذاتية منها صدور هذه الخوارق بقدرته و طاعة العناصر له في التكوين و النبي عندهم مجبول على التصريف في الأكوان مهما توجه إليها و استجمع لها بما جعل الله له من ذلك و الخارق عندهم يقع للنبي سواء كان للتحدي أم لم يكن و هو شاهد بصدقه من حيث دلالته على تصرف النبي في الأكوان الذي هو من خواص النفس النبوية لا بأنه يتنزل منزلة القول الصريح بالتصديق فلذلك لا تكون دلالتها عندهم قطعيةً كما هي عند المتكلمين و لا يكون التحدي جزأ من المعجزة و لم يصح فارقاً لها عن ***** و الكرامة و فارقها عندهم عن ***** أن النبي مجبول على أفعال الخير مصروف عن أفعال الشر فلا يلم الشر بخوارقه و الساحر على الضد فأفعاله كلها شر و في مقاصد الشر و فارقها عن الكرامة أن خوارق النبي مخصوصة كالصعود إلى السماء و النفوذ في الأجسام الكثيفة و إحياء الموتى و تكليم الملائكة و الطيران في الهواء و خوارق الولي دون ذلك كتكثير القليل و الحديث عن بعض المستقبل و أمثاله مما هو قاصر عن تصريف الأنبياء و يأتي النبي بجميع خوارقه و لا يقدر هو على مثل خوارق الأنبياء و قد قرر ذلك المتصوفة فيما كتبوه في طريقتهم و لقنوه عمن أخبرهم و إذا تقرر ذلك فاعلم أن أعظهم المعجزات و أشرفها و أوضحها دلالة القرآن الكريم المنزل على نبينا محمد صلى الله عليه و سلم فإن الخوارق في الغالب تقع مغايرةً للوحي الذي يتلقاه النبي و يأتي بالمعجزة شاهدة بصدقه و القرآن هو بنفسه الوحي المدعى و هو الخارق المعجز فشاهده في عينه و لا يفتقر إلى دليل مغاير له كسائر المعجزات مع الوحي فهو أوضح دلالة لاتحاد الدليل و المدلول فيه وهذا معنى قوله صلى الله عليه و سلم ما من نبي من الأنبياء إلا و أتي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر و إنما كان الذي أوتيته و حياً أوحى إلي فأنا أرجو أن أكون تابعاً يوم القيامة يشير إلى أن المعجزة متى كانت بهذه المثابة في الوضوح و قوة الدلالة و هو كونها نفس الوحي كان الصدق لها أكثر لوضوحها فكثر المصدق المؤمن و هو التابع و الأمة.
و لنذكر الآن تفسير حقيقة النبؤة على ما شرحه كثير من المحققين ثم نذكر حقيقة الكهانة ثم الرؤيا ثم شان العرافين و غير ذلك من مدارك الغيب فنقول
إعلم. أرشدنا الله و إياك أنا نشاهد هذا العالم بما فيه من المخلوقات كلها على هيئة من الترتيب و الإحكام و ربط الأسباب بالمسببات و اتصال الأكوان بالأكوان و استحالة بعض الموجودات إلى بعض لا تنقضي عجائبه في ذلك و لا تنتهي غاياته و أبدأ من ذلك بالعالم المحسوس الجثماني و أولاً عالم العناصر المشاهدة كيف تدرج صاعداً من الأرض إلى الماء ثم إلى الهواء ثم إلى النار متصلاً بعضها ببعض و كل واحد منها مستعد إلى أن يستحيل إلى ما يليه صاعداً و هابطاً و يستحيل بعض الأوقات و الصاعد منها ألطف مما قبله إلى أن ينتهي إلى عالم الأفلاك و هو ألطف من الكل على طبقات اتصل بعضها ببعض على هيئة لا يدرك الحس منها إلا الحركات فقط و بها يهتدي بعضهم إلى معرفة مقاديرها و أوضاعها و ما بعد ذلك من وجود الذوات التي لها هذه الآثار فيها ثم انظر إلى عالم التكوين كيف ابتدأ من المعادن ثم النبات ثم الحيوان على هيئة بديعة من التدريج آخر أفق المعادن متصل بأول أفق النبات مثل الحشائش و ما لا بذر له و آخر أفق النبات مثل النخل و الكرم متصل بأول أفق الحيوان مثل الحلزون و الصدف و لم يوجد لهما إلا قوة اللمس فقط و معنى الاتصال في هذه المكونات أن آخر أفق منها مستعد بالاستعداد الغريب لأن يصير أول أفق الذي بعده و اتسع عالم الحيوان و تعددت أنواعه و انتهى في تدريج التكوين إلى الإنسان صاحب الفكر و الروية ترتفع إليه من عالم القدرة الذي اجتمع فيه الحس و الإدراك و لم ينته إلى الروية و الفكر بالفعل و كان ذلك أول أفق من الإنسان بعده و هذا غاية شهودنا ثم إنا نجد في العوالم على اختلافها آثاراً متنوعةً ففي عالم الحس آثار من حركات الأفلاك و العناصر و في عالم التكوين آثار من حركة النمو و الإدراك تشهد كلها بأن لها مؤثراً مبايناً للأجسام فهو روحاني و يتصل بالمكونات لوجود اتصال هذا العالم في و جودها و لذلك هو النفس المدركة و المحركة و لا بد فوقها من وجود آخر يعطيها قوى الإدراك و الحركة و يتصل بها أيضاً و يكون ذاته إدراكا صرفاً و تعقلاً محضاً و هو عالم الملائكة فوجب من ذلك أن يكون للنفس استعداد للانسلاخ من البشرية إلى الملكية ليصير بالفعل من جنس الملائكة وقتاً من الأوقات في لمحة من اللمحات و ذلك بعد أن تكمل ذاتها ********ة بالفعل كما نذكره بعد و يكون لها اتصال بالأفق الذي بعدها شأن الموجودات المرتبة كما قدمناه فلها في الاتصال جهتا العلو و السفل و هي متصلة بالبدن من أسعف منها و تكتسب به المدارك الحسية التي تستعد بها للحصو ل على التعقل بالفعل و متصلة من جهة الأعلى منها بأفق الملائكة و مكتسبة به المدارك العلمية و الغيبية فإن عالم الحوادث موجود في تعقلاتهم من غير زمان و هذا على ما قدمناه من الترتيب المحكم في الوجود باتصال ذواته و قواه بعضها ببعض ثم إن هذه النفس الإنسانية غائبة عن العيان و آثارها ظاهرة في البدن فكأنه و جميع أجزائه مجتمعةً و مفترقةً آلات للنفس و لقواها أما الفاعلية فالبطش باليد و المشي بالرجل و الكلام باللسان و الحركة الكلية بالبدن متدافعاً و أما المدركة و إن كانت قوى الإدراك مرتبة و مرتقيةً إلى القوة العليا منها و من المفكرة التي يعبر عنها بالناطقة فقوى الحس الظاهرة بآلاته من السمع و البصر و سائرها يرتقي إلى الباطن و أوله الحس المشترك و هو قوة تدرك المحسوسات مبصرةً و مسموعةً وملموسةً و غيرها في حالة واحدة و بذلك فارقت قوة الحس الظاهر لأن المحسوسات لا تزدحم عليها في الوقت الواحد ثم يؤديه الحس المشترك إلى الخيال و هي قوة تمثل الشي المحسوس في النفس كما هو مجرد عن المواد الخارجة فقط و آلة هاتين القوتين في تصريفهما البطن الأول من الدماغ مقدمه للأولى و مؤخرة للثانية ثم يرتقي الخيال إلى الواهمة و الحافظة فالواهمة لإدراك المعاني المتعلقة بالشخصيات كعداوة زيد و صداقة عمرو و رحمة الأب و افتراس الذئب و الحافظة لإبداع المدركات كلها متخيلةً و هي لها كالخزانة تحفظها لوقت الحاجة إليها و آلة هاتين القوتين في تصريفهما البطن المؤخر من الدماغ أوله للأولى و مؤخره للأخرى ثم ترتقي جميعها إلى قوة الفكر و آلته البطن الأوسط من الدماغ و هي القوة التي يقع بها حركة الرؤية و التوجه نحو التعقل فتحرك النفس بها دائماً لما ركب فيها من النزوع للتخلص من درك القوة و الاستعداد الذي للبشرية و تخرج إلى الفعل في تعقلها متشبهةً بالملإ الأعلى ******** و تصير في أول مراتب ********ات في إدراكها بغير الآلات الجسمانية فهي متحركة دائماً و متوجهة نحو ذلك و قد تنسلخ بالكلية من البشرية و روحانيتها إلى الملكية من الأفق الأعلى من غير اكتساب بل بما جعل الله فيها من الجبلة و الفطرة الأولى في ذلك.
أصناف النفوس البشرية
إن النفوس البشرية على ثلاثة أصناف: صنف عاجز بالطبع عن الوصول فينقطع بالحركة إلى الجهة السفلى نحو المدارك الحسية و الخيالية و تركيب المعاني من الحافظة و الواهمة على قوانين محصورة و ترتيب خاص يستفيدون به العلو م التصورية و التصديقية التي للفكر في البدن و كلها خيالي منحصر نطاقه إذ هو من جهة مبدإه ينتهي إلى الأوليات و لا يتجاوزها و إن فسد فسد ما بعدها و هذا هو في الأغلب نطاق الإدراك البشري في الجسماني و إليه تنتهي مدارك العلماء و فيه ترسخ أقدامهم. و صنف متوجه بتلك الحركة الفكرية نحو العقل ******** و الإدراك الذي لا يفتقر إلى الآلات البدنية بما جعل فيه من الاستعداد لذلك فيتسع نطاق إدراكه عن الأوليات التي هي نطاق الإدراك الأول البشر في و يسرح في فضاء المشاهدات الباطنية و هي وجدان كلها نطاق من مبدإها و لا من منتهاها و هذه مدارك العلماء الأولياء أهل العلوم الدينية و المعارف الربانية و هي الحاصلة بعد الموت لأهل السعادة في البرزخ.
الوحي
و صنف مفطور على الانسلاخ من البشرية جملة جسمانيتها و روحانيتها إلى الملائكة من الأفق الأعلى ليصير في لمحة من اللمحات ملكاً بالفعل و يحصل له شهود الملإ الأعلى في أفقهم و سماع الكلام النفساني و الخطاب الإلهي في تلك اللمحة و هؤلاء الأنبياء صلوات الله و سلامه عليهم جعل الله لهم الانسلاخ من البشرية في تلك اللمحة و هي حالة الوحي فطره فطرهم الله عليها و جبلة صورهم فيها و نزههم عن موانع البدن و عوائقه ما داموا ملابسين لها بالبشرية بما ركب في غرائزهم من القصد و الاستقامة التي يحاذون بها تلك الوجهة وركز في طبائعهم رغبةً في العبادة تكشف بتلك الوجهة و تسيغ نحوها فهم يتوجهون إلى ذلك الأفق بذلك النوع من الانسلاخ متى شاءوا بتلك الفطرة التي فطروا عليها لا باكتساب و لا صناعة فلذا توجهوا و انسلخوا عن بشريتهم و تلقوا في ذلك الملإ الأعلى ما يتلقونه، و عاجوا به على المدارك البشرية منزلاً في قواها لحكمة التبليغ للعباد فتارةً يسمع أحدهم دوياً كأنه رمز من الكلام يأخذ منه المعنى الذي ألقي إليه فلا ينقضي الدوي إلا و قد وعاه و فهمه و تارةً يتمثل له الملك الذي يلقي إليه رجلاً فيكلمه و يعي ما يقوله و التلقى من الملك و الرجوع إلى المدارك البشرية و فهمه ما ألقي عليه كله كأنه في لحظة واحدة بل أقرب من لمح البصر لأنه ليس في زمان بل كلما تقع جميعاً فيظهر كأنها سريعة و لذلك سميت وحياً لأن الوحي في اللغة الإسراع و اعلم أن الأولى و هي حالة الدوي هي رتبة الأنبياء غير المرسلين على ما حققوه و الثانية و هي حالة تمثل الملك رجلاً يخاطب هي رتبة الأنبياء المرسلين و لذلك كانت أكمل من الأولى و هذا معنى الحديث الذي فسر فيه النبي صلى الله عليه و سلم الوحي لما سأله الحارث بن هشام و قال: كيف يأتيك الوحي ؟ فقال: أحياناً يأتيني مثل صلصلة الجرس و هو أشده علي فيفصم عني و قد وعيت ما قال و أحياناً يتمثل لي الملك فيكلمني فأعي ما يقول و إنما كانت الأولى أشد لأنها مبدأ الخروج في ذلك الاتصال من القوة إلى الفعل فيعسر بعض العسر و لذلك لما عاج فيها على المدارك البشرية اختصت بالسمع و صعب ما سواه و عندما يتكرر الوحي و يكثر التلقي يسهل ذلك الاتصال فعندما يعرج إلى المدارك البشرية يأتي على جميعها و خصوصاً الأوضح منها و هو إدراك البصر و في العبارة عن الوعي في الأولى بصيغة الماضي و في الثانية بصيغة المضارع لطيفة من البلاغة و هي أن الكلام جاء مجيء التمثيل لحالتي الوحي فمثل الحالة الأولى بالدوي الذي هو في المتعارف غير كلام و أخبر أن الفهم و الوعي يتبعه غب انقضائه فناسب عند تصوير انقضائه و انفصاله العبارة عن الوعي بالماضي المطابق للانقضاء و الانقطاع و مثل الملك في الحالة الثانية برجل يخاطب و يتكلم و الكلام يساوقه الوعي فناسب العبارة بالمضارع المقتضي للتجدد. واعلم أن في حالة الوحي كلها صعوبةً على الجملة و شدة قد أشار إليها القرآن قال تعالى: إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا و قالت عائشة: كان مما يعاني من التنزيل شدة و قالت: كان عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه و أن جبينه ليتفصد عرقاً. و لذلك كان يحدث عنه في تلك الحالة من الغيبة و الغطيط ما هو معروف و سبب ذلك أن الوحي كما قررنا مفارقة البشرية إلى المدارك الملكية و تلقي كلام النفس فيحدث عنه شدة من مفارقة الذات ذاتها و انسلاخها عنها من أفقها إلى ذلك الأفق الآخر و هذا هو معنى الغط الذي عبر به في مبدإ الوحي في قوله فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال اقرأ فقلت ما إنا بقارئ و كذا ثانية و ثالثة. كما في الحديث و قد يفضي الاعتياد بالتدريج فيه شيئاً فشيئاً إلى بعض السهولة بالقياس إلى ما قبله و لذلك كان تنزل نجوم القرآن و سوره و آيه حين كان بمكة أقصر منها و هو بالمدينة و انظر إلى ما نقل في نزول سورة براءة في غزوة تبوك و أنها نزلت كلها أو أكثرها عليه و هو يسير على ناقته بعد أن كان بمكة ينزل عليه بعض السورة من قصار المفصل في وقت و ينزل الباقي في حين آخر و كذلك كان آخر ما نزل بالمدينة آية الدين و هي ما هي في الطول بعد أن كانت الآية تنزل بمكة مثل آيات الرحمن و الذاريات و المدثر و الضحى و الفلق و أمثالها. و اعتبر من ذلك علامة تميز بها بين المكي و المدني من السور و الآيات و الله المرشد إلى الصواب. هذا محصل أمر النبؤة.
الكهانة
و أما الكهانة فهي أيضاً من خواص النفس الإنسانية و ذلك أنه قد تقدم لنا في جميع ما مر أن للنفس الإنسانية استعداداً للانسلاخ من البشرية إلى ********ة التي فوقها و أنه يحصل من ذلك لمحة للبشر في صنف الأنبياء بما فطروا عليه من ذلك و تقرر أنه يحصل لهم من غير اكتساب و لا استعانة بشيء من المدارك و لا من التصورات و لا من الأفعال البدنية كلاماً أو حركةً و لا بأمر من الأمور إنما هو انسلاخ من البشرية إلى الملكية بالفطرة في لحظة أقرب من لمح البصر و إذا كان كذلك و كان ذلك الاستعداد موجوداً في الطبيعة البشرية فيعطى التقسيم العقلي و إن هنا صنفاً آخر من البشر ناقصاً عن رتبة الصنف الأول نقصان الضد عن ضده الكامل لأن عدم الاستعانة في ذلك الإدراك ضد الاستعانة فيه و شتان ما بينهما فإذا أعطي تقسيم الوجود إلى هنا صنفاً آخر من البشر مفطوراً على أن تتحرك قوته العقلية حركتها الفكرية بالإرادة عندما يبعثها النزوع لذلك و هي ناقصة عنه بالجبلة عندما يعوقها العجز عن ذلك تشبث بأمور جزئية محسوسة أو متخيلة كالأجسام الشفافة و عظام الحيوانات و سجع الكلام و ما سنح من طير أو حيوان فيستديم ذلك الإحساس أو التخيل مستعيناً به في ذلك الانسلاخ الذي يقصده و يكون كالمشيع له و هذه القوة التي فيهم مبدأ لذلك الإدراك هي الكهانة و لكون هذه النفوس مفطورةً على النقص و القصور عن الكمال كان إدراكها في الجزئيات أكثر من الكليات و لذلك تكون المخيلة فيهم في غاية القوة لأنها آلة الجزئيات فتنفذ فيها نفوذاً تاماً في نوم أو يقظة و تكون عندها حاضرةً عتيدةً تحضرها المخيلة و تكون لها كالمرآة تنظر فيها دائما و لا يقوى الكاهن على الكمال في إدراك المعقولات لأن وحيه من وحي الشيطان و أرفع أحوال هذا الصنف أن يستعين بالكلام الذي فيه السجع و الموازنة ليشتغل به عن الحواس و يقوى بعض الشيء على ذلك الاتصال الناقص فيهجس في قلبه عن تلك الحركة و الذي يشيعها من ذلك الأجنبي ما يقذفه على لسانه فربما صدق و وافق الحق و بما كذب لأنه يتمم نقصه بأمر أجنبي عن ذاته المدركة و مباين لها غير ملائم فيعرض له الصدق و الكذب جميعاً و لا يكون موثوقاً به و ربما يفزع إلى الظنون و التخمينات حرصا على الظفر بالإدراك بزعمه و تمويهاً على السائلين و أصحاب هذا السجع هم المخصوصون باسم الكهان لأنهم أرفع سائر أصنافهم و قد قال صلى الله عليه و سلم في مثله هذا من سجع الكهان فجعل السجع مختصاً بهم بمقتضى الإضافة و قد قال لابن صياد حين سأله كاشفاً عن حاله بالأخبار كيف يأتيك هذا الأمر ؟ قال: يأتيني صادقاً و كاذباً فقال: خلط عليك الأمر يعنى أن النبؤة خاصتها الصدق فلا يعتريها الكذب بحال لأنها اتصال من ذات النبي بالملإ الأعلى من غير مشيع و لا استعانة بأجنبي و الكهانة لما احتاج صاحبها بسبب عجزه إلى الاستعانة بالتصورات الأجنبية كانت داخلة في إدراكه و التبست بالإدراك الذي توجه إليه فصار مختلطاً بها و طرقه الكذب من هذه الجهة فامتنع أن تكون نبؤة و إنما قلنا إن أرفع مراتب الكهانة حالة السجع لأن معنى السجع أخفه من سائر المغيبات من المرئيات و المسموعات و تدل خفة المعنى على قرب ذلك الاتصال و الإدراك و البعد فيه عن العجز بعض الشيء و قد زعم بعض الناس أن هذه الكهانة قد انقطعت منذ زمن النبؤة بما وقع من شأن رجم الشياطين بالشهب بين يدي البعثة و أن ذلك كان لمنعهم من خبر السماء كما وقع في القرآن و الكهان إنما يتعرفون أخبار السماء من الشياطين فبطلت الكهانة من يومئذ و لا يقوم من ذلك دليل لأن علوم الكهان كما تكون من الشياطين تكون من نفوسهم أيضاً كما قررناه و أيضاً فالآية إنما دلت على منع الشياطين من نوع واحد من أخبار السماء و هو ما يتعلق بخبر البعثة و لم يمنعوا مما سوى ذلك. و أيضاً فإنما كان ذلك الانقطاع بين يدي النبؤة فقط و لعلها عادت بعد ذلك إلى ما كانت عليه و هذا هو الظاهر لأن هذه المدارك كلها تخمد في زمن النبؤة كما تخمد الكواكب و السرج عند وجود الشمس لأن النبؤة هي النور الأعظم الذي يخفى معه كل نور و يذهب.
و قد زعم بعض الحكماء أنها إنما توجد بين يدي النبؤة ثم تنقطع و هكذا كل نبؤة وقعت لأن وجود النبوة لا بد له من وضع فلكي يقتضيه و في تمام ذلك الوضع تمام تلك النبؤة التي تدل عليها و نقص ذلك الوضع عن التمام يقتضي وجود طبيعة من ذلك النوع الذي يقتضيه ناقصة و هو معنى الكاهن على ما قررناه فقبل أن يتم ذلك الوضع الكامل يقع الوضع الناقص و يقتضي وجود الكاهن إما واحداً أو متعدداً فإذا تم ذلك الوضع تم وجود النبي بكماله و انقضت الأوضاع الدالة على مثل تلك الطبيعة فلا يوجد منها شيء بعد و هذا بناء على أن بعض الوضع الفلكي يقتضي بعض أثره و هو غير مسلم. فلعل الوضع إنما يقتضي ذلك الأثر بهيئته الخالصة و لو نقص بعض أجزائها فلا يقتضي شيئاً، لا إنه يقتضي ذلك الأثر ناقصاً كما قالوه. ثم إن هؤلاء الكهان إذا عاصروا زمن النبؤة فإنهم عارفون بصدق النبي و دلالة معجزته لأن لهم بعض الوجدان من أمر النبؤة كما لكل إنسان من أمر اليوم و معقوبية تلك النسبة موجودة للكاهن بأشد مما للنائم و لا يصدهم عن ذلك و يوقعهم في التكذيب إلا قوة المطامع في أنها نبؤة لهم فيقعون في العناد كما وقع لأمية بن أبي الصلت فإنه كان يطمع أن يتنبأ و كذا وقع لابن صياد و لمسيلمة و غيرهم فإذا غلب الإيمان و انقطعت تلك الأماني آمنوا أحسن إيمان كما وقع لطليحة الأسدي و سواد بن قارب و كان لهما في الفتوحات الإسلامية من الآثار الشاهدة بحسن الإيمان.
الرؤيا
و أما الرؤيا فحقيقتها مطالعة النفس الناطقة في ذاتها ********ة لمحة من صور الواقعات فإنها عندما تكون روحانية تكون صور الواقعات فيها موجودة بالفعل كما هو شأن الذوات ********ة كلها و تصير روحانية بأن تتجرد عن المواد الجسمانية و المدارك البدنية و قد يقع لها ذلك لمحة بسبب النوم كما نذكر فتقتبس بها علم ما تتشوف إليه من الأمور المستقبلة و تعود به إلى مداركها فإن كان ذلك الاقتباس ضعيفاً و غير جلي بالمحاكاة و المثال في الخيالي لتخلصه فيحتاج. من أجل هذه المحاكاة إلى التعبير و قد يكون الاقتباس قوياً يستغنى فيه عن المحاكاة فلا يحتاج إلى تعبير لخلوصه من المثال و الخيال و السبب في وقوع هذه اللمحة للنفس أنها ذات روحانية بالقوة مستكملة بالبدني و مداركه حتى تصير ذاتها تعقلاً محضاً و يكمل وجودها بالفعل فتكون حينئذ ذاتاً روحانية مدركة بغير شيء من الآلات البدنية إلا أن نوعها في ********ة دون نوع الملائكة أهل الأفق الأعلى على الذين لم يستكملوا ذواتهم بشيء من مدارك البدن و لا غيره فهذا الاستعداد حاصل لها ما دامت في البدن و منه خاص كالذي للأولياء و منه عام للبشر على العموم و هو أمر الرؤيا. و أما الذي للأنبياء فهو استعداد بالانسلاخ من البشرية إلى الملكية المحضة التي هي، أعلى ********ات و يخرج هذا الاستعداد فيهم متكرراً في حالات الوحي و هو عندما يعرج على المدارك البدنية و يقع فيها ما يقع من الإدراك يكون شبيهاً بحال النوم شبهاً بيناً و إن كان حال النوم أدون منه بكثير فلأجل هذا الشبه عبر الشارع عن الرؤيا بأنها جزء من ستة و أربعين جزاً من النبؤة و في رواية ثلاثة و أربعين و في رواية سبعين و ليس العدد في جميعها مقصوداً بالذات و إنما المراد الكثرة في تفاوت هذه المراتب بدليل ذكر السبعين في بعض طرقه و هو للتكثير عند العرب و ما ذهب إليه بعضهم في رواية ستين و أربعين من أن الوحي كان في مبدإه بالرؤيا ستة أشهر و هي نصف سنة و مدة النبوة كلها بمكة و المدينة ثلاث و عشرين سنة فنصف السنة منها جزء من ستة و أربعين فكلام بعيد من التحقيق لأنة إنما وقع ذلك للنبي صلى الله عليه و سلم و من أين لنا أن هذه المدة وقعت لغيره من الأنبياء مع أن ذلك إنما يعطي نسبة زمن الرؤيا من زمن النبؤة و لا يعطي حقيقتها من حقيقة النبؤة و إذا تبين لك هذا مما ذكرناه أولاً علمت أن معنى هذا الجزء نسبة الاستعداد الأول الشامل للبشر إلى الاستعداد القريب الخاص بصنف الأنبياء الفطري لهم صلوات الله عليهم إذ هو الاستعداد البعيد و إن كان عاماً في البشر و معه عوائق و موانع كثيرة من حصوله بالفعل و من أعظم تلك الموانع الحواس الظاهرة ففطر الله البشر على ارتفاع حجاب الحواس بالنوم الذي هو جبلي لهم فتتعرض النفس عند ارتفاعه إلى معرفة ما تتشوف إليه في عالم الحق فتدرك في بعض الأحيان منه لمحة يكون فيها الظفر بالمطلوب و لذلك جعلها الشارع من المبشرات فقال لم يبق من النبؤة إلا المبشرات قالوا و ما المبشرات يا ر سول الله قال الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو ترى له و أما سبب ارتفاع حجاب الحواس بالنوم فعلى ما أصفه لك و ذلك أن النفس الناطقة إنما إدراكها و أفعالها بالروح الحيواني الجسماني و هو بخار لطيف مركزه بالتجويف الأيسر من القلب على ما في كتب التشريح لجالينوس و غيره و ينبعث مع الدم في الشريانات و العروق فيعطي الحس و الحركة، و سائر الأفعال البدنية و يرتفع لطيفه إلى الدماغ فيعدل من برده و تتم أفعال القوى التي في بطونه فالنفس الناطقة إنما تدرك و تعقل بهذا الروح البخاري و هي متعلقة به لما اقتضته حكمة التكوين في أن اللطيف لا يؤثر في الكثيف و لما لطف هذا الروح الحيواني من بين المواد البدنية صار محلاً لآثار الذات المباينة له في جسمانيته وهي النفس الناطقة و صارت آثارها حاصلة في البدن بواسطته و قد كنا قدمنا أن إدراكها على نوعين إدراك بالظاهر و هو الحواس الخمس و إدراك بالباطن و هو القوى الدماغية و أن هذا الإدراك كله صارف لها عن إدراكها ما فوقها من ذواتها ********ة التي هي مستعدة له بالفطرة و لما كانت الحواس الظاهرة جسمانية كانت معرضةً للوسن و الفشل بما يدركها من التعب و الكلال و تغشى الروح بكثرة التصرف فخلق الله لها طلب الاستجمام لتجرد الإدراك على الصورة الكاملة و إنما يكون ذلك بانخناس الروح الحيواني من الحواس الظاهرة كلها و رجوعه إلى الحس الباطن و يعين على ذلك ما يغشى البدن من البرد بالليل فتطلب الحرارة الغزيرة أعماق البدن و تذهب من ظاهره إلى باطنه فتكون مشيعة مركبها و هو الروح الحيواني إلى الباطن و لذلك كال النوم للبشر في الغالب إنما هو بالليل فإذا انخنس الروح عن الحواس الظاهرة و رجع إلى القوى الباطنة و خفت عن النفس شواغل الحس و موانعه و رجعت إلى الصورة التي في الحافظة تمثل منها بالتركيب و التحليل صور خيالية و أكثر ما تكون معتادة لأنها منتزعة من المدركات المتعاهدة قريباً ثم ينزلها الحس المشترك الذي هو جامع الحواس الظاهرة فيدركها على أنحاء الحواس الخمس الظاهرة و ربما التفتت النفس لفتة إلى ذاتها ********ة مع منازعتها القوى الباطنية فتدرك بإدراكها ******** لأنها مفطورة عليه و تقيس من صور الأشياء التي صارت متعلقة في ذاتها حينئذ ثم يأخذ الخيال تلك الصور المدركة فيمثلها بالحقيقة أو المحاكاة في القوالب المعهودة و المحاكاة من هذه هي المحتاجة للتعبير و تصرفها بالتركيب و التحليل في صور الحافظة قبل أن تدرك من تلك اللمحة ما تدركه هي أضغاث أحلام. و في الصحيح أن النبي صلى الله عليه و سلم قال: الرؤيا ثلاث رؤيا من الله و رؤيا من الملك و رؤيا من الشيطان و هذا التفصيل مطابق لما ذكرناه فالجلي من الله و المحاكاة الداعية إلى التعبير من الملك و أضغاث الأحلام من الشيطان لأنها كلها باطل و الشيطان ينبوع الباطل هذه حقيقة الرؤيا و ما يسببها و يشيعها من النوم و هي خواص للنفس الإنسانية موجودة في البشر على العموم لا يخلو عنها أحد منهم بل كل واحد من الإنساني رأى في نومه ما صدر له في يقظته مراراً غير واحدة و حصل له على القطع أن النفس مدركة للغيب في النوم و لا بد و إذا جاز في ذلك في عالم النوم فلا يمتنع في غير من الأحوال لأن الذات المدركة واحدة و خواصها عامة في كل حال و الله الهادي إلى الحق بمنه و فصله.
فصل: و وقوع ما يقع للبشر من ذلك غالباً إنما هو من غير قصد ولا قدرة عليه و إنما تكون النفس متشوقة لذلك الشيء فيقع بتلك اللمحة في النوم لأنها تقصد إلى ذلك فتراه و قد وقع في كتاب الغاية و غير من كتب أهل الرياضيات ذكر أسماء تذكر عند النوم فتكون عنها الرؤيا فيما يتشوف إليه و يسمونها الحالومية و ذكر منها مسلمة في كتاب الغاية حالومة سماها حالومة الطباع التام و هو أن يقال عند النوم بعد فراغ السر و صحة التوجه هذه الكلمات الأعجمية و هي تماغس بعد أن يسواد و غداس نوفنا غادس و يذكر حاجته فإنه يرى الكشف عما يسأل عنه في النوم. و حكى أن رجلاً فعل ذلك بعد رياضة ليال في مأكله و ذكره فتمثل له شخص يقول له إن طباعك التام فسأله و أخبره عما كان يتشوف إليه و قد وقع لي أنا بهذه الأسماء مراء عجيبة و اطلعت بها على أمور كنت أتشوف عليها من أحوالي و ليس ذلك بدليل على أن القصد للرؤيا يحدثها و إنما هذه الحالومات تحدث استعداداً في النفس لوقوع الرؤيا فإذا قوي الاستعداد كال أقرب إلى حصول ما يستعد له و للشخص أن يفعل من الاستعداد ما أحب و لا يكون دليلاً على إيقاع المستمد له فالقدرة على الاستعداد غير القدرة على الشيء فاعلم ذلك و تدبره فيما تجد من أمثاله و الله الحكيم الخبير.
فصل: ثم إنا نجد في النوع الإنساني أشخاصاً يخبرون بالكائنات قبل وقوعها بطبيعة فيهم يتميز بها صنفهم عن سائر الناس و لا يرجعون في ذلك إلى صناعة و لا يستدلون عليه بأثر من النجوم و لا من غيرها إنما نجد مداركهم في ذلك بمقتضى فطرته التي فطروا عليها و ذلك مثل العرافين و الناظرين في الأجسام الشفافين كالمرايا و طساس الماء و الناظرين في قلوب الحيوانات و أكبادها و عظامها و أهل الزجر في الطير و السباع و أهل الطرق بالحصى و الحبوب من الحنطة و النوى و هذه كلها موجودة في عالم الإنسان لا يسع أحداً جحدها و لا إنكارها و كذلك المجانين يلقى على ألسنتهم كلمات من الغيب فيخبرون بها و كذلك النائم و الميت لأول موته أو نومه يتكلم بالغيب و كذلك أهل الرياضيات من المتصوفة لهم مدارك في الغيب على سبيل الكرامة معروفة. و نحن الآن نتكلم عن هذه الإدراكات كلها و نبتدئ منها بالكهانة ثم نأتي عليها واحدةً واحدةً إلى آخرها و نقدم على ذلك مقدمة في أن النفس الأنسانية كيف تستعد لإدراك الغيب في جميع الأصناف التي ذكرناها و ذلك أنها ذات روحانية موجودة بالقوة إلى الفعل بالبدن و أحواله و هذا أمر مدرك لكل أحد و كل ما بالقوة فله مادة و صورة و صورة هذه النفس التي بها يتم وجودها هو عين الإدراك و التعقل فهي توجد أولاً بالقوة مستعدة للإدراك و التعقل فهي توجد أولاً بالقوة مستعدة للإدراك و قبول الصور الكلية و الجزئية ثم يتم نشؤها و وجودها بالفعل بمصاحبة البدن و ما يعودها بورود مدركاتها المحسوسة عليها و ما تنتزع من تلك الإدراكات من المعاني الكلية فتتعقل الصور مرة بعد أخرى حتى يحصل لها الإدراك و التعقل بالفعل فتتم ذاتها و تبقى النفس كالهيولى و الصور متعاقبة عليها بالإدراك واحدة بعد واحدة و لذلك نجد الصبي في أول نشأته لا يقدر على الإدراك الذي لها من ذاتها لا بنوم و لا بكشف و لا بغيرهما و ذلك أن صورتها التي هي عين ذاتها و هي الإدراك و التعقل لم تتم بعد بل لم يتم لها انتزاع الكليات ثم إذا تمت ذاتها بالفعل حصل لها ما دامت مع البدن نوعان من الإدراك إدراك بآلات الجسم تؤديه إليها المدارك البدنية و إدراك بذاتها من غير واسطة و هي محجوبة عنه بالانغماس في البدن و الحواس و بشواغلها لأن الحواس أبداً جاذبة لها إلى الظاهر بما فطرت عليه أولاً من الإدراك الجسماني و ربما تنغمس من الظاهر إلى الباطن فيرتفع حجاب البدن لحظةً إما بالخاصية التي هي للإنسان على الإطلاق مثل النوم أو بالخاصية الموجودة لبعض البشر مثل الكهانة و الطرق أو بالرياضة مثل أهل الكشف من الصوفية فتلتفت حينئذ إلى الذوات التي فوقها من الملأ لما بين أفقها و أفقهم من الاتصال في الوجود كما قررنا قبل و تلك الذوات روحانية و هي إدراك محض و عقول بالفعل و فيها صور الموجودات و حقائقها كما مر فيتجلى فيها شيء من تلك الصور و تقتبس منها علوماً و ربما دفعت تلك الصور المدركة إلى الخيال فيصرفه في القوالب المعتادة ثم يراجع الحس بما أدركت إما مجرداً أو في قوالبه فتخبر به. هذا هو شرح استعداد النفس لهذا الإدراك الغيبي. و لنرجع إلى ما وعدنا به من بيان أصنافه. فأما الناظرون في الأجسام الشفافة من المرايا و طساس المياه و قلوب الحيوان و أكبادها و عظامها و أهل الطرق بالحصى و النوى فكلهم من قبيل الكهان إلا أنهم أضعف رتبة فيه في أصل خلقهم لأن الكاهن لا يحتاج في رفع حجاب الحس إلى كثير معاناة و هؤلاء يعانونه بانحصار المدارك الحسية كلها في نوع واحد منها و أشرفها البصر فيعكف على المرئي البسيط حتى يبدو له مدركه الذي يخبر به عنه و ربما يظن أن مشاهدة هؤلاء لما يرونه هو في سطح المرآة و ليس كذلك بل لا يزالون ينفرون في سطح المرآة إلى أن يغيب عن البصر و يبدو فيما بينهم و بين سطح المرآة حجاب كأنة غمام يتمثل فيه صور هي مداركهم فيشيرون إليه بالمقصود لما يتوجهون إلى معرفته من نفي أو إثبات فيخبرون بذلك على نحو ما أدركوه و أما المرآة و ما يدرك فيها من الصور فلا يدركونه في تلك الحال و إنما ينشأ لهم بها هذا النوع الآخر من الإدراك و هو نفساني ليس من إدراك البصر بل يتشكل به المدرك النفساني للحس كما هو معروف و مثل ذلك ما يعرض للناظرين في قلوب الحيوانات و أكبادها و لناظرين في الماء و الطساس و أمثال ذلك. و قد شاهدنا من هؤلاء من يشغل الحس بالبخور فقط ثم بالعزائم للاستعداد ثم يخبر كما أدرك و يزعمون أنهم يرون الصور متشخصة في الهواء تحكي لهم أحوال ما يتوجهون إلى إدراكه بالمثالي و الإشارة وغيبة هؤلاء عن الحس أخف من الأولين و العالم أبو الغرائب. و أما الزجر و هو ما يحدث من بعض الناس من التكلم بالغيب عند سنوح طائر أو حيوان و الفكر فيه بعد مغيبه و هي قوة في النفس تبعث على الحرص و الفكر فيما زجر فيه من مرئي أو مسموع و تكون قوته المخيلة كما قدمناه قوية فيبعثها في البحث مستعيناً بما رآه أو سمعه فيؤديه ذلك إلى إدراك ما، كما تفعله القوة المتخيلة في النوم و عند ركود الحواس تتوسط بين المحسوس المرئي في يقظته و تجمعه مع ما عقلته فيكون عنها الرؤيا. و أما المجانين فنفوسهم الناطقة ضعيفة التعلق بالبدن لفساد أمزجتهم غالباً و ضعف الروح الحيواني فيها فتكون نفسه غير مستغرقة في الحواس و لا منغمسة فيها بما شغلها في نفسها من ألم النقص و مرضه و ربما زاحمها على التعلق به روحانية أخرى شيطانية تتشبث به و تضعف هذه عن ممانعتها فيكون عنه التخبط فإذا أصابه ذلك التخبط إما لفساد مزاجه من فساد في ذاتها أو لمزاحمة من النفوس الشيطانية في تعلقه غاب عن حسه جملة فأدرك لمحة من عالم نفسه و الطبع فيها بعض الصور و صرفها الخيال و ربما نطق عن لسانه في تلك الحال من غير إرادة النطق وإدراك هؤلاء كلهم مشوب فيه الحق بالباطل لأنة لا يحصل لهم الاتصال و إن فقدوا الحس إلا بعد الاستعانة بالتصورات الأجنبية كما قررناه و من ذلك يجيء الكذب في هذه المدارك و أما العرافون فهم المتعلقون بهذا الإدراك و ليس لهم ذلك الاتصال فيسلطون الفكر على الأمر الذي يتوجهون إليه و يأخذون فيه بالفن و التخمين بناء على ما يتوهمونه من مبادىء ذلك الاتصال و الإدراك و يدعون بذلك معرفة الغيب و ليس منه على الحقيقة هذا تحصيل هذه الأمور و قد تكلم عليها المسعودي في مروج الذهب فما صادف تحقيقاً و لا إصابة و يظهر من كلام الرجل أنه كان بعيداً عن الرسوخ في المعارف فينقل ما سمع من أهله و من غير أهله و هذه الإدراكات التي ذكرناها موجودة كلها في نوع البشر فقد كان العرب يفزعون إلى الكهان في تعرف الحوادث و يتنافرون إليهم في الخصومات ليعرفوهم بالحق فيها من إدراك غيبهم و في كتب أهل الأدب كثير من ذلك و اشتهر منهم في الجاهلية شق بن أنمار بن نزار و سطيح بن مازن بن غسان و كان يدرج كما يدرج الثوب و لا عظم فيه إلا الجمجمة و من مشهور الحكايات عنهما تأويل رؤيا ربيعه بن مضر و ما أخبراه به ملك الحبشة لليمن و ملك مضر من بعدهم و لظهور النبؤة المحمدية في قريش و رؤيا الموبذان التي أولها سطيح لما بعث إليه بها كسرى عبد المسيح فاخبره بشأن النبؤة و خراب ملك فارس و هذه كلها مشهورة و كذلك العرافون كان في العرب منهم كثير و ذكروهم في أشعارهم قال
فقلت لعراف اليمامة داوني فإنك إن داويتني لطبيب
و قال الآخر
جعلت لعراف اليمامة حكمه و عراف نجد إن هما شفياني
فقالا شفاك الله و الله مالنا بما حملت منك الضلوع يدان
رد مع اقتباس
  #5  
قديم 01-09-2012, 01:51 AM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,392
افتراضي

وعراف اليمامة هو رباح بن عجلة و عراف نجد الأبلق الأسدي. و من هذه المدارك الغيبية ما يصدر لبعض الناس عند مفارقة اليقظة و التباسه بالنوم من الكلام على الشيء الذي يتشوف إليه بما يعطيه غيب ذلك الأمر كما يريد و لا يقع ذلك إلا في مبادىء النوم عند مفارقة اليقظة و ذهاب الاختبار في الكلام فيتكلم كأنه مجبور على النطق و غايته أن يسمعه و يفهمه و كذلك يصدر عن المقتولين عند مفارقة رؤوسهم و أوساط أبدانهم كلام بمثل ذلك. و لقد بلغنا عن بعض الجبابرة الظالمين أنم قتلوا من سجونهم أشخاصاً ليتعرفوا من كلامهم عند القتل عواقب أمورهم في أنفسهم فأعلموهم بما يستبشع. و ذكر مسلمة في كتاب الغاية له في مثل ذلك أن آدمياً إذا جعل في دن مملوء بدهن السمسم و مكث فيه أربعين يوماً يغذى بالتين و الجوز حتى يذهب لحمة و لا يبقى منه إلا العروق و شؤون رأسه فيخرج من ذلك الدفن فحين يجف عليه الهواء يجيب عن كل شيء يسأل عنه من عواقب الأمور الخاصة و العامة و هذا فعل من مناكير أفعال *****ة لكن يفهم منه عجائب العالم الإنساني و من الناس. من يحاول حصول هذا المدرك الغيبي بالرياضة فيحاولون بالمجاهدة موتاً صناعياً بإماتة جميع القوى البدنية ثم محو آثارها التي تلونت بها النسق ثم تغذيتها بالذكر لتزداد قوة في نشئها و يحصل ذلك بجمع الفكر و كثرة الجوع و من المعلوم على القطع أنه إذا نزل الموت بالبدن ذهب الحس و حجابة و اطلعت النفس على المغيبات و من هؤلاء أهل الرياضة *****ية يرتاضون بذلك ليحصل لهم الاطلاع على المغيبات و التصرفات في العوالم و أكثر هؤلاء في الأقاليم المنحرفة جنوباً و شمالاً خصوصاً بلاد الهند و يسمون هنالك الحوكية و لهم كتب في كيفية هذه الرياضة كثيرة و الأخبار عنهم في ذلك غريبة. و أما المتصوفة فرياضتهم دينية و عرية عن هذه المقاصد المذمومة و إنما يقصدون جمع الهمة و الإقبال على الله بالكلية ليحصل لهم أذواق أهل العرفان و التوحيد و يزيدون في رياضتهم إلى الجمع و الجوع التغذية بالذكر فبها تتم و جهتهم في هذه الرياضة لأنه إذا نشأة النفس على الذكر كانت أقرب إلى العرفان بالله و إذا عريت عن الذكر كانت شيطانية و حصول ما يحصل من معرفة الغيب و التصرف لهؤلاء المتصوفة إنما هو بالعرض و لا يكون مقصوداً من أول الأمر لأنه إذا قصد ذلك كانت الوجهة فيه لغير الله و إنما هي لقصد التصرف و الاطلاع على الغيب و أخسر بها صفقة فإنها في الحقيقة شرك قال بعضهم: من آثر العرفان للعرفان فقد قال بالثاني فهم يقصدون بوجهتهم المعبود لا لشيء سواه لم إذا حصل في أثناء ذلك ما يحصل فبالعرض و غير مقصود لهم و كثير منهم يفر منه إذا عرض له و لا يحفل به و إنما يريد الله لذاته لا لغيره و حصول ذلك لهم معروف و يسمون ما يقع لهم من الغيب و الحديث على الخواطر فراسة و كشفاً و ما يقع لهم من التصرف كرامة و ليس شيء من ذلك بنكير في حقهم و قد ذهب إلى إنكاره الأستاذ أبو إسحق الإسفرايني و أبو محمد بن أبي زيد المالكي في آخرين فراراً من التباس المعجزة بغيرها و المعول عليه عند المتكلمين حصول التفرقة بالتحدي فهو كاف. و قد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: إن فيكم محدثين و أن منهم عمر و قد وقع للصحابة من ذلك وقائع معروفة تشهد بذلك في مثل قول عمر رضي الله عنة يا سارية الجبل و هو سارية بن زنيم كان قائداً على بعض جيوش المسلمين بالعراق أيام الفتوحات و تورط مع المشتركين في معترك و هم بالانهزام و كان بقربه جبل يتحيز إليه فرفع لعمر ذلك و هو يخطب على المنبر بالمدينة فناداه يا سارية الجبل و سمعه سارية و هو بمكانه و رأى شخصه هنالك و القصة معروفة و وقع مثله أيضاً لأبي بكر في وصيته عائشة ابنته رضي الله عنهما في شأن ما نحلها من أوسق التمر من حديقته ثم نبهها على جذاذه لتحوزه عن الورثة فقال في سياق كلامه و إنما هما أخواك و أختاك فقالت: إنما هي أسماء فمن الأخرى ؟ فقال: إن ذا بطن بنت خارجة أراها جارية فكانت جارية وقع في الموطإ في باب ما لا يجوز من النحل و مثل هذه الوقائع كثيرة لهم و لمن بعدهم من الصالحين و أهل الاقتداء إلا أن أهل التصوف يقولون إنه يقل في زمن النبؤة إذ لا يبقى للمريد حالة بحضرة النبي حتى أنهم يقولون إن المريد إذا جاء للمدينة النبوية يسلب حاله ما دام فيها حتى يفارقها و الله يرزقنا الهداية و يرشدنا إلى الحق.
و من هؤلاء المريدين من المتصوفة قوم بهاليل معتوهون أشبه بالمجانين من العقلاء و هم مع ذلك قد صحت لهم مقامات الولاية و أحوال الصديقين و علم ذلك من أحوالهم من يفهم عنهم من أهل الذوق مع أنهم غير مكلفين و يقع لهم من الأخبار عن المغيبات عجائب لأنهم لا يتقيدون بشيء فيطلقون كلامهم في ذلك و يأتون منه بالعجائب و ربما ينكر الفقهاء أنهم على شيء من المقامات لما يرون من سقوط التكليف عنهم و الولاية لا تحصل إلا بالعبادة و هو غلط فإن فضل الله يؤتيه من يشاء و لا يتوقف حصول الولاية على العبادة و لا غيرها و إذا كانت النفس الإنسانية ثابتة الوجود فالله تعالى يخصها بما شاء من مواهبه و هؤلاء القوم لم تعدم نفوسهم الناطقة و لا فسدت كحال المجانين و إنما فقد لهم العقل الذي يناط به التكليف و هي صفة خاصة للنفس و هي علوم ضروية للإنسان يشتد بها نظره و يعرف أحوال معاشه و استقامة منزله و كأنة إذا ميز أحوال معاشه و استقامة منزله لم يبق له عذر في قبول التكاليف لإصلاح معاده و ليس من فقد هذه الصفة بعاقل لنفسه و لا ذاهل عن حقيقته فيكون موجود الحقيقة معدوم العقل التكليفي الذي هو معرفة المعاش و لا استحالة في ذلك و لا يتوقف اصطفاء الله عباده للمعرفة على شيء من التكاليف و إذا صح ذلك فأعلم أنه ربما يلتبس حال هؤلاء بالمجانين الذين تفسد نفوسهم الناطقة و يلتحقون بالبهائم و لك في تمييزهم علامات منها أن هؤلاء البهاليل لا تجد لهم وجهة أصلاً و منها أنهم يخلقون على البله من أول، نشأتهم و المجانين يعرض لهم الجنون بعد مدة من العمر لعوارض بدنية طبيعية فإذا عرض لهم ذلك و فسدت نفوسهم الناطقة ذهبوا بالخيبة و منها كثرة تصرفهم في الناس بالخير و الشر لأنهم لا يتوقفون على إذن لعدم التكليف في حقهم و المجانين لا تصرف لهم و هذا فصل انتهى بنا الكلام إليه و الله المرشد للصواب.
و قد يزعم بعض الناس أن هنا مدارك للغيب من دون غيبة عن الحس فمنهم المنجمون القائلون بالدلالات النجومية و مقتضى أوضاعها في الفلك و آثارها في العناصر و ما يحصل من الامتزاج بين طباعها بالتناظر و يتأدى من ذلك المزاج إلى الهواء و هؤلاء المنجمون ليسوا من الغيب في شيء إنما هي ظنون حدسية و تخمينات مبنية على التأثير النجومية و حصول المزاج منه للهواء مع مزيد حدس يقف به الناظر على تفصيله في الشخصيات في العالم كما قاله بطليموس و نحن نبين بطلان ذلك في محله إن شاء الله و هؤلاء لو ثبت فغايته حدس و تخمين و ليس مما ذكرناه في شيء. و من هؤلاء قوم من العامة استنبطوا لاستخراج الغيب و تعرف الكائنات صناعة سموها خط الرمل نسبة إلى المادة التي يضعون فيها عملهم و محصول هذه الصناعة أنهم صيروا من النقط أشكالاً ذات أربع مراتب تختلف باختلاف مراتبها في الزوجية و الفردية و استوائها فيهما فكالت ستة عشر شكلاً لأنها إن كانت أزواجاً كلها أو أفراداً كلها فشكلان و إن كان الفرد فيهما في مرتبة واحدة فقط فأربعة أشكال و إن كان الفرد في مرتبتين فستة أشكال و إن كان في ثلاث مراتب فأربعة أشكال جاءت ستة عشر شكلا ميزوها كلها بأسمائها و أنواعها إلى سعود و نحوس شأن الكواكب و جعلوا لها ستة عشر بيتاً طبيعية يزعمهم و كأنها البروج الاثنا عشر التي للفلك و الأوتاد الأربعة و جعلوا لكل شكل منها بيتاً و خطوطاً، و دلالة على صنف من موجودات عالم العناصر يختص به و استنبطوا من ذلك فنا حاذوا به فن النجامة و نوع فصائه إلا أن أحكام النجامة مستندة إلى أوضاع طبيعية كما يزعم بطليموس و هذه إنما مستندها أوضاع تحكيمية و أهواء اتفاقية و لا دليل يقوم على شيء منها و يزعمون أن أصل ذلك من النبؤات القديمة في العالم و ربما نسبوها إلى دانيال أو إلى إدريس صلوات الله عليهما شأن الصنائع كلها و ربما يدعون مشروعيتها و يحتجون بقوله صلى الله عليه و سلم: كان نبي يخط فمن وافق خطة فذاك و ليس في الحديث دليل على مشروعية خط الرمل كما يزعمه بعض من لا تحصيل لديه لأن معنى الحديث كان نبي يخط فيأتيه الوحي عند ذلك الخط و لا استحالة في أن يكون ذلك عادة لبعض الأنبياء فمن وافق خطة ذلك النبي فهو ذاك أي فهو صحيح من بين الخط بما عضده من الوحي لذلك النبي الذي كانت عادته أن يأتيه الوحي عند الخط و أما إذا أخذ ذلك من الخط مجرداً من غير موافقة وحي فلا و هذا معنى الحديث و الله أعلم. فإذا أرادوا استخراج مغيب بزعمهم عمدوا إلى قرطاس أو رمل أو دقيق فوضعوا النقط سطوراً على عدد المراتب الأربع ثم كرروا ذلك أربع مرات فتجيء ستة عشر سطراً ثم يطرحون النقط أزواجاً و يضعون ما بقى من كل سطر زوجاً كان أو فرداً في مرتبته على الترتيب فتجيء أربعة أشكال يضعونها في سطر متتالية ثم يولدون منها أربعة أشكال أخرى من جالب العرض باعتبار كل مرتبة و ما قابلها من الشك الذي بإزائه و ما يجتمع منهما من زوج أو فرد فتكون ثمانية أشكال موضوعة في سطر ثم يولدون من كل شكلين شكلاً تحتهما باعتبار ما يجتمع في كل مرتبة من مراتب الشكلين أيضاً من زوج أو فرد فتكون أربعة أخرى تحتها ثم يولدون من الأربعة شكلين كذلك تحتها من الشكلين شكلاً كذلك تحتهما ثم من هذا الشكل الخامس عشر مع الشكل الأول شكلاً يكون أخر الستة عشر ثم يحكمون على الخط كله بما اقتضته أشكاله من السعودة و النحوسة بالذات و النظر و الحلول و الامتزاج و الدلالة على أصناف الموجودات و سائر ذلك تحكماً غريباً و كثرت هذه الصناعة في العمران و وضعت فيها التآليف و اشتهر فيها الأعلام من المتقدمين و المتأخرين و هي كما رأيت تحكم و هوى و التحقيق الذي ينبغي أن يكون نصب فكرك أن الغيوب لا تدرك بصناعة البتة و لا سبيل إلى تعرفها إلا للخواص من البشر المفطورين على الرجوع من عالم الحس إلى عالم الروح و لذلك يسمى المنجمون هذا الصنف كلهم بالزهريين نسبة إلى ما تقتضيه دلالة الزهرة بزعمهم في أصل مواليدهم على إدراك الغيب فالخط و غيره من هذه أن كان الناظر فيه من أهل هذه الخاصية و قصد بهذه الأمور التي ينظر فيها من النقط أو العظام أو غيرها إشغال الحس لترجع النفس إلى عالم ********ات لحظة ما، فهو من باب الطرق بالحصى و النظر في قلوب الحيوانات و المرايا الشفافة كما ذكرناه. و أن لم يكن كذلك و إنما قصد معرفة الغيب بهذه الصناعة و أنها تفيده ذلك فهذر من القول و العمل و الله يهدي من يشاء. و العلامة لهذه الفطرة التي فطر عليها أهل هذا الإدراك الغيبي أنهم عند توجههم إلى تعرف الكائنات يعتريهم خروج عن حالتهم الطبيعية كالتثاؤب و التمطط و مبادىء الغيبة عن الحس و يختلف ذلك بالقوة و الضعف على اختلاف وجودها فيهم فمن لم توجد له هذه العلامة فليس من إدراك الغيب في شيء و إنما هو ساع في تنفيق كذبه.
فصل
و منهم طوائف يضعون قوانين لاستخراج الغيب ليست من الطور الأول الذي هو من مدارك النفس ********ة و لا من الحدس المبني على تأثيرات النجوم كما زعمه بطليموس و لا من الظن و التخمين الذي يحاول عليه العرافون و إنما هي مغالط يجعلونها كالمصائد لأهل العقول المستضعفة و لست أذكر من ذلك إلا ما ذكره المصنفون و ولع به الخواص فمن تلك القوانين الحساب الذي يسمونه حساب النيم و هو مذكور في آخر كتاب السياسة المنسوب لأرسطو يعرف به الغالب من المغلوب في المتحاربين من الملوك و هو أن تحسب الحروف التي في اسم أحدهما بحساب الجمل المصطلح عليه في حروف أبجد من الواحد إلى الألف آحاداً و عشرات و مئين وألوفاً فإذا حسبت الاسم و تحصل لك منه عدد فاحسب اسم الآخر كذلك ثم اطرح من كل واحد منهما تسعة و احفظ بقية هذا و بقية هذا ثم انظر بين العددين الباقيين من حساب الاسمين فإن كان العددان مختلفين في الكمية وكانا معا زوجين أو فردين معاً. فصاحب الأقل منهما هو الغالب و إن كان أحدهما زوجاً و الآخر فرداً فصاحب الأصغر هو الغالب و أن كانا متساويين في الكمية و هما معا زوجان فالمطلوب هو الغالب و إن كانا معاً فردين فالطالب هو الغالب و يقال هنالك بيتان في هذا العمل اشتهرا بين الناس و هما:
أرى الزوج و الأفراد يسمو اقلها و أكثرها عند التحالف غالب
و يغلب مطلوب إذا الزوج يستوي و عند استواء الفرد يغلب طالب
ثم وضعوا لمعرفة ما بقى من الحروف بعد طرحها بتسعة قانوناً معروفاً عندهم في طرح تسعة و ذلك أنهم جمعوا الحروف الدالة على الواحد في المراتب الأربع و هي (ا) الدالة على الواحد وهي (ي) الدالة على العشرة و هي واحد في مرتبة العشرات و(ق) الدالة على المائة لأنها واحد في مرتبة المئين و (ش) الدالة على الألف لأنها واحد في منزلة الآلاف و ليس بعد الألف عدد يدل عليه بالحروف لأن الشين هي آخر حروف أبجد ثم رتبوا هذه الأحرف الأربعة على نسق المراتب فكان منها كلمة رباعية و هي (ايقش) ثم فعلوا ذلك بالحروف الدالة على اثنين في المراتب الثلاث و أسقطوا مرتبة الآلاف منها لأنها كانت آخر حروف أبجد فكان مجموع حروف الاثنين في المراتب الثلاث ثلاثة حروف و هي (ب) الدالة على اثنين في الآحاد و (ك) الدالة على اثنين في العشرات و هي عشرون و (ر) الدالة على اثنين في المئين و هي مائتان و صيروها كلمة واحدة ثلاثة على نسق المراتب و هي بكر ثم فعلوا ذلك بالحروف الدالة على ثلاثة فنشأت عنها كلمة جلس و كذلك إلى آخر حروف أبجد و صارت تسع كلمات نهاية عدد الآحاد و هي ايقش بكر جلس دمت هنث و صخ زعد حفظ طضغ مرتبة على توالى الأعداد و لكل كلمة منها عددها الذي هي في مرتبته فالواحد لكلمة ايقش و الاثنان لكلمة بكر و الثلاثة لكلمة جلس و كذلك إلى التاسعة التي هي طضغ فتكون لها التسعة فإذا أرادوا طرح الاسم بتسعة نظروا كل حرف منه في أي كلمة هو من هذه الكلمات و أخذوا عددها مكانه ثم جمعوا الأعداد التي يأخذونها بدلاً من حروف الاسم فإن كانت زائدة على التسمية أخذوا ما فضل عنها و إلا أخذوه كما هو ثم يفعلون كذلك بالاسم الآخر و ينظرون بين الخارجين بما قدمناه و السر في هذا بين و ذلك أن الباقي من كل عقد من عقود الأعداد بطرح تسعة إنما هو واحد فكأنه يجمع عدد العقود خاصة من كل مرتبة فصارت أعداد العقود كأنها آحاد فلا فرق بين الاثنين و العشرين و المائتين و الألفين و كلها اثنين و كذلك الثلاثة و الثلاثون و الثلاثمائة و الثلاثة الآلاف كلها ثلاثةً ثلاثةً فوضعت الأعداد على التوالي دالة على أعداد العقود لا غير و جعلت الحروف الدالة على أصناف العقود في كل كلمة من الآحاد و العشرات و المئين و الألوف و صار عدد الكلمة الموضوع عليها نائباً عن كل حرف فيها سواء دل على الآحاد أو العشرات أو المئين فيؤخذ عدد كل كلمة عوضاً من الحروف التي فيها و تجمع كلها إلى آخرها كما قلناه هذا هو العمل المتداول بين الناس منذ الأمر القديم و كان بعض من لقيناه من شيوخنا يرى أن الصحيح فيها كلمات أخرى تسعة مكان هذه و متوالية كتواليها و يفعلون بها في الطرح بتسعة مثل ما يفعلونه بالأخرى سواء و هي هذه ارب يسقك جزلط مدوص هف تحذن عش خع ثضظ تسع كلمات على توالي، العدد و لكل كلمة منها عددها الذي في مرتبته فيها الثلاثي و الرباعي و الثنائي و ليست جارية على أصل مطرد كما تراه لكن كان شيوخنا ينقلونها عن شيخ المغرب في هذه المعارف من السيمياء و أسرار الحروف و النجامة و هو أبو العباس بن البناء و يقولون عنه أن العمل بهذه الكلمات في طرح حساب النيم أصح من العمل بكلمات ايقش و الله يعلم كيف ذلك و هذه كلها مدارك للغيب غير معروف أرسطو عند المحققين لما فيه من الآراء البعيدة عن التحقيق و البرهان يشهد لك بذلك تصفحه إن كنت من أهل الرسوخ. و من هذه القوانين الصناعية لاستخراج الغيوب فيما يزعمون الزايرجة المسماة بزايرجة العالم، المعزوة إلى أبي العباس سيدي أحمد السبتي من أعلام المتصوفة بالمغرب كان في آخر المائة السادسة بمراكش و لعهد أبي يعقوب المنصور من ملوك الموحدين و هي غريبة العمل صناعة. و كثير من الخواص يولعون بإفادة الغيب منها بعملها المعروف الملغوز فيحرضون بذلك على حل رمزه و كشف غامضه. و صورتها التي يقع العمل عندهم فيها دائرة عظيمة في داخلها دوائر متوازية للأفلاك و العناصر و المكونات و ********ات و غير ذلك من أصناف الكائنات و العلوم و كل دائرة مقسومة بأقسام فلكها إما البروج و إما العناصر أو غيرهما و خطوط كل قسم مارة إلى المركز و يسمونها الأوتار و على كل وتر حروف متتابعة موضوعة فمنها برشوم الزمام التي هي أشكال الأعداد عند أهل الدواوين و الحساب بالمغرب لهذا العهد و منها برشوم الغبار المتعارفة في داخل الزايرجة و بين الدوائر أسماء العلوم و مواضع الأكوان و على ظاهر الدوائر جدول متكثر البيوت المتقاطعة طولاً و عرضاً يشتمل على خمسة و خمسين بيتاً في العرض و مائة و واحد و ثلاثين في الطول جوانب منه معمورة البيوت تارة بالعدد و أخرى بالحروف و جوانب خالية البيوت و لا تعلم نسبة تلك الأعداد في أو ضاعها و لا القسمة التي عينت البيوت العامرة من الخالية و حافات الزايزجة أبيات من عروض الطويل على روي اللام المنصوبة تتضمن صورة العمل في استخراج المطلوب من تلك الزايرجة إلا أنها من قبيل الإلغاز في عدم الوضوح و الجلاء و في بعض جوانب الزايرجة بيت من الشعر منسوب لبعض أكابر أهل الحدثان بالمغرب و هو مالك بن وهيب من علماء أشبيلية كان في الدولة اللمتونية و نص البيت
سؤال عظيم الخلق حزت فصن إذن غرائب شك ضبطه الجد مثلا
و هو البيت المتداول عندهم في العمل لاستخراج الجواب من السؤال في هذه الزايرجة و غيرها فإذا أرادوا استخراج الجواب عما يسأل عنه من المسائل كتبوا ذلك السؤال و قطعوه حروفاً ثم أخذوا الطالع لذلك الوقت من بروج الفلك و درجها و عمدوا إلى الزايرجة ثم إلى الوتر المكتنف فيها بالبرج الطالع من أوله ماراً إلى المركز ثم إلى محيط الدائرة قبالة الطالع فيأخذون جميع الحروف المكتوبة عليه من أوله إلى آخره و الأعداد المرسومة بينهما و يصيرونها حروفاً بحساب الجمل و قد ينقلون آحادها إلى العشرات و عشراتها إلى المئين و بالعكس فيهما كما يقتضيه قانون العمل عندهم و يضعونها مع حروف السؤال و يضيفون إلى ذلك جميع ما على الوتر المكتنف بالبرج الثالث من الطالع من الحروف و الأعداد من أوله إلى المركز فقط لا يتجاوزونه إلى المحيط و يفعلون بالأعداد ما فعلوه بالأول و يضيفونها إلى الحروف الأخرى ثم يقطعون حروف البيت الذي هو أصل العمل و قانونه عندهم و هو بيت مالك بن وهيب المتقدم و يضعونها ناحية ثم يضربون عدد درج الطالع في أس البرج و أسه عندهم هو بعد البرج عن آخر المراتب عكس ما عليه الأس عند أهل صناعة الحساب فانه عندهم البعد عن أول المراتب ثم يضربونه في عدد آخر يسمونه الأس الأكبر و الدور الأصلي و يدخلون بما تجمع لهم من ذلك في بيوت الجدول على قوانين معروفة و أعمال مذكورة و أدوار معدودة و يستخرجون منها حروفاً و يسقطون أخرى و يقابلون بما معهم في حروف البيت و ينقلون منه ما ينقلون إلى حروف السؤال و ما معها ثم يطرحون تلك الحروف بأعداد معلومة يسمونها الأدوار و يخرجون في كل دور الحرف الذي ينتهي عنده الدور و يعاودون ذلك بعدد الأدوار المعينة عندهم لذلك فيخرج آخرها حروف متقطعة و تؤلف على التوالي فتصير كلمات منظومة في بيت واحد على وزن البيت الذي يقابل به العمل و رويه و هو بيت مالك ابن وهيب المتقدم حسبما نذكر ذلك كله في فصل العلوم عند كيفية العمل بهذه الزايرجة و قد رأينا كثيراً من الخواص يتهافتون على استخراج الغيب منها بتلك الأعمال و يحسبون أن ما وقع من مطابقة الجواب للسؤال في توافق الخطاب دليل على مطابقة الواقع و ليس ذلك بصحيح لأنه قد مر لك أن الغيب لا يدرك بأمر صناعي البتة و إنما المطابقة التي فيها بين الجواب و السؤل من حيث الإفهام و التوافق في الخطاب حتى يكون الجواب مستقيماً أو موافقاً للسؤال و وقوع ذلك في هذه الصناعة في تكسير الحروف المجتمعة من السؤال و الأوتار و الدخول في الجدول بالأعداد المجتمعة من ضرب الأعداد المفروضة و استخراج الحروف من الجدول بذلك و طرح أخرى و معاودة ذلك في الأدوار المعدودة و مقابلة ذلك كله بحروف البيت على التوالي غير مستنكر و قد يقع الاطلاع من بعض الأذكياء على تناسب بين هذه الأشياء فيقع له معرفة المجهول فالتناسب بين الأشياء هو سبب الحصول على المجهول من المعلوم الحاصل للنفس و طريق لحصوله سيما من أهل الرياضة فإنها تفيد العقل قوة على القياس و زيادة في الفكر و قد مر تعليل ذلك غير مرة و من أجل هذا المعنى ينسبون هذه الزايرجة في الغالب لأهل الرياضة فهي منسوبة للسبتي و لقد وقفت على أخرى منسوبة لسهل بن عبد الله و لعمري إنها من الأعمال الغريبة و المعاناة العجيبة. و الجواب الذي يخرج منها فالسر في خروجه منظوماً يظهر لي إنما هو المقابلة بحروف ذلك البيت و لهذا يكون النظم على وزنه و رويه و يدل عليه أنا و جدنا أعمالاً أخرى لهم في مثل ذلك أسقطوا فيها المقابلة بالبيت فلم يخرج الجواب منظوماً كما تراه عند الكلام على ذلك في موضعه و كثير من الناس تضيق مداركهم عن التصديق بهذا العمل و نفوذه إلى المطلوب فينكر صحتها و يحسب أنها من التخيلات و الإيهامات و أن صاحب العمل بها يثبت حروف البيت الذي ينظمه كما يريد بين أثناء حروف السؤال و أن الأوتار و يفعل تلك الصناعات على غير نسبة و لا قانون ثم يجيء بالبيت و يوهم أن العمل جاء على طريقين منضبطة و هذا الحسبان توهم فاسد حمل عليه العقول عن فهم التناسب بين الموجودات و المعدومات و التفاوت بين المدارك و العقول و لكن من شأن كل مدرك إنكار ما ليس في طوقه إدراكه و يكفينا في رد ذلك مشاهدة العمل بهذه الصناعين و الحدس القطعي فإنها جاءت بعمل مطرد و قانون صحيح لا مرية فيه عند من يباشر ذلك ممن له ذكاء و حدس و إذا كان كثير من المعاياة في العدد الذي هو أوضح الواضحات يعسر على الفهم إدراكه لبعد النسبة فيه و خفائها فما ظنك بمثل هذا مع خفاء النسبة فيه و غرابتها فلنذكر مسئلة من المعاياة يتضح لك بها شيء مما ذكرنا مثاله لو قيل لك أخذت عدداً من الدراهم و اجعل بإزاء كل درهم ثلاثة من الفلوس ثم الجمع الفلوس التي أخذت و اشتر بها طائراً ثم اشتر بالدراهم كلها طيوراً بسعر ذلك الطائر فكم الطيور المشتراة بالدراهم فجوابه أن تقول هي تسعة لأنك تعلم أن فلوس الدراهم أربعة و عشرون و أن الثلاثة ثمنها و أن عدة أثمان الواحد ثمانية فإذا جمعت الثمن من الدراهم إلى الثمن الآخر فكان كله ثمن طائر فهي ثمانية طيور عدة أثمان الواحد و تزيد على الثمانية طائراً آخر و هو المشترى بالفلوس المأخوذة أولاً و على سعر اشتريت بالدراهم فتكون تسعة فأنت ترى كيف خرج لك الجواب المضمر بسر التناسب الذي بين أعداد المسئلة و الوهم أول ما يلقي إليك هذه و أمثالها إنما يجعله من قبيل الغيب الذي لا يمكن معرفته و ظهر أن التناسب بين الأمور هو الذي يخرج مجهولها من معلومها و هذا إنما هو في الواقعات الحاصلة في الوجود أو العلم و أما الكائنات المستقبلة إذا لم تعلم أسباب وقوعها و لا يثبت لها خبر صادق عنها فهو غيب لا يمكن معرفته لم إذا تبين لك ذلك فالأعمال الواقعة في الزايرجة كلها إنما هي في استخراج الجواب من ألفاظ السؤال لأنها كما رأيت استنباط حروف على ترتيب من تلك الحروف بعينها على ترتيب آخر و سر ذلك إنما هو من تناسب بينهما يطلع عليه بعض دون بعض فمن عرف ذلك التناسب تيسر عليه استخراج ذلك الجواب يتلك القوانين و الجواب يدل في مقام آخر من حيث موضوع ألفاظه و تراكيبه على وقوع أحد طرفي السؤال من نفي أو إثبات و ليس هذا من المقام الأول بل إنما يرجع لمطابقة الكلام لما في الخارج و لا سبيل إلى معرفة ذلك من هذه الأعمال بل البشر محجوبون عنه و قد استأثر الله بعلمه و الله يعلم و أنتم لا تعلمون.

الباب الثاني في العمران البدوي و الأمم الوحشية و القبائل و ما يعرض في ذلك من الأحوال و فيه فصول و تمهيدات الفصل الأول في أن أجيال البدو و الحضر طبيعية
إعلم أن اختلاف الأجيال في أحوالهم إنما هو باختلاف نحلتهم في المعاش فإن اجتماعهم إنما هو للتعاون على تحصيله و الابتداء بما هو ضروري منعه و نشيطه قبل الحاجي و الكمالي فمنهم من يستعمل الفلح من الغراسة و الزراعة و منهم من ينتحل القيام على الحيوان من الغنم و البقر و المعز و النحل و الدود لنتاجها واستخراج فضلاتها و هؤلاء القائمون على الفلح و الحيوان تدعوهم الضرورة و لا بد إلى البدو لأنه متسع لما لا يتسع له الحواضر من المزارع و الفدن و المسارح للحيوان و غير ذلك فكان اختصاص هؤلاء بالبدو أمراً ضروريا لهم و كان حينئذ اجتماعهم و تعاونهم في حاجاتهم و معاشهم و عمرانهم من القوت و الكن و الدفء إنما هو بالمقدار الذي يحفظ الحياة و يحصل بلغة العيش من غير مزيد عليه للعجز عما وراء ذلك ثم إذا اتسعت أحوال هؤلاء المنتحلين للمعاش و حصل لهم ما فوق الحاجة من الغنى و الرفه دعاهم ذلك إلى السكون و الدعة و تعاونوا في الزائد على الضرورة و استكثروا من الأقوات و الملابس و التأنق فيها و توسعة البيوت و اختطاط المدن و الأمصار للتحضر ثم تزيد أحوال الرفه و الدعة فتجيء عوائد الترف البالغة مبالغها في التأنق في علاج القوت و استجادة المطابخ و التقاء الملابس الفاخرة في أنواعها من الحرير و الديباج و غير ذلك و معالاة البيوت و الصروح و إحكام وضعها في تنجيدها و الانتهاء في الصنائع في الخروج من القوة إلى الفعل إلى غايتها فيتخذون القصور و المنازل و يجرون فيها المياه و يعالون في صرحها و يبالغون في تنجيدها و يختلفون في استجادة ما يتخذونه لمعاشهم من ملبوس أو فراش أو آنية أو ماعون و هؤلاء هم الحصر و معناه الحاضرون أهل الأمصار و البلدان و من هؤلاء من ينتحل معاشه الصنائع و منهم من ينتحل التجارة و تكون مكاسبهم أنمى و أرفه من أهل البدو لأن أحوالهم زائدة على الضروري و معاشهم على نسبة و جدهم فقد تبين أن أجيال البدو و الحضر طبيعية لا بد منها كما قلناه.

الفصل الثاني في أن جيل العرب في الخليقة طبيعي
قد قدمنا في الفصل قبله أن أهل البدر هم المنتحلون للمعاش الطبيعي من الفلح و القيام على الإنعام و أنهم مقتصرون على الضروري من الأقوات و الملابس و المساكن و سائر الأحوال و العوائد و مقصرون عما فوق ذلك من حاجى أو كمالي يتخذون البيوت من الشعر و الوبر أو الشجر أو من الطين و الحجارة غير منجدة إنما هو قصد الاستظلال والكن لا ما وراءه و قد يأوون إلى الغيران و الكهوف و أما أقواتهم فيتناولون بها يسيراً بعلاج أو بغير علاج البتة إلا ما مسته النار فمن كان معاشه منهم في الزراعة و القيام بالفلح كان المقام به أولى من الظعن و هؤلاء سكان المدر و القرى و الجبال و هم عامة البربر و الأعاجم و من كان معاشه في السائمة مثل الغنم و البقر فهم ظعن في الأغلب لارتياد المسارح و المياه لحيواناتهم فالتقلب في الأرض أصلح بهم و يسمون شاوية و معناه القائمون على الشاه و البقر و لا يبعدون في القفر لفقدان المسارح الطيبة و هؤلاء مثل البربر و الترك و إخوانهم من التركمان و الصقالبة و أما من كان معاشهم في الإبل فهم أكثر ظغناً و أبعد في القفر مجالاً لأن مسارح التلول و نباتها و شجرها لا يستغني بها الإبل في قوام حياتها عن مراعي الشجر بالقفر وورود مياهه الملحة و التقلب فصل الشتاء في نواحيه فراراً من أذى البرد إلى دفء هوائه و طلباً لماخض النتاج في رماله إذ الإبل أصعب الحيوان فصالاً و مخاضاً و أحوجها في ذلك إلى الدفء فاضطروا إلى إبعاد النجعة و ربما زادتهم الحامية عن التلول أيضاً فأوغلوا في القفار نفرة عن الضعة منهم فكانوا لذلك أشد الناس توحشاً و ينزلون من أهل الحواضر منزلة الوحش غير المقدور عليه و المفترس من الحيوان العجم و هؤلاء هم العرب و في معناهم ظعون البربر و زناتة بالمغرب له الأكراد و التركمان و الترك بالمشرق إلا أنا العرب أبعد نجعة و أشد بداوة لأنهم مختصون بالقيام على الإبل فقط و هؤلاء يقوموني عليها و على الشياه و البقر معها فقد تبين لك أن جيل العرب طبيعي لا بد منه في العمران و الله سبحانه و تعالى أعلم.

الفصل الثالث في أن البدو أقدم من الحضر و سابق عليه و أن البادية أصل العمران و الأمصار مدد لها
قد ذكرنا أن البدو هم المقتصرون على الضروري في أحوالهم العاجزون عما فوقه و أن الحضر المعتنون بحاجات الترف و الكمال في أحوالهم و عوائدهم و لا شك أن الضروري أقدم من الحاجي و الكمالي و سابق عليه و لأن الضروري أصل و الكمالي فرع ناشىء عنه فالبدو أصل المدن و الحضر، و سابق عليهما لأن أول مطالب الإنسان الضروري و لا ينتهي إلى الكمال و الترف إلا إذا كان الضروري حاصلاً فخشونة البداوة قبل رقة الحضارة و لهذا نجد التمدن غاية للبدوي يجري إليها و ينتهي بسعيه إلى مقترحه منها و متى حصل على الرياش الذي يحصل له به أحوال الترف و عوائده عاج إلى الدعة و أمكن نفسه إلى قياد المدينة و هكذا شأن القبائل المتبدية كلهم و الحضري لا يتشوف إلى أحوال البادية إلا لضرورة تدعوه إليها أو لتقصير عن أحوال أهل مدينته و مما يشهد لنا أن البدو أصل للحضر و متقدم عليه أنا إذا فتشنا أهل مصر من الأمصار و جدنا أولية أكثرهم من أهل البدو الذين بناحية ذلك المصر و عدلوا إلى الدعة و الترف الذي في الحضر و ذلك يدل على أن أحوال الحضارة ناشئة عن أحوال البداوة و أنها أصل لها فتفهمه. ثم إن كل واحد من البدو و الحضر متفاوت الأحوال من جنسه فرب حي أعظم من حي و قبيلة أعظم من قبيلة و مصر أوسع من مصر و مدينة أكثر عمراناً من مدينة فقد تبين أن وجود البدو متقدم على وجود المدن و الأمصار و أصل لها بما أن وجود المدن و الأمصار من عوائد الترف و الدعة التي هي متأخرة عن عوائد الضروري المعاشية و الله أعلم.

الفصل الرابع في أن أهل البدو أقرب إلى الخير من أهل الحضر
و سببه أن النفس إذا كانت على الفطرة الأولى كانت متهيئة لقبول ما يرد
عليها و ينطبع فيها من خير أو شر قال صلى الله عليه و سلم: كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه و بقدر ما سبق إليها من أحد الخلقين تبعد عن الآخر و يصعب عليها اكتسابه فصاحب الخير إذا سبقت إلى نفسه عوائد الخير و حصلت لها ملكته بعد عن الشر و صعب عليه طريقة و كذا صاحب الشر إذا سبقت إليه أيضاً عوائده و أهل الحضر لكثرة ما يعانون من فنون الملاذ و عوائد الترف و الإقبال على الدنيا و العكوف على شهواتهم منها و قد تلونت أنفسهم بكثير من مذمومات الخلق و الشر و بعدت عليهم طرق الخير و مسالكه بقدر ما حصل لهم من ذلك حتى لقد ذهبت عنهم مذاهب الحشمة في أحوالهم فتجد الكثير منهم يقذعون في أقوال الفحشاء في مجالسهم و بين كبرائهم و أهل محارمهم لا يصدهم عنه و ازع الحشمة لما أخذتهم به عوائد السوء في التظاهر بالفواحش قولاً و عملاً و أهل البدو و إن كانوا مقبلين على الدنيا مثلهم إلا أنه في المقدار الضروري في الترف و لا في شيء من أسباب الشهوات و اللذات و دواعيها فعوائدهم في معاملاتهم على نسبتها و ما يحصل فيهم من مذاهب السوء و مذمومات الخلق بالنسبة إلى أهل الحضر أقل بكثير فهم أقرب إلى الفطرة الأولى و أبعد عما ينطبع في النفس من سوء الملكات بكثرة العوائد المذمومة و قبحها فيسهل علاجهم عن علاج الحضر و هو ظاهر و قد يتوضح فيما بعد أن الحضارة هي نهاية العمران و خروجه إلى الفساد و نهاية الشر و البعد عن الخير فقد تبين أن أهل البدو أقرب إلى الخير من أهل الحضر و الله يحب المتقين و لا يعترض على ذلك بما ورد في صحيح البخاري من قول الحجاج لسلمة بن الأكوع و قد بلغة أنه خرج إلى سكنى البادية فقال له ارتددت على عقبيك تعربت فقال لا و لكن رسول الله صلى الله عليه و سلم أذن لي في البدو فاعلم أن الهجرة افترضت أول الإسلام على أهل مكة ليكونوا مع النبي صلى الله عليه و سلم حيث حل من المواطن ينصرونه و يظاهرونه على أمر و يحرسونه و لم تكن واجبة على الأعراب أهل البادية لأن أهل مكة يمسهم من عصبية النبي صلى الله عليه و سلم في المظاهرة و الحراسة مالا يمس غيرهم من بادية الأعراب و قد كان المهاجرون يستعيذون بالله من التعرب و هو سكنى البادية حيث لا تجب الهجرة و قال صلى الله عليه و سلم في حديث سعد بن أبي وقاص عند مرضه بمكة اللهم أمض لأصحابي هجرتهم و لا تردهم على أعقابهم و معناه أن يوفقهم لتلازمه المدينة و عدم التحول عنها فلا يرجعوا عن هجرتهم التي ابتدأوا بها و هو من باب الرجوع على العقب في السعي إلى وجه من الوجوه و قيل أن ذلك كان خاصاً بما قبل الفتح حين كانت الحاجة داعية إلى الهجرة لقلة المسلمين و أما بعد الفتح و حين كثر المسلمون و اعتزوا و تكفل الله لنبيه بالعصمة من الناس فإن الهجرة ساقطة حينئذ لقوله صلى الله عليه و سلم لا هجرة بعد الفتح و قيل سقط إنشاوها عمن يسلم بعد الفتح و قيل سقط وجوبها عمن أسلم و هاجر قبل الفتح و الكل مجمعون على أنها بعد الوفاة ساقطة لأن الصحابة افترقوا من يومئذ في الآفاق و انتشروا و لم يبق إلا فضل السكنى بالمدينة و هو هجرة فقول الحجاج لسلمة حين سكن البادية ارتددت على عقبيك تعربت نعى عليه في ترك السكنى بالمدينة بالإشارة إلى الدعاء المأثور الذي فقدناه و هو قوله لا تردهم على أعقابهم و قوله تعربت إشارة إلى أنة صار من الأعراب الذين لا يهاجرون و أجاب سلمة بإنكار ما ألزمه من الأمرين و أن النبي صلى الله عليه و سلم أذن له في البدر و يكون ذلك خاصاً به كشهادة خزيمة و عناق أبي بردة أو يكون الحجاج إنما نعى عليه ترك السكنى بالمدينة فقط لعلمه بسقوط الهجرة بعد الوفاة و أجابه سلمة بأن اغتنامه لإذن النبي صلى الله عليه و سلم أولى و أفضل فما آثره به و اختصه إلا لمعنى علمه فيه و على كل تقدير فليس دليلاً على مذمة البدو الذي عبر عنه بالتعرب لأن مشروعية الهجرة إنما كانت كما علمت لمظاهرة النبي صلى الله عليه و سلم و حراسته لا لمذمة البدو فليس في النعي على ترك هذا الواجب دليل على مذمة التعرب و الله سبحانه أعلم و به التوفيق.

الفصل الخامس في أن أهل البدو أقرب إلى الشجاعة من أهل الحضر
و السبب في ذلك أن أهل الحضر ألقوا جنوبهم على مهاد الراحة و الدعة و انغمسوا في النعيم و الترف و وكلوا أمرهم في المدافعة عن أموالهم و أنفسهم إلى واليهم و الحاكم الذي يسوسهم و الحامية التي تولت حراستهم و استناموا إلى الأسوار التي تحوطهم و الحرز الذي يحول دونهم فلا تهيجهم هيعة و لا ينفر لهم صيد فهم غازون آمنون، قد ألقوا السلاح و توالت على ذلك منهم الأجيال و تنزلوا منزلة النساء و الولدان الذين هم عيال على أبي مثواهم حتى صار ذلك خلقاً يتنزل منزلة الطبيعة و أهل البدو لتفردهم عن التجمع و توحشهم في الضواحي و بعدهم عن الحامية و انتباذهم عن الأسوار و الأبواب قائمون بالمدافعة عن أنفسهم لا يكلونها إلى سواهم و لا يثقون فيها بغيرهم فهم دائماً يحملون السلاح و يتلفتون عن كل جانب في الطرق و يتجافون عن الهجوع إلا غراراً في المجالس و على الرحال و فوق الأقتاب و يتوجسون للنبات و الهيعات و يتفردون في القفر و البيداء فدلين بيأسهم واثقين بأنفسهم قد صار لهم البأس خلقاً و الشجاعة سجنةً يرجعون إليه متى دعاهم داع أو استنفرهم صارخ و أهل الحضر مهما خالطوهم في البادية أو صاحبوهم في السفر عيال عليهم لا يملكون منهم شيئاً من أمر أنفسهم و ذلك مشاهد بالعيان حتى في معرفة النواحي و الجهات و موارد المياه و مشاريع السبل و سبب ذلك ما شرحناه و أصله أن الإنسان ابن عوائده و مألوفه لا ابن طبيعته و مزاجه فالذي ألفه في الأحوال حتى صار خلقاً و ملكة و عادة تنزل منزلة الطبيعة و الجبلة و اعتبر ذلك في الآدميين تجده كثيراً صحيحاً و الله يخلق ما يشاء.

الفصل السادس في أن معاناة أهل الحضر للأحكام مفسدة للبأس فيهم ذاهبة بالمنعة منهم
و ذلك أنه ليس كل أحد مالك أمر نفسه إذ الرؤساء و الأمراء المالكون لأمر الناس قليل بالنسبة إلى غيرهم فمن الغالب أن يكون الإنسان في ملكة غيره، و لا بد فإن كانت الملكة رفيقة و عادلة لا يعانى منها حكم و لا منع و صد كان الناس من تحت يدها مدلين بما في أنفسهم من شجاعة أو جبن واثقين بعدم الوازع حتى صار لهم الإذلال جبلة لا يعرفون سواها و أما إذا كانت الملكة و أحكامها بالقهر و السطوة و الإخافة فتكسر حينئذ من سورة بأسهم و تذهب المنعة عنهم لما يكون من التكاسل في النفوس المضطهدة كما نبينه و قد نهى عمر سعداً رضي الله عنهما عن مثلها لما أخذ زهرة بن حوبة سلب الجالنوس و كانت قيمته خمسة و سبعين ألفاً من الذهب و كان أتبع الجالنوس يوم القادسية فقتله و أخذ سلبه فانتزعه منه سعد و قال له هلا انتظرت في أتباعه إذني و كتب إلى عمر يستأذنه فكتب إليه عمر تعمد إلى مثل زهرة و قد صلى بما صلى به و بقى عليك ما بقى من حربك و تكسر فوقه و تفسد قلبه و أمضى له عمر سلبه و أما إذا كانت الأحكام بالعقاب فمذهبة للبأس بالكلية لأن وقوع العقاب به و لم يدافع عن نفسه يكسبه المذلة التي تكسر من سورة بأسه بلا شك و أما إذا كانت الأحكام تأديبية و تعليمية و أخذت من عند الصبا أثرت في ذلك بعض الشيء لمرباه على المخافة و الانقياد فلا يكون مدلاً ببأسه و لهذا نجد المتوحشين من العرب أهل البدو أشد بأساً ممن تأخذه الأحكام و نجد أيضاً الذين يعانون الأحكام و ملكتها من لدن مرباهم في التأديب و التعليم في الصنائع و العلوم و الديانات ينقص ذلك من بأسهم كثيراً و لا يكادون يدفعون عن أنفسهم عادية بوجه من الوجوه و هذا شأن طلبة العلم المنتحلين للقراءة و الأخذ عن المشايخ و الأيمة الممارسين للتعليم و التأديب في مجالس الوقار و الهيبة فيهم هذه الأحوال و ذهابها بالمنعة و البأس. و لا تستنكر ذلك بما وقع في الصحابة من أخذهم بأحكام الدين و الشريعة و لم ينقص ذلك من بأسهم بل كانوا أشد الناس بأساً لأن الشارع صلوات الله عليه لما أخذ المسلمون عنه دينهم كان وازعهم فيه من أنفسهم لما تلي عليهم من الترغيب و الترهيب و لم يكن بتعليم صناعي و لا تأديب تعليمي إنما هي أحكام الذين و آدابه المتلقاة نقلاً يأخذون أنفسهم بها بما رسخ فيهم من عقائد الإيمان و التصديق فلم تزل سورة بأسهم مستحكمة كما كانت و لم تخدشها أظفار التأديب و الحكم قال عمر رضي الله عنه ( من لم يؤدبه الشرع لا أدبه الله ) حرصاً على أن يكون الوازع لكل أحد من نفسه و يقيناً بأن الشارع أعلم بمصالح العباد و لما تناقص الدين في الناس و أخذوا بالأحكام الوازعة ثم صار الشرع علماً و صناعة يؤخز بالتعليم و التأديب و رجع الناس إلى الحضارة و خلق الانقياد إلى الأحكام نقصت يذلك سورة البأس فيهم فقد تبين أن الأحكام السلطانية و التعليمية مفسدة للبأس لأن الوازع فيها ذاتي و لهذا كانت هذه الأحكام السلطانية و التعليم مما تؤثر في أهل الحواضر في ضعف نفوسهم و حضد الشوكة منهم بمعاناتهم في وليدهم و كهولهم و البدو بمعزل من هذه المنزلة لبعدهم عن أحكام السلطان و التعليم و الآداب و لهذا قال محمد بن أبي زيد في كتابه في أحكام المعلمين و المتعلمين ( أنه لا ينبغي للمؤدب أن يضرب أحداً من الصبيان في التعليم فوق ثلاثة أسواط ) نقله عن شريح القاضي و احتج له بعضهم بما وقع في حديث بدء الوحي من شأن الغط و أنه كان ثلاث مرات و هو ضعيف و لا يصلح شأن الغط أن يكون دليلاً على ذلك لبعده عن التعليم المتعارف و الله الحكيم الخبير.

الفصل السابع في أن سكنى البدو لا تكون إلا للقبائل أهل العصبية
إعلم أن الله سبحانه ركب في طبائع البشر الخير و الشر كما قال تعالى و هديناه النجدين و قال فألهمها فجورها و تقواها و الشر أقرب الخلال إليه إذا أهمل في مرعى عوائده و لم يهذبه الاقتداء بالدين و على ذلك الجم الغفير إلا من وفقه الله و من أخلاق البشر فيهم الظلم و العدوان بعض على بعض فمن امتدت عينه إلى متاع أخيه فقل امتدت يده إلى أخذه إلا أن يصده وازع كما قال:
و الظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفة فلعلة لا يظلم
فأما المدن و الأمصار فعدوان بعضهم على بعض، تدفعه الحكام و الدولة بما قبضوا على أيدي من تحتهم من الكافة أن يمتد بعضهم على بعض أو يمدو عليه فهم مكبوحون بحكمة القهر و السلطان عن التظالم إلا إذا كان من الحاكم بنفسه و أما العدوان الذي من خالي المدينة فيدفعه سياج الأسوار عند الغفلة أو الغرة ليلاً أو العجز عن المقاومة نهاراً أو يدفعه ازدياد الحامية من أعوان الدولة عند الاستعداد و المقاومة و أما أحياء البدو فيزع بعضهم عن بعض مشائخهم و كبراؤهم بما وفر في نفوس الكافة لهم من الوقار و التجلة و أما حللهم فإنما يذود عنها من خارج حامية الحي من أنجادهم و فتيانهم المعروفين بالشجاعة فيهم و لا يصدق دفاعهم و ذيادهم إلا إذا كانوا عصبية و أهل نسب واحد لأنهم بذلك تشتد شوكتهم و يخشى جانبهم إذ نعرة كل أحد على نسبه و عصبيته أهم و ما جعل الله في قلوب عباده من الشفقة و النعرة على ذوي أرحامهم و قرباهم موجودة في الطبائع البشرية و بها يكون التعاضد و التناصر و تعظم رهبة العدو لهم و اعتبر ذلك فيما حكاة القرآن عن اخوة يوسف عليه السلام حين قالوا لأبيه لئن أكلة الذئب و نحن عصبة إلا إذاً لخاسرون و المعنى أنه لا يتوهم العدوان على أحد مع وجود العصبة له و أما المتفردون في أنسابهم فقل أن تصيب أحداً منهم نعرة على صاحبه فإذا أظلم الجو بالشر يوم الحرب تسلل كل واحد منهم يبغي النجاة لنفسه خيفة و استيحاشاً من التخاذل فلا يقدرون من أجل ذلك على سكنى القفر لما أنهم حينئذ طعمة لمن يلتهمهم من الأمم سواهم و إذا تبين ذلك في السكنى التي تحتاج للمدافعة و الحماية فبمثله يتبين لك في كل أمر يحمل الناس عليه من نبؤة أو إقامة ملك أو دعوة إذ بلوغ الغرض من ذلك كله إنما يتم بالقتال عليه لما في طبائع البشر من الاستعصاء و لا بد في القتال من العصبية كما ذكرناه آنفاً فاتخذه إماماً تقتدي به فيما نورده عليك بعد و الله الموفق للصواب.

الفصل الثامن في أن العصبية إنما تكون من الالتحام بالنسب أو ما في معناه
و ذلك أن صلة الرحم طبيعي في البشر إلا في الأقل و من صلتها النعرة على ذوي القربى و أهل الأرحام أن ينالهم ضيم أو تصيبهم هلكة فإن القريب يجد في نفسه غضاضة من ظلم قريبه أو العداء عليه و يود لو يحول بينه و بين ما يصله من المعاطب و المهالك نزعة طبيعية في البشر مذ كانوا فإذا كان النسب المتواصل بين المتناصرين قريباً جداً بحيث حصل به الاتحاد و الالتحام كانت الوصلة ظاهرة فاستدعت ذلك بمجردها و وضوحها و إذا بعد النسب بعض الشيء فربما تنوسي بعضها و يبقى منها شهر فتحمل على النصرة لذري نسبه بالأمر المشهور منه فراراً من الغضاضة التي يتوهمها في نفسه من ظلم من هو منسوب إليه بوجه و من هذا الباب الولاء و الحلف إذ نعرة كل أحد على أهل ولائه و حلفه للإلفة التي تلحق، النفس من اهتضام جارها أوقريبها أو نسيبها بوجه من وجوه النسب و ذلك لأجل اللحمة الحاصلة من الولاء مثل لحمة النسب أو قريباً منها و من هذا تفهم معنى قوله صلى الله عليه و سلم تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم بمعنى أن النسب إنما فائدته هذا الالتحام الذي يوجب صلة الأرحام حتى تقع المناصرة و النعرة و ما فوق ذلك مستغنى عنه إذ النسب أمر وهمي لا حقيقة له و نفعه إنما هو في هذه الوصلة و الالتحام فإذا كان ظاهراً واضحاً حمل النفوس على طبيعتها من النعرة كما قلناه وإذا كان إنما يستفاد من الخبر البعيد ضعف فيه الوهم و ذهبت فائدته و صار الشغل به مجاناً و من أعمال اللهو المنهي عنه و من هذا الاعتبار معنى قولهم النسب علم لا ينفع و جهالة لا تضر بمعنى أن النسب إذا خرج عن الوضوح و صار من قبيل العلوم ذهبت فائدة الوهم فيه عن النفس و انتفعت النعرة التي تحمل عليها العصبية فلا منفعة فيه حينئذ و الله سبحانه و تعالى أعلم.

الفصل التاسع في أن الصريح من النسب إنما يوحد للمتوحشين في القفر من العرب و من في معناهم
و ذلك لما اختصوا به من نكد العيش و شظف الأحوال و سوء المواطن حملتهم عليها الضرورة التي عينت لهم تلك القسمة و هي لما كان معاشهم من القيام على الإبل و نتاجها و رعايتها و الإبل تدعوهم إلى التوحش في القفر لرعيها من شجره و نتاجها في رماله كما تقدم و القفر مكان الشظف و السغب فصار لهم إلفاً و عادة و ربيت فيه أجيالهم حتى تمكنت خلقاً و جبلة فلا ينزع إليها أحد من الأمم أن يساهمهم في حالهم و لا يأنس بهم أحد من الأجيال بل لو وجد واحد منهم السبيل إلى الفرار من حاله و أمكنه ذلك لما تركه فيؤمن عليهم لأجل ذلك من اختلاط أنسابهم و فسادها و لا تزال بينهم محفوظة صريحة و اعتبر ذلك في مضر من قريش وكنانة و ثقيف و بني أسد و هديل و من جاورهم من خزاعة لما كانوا أهل شظف و مواطن غير ذات زرع و لا ضرع و بعدوا من أرياف الشام و العراق و معادن الأدم و الحبوب كيف كانت أنسابهم صريحة محفوظة لم يدخلها اختلاط و لا عرف فيها شوب. و أما العرب الذين كانوا بالتلول و في معادن الخصب للمراعي و العيش من حمير و كهلال مثل لخم و جذام و غسان و طي و قضاعة و إياد فاختلطت أنسابهم و تداخلت شعوبهم ففي كل واحد من بيوتهم من الخلاف عند الناس ما تعرف و إنما جاءهم ذلك من قبل العجم و مخالطتهم و هم لا يعتبرون المحافظة على النسب في بيوتهم و شعوبهم و إنما هذا للعرب فقط. قال عمر رضي الله تعالى عنه ( تعلموا النسب و لا تكونوا كنبط السواد ) إذا سئل أحدهم عن أصله قال من قرية كذا هذا أي ما لحق هؤلاء العرب أهل الأرياف من الازدحام مع الناس على البلد الطيب و المراعي الخصيبة فكثر الاختلاط و تداخلت الأنساب و قد كان وقع في صدر الإسلام الانتماء إلى المواطن فيقال جند قنسرين جند دمشق جند العواصم و انتقل ذلك إلى الأندلس و لم يكن لاطراح العرب أمر النسب و إنما كان لاختصاصهم بالمواطن بعد الفتح حتى عرفوا بها و صارت لهم علامة زائدة على النسب يتميزون بها عند أمرائهم ثم وقع الاختلاط في الحواضر مع العجم و غيرهم و فسدت الأنساب بالجملة و فقدت ثمرتها من العصبية فاطرحت ثم تلاشت القبائل و دثرت فدثرت العصبية بدثورها و بقي ذلك في البدو كما كان و الله وارث الأرض و من عليها.

الفصل العاشر في اختلاط الأنساب كيف يقع
إعلم أنه من البين أن بعضاً من أهل الأنساب يسقط إلى أهل نسب آخر بقرابة إليهم أو حلف أو ولاء أو لفرار من قومه بجناية أصابها فيدعي بنسب هؤلاء و يعد منهم في ثمراته من النعرة و القود و حمل الديات و سائر الأحوال و إذا و جدت ثمرات النسب فكأنه وجد لأنه لا معنى لكونه من هؤلاء و من هؤلاء إلا جريان أحكامهم و أحوالهم عليه و كأنه التحم بهم ثم أنه قد يتناسى النسب الأول بطول الزمان و يذهب أهل العليم به فيخفى على الأكثر و ما زالت الأنساب تسقط من شعب إلى شعب و يلتحم قوم بآخرين في الجاهلية و الإسلام و العرب و العجم. و انظر خلاف الناس في نسب أن المنذر و غيرهم يتبين لك شيء من ذلك و منه شأن بجيلة في عرفجة بن هرثمة لما ولاه عمر عليهم فسألوه الإعفاء منه و قالوا هو فينا لزيق أي دخيل و لصيق و طلبوا أن يولي عليهم جريراً فسأله عمر عن ذلك فقال عرفجة صدقوا يا أمير المؤمنين أنا رجل من الأزد أصبت دماً في قومي و لحقت بهم و انظر منه كيف اختلط عرفجة ببجيلة و لبس جلدتهم و دعي بنسبهم حتى ترشح للرئاسة عليهم لولا علم بعضهم بوشائجه و لو غفلوا عن ذلك و امتد الزمن لتنوسي بالجملة و عد منهم بكل وجه و مذهب فافهمه و اعتبر سر الله في خليقته و مثل هذا كثير لهذا العهد و لما قبله من العهود و الله الموفق للصواب بمنه و فضله و كرمه.

الفصل الحادي عشر في أن الرئاسة لا تزال في نصابها المخصوص من أهل المصبية
إعلم أن كل حي أو بطن من القبائل وإن كانوا عصابة واحدة لنسبهم العام ففيهم أيضاً عصبيات أخرى لأنساب خاصة هي أشد التحاماً من النسب العام لهم مثل عشير واحد أو أهل بيت واحد أو اخوة بني أب واحد لا مثل بني المم الأقربين أو الأبعدين فهؤلاء أقعد بنسبهم المخصوص و يشاركون من سواهم من العصائب في النسب العام و النعرة تقع من أهل نسبهم المخصوص و من أهل النسب العام إلا أنها في النسب الخاص أشد لقرب اللحمة و الرئاسة فيهم إنما تكون في نصاب واحد منهم و لا تكون في الكل و لما كانت الرئاسة إنما تكون بالغلب وجب أن تكون عصبية ذلك النصاب أقوى من سائر العصائب ليقع الغلب بها و تتم الرئاسة لأهلها فإذا وجب ذلك تعين أن الرئاسة عليهم لا تزال في ذلك النصاب المخصوص بأهل الغلب عليهم إذ لو خرجت عنهم و صارت في العصائب الأخرى النازلة عن عصابتهم في الغلب لما تفت لهم الرئاسة فلا تزال في ذلك النصاب متناقلة من فرع منهم إلى فرع و لا تنتقل إلا إلى الأقوى من فروعه لما قلناه من سر الغلب لأن الاجتماع و العصبية بمثابة المزاج للمتكون و المزاج في المتكون لا يصلح إذا تكافأت العناصر فلا بد من غلبة أحدها و إلا لم يتم التكوين فهذا هو سر اشتراط الغلب في العصبية و منه تعين استمرار الرئاسة في النصاب المخصوص بها كما قررناه.


الفصل الثاني عشر في أن الرئاسة على أهل المصبية لا تكون في غير نسبهم
و ذلك أن الرئاسة لا تكون إلا بالغلب و الغلب إنما يكون بالعصبية كما قدمناه فلا بد في الرئاسة على القوم أن تكون من عصبية غالبة لعصبياتهم واحدة واحدة لأن كل عصبية منهم إذا أحست بغلب عصبية الرئيس لهم أقروا بالإذعان و الاتباع و الساقط في نسبهم بالجملة لا تكون له عصبية فيهم بالنسب إنما هو ملصق لزيق و غاية التعصب له بالولاء و الحلف و ذلك لا يوجب له غلباً عليهم البتة و إذا فرضنا أنه قد التحم بهم و اختلط و تنوسي عهده الأول من الالتصاق و لبس جلدتهم و دعي بنسبهم فكيف له الرئاسة قبل هذا الالتحام أو لأحد من سلفه و الرئاسة على القوم إنما تكون متناقلة في منبت واحد تعين له الغلب بالعصبية فالأولية التي كانت لهذا الملصق قد عرف فيها التصاقه من غير شك و منعة ذلك الالتصاق من الرئاسة حينئذ فكيف تنوقلت عنه و هو على حال الإلصاق و الرئاسة لا بد و أن تكون موروثة عن مستحقها لما قلناه من التغلب بالعصبية و قد يتشوف كثير من الرؤساء على القبائل و العصائب إلى أنساب يلهجون بها إما لخصوصية فصيلة كانت في أهل ذلك النسب من شجاعة أو كرم أو ذكر كيف اتفق فينزعون إلى ذلك النسب و يتورطون بالدعوى في شعوبه و لا يعلمون ما يوقعون فيه أنفسهم من القدح في رئاستهم و الطعن في شرفهم و هذا كثير في الناس لهذا العهد فمن ذلك ما يدعيه زناتة جملة أنهم من العرب و منه ادعاء أولاد رباب المعروفين بالحجازيين من بني عامر أحد شعوب زغبة أنهم من بني سليم ثم من الشريد منهم لحق جدهم ببني عامر نجاراً يصنع الحرجان و أختلط بهم و التحم بنسبهم حتى رأس عليهم و يسمونه الحجازي. و من ذلك ادعاء بنى عبد القوي بن العباس بن توجين أنهم من ولد العباس بن عبد المطلب رغبة في هذا النسب الشريف و غلطا باسم العباس بن عطية أبى عبد القوي و لم يعلم دخول أحد من العباسين إلى المغرب لأنه كان منذ أول دولتيهم على دعوة العلويين أعدائهم من الأدارسة و العبيديين فكيف يكون من سبط العباس أحد من شيعة العلويين من و كذلك ما يدعيه أبناء زيان ملوك تلمسان من بني عبد الواحد أنهم من ولد القاسم بن إدريس ذهاباً إلى ما اشتهر في نسبهم أنهم من ولد القاسم فيقولون بلسانهم الزناتي أنت القاسم أي بنو القاسم ثم يدعون أن القاسم هذا هو القاسم بن إدريس أو القاسم بن محمد بن إدريس و لو كان ذلك صحيحاً فغاية القاسم هذا أنه فر من مكان سلطانه مستجيراً بهم فكيف تتم له الرئاسة عليهم في باديتهم و إنما هو غلط من قبل اسم القاسم فإنه كثير الوجود في الأدارسة فتوهموا أن قاسمهم من ذلك النسب و هم غير محتاجين لذلك فإن منالهم للملك و العزة إنما كان بعصبيتهم و لم يكن بادعاء علوية و لا عباسية و لا شيء من الأنساب و إنما يحمل على هذا المتقربون إلى الملوك بمنازعهم و مذاهبهم و يشتهر حتى يبعد عن الرد و لقد بلغني عن يغمراسن بن زيان مؤئل سلطانهم أنه لما قيل له ذلك أنكره و قال بلغته الزناتية ما معناه أما الدنيا و الملك فنلناهما بسيوفنا لا بهذا النسب و أما نفعهما في الآخرة فمردود إلى الله و أعرض عن التقرب إليه ما بذلك. و من هذا الباب ما يدعيه بنو سعد شيوخ بني يزيد من زغبة أنهم من ولد أبي بكر الصديق رضي الله عنه و بنو سلامة شيوخ بني يدللتن من توجين أنهم من سليم و الزواودة شيوخ رياح أنهم من أعقاب البرامكة و كذا بنو مهنا أمراء طيىء بالمشرق يدعون فيما بلغنا أنهم من أعقابهم و أمثال ذلك كثير و رئاستهم في قومهم مانعة من ادعاء هذه الأنساب كما ذكرناه بل تعين أن يكونوا من صريح ذلك النسب و أقوى عصبياته فاعتبره و اجتنب المغالط فيه و لا تجعل من هذا الباب إلحاق مهدي الموحدين بنسب العلوية فإن المهدي لم يكن من منبت الرئاسة في هرثمة قومه، و إنما رأس عليهم بعد اشتهاره بالعلم و الدين و دخول قبائل المصامدة في دعوته و كان مع ذلك من أهل المنابت المتوسطة فيهم و الله عالم الغيب و الشهادة.

الفصل الثالث عشر في أن البيت و الشرف بالأصالة و الحقيقة لأهل المصبية و يكون لغيرهم بالمجاز و الشبه
و ذلك أن الشرف و الحسب إنما هو بالخلال و معنى البيت أن يعد الرجل في آبائه أشرافا مذكورين يكون له بولادتهم إياه و الانتساب إليهم تجلة في أهل جلدته لما و قر في نفوسهم من تجلة سلفه و شرفهم بخلالهم و الناس في نشأتهم و تناسلهم معادن قال صلى الله عليه و سلم الناس معادن خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا فمعنى الحسب راجع إلى الأنساب و قد بينا أن ثمرة الأنساب و فائدتها إنما هي العصبية للنعرة و التناصر فحيث تكون العصبية مرهوبة و المنبت فيها زكي محمى تكون فائدة النسب أو صح و ثمرتها أقوى و تعديد الأشراف من الآباء زائد في فائدتها فيكون الحسب و الشرف أصليين في أهل العصبية لوجود ثمرة النسب و تفاوت البيوت في هذا الشرف بتفاوت العصبية لأنه سيرها و لا يكون للمنفردين من، أهل الأمصار بيت إلا بالمجاز و إن توهموه فزخرف من الدعاوى و إذا اعتبرت الحسب في أهل الأمصار و جدت معناه أن الرجل منهم يعد سلفاً في خلال الخير و مخالطة أهله مع الركون إلى العافية ما استطاع و هذا مغاير لسر العصبية التي هي ثمرة النسب و تعديد الآباء لكنه يطلق عليه حسب وبيت بالمجاز لعلامة ما فيه من تعديد الآباء المتعاقبين على طريقة واحدة من الخير و مسالكه و ليس حسباً بالحقيقة و على الإطلاق و أن ثبت إنه حقيقة فيهما بالوضع اللغوي فيكون من المشكك الذي هو في بعض مواضعه أولى و قد يكون للبيت شرف أول بالعصبية و الخلال ثم ينسلخون منه لذهابها بالحضارة كما تقدم و يختلطون بالغمار و يبقى في نفوسهم وسواس ذلك الحسب يعدون به أنفسهم من أشراف البيوتات أهل العصائب و ليسوا منها في شيء لذهاب العصبية جملة و كثير من أهل الأمصار الناشئين في بيوت العرب أو العجم لأول عهدهم موسوسون بذلك و أكثر ما رسخ الوسواس في ذلك لبني إسرائيل فإنه كان لهم بيت من أعظم بيوت العالم بالمنبت أولاً لما تعدد في سلفهم من الأنبياء و الرسل من لدن إبراهيم عليه السلام إلى موسى صاحب ملتهم و شريعتهم ثم بالعصبية ثانياً و ما أتاهم الله بها من الملك الذي وعدهم به ثم انسلخوا من ذلك أجمع و ضربت عليهم الذلة و المسكنة و كتب عليهم الجلاء في الأرض و انفردوا بالاستعباد للكفر آلافاً من السنين و ما زال هذا الوسواس مصاحباً لهم فتجدهم يقولون هذا هاروني هذا من نسل يوشع هذا من عقب كالب هذا من سبط يهوذا مع ذهاب العصبية و رسوخ الذل فيهم منذ أحقاب متطاولة و كثير من أهل الأمصار و غيرهم المنقطعين في أنسابهم عن العصبية يذهب إلى هذا الهذيان و قد غلط أبو الوليد بن رشد في هذا لما ذكر الحسب في كتاب الخطابة من تلخيص كتاب المعلم الأول و الحسب هو أن يكون من قوم قديم نزلهم بالمدينة و لم يتعرض لما ذكرناه و ليت شعري ما الذي ينفعه قدم نزلهم بالمدينة إنما لم تكن له عصابة يرهب بها جانبه و تحمل غيرهم على القبول منه فكأنه أطلق الحسب على تعديد الآباء فقط مع أن الخطابة إنما هي استمالة من تؤثر استمالته و هم أهل الحل و العقد و أما من لا قدرة له البتة فلا يلتفت إليه و لا يقدر على استمالة أحد و لا يستمال هو و أهل الأمصار من الحضر بهذه المثابة إلا أن ابن رشد ربا في جبل و بلد و لم يمارسوا العصبية و لا أنسوا أحوالهم فبقي في أمر البيت و الحسب على الأمر المشهور من تعديد الآباء على الإطلاق و لم يراجع فيه حقيقة العصبية و سرها في الخليقة و الله بكل شيء عليم.

الفصل الرابع عشر في أن البيت و الشرف للموالي و أهل الاصطناع إنما هو بمواليهم لا بأنسابهم
و ذلك أنا قدمنا أن الشرف بالأصالة و الحقيقة إنما هو لأهل العصبية فإذا اصطنع أهل العصبية قوماً من غير نسبهم أو استرقوا العبدان و الموالي و التحموا به كما قلناه ضرب معهم أولئك الموالي و المصطنعون بنسبهم في تلك العصبية و لبسوا جلدتها كأنها عصبتهم و حصل لهم من الانتظام في العصبية مساهمة في نسبها كما قال صلى الله تعالى عليه و سلم مولى القوم منهم و سواء كال مولى رق أو مولى اصطناع و حلف و ليس نسب ولادته بنافع له في تلك العصبية إذ هي مباينة لذلك النسب و عصبية ذلك النسب مفقودة لذهاب سرها عند التحامه بهذا النسب الآخر و فقدانه أهل عصبيتها فيصير من هؤلاء و يندرج فيهم فإذا تمددت له الآباء في هذه العصبية كان له بينهم شرف و بيت على نسبته في ولائهم و اصطناعهم لا يتجاوزه إلى شرفهم بل يكون أدون منهم على كل حال و هذا شأن الموالي في الدول و الخدمة كلهم فإنهم إنما يشرفون بالرسوخ في، ولاء الدولة و خدمتها و تعدد الآباء في ولايتها ألا ترى إلى موالي الأتراك في دولة بني العباس و إلى بني برمك من قبليهم و بني نوبخت كيف أدركوا البيت و الشرف و بنوا المجد و الأصالة بالرسوخ في ولاء الدولة فكان جعفر بن يحيى بن خالد من أعظم الناس بيتاً و شرفاً بالانتساب إلى ولاء الرشيد و قومه لا بالانتساب في الفرس و كذا موالي كل دولة و خدمها إنما يكون لهم البيت و الحسب بالرسوخ في ولائها و الأصالة في اصطناعها و يضمحل نسبه الأقدم من غير نسبها و يبقى ملغى لا عبرة به في أصالته و مجده و إنما المعتبر نسبة ولائه و اصطناعه إذ فيه سر العصبية التي بها البيت و الشرف فكان شرفه مشتقاً من شرف مواليه و بناؤه من بنائهم فلم ينفعه نسب ولادته و إنما بنى مجده نسب الولاء في الدولة و لحمة الاصطناع فيها و التربية و قد يكون نسبه الأول في لحمة عصبته و دولته فإذا ذهبت و صار ولأوه و اصطناعه في أخرى لم تنفعه الأولى لذهاب عصبيتها و انتفع بالثانية لوجودها و هذا حال بني برمك إذ المنقول أنهم كانوا أهل بيت في الفرس من سدنة بيوت النار عندهم و لما صاروا إلى ولاء بنى العباس لم يكن بالأول اعتبار و إنما كان شرفهم من حيث ولايتهم في الدولة و اصطناعهم و ما سوى هذا فوهم توسوس به النفوس الجامحة و لا حقيقة له و الوجود شاهد بما قلناه لم إن أكرمكم عند الله أتقاكم و الله و رسوله أعلم.

الفصل الخامس عشر في أن نهاية الحسب في العقب الواحد أربعة آباء
إعلم أن العالم العنصري بما فيه كائن فاسد لا من ذواته و لا من أحواله و المكونات من المعدن و النبات و جميع الحيوانات الإنسان و غيره كائنة فاسدة بالمعاينة و كذلك ما يعرض لها من الأحوال و خصوصا الإنسانية فالعلوم تنشأ ثم تدرس و كذا الصنائع و أمثالها و الحسب من العوارض التي تعرض للآدميين فهو كائن فاسد لا محالة و ليس يوجد لأحد من أهل الخليقة شرف متصل في آبائه من لدن آدم إليه إلا ما كان من ذلك للنبي صلى الله عليه و سلم كرامة به و حياطةً على السر فيه و أول كل شرف خارجية كما قيل، و هي الخروج عن الرئاسة و الشرف إلى الضعة و الابتذال و عدم الحسب و معناه أن كل شرف و حسب فعدمه سابق عليه شأن كل محدث ثم إن نهايته في أربعة آباء و ذلك أن باني المجد عالم يما عاناه في بنائه و محافظ على الخلال التي هي أسباب كونه و بقائه و ابنه من بعده مباشر لأبيه فقد سمع منه ذلك و أخذه عنه إلا أنه مقصر في ذلك تقصير السامع بالشيء عن المعاني له ثم إذا جاء الثالث كان حظه الاقتفاء و التقليد خاصة فقصر عن الثاني تقصير المقلد عن المجتهد ثم إذا جاء الرابع قصر عن طريقتيهم جملة و أضاع الخلال الحافظة لبناء مجدهم و احتقرها و توهم أن ذلك البنيان لم يكن بمعاناة و لا تكلف و إنما هو أمر وجب لهم منذ أول النشأة بمجرد انتسابهم و ليس بعصابة و لا بخلال لما يرى من التجلة بين الناس و لا يعلم كيف كان حدوثها و لا سببها و يتوهم أنه النسب فقط فيربأ بنفسه عن أهل عصيته و يرى الفصل له عليهم وثوقاً بما ربي فيه من استتباعهم و جهلاً بما أوجب ذلك الاستتباع من الخلال التي منها التواضع لهم و الأخذ بمجامع قلوبهم فيحتقرهم بذلك فينغصون عليه و يحتقرونه و يديلون منه سواه من أهل ذلك المنبت و من فروعه في غير ذلك العقب للإذعان لعصبيتهم كما قلناه بعد الوثوق بما يرضونه من خلاله فتنمو فروع هذا و تذوي فروع الأول و ينهدم بناء بيته هذا في الملوك و هكذا في بيوت القبائل و الأمراء و أهل العصبية أجمع ثم في بيوت أهل الأمصار إذا تحطمت بيوت نشأت بيوت أخرى من ذلك النسب إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد * وما ذلك على الله بعزيز و اشتراط الأربعة في الأحساب إنما هو في الغالب و إلا فقد يدثر البيت من دون الأربعة و يتلاشى و ينهدم و قد يتصل أمرها إلى الخامس و السادس إلا أنه في انحطاط و ذهاب و اعتبار الأربعة من قبل الأجيال الأربعة بأن و مباشر له و مقلد و هادم و هو أقل ما يمكن و قد اعتبرت الأربعة في نهاية الحسب في باب المدح و الثناء قال صلى الله عليه و سلم إنما الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم إشارة إلى أنه بلغ الغاية من المجد و في التوراة ما معناه أن الله ربك طائق غيور مطالب بذنوب الآباء للبنين على الثوالث و الروابع و هذا يدل على أن الأربعة الأعقاب غاية في الأنساب و الحسب. و في كتاب الأغاني في أخبار عزيف الغواني أن كسرى قال للنعمان هل في العرب قبيلة تتشرف على قبيلة قال نعم قال بأي شيء قال من كان له ثلاثة آباء متوالية رؤساء ثم تصل ذلك بكمال الرابع فالبيت من قبيلته و طلب ذلك فلم يجده إلا في آل حذيفة بن بدر الفزاري و هم بيت قيس و آل ذي الجدين بيت شيبان و آل الأشعث بن قيس من كندة و آل حاجب بن زرارة و آل قيس بن عاصم المنقري من بني تميم فجمع هؤلاء الرهط و من تبعهم من عشائرهم و أقعد لهم الحكام و العدول فقام حذيفة بن بدر ثم الأشعث بن قيس لقرابته من النعمان ثم بسطام بن قيس بن شيبان ثم حاجب بن زرارة ثم قيس بن عاصم و خطبوا و نثروا فقال كسرى كلهم سيد يصلح لموضعه و كانت هذه البيوتات هي المذكورة في العرب بعد بني هاشم و معهم بيت بني الذبيان من بنى الحرث بن كعب اليمني و هذا كله يدل على أن الأربعة الآباء نهاية في الحسب و الله أعلم.
رد مع اقتباس
  #6  
قديم 01-09-2012, 10:00 PM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,392
افتراضي

الفصل السادس عشر في أن الأمم الوحشية أقدر على التغلب ممن سواها
إعلم أنه لماكانت البداوة سبباً في الشجاعة كما قلناه في المقدمة الثالثة لا جرم كان هذا الجيلالوحشي أشد شجاعة من الجيل الآخر فهم أقدر على التغلب و انتزاع ما في أيدي سواهم منالأمم بل الجيل الواحد تختلف أحواله في ذلك باختلاف الأعصار فكلما نزلوا الأرياف وتفنقوا النعيم و ألفوا عوائد الخصب في المعاش و النعيم، نقص من شجاعتهم بمقدار مانقص من توحشهم و بداوتهم و اعتبر ذلك في الحيوانات العجم بدواجن الظباء و البقرالوحشية و الحفر إذا زال توحشها بمخالطة الآدميين و أخصب عيشها كيف يختلف حالها فيالانتهاض و الشدة حتى في مشيتها و حسن أديمها و كذلك الآدمي المتوحش إذا أنس و ألفو سببه أن تكون السجايا و الطباخ إنما هو عن المألوفات و العوائد و إذا كان الغلبللأمم إنما يكون بالإقدام و البسالة فمن كان من هذه الأجيال أعرق في البداوة و أكثرتوحشاً كان أقرب إلى التغلب على سواه إذا تقاربا في العدد و تكافآ في القوة العصبيةو انظر في ذلك شأن مضر مع من قبلهم من حمير و كهلان السابقين إلى الملك و النعيم ومع ربيعة المتوطنين أرياف العراق و نعيمه لما بقي مضر في بداوتهم و تقدمهم الآخرونإلى خصب العيش و غضارة النعيم كيف أرهفت البداوة حدهم في التغلب فغلبوهم على ما فيأيديهم و انتزعوه منهم و هذا حال بني طيء و بني عامر بن صعصعة و بني سليم بن منصورو من بعدهم لما تأخروا في باديتهم عن سائر قبائل مضر و اليمن و لم يتلبسوا بشيء مندنياهم كيف أمسكت حال البداوة عليهم قوة عصبيتهم و لم تخلفها مذاهب الترف حتى صارواأغلب على الأمر منهم و كذا كل حي من العرب يلي نعيماً و عيشاً خصباً دون الحي الآخرفإن الحي المتبدي، يكون أغلب له و أقدر عليه إذا تكافآ في القوة و العدد سنة اللهفي خلقه.
الفصل السابع عشر في أن الغاية التي تجري إليها العصبية هي الملك
و ذلك لأناقدمنا أن العصبية بها تكون الحماية و المدافعة و المطالبة و كل أمر يجتمع عليه وقدمنا أن الآدميين بالطبيعة الإنسانيه يحتاجون في كل اجتماع إلى وازع و حاكم يزعبعضهم عن بعض فلا بد أن يكون متغلباً عليهم بتلك العصبية و إلا لم تتم قدرته علىذلك و هذا التغلب هو الملك و هو أمر زائد على الرئاسة لأن الرئاسة إنما هي سؤدد وصاحبها متبوع و ليس له عليهم قهر في أحكامه و أما الملك فهو التغلب و الحكم بالقهرو صاحبها متبوع و ليس له عليهم قهر في أحكامه. و أما الملك فهو التغلب و الحكمبالقوة و صاحب العصبية إذا بلغ إلى رتبة طلب ما فوقها فإذا بلغ رتبة السؤدد والاتباع و وجد السبيل إلى التغلب و القهر لا يتركه لأنه مطلوب للنفس و لا يتماقتدارها عليه إلا بالعصبية التي يكون بها متبوعاً فالتغلب الملكي غاية للعصبية كمارأيت ثم أن القبيل الواحد و إن كانت فيه بيوتات مفترقة و عصبيات متعددة فلا بد منعصبية تكون أقوى من جميعها تغلبها و تستتبعها وتلتحم جميع العصبيات فيها و تصيركأنها عصبية واحدة كبرى و إلا وقع الافتراق المفضي إلى الاختلاف و التنافسولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرضثم إذا حصل التغلبلتلك العصبية على قومها طلبت بطبعها التغلب على أهل عصبية أخرى بعيدة عنها فإنكافأتها أو مانعتها كانوا أقتالاً و أنظاراً و لكل واحدة منهما التغلب على حوزتها وقومها شأن القبائل و الأمم المفترقة في العالم و إن غلبتها و استتبعتها التحمت بهاأيضاً و زادت قوة في التغلب إلى قوتها و طلبت غاية من التغلب و التحكم أعلى منالغاية الأولى و أبعد و هكذا دائماً حتى تكافىء بقوتها قوة الدولة في هرمها و لميكن لها ممانع من أولياء الدولة أهل العصبيات استولت عليها و انتزعت الأمر من يدهاو صار الملك أجمع لها و إن انتهت قوتها و لم يقارن ذلك هرم، الدولة و إنما قارنحاجتها إلى الاستظهار بأهل العصبيات انتظمتها الدولة في أوليائها تستظهر بها على مايعن من مقاصدها و ذلك ملك آخر دون الملك المستبد و هو كما وقع للترك في دولة بنيالعباس و لصنهاجة و زناتة مع كتامة و لبني حمدان مع ملوك الشيعة من العلوية والعباسية فقد ظهر أن الملك هو غاية العصبية و أنها إذا بلغت إلى غايتها حصل للقبيلةالملك إما بالاستبداد أو بالمظاهرة على حسب ما يسعه الوقت المقارن لذلك و إن عاقهاعن بلوغ الغاية عوائق كما نبينه وقفت في مقامها إلى أن يقضي الله بأمره.
الفصل الثامن عشر في أن من عوائق الملك حصول الترف و انغماس القبيل في النعيم
وسبب ذلك أن القبيل إذا غلبت بعصبيتها بعض الغلب استولت على النعمة بمقداره و شاركتأهل النعم و الخصب في نعمتهم و خصبهم و ضربت معهم في ذلك بسهم و حصة بمقدار غلبها واستظهار الدولة بها فإن كانت الدولة من القوة بحيث لا يطمع أحد في انتزاع أمرها ولا مشاركتها فيه أذعن ذلك القبيل لولايتها و القنوع بما يسوغون من نعمتها و يشركونفيه من جبايتها و لم تسم آمالهم إلى شيء من منازع الملك و لا أسبابه إنما همتهمالنعيم و الكسب و خصب العيش و السكون في ظل الدولة إلى الدعة و الراحة و الأخذبمذاهب الملك في المباني و الملابس و الاستكثار من ذلك و التأنق فيه بمقدار ما حصلمن الرياش و الترف و ما يدعو إليه من توابع ذلك فتذهب خشونة البداوة و تضعف العصبيةو البسالة و يتنعمون فيما أتاهم الله من البسطة و تنشأ بنوهم و أعقابهم في مثل ذلكمن الترفع عن خدمة أنفسهم و ولاية حاجاتهم و يستنكفون عن سائر الأمور الضرورية فيالعصبية حتى يصير ذلك خلقاً لهم و سجية فتنقص عصبيتهم و بسالتهم في الأجيال بعدهميتعاقبها إلى أن تنقرض العصبية فيأذنون بالانقراض و على قدر ترفهم و نعمتهم يكونإشرافهم على الفناء فضلاً عن الملك فإن عوارض الترف و الغرق في النعيم كاسر من سورةالمصبية التي بها التغلب و إذا انقرضت العصبية قصر القبيل عن المدافعة و الحمايةفضلاً عن المطالبة و التهمتهم الأمم سواهم فقد تبين أن الترف من عوائق الملك و اللهيؤتي ملكه من يشاء.
الفصل التاسع عشر في أن من عوائق الملك المذلة للقبيل و الانقياد إلى سواهم
وسبب ذلك أن المذلة و الانقياد كاسران لسورة العصبية و شدتها فإن انقيادهم و مذلتهمدليل على فقدانها فما رئموا للمذلة حتى عجزوا عن المدافعة فأولى أن يكون عاجزاً عنالمقاومة و المطالبة و اعتبر ذلك في بني إسرائيل لما دعاهم موسى عليه السلام إلىملك الشام و أخبرهم بأن الله قد كتب لهم ملكهم كيف عجزوا عن ذلك و قالوا:إن فيها قوماً جبارين و إنا لن ندخلها حتى يخرجوا منهاأي يخرجهمالله تعالى منها بضرب من قدرته غير عصبيتنا و تكون من معجزاتك يا موسى و لما عزمعليهم لجوا و ارتكبوا العصيان و قالوا له:اذهب أنت و ربك فقاتلاو ما ذلك إلا لما أنسوا من أنفسهم من العجز عن المقاومة و المطالبة كماتقتضيه الآية و ما يؤثر في تفسيرها و ذلك بما حصل فيهم من خلق الانقياد و ما رئموامن الذل للقبط أحقاباً حتى ذهبت العصبية منهم جملة مع أنهم لم يؤمنوا حق الإيمانبما أخبرهم به موسى من أن الشام لهم و أن العمالقة الذين كانوا بأريحا فريستهم بحكممن الله قدره لهم فأقصروا عن ذلك و عجزوا تعويلاً على ما في أنفسهم من العجز عنالمطالبة لما حصل لهم من خلق المذلة و طعنوا فيما أخبرهم به نبيهم من ذلك و ماأمرهم به فعاقبهم الله بالتيه و هو أنهم تاهوا في قفر من الأرض ما بين الشام و مصرأربعين سنة لم يأووا فيها العمران و لا نزلوا مصراً و لا خالطوا بشراً كما قصهالقرآن لغلظة العمالقة بالشام و القبط بمصر عليهم لعجزهم عن مقاومتهم كما زعموه ويظهر من مساق الآية و مفهومها أن حكمة ذلك التيه مقصودة و هي فناء الجيل الذينخرجوا من قبضة الذل و القهر و القوة و تخلقوا به و أفسدوا من عصبيتهم حتى نشأ فيذلك التيه جيل آخر عزيز لا يعرف الأحكام و القهر و لا يساهم بالمذلة فنشأت بذلكعصبية أخرى اقتدروا بها على المطالبة و التغلب و يظهر لك من ذلك أن الأربعين سنةأقل ما يأتي فيها فناء جيل و نشأة جيل آخر سبحان الحكيم العليم و في هذا أوضح دليلعلى شأن العصبية و أنها هي التي تكون بها المدافعة و المقاومة و الحماية و المطالبةو أن من فقدها عجز عن جميع ذلك كله و لحق بهذا الفصل فيما يوجب المذلة للقبيل شأنالمغارم و الضرائب فإن القبيل الغارمين ما أعطوا اليد من ذلك حتى رضوا بالمذلة فيهلأن في المغارم و الضرائب ضيماً و مذلة لا تحتملها النفوس الأبية إلا إذا استهونتهعن القتل و التلف و أن عصبيتهم حينئذ ضعيفة عن المدافعة و الحماية و من كانت عصبيتهلا تدفع عنه الضيم فكيف له بالمقاومة و المطالبة و قد حصل له الانقياد للذل والمذلة عائقة كما قدمناه. و منه قوله صلى الله عليه و سلم شأن الحرث لما رأى سكةالمحراث في بعض دور الأنصارما دخلت هذه دار قوم إلا دخلهم الذلفهو دليل صريح على أن المغرم موجب للذلة هذا إلى ما يصحب ذل المغارم من خلقالمكر و الخديعة بسبب ملكة القهر فإذا رأيت القبيل بالمغارم في ربقة من الذل فلاتطمعن لها بملك آخر الدهر و من هنا يتبين لك غلط من يزعم أن زناتة بالمغرب كانواشاوية يودون المغارم لمن كان على عهدهم من الملوك و هو غلط فاحش كما رأيت إذ لو وقعذلك لما استتب لهم ملك و لا تمت لهم دولة و انظر فيما قاله شهر براز ملك الباب لعبدالرحمن بن ربيعة لما أطل عليه و سأل شهر براز أمانه على أن يكون له فقال أنا اليوممنكم يدي في أيديكم و صعري معكم فمرحباً بكم و بارك الله لنا و لكم و جزيتنا إليكمالنصر لكم و القيام بما تحبون و لا تذلونا بالجزية فتوهونا لعدوكم فاعتبر هذا فيماقلناه فإنه كاف.
الفصل العشرون ـ في أن من علامات الملك التنافس في الخلال الحميدة و بالعكس
لماكان الملك طبيعياً للإنسان لما فيه من طبيعة الاجتماع كما قلناه و كان الإنسان أقربإلى خلال الخير من خلال الشر بأصل فطرته و قوته الناطقة العاقلة لأن الشر إنما جاءهمن قبل القوى الحيوانية التي فيه و إما من حيث هو إنسان فهو إلى الخير و خلاله أقربو الملك و السياسة إنما كانا له من حيث هو إنسان لأنهما للإنسان خاصة لا للحيوانفإذاً خلال الخير فيه هي التي تناسب السياسة و الملك إذ الخير هو المناسب للسياسة وقد ذكرنا أن المجد له أصل يبنى عليه و تتحقق به حقيقته و هو العصبية و العشير و فرعيتمم و جوده و يكمله و هو الخلال و إذا كان الملك غاية للعصبية فهو غاية لفروعها ومتمماتها و هي الخلال لأن وجوده دون متمماته كوجود شخص مقطوع الأعضاء أو ظهورهعرياناً بين الناس لم إذا كان وجود العصبية فقط من غير انتحال الخلال الحميدة نقصاًفي أهل البيوت و الأحساب فما ظنك بأهل الملك الذي هو غاية لكل مجد و نهاية لكل حسبو أيضاً فالسياسة و الملك هي كفالة للخلق و خلافة لله في العباد لتنفيذ أحكامه فيهمو أحكام الله في خلقه و عباده إنما هي بالخير و مراعاة المصالح كما تشهد به الشرائعو أحكام البشر إنما هي من الجهل و الشيطان بخلاف قدرة الله سبحانه و قدره فإنه فاعلللخير و الشر معاً و مقدرهما إذ لا فاعل سواه فمن حصلت له العصبية الكفيلة بالقدرةو أونست منه خلال الخير المناسبة لتنفيذ أحكام الله في خلقه فقد تهيأ للخلافة فيالعباد و كفالة الخلق و وجدت فيه الصلاحية لذلك. و هذا البرهان أوثق من أن أول وأصح مبنى فقد تبين أن خلال الخير شاهدة بوجود الملك لمن و جدت له العصبية فإذانفرنا في أهل العصبية و من حصل لهم من الغلب على كثير من النواحي و الأمم فوجدناهميتنافسون في الخير و خلاله من الكرم و العفو عن الزلات و الاحتمال من غير القادر والقرى للضيوف و حمل الكل و كسب المعدم و الصبر على المكاره و الوفاء بالعهد و بذلالأموال في صون الأعراض و تعظيم الشريعة و إجلال العلماء الحاملين لها و الوقوف عندما يحددونه لهم من فعل أو ترك و حسن الظن بهم و اعتقاد أهل الدين و التبرك بهم ورغبه الدعاء منهم و الحياء من الأكابر و المشايخ و توقيرهم و إجلالهم و الانقيادإلى الحق مع الداعي إليه و إنصاف المستضعفين من أنفسهم و التبدل في أحوالهم والانقياد للحق و التواضع للمسكين و استماع شهوى المستغيثين و التدين بالشرائع والعبادات و القيام عليها و على أسبابها و التجافي عن الغدر و المكر و الخديعة و نقضالعهد و أمثال ذلك علمنا أن هذه خلق السياسة قد حصلت لديهم و استحقوا بها أن يكونواساسة لمن تحت أيديهم أو على العموم و أنه خير ساقه الله تعالى إليهم مناسب لعصبيتهمو غلبهم و ليس ذلك سدىً فيهم و لا وجد عبثاً منهم و الملك أنسب المراتب و الخيراتلعصبيتهم فعلمنا بذلك أن الله تأذن لهم بالملك و ساقه إليهم و بالعكس من ذلك إذاتأذن الله بانقراض الملك من أمة حملتهم على ارتكاب المذمومات و انتحال الرذائل وسلوك طرقها فتفقد الفصائل السياسية منهم جملة و لا تزال في انتقاص إلى أن يخرجالملك من أيديهم و يتبدل به سواهم ليكون نعياً عليهم في سلب ما كان الله قد أتاهممن الملك و جعل في أيديهم من الخيروإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنامترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراو استقرىء ذلك و تتبعهفي الأمم السابقة تجد كثيراً مما قلناه و رسمناه و الله يخلق ما يشاء و يختار واعلم أن من خلال الكمال التي يتنافس فيها القبائل ألو العصبية و تكون شاهدة لهمبالملك إكرام العلماء و الصالحين و الأشراف و أهل الأحساب و أصناف التجار و الغرباءو إنزال الناس منازلهم و ذلك أن إكرام القبائل و أهل العصبيات و العشائر لمنيناهضهم في الشرف و يجاد بهم حبل العشير و العصبية و يشاركهم في اتساع الجاه أمرطبيعي يحمل عليه في الأكثر الرغبة في الجاه أو المخافة من قوم المكرم أو التماسمثلها منه و أما أمثال هؤلاء من ليس لهم عصبية تتقى و لا جاه يرتجى فيندفع الشك فيشأن كرامتهم و يتمحض القصد فيهم أنه للمجد و انتحال الكمال في الخلال و الإقبال علىالسياسة بالكلية لأن إكرام أقتاله و أمثاله ضروي في السياسة الخاصة بين قبيلة ونظرائه و إكرام الطارئين من أهل الفضائل و الخصوصيات كمال في السياسة العامةفالصالحون للدين و العلماء للجاءي إليهم في إقامة مراسم الشريعة و التجار للترغيبحتى تعم المنفعة بما في أيديهم و الغرباء من مكارم الأخلاق و إنزال الناس منازلهممن الإنصاف و هو من العدل فيعلم بوجود ذلك من أهل عصبيته انتماؤهم للسياسة العامة وهي الملك و أن الله قد تأذن بوجودها فيهم لوجوب علاماتها و لهذا كان أول ما يذهب منالقبيل أهل الملك إذا تأذن الله تعالى بسلب ملكهم و سلطانهم إكرام هذا الصنف منالخلق فإذا رأيته قد ذهب من أمة من الأمم فاعلم أن الفضائل قد أخذت في الذهاب عنهمو ارتقب زوال الملك منهمو إذا أراد الله بقوم سوءاً فلا مرد لهو الله تعالى أعلم.
الفصل الحادي و العشرون في أنه إذا كانت الأمة وحشية كان ملكها أوسع
و ذلكلأنهم أقدر على التغلب و الاستبداد كما قلناه و استعباد الطوائف لقدرتهم على محاربةالأمم سواهم و لأنهم يتنزلون من الأهلين منزلة المفترس من الحيوانات العجم و هؤلاءمثل العرب و زناتة و من في معناهم من الأكراد و التركمان و أهل اللثام من صنهاجة وأيضاً فهؤلاء المتوحشون ليس لهم وطن يرتافون منه و لا بلد يجنحون إليه فنسبةالأقطار و المواطن إليهم على السواء فلهذا لا يقتصرون على ملكة قطرهم و ما جاورهممن البلاد و لا يقفون عند حدود أفقهم بل يظفرون إلى الأقاليم البعيدة و يتغلبون علىالأمم النائية و انظر ما يحكى في ذلك عن عمر رضي الله عنه لما بويع و قام يحرضالناس على العراق فقال: إن الحجاز ليس لكم بدار إلا على النجعة و لا قوى عليه أهلهإلا بذلك أين القراء المهاجرون عن موعد الله سيروا في الأرض التي وعدكم الله فيالكتاب أن يورثكموها فقال:ليظهره على الدين كله و لو كرهالمشركونو اعتبر ذلك أيضاً بحال العرب السالفة من قبل مثل التبابعة و حميركيف كانوا يخطون من اليمن إلى المغرب مرة و إلى العراق و الهند أخرى و لم يكن ذلكلغير العرب من الأمم و كذا حال الملثمين من المغرب لما نزعوا إلى الملك طفروا منالإقليم الأول و مجالاتهم منه في جوار السودان إلى الإقليم الرابع و الخامس فيممالك الأندلس من غير واسطة و هذا شأن هذه الأمم الوحشية فلذلك تكون دولتهم أوسعنطاقاً و أبعد من مراكزها نهاية،و الله يقدر الليل و النهارو هو الواحد القهار لا شريك له.
الفصل الثاني و العشرون في أن الملك إذا ذهب عن بعض الشعوب من أمة فلا بد من عودهإلى شعب أخر منها ما دامت لهم العصبية
و السبب في ذلك أن الملك إنما حصل لهمبعد سورة الغلب و الإذعان لهم من سائر الأمم سواهم فيتعين منهم المباشرون للأمرالحاملون سرير الملك و لا يكون ذلك لجميعهم لما هم عليه من الكثرة التي يضيق عنهانطاق المزاحمة و الغيرة التي تجدع أنوف كثير من المتطاولين للرتبة فإذا تعين أولئكالقائمون بالدولة انغمسوا في النعيم و غرقوا في بحر الترف و الخصب و استعبدواإخوانهم من ذلك الجيل و أنفقوهم في وجوه الدولة و مذاهبها و بقي الذين بعدوا عنالأمر و كبحوا عن المشاركة في ظل من عز الدولة التي شاركوها بنسبهم و بمنجاة منالهرم لبعدهم عن الترف و أسبابه فإذا استولت على الأولين الأيام و أباد غضراءهمالهرم فطبختهم الدولة و أكل الدهر عليهم و شرب بما أرهف النعيم من حدهم و استقتغريزة الترف من مائهم و بلغوا غايتهم من طبيعة التمدن الإنساني و التغلب السياسيشعر.
كدود القز ينسج ثم يفنىبمركز نسجه في الانعكاس
كانت حينئذ عصبية الآخرين موفورة و سورة غلبهم من الكاسر محفوظة وشارتهم في الغلب معلومة فتسمو آمالهم إلى الملك الذي كانوا ممنوعين منه بالقوةالغالبة من جنس عصبيتهم و ترتفع المنازعة لما عرف من غلبهم فيستولون على الأمر ويصير إليهم و كذا يتفق فيهم مع من بقي أيضاً منتبذاً عنه من عشائر أمتهم فلا يزالالملك ملجئاً في الأمة إلى أن تنكسر سورة العصبية منها أو يفنى سائر عشائرها سنةالله في الحياة الدنياو الآخرة عند ربك للمتقينو اعتبرهذا بما وقع في العرب لما انقرض ملك عاد قام به من بعدهم إخوانهم من ثمود و منبعدهم إخوانهم العمالقة و من بعدهم إخوانهم من حمير أيضاً و من بعدهم إخوانهمالتبابعة من حمير أيضاً و من بعدهم الأذواء كذلك ثم جاءت الدولة لمضر و كذا الفرسلما انقرض أمر الكينية ملك من بعدهم الساسانية حتى تأذن الله بانقراضهم أجمعبالإسلام و كذا اليونانيون انقرض أمرهم و انتقل إلى إخوانهم من الروم و كذا البربربالمغرب لما انقرض أمر مغراوة و كتامة الملوك الأول منهم رجع إلى صنهاجة ثمالملثمين من بعدهم ثم من بقي من شعوب زناتة و هكذا سنة الله في عباده و خلقه و أصلهذا كله إنما يكون بالعصبية و هي متفاوتة في الأجيال و الملك يخلقه الترف و يذهبهكما سنذكره بعد فإذا انقرضت دولة فإنما يتناول الأمر منهم من له عصبية مشاركةلعصبيتهم التي عرف لها التسليم و الإنقياد و أونس منها الغلب، لجميع العصبيات وذلك إنما يوجد في النسب القريب منهم لأن تفاوت العصبية بحسب ما قرب من ذلك النسبالتي هي فيه أو بعد حتى إذا وقع في العالم تبديل كبير من تحويل ملة أو ذهاب عمرانأو ما شاء الله من قدرته فحينئذ يخرج عن ذلك الجيل إلى الجيل الذي يأذن الله بقيامهبذلك التبديل كما وقع لمضر حين غلبوا على الأمم و الدول و أخذوا الأمر من أيدي أهلالعالم بعد أن كانوا مكبوحين عنه أحقاباً.
الفصل الثالث و العشرون في أن المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيهو نحلته و سائر أحواله و عوائده
و السبب في ذلك أن النفس أبداً تعتقد الكمال فيمن غلبها و انقادت إليه إما لنظره بالكمال بما وقر عندها من تعظيمه أولما تغالط بهمن أن انقيادها ليس لغلب طبيعي إنما هو لكمال الغالب فإذا غالطت بذلك و اتصل لهااعتقاداً فانتحلت جميع مذاهب الغالب و تشبهت به و ذلك هو الاقتداء أو لما تراه والله أعلم من أن غلب الغالب لها ليس بعصبية و لا قوة بأس لم إنما هو بما انتحلته منالعوائد و المذاهب تغالط أيضاً بذلك عن الغلب و هذا راجع للأول و لذلك ترى المغلوبيتشبه أبداً بالغالب في ملبسه و مركبه و سلاحه في اتخاذها و أشكالها بل و في سائرأحواله و انظر ذلك في الأبناء مع آبائهم كيف تجدهم متشبهين بهم دائماً و ما ذلك إلالاعتقادهم الكمال فيهم و انظر إلى كل قطر من الأقطار كيف يغلب على أهله زي الحاميةو جند السلطان في الأكثر لأنهم الغالبون لهم حتى أنه إذا كانت أمة تجاور أخرى و لهاالغلب عليها فيسري إليهم من هذا التشبه و الاقتداء حظ كبير كما هو في الأندلس لهذاالعهد مع أمم الجلالقة فإنك تجدهم يتشبهون بهم في ملابسهم و شاراتهم و الكثير منعوائدهم و أحوالهم حتى في رسم التماثيل في الجدان و المصانع و البيوت حتى لقديستشعر من ذلك الناظر بعين الحكمة أنه من علامات الاستيلاء و الأمر لله. و تأمل فيهذا سر قولهم العامة على دين الملك فإنه من بابه إذ الملك غالب لمن تحت يده والرعية مقتدون به لاعتقاد الكمال فيه اعتقاد الأبناء بآبائهم و المتعلمين بمعلميهمو الله العليم الحكيم و به سبحانه و تعالى التوفيق.
الفصل الرابع و العشرون في أن الأمة إذا غلبت و صارت في ملك غيرها أسرع إليهاالفناء
و السبب في ذلك و الله أعلم ما يحصل في النفوس من التكاسل إذا ملك أمرهاعليها و صارت بالاستعباد آلة لسواها و عالة عليهم فيقصر الأمل و يضعف التناسل والاعتمار إنما هو عن جدة الأمل و ما يحدث عنه من النشاط في القوى الحيوانية فإذاذهب الأمل بالتكاسل و ذهب ما يدعو إليه من الأحوال و كانت العصبية ذاهبة بالغلبالحاصل عليهم تناقص عمرانهم و تلاشت مكاسبهم و مساعيهم وعجزوا عن المدافعة عنأنفسهم بما خضد الغلب من شوكتيهم فأصبحوا مغلبين لكل متغلب و طعمةً لكل آكل و سواءكانوا حصلوا على غايتهم من الملك أم لم يحصلوا. و فيه و الله أعلم سر آخر و هو أنالإنسان رئيس بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له و الرئيس إذا غلب على رئاسته وكبح عن غاية عزه تكاسل حتى عن شبع بطنه و ري كبده و هذا موجود في أخلاق الأناسي. ولقد يقال مثله في الحيوانات المفترسة و أنها لا تسافد إلا إذا كانت في ملكةالآدميين فلا يزال هذا القبيل المملوك عليه أمره في تناقص و اضمحلال إلى أن يأخذهمالفناء و البقاء لله وحده و اعتبر ذلك في أمة الفرس كيف كانت قد ملأت العالم كثرة ولما فنيت حاميتهم في أيام العرب بقي منهم كثير و أكثر من الكثير يقال إن سعداً أحصىما وراء المدائن فكالوا مائة ألف و سبعة و ثلاثين ألفاً منهم سبعة و ثلاثون ألفاًرب بيت و لما تحصلوا في ملكة الغرب و قبضة القهر لم يكن بقاؤهم إلا قليلاً و دثرواكأن لم يكونوا و لا تحسبن أن ذلك لظلم نزل بهم أو عدوان شملهم فملكة الإسلام فيالعدل ما علمت و إنما هي طبيعة في الإنسان إذا غلب على أمر و صار آلة لغيره و لهذاإنما تذعن للرق في الغالب أمم السودان لنقص الإنسانية فيهم و قربهم من عرضالحيوانات العجم كما قلناه أو من يرجو بانتظامه في ربقة الرق حصول رتبة أو إفادةمال أو عز كما يقع لممالك الترك بالمشرق و العلوج من الجلالقة و الإفرنجة فإنالعادة جارية باستخلاص الدولة لهم فلا يأنفون من الرق لما يأملونه من الجاه والرتبة باصطفاء الدولة و الله سبحانه و تعالى أعلم و به التوفيق.
الفصل الخامس و العشرون في أن العرب لا يتغلبون إلا على البسائط
و ذلك أنهمبطبيعة التوحش الذي فيهم أهل انتهاب و عيث ينتهبون ما قدروا عليه من غير مغالبة ولا ركوب خطر و يفرون إلى منتجعهم بالقفر و لا يذهبون إلى الزاحفة و المحاربة إلاإذا دفعوا بذلك عن أنفسهم فكل معقل أو مستصعب عليهم فهم تاركوه إلى ما يسهل عنه ولا يعرضون له و القبائل الممتنعة عليهم بأوعار الجبال بمنجاة من عيثهم و فسادهملأنهم لا يتسنمون، إليهم الهضاب و لا يركبون الصعاب و لا يحاولون الخطر و أماالبسائط فمتى اقتدروا عليها بفقدان الحامية و ضعف الدولة فهي نهب لهم و طمعة لآكلهميرددون عليها الغارة و النهب و الزحف لسهولتها عليهم إلى أن يصبح أهلها مغلبين لهمثم يتعاورونهم باختلاف الأيدي و انحراف السياسة إلى أن ينقرض عمرانهم و الله قادرعلى خلقه و هو الواحد القهار لا رب غيره.
الفصل السادس و العشرون في أن العرب إذا تغلبوا على أوطان أسرع إليها الخراب
والسبب في ذلك أنهم أمة وحشية باستحكام عوائد التوحش و أسبابه فيهم فصار لهم خلقاً وجبلةً و كان عندهم ملذوذاً لما فيه من الخروج عن ربقة الحكم و عدم الانقياد للسياسةو هذه الطبيعة منافية للعمران و مناقضة له فغاية الأحوال العادية كلها عندهم الرحلةو التغلب و ذلك مناقض للسكون الذي به العمران و فناف له فالحجر مثلاً إنما حاجتهمإليه لنصبه أثافي القدر فينقلونه من المباني و يخربونها عليه و يعدونه لذلك و الخشبأيضاً إنما حاجتهم إليه ليعمدوا به خيامهم و يتخذوا الأوتاد منه لبيوتهم فيخربونالسقف عليه لذلك فصارت طبيعة وجودهم منافية للبناء الذي هو أصل العمران هذا فيحالهم على العموم و أيضاً فطبيعتهم انتهاب ما في أيدي الناس و أن رزقهم في ظلالرماحهم و ليس عندهم في أخذ أموال الناس حد ينتهون إليه بل كلما امتدت أعينهم إلىمال أو متاع أو ماعون انتهبوه فإذا تم اقتدارهم على ذلك بالتغلب و الملك بطلتالسياسة في حفظ أموال الناس و خرب العمران و أيضاً فلأنهم يكلفون على أهل الأعمالمن الصنائع و الحرف أعمالهم لا يرون لها قيمة و لا قسطاً من الأجر و الثمن والأعمال كما سنذكره هي أصل المكاسب و حقيقتها و إذا فسدت الأعمال و صارت مجاناًضعفت الآمال في المكاسب و انقبضت الأيدي عن العمل و ابذعر الساكن و فسد العمران وأيضاً فإنهم ليست لهم عناية بالأحكام و زجر الناس عن المفاسد و دفاع بعضهم عن بعضإنما همهم ما يأخذونه من أموال الناس نهباً أو غرامة فإذا توصلوا إلى ذلك و حصلواعليه أعرضوا عما بعده من تسديد أحوالهم و النظر في مصالحهم و قهر بعضهم عن أغراضالمفاسد و ربما فرضوا العقوبات في الأموال حرصاً على تحصيل الفائدة و الجباية والاستكثار منها كما هو شأنهم و ذلك ليس بمغن في دفع المفاسد و زجر المتعرض لها بليكون ذلك زائداً فيها لاستسهال الغرم في جانب حصول الغرض فتبقى الرعايا في ملكتهمكأنها فوضى دون حكم و الفوضى مهلكة للبشر مفسدة للعمران بما ذكرناه من أن وجودالملك خاصة طبيعية للإنسان لا يستقيم وجودهم و اجتماعهم إلا بها و تقدم ذلك أولالفصل و أيضاً فهم متنافسون في الرئاسة و قل أن يسلم أحد منهم الأمر لغيره و لو كانأباه أو أخاه أو كبير عشيرته إلا في الأقل و على كره من أجل الحياء فيتعدد الحكاممنهم و الأمراء و تختلف الأيدي على الرعية في الجباية و الأحكام فيفسد العمران وينتقض. قال الأعرابي الوافد على عبد الملك لما سأله عن الحجاج و أراد الثناء عليهعنده بحسن السياسة و العمران فقال: تركته يظلم و حده و انظر إلى ما ملكوه و تغلبواعليه من الأوطان من لدن الخليقة كيف تقوض عمرانه و اقفر ساكنه و بدلت الأرض فيه غيرالأرض فاليمن قرارهم خراب إلا قليلاً من الأمصار و عراق العرب كذلك قد خرب عمرانهالذي كان للفرس أجمع و الشام لهذا العهد كذلك و أفريقية و المغرب لما جاز إليها بنوهلال و بنو سليم منذ أول المائة الخامسة و تمرسوا بها لثلاثمائة و خمسين من السنينقد لحق بها و عادت بسائطه خراباً كلها بعد أن كان ما بين السودان و البحر الروميكله عمراناً تشهد بذلك آثار العمران فيه من المعالم و تماثيل البناء و شواهد القرىو المدر و الله يرث الأرض و من عليها و هو خير الوارثين.
الفصل السابع و العشرون في أن العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية من نبوة أوولاية أو أثر عظيم من الدين على الجملة
و السبب في ذلك أنهم لخلق التوحش الذيفيهم أصعب الأمم انقياداً بعضهم لبعض للغلظة و الأنفة و بعد الهمة و المنافسة فيالرئاسة فقلما تجتمع أهواؤهم فإذا كان الدين بالنبؤة أو الولاية كان الوازع لهم منأنفسهم و ذهب خلق الكبر و المنافسة منهم فسهل انقيادهم و اجتماعهم و ذلك بما يشملهممن الدين المذهب للغلظة و الألفة الوازع عن التحاسد و التنافس فإذا كان فيهم النبيأو الولي الذي يبعثهم على القيام بأمر الله يذهب عنهم مذمومات الأخلاق و يأخذهمبمحمودها و يؤلف كلمتهم لإظهار الحق تم اجتماعهم و حصل لهم التغلب و الملك و هم معذلك أسرع الناس قبولاً للحق و الهدى لسلامة طباعهم من عوج الملكات و براءتها منذميم الأخلاق إلا ما كان من خلق التوحش القريب المعاناة المتهيء لقبول الخير ببقائهعلى الفطرة الأولى و بعده عما ينطبع في النفوس من قبيح العوائد و سوء الملكات فإنكل مولود يولد على الفطرة كما ورد في الحديث و قد تقدم.
الفصل الثامن و العشرون في أن العرب أبعد الأمم عن سياسة الملك
و السبب في ذلكأنهم أكثر بداوة من سائر الأمم و أبعد مجالاً في القفر و أغنى عن حاجات التلول وحبوبها لاعتيادهم لشظف و خشونة العيش فاستغنوا عن غيرهم فصعب انقياد بعضهم لبعضلإفلاهم ذلك و للتوحش و رئيسهم محتاج إليهم غالباً للعصبية التي بها المدافعة فكانمضطراً إلى إحسان ملكتهم و ترك مراغمتهم لئلا يختل عليه شأن عصبيته فيكون فيهاهلاكه و هلاكهم و سياسة الملك و السلطان تقتضي أن يكون السائس وازعاً بالقهر و إلالم تستقم سياسته و أيضاً فإن من طبيعتهم كما قدمناه أخذ ما في أيدي الناس خاصة والتجافي عما سوى ذلك من الأحكام بينهم و دفاع بعضهم عن بعض فإذا ملكوا أمة من الأممجعلوا غاية ملكهم الانتفاع بأخذ ما في أيديهم و تركوا ما سوى ذلك من الأحكام بينهمو ربما جعلوا العقوبات على المفاسد في الأموال حرصاً على تكثير الجبايات و تحصيلالفوائد فلا يكون ذلك وازعاً و ربما يكون باعثاً بحسب الأغراض الباعثة على المفاسدو استهانة ما يعطي من ماله في جانب غرضه فتنمو المفاسد بذلك و يقع تخريب العمرانفتبقى تلك الأمة كأنها فوضى مستطيلة أيدي بعضها على بعض فلا يستقيم لها عمران وتخرب سريعاً شأن الفوضى كما قدمناه فبعدت طباع العرب لذلك كله عن سياسة الملك وإنما يصيرون إليها بعد انقلاب طباعهم و تبدلها بصبغة دينية تمحو ذلك منهم و تجعلالوازع لهم من أنفسهم و تحملهم على دفاع الناس بعضهم عن بعض كما ذكرناه و اعتبر ذلكبدولتهم في الملة لما شيد لهم الدين أمر السياسة بالشريعة و أحكامها المراعيةلمصالح العمران ظاهراً و باطناً و تتابع فيها الخلفاء عظم حينئذ ملكهم و قويسلطانهم. كان رستم إذا رأى المسلمين يجتمعون للصلاة يقول أكل عمر كبدي يعلم الكلابالآداب ثم إنهم بعد ذلك انقطعت منهم عن الدولة أجيال نبذوا الدين فنسوا السياسة ورجعوا إلى قفرهم و جهلوا شأن عصبيتهم مع أهل الدولة ببعدهم في الانقياد و إعطاءالنصفة فتوحشوا كما كانوا و لم يبق لهم من اسم الملك إلا أنهم من جنس الخلفاء و منجيلهم و لما ذهب أمر الخلافة و امحي رسمها انقطع الأمر جملة من أيديهم و غلب عليهمالعجم دونهم و أقاموا في بادية قفارهم لا يعرفون الملك و لا سياسته بل قد يجهلالكثير منهم أنهم قد كان لهم ملك في القديم و ما كان في القديم لأحد من الأمم فيالخليقة ما كان لأجيالهم من الملك و دول عاد و ثمود و العمالقة و حمير و التبابعةشاهدة بذلك ثم دولة مضر في الإسلام بني أمية و بني العباس لكن بعد عهدهم بالسياسةلما نسوا الدين فرجعوا إلى أصلهم من البداوة و قد يحصل لهم في بعض الأحيان غلب علىالدول المستضعفة كما في المغرب لهذا العهد فلا يكون ماله و غايته إلا تخريب مايستولون عليه من العمران كما قدمناه و الله يؤتي ملكه من يشاء.
الفصل التاسع و العشرون في أن البوادي من القبائل و العصائب مغلوبون لأهل الأمصار
قد تقدم لنا أن عمران البادية ناقص عن عمران الحواضر و الأمصار لأن الأمورالضرورية في العمران ليس كلها موجودةً لأهل البدو. و إنما توجد لديهم في مواطنهمأمور الفلح و موادها معدومة و معظمها الصنائع فلا توجد لديهم في الكلية من نجار وخياط و حداد و أمثال ذلك مما يقيم لهم ضروريات معاشهم في الفلح و غيره و كذاالدنانير و الدراهم مفقودة لديهم و إنما بأيديهم أعواضها من مغل الزراعة و أعيانالحيوان أو فضلاته ألباناً و أوباراً و أشعاراً و إهاباً مما يحتاج إليه أهلالأمصار فيعوضونهم عنه بالدنانير و الدراهم إلا أن حاجتهم إلى الأمصار في الضروري وحاجة أهل الأمصار إليهم في الحاجي و الكمالي فهم محتاجون إلى الأمصار بطبيعة وجودهمفما داموا في البادية و لم يحصل لهم ملك و لا استيلاء على الأمصار فهم محتاجون إلىأهلها و يتصرفون في مصالحهم و طاعتهم متى دعوهم إلى ذلك و طالبوهم به و أن كان فيالمصر ملك كان خضوعهم و طاعتهم لغلب الملك و أن لم يكن في المصر ملك فلا بد فيه منرئاسة و نوع استبداد من بعض أهله على الباقين و إلا انتقض عمرانه و ذلك الرئيسيحملهم على طاعته و السعي في مصالحه إما طوعاً ببذل المال لهم ثم يبدي لهم مايحتاجون إليه من الضروريات في مصره فيستقيم عمرانهمم و إما كرهاً إن تمت قدرته علىذلك و لو بالتغريب بينهم حتى يحصل له جانب منهم يغالب به الباقين فيضطر الباقون إلىطاعته بما يتوقعون لذلك من فساد عمرانهم و ربما لا يسعهم مفارقة تلك النواحي إلىجهات أخرى لأن كل الجهات معمور بالبدو الذين غلبوا عليها و منعوها من غيرها فلا يجدهؤلاء ملجأ إلا طاعة المصر فهم بالضرورة مغلوبون لأهل الأمصار و الله قاهر فوقعباده و هو الواحد الأحد القهار.
الباب الثالث من الكتاب الأول في الدول العامة و الملك و الخلافة و المراتبالسلطانية و ما يعرض في ذلك كله من الأحوال و فيه قواعد و متممات ـ الفصل الأول فيأن الملك و الدولة العامة إنما يحصلان بالقبيل و العصبية
و ذلك أنا قررنا فيالفصل الأول أن المغالبة و الممانعة إنما تكون بالعصبية لما فيها من النعرة والتذامر و استماتة كل واحد منهم دون صاحبه. ثم أن الملك منصب شريف ملذوذ يشتمل علىجميع الخيرات الدنيوية و الشهوات البدنية و الملاذ النفسانية فيقع فيه التنافسغالباً و قل أن يسلمه أحد لصاحبه إلا إذا غلب عليه فتقع المنازعة و تفضي إلى الحربو القتال و المغالبة و شيء منها لا يقع إلا بالعصبية كما ذكرناه آنفاً و هذا الأمربعيد عن أفهام الجمهور بالجملة و متناسون له لأنهم نسوا عهد تمهيد الدولة منذ أولهاو طال أمد مرباهم في الحضارة و تعاقبهم فيها جيلاً بعد جيل فلا يعرفون ما فعل اللهأول الدولة إنما يدركون أصحاب الدولة و قد استحكمت صبغتهم و وقع التسليم لهم والاستغناء عن العصبية في تمهيد أمرهم و لا يعرفون كيف كان الأمر من أوله و ما لقيأولهم من المتاعب دونه و خصوصاً أهل الأندلس في نسيان هذه العصبية و أثرها لطولالأمد و استغنائهم في الغالب عن قوة العصبية بما تلاشى وطنهم و خلا من العصائب والله قادر على ما يشاء و هو بكل شيء عليم و هو حسبنا و نعم ال****.
الفصل الثاني في أنه إذا استقرت الدولة و تمهدت فقد تستغني عن العصبية
و السببفي ذلك أن الدول العامة في أولها يصعب على النفوس الانقياد لها إلا بقوة قوية منالغلب للغرابة و أن الناس لم يألفوا ملكها و لا اعتادوه فإذا استقرت الرئاسة في أهلالنصاب المخصوص بالملك في الدولة و توارثوه واحداً بعد آخر في أعقاب كثيرين و دولمتعاقبة نسيت النفوس شأن الأولية و استحكمت لأهل ذلك النصاب صبغة الرئاسة و رسخ فيالعقائد دين الانقياد لهم و التسليم و قاتل الناس معهم على أمرهم قتالهم علىالعقائد الإيمانية فلم يحتاجوا حينئذ في أمرهم إلى كبير عصابة بل كأن طاعتها كتابمن الله لا يبدل و لا يعلم خلافه و لأمر ما يوضع الكلام في الإمامة آخر الكلام علىالعقائد الإيمانية كأنه من جملة عقودها و يكون استظهارهم حينئذ على سلطانهم ودولتهم المخصوصة إما بالموالي و المصطنعين الذين نشأوا في ظل العصبية و غيرها و إمابالعصائب الخارجين عن نسبها الداخلين في ولايتها و مثل هذا و قع لبني العباس فإنعصبية العرب كانت فسدت لعهد دولة المعتصم و ابنه الواثق و استظهارهم بعد ذلك إنماكان بالموالي من العجم و الترك و الديلم و السلجوقية و غيرهم ثم تغلب العجمالأولياء على النواحي و تقلص ظل الدولة فلم تكن تعدو أعمال بغداد حتى زحف إليهاالديلم و ملكوها و صار الخلائق في حكمهم ثم انقرض أمرهم و ملك السلجوقية من بعدهمفصاروا في حكمهم ثم انقرض أمرهم و زحف آخر التتار فقتلوا الخليفة و محوا رسم الدولةو كذا صنهانجة بالمغرب فسدت عصبيتهم منذ المائة الخامسة أو ما قبلها و استمرت لهمالدولة متقلصة الظل بالمهدية و بجاية و القلعة و سائر ثغور أفريقية و ربما انتزىبتلك الثغور من نازعهم الملك و اعتصم فيها و السلطان و الملك مع ذلك مسلم لهم حتىتأذن الله بانقراض الدولة و جاء الموحدون بقوة قوية من العصبية في المصامدة فمحواآثارهم و كذا دولة بني أمية بالأندلس لما فسدت عصبيتها من العرب استولى ملوكالطوائف على أمرها و اقتسموا خطتها و تنافسوا بينهم و توزعوا ممالك الدولة و انتزىكل واحد منهم على ما كان في ولايته و شمخ بأنفه و بلغهم شأن العجم مع الدولةالعباسية فتلقبوا بألقاب الملك و لبسوا شارته و أمنوا ممن ينقص ذلك عليهم أو يغيرهلأن الأندلس ليس بدار عصائب و لا قبائل كما سنذكره و استمر لهم ذلك كما قال ابن شرف.
مما يزهدني في أرض أندلس أسماء معتصم فيها و معتضد
ألقاب مملكة في غير موضعها كالهر يحكي انتفاخاً صورةالأسد
فاستظهروا على أمرهم بالموالي و المصطنعين و الطراء على الأندلسمن أهل العدوة من قبائل البربر و زناتة و غيرهم اقتداءً بالدولة في آخر أمرها فيالاستظهار بهم حين ضعفت عصبية العرب و استبد ا بن أ بي عامر على الدولة فكان لهمدول عظيمة استبدت كل واحدة منها بجانب من الأندلس و حظ كبير من الملك على نسبةالدولة التي اقتسموها و لم يزالوا في سلطانهم ذلك حتى جاز إليهم البجر المرابطونأهل العصبية القوية من لمتونة فاستبدلوا بهم و أزالوهم عن مراكزهم و محوا آثارهم ولم يقتدروا على مدافعتهم لفقدان العصبية لديهم فبهذه العصبية يكون تمهيد الدولة وحمايتها من أولها و قد ظن الطرطوشي أن حامية الدول بإطلاق هم الجند أهل العطاءالمفروض مع الآهلة ذكر ذلك في كتابه الذي سماه سراج الملوك و كلامه لا يتناول تأسيسالدول العامة في أولها و إنما هو مخصوص بالدول الأخيرة بعد التمهيد و استقرار الملكفي النصاب و استحكام الصبغة لأهله فالرجل إنما أدرك الدولة عند هرمها و خلق جدتها ورجوعها إلى الاستظهار بالموالي و الصنائع ثم إلى المستخدمين من ورائهم بالأجر علىالمدافعة فإنه إنما أدرك دول الطوائف و ذلك عند اختلال بنى أمية و انقراض عصبتها منالعرب و استبداد كل أمير بقطره و كان في إيالة المستعين بن هود و ابنه المظفر أهلسرقسطة و لم يكن بقي لهم من أمر العصبية شيء لاستيلاء الترف على العرب منذ ثلاثمائةمن السنين و هلاكهم و لم ير إلا سلطاناً مستبداً بالملك عن عشائره قد استحكمت لهصبغة الاستبداد منذ عهد الدولة و بقية العصبية فهو لذلك لا ينازع فيه و يستعين علىأمره بالأجراء من المرتزقة فأطلق الطرطوشي القول في ذلك لم يتفطن لكيفية الأمر منذأول الدولة و إنه لا يتم إلا لأهل العصبية فتفطن أنت له و افهم سر الله فيه و اللهيؤتي ملكه من يشاء.
الفصل الثالث: في أنه قد يحدث لبعض أهل النصاب الملكي دولة تستغني عن العصبية
و ذلك أنه إذا كان لعصبية غلب كثير على الأمم و الأجيال و في نفوس القائمينبأمره من أهل القاصية إذعان لهم و انقياد فإذا نزع إليهم هذا الخارج و انتبذ عن مقرملكه و منبت عزه اشتملوا عليه و قاموا بأمره و ظاهروه على شأنه و عنوا بتمهيد دولتهيرجون استقراره في نصابه و تناوله الأمر من يد أعياصه و جزاءه لهم على مظاهرتهباصطفائهم لرتب الملك و خططه من وزارة أو قيادة أو ولاية ثغر و لا يطمعون فيمشاركته في شيء من سلطانه تسليماً لعصبيته و انقياداً لما استحكم له و لقومه منصبغة الغلب في العالم و عقيدة إيمانية استقرت في الإذعان لهم فلو راموها معه أودونه لزلزلت الأرض زلزالها و هذا كما وقع للأدارسة بالمغرب الأقصى و العبيديينبأفريقية و مصر لما انتبذ الطالبيون من المشرق إلى القاصية و ابتعدوا عن مقرالخلافة و سموا إلى طلبها من أيدي بنى العباس بعد أن استحكمت الصبغة لبني عبد منافلبني أمية أولا ثم لبني هاشم من بعدهم فخرجوا بالقاصية من المغرب و دعوا لأنفسهم وقام بأمرهم البرابرة مرةً بعد أخرى فأوربة و مغيلة للأدارسة و كتامة و صنهاجة وهوارة للعبيديين فشيدوا دولتهم و مهدوا بعصائبهم أمرهم و اقتطعوا من ممالكالعباسيين المغرب كله ثم أفريقية و لم يزل ظل الدولة يتقلص و ظل العبيديين يمتد إلىأن ملكوا مصر و الشام والحجاز و قاسموهم في الممالك الإسلامية شق الأبلمة و هؤلاءالبرابرة القائمون بالدولة مع ذلك كلهم مسلمون للعبيديين أمرهم مذعنون لملكهم وإنما كانوا يتنافسون في الرتبة عندهم خاصة تسليماً لما حصل من صبغة الملك لبني هاشمو لما استحكم من الغلب لقريش و مضر على سائر الأمم فلم يزل الملك في أعقابهم إلى أنانقرضت دولة العرب بأسرها و الله يحكم لا معقب لحكمه.
رد مع اقتباس
  #7  
قديم 01-09-2012, 10:02 PM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,392
افتراضي

الفصل الرابع: في أن الدولة العامة الاستيلاء العظيمة الملك أصلها الدين إما من نبوة أو دعوة حق
و ذلك لأن الملك إنما يحصل بالتغلب و التغلب إنما يكون بالعصبية و اتفاق الأهواء على المطالبة و جمع القلوب و تأليفها إنما يكون بمعونة من الله في إقامة دينه قال تعالى: لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم و سره أن القلوب إذا تداعت إلى أهواء الباطل و الميل إلى الدنيا حصل التنافس و فشا الخلاف و إذا انصرفت إلى الحق و رفضت الدنيا و الباطل و أقبلت على الله اتحدت و جهتها فذهب التنافس و قل الخلاف و حسن التعاون و التعاضد و اتسع نطاق الكلمة لذلك فعظمت الدولة كما نبين لك بعد أن شاء الله سبحانه و تعالى و به التوفيق لا رب سواه.

الفصل الخامس في أن الدعوة الدينية تزيد الدولة في أصلها قوة على قوة العصبية التي كانت لها من عددها
و السبب في ذلك كما قدمناه أن الصبغة الدينية تذهب بالتنافس و التحاسد الذي في أهل العصبية و تفرد الوجهة إلى الحق فإذا حصل لهم الاستبصار في أمرهم لم يقف لهم شيء لأن الوجهة واحدة و المطلوب متساو عندهم و هم مستميتون عليه و أهل الدولة التي هم طالبوها إن كانوا أضعافهم فأغراضهم متباينة بالباطل و تخاذلهم لتقية الموت حاصل فلا يقاومونهم و إن كانوا أكثر منهم بل يغلبون عليهم و يعاجلهم الفناء بما فيهم من الترف و الذل كما قدمناه و هذا كما وقع للعرب صدر الإسلام في الفتوحات فكانت جيوش المسلمين بالقادسية و اليرموك بضعةً و ثلاثين ألفاً في كل معسكر و جموع فارس مائة و عشرين ألفاً بالقادسية و جموع هرقل على ما قاله الواقدي أربعمائة ألف فلم يقف للعرب أحد من الجانبين و هزموهم و غلبوهم على ما بأيديهم و اعتبر ذلك أيضاً في دولة لمتونة و دولة الموحد ين فقد كان بالمغرب من القبائل كثير ممن يقاومهم في العدد و العصبية أو يشف عليهم إلا أن الاجتماع الديني ضاعف قوة عصبيتهم بالاستبصار و الاستماتة كما قلناه فلم يقف لهم شيء و اعتبر ذلك إذا حالت صبغة الدين و فسدت كيف ينتقض الأمر و يصير الغلب على نسبة العصبية وحدها دون زيادة الدين فتغلب الدولة من كان تحت يدها من العصائب المكافئة لها أو الزائدة القوة عليها الذين غلبتهم بمضاعفة الدين لقوتها و لو كانوا أكثر عصبية منها و أشد بداوةً و اعتبر هذا في الموحدين مع زناتة لما كانت زناتة أبدى من المصامدة و أشد توحشاً و كان للمصامدة الدعوة الدينية باتباع المهدي فلبسوا صبغتها و تضاعفت قوة عصبيتهم بها فغلبوا على زناتة أولاً و استتبعوهم و أن كانوا من حيث العصبية و البداوة أشد منهم فلما خلوا من تلك الصبغة الدينية انتقضت عليهم زناتة من كل جانب و غلبوهم على الأمر و انتزعوه منهم و الله غالب على أمره.

الفصل السادس في أن الدعوة الدينية من غير عصبية لا تتم
و هذا لما قدمناه من أن كل أمر تحمل عليه الكافة فلا بد له من العصبية و في الحديث الصحيح كما مر: ما بعث الله نبياً إلا في منعة من قومه و إذا كان هذا في الأنبياء و هم أولى الناس بخرق العوائد فما ظنك بغيرهم أن لا تخرق له العادة في الغلب بغير عصبية و قد وقع هذا لابن قسي شيخ الصوفية و صاحب كتاب خلع النعلين في التصوف ثار بالأندلس داعياً إلى الحق و سمي أصحابه بالمرابطين قبيل دعوة المهدي فاستتب له الأمر قليلاً لشغل لمتونة بما دهمهم من أمر الموحدين و لم تكن هناك عصائب و لا قبائل يدفعونه عن شأنه فلم يلبث حين استولى الموحدون على المغرب أن أذعن لهم و دخل في دعوتهم و تابعهم من معقله بحصن أركش و أمكنهم من ثغره و كان أول داعية لهم بالأندلس و كانت ثورته تسمى ثورة المرابطين و من هذا الباب أحوال الثوار القائمين بتغيير المنكر من العامة و الفقهاء فإن كثيراً من المنتحلين للعبادة و سلوك طرق الدين يذهبون إلى القيام على أهل الجور من الأمراء داعين إلى تغيير المنكر و النهي عنه و الأمر بالمعروف رجاءً في الثواب عليه من الله فيكثر أتباعهم و المتلثلثون بهم من الغوغاء و الدهماء و يعرضون أنفسهم في ذلك للمهالك و أكثرهم يهلكون في هذا السبيل مأزورين غير مأجورين لأن الله سبحانه لم يكتب ذلك عليهم و إنما أمر به حيث تكون القدرة عليه قال صلى الله عليه و سلم: من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فأن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه و أحوال الملوك و الدول راسخة قوية لا يزحزحها و يهدم بناءها إلا المطالبة القوية التي من ورائها عصبية القبائل و العشائر كما قدمناه و هكذا كان حال الأنبياء عليهم الصلاة و السلام في دعوتهم إلى الله بالعشائر و العصائب و هم المؤيدون من الله بالكون كله لو شاء، لكنه إنما أجرى الأمور على مستقر العادة و الله حكيم عليم فإذا ذهب أحد من الناس هذا المذهب و كان فيه محقاً قصر به الانفراد عن العصبية فطاح في هوة الهلاك و أما إن كان من المتلبسين بذلك في طلب الرئاسة فأجدر إن تعوقه العوائق و تنقطع به المهالك لأنه أمر الله لا يتم إلا برضاه و إعانته و الإخلاص له و النصيحة للمسلمين و لا يشك في ذلك مسلم و لا يرتاب فيه ذو بصيرة و أول ابتداء هذه النزعة في الملة ببغداد حين و قعت فتنة طاهر و قتل الأمين و أبطأ المأمون بخراسان عن مقدم العراق ثم عهد لعلي بن موسى الرضى من آل الحسين فكشف بنو العباس عن.
وجه النكير عليه و تداعوا للقيام و خلع طاعة المأمون و الاستبدال منه و بويع إبراهيم بن المهدي فوقع الهرج ببغداد و انطلقت أيدي الزعرة بها من الشطار و الحربية على أهل العافية و الصون و قطعوا السبيل و امتلأت أيديهم من نهاب الناس و باعوها علانية في الأسواق و استعدى أهلها الحكام فلم يعدوهم فتوافر أهل الدين و الصلاح على منع الفساق و كف عاديتهم و قام ببغداد رجل يعرف بخالد الدريوس و دعا الناس إلى الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر فأجابه خلق و قاتل أهل الزعارة فغلبهم و أطلق يده فيهم بالضرب و التنكيل ثم قام من بعده رجل آخر من سواد أهل بغداد يعرف بسهل بن سلامة الأنصاري و يكنى أبا حاتم و علق مصحفاً في عنقه و دعا الناس إلى الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر و العمل بكتاب الله و سنة نبيه صلى الله عليه و سلم فاتبعه الناس كافةً من بين شريف و وضيع من بنى هاشم فمن دونهم و نزل قصر طاهر و أتخذ الديوان و طاف ببغداد و منع كل من أخاف المارة و منع الخفارة لأولئك الشطار و قال له خالد الدريوس أنا لا أعيب على السلطان فقال له سهل لكني أقاتل كل من خالف الكتاب و السنة كائناً من كان و ذلك سنة إحدى و مائتين و جهز له إبراهيم بن المهدي العساكر فغلبه و أسره و انحل أمره سريعاً و ذهب و نجا بنفسه ثم اقتدى بهذا العمل بعد كثير من الموسوسين يأخذون أنفسهم بإقامة الحق و لا يعرفون ما يحتاجون إليه في إقامته من العصبية و لا يشعرون بمغبة أمرهم و مآل أحوالهم و الذي يحتاج إليه في أمر هؤلاء إما المداواة إن كانوا من أهل الجنون و إما التنكيل بالقتل أو الضرب إن أحدثوا هرجاً و إما إذاعة السخرية منهم و عدهم من جملة الصفاعين و قد ينتسب بعضهم إلى الفاطمي المنتظر إما بأنه هو أو بأنه داع له و ليس مع ذلك على علم من أمر الفاطمي و لا ما هو و أكثر المنتحلين لمثل هذا تجدهم موسوسين أو مجانين أو ملبسين يطلبون بمثل هذه الدعوة رئاسةً امتلأت بها جوانحهم و عجزوا عن التوصل إليها بشيء من أسبابها العادية فيحسبون أن هذا من الأسباب البالغة بهم إلى ما يؤملونه من ذلك و لا يحسبون ما ينالهم فيه من الهلكة فيسرع إليهم القتل بما يحدثونه من الفتنة و تسوء عاقبة مكرهم و قد كان لأول هذه المائة خرج بالسوس رجل من المتصوفة يدعى التوبذري عمد إلى مسجد ماسة بساحل البحر هناك و زعم أنه الفاطمي المنتظر تلبيساً على العامة هنالك بما ملأ قلوبهم من الحدثان بانتظاره هنالك و أن من ذلك المسجد يكون أصل دعوته فتهافتت عليه طوائف من عامة البربر تهافت الفراش ثم خشي رؤساؤهم أتساع نطاق الفتنة فدس إليه كبير المصامدة يومئذ عمر السكسيوي من قتله في فراشه و كذلك خرج في غماره أيضاً لأول هذه المائة رجل يعرف بالعباس و ادعى مثل هذه الدعوة و اتبع نعيقه الأرذلون من سفهاء تلك القبائل و أغمارهم و زحف إلى بادس من أمصارهم و دخلها عنوة. ثم قتل لأربعين يوما من ظهور دعوته و مضى في الهالكين الأولين و أمثال ذلك كثير و الغلط فيه من الغفلة عن اعتبار العصبية في مثلها و أما إن كان التلبيس فأحرى أن لا يتم له أمر و أن يبوء بإثمه و ذلك جزاء الظالمين و الله سبحانه و تعالى أعلم و به التوفيق لا رب غيره و لا معبود سواه.

الفصل السابع في أن كل دولة لها حصة من الممالك و الأوطان لا تزيد عليها
و السبب في ذلك أن عصابة الدولة و قومها القائمين بها الممهدين لها لا بد من توزيعهم حصصاً على الممالك و الثغور التي تصير إليهم و يستولون عليها لحمايتها من العدو و إمضاء أحكام الدولة فيها من جباية و ردع و غير ذلك فإذا توزعت العصائب كلها على الثغور و الممالك فلا بد من نفاد عددها و قد بلغت الممالك حينئذ إلى حد يكون ثغراً للدولة و تخماً لوطنها و نطاقاً لمركز ملكها فإن تكفلت الدولة بعد ذلك زيادةً على ما بيدها بقى دون حاميةً و كان موضعاً لانتهاز الفرصة من العدو و المجاور و يعود وبال ذلك على الدولة بما يكون فيه من التجاسر و خرق سياج الهيبة و ما كانت العصابة موفورة و لم ينفد عددها في توزيع الحصص على الثغور و النواحي بقي في الدولة قوة على تناول ما وراء الغاية حتى ينفسح نطاقها إلى غايته و العلة الطبيعية في ذلك هي قوة العصبية من سائر القوى الطبيعية و كل قوة يصدر عنها فعل من الأفعال فشأنها ذلك في فعلها و الدولة في مركزها أشد مما يكون في الطرف و النطاق و إذا انتهت إلى النطاق الذي هو الغاية عجزت و أقصرت عما وراءه شأن الأشعة و الأنوار إذا انبعثت من المراكز و الدوائر المنفسحة على سطح الماء من النقر عليه ثم إذا أدركها الهرم و الضعف فإنما تأخذ في التناقص من جهة الأطراف و لا يزال المركز محفوظاً إلى أن يتأذن الله بانقراض الأمر جملة فحينئذ يكون انقراض المركز و إذا غلب على الدولة من مركزها فلا ينفعها بقاء الأطراف و النطاق بل تضمحل لوقتها فأن المركز كالقلب الذي تنبعث منه الروح فإذا غلب على القلب و ملك انهزم جميع الأطراف و انظر هذا في الدولة الفارسية كان مركزها المدائن فلما غلب المسلمون على المدائن انقرض أمر فارس أجمع و لم ينفع يزدجرد ما بقي بيده من أطراف ممالكه و بالعكس من ذلك الدولة الرومية بالشام لما كان مركزها القسطنطينية و غلبهم المسلمون بالشام تحيزوا إلى مركزهم بالقسطنطينية و لم يضرهم انتزاع الشام من أيديهم فلم يزل ملكهم متصلاً بها إلى أن تأذن الله بانقراضه و انظر أيضاً شأن العرب أول الإسلام لما كانت عصائبهم موفورة كيف غلبوا على ما جاورهم من الشام و العراق و مصر لأسرع وقت ثم تجاوزوا ذلك إلى ما وراءه من السند و الحبشة و أفريقية و المغرب ثم إلى الأندلس فلما تفرقوا حصصاً على الممالك و الثغور و نزلوها حامية و نفد عددهم في تلك التوزيعات أقصروا عن الفتوحات بعد و انتهى أمر الإسلام و لم يتجاوز تلك الحدود و منها تراجعت الدولة حتى تأذن الله بانقراضها و كذا كان حال الدول من بعد ذلك كل دولة على نسبة القائمين بها في القلة و الكثرة و عند نفاد عددهم بالتوزيع ينقطع لهم الفتح و الاستيلاء سنة الله في خلقه.

الفصل الثامن في أن عظم الدولة و اتساع نطاقها و طول أمدها على نسبة القائمين بها في القلة و الكثرة
و السبب في ذلك أن الملك إنما يكون بالعصبية و أهل العصبية هم الحامية الذين ينزلون بممالك الدولة و أقطارها و ينقسمون عليها فما كان من الدولة العامة قبيلها و أهل عصابتها أكثر كانت أقوى و أكثر ممالك و أوطاناً و كان ملكها أوسع لذلك و اعتبر ذلك بالدولة الإسلامية لما ألف الله كلمة العرب على الإسلام و كان عدد المسلمين في غزوة تبوك آخر غزوات النبي صلى الله عليه و سلم مائة ألف و عشرة آلاف من مضر و قحطان ما بين فارس و راجل إلى من أسلم منهم بعد ذلك إلى الوفاة فلما توجهوا لطلب ما في أيدي الأمم من الملك لم يكن دونه حمىً و لا وزر فاستبيح حمى فارس و الروم أهل الدولتين العظيمتين في العالم لعهدهم و الترك بالمشرق و الإفرنجة و البربر بالمغرب و القوط بالأندلس و خطوا من الحجاز إلى السوس الأقصى و من اليمن إلى الترك بأقصى الشمال و استولوا على الأقاليم السبعة ثم انظر بعد ذلك دولة صنهاجة و الموحدين مع العبيديين قبلهم لما كان كتامة القائمين بدولة العبيديين أكثر من صنهاجة و من المصامدة كانت دولتهم أعظم فملكوا أفريقية و المغرب و الشام و مصر و الحجاز ثم انظر بعد ذلك دولة زناتة لما كان عددهم أقل من المصامدة قصر ملكهم عن ملك الموحدين لقصور عددهم عن عدد المصامدة فمذ أول أمرهم ثم اعتبر بعد ذلك حال الدولتين لهذا العهد لزناتة بنى مرين و بني عبد الواد، كانت دولتهم أقوى منها و أسع نطاقاً و كان لهم عليهم الغلب مرة بعد أخرى. يقال أن عدد بني مرين لأول ملكهم كان ثلاثة آلاف و أن بني عبد الواد كانوا ألفاً إلا أن الدولة بالرفه و كثرة التابع كثرت من أعدادهم و على هذه النسبة في أعداد المتغلبين لأول الملك يكون أتساع الدولة و قوتها و أما طول أمدها أيضاً فعلى تلك النسبة لأن عمر الحادث من قوة مزاجه و مزاج الدول إنما هو بالعصبية فإذا كانت العصبية قوية كان المزاج تابعاً لها و كان أمد العمر طويلاً و العصبية إنما هي بكثرة العدد و وفوره كما قلناه و السبب الصحيح في ذلك أن النقص إنما يبدو في الدولة من الأطراف فإذا كانت ممالكها كثيرة كانت أطرافها بعيدةً عن مركزها و كثيرةً و كل نقص يقع فلا بد له من زمن فتكثر أزمان النقص لكثرة الممالك و اختصاص كل واحد منها بنقص و زمان فيكون أمدها أطول الدول لا بنو العباس أهل المركز و لا بنو أمية المستبدون بالأندلس و لم ينقص أمر جميعهم إلا بعد الأربعمائة من الهجرة و دولة العبيديين كان أمدها قريباً من مائتين و ثمانين سنة و دولة صنهاجة دونهم من لدن تقليد معز الدولة أمر أفريقية لبلكين بن زيري في سنة ثمان و خمسين و ثلاثمائة إلى حين استيلاء الموحدين على القلعة و بجاية سنة سبع و خمسين و خمسمائة و دولة الموحدين لهذا العهد تناهز مائتين و سبعين سنة و هكذا نسب الدول في أعمارها على نسبة القائمين بها سنة الله التي قد خلت في عباده.

الفصل التاسع في أن الأوطان الكثرة القبائل و العصائب قل أن تستحكم فيها دولة
و السبب في ذلك اختلاف الآراء و الأهواء و أن وراء كل رأي منها و هوىً عصبية تمانع دونها فيكثر الانتقاض على الدولة و الخروج عليها في كل وقت و أن كانت ذات عصبية لأن كل عصبية ممن تحت يدها تظن في نفسها منعةً و قوة و انظر ما و قع من ذلك بأفريقية و المغرب منذ أو ل الإسلام و لهذا العهد فإن ساكن هذه الأوطان من البربر أهل قبائل و عصبيات فلم يغن فيهم الغلب الأول الذي كان لابن أبى سرح عليهم و على الإفرنجة شيئاً و عاودوا بعد ذلك الثورة و الردة مرةً بعد أخرى و عظم الإثخان من المسلمين فيهم و لما استقر الدين عندهم عادوا إلى الثورة و الخروج و الأخذ بدين الخوارج مرات عديدةً قال ابن أبي زيد ارتدت البرابرة بالمغرب اثنتي عشرة مرة و لم تستقر كلمة الإسلام فيهم إلا لعهد ولاية موسى بن نصير فما بعده و هذا معنى ما ينقل عن عمر أن أفريقة مفرقة لقلوب أهلها إشارةً إلى ما فيها من كثرة العصائب و القبائل الحاملة لهم على عدم الإذعان و الانقياد و لم يكن العراق لذلك العهد بتلك الصفة و لا الشام إنما كانت حاميتها من فارس و الروم و الكافة دهماء أهل مدن و أمصار فلما غلبهم المسلمون على الأمر و انتزعوه من أيديهم لم يبق فيها ممانع و لا مشاق و البربر قبائلهم بالمغرب أكثر من أن تحص و كلهم بادية و أهل عصائب و عشائر و كلما هلكت قبيلة عادت الأخرى مكانها و إلى دينها من الخلاف و الردة فطال أمر العرب في تمهيد الدولة بوطن أفريقية و المغرب و كذلك كان الأمر بالشام لعهد بني إسرائيل كان فيه من قبائل فلسطين و كنعان و بني عيصو و بني مدين و بني لوط و الروم و اليونان و العمالقة و أكريكش و النبط من جانب الجزيرة و الموصل ما لا يحصى كثرة و تنوعا في العصبية فصعب على بني إسرائيل تمهيد دولتهم و رسوخ أمرهم و اضطرب عليهم الملك مرة بعد أخرى و سرى ذلك الخلاف إليهم فاختلفوا على سلطانهم و خرجوا عليه و لم يكن لهم ملك موطد سائر أيامهم إلى أن غلبهم الفرس ثم يونان ثم الروم آخر أمرهم عند الجلاء و الله غالب على أمره و بعكس هذا أيضا الأوطان الخالية من العصبيات يسهل تمهيد الدولة فيها و يكون سلطانها وازعا لقلة الهرج و الانتقاض و لا تحتاج الدولة فيها إلى كثير من العصبية كما هو الشأن في مصر و الشام لهذا العهد إذ هي خلو من القبائل و العصبيات كأن لم يكن الشام معدنا لهم كما قلناه فملك مصر في غاية الدعة و الرسوخ لقلة الخوارج و أهل العصائب إنما هو سلطان و رعية و دولتها قائمة بملوك الترك و عصائبهم يغلبون على الأمر واحدا بعد واحد و ينتقل الأمر فيهم من منبت إلى منبت و الخلافة مسماة للعباسي من أعقاب الخلفاء ببغداد و كذا شأن الأندلس لهذا العهد فإن عصبية ابن الأحمر سلطانها لم تكن لأول دولتهم بقوية و لا كانت كرات إنما يكون أهل بيت من بيوت العرب أهل الدولة الأموية بقوا من ذلك القلة و ذلك أن أهل الأندلس لما انقرضت الدولة العربية منهم و ملكهم البربر من لمتونة و الموحدين سئموا ملكتهم و ثقلت وطأتهم عليهم فأشربت القلوب بغضاءهم و أمكن الموحدون و السادة في آخر الدولة كثيرا من الحصون للطاغية في سبيل الاستظهار به على شأنهم من تملك الحضرة مراكش فاجتمع من كان بقي بها من أهل العصبية القديمة معادن من بيوت العرب تجافى بهم المنبت عن الحاضرة و الأمصار بعض الشيء و رسخوا في العصبية مثل ابن هود و ابن الأحمر و ابن مردنيش و أمثالهم فقام ابن هود بالأمر و دعا بدعوة الخلافة العباسية بالمشرق و حمل الناس على الخروج على الموحدين فنبذوا إليهم العهد و أخرجوهم و استقل ابن هود بالأمر في الأندلس ثم سما ابن الأحمر للأمر و خالف ابن هود في دعوته فدعا هؤلاء لابن أبي حفص صاحب أفريقية من الموحدين و قام بالأمر و تناوله بعصابة قريبة من قرابته كانوا يسمون الرؤساء و لم يحتج لأكثر منهم لقلة العصائب بالأندلس و إنها سلطان و رعية ثم استظهر بعد ذلك على الطاغية بمن يجيز إليه البحر من أعياص زناتة فصاروا معه عصبة على المثاغرة و الرباط ثم سما لصاحب من ملوك زناتة أمل في الاستيلاء على الأندلس فصار أولئك الأعياص عصابة ابن الأحمر على الامتناع منه إلى أن تأثل أمره و رسخ و ألفته النفوس و عجز الناس عن مطالبته و ورثة أعقابه لهذا العهد فلا تظن أنه بغير عصابة فليس كذلك و قد كان مبدأه بعصابة إلا أنها قليلة و على قدر الحاجة فإن قطر الأندلس لقلة العصائب و القبائل فيه يغني عن كثرة العصبية في التغلب عليهم و الله غني عن العالمين.

الفصل العاشر في أن من طبيعة الملك الانفراد بالمجد
و ذلك أن الملك كما قدمناه إنما هو بالعصبية و العصبية متألفة من عصبات كثيرة تكون واحدة منها أقوى من الأخرى كلها فتغلبها و تستولي عليها حتى تصيرها جميعاً في ضمنها و بذلك يكون الاجتماع و الغلب على الناس و الدول و سره أن العصبية العامة للقبيل هي مثل المزاج للمتكون و المزاج إنما يكون عن العناصر و قد تبين في موضعه أن العناصر إذا اجتمعت متكافئةً فلا يقع منها مزاج أصلاً بل لا بد من أن تكون واحدة منها هي الغالبة على الكل حتى تجمعها و تؤلفها و تصيرها عصبيةً واحدةً شاملةً لجميع العصائب و هي موجودة في ضمنها و تلك العصبية الكبرى إنما تكون لقوم أهل بيت و رئاسة فيهم، و لا بد من أن يكون واحد منهم رئيساً لهم غالباً عليهم فيتعين رئيساً للعصابات كلها لغلب منبته لجميعها و إذا تعين له ذلك فمن الطبيعة الحيوانية خلق الكبر و الأنفة فيأنف حينئذ من المساهمة و المشاركة في استتباعهم و التحكم فيهم و يجئ خلق التأله الذي في طباع البشر مع ما تقتضيه السياسة من انفراد الحاكم لفساد الكل باختلاف الحكام لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فتجدع حينئذ أنوف العصبيات و تفلح شكائمهم عن أن يسموا إلى مشاركته في التحكم و تقرع عصبيتهم عن ذلك و ينفرد به ما استطاع حتى لا يترك لأحد منهم في الأمر لا ناقة و لا جملاً فينفرد بذلك المجد بكليته و يدفعهم عن مساهمته و قد يتم ذلك للأول من ملوك الدولة و قد لا يتم إلا للثاني و الثالث على قدر ممانعة العصبيات و قوتها إلا أنه أمر لابد منه في الدول سنة الله التي قد خلت في عباده و الله تعالى أعلم.

الفصل الحادي عشر في أن من طبيعة الملك الترف
و ذلك أن الأمة إذا تغلبت و ملكت ما بأيدي أهل الملك قبلها كثر رياشها و نعمتها فتكثر عوائدهم و يتجاوزون ضرورات العيش و خشونته إلى نوافله و رقته و زينته و يذهبون إلى أتباع من قبلهم في عوائدهم و أحوالهم و تصير لتلك النوافل عوائد ضرورية في تحصيلها و ينزعون مع ذلك إلى رقة الأحوال في المطاعم و الملابس و الفرش و الآنية و يتفاخرون في ذلك و يفاخرون فيه غيرهم من الأمم في أكل الطيب و لبس الأنيق و ركوب الفاره و يناغي خلفهم في ذلك سلفهم إلى آخر الدولة و على قدر ملكهم يكون حظهم من ذلك و ترفهم فيه إلى أن يبلغوا من ذلك الغاية التي للدولة إلى أن تبلغها بحسب قوتها و عوائد من قبلها سنة الله في خلقه و الله تعالى أعلم.


الفصل الثاني عشر في أن من طبيعة الملك الدعة و السكون
و ذلك أن الأمة لا يحصل لها الملك إلا بالمطالبة و المطالبة غايتها الغلب و الملك و إذا حصلت الغاية انقضى السعي إليها قال الشاعر:
عجبت لسعي الدهر بيني و بينها فلما انقضى ما بيننا سكن الدهر
فإذا حصل الملك أقصروا عن المتاعب التي كانوا يتكلفونها في طلبه و آثروا الراحة و السكون و الدعة و رجعوا إلى تحصيل ثمرات الملك من المباني و المساكن و الملابس فيبنون القصور و يجرون المياه و يغرسون الرياض و يستمتعون بأحوال الدنيا و يؤثرون الراحة على المتاعب و يتأنقون في أحوال الملابس و المطاعم و الآنية و الفرش ما استطاعوا و يألفون ذلك و ويورثونه من بعدهم من أجيالهم و لا يزال ذلك يتزايد فيهم إلى أن يتأذن الله بأمره و هو خير الحاكمين و الله تعالى أعلم.

الفصل الثالث عشر في أنه إذا تحكمت طبيعة الملك من الانفراد بالمجد و حصول الترف و الدعة أقبلت الدولة على الهرم
و بيانه من وجود الأول أنها تقتضي الانفراد بالمجد كما قلناه و مهما كان المجد مشتركاً بين العصابة و كان سعيهم له واحداً كانت هممهم في التغلب على الغير و الذب عن الحوزة أسوةً في طموحها و قوة شكائمها و مرماهم إلى العز جميعاً يستطيبون الموت في بناء مجدهم و يؤثرون الهلكة على فساده و إذا انفرد الواحد منهم بالمجد قرع عصبيتهم و كبح من أعنتهم و استأثر بالأموال دونهم فتكاسلوا عن الغزو و فشل ربحهم و رئموا المذلة و الاستعباد ثم ربي الجيل الثاني منهم على ذلك يحسبون ما ينالهم من العطاء أجراً من السلطان لهم عن الحماية و المعونة لا يجري في عقولهم سواه و قل أن يستأجر أحد نفسه على الموت فيصير ذلك وهناً في الدولة و خضداً من الشوكة و تقبل به على مناحي الضعف و الهرم لفساد العصبية بذهاب البأس من أهلها. و الوجه الثاني أن طبيعة الملك تقتضي الترف كما قدمناه فتكثر عوائدهم و تزيد نفقاتهم على أعطياتهم و لا يفي دخلهم بخرجهم فالفقير منهم يهلك و المترف يستغرق عطاءه بترفه ثم يزداد ذلك في أجيالهم المتأخرة إلى أن يقصر العطاء كله عن الترف و عوائده و تمسهم الحاجة و تطالبهم ملوكهم بحصر نفقاتهم في الغزو و الحروب فلا يجدون وليجةً عنها فيوقعون بهم العقوبات و ينتزعون ما في أيدي الكثير منهم يستأثرون به عليهم أو يؤثرون به أبناءهم و صنائع دولتهم فيضعفونهم لذلك عن إقامة أحوالهم و يضعف صاحب الدولة بضعفهم و أيضاً إذا كثر الترف في الدولة و صار عطاؤهم مقصراً عن حاجاتهم و نفقاتهم احتاج صاحب الدولة الذي هو السلطان إلى الزيادة في أعطياتهم حتى يسد خللهم و يزيح عللهم و الجباية مقدارها معلوم و لا تزيد و لا تنقص و أن زادت بما يستحدث من المكوس فيصير مقدارها بعد الزيادة محدوداً فإذا وزعت الجباية على الأعطيات و قد حدثت فيها الزيادة لكل واحد بما حدث من ترفهم و كثرة نفقاتهم نقص عدد الحامية حينئذ عما كان قبل زيادة الأعطيات ثم يعظم الترف و تكثر مقادير الأعطيات لذلك فينقص عدد الحامية و ثالثاً و رابعاً إلى أن يعود العسكر إلى أقل الأعداد فتضعف الحماية لذلك و تسقط قوة الدولة و يتجاسر عليها من يجاوزها من الدول أو من هو تحت يديها من القبائل و العصائب و يأذن الله فيها بالفناء الذي كتبه على خليقته و أيضاً فالترف مفسد للخلق بما يحصل في النفس من ألوان الشر و السفسفة و عوائدها كما يأتي في فصل الحضارة فتذهب منهم خلال الخير التي كانت علامة على الملك و دليلاً عليه و يتصفون بم يناقضها من خلال الشر فيكون علامة على الإدبار و الانقراض بما جعل من ذلك في خليقته و تأخذ الدولة مبادئ العطب و تتضعضع أحوالها و تنزل بها أمراض مزمنة من الهرم إلى أن يقضي عليها. الوجه الثالث أن طبيعة الملك تقتضي الدعة كما ذكرناه و إذا اتخذوا الدعة و الراحة مؤلفاً و خلقاً صار لهم ذلك طبيعةً و جبلةً شأن العوائد كلها و إيلافها فتربى أجيالهم الحادثة في غضارة العيش و مهاد الترف و الدعة و ينقلب خلق التوحش و ينسون عوائد البداوة التي كان بها الملك من شدة البأس و تعود الافتراس و ركوب البيداء و هداية القفر فلا يفرق بينهم و بين السوقة من الحضر إلا في الثقافة و الشارة فتضعف حمايتهم و يذهب بأسهم و تنخضد شوكتهم و يعود وبال ذلك على الدولة بما تلبس من ثياب الهرم ثم لا يزالون يتلونون بعوائد الترف و الحضارة و السكون و الدعة و رقة الحاشية في جميع أحوالهم و ينغمسون فيها و هم في ذلك يبعدون عن البداوة و الخشونة و ينسلخون عنها شيئاً فشيئاً و ينسون خلق البسالة التي كانت بها الحماية و المدافعة حتى يعودوا عيالاً على حامية أخرى أن كانت لهم و اعتبر ذلك في الدول التي أخبارها في الصحف لديك تجد ما قلته لك من ذلك صحيحاً من غير ريبة و ربما يحدث في الدولة إذا طرقها هذا الهرم بالترف و الراحة أن يتخير صاحب الدولة أنصاراً و شيعةً من غير جلدتهم ممن تعود الخشونة فيتخذهم جنداً يكون أصبر على الحرب و أقدر على معاناة الشدائد من الجوع و الشظف و يكون ذلك دواءً للدولة من الهرم الذي عساه أن يطرقها حتى يأذن الله فيها بأمره و هذا كما وقع في دولة الترك بالمشرق فإن غالب جندها الموالى من الترك فتتخير ملوكهم من أولئك المماليك المجلوبين إليهم فرساناً و جنداً فيكونون أجراً على الحرب و أصبر على الشظف من أبناء المماليك الذين كانوا قبلهم و ربوا في ماء النعيم و السلطان و ظله و كذلك في دولة الموحدين بأفريقية فإن صاحبها كثيراً ما يتخذ أجناده من زناتة و العرب ويستكثر منهم و يترك أهل الدولة المتعودين للترف فتستجد الدولة بذلك غفراً آخر سالماً من الهرم و الله وارث الأرض و من عليها.

الفصل الرابع عشر في أن الدولة لها أعمار طبيعية كما للأشخاص
إعلم أن العمر الطبيعي للأشخاص على ما زعم الأطباء و المنجمون مائة وعشرون سنةً و هي سنو القمر الكبرى عند المنجمين و يختلف العمر في كل جيل بحسب القرانات فيزيد عن هذا و ينقص منه فتكون أعمار بعض أهل القرانات مائة تامة و بعضهم خمسين أو ثمانين أو سبعين على ما تقتضيه أدلة القرانات عند الناظرين فيها و أعمار هذه الملة ما بين الستينن إلى السبعين كما في الحديث و لا يزيد على العمر الطبيعي الذي هو مائة و عشرون إلا في الصور النادرة و على الأوضاع الغريبة من الفلك كما و قع في شأن نوح عليه السلام و قليل من قوم عاد و ثمود. و أما أعمار الدول أيضاً و إن كانت تختلف بحسب القرانات إلا أن الدولة في الغالب لا تعدو أعمار ثلاثة أجيال و الجيل هو عمر شخص واحد من العمر الوسط فيكون أربعين الذي هو انتهاء النمو و النشوء إلى غايته قال تعالى: حتى إذا بلغ أشده و بلغ أربعين سنة و لهذا قلنا أن عمر الشخص الواحد هو عمر الجيل و يؤيده ما ذكرناه في حكمة التيه الذي وقع في بنى إسرائيل و أن المقصود بالأربعين فيه فناء الجيل الأحياء و نشأة جيل آخر لم يعهدوا الذل و لا عرفوه فدل على اعتبار الأربعين في عمر الجيل الذي هو عمر الشخص الواحد و إنما قلنا أن عمر الدولة لا يعدو في الغالب ثلاثة أجيال لأن الجيل الأول لم يزالوا على خلق البداوة و خشونتها و توحشها من شظف العيش و البسالة و الافتراس و الاشتراك في المجد فلا تزال بذلك سورة العصبية محفوظةً فيهم فحدهم مرهف و جانبهم مرهوب و الناس لهم مغلوبون و الجيل الثاني تحول حالهم بالملك و الترفه من البداوة إلى الحضارة و من الشظف إلى الترف و الخصب و من الاشتراك في المجد إلى انفراد الواحد به و كسل الباقين عن السعي فيه و من عز الاستطالة إلى ذل الاستكانة فتنكسر سورة العصبية بعض الشيء و تؤنس منهم المهانة و الخضوع و يبقى لهم الكثير من ذلك بما أدركوا الجيل الأول و باشروا أحوالهم و شاهدوا اعتزازهم و سعيهم إلى المجد و مراميهم في المدافعة و الحماية فلا يسعهم ترك ذلك بالكلية و إن ذهب منه ما ذهب و يكونون على رجاء من مراجعة الأحوال التي كانت للجيل الأول أو على ظن من وجودها فيهم و أما الجيل الثالث فينسون عهد البداوة و الخشونة كأن لم تكن و يفقدون حلاوة العز و العصبية بما هم فيه من ملكة القهر و يبلغ فيهم الترف غايته بما تبنقوه من النعيم و غضارة العيش فيصيرون عيالاً على الدولة و من جملة النساء و الولدان المحتاجين للمدافعة عنهم و تسقط العصبية بالجملة و ينسون الحماية و المدافعة و المطالبة و يلبسون على الناس في الشارة و الزي و ركوب الخيل و حسن الثقافة يموهون بها و هم في الأكثر أجبن من النسوان على ظهورها فإذا جاء المطالب لهم لم يقاوموا مدافعته فيحتاج صاحب الدولة حينئذ إلى الاستظهار بسواهم من أهل النجدة و يستكثر بالموالى و يصطنع من يغني عن الدولة بعض الغناء حتى يتأذن الله بانقراضها فتذهب الدولة بما حملت فهذه كما تراه ثلاثة أجيال فيها يكون هرم الدولة و تخلفها و لهذا كان انقراض الحسب في الجيل الرابع كما مر في أن المجد و الحسب إنما هو أربعة آباء و قد أتيناك فيه ببرهان طبيعي كاف ظافر مبني على ما مهدناه قبل من المقدمات فتأمله فلن تعدو وجه الحق إن كنت من أهل الإنصاف و هذه الأجيال الثلاثة عمرها مائة و عشرون سنة على ما مر و لا تعدو الدول في الغالب هذا العمر بتقريب قبله أو بعده إلا أن عرض لها عارض آخر من فقدان المطالب فيكون الهرم حاصلاً مستولياً و الطالب لم يحضرها و لو قد جاء الطالب لما وجد مدافعاً فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعةً و لا يستقدمون فهذا العمر للدولة بمثابة عمر الشخص من التزايد إلى سن الوقوف ثم إلى سن الرجوع و لهذا يجري على ألسنة الناس في المشهور أن عمر الدولة مائة سنة و هذا معناه فأعتبره و اتخذ منه قانوناً يصحح لك عدد الآباء في عمود النسب الذي تريده من قبل معرفة السنين الماضية إذا كنت قد استربت في عددهم و كانت السنون الماضية منذ أولهم محصلة لديك فعد لكل مائة من السنين ثلاثة من الآباء فإن نفدت على هذا القياس مع نفود عددهم فهو صحح و إن نقصت عنه بجيل فقد غلط عددهم بزيادة واحد في عمود النسب و أن زادت بمثله فقد سقط واحد و كذلك تأخذ عدد السنين من عددهم إذا كان محصلاً لديك فتأمله تجده في الغالب صحيحاً و الله يقدر الليل و النهار.

الفصل الخامس عشر في انتقال الدولة من البداوة إلى الحضارة
اعلم أن هذه الأطوار طبيعية للدول فإن الغلب الذي يكون به الملك إنما هو بالعصيبة و بما يتبعها من شدة البأس و تعود الافتراس و لا يكون ذلك غالباً إلا مع البداوة فطور الدولة من أولها بداوة ثم إذا حصل الملك تبعه الرفه و اتساع الأحوال و الحضارة إنما هي تفنن في الترف و إحكام الصنائع المستعملة في وجوهه و مذاهبه من المطابخ و الملابس و المباني و الفرش و الأبنية و سائر عوائد المنزل و أحواله فلكل واحد منها صنائع في استجادته و التأنق فيه تختص به و يتلو بعضها بعضاً و تتكثر باختلاف ما تنزع إليه النفوس من الشهوات و الملاذ والتنعم بأحوال الترف و ما تتلون به من العوائد فصار طور الحضارة في الملك يتبع طور البداوة ضرورة لضرورة تبعية الرفه للملك و أهل الدول أبداً يقلدون في طور الحضارة و أحوالها للدولة السابقة قبلهم. فأحوالهم يشاهدون، و منهم في الغلب يأخذون، و مثل هذا وقع للعرب لما كان الفتح و ملكوا فارس و الروم و استخدموا بناتهم و أبناءهم و لم يكونوا لذلك العهد في شيء من الحضارة فقد حكي أنه قدم لهم المرقق فكانوا يحسبونه رقاعاً و عثروا على الكافور في خزائن كسرى فاستعملوه في عجينهم ملحاً و مثال ذلك كثير فلما استعبدوا أهل الدول قبلهم و استعملوهم في مهنهم و حاجات منازلهم و اختاروا منهم المهرة في أمثال ذلك و القومة عليهم أفادوهم علاج ذلك و القيام على عمله و التفنن فيه مع ما حصل لهم من أتساع العيش و التفنن في أحواله فبلغوا الغاية في ذلك و تطوروا بطور الحضارة و الترف في الأحوال و استجادة المطاعم و المشارب و الملابس و المباني و الأسلحة و الفرش و آلانية و سائر الماعون و الخرثي و كذلك أحوالهم في أيام المباهاة و الولائم و ليالي الأعراس فأتوا من ذلك وراء الغاية و انظر ما نقلة المسعودي و الطبري و غيرهما في أعراس المأمون ببوران بنت الحسن بن سهل و ما بذل أبوها لحاشية المأمون حين وافاه في خطبتها إلى داره بفم الصلح و ركب إليها في السفين و ما انفق في أملاكها و ما نحلها المأمون و أنفق في عرسها تقف من ذلك على العجب فمنة أن الحسن بن سهل نثر يوم الأملاك في الصنيع الذي حضره حاشية المأمون فنثر على الطبقة الأولى منهم بنادق المسك ملثوثةً على الرقاع بالضياع و العقار مسوغة لمن حصلت في يده يقع لكل واحد منهم ما أداه إليه الاتفاق و البخت و فرق على الطبقة الثانية بدر الدنانير في كل بدرة عشرة آلاف و فرق على الطبقة الثالثة بدر الدراهم كذلك بعد أن أنفق على مقامة المأمون بداره أضعاف ذلك و منه أن المأمون أعطاها في مهرها ليلة زفافها ألف حصاة من الياقوت و أوقد شموع العنبر في كل واحدة مائة من و هو رطل و ثلثان و بسط لها فرشاً كان الحصير منها منسوجاً بالذهب مكللاً بالدر و الياقوت و قال المأمون حين رآه قاتل الله أبا نواس كأنه أبصر هذا حيث يقول في صفة الخمر:
كأن صغرى و كبرى من فواقعها حصباء در على أرض من الذهب
و أعد بدار الطبخ من الحطب لليلة الوليمة نقل مائة و أربعين بغلاً مدة عام كامل ثلاث مرات في كل يوم و فني الحطب لليلتين و أوقدوا الجريد يصبون عليه الزيت و أوعز إلى النواتية بإحضار السفن لإجازة الخواص من الناس بدجلة من بغداد إلى قصور الملك بمدينة المأمون لحضور الوليمة فكانت الحراقات المعدة لذلك ثلاثين ألفاً أجازوا الناس فيها أخريات نهارهم و كثير من هذا و أمثاله و كذلك عرس المأمون بن ذي النون بطليطلة نقلة ابن سام في كتاب الذخيرة و ابن حيان بعد أن كانوا كلهم في الطور الأول من البداوة عاجزين عن ذلك جملةً لفقدان أسبابه و القائمين على صنائعه في غضاضتهم و سذاجتهم يذكر أن الحجاج أولم في اختتان بعض ولده فاستحضر بعض الدهاقين يسأله عن ولائم الفرس و قال أخبرني بأعظم صنيع شهدته فقال له نعم أيها الأمير شهدت بعض مرازبة كسرى و قد صنع لأهل فارس صنيعاً أحضر فيه صحاف الذهب على أخونة الفضة أربعاً على كل واحد و تحمله أربع و صائف و يجلس عليه أربعة من الناس فإذا طعموا أتبعوا أربعتهم المائدة بصحافها و وصفائها فقال الحجاج يا غلام انحر الجزر و أطعم الناس و علم أنه لا يستقل بهذه الأبهة و كذلك كانت. و من هذا الباب أعطية بنى أمية و جوائزهم فإنما كان أكثرها الإبل أخذاً بمذاهب العرب وبداوتهم ثم كانت الجوائز في دولة بنى العباس و العبيديين من بعدهم ما علمت من أحمال المال و تخوت الثياب و إعداد الخيل بمراكبها و هكذا كان شأن كتامة مع الأغالبة بأفريقية و كذا بنى طفج بمصر و شأن لمتونة مع ملوك الطوائف بالأندلس و الموحدين كذلك و شأن زناتة مع الموحدين و هلم جراً تنتقل الحضارة من الدول السالفة إلى الدول الخالفة فانتقلت حضارة الفرس للعرب بني أمية و بني العباس و انتقلت حضارة بنى أمية بالأندلس إلى ملوك المغرب من الموحدين و زناتة لهذا العهد و انتقلت حضارة بني العباس إلى الديلم ثم إلى الترك ثم إلى السلجوقية ثم إلى الترك المماليك بمصر و التتر بالعراقين و على قدر عظم لدولة يكون شأنها في الحضارة إذ أمور الحضارة من توابع الترف و الترف من توا بع الثروة و النعمة و الثروة و النعمة من توابع الملك و مقدار ما يستولي عليه أهل الدولة فعلى نسبة الملك يكون ذلك كله فاعتبره و تفهمه و تأمله تجده صحيحاً في العمران و الله وارث الأرض و من عليها و هو خير الوارثين.

الفصل السادس عشر في أن الترف يزيد الدولة في أولها قوة إلى قوتها
و السبب في ذلك أن القبيل إذا حصل لهم الملك و الترف كثر التناسل و الولد والعمومية فكثرت العصابة و استكثروا أيضاً من الموالى و الصنائع و ربيت أجيالهم في جو ذلك النعيم و الرفه فازدادوا به عدداً إلى عددهم و قوة إلى قوتهم بسبب كثرة العصائب حينئذ بكثرة العدد فإذا ذهب الجيل الأول و الثاني و أخذت الدولة في الهرم لم تستقل أولئك الصنائع و الموالى بأنفسهم في تأسيس الدولة و تمهيد ملكها لأنهم ليس لهم من الأمر شيء إنما كانوا عيالاً على أهلها و معونةً لها فإذا ذهب الأصل لم يستقل الفرع بالرسوخ فيذهب و يتلاشى و لا تبقى الدولة على حالها من القوة. و اعتبر هذا بما وقع في الدولة العربية في الإسلام.كان عدد العرب كما قلنا لعهد النبؤة و الخلاقة مائة و خمسين ألفا و ما يقاربها من مضر و قحطان و لما بلغ الترف مبالغة قي الدولة و توفر نموهم بتوفر النعمة و استكثر الخلفاء من الموالى و الصنائع بلغ ذلك العدد إلى أضعافه يقال إن المعتصم نازل عمورية لما افتتحها في تسعمائة ألف و لا يبعد مثل هذا العدد أن يكون صحيحاً إذا اعتبرت حاميتهم في الثغور الدانية و القاصية شرقاً و غرباً إلى الجند الحاملين سرير الملك و الموالى والمصطنعين و قال المسعودي أحصى بنو العباس ابن عبد المطلب خاصة أيام المأمون للإنفاق عليهم فكانوا ثلاثين ألفاً بين ذكران و إناث فانظر مبالغ هذا العدد لأقل من مائتي سنة و اعلم أن سببه الرفه و النعيم الذي حصل للدولة و ربى فيه أجيالهم و إلا فعدد العرب لأول الفتح لم يبلغ هذا و لا قريبا منة و الله الخلاق العليم.


الفصل السابع عشر في أطوار الدولة و اختلاف أحوالها و خلق أهلها باختلاف الأطوار
إعلم أن الدولة تنتقل في أطوار مختلفة و حالات متجددة و يكتسب القائمون بها في كل طور خلقاً من أحوال ذلك الطور لا يكون مثله في الطور الآخر لأن الخلق تابع بالطبع لمزاج الحال الذي هو فيه و حالات الدولة و أطوارها لا تعدو في الغالب خمسة أطوار. الطور الأول طور الظفر بالبغية و غلب المدافع و الممانع و الاستيلاء على الملك و انتزاعه من أيدي الدولة في هذا الطور أسوة قومه في اكتساب المجد و جباية المال و المدافعة عن الحوزة و الحماية لا ينفرد دونهم بشيء لأن ذلك هو مقتضى العصبية التي وقع بها الغلب وهي لم تزل بعد بحالها. الطور الثاني طور الاستبداد على قومه و الانفراد دونهم بالملك و كبحهم عن التطاول للمساهمة و المشاركة و يكون صاحب الدولة في هذا الطور معنياً باصطناع الرجال و اتخاذ الموالى و الصنائع و الاستكثار من ذلك لجدع الموت أهل عصبيته و عشيرته المقاسمين له في نسبة الضاربين في الملك بمثل سهمه فهو يدافعهم عن الأمر و يصدهم عن موارده و يردهم على أعقابهم، أن يخلصوا إليه حتى يقر الأمر في نصابه و يفرد أهل بيته بما يبني من مجده فيعانى من مدافعتهم و مغالبتهم مثل ما عاناه الأولون في طلب الأمر أو أشد لأن الأولين دافعوا الأجانب فكان ظهراؤهم على مدافعتهم أهل العصبية بأجمعهم و هذا يدافع الأقارب لا يظاهره على مدافعتهم إلا الأقل من الأباعد فيركب صعباً من الأمر. الطور الثالث طور الفراغ و الدعة لتحصيل ثمرات الملك مما تنزع طباع البشر إليه من تحصيل المال و تخليد الآثار و بعد الصيت فيستفرغ وسعه في الجباية و ضبط الدخل و الخرج و إحصاء النفقات و القصد فيها و تشييد المباني الحافلة و المصانع العظيمة و الأمصار المتسعة و الهياكل المرتفعة و إجازة الوفود من أشراف الأمم و وجوه القبائل و بث المعروف في أهله هذا مع التوسعة على صنائعه و حاشيته في أحوالهم بالمال و الجاه واعتراض جنوده و إدرار أرزاقهم و إنصافهم في أعطياتهم لكل هلال حتى يظهر أثر ذلك عليهم في ملابسهم و شكثهم و شاراتهم يوم الزينة فيباهي بهم الدول المسالمة و يرهب الدول المحاربة و هذا الطور آخر أطوار الاستبداد من أصحاب الدولة لأنهم في هذه الأطوار كلها مستقلون بآرائهم بانون لعزهم موضحون الطرق لمن بعدهم. طور القنوع و المسالمة و يكون صاحب الدولة في هذا قانعاً بما بنى أولوه سلماً لأنظاره من الملوك و أقتاله مقلداً للماضين من سلفه فيتبع آثارهم حذو النعل بالنعل و يقتفي طرقهم بأحسن مناهج الاقتداء و يرى أن في الخروج عن تقليدهم فساد أمره و أنهم أبصر بما بنوا من مجده. الطور الخامس طور الإسراف و التبذير و يكون صاحب الدولة في هذا الطور متلفاً لما جمع أولوه في سبيل الشهوات و الملاذ و الكرم على بطانته و في مجالسه و اصطناع أخدان السوء و خضراء الدمن و تقليدهم عظيمات الأمور التي لا يستقلون بحملها و لا يعرفون ما يأتون منها يذرون منها مستفسداً لكبار الأولياء من قومه و صنائع سلفه حتى يضطغنوا عليه و يتخاذلوا عن نصرته مضيعاً من جنده بما أنفق من أعطياتهم في شهواته و حجب عنهم وجه مباشرته و تفقده فيكون مخرباً لما كان سلفه يؤسسون و هادماً لما كانوا يبنون و في هذا الطور تحصل في الدولة طبيعة الهرم و يستولي عليها المرض المزمن الذي لا تكاد تخلص منه و لا يكون لها معه برء إلى أن تنقرض كما نبينه في الأحوال التي نسردها و الله خير الوارثين.

الفصل الثامن عشر في أن آثار الدولة كلها على نسبة قوتها في أصلها
و السبب في ذلك أن الآثار إنما تحدث عن القوة التي بها كانت أولاً و على قدرها يكون الأثر فمن ذلك مباني الدولة و هياكلها العظيمة فإنما تكون على نسبة قوة الدولة في أصلها لأنها لا تتم إلا بكثرة الفعلة و اجتماع الأيدي على العمل بالتعاون فيه فإذا كانت الدولة عظيمة فسيحة الجوانب كثيرة الممالك و الرعايا كان الفعلة كثيرين جداً و حشروا من آفاق الدولة و أقطارها فتم العمل على أعظم هياكله ألا ترى إلى مصانع قوم عاد و ثمود و ما قصة القرآن عنهما.
و انظر بالمشاهدة إيوان كسرى و ما أقتدر فيه الفرس حتى أنه عزم الرشيد على هدمه و تخريبه فتكاءد عنه و شرع فيه ثم أدركه العجز و قصة استشارته ليحيى بن خالد في شأنه معروفة فانظر كيف تقتدر دولة على بناء لا تستطيع أخرى على هدمه مع بون ما بين الهدم و البناء في السهولة. تعرف من ذلك بون ما بين الدولتين و انظر إلى بلاط الوليد بدمشق و جامع بنى أمية بقرطبة و القنطرة التي على واديها كذلك بناء الحنايا ل*** الماء إلى قرطاجنة في القناة الراكبة عليها آثار شرشال بالمغرب و الأهرام بمصر و كثير من هذه الآثار الماثلة للعيان يعلم منه اختلف الدول في القوة و الضعف و اعلم أن تلك الأفعال للأقدمين إنما كانت بالهندام و اجتماع الفعلة و كثرة الأيدي عليها فبذلك شيدت تلك الهياكل و المصانع و لا تتوهم ما تتوهمه العامة أن ذلك لعظم أجسام الأقدمين عن أجسامنا في أطرافها و أقطارها فليس بين البشر في ذلك كبير بون كما نجد بين الهياكل و الآثار و لقد ولع القصاص بذلك و تغالوا فيه و سطروا عن عاد و ثمود و العمالقة في ذلك أخباراً عريقة في الكذب من أغربها ما يحكون عن عوج بن عناق رجل من العمالقة الذين قاتلهم بنو إسرائيل في الشام زعموا أنه كان لطوله يتناول السمك من البحر و يشويه إلى الشمس و يزيدون إلى جهلهم بأحوال البشر الجهل بأحوال الكواكب لما اعتقدوا أن للشمس حرارة و أنها شديدة فيما قرب منها و لا يعلمون أن الحر هو الضوء و أن الضوء فيما قرب من الأرض أكثر لانعكاس الأشعة من سطح الأرض بمقابلة الأضواء فتتضاعف الحرارة هنا لأجل ذلك و إذا تجاوزت مطارح الأشعة المنعكسة فلا حر هنالك بل يكون فيه البرد حيث مجاري السحاب و أن الشمس في نفسها لا حارة و لا باردة و أنما هي جسم بسيط مضيء لا مزاج له.
و كذلك عوج بن عناق هو فيما ذكروه من العمالقة أو من الكنعانيين الذين كانوا فريسة بني إسرائيل عند فتحهم الشام و أطوال بني إسرائيل و جسمانهم لذلك العهد قريبة من هياكلنا يشهد لذلك أبواب بيت المقدس فإنها وإن خربت و جددت لم تزل المحافظة على أشكالها و مقادير أبوابها و كيف يكون التفاوت بين عوج و بين أهل عصره بهذا المقدار و إنما مثارغلطهم في هذا أنهم استعظموا آثار الأمم و لم يفهموا حال الدول في الاجتماع و التعاون و ما يحصل بذلك و بالهندام من الآثار العظيمة فصرفوه إلى قوة الأجسام و شدتها بعظم هياكلها و ليس الأمر كذلك. و قد زعم المسعودي و نقله عن الفلاسفة مزعماً لا مستند له إلا التحكم و هو أن الطبيعة التي هي جبلة للأجسام لما برأ الله الخلق كانت في تمام الكرة و نهاية القوة و الكمال و كانت الأعمار أطول و الأجسام أقوى لكمال تلك الطبيعة فإن طروء الموت أنما هو بانحلال القوى الطبيعية فإذا كانت قوية كانت الأعمار أزيد فكان العالم في أولية نشأته تام الأعمار كامل الأجسام ثم لم يزل يتناقص لنقصان المادة إلى أن بلغ إلى هذه الحال التي هو عليها ثم لا يزال يتناقص إلى وقت الانحلال و انقراض العالم و هذا رأي لا وجه له إلا التحكم كما تراه و ليس له علة طبيعية و لا سبب برهاني و نحن نشاهد مساكن الأولين و أبوابهم و طرقهم فيما أحدثوه من البنيان و الهياكل و الديار و المساكن كديار ثمود المنحوتة في الصلد من الصخر بيوتاً صغاراً و أبوابها ضيقة و قد أشار صلى الله عليه و سلم إلى أنها ديارهم و نهى عن استعمال مياههم و طرح ما عجن به و أهرق و قال: لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلا أن تكونوا باكين يصيبكم ما أصابهم.
و كذلك أرض عاد و مصر و الشام و سائر بقاع الأرض شرقاً و غرباً و الحق ما قررناه و من آثار الدول أيضاً حالها في الأعراس و الولائم كما ذكرناه في وليمة بوران و صنيع الحجاج و ابن ذي النون و قد مر ذلك كله.
و من آثارها أيضاً عطايا الدول و أنها تكون على نسبتها و يظهر ذلك فيها و لو أشرفت على الهرم فإن الهمم التي لأهل الدولة تكون على نسبة قوة ملكهم و غلبهم للناس و الهمم لا تزال مصاحبة لهم إلى انقراض الدولة و اعتبر ذلك بجوائز ابن ذي يزن لوفد قريش كيف أعطاهم من أرطال الذهب و الفضة و الأعبد و الوصائف عشراً عشراً و من كرش العنبر واحدة و أضعف ذلك بعشرة أمثاله لعبد المطلب و إنما ملكه يومئذ قرارة اليمن خاصة تحت استبداد فارس و إنما حمله على ذلك همة نفسه بما كان لقومه التبابعة من الملك في الأرض و الغلب على الأمم في العراقين و الهند و المغرب و كان الصنهاجيون بأفريقية أيضاً إذا أجازوا الوفد من أمراء زناتة الوافدين عليهم فإنما يعطونهم المال أحمالاً و الكساء تخوتاً مملوءةً و الحملان جنائب عديدة.
و في تاريخ ابن الرقيق من ذلك أخبار كثيرة و كذلك كان عطاء البرامكة و جوائزهم و نفقاتهم و كانوا إذا كسبوا معدماً فإنما هو الولاية و النعمة آخر الدهر لا العطاء الذي يستنفده يوم أو بعض يوم و أخبارهم في ذلك كثيرة مسطورة و هي كلها على نسبة الدول جارية هذا جوهر الصقلبي الكاتب قائد جيش العبيديين لما ارتحل إلى فتح مصر استعد من القيروان بألف حمل من المال و لا تنتهي اليوم دولة إلى مثل هذا. و كذلك وجد بخط أحمد بن محمد بن عبد الحميد عمل بما يحمل إلى بيت المال ببغداد أيام المأمون من جميع النواحي نقلته من جراب الدولة غلات السواد سبع و عشرون ألف ألف درهم مرتين و ثمانمائة ألف درهم و من الحلل النجرانية مائتا حلة و من طين الختم مائتان و أربعون رطلاً كنكر أحد عشر ألف ألف درهم مرتين و ستمائة ألف درهم كورد جلة عشرون ألف ألف درهم و ثمانية دراهم حلوان أربعة آلاف ألف درهم مرتين و ثمانمائة ألف درهم الأهواز خمسة و عشرون ألف درهم مرة و من السكر ثلاثون ألف رطل فارس سبعة و عشرون ألف ألف درهم و من ماء الورد ثلاثون ألف قارورة و من الزيت الأسود عشرون ألف رطل كرمان أربعة آلاف ألف درهم مرتين و مائتا ألف درهم و من المتاع اليماني خمسمائة ثوب و من التمر عشرون ألف رطل مكران أربعمائة ألف درهم مرة السند و ما يليه أحد عشر ألف ألف درهم مرتين و خمسمائة ألف درهم و من العود الهندي مائة و خمسون رطلاً سجستان أربعة آلاف ألف درهم مرتين و من الثياب المعينة ثلثمائة ثوب ومن الفانيد عشرون رطلاً خراسان ثمانية و عشرون ألف ألف درهم مرتين و من نقر الفضة ألفا نقرة و من البراذين أربعة آلاف و من الرقيق ألف رأس. و من المتاع عشرون ألف ثوب و من الإهليلج ثلاثون ألف رطل جرجان اثنا عشر ألف ألف درهم مرتين و من الإبريسم ألف شقة. قومس ألف ألف مرتين و خمسمائة من نقر الفضة طبرستان و الروبان و نهاوند ستة آلاف ألف مرتين و ثلائمائة ألف و من الفرش الطبري ستمائة قطعة و من الأكسية مائتان و من الثياب خمسمائة ثوب و من المناديل ثلاثمائة و من الجامات ثلاثمائة الري اثنا عشر ألف ألف درهم مرتين و من العسل عشرون ألف رطل همذان أحد عشر ألف ألف درهم مرتين و ثلاثمائة ألف و من رب الرمان ألف رطل و من العسل اثنا عشر ألف رطل ما بين البصرة و الكوفة عشرة آلاف ألف درهم مرتين و سبعمائة ألف درهم ماسبذان والدينار أربعة آلاف ألف درهم مرتين شهر زور ستة آلاف ألف درهم مرتين و سبعمائة ألف درهم الموصل و ما يليها أربعة و عشرون ألف ألف درهم مرتين و من العسل الأبيض عشرون ألف ألف رطل أذربيجان أربعة آلاف ألف درهم مرتين الجزيرة و ما يليها من أعمال الفرات أربعة و ثلاثون ألف ألف درهم مرتين و من الرقيق ألف رأس و من العسل اثنا عشر ألف زق و من البزاة عشرة و من الأكسية عشرون أرمينية ثلاثة عشر ألف ألف درهم مرتين و من البسط المحفور عشرون و من الزقم خمسمائة و ثلاثون رطلاً و من المسايج السور ما هي عشرة آلاف رطل و من الصونج عشرة آلاف رطل و من البغال مائتان و من المهرة ثلاثون قنسرين أربعمائة ألف دينار و من الزيت ألف حمل دمشق أربعمائة ألف دينار و عشرون ألف دينار و الأردن سبعة و تسعون ألف دينار فلسطين ثلاثمائة ألف دينار و عشرة آلاف دينار و من الزيت ثلاثمائة ألف رطل مصر ألف ألف دينار و تسعمائة ألف دينار و عشرون ألف دينار. برقة ألف ألف درهم مرتين. أفريقية ثلاثة عشر ألف ألف درهم مرتين و من البسط مائة و عشرون. اليمن ثلاثمائة ألف دينار و سبعون ألف دينار سوى المتاع. الحجاز ثلاثمائة ألف د ينار انتهي.
و أما الأندلس فالذي ذكره الثقات من مؤرخيها أن عبد الرحمن الناصر خلف في بيوت أمواله خمسة آلاف ألف ألف دينار مكررة ثلاث مرات يكون جملتها بالقناطير خمسمائة ألف قنطار.
و رأيت في بعض تواريخ الرشيد أن المحمول إلى بيت المال في أيامه سبعة آلاف قنطار و خمسمائة قنطار في كل سنة فاعتبر ذلك في نسب الدول بعضها من بعض و لاتنكرن ما ليس بمعهود عندك و لا في عصرك شيىء من أمثاله فتضيق حوصلتك عند ملتقط الممكنات فكثير من الخواص إذا سمعوا أمثال هذه الأخبار عن الدول السالفة بادر بالإنكار و ليس ذلك من الصواب فإن أحوال الوجود والعمران متفاوتة و من أدرك منها رتبة سفلى أو وسطى فلا يحصر المدارك كلها فيها و نحن إذا اعتبرنا ما ينقل لنا عن دولة بني العباس و بني أمية و العبيديين و ناسبنا الصحيح من ذلك و الذي لا شك فيه بالذي نشاهده من هذه الدول التي هي أقل بالنسبة إليها وجدنا بينها بوناً و هو لما بينها من التفاوت في أصل قوتها و عمران ممالكها فالآثار كلها جارية على نسبة الأصل في القوة كما قدمناه و لا يسعنا إنكار ذلك عنها إذ كثير من هذه الأحوال في غاية الشهرة و الوضوح بل فيها ما يلحق بالمستفيض و التواتر و فيها المعاين و المشاهد من آثار البناء و غيره فخذ من الأحوال المنقولة مراتب الدول في قوتها أو ضعفها و ضخامتها أو صغرها و اعتبر ذلك بما نقصه عليك من هذه الحكاية المستظرفة.
و ذلك أنه ورد بالمغرب لعهد السلطان أبي عنان من ملوك بني مرين رجل من مشيخة طنجة يعرف بابن بطوطة كان رحل منذ عشرين سنة قبلها إلى المشرق و تقلب في بلاد العراق و اليمن و الهند و دخل مدينة دهلي حاضرة ملك الهند و هو السلطان محمد شاه و اتصل بملكها لذلك العهد و هو فيروزجوه و كان له منه مكان و استعمله في خطة القضاء بمذهب المالكية في عمله ثم انقلب إلى المغرب و اتصل بالسلطان أبي عنان و كان يحدث عن شأن رحلته و ما رأى من العجائب بممالك الأرض و أكثر ما كان يحدث عن دولة صاحب الهند و يأتي من أحواله بما يستغربه السامعون مثل أن ملك الهند إذا خرج إلى السفر أحصى أهل مدينته من الرجال و النساء و الولدان و فرض لهم رزق ستة أشهر تدفع لهم من عطائه و أنه عند رجوعه من سفره يدخل في يوم مشهود يبرز فيه الناس كافة إلى صحراء البلد و يطوفون به و ينصب أمامه في ذلك الحقل منجنيقات على الظهر ترمى بها شكائر الدراهم و الدنانير على الناس إلى أن يدخل إيوانه و أمثال هذه الحكايات فتناحى الناس بتكذيبه و لقيت أيامئذ وزير السلطان فارس بن وردار البعيد الصيت ففاوضته في هذا الشأن و أريته إنكار أخبار ذلك الرجل لما استفاض في الناس من تكذيبه.
فقال لي الوزير فارس إياك أن تستنكر مثل هذا من أحوال الدول بما أنك لم تره فتكون كابن الوزير الناشىء في السجن و ذلك أن وزيراً اعتقله سلطانه و مكث في السجن سنين ربي فيها ابنه في ذلك المجلس فلما أدرك و عقل سأل عن اللحمان التي كان يتغذى بها فقال له أبوه هذا لحم الغنم فقال و ما الغنم فيصفها له أبوه بشياتها و نعوتها فيقول يا أبت تراها مثل الفأر فينكر عليه و يقول أين الغنم من الفأر و كذا في لحم الإبل و البقر إذ لم يعاين في محبسه من الحيوانات إلا الفأر فيحسبها كلها أبناء جنس الفأر و لهذا كثيراً ما يعتري الناس في الأخبار كما يعتريهم الوسواس في الزيادة عند قصد الإغراب كما قدمناه أول الكتاب فليرجع الإنسان إلى أصوله و ليكن مهيمناً على نفسه و مميزاً بين طبيعة الممكن و الممتنع بصريح عقله و مستقيم فطرته فما دخل في نطاق الإمكان قبله و ما خرج عنه رفضه و ليس مرادنا الإمكان العقلي المطلق فإن نطاقه أوسع شيء فلا يفرض حداً بين الواقعات و أنما مرادنا الإمكان بحسب المادة التي للشيء فإنا إذا نظرنا أصل الشيء و جنسه و صنفه و مقدار عظمه و قوته أجرينا الحكم من نسبة ذلك على أحواله و حكمنا بالامتناع على ما خرج من نطاقه، و قل ربي زدني علماً و أنت أرحم الراحمين و الله سبحانه و تعالى أعلم.

الفصل التاسع عشر في استظهار صاحب الدولة على قومه و أهل عصبيته بالموالي و المصطنعين
إعلم أن صاحب الدولة إنما يتم أمره كما قلناه بقومه فهم عصابته و ظهراؤه على شأنه و بهم يقارع الخوارج على دولته و منهم يقلد أعمال مملكته و وزارة دولته و جباية أموله لأنهم أعوانه على الغلب و شركاؤه في الأمر و مساهموه في سائر مهماته هذا ما دام الطور الأول للدولة كما قلناه فإذا جاء الطور الثاني و ظهر الاستبداد عنهم و الانفراد بالمجد و دافعهم عنه بالمراح صاروا في حقيقة الأمر من بعض أعدائه و احتاج في مدافعتهم عن الأمر و صدهم عن المشاركة إلى أولياء آخرين من غير جلدتهم يستظهر بهم عليهم و يتولاهم دونهم فيكونون أقرب إليه من سائرهم و أخص به قرباً و اصطناعاً و أولى إيثاراً و جاهاً لما أنهم يستميتون دونه في مدافعة قومه عن الأمر الذي كان لهم و الرتبة التي ألفوها في مشاركتهم فيستخلصهم صاحب الدولة و يخصهم بمزيد التكرمة و الإيثار و يقسم لهم ما للكثير من قومه و يقلدهم جليل الأعمال و الولايات من الوزارة و القيادة و الجباية و ما يختص به لنفسه و تكون خالصة له دون قومه من ألقاب المملكة لأنهم حينئذ أولياؤه الأقربون و نصحاؤه المخلصون و ذلك حينئذ مؤذن باهتضام الدولة و علامة على المرض المزمن فيها لفساد العصبية التي كان بناء الغلب عليها.
و مرض قلوب أهل الدولة حينئذ من الامتهان و عداوة السلطان فيضطغنون عليه و يتربصون به الدوائر و يعود وبال ذلك على الدولة و لا يطمع في برئها من هذا الداء لأنه ما مضى يتأكد في الأعقاب إلى أن ذهب رسمها و اعتبر ذلك في دولة بني أمية كيف كانوا إنما يستظهرون في حروبهم و ولاية أعمالهم برجال العرب مثل عمرو بن سعد بن أبي و قاص و عبد الله بن زياد بن أبي سفيان والحجاج بن يوسف و المهلب بن أبي صفرة و خالد بن عبد الله القسري و ابن هبيرة و موسى بن نصير و بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري و نصر بن سيار و أمثالهم من رجالات العرب و كذا صدر من دولة بني العباس كان الاستظهار فيها أيضاً برجالات العرب فلما صارت الدولة للانفراد بالمجد و كبح العرب عن التطاول للولايات صارت الوزارة للعجم و الصنائع من البرامكة و بني سهل بن نوبخت و بني طاهر ثم بني بويه و موالي الترك مثل بغا و وصيف و أثلمش و باكناك و ابن طولون و أبنائهم و غير هؤلاء من موالي العجم فتكون الدولة لغير من مهدها و العز لغير من اجتلبه سنة الله في عباده و الله تعالى أعلم.

الفصل العشرون في أحوال الموالي و المصطنعين في الدول
إعلم أن المصطنعين في الدول يتفاوتون في الالتحام بصاحب الدولة بتفاوت قديمهم و حديثهم في الالتحام بصاحبها و السبب في ذلك أن المقصود في العصبية من المدافعة و المغالبة إنما يتم بالنسب لأجل التناصر في ذوي الأرحام و القربى و التخاذل في الأجانب و البعداء كما قدمناه و الولاية و المخالطة بالرق أو بالحلف تتنزل منزلة ذلك لأن أمر النسب و إن كان طبيعياً فإنما هو وهمي و المعنى الذي كان به الالتحام إنما هو العشرة و المدافعة و طول الممارسة و الصحبة بالمربى و الرضاع و سائر أحوال الموت و الحياة و إذا حصل الالتحام بذلك جاءت النعرة و التناصر و هذا مشاهد بين الناس و اعتبر مثله في الاصطناع فإنه يحدث بين المصطنع و من اصطنعه نسبة خاصة من الوصلة تتنزل هذه المنزلة و تؤكد اللحمة و إن لم يكن نسب فثمرات النسب موجودة فإذا كانت هذه الولاية بين القبيل و بين أوليائهم قبل حصول الملك لهم كانت عروقها أوشج و عقائدها أصح و نسبها أصرح لوجهين أحدهما أنهم قبل الملك أسوة في حالهم فلا يتميز النسب عن الولاية إلا عند الأقل منهم فينزلون منهم منزلة ذوي قرابتهم و أهل أرحامهم و إذا اصطنعوهم بعد الملك كانت مرتبة الملك مميزة للسيد عن المولى. و لأهل القرابة عن أهل الولاية و الاصطناع لما تقتضيه أحوال الرئاسة و الملك من تميز الرتب و تفاوتها فتتميز حالتهم و يتنزلون منزلة الأجانب و يكون الالتحام بينهم أضعف و التناصر لذلك أبعد و ذلك انقص من الاصطناع قبل الملك.
الوجه الثاني أن الاصطناع قبل الملك يبعد عهده عن أهل الدولة بطول الزمان و يخفي شأن تلك اللحمة و يظن بها في الأكثر النسب فيقوى حال العصبية و أما بعد الملك فيقرب العهد و يستوي في معرفته الأكثر فتتبين اللحمة و تتميز عن النسب فتضعف العصبية بالنسبة إلى الولاية التي كانت قبل الدولة و اعتبر ذلك في الدول و الرئاسات تجده فكل من كان اصطناعه قبل حصول الرئاسة و الملك لمصطنعه تجده أشد التحاماً به و أقرب قرابةً إليه و يتنزل منه منزلة أبنائه و إخوانه و ذوي رحمه و من كان اصطناعه بعد حصول الملك و الرئاسة لمصطنعه لا يكون له من القرابة و اللحمة ما للأولين و هذا مشاهد بالعيان حتى أن الدولة في آخر عمرها ترجع إلى الشمال الأجانب و اصطناعهم و لا يبنى لهم مجد كما بناه المصطنعون قبل الدولة لقرب العهد حينئذ بأوليتهم و مشارفة الدولة على الانقراض فيكونون منحطين في مهاوي الضعة.
و إنما يحمل صاحب الدولة على اصطناعهم و العدول إليهم عن أوليائها الأقدمين و صنائعها الأولين ما يعتريهم في أنفسهم من العزة على صاحب الدولة و قلة الخضوع له و نظره بما ينظره به قبيله و أهل نسبه لتأكد اللحمة منذ العصور المتطاولة بالمربى و الاتصال بآبائه و سلف قومه و الانتظام مع كبراء أهل بيته فيحصل لهم بذلك دالة عليه و اعتزاز فينافرهم بسببها صاحب الدولة و يعدل عنهم إلى استعمال سواهم و يكون عهد استخلاصهم و اصطناعهم قريباً فلا يبلغون رتب المجد و يبقون على حالهم من الخارجية و هكذا شأن الدول في أواخرها و أكثر ما يطلق اسم الصنائع و الأولياء على الأولين و أما هؤلاء المحدثون فخدم و أعوان والله ولي المؤمنين و هو على كل شيء ****.

الفصل الحادي و العشرون فيما يعرض في الدول من حجر السلطان و الاستبداد عليه
إذا استقر الملك في نصاب معين و منبت واحد من القبيل القائمين بالدولة و انفردوا به و دفعوا سائر القبيل عنه و تداوله بنو واحداً بعد واحد بحسب الترشيح فربما حدث التغلب على المنصب من وزرائهم و حاشيتهم و سببه في الأكثر ولاية صبي صغير أو مضعف من أهل المنبت يترشح للولاية بعهد أبيه أو بترشيح ذويه و خوله و يؤنس منه العجز عن القيام بالملك فيقوم به كافله من وزراء أبيه و حاشيته و مواليه أو قبيله و يوري بحفظ أمره عليه حتى يؤنس منه الاستبداد و يجعل ذلك ذريعة للملك فيححب الصبي عن الناس و يعوده إليها ترف أحواله و يسيمه في مراعيها متى أمكنه و ينسيه النظر في الأمور السلطانية حتى يستبد عليه و هو بما عوده يعتقد أن حظ السلطان من الملك إنما هو جلوس السرير إعطاء الصفقة و خطاب التهويل و القعود مع النساء خلف الحجاب و أن الحل و الربط و الأمر و النهي و مباشرة الأحوال الملوكية و تفقدها من النظر في الجيش و المال و الثغور أنما هو للوزير و يسلم له في ذلك إلى أن تستحكم له صبغة الرئاسة و الاستبداد و يتحول الملك إليه و يؤثر به عشيرته و أبناءه من بعده كما وقع لبني بويه و الترك و كافور الأخشيدي و غيرهم بالمشرق و للمنصور بن أبي عامر بالأندلس.
و قد يتفطن ذلك المحجور المغلب لشأنه فيحاول على الخروج من ربقة الحجر و الاستبداد و يرجع الملك إلى نصابه و يصرب على أيدي المتغلبين عليه إما بقتل أو برفع عن الرتبة فقط إلا أن ذلك في النادر الأقل لأن الدولة إذا أخذت في تغلب الوزراء و الأولياء استمر لها ذلك و قل أن تخرج عنه لأن ذلك إنما يوجد في الأكثر عن أحوال الترف و نشأة أبناء الملك منغمسين في نعيمة قد نسوا عهد الرجولة و ألفوا أخلاق الدايات و الأظار و ربوا عليها فلا ينزعون إلى رئاسة و لا يعرفون استبداداً من تغلب إنما همهم في القنوع بالأبهة و التنفس في اللذات و أنواع الترف و هذا التغلب يكون للموالي و المصطنعين عند استبداد عشير الملك على قومهم و انفرادهم به دونهم و هو عارض للدولة ضروري كما قدمناه و هذان مرضان لابرء للدولة منهما إلا في الأقل النادر و الله يؤتي ملكه من يشاء و هو على كل شيء قدير.

الفصل الثاني و العشرون في أن المتغلبين على السلطان لا يشاركونه في اللقب الخاص بالملك
و ذلك أن الملك و السلطان حصل لأوليه منذ أول الدولة بعصبية قومه و عصبيته التي استتبعتهم حتى استحكمت له و لقومه صبغة الملك و الغلب و هي لم تزل باقية و بها انحفظ رسم الدولة و بقاؤها و هذا المتغلب و إن كان صاحب عصبية من قبيل الملك أو الموالي و الصنائع فعصبيته مندرجة في عصبية أهل الملك وتابعة لها و ليس له صبغة في الملك و هو لا يحاول في استبداده انتزاع ثمراته من الأمر والنهي و الحل و العقد و الإبرام و النقض يوهم فيها أهل الدولة أنه متصرف عن سلطانه منفذ في ذلك من وراء الحجاب لأحكامه. فهو يتجافى عن سمات الملك و شاراته و ألقى به جهده و يبعد نفسه عن التهمة بذلك.
و إن حصل له الاستبداد لأنه مستتر في استبداده ذلك بالحجاب الذي ضربه السلطان و أولوه على أنفسهم عن القبيل منذ أول الدولة و مغالط عنه بالنيابة و لو تعرض لشيىء من ذلك لنفسه عليه أهل العصبية و قبيل الملك و حاولوا الإستئثار به دونه لأنه لم يستحكم له في ذلك صبغة تحملهم على التسليم له و الانقياد فيهلك لأول وهلة و قد وقع مثل هذا لعبد الرحمن بن الناصر بن منصور بن أبي عامر حين سمى إلى مشاركة هشام و أهل بيته في لقب الخلافة و لم يقنع بما قنع به أبوه و أخوه من الاستبداد بالحل و العقد و المراسم المتابعة فطلب من هشام خليفته أن يعهد له بالخلافة فنفس ذلك عليه بنو مروان و سائر قريش و بايعوا لابن عم الخليفة هشام محمد بن عبد الجبار بن الناصر و خرجوا عليهم و كان في ذلك خراب دولة العامريين و هلاك المؤيد خليفتهم و استبدل منه سواه من أعياص الدولة إلى آخرها و اختلت مراسم ملكهم و الله خير الوارثين.

الفصل الثالث و العشرون في حقيقة الملك و أصنافه
الملك منصب طبيعي للإنسان لأننا قد بنا أن البشر لا يمكن حياتهم و وجودهم إلا باجتماعهم و تعاونهم على تحصيل قوتهم و ضرورياتهم و إذا اجتمعوا دعت الضرورة إلى المعاملة و اقتضاء الحاجات و مد كل واحد منهم يده إلى حاجته يأخذها من صاحبه لما في الطبيعة الحيوانية من الظلم و العدوان بعضهم على بعض و يمانعه الآخر عنها بمقتضى الغضب و الألفة و مقتضى القوة البشرية في ذلك فيقع التنازع المفضي إلى المقاتلة و هي تؤدي إلى الهرج و سفك الدماء و إذهاب النفوس المفضي ذلك إلى انقطاع النوع و هو مما خصه الباري سبحانه بالمحافظة فاستحال بقاؤهم فوضى دون حالم يزغ بعضهم عن بعض و احتاجوا من أجل ذلك إلى الوازع و هو الحاكم عليهم و هو بمقتضى الطبيعة البشرية الملك القاهر المتحكم و لا بد في ذلك من العصبية لما قدمناه من أن المطالبات كلها و المدافعات لا تتم إلا بالعصبية و هذا الملك كما تراه منصب شريف تتوجه نحوه المطالبات و يحتاج إلى المدافعات. و لا يتم شيء من ذلك إلا بالعصبيات كما مر و العصبيات متفاوتة و كل عصبية فلها تحكم و تغلب على من يليها من قومها و عشيرها و ليس الملك لكل عصبية و إنما الملك على الحقيقة لمن يستعبد الرعية و يجبي الأموال و يبعث البعوث و يحمي الثغور و لا تكون فوق يده يد قاهرة و هذا معنى الملك و حقيقته في المشهور فمن قصرت به عصبيته عن بعضها مثل حماية الثغور أو جباية الأموال أو بعث البعوث فهو ملك ناقص لم تتم حقيقته كما وقع لكثير من ملوك البربر في دولة الأغالبة بالقيروان و لملوك العجم صدر الدولة العباسية. و من قصرت به عصبيته أيضاً عن الاستعلاء على جميع العصبيات، و الضرب على سائر الأيدي و كان فوقه حكم غيره فهو أيضاً ملك ناقص لم تتم حقيقته و هؤلاء مثل أمراء النواحي و رؤساء الجهات الذين تجمعهم دولة واحدة و كثيراً ما يوجد هذا في الدولة المتسعة النطاق أعني توجد ملوك على قومهم في النواحي القاصية يدينون بطاعة الدولة التي جمعتهم مثل صنهاجة مع العبيديين و زناتة مع الأمويين تارة و العبيديين تارةً أخرى و مثل ملوك العجم في دولة بني العباس و مثل ملوك الطوائف من الفرس مع الاسكندر و قومه اليونانيين و كثير من هؤلاء فاعتبره تجده و الله القاهر فوق عباده.

الفصل الرابع و العشرون في أن إرهاف الحد مضر بالملك و مفسد له في الأكثر
إعلم أن مصلحة الرعية في السلطان ليست في ذاته و جسمه من حسن شكله أو ملاحة وجهه أو عظم جثمانه أو أتساع علمه أو جودة خطه أو ثقوب ذهنه و إنما مصلحتهم فيه من حيث إضافته إليهم فإن الملك و السلطان من الأمور الإضافية و هي نسبة بين منتسبين فحقيقة السلطان أنه المالك للرعية القائم في أمورهم عليهم فالسلطان من له رعية و الرعية من لها سلطان و الصفة التي له من حيث إضافته إليهم هي التي تسمى الملكة و هي كونه يملكهم فإذا كانت هذه الملكة و توابعها من الجودة بمكان حصل المقصود من السلطان على أتم الوجوه فإنها إن كانت جميلة صالحة كان ذلك مصلحة لهم و إن كانت سيئة متعسفة كان ذلك ضرراً عليهم و إهلاكاً لهم.
و يعود حسن الملكة إلى الرفق فإن الملك إذا كان قاهراً باطشاً بالعقوبات منقباً عن عورات الناس و تعديد ذنوبهم شملهم الخوف و الذل و لاذوا منه بالكذب و المكر و الخديعة فتخلقوا بها و فسدت بصائرهم و أخلاقهم و ربما خذلوه في مواطن الحروب و المدافعات ففسدت الحماية بفساد النيات و ربما أجمعوا على قتله لذلك فتفسد الدولة و يخرب السياج و إن دام أمره عليهم و قهره فسدت العصبية لما قلناه أولاً و فسد السياج من أصله بالعجز عن الحماية و إذا كان رفيقاً بهم متجاوزاً عن سيئاتهم استناموا إليه و لاذوا به و أشربوا محبته و استماتوا دونه في محاربة أعدائه فاستقام الأمر من كل جانب و أما توابع حسن الملكة فهي النعمة عليهم و المدافعة عنهم فالمدافعة بها تتم حقيقة الملك و أما النعمة عليهم و الإحسان لهم فمن حملة الرفق بهم و النظر لهم في معاشهم و هي أصل كبير من التحبب إلى الرعية و أعلم أنه قلما تكون ملكة الرفق في من يكون يقظاً شديد الذكاء من الناس و أكثر ما يوجد الرفق في الغفل و المتغفل و أقل ما يكون في اليقظ لأنه يكلف الرعية فوق طاقتهم لنفوذ نظره فيما وراء مداركهم و إطلاعه على عواقب الأمور في مبادئها بالمعية فيهلكون لذلك قال صلى الله عليه و سلم سيروا على سير أضعفكم. و من هذا الباب اشترط الشارع في الحاكم قلة الإفراط في الذكاء، و مأخذه من قصة زياد ابن أبي سفيان لما عزله عمر عن العراق و قال له لم عزلتني يا أمير المؤمنين لعجز أم لخيانة فقال عمر لم أعزلك لواحدة منهما و لكني كرهت أن أحمل فضل عقلك عن الناس، فأخذ من هذا أن الحاكم لا يكون مفرط الذكاء و الكيس مثل زياد بن أبي سفيان و عمرو بن العاص لما يتبع ذلك من التعسف و سوء الملكة و حمل الوجود على ما ليس في طبعه كما يأتي في آخر هذا الكتاب و الله خير المالكين و تقرر من هذا أن الكيس و الذكاء عيب في صاحب السياسة لأنه إفراط في الفكر كما أن البلادة إفراط في الجمود و الطرفان مذمومان من كل صفة إنسانية و المحمود هو التوسط كما في الكرم مع التبذير و البخل و كما في الشجاعة مع الهوج و الجبن و غير ذلك من الصفات الإنسانية و لهذا يوصف الشديد الكيس بصفات الشيطان فيقال شيطان و متشيطن و أمثال ذلك و الله يخلق ما يشاء و هو العليم القدير.

الفصل الخامس و العشرون في معنى الخلافة و الإمامة
لما كانت حقيقة الملك أنه الاجتماع الضروري للبشر و مقتضاه التغلب و القهر اللذان هما من آثار الغضب و الحيوانية كانت أحكام صاحبه في الغالب جائزة عن الحق مجحفة بمن تحت يده من الخلق في أحوال دنياهم لحمله إياهم في الغالب على ما ليس في طوقهم من أغراضه و شهواته و يختلف في ذلك باختلاف المقاصد من الخلف و السلف منهم متعسر طاعته لذلك و تجيء العصبية المفضية إلى الهرج و القتل فوجب أن يرجع في ذلك إلى قوانين سياسية مفروضة يسلمها الكافة و ينقادون إلى أحكامها كما كان ذلك للفرس و غيرهم من الأمم و إذا خلت الدولة من مثل هذه السياسة لم يستتب أمرها و لم يتم استيلاؤها سنة الله في الذين خلوا من قبل فإذا كانت هذه القوانين مفروضة من العقلاء و أكابر الدولة و بصرائها كانت سياسة عقلية و إذا كانت مفروضة من الله بشارع يقررها و يشرعها كانت سياسة دينية نافعة في الحياة الدنيا و في الآخرة و ذلك أن الخلق ليس المقصود بهم دنياهم فقط فإنها كلها عبث و باطل إذ غايتها الموت و الفناء، و الله يقول أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا فالمقصود بهم إنما هو دينهم المفضي بهم إلى السعادة في آخرتهم صراط الله الذي له ما في السموات و ما في الأرض فجاءت الشرائع بحملهم على ذلك في جميع أحوالهم من عبادة و معاملة حتى في الملك الذي هو طبيعي للاجتماع الإنساني فأجرته على منهاج الدين ليكون الكل محوطاً بنظر الشارع. فما كان منه بمقتضى القهر و التغلب و إهمال القوة العصبية في مرعاها فجور و عدوان و مذموم عنده كما هو مقتضى الحكمة السياسية و ما كان منه بمقتضى السياسة و أحكامها فمذموم أيضاً لأنه نظر بغير نور الله و من لم يجعل الله له نوراً فما له من نور لأن الشارع أعلم بمصالح الكافة فيما هو مغيب عنهم من أمور آخرتهم و أعمال البشر كلها عائدة عليهم في معادهم من ملك أو غيره قال صلى الله عليه و سلم: إنما هي أعمالكم ترد عليكم. و أحكام السياسة إنما تطلع على مصالح الدنيا فقط يعلمون ظاهراً من حياة الدنيا و مقصود الشارع بالناس صلاح آخرتهم فوجب بمقتضى الشرائع حمل الكافة على الأحكام الشرعية في أحوال دنياهم و آخرتهم و كان هذا الحكم لأهل الشريعة و هم الأنبياء و من قام فيه مقامهم و هم الخلفاء فقد تبين لك من ذلك معنى الخلافة و أن الملك الطبيعي هو حمل الكافة على مقتضى النظر العقلي في *** المصالح الدنيوية و دفع المضار و الخلافة هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية و الدنيوية الراجعة إليها إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين و سياسة الدنيا به فأفهم ذلك و اعتبره فيما نورده عليك من بعد و الله الحكيم العليم.

الفصل السادس و العشرون فى اختلاف الأمة في حكم هذا المنصب و شروطه
و إذ قد بينا حقيقة هذا المنصب و أنه نيابة عن صاحب الشريعة في حفظ الدين و سياسة الدنيا به تسمى خلافة و إمامة و القائم به خليفة و إماماً فأما تسميته إماماً فتشبيهاً بإمام الصلاة في أتباعه و الإقتداء به و لهذا يقال الإمامة الكبرى و أما تسميته خليفة فلكونه يخلف النبي في أمته فيقال خليفة بإطلاق و خليفة رسول الله و اختلف في تسميته خليفة الله فأجازه بعضهم اقتباساً من الخلافة العامة التي للآدمين في قوله تعالى إني جاعل في الأرض خليفة و قوله جعلكم خلائف الأرض.
و منع الجمهور منه لأن معنى الآية ليس عليه و قد نهى أبو بكر عنه لما دعي به و قال: لست خليفة الله و لكني خليفة رسول الله صلى الله عليه و سلم. و لأن الاستخلاف إنما هو في حق الغائب و أما الحاضر فلا. ثم إن نصب الإمام واجب قد عرف وجوبه في الشرع بإجماع الصحابة و التابعين لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم عند وفاته بادروا إلى بيعة أبي بكر رضي الله عنه و تسليم النظر إليه في أمورهم و كذا في كل عصر من بعد ذلك و لم تترك الناس فوضى في عصر من الأعصار واستقر ذلك إجماعاً دالاً على وجوب نصب الإمام. و قد ذهب بعض الناس إلى أن مدرك وجوبه العقل، و أن الإجماع الذي وقع إنما هو قضاء بحكم العقل فيه.
قالوا و إنما وجب بالعقل لضرورة الاجتماع للبشر و استحالة حياتهم و وجودهم منفردين و من ضرورة الاجتماع التنازع لازدحام الأغراض. فما لم يكن الحاكم الوازع أفضى ذلك إلى الهرج المؤذن بهلاك البشر و انقطاعهم مع أن حفظ النوع من مقاصد الشرع الضرورية و هذا المعنى بعينه هو الذي لحظه الحكماء في وجوب النبؤات في البشر و قد نبهنا على فساده و أن إحدى مقدماته أن الوازع إنما يكون بشرع من الله تسلم له الكافة تسليم إيمان ما و اعتقاد و هو غير مسلم لأن الوازع قد يكون بسطوة الملك و قهر أهل الشوكة و لو لم يكن شرع كما في أمم المجوس و غيرهم ممن ليس له كتاب أو لم تبلغه الدعوة أو نقول يكفي في رفع التنازع معرفة كل واحد بتحريم الظلم عليه بحكم العقل فادعاؤهم أن ارتفاع التنازع إنما يكون بوجود الشرع هناك و نصب الإمام هنا غير صحيح بل كما يكون بنصب الإمام يكون بوجود الرؤساء أهل الشوكة أو بامتناع الناس عن التنازع و التظالم فلا ينهض دليلهم العقلي المبني على هذه المقدمة فدل على أن مدرك وجوبه أنما هو بالشرع و هو الاجماع الذي قدمناه.
و قد شذ بعض الناس فقال بعدم وجوب هذا النصب رأساً لا بالعقل و لا بالشرع منهم الأصم من المعتزلة و بعض الخوارج و غيرهم، و الواجب عند هؤلاء إنما هو إمضاء الحكم الشرع فإذا تواطأت الأمة على العدل و تنفيذ أحكام الله تعالى لم يحتج إلى إمام و لا يجب نصبه و هؤلاء محجوجون بإلإجماع. و الذي حملهم على هذا المذهب إنما هو الفرار عن الملك و مذاهبه من الاستطالة و التغلب و الاستمتاع بالدنيا لما رأوا الشريعة ممتلئة بذم ذلك و النعي على أهله و مرغبة في رفضه. و أعلم أن الشرع لم يذم الملك لذاته و لا حظر القيام به لم إنما ذم المفاسد الناشئة عنه من القهر و الظلم و التمتع باللذات و لا شك أن في هذه مفاسد محظورة و هي من توابعه كما أثنى على العدل و النصفة و إقامة مراسم الدين و الذب عنه و أوجب بإزائها الثواب و هي كلها من توابع الملك.
فإذاً إنما وقع الذم للملك على صفة و حال دون حال أخرى و لم يذمه لذاته و لا طلب تركه كما ذم الشهوة و الغضب من المكلفين و ليس مراده تركهما بالكلية لدعاية الضرورة إليه و أما المراد تصريفهما على مقتضى الحق و قد كان لداود و سليمان صلوات الله و سلامه عليهما الملك الذي لم يكن لغيرهما و هما من أنبياء الله تعالى و أكرم الخلق عنده ثم نقول لهم أن هذا الفرار عن الملك بعدم و جوب هذا النصب لا يغنيكم شيئاً لأنكم موافقون على وجوب إقامة أحكام الشريعة و ذلك لا يحصل إلا بالعصبية و الشوكة و العصبية مقتضية بطبعها للمك فيحصل الملك و إن لم ينصب إمام و هو عين ما قررتم عنه. و إذا تقرر أن هذا النصب واجب بإجماع فهو من فروض الكفاية و راجع إلى اختيار أهل العقد و الحل فيتعين عليهم نصبه و يجب على الخلق جميعاً طاعته لقوله تعالى أطيعوا الله و أطيعوا الرسول و أولي الأمر منكم.
و أما شروط هذا المنصب فهي أربعة: العلم و العدالة و الكفاية و سلامة الحواس و الأعضاء مما يؤثر في الرأي و العمل و اختلف في شرط خامس و هو النسب القرشي فأما اشتراط العلم فطاهر لأنه إنما يكون منفذاً لأحكام الله تعالى إذا كان عالماً بها و ما لم يعلنها لا يصح تقديمه لما و لا يكفي من العلم إلا أن يكون مجتهداً لأن التقليد نقص و الإمامة تستدعي الكمال في الأوصاف و الأحوال و أما العدالة فلأنه منصب ديني ينظر في سائر المناصب التي هي شرط فيها فكان أولى باشتراطها فيه.
و لاخلاف في انتقاء العدالة فيه بفسق الجوارح من ارتكاب المحظورات و أمثالها و في انتفائها بالبدع الاعتقادية خلاف.
و أما الكفاية فهو أن يكون جزئياً على إقامة الحدود و اقتحام الحروب بصيراً بها كفيلاً يحمل الناس عليها عارفاً بالعصبية و أحوال الدهاء قوياً على معاناة السياسة ليصح له بذلك ما جعل إليه من حماية الدين و جهاد العدو و إقامة الأحكام و تدبير المصالح.
و أما سلامة الحواس و الأعضاء من النقص و العطلة كالجنون و العمى و الصمم و الخرس و ما يؤثر فقده من الأعضاء في العمل كفقد اليدين و الرجلين و الأنثيين فتشترط السلامة منها كلها لتأثير ذلك في تمام عمله و قيامه بما جعل إليه و إن كان إنما يشين في المنظر فقط كفقد إحدى هذه الأعضاء فشرط السلامة منه شرط كمال و يلحق بفقدان الأعضاء المنع من التصرف و هو ضربان ضرب يلحق بهذه في اشتراط السلامة منه شرط وجوب و هو القهر و العجز عن التصرف جملة بالأسر و شبهه و ضرب لا يلحق بهذه و هو الحجر باستيلاء بعض أعوانه عليه من غير عصيان و لا مشاقة فينتقل النظر في حال هذا المستولى فإن جرى على حكم الدين و العدل و حميد السياسة جاز قراره و إلا استنصر المسلمون بمن يقبض يده عن ذلك و يدفع علته حتى ينفذ فعل الخليفة.
و أما النسب القرشي فلإجماع الصحابة يوم السقيفة على ذلك و احتجت قريش على الأنصار لما هموا يومئذ ببيعة سعد بن عبادة و قالوا: منا أمير و منكم أمير. بقوله صلى الله عليه و سلم: الأئمة من قريش. و بأن النبي صلى الله عليه و سلم أوصانا بأن نحسن إلى محسنكم و نتجاوز عن مسيئكم و لو كانت الإمارة فيكم لم تكن الوصية بكم فحجوا الأنصار و رجعوا عن قولهم منا أمير و منكم أمير و عدلوا عما كانوا هموا به من بيعة سعد لذلك. و ثبت أيضاً في الصحيح لا يزال هذا الأمر في هذا الحي من قريش و أمثال هذه الأدلة كثيرة إلا أنه لما ضعف أمر قريش و تلاشت عصبيتهم بما نالهم من الترف و النعيم و بما أنفقتهم الدولة في سائر أقطار الأرض عجزوا بذلك عن حمل الخلافة و تغلبت عليهم الأعاجم و صار الحل و العقد لهم فاشتبه ذلك على كثير من المحققين حتى ذهبوا إلى نفي طه اشتراط القرشية و عولوا على ظواهر في ذلك مثل قوله صلى الله عليه و سلم: اسمعوا و أطيعوا و إن ولي عليكم عبد حبشي ذو زبيبة. و هذا لا تقوم به حجة ذلك فإنه خرج مخرج التمثيل و الغرض للمبالغة في إيجاب السمع و الطاعة و مثل قول عمر لو كان سالم مولى حذيفة حياً لوليته أو لما دخلتني فيه الظنة و هو أيضاً لا يفيد ذلك لما علمت أن مذهب الصحابي ليس بحجة و أيضاً فمولى القوم منهم و عصبية الولاء حاصلة لسالم في قريش و هي الفائدة في اشتراط النسب و لما استعظم عمر أمر الخلافة و رأى شروطها كأنها مفقودة في ظنه عدل إلى سالم لتوفر شروط الخلافة عنده فيه حتى من النسب المفيد للعصبية كما نذكر و لم يبق إلا صراحة النسب فرآه غير محتاج إليه إذ الفائدة في النسب إنما هي العصبية و هي حاصلة من الولاء فكان ذلك حرصاً من عمر رضي الله عنه على النظر للمسلمين و تقليد أمرهم لمن لا تلحقه فيه لائمة و لا عليه فيه عهدة.
رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية

الكلمات الدلالية (Tags)
مقدمة, ابن, خلدون


يتصفح الموضوع حالياً : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
أدوات الموضوع

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


المواضيع المتشابهه للموضوع مقدمة ابن خلدون
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
حمل ادبية الخطاب النثري عند ابن خلدون مهند دراسات و مراجع و بحوث أدبية ولغوية 2 01-25-2014 09:28 PM
منظور ابن خلدون في اكتساب اللغة العربية عبدالناصر محمود مقالات وتحليلات مختارة 0 05-17-2013 06:06 AM
آراء ابن خلدون عن طبائع العرب جدل واختلاف Eng.Jordan مقالات وتحليلات مختارة 0 12-11-2012 08:27 PM
أصول الأدب العربي عند ابن خلدون Eng.Jordan أخبار ومختارات أدبية 0 09-11-2012 11:56 AM
مقدمة مقدمة في علوم القران محمد خطاب شذرات إسلامية 0 01-12-2012 08:54 PM

   
|
 
 

  sitemap 

 


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 11:59 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.12 by vBS
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والمشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59