#1  
قديم 02-03-2012, 02:39 PM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,413
افتراضي مؤثرات أدب دوستيفسكي في رواية " قلب الليل "لنجيب محفوظ


د ممدوح ابو لوي

مقدمــــة:
يعتبر دوستيفسكي مفخرة الأدب الروسي، لا بل العالمي، فهو الذي تغلغل إلى أعماق النفس البشرية، وقدّم لنا نماذج أدبية خالدة. ولقد سجل نجيب محفوظ صفحة جديدة في تاريخ الأدب العربي والعالمي. وحصل على جائزة نوبل للآداب في عام 1988م، وجائزة الدولة التقديرية، وجائزة الدول المطلة على البحر المتوسط. ويتقن نجيب محفوظ اللغة الانكليزية، وبدأ حياته الأدبية بنشر كتاب كان قد ترجمه عن اللغة الانكليزية، وشاءت الأقدار أن يشبه بذلك كلاً من دوستيفسكي (1821-1881) وليف تولستوي (1828-1910) فلقد بدأ دوستيفسكي حياته الأدبية بأن ترجم رواية "يوجين غرانديه" للكاتب الفرنسي بلزاك إلى اللغة الروسية في عام 1844، وكذلك بدأ ليف تولستوي حياته الأدبية بترجمة رواية "رحلة عاطفية" لشتيرن وإننّي أذكر هذه الحقيقة من أجل التأكيد على أنّ نجيب محفوظ قرأ دوستيفسكي باللغة الانكليزية قبل ترجمته إلى العربية، وقرأه باللغة العربية عندما ترجمه الدكتور سامي الدروبي (1921-1976) من الفرنسية إلى العربية، وتأثر نجيب محفوظ بدوستيفسكي، وهذا واضح في رواية "اللص والكلاب"، التي صدرت في عام 1961، وكذلك في رواية "قلب الليل" التي صدرت في عام 1975، أو كما يحلو للبعض أن يسموها "ليل القلب" بمعنى ظلمة القلب وقساوته.
تجمع دوستيفسكي بمحفوظ(مواليد 1911) قواسم مشتركة كثيرة منها أنهما أبدعا شخصيات أدبية فريدة، صحيح أنّ دوستيفسكي استوحى شخصية راسكو لنيكوف من خبر قرأه في إحدى الجرائد، وكذلك نجيب محفوظ استوحى شخصية سعيد مهران من تحقيق نشرته جريدة "الأخبار" في القاهرة في عام 1960 عن المدعو محمود أمين سليمان، إلا أنّ هاتين الشخصيتين المتشابهتين، هما من إبداع خيال وفكر عملاقي الأدب العالمي. صنع كلّ من دوستيفسكي ونجيب محفوظ الرواية الفكرية، حيث يصبح البطل عبداً لأفكاره، فما البطل إلا جسد أو وعاء يحمل فكرةً تقوده، كيفما يحلو لها، وللفكرة سيرة حياة، تولد في فترة معينة، وتنمو وتنضج في فترة أخرى، وقد تموت، في مرحلة أخرى، مخلفة وراءها نتائج معينة، يتلخص السؤال الأول في كيفية إطلاع نجيب محفوظ على أدب دوستيفسكي، فلقد اطلع عليه باللغتين الانكليزية والعربية.
أما السؤال الثاني، فهو حول مدى حاجة نجيب محفوظ لأدب دوستيفسكي، فيرى البعض أنّ محفوظ كاتب عربي أصيل وأبطاله أبناء التربة العربية في مصر، هذا كله صحيح، ولكنه لا يمنع من أن يقع محفوظ تحت تأثير كاتبٍ، قدم للأدب الكثير من الإنجازات ولا سيما على صعيد التغلغل في ثنايا النفس الإنسانية مثل دوستيفسكي. والسؤال الثالث وهو المنهج الذي اتبعته في دراستي، التي تقع في مجال من مجالات الأدب المقارن، فحاولت الاستعانة بالمدرستين الفرنسية (التأثير والتأثر) والأمريكية (وجود تشابهات) ووجدت تشابهاً بين الشخصيات التي أبدعها دوستيفسكي مثل شخصية راسكو لنيكوف (الجريمة والعقاب) 1866 وشخصية أوبيليت في رواية (الأبله) 1868وشخصية إيفان كارامازوف في رواية (الأخوة كارامازوف) 1880 والشخصيات التي أبدعها نجيب محفوظ مثل سعيد مهران في رواية (اللص والكلاب) 1961 وشخصية جعفر الراوي في رواية "قلب الليل" 1975.
وكذلك وجدت تشابهاً بين أحداث رواية "الجريمة والعقاب" لدوستيفسكي، ورواية "اللص والكلاب" لمحفوظ لأن الأحداث تدور حول السرقة والأفكار الخاطئة وبكلمة أخرى حول الثواب والعقاب.
مؤثرات أدب دوستيفسكي في رواية
"قلب الليل" لنجيب محفوظ
1-يقول راسكو لنيكوف بطل رواية "الجريمة والعقاب" التي صدرت في عام 1866 مخاطباً المحقق بورفيري بتروفيتش: "اسمح لي أن ألفت نظرك إلى أننّي، لا أعد نفسي لا مثل محمد، ولا مثل نابليون.. ولا مثل أيّ شخصٍ من هذا النوع!.. وإذ أننّي لست واحداً من هؤلاء الأشخاص. فإننّي لا أستطيع أن أقدّم جواباً مرضياً فأقول لك، ما الذي يمكن أن أفعله.
قال بوفيري بتروفيتش فجأة بألفةٍ مخيفة:
-دعك من هذا الكلام! أيّ واحد منا، في روسيا، لا يعد نفسه اليوم مثل نابليون"؟(1) .
إذن، إنّ وجود شبهٍ بين راسكو لنيكوف من جهةٍ، وبين الأشخاص الذين قلبوا وجه التاريخ، مثل الرسول العربي الكريم، ونابليون بونابرت
1769-1821 موضوع أساسي في رواية "الجريمة والعقاب" وهذا واضح في كلمات راسكو لنيكوف، وفي مقالته، التي نشرها في إحدى الجرائد، وفي استجواب المحقق.
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه، هل هناك شبه بين جعفر الراوي، بطل رواية "قلب الليل" التي صدرت في عام 1975 وبين الرسول العربي الكريم؟ وماهو هذا الشبه؟ للإجابة عن هذين السؤالين إجابة دقيقة. يجب أن نعود إلى نص الرواية نفسها.
نستشهد ببعض عبارات الرواية. يقول جعفر الراوي:
"-سأعترف لك بسرٍ. لم أبح به لإنسان. ولا لزوجتي الصديقة.
-حقاً!
-خطر لي ذات مرةٍ، أنّه توجد أوجه شبهٍ بين حياة النبي وحياتي!
وتريث قليلاً، ولكنني لم أعلق، فواصل حديثه:
-فقد توفي والدي، وأنا دون الوعي، وتوفيت أمي، وأنا لم أكد أجاوز الخامسة من عمري فتكفلني جدي، ثم تصورت خروجي من قصر جدي نوعاً من الهجرة.
-ولكن النبي لم يهاجر من أجل المغامرة.
-كلا.. كلا.. إنّه تشابه، وليس تطابقاً.. ثم جاء زواجي من سيدةٍ ذات حسبٍ ونسبٍ، وتكبرني في العمر وكيف وجدت في المناخ، الذي هيأته لي فرصةً طيبةً، للدراسة والتفكير تأملت ذلك، فخطر لي أننّي سأكون صاحب رسالةٍ أيضاً"(2) .
إذن، نجد في رواية "الجريمة والعقاب" شبهاً بين راسكو لنيكوف وبين النبي، وعظماء التاريخ الإنساني. وكذلك يشبّه جعفر الراوي، بطل رواية "قلب الليل" حياته بحياة النبي. وبالتالي فإذا كان كلّ من راسكو لنيكوف وجعفر الراوي يشبه النبي، فإنّ كلاً منهما يشبه الآخر.
2-في ذلك الوقت الذي كان فيه راسكو لنيكوف يعيش عالةً على أمّه وأخته، ولا يستطيع أن يدفع أجرة غرفته الصغيرة، التي تشبه الصندوق أو التابوت، وفي الوقت الذي كان فيه يعاني من الجوع كان يعتبر نفسه من العظماء، ومن الناس الذين ولدوا لكي ينقذوا المظلومين من الظلم والقهر والفقر، ولكنه لم ينقد أحداً. بل سبّب المصائب لنفسه وللآخرين. تشبه حالته هذه، حالة سعيد مهران بطل رواية اللص والكلاب، وحالة جعفر الراوي بطل رواية "قلب الليل".
يعتبر سعيد مهران نفسه من أولئك الذين يستطيعون قلب النظام الاجتماعي، وفي نهاية مغامراته، كان عالةً على من حوله، وبعد ذلك استسلم لرجال الأمن.
أمّا جعفر الراوي، بطل رواية قلب الليل، التي صدرت في عام 1975، فإنه رفض جده الشيخ الراوي، ورفض قصره، ونمط حياته، وظن أنّه يستطيع أن يقدّم نظريةً جديدةً تتحاشى عيوب النظرية الماركسية، وتبتعد عن عيوب النظام الغربي، وألف كتاباً، ضمنّه أفكاره، التي برأيه تستطيع إنقاذ البشرية كلّها، وانتهى به الأمر إلى التشرد والتسكع، لا يجد قطعةً نقديةً في جيبه، ولا مكاناً ينام فيه إلا الخراب، وهو بقايا قصر جده، أيّ أنّه قبل أن يعيش في الخراب وهذا نوع في نهاية المطاف من الاستسلام، بعد أن رفض القصر عندما كان عامراً، ويعيش في أطلاله بعد أن أصبح خراباً.
إنّه مجموعة من المتناقضات، كما يقولل عن نفسه "إننّي حزمة من المتناقضات"(3) .
ويجد الموظف الذي يستمع إلى أحاديث جعفر الراوي تناقضاً حاداً بين منظره التعيس وبين لهجته المتعالية.
هذه الصورة الفنية، وهي حزمة من المتناقضات، هي التي ركّز الكاتب الروسيّ المذكور اهتمامه عليها. ولا بدّ أنّ نجيب محفوظ عندما صوّر الشخصية المتناقضة مع ذاتها، استفاد من تجربة دوستيفسكي الذي تعمق في رسم صوره الفنية، فرسمها من جوانبها كافة.
إن دوستيفسكي 1821-1881 من الكتّاب الرواد، الذين غاصوا إلى أعماق النفس البشرية، فوصفوا تناقضاتها، ولقد صوّر نجيب محفوظ شخصياتٍ متناقضة مع ذاتها، تشبه تلك التي رسمها دوستيفسكي في رواياته.
فعلى سبيل المثال لا الحصر، فإنّ شخصية سعيد مهران، بطل رواية "اللص والكلاب" (1961) متناقضة مع ذاتها، فهو يريد أن ينقذ الآخرين من الفقر والجوع في حين لا يستطيع أن يجد رغيفاً من الخبز، ولا مأوى ولا قرشاً واحداً.
وكذلك رؤوف علوان أحد أبطال هذه الرواية فهو لص وكلب في الوقت ذاته، يشجّع سعيد مهران على السرقة، وعندما يسرقه سعيد مهران يحارب السرقة بقواه كلّها. وكذلك فإنّ عليش سدرة لص وكلب في آنٍ واحدٍ. إنّه ينبح على اللص سعيد مهران، وفي الوقت ذاته إنّه لص لأنّه سرق من سعيد مهران أمواله وكتبه وزوجته وابنته وبالتالي حياته كلّها.
ننتقل إلى روايةٍ أخرى ألا وهي رواية "السمان والخريف" التي صدرت بعد مرور عامٍ واحدٍ على صدور رواية "اللص والكلاب" أي في عام 1962.
إذا كان نجيب محفوظ قد صوّر ثائراً في رواية "اللص والكلاب" في شخصية سعيد مهران، فإنّه في رواية "السمان والخريف" يذكر أحياناً بعض الأحداث التاريخية التي وقعت بالفعل في مصر ومنها ثورة 23 تموز عام 1952، وكذلك العدوان الثلاثي على مصر، الذي أعقب تأميم قناة السويس في عام 1956.
ويصوّر نجيب محفوظ في هذه الرواية شخصية عيسى المتناقضة مع ذاتها فيقول له إبراهيم خيرت:
-"إنك باعترافك منقسم الشخصية"(4) .
يطرد عيسى فتاةً حملت منه، اسمها ريري، وبعد مرور سنوات وبعد أن تحسنت أحوال الفتاة، وأصبحت تمتلك محلاً تجارياً، اسمه "خذ واشكر" أخذ يلهث وراءها، ويطالب بابنته، التي أنجبتها منه، في حين كان في الماضي ينكر ذلك.
وكذلك فإنّ شخصية عثمان بيومي في رواية "حضرة المحترم" التي صدرت في عام 1975 أيضاً متناقضة مع ذاتها يحمل عثمان بيومي شهادة ليسانس باختصاص حقوق، ذلك الاختصاص الذي يكثر في روايات نجيب محفوظ، فهو اختصاص رؤوف علوان في رواية "اللص والكلاب" وهو اختصاص جعفر الراوي في رواية "قلب الليل".
ويصل عثمان بيومي إلى وظيفةٍ محترمةٍ، ويطمع بمنصب مدير عام، يحبّ موظفة اسمها أنيسة رمضان ويرفض الزواج منها، لأنّه يسعى نحو المجد الوظيفي، ويرفض الزواج من ناظرة، اسمها أصيلة حجازي ويخدعها وينتهي به المطاف إلى أنّه يقرر فجأة الزواج من قدرية المومس التي كان يتردد إليها "كاللص متخفياً في الظلام"(5) مرةً في الشهر أو أكثر مقابل خمسين قرشاً، تزوجها بعد أن لهث مدةٍ طويلةٍ وراء سراب المجد، "أو تحقيق الألوهية على الأرض"(6) .
نجد هذه الشخصية المتناقضة مع ذاتها في روايات دوستيفسكي فكما ذكرنا، فإنّ شخصية راسكو لنيكوف بطل رواية "الجريمة والعقاب" متناقضة مع ذاتها، فهو كريم، إلا أنّه بعد أن يقدّم المساعدات لأسرة مارميلادوف، يندم على كرمه.
قتل راسكولنيكوف العجوز المرابية وأختها، ونهب أموالها ومجوهراتها، إلا أنّه بدلاً من أن يستفيد من هذه المسروقات، رمى بها تحت صخرة في مكانٍ مهجورٍ، وكاد أن يرمي بها في نهر النيفا... "فزحزح الصخرة من مكانها، إنّ حفرةً صغيرةً، كانت قد تشكلت تحت الصخرة فسرعان ما أخذ راسكولنيكوف يرمي في هذه الحفرة كلّ ما كان في جيوبه وكانت حافظة النقود آخر شيءٍ رماه"(7) .
يقارن راسكو لنيكوف نفسه بعظماء التاريخ مثل نابليون بونابرت
(1769-1821) ويقول عنه إنّه "يقصف طولون بالمدافع، ويقوم بمذبحةٍ بباريس، وينسى جيشه بمصر، وينفق نصف مليون من الرجال في حملة موسكو.. ثم تقام له التماثيل بعد موته. كلّ شيءٍ مباح إذن له! إلا أنّ أولئك الرجال ليسوا من لحمٍ، بل من برونز"(8) .
وبعد ذلك يقارن نفسه بالنبي العربيّ.. "إلا أننّي لأفهم أعمق الفهم ذلك النبي، الممتطي صهوة جواده، المشهر سيفه، القائل: اللّه يريد هذا، فأطع واخضع أيّها المخلوق المرتعش.."(9) .
يقارن راسكولنيكوف نفسه بالعظماء وفي الوقت ذاته، يصف نفسه "ما أنا إلا قملة محشوة بأفكارٍ فنيةٍ"(10) .
وكذلك تتصف بالتناقض سونيا مارميلادوف، التي يقول لها راسكولنيكوف.
-"ولكن قولي أخيراً: كيف يمكن أن يجتمع في نفسك مثل هذا العار ومثل هذه الحطة، مع أنبل العواطف وأقدس المشاعر؟"(11) .
وكذلك فإنّ شخصية سفيدريغايلوف، الذي يشبه راسكولنيكوف، أيضاً شخصية متناقضة مع ذاتها يبلغ عمر سفيدريغايلوف خمسين عاماً، ومع هذا فهو يخطب فتاةً عمرها ستة عشر عاماً، ويتلاعب بعواطفها، وتوافق هذه الفتاة على الخطوبة بسبب عوز أسرتها إلى النقود، قضى سنتين في سلاح الفرسان، ثمّ تسكع ببطرسبرج، وثمّ تزوّج مارفا بتروفنا، وعاش معها في الريف، وهو غشاش، كما يسمّي نفسه، وقاتل، فلقد قتل زوجته إذ دسّ لها السمّ في الطعام، ويكذب، وفاجر، ويحاول اغتصاب دونيا أخت راسكولنيكوف إلا أنّها تطلق عليه النار دفاعاً عن شرفها، وتجرحه ولم تقتله. وهذا وجه من وجوه سفيدريغا يلوف.
أمّا الوجه الآخر، فإنّه يحبّ بكلّ قواه، وأحبّ دونيا حباً صادقاً جارفاً، فلما عرف أنّها لا تحبّه، ولن تستطيع فعل ذلك أخلى سبيلها وقرر الانتحار، وانتحر بالفعل، علماً بأنّه في لحظةٍ معينةٍ من صراعه معها، كان يستطيع الحصول على جسدها، إلا أنّ هذا لا يكفيه، فهو يريد امتلاك قلبها، ولذلك رفض امتلاك جسدها، في لحظة استسلام وقعت بها دونيا.
وقبل إقدامه على انتحار بالمسدس ذاته، الذي كادت دونيا أن تقتله به، ذهب إلى صونيا مارميلادوف وقال لها:
".. على كلّ حالٍ، فيما يتعلق بأختيك الصغيرتين، وأخيك الصغير، فإنّ مستقبلهم مؤمن، لقد توليت بنفسي دفع المال، الذي يجب أن ينتقل إليهم، وأخذت به إيصالات، خذي، إليك هذه الإيصالات، بهذا تسوى المسألة. وإليك ثلاث سندات، قيمتها ثلاثة آلاف روبلٍ. هذه لك أنت. أرجو أن تبقي هذا الأمر سراً، لا يعلم به أحد.. فإنّ الحياة، التي عشتها حتى الآن سيئة، فلن تضطري إليها بعد اليوم.."(12) .
فلقد تكفل سفيدريغايلوف بنفقات دفن زوجة مارميلادوف، وتكفل بأطفاله وقدم لصوفيا ثلاثة آلاف روبلٍ وقدّم خمسة عشر ألف روبلٍ إلى أسرة الفتاة الصغيرة التي خطبها، وبعد ذلك أقدم على الانتحار.
وبعد روايةٍ الجريمة والعقاب كتب دوستيفسكي رواية "الأبله" في عام 1868، أي بعد مرور عامين على صدور رواية "الجريمة والعقاب" وبطل هذه الرواية أيضاً شخصية متناقضة مع ذاتها. يدل على هذا التناقض اسمه، فاسمه الأمير ليف نيكولا يفتش ميشكين. اسمه الأول ليف يعني الأسد وكنيته ميشكين، من كلمة ميش وتعني الفأر، فهو أسد وفأر في الوقت ذاته، إنّه ضعيف وقوي، وفقير وغني، لا يملك شيئاً ولكن يحق له أن يرث أموالاً طائلة، وكأنه ذو طبيعتين.
ونجد هذه الشخصية المتناقضة في رواية "الأخوة كارامازوف" التي صدرت في عام 1881 أيّ قبل مرور عام على (1880)، الذي توفي فيه الكاتب المذكور فالأخوة الثلاثة الشرعيون ديمتري وإيفان وألكسي، بالإضافة إلى أخيهم اللاشرعي سميردياكوف، هم أخوة وأعداء في الوقت ذاته. هم الأبناء الذين يساهمون في قتل أبيهم، صحيح أنّ الذي قتله بالفعل هو الابن اللاشرعي ولكن لولا دور الأخوة الثلاثة، لما استطاع سميردياكوف تنفيذ جريمته.
3-في رواية "قلب الليل" لنجيب محفوظ، التي صدرت في عام 1975 نجد شخصيةً جديدةً في الأدب العربيّ ألا وهي شخصية المفكر الذي يقدّم نظريةً جديدةً، يضعها في كتاب، أيّ أنّنا نجد شخصية الكاتب، الذي يعبّر عن أفكاره بالقلم، وهذه الأفكار ليست هي أفكار مؤلف الرواية وإنّما هي أفكار أحد أبطال الرواية. يصوغها هذا البطل ويقدّمها للقارئ مكتوبة، إذن أمامنا شخصية جديدة هي شخصية البطل الكاتب.
ولقد صوّر لنا دوستيفسكي هذه الشخصية في رواياته كلّها. بدءاً من رواية "الفقراء"(1846) وحتى رواية الأخوة "كارامازوف" 1880 وسنتحدث عن شخصية الكاتب في روايات دوستيفسكي لاحقاً.
أمّا في رواية "قلب الليل" فيجسد هذه الشخصية جعفر الراوي. منذ بداية الرواية، يقول جعفر الراوي:
-إذن سأشعل ثورة تقلب نظام الكون..(13) .
"هذه هي الفكرة المركزية التي ضمنّها كتابه، الذي ألفه. فيما بعد ولم يستطع نشره.
إنّه في نهاية الرواية عجوز، ولكن نجيب محفوظ يصوّره وهو طفل فقير، لأبٍ فقيرٍ وأمٍ فقيرةٍ، مات أبوه، وقامت بتربيته أمّه علماً بأنّ جده الشيخ الراوي كان غنياً. وبعد وفاة أمه واسمها سكينة نقل إلى بيت جده، الذي علمه أن الناس ينقسمون إلى نوعين "... الإنسان الإلهي، والإنسان الدنيوي، الإنسان الإلهي هو من يعايش اللّه في كل حين، ولو كان قاطع طريق، والدنيوي هو من يعايش الدنيا ولو كان من رجال الدين.."(14) .
دخل الأزهر الشريف، وكان قلبه مترعاً بالإيمان والقداسة وأخذ يغرف من المعارف، وشعر بسرورٍ كبيرٍ، وكانت تمر به ساعات سوداوية كما يقول:
"ولكن كانت تمر بي ساعات سوداوية، تتسلل إليّ من مكانها فتغير مذاق الحياة، وتغشاني سحب الذكريات السود، فأفكر بحياة النفي التي عاناها أبي، ومأساة أمّي ذات التاريخ الغامض المجهول، وعند ذاك يثور غضبي على جدي، وأحاسبه في الخيال حساباً عسيراً، ويتبدى لي شيطاناً في ثوب ملاكٍ، وأقول ما هو إلا رجل من الأعيان يستمتع بكلّ طيب في الحياة ويزعم أنّه قديس إلهي.."(15) .
وبعد ذلك وبشكل مفاجئ، رأى راعية غنم اسمها مروانة فسلبت عقله وتزوجها، وأنجب مها أربعة أطفال، وأجبرته بعد ذلك على الطلاق.
وتعرف على هدى صديّق الغنية فتزوجها، ودرس الحقوق وهو في الخامسة والعشرين من عمره، أمّا هدى صدّيق فكانت تكبره سناً. وكانت غاية في الذكاء والاستيعاب والثقافة، ونال الإجازة في الحقوق، وفتح مكتباً للمحاماة في ميدان باب الخلق.
وبدأ يفكر بمكانة العقل والغريزة في حياة الإنسان ورأى أنّ العقل مخلوق حديث نسبياً، إذا قيس بالغرائز والعواطف، فالذي يربط الإنسان بالحياة غريزة، ودور العقل هو دور الخادم للغريزة.
ورأى جعفر الراوي ضرورة أن ينقلب الوضع، فتصبح الغرائز خادمةً للعقل، ورأى في تجربته مع مروانة، راعية الغنم، أنّ الحبّ الأعمى سيظل أعمى، ويتمخض بعد الإشباع عن خواء.
لقد كان جعفر الراوي يحلم عندما كان في بيت جده بانتصار الإنسان الإلهي.
وعندما تزوج مروانة -راعية الغنم سيطرت عليه الغرائز أمّا بعد زواجه من هدى صديق فآمن بالعقل، "الذي سيغني الإنسان ذات يوم عن غرائزه وعواطفه، فتصبح جميعاً مثل الزائدة الدودية"(16) .
ويرى جعفر الراوي أنّ الإنسان، كان يعيش قبل خلق العقل، مثله مثل أي حيوان آخر، وكان منسجماً مع ذاته. أمّا بعد أن وهب نعمة العقل، فأخذ المولود الجديد يتصارع مع الغرائز، ويمر الإنسان الآن بمرحلةٍ انتقالية، إذ تتحكم الغرائز والعقل بتصرفات الإنسان، فما يقول به العقل، تعارضه الغرائز، وما زال النصر حتى يومنا الحاضر حليف الغرائز، فاللغة التي تستجيب لها الملايين هي لغة العواطف والغرائز وهذه برأيه المأساة العامة.
أمّا مأساته الخاصة فنشأت من الصراع بين العقل وبين الإيمان الراسخ باللّه.
وأراد أن يدرك بعقله وجود اللّه، واثبات ذلك كما يثبت أنّ 1+1=2 وكانت زوجته هدى صِدّيق تناقشه وتقول له إنّ الإنسان العاقل هو وحده الذي عبد اللّه، فالعقل هو أساس الإيمان.
وحتى بعد أن أمضى فترةً طويلةً في السجن، لم يبت جعفر الراوي في مسألة وجود اللّه، بل قال "إني عاجز عن الكفر باللّه"(17) .
وهذا الجواب لا يعني أنه يؤمن باللّه.
وبعد أن فتح مكتباً للمحاماة تعرف على شابٍ شيوعي اسمه سعد كبير يؤمن بالمادية الجدلية والمادية التاريخية: "ووصلت إلى أولى النتائج وهي أنّ نظامنا الاجتماعي غير معقول، ظالم، وأنّه مسؤول عن أدوائنا من الفقر والجهل والمرض، وأننّي لست من الصفوة كما توهمت كثيراً ولكنني فرد من عصابةٍ.. ولكنني أخذت في تحليل أسباب الثراء من الهبات والانتهازية والاستغلال والعسف والقوة حتى اقتنعت بأنّه لا يوجد ثراء مشروع بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة.."(18) - يرى جعفر الراوي.
وانتقد الماركسية لأنّها تحولت إلى عقيدةٍ، ولأنّها تفرض نفسها بالقوة والديكتاتورية.
وكتب جعفر الراوي أفكاره، إلا أنّه لم ينشرها، لأنّ الأحداث سبقته ويقول عن كتابه:
"عرضت تاريخاً موجزاً للمذاهب السياسية والاجتماعية، من الإقطاع حتى الشيوعية، ثم عرضت مشروعي الذي يقوم على أسس ثلاثةٍ، أساس فلسفي مذهب اجتماعي، أسلوب في الحكم، أما الأساس الفلسفي فمتروك لاجتهاد المريد، له أن يعتنق المادية أو الروحية أو حتى الصوفية، والأساس الاجتماعي شيوعي في جوهره، يقوم على الملكية العامة وإلغاء الملكية الخاصة والتوريث والمساواة الكاملة، وإلغاء أيّ نوعٍ للاستغلال، وأن يكون مثله الأعلى في التعامل "من كلٍّ على قدر طاقته، ولكلّ على قدر حاجته" أمّا أسلوب الحكم فديمقراطي يقوم على تعدد الأحزاب وفصل السلطات وضمان كافة الحريات -عدا حرية الملكية- والقيم الإنسانية، وبصفةٍ عامةٍ يمكن أن تقول إنّ نظامي هو الوريث الشرعي للإسلام والثورة الفرنسية والثورية الشيوعية..."(19) ورأت زوجته هدى صدّيق أنّ أفكاره في جوهرها شيوعية، لأنّها كذلك في الأمر الجوهري الذي يهم من يملكون ومن لا يملكون.
وبعد ذلك قتل جعفر الراوي أستاذه سعد كبير بقطاعة الورق في أثناء نقاشهما، في الوقت الذي كان ينوي فيه تأسيس حزب لنشر أفكاره ولمحاربة اليمين واليسار.
وسجن، وخرج من السجن، ولم يبق منه إلا الآثار، ولكنه استمر في الدعوة إلى مذهبه.





ارقون"(20) .
ويقول راسكولنيكوف عن فكرته التي ضمّنها مقالته: "كلّ ما أوحيت به هو أنّ الإنسان الخارق يملك الحق.. لا الحق الرسمي، بل الحق الشخصي في أن يأذن لضميره بتخطي بعض الحواجز.. وذلك في حالةٍ واحدةٍ، هي الحالة التي يتطلب فيها تنفيذ فكرته هذا التخطي (وهي فكرة قد يتوقف عليها سلام النوع الإنساني) ... أرى أنّه لو كانت اكتشافات كبلر أو نيوتن، بسبب تضافر ظروفٍ معينةٍ، ما كان لها أن تتحقق إلا إذا ضحى في سبيلها بحياة فردٍ أو عشرة أفرادٍ، أو مئة فردٍ، بل بحياة عددٍ من الأفراد أكبر، يعيقون تحقيقها أو يقفون حائلاً دونها، فإنّه يكون من حق نيوتن، بل ومن واجبه.. أن يزيح أولئك الأفراد العشرة أو المئة في سبيل أن ينفع الإنسانية باكتشافه.. وأذكر أننّي أوضحت في مقالتي أنّ جميع المؤسسين والمشرعين في تاريخ الإنسانية، من أقدمهم إلى أحدثهم، مروراً بأمثال ليسورجوس وسولون ومحمد ونابليون وغيرهم، يمكن أن يوصفوا جميعاً بأنّهم مجرمون، لأنّهم حين أقاموا قانوناً، إنّما خالفوا بذلك قانوناً قديماً كان يعد مقدساً وكان موروثاً، عن الأسلاف، وما كان لهم أن يمتنعوا عن سفك الدم"...(21) .
ويرى راسكولنيكوف أنه يحق للناس الخارقين سفك الدم في سبيل النظام الجديد، الذي يسعون لفرضه على الآخرين، ويحق لهم سفك تلك الدماء، التي بذلت في سبيل إقرار النظام القديم، وأنّ أكثر الرواد الذين أصلحوا المجتمع كانوا أناساً دمويين.
ويرى أنّ الناس ينقسمون بحكم قوانين الطبيعة إلى فئتين، فئة دنيا ليس لهم من وظيفةٍ إلا أن يتناسلوا، ويتكاثروا، ويعيشوا في الطاعة، ويحلو لهم أن يعيشوا في الطاعة، وليس في طاعتهم ما يسيء إليهم أو يذل كرامتهم.
وأمّا الفئة الثانية التي تتميز بأنّها تستطيع خرق القوانين القائمة، وتدمير الحاضر، في سبيل شيءٍ أفضل، فإذا وجب عليهم من أجل تحقيق أفكارهم أن يخطوا فوق جثةٍ أو بركة دمٍ، فإنّهم يقومون بهذا العمل مرتاحي الضمير.
فالعاديون هم أسياد الحاضر، والخارقون أسياد المستقبل، الأولون يحفظون العالم ويزيدونه كماً، والآخرون يحركونه ويقودونه إلى غايته المنشودة، ولهؤلاء وأولئك حق واحد في الحياة، أيّ أنّ لهم كلّهم حقوقاً متساويةً.
ويرى راسكولنيكوف أنّ كثيراً من هؤلاء العاديين، رغم ميلهم الفطري إلى الطاعة، يمكن أن تلاحظ فيهم نزوة من تلك النزوات التي نلاحظها في الطبيعة.. فإذا هم يحبون أن يحسبوا أنفسهم رجالاً من الطليعة وإذا هم يقحمون أنفسهم في الدعوة إلى الكلمة الجديدة، ولكن هؤلاء لا يقطعون شوطاً بعيداً في يوم من الأيام.
".. ولا تولد إلا قلة قليلة جداً من هؤلاء الأفراد، الذين يملكون فكرةً جديدةً حقاً، أو يقدرون ولو قليلاً على أن يعبّروا عن شيءٍ ما جديد.. وأمّا العباقرة فلا يوجد منهم إلا واحد بين مليون، أمّا كبار العباقرة الذين هم قمة النوع الإنساني، فلا بدّ ان ننتظر أن تمر على الأرض ألوف ملايين الأفراد حتى يظهر منهم واحد"(22) ويملك هؤلاء حق سفك الدماء دون تقريع ضمير، فإن انتصروا أرسلوا أنصار النظام القديم إلى المعتقلات وإن فشلوا تعرضوا للتعذيب والموت.
هذه فكرة راسكولنيكوف حول تقسيم الناس إلى فصيلتين، عظماء وعاديين، ونشرها في إحدى الجرائد.
5-شخصية البطل الكاتب في رواية "الأبله" 1868 بعد عامين من صدور رواية "الجريمة والعقاب" أيّ في عام 1868، أصدر دوستيفسكي رواية "الأبله" ويعبّر أحد أبطال الرواية، واسمه أوبليت عن أفكاره كتابةً وشخصية أو بليت هي استمرار لشخصية راسكولنيكوف بطل رواية "الجريمة والعقاب" إذ أنّ أوبليت المريض بالسل وهو مرض قاتل في ذلك الوقت، ويعرف أنّه سيموت حتماً خلال مدةٍ قصيرةٍ يرى ضرورة التمرد على الإرادة الإلهية، التي حكمت عليه بالموت عن طريق المرض. ويقول إنّه يستطيع خلال الأيام الأخيرة من حياته أن يقوم بأيةِ جريمةٍ، لأنّ القضاء الإنساني لن يحكم عليه بأخس مما حكم عليه به القضاء الإلهي، ألا وهي عقوبة بمرض السل، وهو في ريعان شبابه، ويتمرد على القدرة الإلهية التي حكمت عليه بالموت، دون ذنب، ويقرر وضع حدٍ لحياته، أي يقرر الانتحار لكي يموت بالساعة التي يحددها. وليس في الساعة التي تحددها له القدرة الإلهية. فهو متمرد وثائر مثل راسكولنيكوف، ويعبّر عن أفكاره كتابةً. إلا أنّ ثورته ليست ثورة اجتماعية. بل هي أبعد من ذلك، إنّها ثورة ضد قوانين الحياة نفسها. التي برأيه في بعض الأحيان تظلم الأبرياء، فيموت الشباب دون ذنبٍ.
6-شخصية البطل الكاتب في رواية "الأخوة كارامازوف" 1880
عالج نجيب محفوظ في روايته "قلب الليل" مسائل هامة مثل وجود خالق لهذا الكون، ومثل مسألة الدين ورجال الدين.
إنّ هذه المسائل عالجها دوستيفسكي، في روايات كثيرة فمثلاً في رواية "الجريمة والعقاب" يقول راسكولنيكوف لصونيا المؤمنة بوجود اللّه:
"ولكن قد لا يكون هناك إله!"(23) فهو يعبّر عن شكه في وجود خالق لهذا الكون.
يتابع دوستيفسكي هذا الموضوع في رواية "الأخوة كارامازوف "فإيفان وهو الابن الثاني، هو الذي يمثل شخصية البطل الكاتب، ولقد حصل على شهادةٍ جامعيةٍ باختصاص علومٍ طبيعيةٍ. نشر في أثناء السنوات الأخيرة من دراسته الجامعية مقالاتٍ نقديةً، عرض فيها لأنواع شتى من المؤلفات وأصبح معروفاً في المحافل الأدبية. إلا أنّه كسب شهرةً واسعةً بسبب مقالٍ له حول القضاء الكنسي. ناقش في هذا المقال الآراء المختلفة حول الموضوع، وبعد ذلك أبدى رأيه الشخصي وتميز المقال بالنتيجة التي توصل إليها إيفان كارامازوف، واعتبر العلمانيون المقال لصالحهم، وكذلك اعتبر أنصار الكنيسة أنّ المقال لصالحهم.
ويقول إيفان كارامازوف عن مقاله :
"إنّ فكرتي هي أنّ الجمع بين العنصرين، أيّ بين جوهر الكنيسة وجوهر الدولة، سيظل قائماً إلى الأبد ولا شك، رغم أنّه مستحيل، ولا يمكن أبداً أن يؤدي إلى جعل العلاقات بينهما طبيعية، أو حتى بقدر ما منسجمة والواقع أن الكذب هو الأساس الذي تقوم عليه المسألة، وعندي أن تسوية بين الدولة والكنيسة في مسائل كمسائل القضاء مثلاً، أمر مستحيل ولا يمكن تخيله أبداً. إنّ رجل الإكليروس الذي انتقدت نظرياته قد ذهب إلى أنّ الكنيسة تحتل في داخل الدولة مكاناً معيناً واضح الحدود. فأجبته بأننّي، من جهتي، أرى أنّ الكنيسة، يجب على عكس رأيه تماماً أن تستغرق الدولة كلّها، وأن لا تكتفي بمأوى بسيطٍ تعتصم به في داخل التنظيم الاجتماعي..."(24) .
ويرى إيفان كارامازوف أنّ اللّه غير موجودٍ، وينكر خلود الروح ويعبّر عن فكرته هذه في حواره مع والده فيدور كارامازوف ومع أخيه ألكسي كارامازوف ويقف والده إلى جانب آرائه، في حين يؤمن ألكسي بخلود الروح وبوجود إله(25) .
ولا بأس في الإشارة إلى أنّ نجيب محفوظ تطرق إلى موضوع وجود خالقٍ لهذا الكون في روايته "قلب الليل" 1975 فيقول جعفر الراوي "إنّه عاجز عن الكفر باللّه" وهو موقف قريب من موقف إيفان كارامازوف الذي يتأرجح بين الإيمان والإلحاد، والذي ينكر وجود الخالق في أغلب الأحيان، إلا أنّه لم يتوصل إلى حلٍ حاسم لهذه المسألة.
ويؤلف إيفان كارامازوف قصيدة نثرية بعنوان "المفتش الأكبر". ويقول إيفان كارامازوف في مقدمة قصيدته إنّ الأحداث تجري في القرن السادس عشر، وإنّ أحداث قصيدته تشبه إلى حدٍ ما أحداث رواية "أحدب نوتوردام" للروائي الفرنسي فيكتور هيجو: "إنّ الربّ يظهر في قصتي ولكنه لا ينطق بكلمةٍ واحدةٍ، ولا يزيد على أن يجتاز المسرح..."(26) ويتابع: "تجري أحداث قصيدتي في إسبانيا، بمدينة إشبيلية، في أحلك عهود التفتيش"(27) ونزل الربّ يسوع من السماء مدةٍ قصيرةٍ، وعرفه الناس، إنّ شمس المحبة تتقد في قلبه، ويمد ذراعيه نحو الشعب ليباركه، وشفى المرض وأعاد البصر إلى المكفوفين، وأحيى فتاةً في السابعة من عمرها. وظهر الكاردينيال الأكبر وأمر باعتقال السيد المسيح.
وزار الكاردينيال سجينه في منتصف الليل، وعاتب المسيح على عرقلة عمله. وقال: "إنّ الإنسان محمول بطبيعته على العصيان والتمرد ولكن هل يستطيع المتمردون أن يكونوا سعداء؟... فلماذا جئت تعرقل عملنا في هذا العالم؟"(28) ويسأل الكاردينيال سجينه عن الأسئلة الثلاثة التي طرحها الشيطان على السيّد المسيح قبل خمسة عشر قرناً وكانت التجربة الأولى طلب الشيطان من المسيّح تحويل الحجر إلى خبزٍ حيث رفض السيّد المسيح قائلاً: ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان. وذكر الكاردينال سجينه بأنّه كان من الأفضل تحويل الحجر إلى خبز لكي تطعم الجياع، لأنك إن أطعمتهم تجعلهم فاضلين.
وباسم هذا الخبز سيحمل الجياع رايتهم ضدك، وسيقوضون معبدك وسيقيمون مكانه معبداً آخر، هو برج بابل آخر، وسيقول الشعب إن الخبز أغلى من الحرية، ولن يتقاسم الناس خبز الأرض بالعدل أبداً، وقد يتنازل الآلاف من الناس عن خبز الأرض في سبيل خبز السماء، إلا أنّ الملايين من الناس تفضل خبز الأرض على خبز السماء، ويقول الكاردينال للسيّد المسيح كانت الشعوب تصنع آلهةً، ثم تأخذ تتشاتم: "اتركوا الهتكم وتعالوا اعبدوا آلهتنا، وإلا فالموت لكم ولآلهتكم! "وسيبقى الحال على هذا المنوال إلى نهاية العالم، وحتى بعد زوال الآلهة سيظلون يسجدون لأصنام جديدةٍ. ولقد كنت تعلم هذا السر الأساسي من أسرار الطبيعة الإنسانية"(29) .
ويلوم المفتش الكبير السيّد المسيح على الحرية التي منحها للبشر، ويقول المفتش الأكبر إنّ على الأرض قوى ثلاث تستطيع وحدها أن تتغلب على ضمير هؤلاء المتمردين. وهذه القوى هي المعجزة، والسر والهيبة، إلاّ أنّ السيّد المسيح رفض هذه القوى الثلاث، لأنّ السيّد المسيح رفض أن يلقي بنفسه من سطح المعبد، عندما طلب منه ذلك الشيطان ورفض أن ينزل عن الصليب، لكي لا يستعبد الناس بالمعجزة. والناس بطبيعتهم عبيد، ويبتهجون لرؤية راعٍ، يسوقهم كقطيعٍ، ويتحررون من عبء الحرية ويصرح المفتش الأكبر بأنّه يسير مع الشيطان ضد المسيح، لأن الشيطان طلب من المسيح أن يملك العالم فرفض المسيح إذ قال: ماذا ينفع الإنسان لو ربح العالم وخسر نفسه، أمّا المفتش الأكبر فيريد أن يصبح ملكاً على العالم، وآنذاك سيحقق السعادة للإنسانية كلّها.
ويقول المفتش الأكبر للسيّد المسيح: "لقد كان في وسعك أن تقبل سيف قيصر حتى آنذاك، فلماذا رفضت تلك الهبة الأخيرة؟ لو اتبعت الوصية الثالثة التي نصحك بها الروح القوي، إذن لكان في وسعك أن تحقق كلّ ما يتمناه الإنسان على الأرض، وهو أن يعرف من يطيع، وإلى من يعهد بقيادة ضميره، وبأيّ وسيلةٍ يوحّد جميع البشر في مجتمعٍ كمجتمع النمل واحدٍ كبيرٍ منظمٍ"(30) .
ويقول المفتش الأكبر أنّه لا يحوّل الحجر إلى خبزٍ، وإنّما هو فقط يوزع الخبز الذي يصنعه الناس على الناس، ولولاه لجعل الناس الخبز الذي يصنعونه حجارة يضرب بعضهم بعضهم الآخر بها.
وعندما يعودون إلى المفتش الأعظم يستطيع إعادة الحجارة إلى خبز. وآنذاك سينظر الناس إليه نظرتهم إلى محام يدافع عنهم، وسوف يتراصون حوله كما تتراص الأفراخ حول أمّها، "وسنجبر هذا القطيع من الناس على العمل "-يقول المفتش الأعظم، وسيسمح لهم بالإثم لأنّهم ضعاف" ولأننا نحبّهم، وسنعاقبهم متى شئنا" وسيتحمل مسؤولية خطاياهم أمام الربّ. وحتى الحياة الخاصة مثل علاقة الزوج بالزوجة أو بالعشيقة فسيأخذها المفتش الأعظم على مسؤوليته.
وهكذا فإنّ الموضوعات المشتركة بين أدب دوستيفسكي ورواية "قلب الليل" لنجيب محفوظ كثيرة، يأتي في مقدمتها الشخصية المفكرة، التي تدوّن أفكارها في مقالٍ أو كتاب مثل شخصية جعفر الراوي بطل "قلب الليل" وشخصية راسكولنيكوف بطل "الجريمة والعقاب" واوبليت أحد أبطال رواية "الأبله" وإيفان أحد أبطال رواية "الأخوة كارامازوف".
الخاتــــمة
حاولت في بحثي أن أثبت وجود تشابه بين بعض الأفكار التي طرحها كلّ من دوستيفسكي ونجيب محفوظ، وأعتقد أن عبقريتهما متشابهة، فلقد أبدع كلّ منهما في جنس الرواية، وكتبا القصة القصيرة، ولكنهما لم يكتبا المسرحية، ولم ينظما الشعر. وعلى الرغم من التصاق روحهما بتراب الوطن، إلا أنّ المسائل التي طرحاها ذات طابع عالمي، ولم يقدّما حلولاً معقولة للمسائل المطروحة، إلا أنّهما رفضا حلولاً معينةً. ولكن هناك أيضاً فروقاً واضحة المعالم في عالمهما الإبداعي، فلقد طرح دوستيفسكي مسألة الفقر، ودافع عن الفقراء، وحملت روايته الأولى عنوان "الفقراء" 1846م وكذلك حملت رواية أخرى عنوان "المذلون والمهانون" 1861م واستمر في الدفاع عن الطبقات المظلومة إلى آخر حياته، وهذا واضح في روايته الأخيرة "الأخوة كارامازوف" 1880 ففي رواياته هناك ظالم، وهناك مظلوم، وهناك قوة ثالثة تشهر سلاحها بوجه الظالم مدافعةً عن المظلوم، لا نجد دائماً مثل هذا الثالوث في روايات نجيب محفوظ. كتب دوستيفسكي الرواية المأساوية، لأنّ بعض أبطاله يتبنون نظريات خاطئة، تنتهي حتماً بالفشل، وأحياناً بالجريمة والقتل والسرقة والنهب، لقد كتب نجيب محفوظ رواية مشابهةً لرواية دوستيفسكي فبعض رواياته ذات طابع مأساوي مثل "اللص والكلاب" 1961 ورواية "قلب الليل" 1975 ويحاول الكاتبان تنفير القارئ من الجريمة، ويصوّر دوستيفسكي بشاعتها وعواقبها مثل الأعمال الشاقة والنفي إلى سيبيريا والسجن. يقوم سمير دياكوف في "الأخوة كارامازوف" بقتل أبيه.
أمّا في رواية "قلب الليل" فيقوم جعفر الراوي بقتل أستاذه سعد كبير بقطاعة الورق في أثناء نقاشهما، والأستاذ يكاد يشبه الأب.
روايات دوستيفسكي ذات حجم كبير، أمّا روايات نجيب محفوظ فهي أصغر حجماً، وهذا يعود إلى أنّ الرواية في القرن التاسع عشر كانت بوجهٍ عام ذات حجم كبير.
وليس غريباً أن يتأثر محفوظ بدوستيفسكي فمن المعروف أنّ معظم الاتجاهات الأدبية ظهرت أولاً في الغرب، وانتقلت بعد ذلك إلينا. مثل الكلاسيكية والرومانسية والواقعية النقدية، وكذلك المسرح أخذناه عن الآداب الأوروبية وكذلك فن القصة، وبعد أن ظهرت الراوية لدينا مرت بمراحل ثلاث الأولى مرحلة الترجمة، والثانية التقليد والثالثة مرحلة الإبداع، وبلا أدنى شك، تنتمي الرواية التي أبدعها نجيب محفوظ إلى المرحلة الثالثة، إلا أنّ هذا لا يمنع أبداً من كونه استفاد من انجازات عمالقة الأدب العالمي. وهذا ما حاولت اثباته في بحثي، فهناك نقاط تشابه ونقاط اختلاف كبيرة. منها أن دوستيفسكي كتب رواياته بحرارة وديناميكية، تجري أحداث رواياته في فترة زمنية قصيرة، مدة أسبوع مثلاً، في حين لا نجد مثل هذه الحرارة في روايات نجيب محفوظ، وكان دوستيفسكي بدوره قد استفاد من الأدباء الروس والأجانب الذين سبقوه والذين عاصروه، فالتأثير والتأثر عمليتان ضروريتان في عالم الإبداع. وهذا هو أحد الأبواب الرئيسية في الأدب المقارن. ولقد سبقني إليه الدكتور حسام الخطيب إذ أثبت وجود مؤثرات أجنبية في تطور القصة في سوريا.








 المصادر
1-دوستيفسكي، فيدور، الجريمة والعقاب، المجلد الأول، موسكو دار رادوغا 1989 ص493-494
2-محفوظ، نجيب، قلب الليل، القاهرة، دار مصر للطباعة ص132
3-محفوظ، نجيب، قلب الليل، القاهرة، دار مصر للطباعة ص10
4-محفوظ، نجيب، السمان والخريف، دار مصر للطباعة ص168
5-محفوظ، نجيب، حضرة المحترم، دار مصر للطباعة ص56
6-محفوظ، نجيب، حضرة المحترم، دار مصر للطباعة ص98
7-دوستيفسكي، فيدور، الجريمة والعقاب، المجلد الأول، موسكو دار رادوغا،
1989-ص210
8-المصدر نفسه ص509
9-المصدر نفسه ص511
10-المصدر نفسه ص510
11-دوستيفسكي، فيدور، الجريمة والعقاب، المجلد الثاني، موسكو دار رادوغا، 1989 ص83-84
12-المصدر نفسه ص404
13-محفوظ، نجيب، قلب الليل، ص11
14-المصدر نفسه، ص40
15-المصدر نفسه ص54
16-المصدر نفسه ص119
17-المصدر نفسه ص123
18-المصدر نفسه ص135
19-المصدر نفسه ص137
20-دوستيفسكي الجريمة والعقاب، المجلد الأول ص482
21-دوستيفسكي، الجريمة والعقاب، المجلد الأول ص483
22-دوستيفسكي، فيدور، الجريمة والعقاب، المجلد الأول ص488-489
23-دوستيفسكي، فيدور، الجريمة والعقاب، المجلد الثاني ص81
24-دوستيفسكي، فيدور، الأخوة كارامازوف، المجلد الأول، موسكو دار رادوغا،
1988- ص136-137
25-المصدر نفسه ص290
26-المصدر نفسه ص524
27-المصدر نفسه ص525-526
28-المصدر نفسه ص532
29-المصدر نفسه ص537
30-المصدر نفسه ص543
المصدر: ملتقى شذرات

__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية

الكلمات الدلالية (Tags)
أدب, محفوظ, مؤثرات, دوستيفسكي, رواية, قلب الليل لنجيب


يتصفح الموضوع حالياً : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


المواضيع المتشابهه للموضوع مؤثرات أدب دوستيفسكي في رواية " قلب الليل "لنجيب محفوظ
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
باولو كويلو "مؤلف رواية الخيميائي" يتضامن مع معاذ الكساسبة Eng.Jordan الأردن اليوم 0 02-02-2015 07:15 PM
الرئيس الموريتاني يتقدم مسيرة منددة برسومات "شرلي إبدو" Eng.Jordan أخبار عربية وعالمية 0 01-17-2015 05:45 PM
اتجاهات نقد رواية نجيب محفوظ Eng.Jordan دراسات و مراجع و بحوث أدبية ولغوية 0 11-26-2012 09:03 PM
الراوي المُلتبس في رواية " فسوق" لعبده خال Eng.Jordan أخبار ومختارات أدبية 0 04-18-2012 08:46 AM
بعض مؤثرات رواية "الجريمة والعقاب" لدوستيفسكي في رواية نجيب محفوظ "اللص والكلاب" Eng.Jordan دراسات و مراجع و بحوث أدبية ولغوية 0 02-03-2012 02:37 PM

   
|
 
 

  sitemap 

 


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 09:53 AM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.12 by vBS
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والمشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59