#1  
قديم 06-05-2014, 09:55 PM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,410
افتراضي حقيقة التفوّق الإسرائيلي دراسة مقارنة لأسباب القوّة وإدارتها السياسية في الحروب الماضية


حقيقة التفوّق الإسرائيلي
دراسة مقارنة لأسباب القوّة وإدارتها السياسية في الحروب الماضية
نبيل شبيب
"الإمكانات الأكبر متوفرة لدينا، والقضية قضية توجيه سياسي سليم، إن توفّر تحقق التفوّق على سائر الأعداء في سائر الميادين "
الطبعة الأولى
شوال 1402هـ وآب/أغسطس 1982م في سلسلة بحوث إسلامية وعالمية
إصدارالمركز الإسلامي في آخن وحلقة الدراسات الإسلامية والعالمية
الطبعة الألكترونية: معدّلة ومزيدة-
جمادى الأولى 1424هـ وتموز/ يوليو 2003م في موقع "مداد القلم"
طبع من موقع مداد القلم
http://www.midadulqalam.net
mail@midadulqalam.net

بسم الله الرحمن الرحيم
الفهرس
تمهيد
1- مقدّمة الكاتب (2003م)
2- مقدّمة الأستاذ عصام العطار (1982م)
3- مقدّمة الكاتب (1982م) -موازين التفوّق الموضوعية
-المعركة الفاصلة المحتّمة
-المقارنات.. بين التزييف والموضوعية
-ثوابت.. ومعايير
الفصل الأول: الطاقة البشرية1- المعيار الكميّ والنوعيّ للطاقة البشرية
2- المقارنة الكميّة للمقاتلين
3- عنصر الزمن في الطاقة العسكرية البشرية
الفصل الثاني: الطاقة السوقية
1- العمق البريّ السوقي
2- إدارة المعركة.. والعنصر السوقيّ
3- القيادة.. والتفوّق السوقي
4- الموقع السوقي البحري
5- الطاقة السوقية "الجويّة"
6- مشكلة الطاقة العسكرية النووية
الفصل الثالث: الطاقة الاقتصادية1- معايير التفوّق الاقتصادي
2- صناعة "العجز"
3- صناعة "التفوّق"
الفصل الرابع: الظروف المناسبة1- مسؤولية الذين "يصنعون" الظروف
2- دور "العدوّ" الأمريكي
الفصل الخامس: العقيدة والإرادة1- المنطلق الإسلامي المشترك
2- التعبئة.. والقيادة
قائمة المصادر والمراجع

تمهيد
1- مقدّمة الكاتب (2003م)
2- مقدّمة عصام العطار (1982م)
3- مقدّمة الكاتب (1982م)
- موازين التفوّق الموضوعية
- المعركة الفاصلة المحتّمة
- المقارنات.. بين التزييف والموضوعية
- ثوابت.. ومعايير
مقدّمة الكاتب (2003م)
عادت أساليب التهويل بشأن التفوّق الإسرائيلي على البلدان العربية مجتمعة ومنفردة لتطرح نفسها عام 2003م مواكبة للاحتلال الأمريكي للعاصمة العراقية بغداد وسط سياسات عربية تتأرجح ما بين التواطؤ والتخاذل والعجز، كما كانت تطرح نفسها بقوّة عام 1982م مواكبة آنذاك للاحتلال الصهيوني للعاصمة اللبنانية بيروت. وفي الحالتين لا يعتمد التهويل على دراسة منهجية موضوعية، بل على مقارنات سطحية، وحملات إعلامية وسياسية غوغائية، ومنطلقات انهزامية ابتداء.. حتى ولو امتلكت الأطراف العربية أضعاف ما يملكه الإسرائيليون من سلاح وعتاد.
فالأصل هو "التسليم" الذي بات هدفا "استراتيجيا" وليس "قراءة الواقع" للبحث عن سبل التغيير القويمة، واستئصال أسباب الفساد والانهيار والضياع فيه.
آنذاك كانت هذه الدراسة التي نشرت على شكل كتيّب بعنوان "حقيقة التفوّق الإسرائيلي" واعتمدت على مقارنة عناصر التفوّق بين الجانبين، العربي والإسرائيلي، للوصول بصورة منهجية إلى مكامن العلّة من وراء النكبات العسكرية والسياسية المتتابعة، ورجعت في ذلك إلى ما كان من نكبات وهزائم إلى ذلك الحين، وعند مراجعتها للنشر من جديد عام 2003م، كان واضحا لكاتب هذه السطور، أنّه لا يحتاج إلى إدخال تعديلات تستحق الذكر على محتوياتها، أو إلى إضافات مسهبة.
ربّما طرح البعد الزمني ما بين عامي 1982 و2003م السؤال عن إمكانية إضافة أحداث أخرى لتكون موضع التحليل أيضا، ولكنّ هذا لا يفضي في نهاية المطاف إلاّ إلى النتيجة ذاتها التي وصلت إليها الدراسة في حينه، بل ربّما كان عنصر انتشار الوعي الجماهيري هذه الأيام بأضعاف ما كان في حقبة النكبات الأولى بين الأربعينات والسبعينات من القرن الميلادي العشرين، سيدفع من خلال دراسته إلى تعزيز تلك النتائج، ومحورها الرئيسي أنّ التفوّق القائم هو نتيجة مباشرة لفساد سياسي وإداري.. وهذا ما يجب تغييره، وهذا ما سيتغيّر آجلا أو عاجلا، فالصحوة الشاملة على مستوى جيل المستقبل، كفيلة بإحداث التغيير المنشود، وبقيادة بلادنا إلى الأهداف المشروعة الجليلة، على كلّ صعيد، بما في ذلك تحرير الإرادة والأرض والإنسان.. وعندها ستكون نهاية عصر النكبات العسكرية والسياسية على السواء، من باب تحصيل الحاصل فحسب.
وإلى جيل المستقبل تتوجّه كلمات هذا الكتاب، فعليه ينعقد الأمل الكبير بعد الله عزّ وجلّ، وفي أيديه الأمانة الكبرى للنهوض بالأمة من جديد، وهو القادر على ذلك ما التزم بثوابته، وصمّم على الوصول إلى أهدافه الجليلة العزيزة، وعمل عملا دائبا متواصلا لإيجاد السبل والوسائل الكفيلة بتحقيق ما يريد.. والله من وراء القصد، وبفضله يتحقق النصر، وعليه المعتمد أولا وآخرا، ومنه أرجو الثواب في الدنيا والآخرة.
بون 10/5/1424هـ و9/7/2003م
نبيل شبيب

مقدّمة عصام العطار (1982م)
يأتي هذا الكتيّب الصغير في إبّانه ليؤدّي دوره الكبير في هذه المرحلة الحاسمة من حياة العرب والمسلمين وتاريخ قضيّة فلسطين.
فقد دأب كثير من أجهزة الإعلام العربية الرسمية و"الشعبية!"، وكثير من رجال الحكم وحَمَلَة الأقلام على ترديد قضيّة التفوّق الإسرائيلي وكأنّها مُسَلَّمَةٌ من المُسَلَّمات التي لا تحتاج إلى نقاش؛ وعلى ترسيخها في الأذهان والمشاعر؛ وعلى الدعوة إلى الاعتراف بها، والانطلاق منها، والبناء عليها في مخطّطات الحاضر والمستقبل؛ وعلى اتخاذها ذريعةً لكلّ تخاذل واستسلام لنكون –في زعمهم- "عِلميّين واقعيّين!" بقبولنا الأمر الواقع الحالي، واستسلامنا له، وتصرّفنا على أساسه؛ لا "عاطفيين خياليين" برفضنا له، واستمساكنا "المتحجّر" بحقنا الشرعي الثابت في الوطن والكرامة والحياة
ويستغلّ هؤلاء ما نزل وما يزال ينزل بالفلسطينيين والمسلمين من الهزائم والكوارث، للتدليل على صحّة مذهبهم ومسلكهم، ألوانا باطلة ماكرة من الاستغلال
ويأتي هذا الكتيّب في إبّانه –كما قلنا- ليكشف بالبحث المنهجي، والتحليل العلمي، والأرقام والحقائق، والمقارنات المتعدّدة، والمنطق السليم، لا العاطفة الجامحة والخيال، حقيقةَما يدّعونه من التفوّق الإسرائيلي
وقد يختلف القارئ مع الأخ نبيل شبيب في بعض الأمور والتفاصيل والتقديرات؛ ولكنّه ينتهي معه بقناعة وارتياح إلى الحقيقة التي يجب أن تستقرّ في العقول والقلوب والضمائر من وراء أستار الجهل والغفلة والاجتهادات الخاطئة ومحاولات التزييف والتضليل المحليّة والعالميّة.. هذه الحقيقة التي يرتبط بمعرفتنا بها، ووعينا لها، وعملنا بمقتضاها، مستقبلُنا ومواقفنا ومناهجنا في العمل على المدى القصير والطويل:
إنّ التفوّق الحقيقيّ في الطاقات والإمكانات إنّما هو التفوّق العربي والإسلامي وليس التفوّق الإسرائيلي كما يدّعون؛ ولكنّ "إسرائيل" تحسن استخدام طاقاتها وإمكاناتها الأقلّ، وتوجّهها بوعي وإرادة التوجيه الأفضل
أمّأ نحن فنهدر طاقاتنا وإمكاناتنا الأكثر والأكبر، ونسيء استخدامها وتوجيهها، فيكون من آثار ذلك ما يكون من هزائمنا الدائمة أمام العدوّ الإسرائيلي، وأمام سواه من الأعداء
ولا نطيل على القارئ في هذا الموضوع ولا في سواه؛ فقد عرض الأخ نبيل –جزاه الله خيرا- الموضوع بوضوح، وشخّص العلل بإيجاز، ورسم خطوطا أساسية للعلاج والخلاص، ولم يقف في بحثه عند حدود العرض والتشخيص
وبعد فإنّنا نؤكّد إصرارنا على رفض الاستسلام بمختلف صوره ومبرّراته وطرق إخراجه، وعلى استرجاع وطننا السليب وحقّنا الثابت في فلسطين، وعلى متابعة جهادنا المشروع حتّى النصر –إن شاء الله- فهذا وحده هو الطريق الصحيح
هذا هو الطريق بمنطق العقيدة والإرادة
هذا هو الطريق بمنطق الحقّ والطكرامة
وهذا هو الطريق بمنطق الخبرة والتجربة، والواقع والمشاهدة، والبحث العلميّ الموضوعيّ النزيه
ولينصرنَّ اللهُ من ينصره إنّ الله لقويٌّ عزيز
4 شوال 1402هـ و25/7/1982م
عصام العطار

مقدّمة الكاتب (1982م)
الحديث عن التفوّق الإسرائيلي على العرب حديث صادر غالباً عن التجربة المرّة، تجربة هزائم عسكرية متكررة، وعن مشاهدات واقعية مستمرة مؤلمة، ونحن نشهد ساعة كتابة هذه السطور (رمضان 1402هـ و20/7/1982م) كيف تضرب القوّات الصهيونية الهمجية إخوتنا وأخواتنا في بيروت على مسمع ومشهد من حكومات دولنا العربية والإسلامية دون أن تمدّ إحداها يد العون الحقيقي الفعّال للإخوة في العقيدة، أو الوطن، أو الدّم، أو حتى الإنسانية!
وحديث التجارب مفيد بمقدار ما يؤدي إلى رؤية الأسباب بصورة موضوعية والعمل الجادّ لمعالجتها، وهو مشبوه وضارّ بمقدار ما يهدف إلى تثبيط العزائم وإدخال اليأس على النفوس، ودفع المسلمين إلى التردّي في الخطّ الاستسلامي المنتهَج تجاه "إسرائيل" بحجّة تفوّقها "الأسطوري".. وقد شهدنا عقب نكبة 1967م تيّاراً فكرياً كشف العلل، دون أن يؤدي ذلك بالمسؤولين إلى العمل الجاد لإزالتها، حتى غلب تيار التيئيس ووصل بنا إلى ما نحن عليه الآن.
موازين التفوّق الموضوعية
والعلامة الفارقة للهزائم الماضية أنّها هزائم عسكرية أولاً؛ وفنّ الحرب أصبح علماً لا تغيّر حقائقَه مقالاتٌ دعائية ولا خطب حماسية، كما لا تغيّرها مواقف انهزامية ولا التهويل من قوّة الخصم والتهوين من القوة الذاتية.
وفي مقدمة الموازين التي توزن بها القوى بين طرفين خصمين لتقدير مستقبل نزاع طويل بينهما:
1- الطاقة البشرية: كمّاً ونوعا.
2- الطاقة السوقية: موقعاً وتسلحا.
3- الطاقة الاقتصادية: علماً وثروة.
4- الظروف المناسبة: محلّياً ودوليا.
5- العقيدة والإرادة: منطلقاً وأهدافاً وتوجيها.
بهذا الصدد يقول إيجال آلون في كتابه "إنشاء وتكوين الجيش الإسرائيلي" (ص 167):
"إنّ نتيجة الحرب عادة هي النصر للجانب الأقوى؛ والقوة العسكرية هي التعبير عن القدرة العسكرية لبلد من البلاد، وهذه القدرة يمكن أن يقال إنّها تعتمد على خمسة عناصر رئيسية، وهي: القوة البشرية للدولة، ووضعها الجغرافي الاستراتيجي، ومواردها الاقتصادية، وموقفها السياسي، ومركزها في الحقل الدولي، ونظامها الاجتماعي والسياسي".
ويعدّد الضابط السوري أمين النفوري 14 عنصراً للموازنة بين طرفين، منها:
المستوى الحضاري، الفكرة والعقيدة والقيم والمثل العامة، الكتلة البشرية، الوضعية الجغرافية، الأحوال الاقتصادية، الأوضاع السياسية، التخطيط، القوة العسكرية .. الحرب، والإعداد، والتحشّد، وغير ذلك فضلاً عن مسألة العدد والعدّة
كما ورد في كتابه: "توازن القوى بين العرب وإسرائيل" (ص 27–29 و ص 36-51)
ويمكن الرجوع إلى العديد من الكتب الاختصاصية التي تعالج قضايا التوازن بين الأمم على الصعيد العسكري لنرى أنّ عوامل هذا التوازن أوسع بكثير من الفكرة السائدة عند عامة شعوبنا، أو التي يراد أن تسود تبريرا للتسليم، وكأنّ التفوّق أمر مرتبط قوّة السلاح فقط، ولسنا نجهل أن مجموعة من الشباب الجاهل المتهوّر، يحملون رشاشات لا يعرفون كيف يستخدمونها ومتى، يمكن أن يهزمهم فرد واحد يحسن استخدام ما يملك من سلاح ولو كان محدودا، ويحسن استخدام عقله واستغلال الظروف من حوله.. فكيف بنا عندما تنعكس هذه المعادلة، ونجد أنفسنا أمام شاب فرد قد يحسن استخدام سلاحه، ولكنّه يواجه مجموعة أفراد، قادرين أيضا على استخدام ما يملكون من أسلحة. فالمشكلة كامنة في القدرة على استخدام السلاح، أو بتعبير أصحّ وأشمل: القدرة على استخدام سائر أسباب القوّة والتفوّق المتوفّرة، إلى جانب إرادة المواجهة.
المعركة الفاصلة المحتّمة
ويمكن لنا النظر في العناصر المشار إليها، منفردة ومجتمعة، على ضوء الواقع الراهن وما يمكن أن يُصنع في المستقبل القريب والمتوسط المدى، في النزاع القائم مع الصهيونية المحلّية والعالمية. ثم أن نستنتج بالنظرة المنهجية التحليليّة أهم الواجبات المفروضة للتعويض على الهزائم الماضية ونكباتها المتوالية ومآسيها المؤلمة بانتصارات حقيقية في المستقبل، منطلقين في ذلك من اليقين الراسخ بأنّ قضية هذا النزاع لا يمكن أن تحسم آجلاً أو عاجلاً إلاّ في ساحة المعركة، وذاك ما ينطلق منه العدو أيضا. ولهذا فإنّ تكوين الكيان اليهودي الباطل في فلسطين قام ولا يزال قائماً على أساس البنية "العسكرية" المحضة، اعتمادا على القوّة قبل أيّ شيء آخر، وقد تشكّلت بنيته الاجتماعية والاقتصادية والفكرية تشكيلاً عسكرياً على هذا الأساس، كما يتحدّث عن ذلك بالتفصيل مثلا أنجلينا الحلو في فصل "دولة عسكرية" من كتابه "عوامل تكوين إسرائيل"، وإبراهيم العابد في كتابه "العنف والسلام-دراسة في الاستراتيجية الصهيونية".
وإنّ التسليم لليهود بما اغتصبوه حتى الآن، أو ببعضه، لن يمنعهم من السعي في فرصة تالية لاغتصاب المزيد، بالقوة، كما شهد مثال غزو لبنان بعد إقرار "السلام" مع مصر، وقد عبّر عن ذلك، كمثال، الكاتبُ اليساري لطفي الخولي، بنقض ما سبق أن أعلنه السادات وبيغن من أنّ "حرب أكتوبر هي آخر الحروب"، كما ورد في مقال له في مجلة "الوطن العربي" بتاريخ 2/7/1982م. والجدير بالذكر هنا، أنّ أبرز من تنبّأ في مصر بالتعايش مع الإسرائيليين، كان كتاب "عندما تسكت المدافع" وهو لكاتب يساري.. ثمّ لم تسكت المدافع كما نرى منذ ذلك الحين إلى اليوم.
وواضح أنّ القول "اغتصاب المزيد بالقوة.." لا ينفيه قول "إسرائيل" إنها لا تنوي الحفاظ بأراض لبنانية إذا استطاعت ذلك، فهذا هدف معلن أثناء الغزو وليس هو الهدف الحقيقي بالضرورة، ويكفيها في مرحلة معيّنة السيطرة السياسية والعسكرية الواقعية، ولا يُنسى أن "ضم الجولان رسمياً" قد أعلن بعد 15 عاماً للاحتلال، ولا نغفل أنّ الخروج من لبنان، كان نتيجة العجز عن البقاء، بعد الضربات التي تلقّتها قوّات الاحتلال من المقاومة الوطنية، وهو خروج يثبت تلقائيا ما نذهب إليه في هذا "الكتيّب".. وهو أنّ العنصر الحاسم لا يتمثّل فيما يتكدّس من كميّات سلاح ونوعياته، وإنّما في القدرة على استخدام المتوفّر.. وإن كان قليلا.
ومن المحتمّ أنّ المسلمين في هذه المنطقة سيجدون أنفسهم آجلاً أو عاجلاً أمام معركة مصيرية شاملة وحاسمة، إمّا أن يكونوا قد استعدّوا لها وأعدّوا الأسباب للنصر فيها، أو أن يقتصر ذلك الاستعداد والإعداد على عدوّهم من دونهم، كما جرى حتى الآن، فتكون لهم الهزيمة الأكبر من كل ما سبقها، والأبعد في نتائجها من الجيل الحاضر بالتأكيد.
المقارنات.. بين التزييف والموضوعية
من أراد الموازنة بين قوى طرفين، وجب عليه أن يعقد المقارنة بصورة سليمة، أما أن تُترَك "إسرائيل" ومن يدعمها ويؤيّدها لتنفرد بفريق عربي بعد آخر على حدة، ثم يقال بتفوّقها، فهذا منطق معكوس يخالف العقل والواقع، كما يخالف الضمير الحيّ.
1- فإذا ما اعتبر المرء اليهودَ بفلسطين هم وحدهم العدوّ، فليضع إمكاناتهم الذاتية المحدودة أمام إمكانات أبناء فلسطين الشرعيين، ثم ليقارن بين الجانبين، ولينظر ماذا فعلت أحجار فلسطين في الانتفاضة الأولى وما فعلت انتفاضة الأقصى بالتفوّق "العسكري" الإسرائيلي، وما أدّت إليه من أسباب انهيار إسرائيلي داخلي، اقتصاديا واجتماعيا وأمنيا، لا يجد الإسرائيليون مخرجا منه، إلاّ اعتمادا على ما يقدّمه "أطراف" خارجيون، على المستوى الإقليمي والدولي، من دعم.. أو إن شئت فقل هو المشاركة في العدوان، فكيف يمكن الجمع منطقيا بين مقارنة تقول إنّ الطرف اليهودي بفلسطين هو العدوّ، وهو متفوّق على الطرف الفلسطيني بفلسطين، وبين حقيقة أنّ الطرف اليهودي يجد الدعم، وأنّ الطرف الفلسطيني يواجه "الضغوط" إن لم نقل المؤامرات؟..
2- وإذا ما اعتبر المرء الصهيونية العالمية من وراء يهود هذا الكيان الباطل، ورأى مطامعها في مجموع المنطقة حوله، فليضع الشعوب العربية، حول فلسطين على الأقل، في ساحة المعركة المحتومة، ثم ليقارن بين طاقات الطرفين.
3- وإذا اعتبر القوى الدولية الداعمة للعدوّ عدوا -وهي كذلك بالفعل- فليضع أمّة المسلمين على الطرف الآخر، حتى تكون مقارنته سليمة وموضوعية بين الطاقات المتوفرة، قبل النظر في مسألة استغلالها الصحيح أو استغلالها بطريقة تهدرها.
والأهمّ من ذلك الطرح النظري، أن نضع نصب أعيننا، أنّه سيّان كم تتلوّن الشعارات والتبريرات لينفرد العدوّ –مع من يدعمه- بشعب فلسطين –وهو يتلقّى الضغوط والطعنات الأجنبية و"الأخوية"- في هذه المرحلة من تاريخ القضية، ومهما قيل تبعا لذلك بوجود "تفوّق إسرائيلي"، فإنّ الذين يروّجون لترك "قضية فلسطين.. للفلسطينيين" يعلمون حقّ العلم، أنّ المعركة الشاملة، والمحتّمة القادمة، لن تقتصر من حيث التنفيذ والنتائج، على شعب فلسطين وحده.. بل ستشمل سائر من يزعمون تبريرا لقعودهم عن النصرة –بغض النظر عن ممارسات التواطؤ العديدة- أنّ القضيّة "قضيّة الفلسطينيين" فقط، والأنكى من ذلك أنّهم لم يتركوا القضية للفلسطينيين، بل باتوا يتحرّكون مع فريق محدود العدد من "الفلسطينيين" بما يدعم الجبهة المقابلة.. ضدّ "شعب فلسطين"!..
إنّ القضية في أصلها هي قضية الإسلام والمسلمين جميعاً، لا قضية فريق دون آخر من المسلمين، وقد رأينا على صعيد الواقع أنّ الهزائم المتوالية رافقت:
- عملية الهبوط بقضية الأرض المباركة في الخمسينات والستينات من القرن الميلادي العشرين من مستوى قضية الإسلام والمسلمين إلى قضية "قومية عربية"، بوجه غربي أو شرقي، ليبرالي مزعوم أو اشتراكي هزيل
- ثمّ الهبوط بها في السبعينات الميلادية إلى قضية "إقليمية"، تخصّ الفلسطينيين وحدهم، وتخصّ منظمتهم التي اعتُرف بها "ممثلاً شرعياً ووحيداً للشعب الفلسطيني"
- وقيل في البداية إن دور العرب الآخرين هو دور المساعدة، ثم كان الإحجام عن تقديم أيّة مساعدة فعالة من أجل التحرير، بل حتّى لمجرّد الدفاع عن الوجود الفلسطيني في الساحة، في ساعة من ساعات الحسم على أرض لبنان، إنّما كانت المساعدة على أساس دفع "الممثل الشرعي الوحيد" للشعب دفعا إلى القبول بتسوية سلمية جائرة، لا يقبل بها الشعب نفسه، وكانت "المساعدة المزعومة" في كثير من الأحيان، على صورة ضغوط سياسية وعسكرية ومالية، بل كانت على صورة "مذابح وطعنات في الظهور".. ولا يبرّئ ذلك من تحرّك من داخل المنظمة وبغض النظر عن الضغوط في الاتجاه نفسه.
إنّما تنعقد الموازنة المنهجية السليمة بعد تحديد طرفي المعركة بصورة واضحة، على أساس:
- دراسة ما يتوفر من طاقات فعلية لديهما
- ثم دراسة أسباب الهزائم وعوامل الانتصار.
آنذاك، وآنذاك فقط، تمكن الإجابة المنهجية الموضوعية على السؤال الحاسم المطروح:
هل القضية التي نواجهها هي قضية تفوّق قوّة على طرف آخر، أم هي قضية "كيفية" استغلال كل طرف للطاقات المتوفرة لديه تجاه عدوّه؟
وستتضح لنا آنذاك لنا الإجابة على السؤال الثاني الهادف:
كيف نستغل طاقاتنا استغلالاً سليماً، وقد آمنّا بحقّنا في هذه القضية، حتى يتحقق الانتصار على عدونا وباطله؟

ثوابت.. ومعايير
لا تنطلق المقارنة التي نعقدها في الفصول التالية من نظرة الأمل والتمني، وإن كانت الآمال والأماني قابلة للتحقيق في المستقبل، بأن نضع جميع المسلمين في مواجهة اليهود ثم نوازن بين القوى على هذا الأساس. فنحن نرى على مدى طويل من الزمن أنّ قوى المسلمين مُستنزَفةٌ في مشارق الأرض ومغاربها تجاه أعداء آخرين، ونرى قوة اليهود متكاملة الأهداف مع قوى أولئك الأعداء..
ولكنّ هذه المقارنة لا تنطلق أيضاً من نظرة ضيقة محصورة في حدود معالم الواقع الشاذّ الراهن وحده، فالواقع يتبدّل كل يوم، وهو يتجلّى ساعة كتابة هذه السطور(1982م) في اتّباع السبل "السياسية" لتحقيق هدف إخراج مصر من ميدان المعركة، والتهيئة العامة للتسوية السلمية الجائرة الشاملة، والتفرقة الدامية السائدة في الأرض العربية والإسلامية، والتبعيات الأجنبية المهدرة للطاقات في غير طريقها السليم، ويتجلّى ساعة تعديل هذه السطور مجدّدا (2003م) في استخدام الوسائل "العسكرية" لنحقيق هدف إخراج العراق من ميدان معركة "محتملة" في المستقبل، بغض النظر عن أنظمة الحكم التي تتبدّل بين مرحلة وأخرى، فالمقصود في حالة مصر وفي حالة العراق على السواء، هو إخراج "البلد" بطاقاته الكبرى، وليس إخراج "النظام" الذي يُعتبر وجوده بحدّ ذاته أحد العقبات في وجوه تحقيق انتصارات عسكرية.. وغير عسكرية على السواء.
إنّما ننطلق في المقارنات التالية من ثوابت تاريخية وحضارية تتجاوز حدود النظرة الضيقة الأفق، وتبدّل الأوضاع على مرّ الزمن، وحسب الجهود المبذولة للتغيير، وتتجاوز حدود الأوضاع الشاذة "الآنيّة" مهما بدت لحظة النظر إليها راسخة باقية.
ويمكن أن نقف عند منتصف الطريق ما بين تحقيق آمال بعيدة، بأن تستعيد المنطقة الغسلامية بأسرها عافيتها وقدرتها على التحرّك المشترك في عالمها وعصرها، وما بين آمال أقرب للتحقيق على ضوء الصحوة الممتدة عبر سائر البلدان العربية والمتركّزة في "جيل المستقبل" الذي سيصل إلى مفاصل صناعة القرار.. عاجلا لا آجلا، وسيبدّل موازين القوى على قدر ما "يحسن" في إدارة البلاد وتوظيف الطاقات والإمكانات المتوفّرة.
إنّنا لنرى على المدى القريب والمتوسط استمراريّة الصراع مع اليهود الغاصبين ومن وراءهم، أمراً ثابتاً، بمحتواه التاريخي المديد، وبمغزاه الحضاري العميق، ونرى أنّ التهديد المباشر المستمر لسكان المنطقة المحيطة بفلسطين على وجه التخصيص سببٌ كافٍ ليتجاوز أهلها –ويتجاوز المخلصون من القادرين على قيادتها- بوادرّ التسليم الآنية تجاه العدو. وليعدّوا الإعداد الواجب للمعركة.
على هذا نتجاوز في عقد المقارنة التالية لدراسة ميزان القوى بوادر التسليم، ونرتكز على أساس حتمية وقوع المواجهة على جميع الأحوال، وعلى أساس أنها ستشمل مجموع المنطقة المحيطة بفلسطين على الأقل، ومن هنا فإنّنا ننظر في الفصول التالية إلى العوامل الخمسة المذكورة من حيث نوعية "الطاقات" الحاسمة في تحديد كلمة "التفوّق"، ما بين الكيان الصهيوني الباطل في فلسطين المدعوم من الخارج من جهة، وبين مجموعة البلدان المحيطة به من جهة أخرى، أي مصر وسوريا ولبنان والأردن والعراق والسعودية، بالإضافة إلى أبناء فلسطين المستعمرين داخل أرضهم والمشرّدين منها إلى هذه البلدان الستة في الدرجة الأولى.
29 رمضان 1402هـ و20/7/1982م
نبيل شبيب

الطاقة البشرية
1- المعيار الكميّ والنوعيّ للطاقة البشرية
2- المقارنة الكميّة للمقاتلين
3- عنصر الزمن في الطاقة العسكرية البشرية
إن الطاقة البشرية في أيّة مواجهة طويلة الأمد هي العامل الأول في حسم تلك المواجهة في النهاية. فالإنسان هو الذي يوجه، ويصنع ويقاتل ويموّل، هو مصدر توفير عوامل الحسم الأخرى دون شك.
يقول اللواء الركن محمود شيث خطاب في كتابه "الوحدة العسكرية العربية" (ص 70):
"كانت الشعوب قبل الحرب العالمية الثانية (1939-1945م) تعتمد على جيوشها في الحرب، فالجيوش وحدها هي العامل المهم. ولكن بعد ظهور القوة الجوية والأسلحة ذات المديات الشاسعة، وأخيراً ظهور الأسلحة النووية والصواريخ عابرات القارات، لم يبق الجيش وحده مسؤولاً عن إحراز النصر، بل أصبح الشعب كلّه بما فيه من الطاقات مادّية ومعنوية مسؤولاً عن إحراز النصر، ولو أن الجيش بقي حتى اليوم رأس الرمح الذي يخوض المعارك ويستثمر الفوز."
والطاقة البشرية ذات عنصرين: الكمّ والنوع. ولا تقلّ أهمية أحدهما عن الآخر، فبمجرد وجود التوجيه السياسي والقيادي السليم للطاقة البشرية "الكمية" تصبح مسألة توفير النوعيات البشرية الفعالة المغيّرة أمر زمن فحسب.
المعيار الكميّ والنوعيّ للطاقة البشرية
مهما قيل عن الدعم الخارجي للكيان اليهودي الباطل في فلسطين، فمن حيث الطاقة البشرية يواجه الأربعة ملايين يهودي في فلسطين الآن (1982م) ثمانين مليون مسلم في المنطقة المحيطة بهم المهدّدة بخطرهم مباشرة، أي ما يعادل نسبة 5 في المائة أو واحد إلى عشرين.
وكانت التنبّؤات عام 1982م تقول إنّ عدد اليهود المتوالدين والمتجمعين بفلسطين، حسب أقصى التقديرات الإحصائية المعقولة، قد يبلغ خمسة ملايين يهودي عام 1420هـ (1999م)، وآنذاك يجدون أنفسهم وسط حوالي 120 مليون مسلم في البلدان الستة المذكورة، حسب أدنى التنبؤات الإحصائية المعقولة، أي بنسبة 4 في المائة أو واحد إلى أربعة وعشرين، أو ستة ملايين يهودي عام 1440هـ (2018م)، فسيجدون أنفسهم وسط حوالي 180 مليون مسلم في تلك البلدان، أي بنسبة 3,25 في المائة أو واحد إلى ثلاثين.
وهذا ما تؤكّده المعطيات السكانية الحالية (2003م) على ارض الواقع.
إذن، إذا غُلب المسلمون ومن معهم من أهل بلادهم، فهم لا يُغلبون الآن ولا على المدى المتوسط عن قلّة، ولكن القضية قضية نوعية، يلفت القرآن الكريم أنظارنا إليها وهو يعد بالنصر المسلمّ المجاهد الصابر الواحد على عشرة من أعدائه، وإن كان فيه ضعف فعلى اثنين من أعدائه على الأقل، ((ياأيّها النبيّ حرّضِ المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يَغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائةٌ يغلبوا ألفاً من الذين كفروا بأنّهم قوم لا يفقهون. الآن خفّف الله عنكم وعلم أنّ فيكم ضعفاً فإن يكن منكم مائةٌ صابرةٌ يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألفٌ يغلبوا ألفين بإذن الله واللهُ مع الصابرين.))-الآيتان 65 و66 من سورة الأنفال-
ويعبّر اللواء الركن محمود شيث خطاب بلغة الخبير العسكري عن نوعية الإنسان القادر على التأثير في مجرى الحرب الحديثة، فيقول في كتابه "الأيام الحاسمة قبل معركة المصير وبعدها" (ص139-140):
"إن الله سبحانه وتعالى قد خلق الإنسان قوياً جباراً إذا صمد، وضعيفاً متخاذلاً إذا جبن. إن الإنسان هو القوة القاهرة، يتغلب على كل شيء، إذا صبر وصابر ورابط واتقى الله. الجندي الذي يصمد في حفرة سلاحه، وبيده سلاح صغير أو كبير ضد الدروع، يستطيع أن يتغلب على الدروع بكل يسر وسهولة. لقد استطاع جنود من المشاة في الحرب العالمية الثانية تحطيم عشرات الدبابات لأنّهم صمدوا أمامها ولم يفرّوا فرار العبيد. واستطاعت الدبابات في الحرب العالمية الثانية تحطيم آلاف من المشاة، لأنهم تركوا مواضعهم وانهارت أعصابهم، ولم يستطيعوا الصمود. إنّ الصمود كان ولايزال وسيبقى أقوى سلاح في الحرب، وقد أثبتت حوادث التاريخ العسكري، أنّ خسائر الصامدين بالأرواح هي أقلّ من واحد بالمائة من خسائر الذين لا يصمدون. هذه هي الحقيقة البسيطة الواضحة، لا بد أن يفهمها العرب في كل مكان، ولا بد أن يؤمنوا بها ويعملوا على تنفيذها في الحرب، إن أرادوا أن يُكتب لهم النصر والنجاح."
المقارنة الكميّة للمقاتلين
وأهمية توفّر الطاقة الكمّية البشرية هي التي تجعل دعوة "تحديد النسل" في بلادنا على رأس ما يشجّعه الغرب ويدعمه، وهو الذي يشجّع سكانه على التوالد وتحرّم كنيسته الكاثوليكية الحدّ من النسل. كما أنّ الطاقة البشرية الكمّية هي على رأس ما يضعه "إيجال آلون" من عناصر للتفوق في كتابه المذكور "إنشاء وتكوين الجيش الإسرائيلي" ويقرّ أنّه من عناصر التفوق العربي الباقية بلا جدال (ص: 168-171)
ونحجم هنا عن الاسترسال في الحديث عن مواصفات نوعية الإنسان المسلم كما يريدها الإسلام بمجموعها، ونكتفي بما يتلائم مع لغة المعتذرين عن خوض المعركة بحجة "تفوق عسكري إسرائيلي"، فنأخذ مثالاً يتعلق بالجانب العسكري، باستغلال الطاقة البشرية "الكمية" في "صناعة المقاتلين"..
ونعود في الأرقام الواردة (هنا ولاحقا) حول الأعداد والعدّة للجيوش في المنطقة إلى مصادر متعدّدة، وهي أرقام قريبة من الواقع إن لم تكن مطابقة له على الدوام، وتبقى النتيجة واحدة من حيث النسبة المطلوبة لإجراء الموازنة الموضوعية بين القوى. ومعظمها مستمدٌّ من التقارير السنوية للمعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية في لندن.
في عام 1982م كان جيش اليهود العامل، تحت السلاح، يعدّ حوالي 120 ألفاً، ويعادل بذلك 3 في المائة من مجموع عدد اليهود بفلسطين. وكانت الجيوش العاملة في الدول الستة المذكورة تعدّ 635 ألفاً، أي ما يعادل 0,755 في المائة (أقل من 1 في المائة) من مجموع عدد سكانها.
ويرتفع عدد الجيش اليهودي بالاحتياطي وقت الحرب إلى حوالي 500 ألف أي ما يعادل 12,5 في المائة من السكان اليهود، وكان الاحتياطي العسكري الإسرائيلي يُستدعى خلال 72 ساعة، وأصبح في الإمكان استدعاؤه خلال 24-36 ساعة. وترتفع بعض المصادر بالرقم المذكور إلى حوالي 630 ألفاً باستدعاء مزيد من الاحتياطي خلال الأيام التالية، والرقم لا يشمل المسلّحين في المستعمرات "الدفاعية الأمامية"، فإذا وضع هؤلاء في الحساب ترتفع النسبة الوارد ذكرها من 12,5 إلى 20 في المائة. أمّا عدد الجيوش في الدول الستة المذكورة فيرتفع بالاحتياطي وقت الحرب إلى حوالي 975 ألفاً، أي ما يعادل 1,22 في المائة فقط من سكانها، وهذا الرقم نظري. فالاعتبارات السياسية للأنظمة الاستبدادية -المرفوضة من حيث الأساس- تلعب دورها في عدم استدعاء كلّ من هو بحكم الاحتياطي ولا سيما من الضباط ذوي الكفاءة، كما أن الفترة الزمنية لاستدعاء الاحتياطي طويلة بما لا يقارن مع العدو!..
وتعني هذه الأرقام، أنّ هذه الدول الستة المهدّدة بالخطر الإسرائيلي المباشر أقلّ من "إسرائيل" استغلالاً للطاقة البشرية "الكمية" المتوفرة بما يعادل نسبة واحد إلى عشرة على الأقل، وبتعبير آخر:
إنّ طاقتنا البشرية حول فلسطين أكبر من طاقة اليهود فيها بعشرين مرة. واستغلالنا لهذه الطاقة دون استغلالهم لطاقتهم بعشرة مرات بالنسبة إلى مسألة التجنيد فقط!..
ولو توازن عامل توجيه الطاقة البشرية لصناعة الجنود المقاتلين بين الطرفين، لواجه الـ 120 ألف جندي يهودي غاصب في فلسطين وقت السلم 2,4 مليون مسلم مسلح يرهبون عدو الله وعدوّهم، ولو واجه الـ500 ألف يهودي معتَدٍ وقت الحرب عشرة ملايين مسلم مسلح، أي بنسبة 12,5 في المائة، كنسبة مقابلة لليهود، علماً بأنّ قاعدة الاستنفار العسكري تحدّد نسبة 10 في المائة من السكان (وآنذاك يُفترض أن يرتفع عدد المجندّين في بلدان المواجهة إلى أضعاف الرقم المذكور) وفق ما يقول الخبير العسكري محمود شيث خطاب في كتابه "الأيام الحاسمة قبل معركة المصير وبعدها" (ص87).
لكننا نجد أن الحكومات العربية منذ النكبة الأولى إلى النكبة الثانية وحتى الآن، لا تستغل طاقتنا البشرية الأكبر هذه لأغراض التجنيد العسكري.. لماذا؟
لماذا استطاع اليهود رغم ظروفهم العسيرة أن يجنّدوا حتى 15 أيار/ مايو عام 1948م، 67 ألف مقاتل، ولم ترسل ثماني دول عربية لساحة القتال آنذاك سوى 21 ألفاً من المقاتلين النظاميين والمتطوعين غير النظاميين.. حسب الأرقام الواردة في كتاب "الحرب في أرض السلام" للواء حسن البدري،(ص 22 و139 و172) ومنها أيضا ما يستدعي السؤال:
لماذا استطاع اليهود أثناء ظروف حرب النكبة الأولى أن يجنّدوا المزيد حتى بلغ تعدادهم 106 آلاف مقاتل في 9 تموز/ يوليو 1948م، ولم يصل مجموع مَن حشدتهم الدول العربية الثمانية (مصر والسعودية والسودان واليمن وشرق الأردن والعراق وسورية ولبنان) إلى أكثر من 31 ألف مقاتل حتى ذلك الحين؟
قيل: إن السبب آنذاك كان حداثة استقلال الدول العربية.. والخيانات!
وكما يقول حسن البدري في الكتاب نفسه (ص 118): لقد
"كان إطلاق اسم الجيش على أي من هذه القوات النظامية أو شبه النظامية بمثابة إلباسها ثوباً فضفاضاً، إذ لم يتجاوز حجم أكبرها عدداً اللوائين غير كاملي المراتب، بينما قلّ حجم البعض الآخر عن الكتيبة الواحدة."
وشبيه ذلك ما يقول به محمد عزة دروزة في كتابه "القضية الفلسطينية في مختلف مراحلها"، (الجزء 2، ص: 148): لقد
"كانت الإمكانيات العربية أعظم مما تمخض عنه الجهد العسكري العربي في النهاية، بل إن أقطاراً مثل سورية والعراق لو بذلت قدراتها على الوجه الصحيح أو قريب منه لتغير وجه الموقف. بل لو أن مصر فعلت ذلك، لكانت قادرة وحدها على الاضطلاع بالعبء كلّه، خاصّة وأن اليهود كانوا قد أعلنوا حالة الحرب في فلسطين، ثم طبّقوها بحذافيرها وبكلّ جدّ، مجنّدين كلّ قادر على حمل السلاح من الرجال والنساء وأصحاب المهن المختلفة حتى لم يكن المرء يرى أثناء الحرب أحداً منهم في الشوارع، فبلغ مجموع جيش „إسرائيل“ 15 في المائة من جملة تعداد السكان اليهود."
قيل -كما أسلفنا- إنّ السبب كان حداثة استقلال الدول العربية. وماكانوا يواجهون "دولة" مستقلة آنذاك؟.. فكيف يُقبل تبرير "عدم الاستقلال" لعدم التجنيد على هذه الجبهة ولا يسري على الجبهة الأخرى؟..
وقيل -كما أسلفنا- إنها الخيانات، فماذا يقال في حرب 67م إذن؟
لماذا استطاع اليهود بعد 20 سنة من النكبة الأولى –وبعد مضي زمن أطول على استقلال الدول العربية المعنية- أن يستنفروا 11% من مجموع عددهم في فلسطين المحتلة. ولم يحشد العرب سوى ثلاثة بالألف من مجموع تعدادهم البشري ما بين المحيط الثائر والخليج الهادر آنذاك.. كما يشير اللواء الركن محمود شيث خطاب في كتاب "الوحدة العسكرية العربية" (ص 280) أو ما لم يصل إلى نسبة خمسة بالألف فقط من سكان الدول المشاركة في حرب 1967م، وكانت الدول العربية الثمانية المشاركة في حرب 1948م من قبل قد حشدت من الجيوش.. ما لم يبلغ تعداده سوى 0,05 في المائة أي نصف بالألف) من سكانها، كما يذكر حسن البدري في كتابه المشار إليه (ص 83).
إنّ القضية قضية توجيه سياسيّ عقيم لا قضية "تفوّق" في طاقة بشرية متوفّرة.
ويقول محمود شيث خطاب معلقاً على الوضع عام 67م:
"لقد رأيت بعيني أيام حرب 1967 الشباب يغدون ويروحون إلى الملاهي ودور السينما، ورأيت المقاهي والأندية مكتظة بالرجال الأشداء، ورأيت المظاهرات الصاخبة تملأ الشوارع الفسيحة بالذكور والإناث تعلن سخطها على „إسرائيل“، وسمعت خطباً وقصائد كثيرة تذاع، وقرأت مقالات عديدة تنشر، كلها تلعن „إسرائيل“. وكنت آمل أن يكون الشباب في ساحات القتال لا في الملاهي ودور السينما، والرجال الأشداء في ميدان الحرب لا في الأندية والمقاهي، والذكور والإناث مشتبكين بالعدو الإسرائيلي لا بالشرطة المحلية، وكنت أحب أن يكون الشعراء والخطباء يحرضون على القتال في الصفوف الأمامية، لا في محطات الإذاعة ومحطات الإذاعة المصورة الآمنة، وكنت أحب أن يكون الكتّاب في المقرات الأمامية الأمامية يكتبون البلاغات الحربية ويدبّجون البيانات العسكرية، لا أن يبقوا في إدارات الصحف والمجلات. وما هكذا كان يحارب آباؤنا الفاتحون عرباً ومسلمين! فهل نحن عرب، وهل نحن مسلمون؟"
كما يتساءل في كتابه " الوحدة العسكرية العربية" (ص 80)!.
إن القضية قضية توجيه لا قضية توفر الطاقة أو عدم توفرها، وليست حتما قضيّة تفوّق العدو بطاقته البشرية علينا.
عنصر الزمن في الطاقة العسكرية البشرية
إنّنا نجد بدلاً من استغلال طاقتنا البشرية الكبرى كمّا، عزلَ غالبية شعوبنا عن قضيتها المصيرية، بل نجد توجيهها نحو الخضوع، وهي في الأصل مصدر العطاء لـ "صناعة المقاتل المسلم". بل يمكننا القول أيضاً: إنّ ما يتوفر الآن، في عام 2003م، من مقاتلين مسلمين في الدول الستة المذكورة المهدّدة مباشرة بخطر يهود، يكفي في الأصل لإنهاء عصر الهزائم والنكبات والمآسي، لو توفّر عنصر التوجيه السياسي السليم، ناهيك عمّن هم في حكم المجنّدين فيما يسمّى "أجهزة أمنية" ليس مجهولا ما تقوم به من مهمّات "داخلية" لحماية الاستبداد وترسيخ بقائه.. مهما صنع من هزائم خارجية وارتكب من جرائم داخلية.
وتجدر تدليلاً على ذلك الإشارة إلى نقطة واحدة من النقاط المتعلقة بمسألة "التوجيه"، لم تعد مجهولة:
إنّ تجنيد 12,5 في المائة من اليهود بفلسطين للحرب وقت الحرب، يجعل استمرارية أيّة معركة تدور مسألة حاسمة للغاية، فهؤلاء يفتقدهم الكيان اليهودي الباطل في قطاعات حيوية جداً لاستمرار وجوده أصلاً، ولا يستطيع الاستغناء عنهم هناك زمناً طويلاً، ولكنّ عنصر استمرارية المعركة لم يجد أيضاً من أصحاب الأمر والنهي في بلادنا استغلالاً سليماً في أيّة معركة ماضية.
ولبيان قيمة إطالة فترة الحرب نذكر كأمثلة:
- أن 177 ألفاً من العمال الإسرائيليين في حقل الصناعة يعادلون 27 في المائة من مجموع العمال، وكانوا "جنوداً" في حرب عام 1973م، ممّا كان يعني خفض منسوب الإنتاج إلى 70ـ75 في المائة من الطاقة الاعتيادية، وخفض منسوب الصادرات الصناعية في الشهور التالية للحرب من معدل 90 مليون دولار في الشهر الواحد إلى 74 مليوناً، وخفض منسوب الاستثمارات الجديدة، كما هبط معدل أعمال البناء إلى 40 في المائة من حجمها الاعتيادي.. كما يقول سلمان رشيد سلمان، في كتابه "السلاح النووي والصراع العربي الإسرائيلي" (ص 28-29). ويذكر الكاتب (ص 32) أيضا أنّ عدد القتلى الإسرائيليين بلغ في "حرب الاستنزاف" الطويلة الأمد مع مصر عامي 1969 و1970م 3239 قتيلاً، وعدد الجرحى 9700 جريح، بينما لم يبلغ عدد القتلى الإسرائيليين في حرب 1973م التي اعتُبرت "باهظة في تكاليفها البشرية" سوى 2812 قتيلاً (مقابل 22125 قتيلاً من الجانب العربي) بالإضافة إلى 7500 جريح (مقابل 66260 جريح من الجانب العربي).. وهو ما ذكرته أيضا "المؤسسة العربية للدراسات والنشر في كتيب "المسح الاستراتيجي 1973م-حرب تشرين وقضايا استراتيجية عالمية (ص 46).
هذا ما يجعل "آلون" اليهودي يقول في كتابه (إنشاء وتكوين الجيش الإسرائيلي):
"من الواجب أن تكون أي حرب في المستقبل قصيرة وحاسمة"(ص 172). وقد وجد ما يقوله التطبيق إعداداً وتنفيذاً من جانب المسؤولين عن توجيه الأمور في "إسرائيل".
وهذا من جهة أخرى ما يجعل محمود شيث خطاب، المسلم، يشرح في كتاباته ما تعنيه الحرب الخاطفة ونتائجها، وما تتضمنه من مبادىء المباغتة وقابلية لإطالة المعركة، وإلى الصمود أثناء المعركة، ويبين كيف يكون الصمود ، كما ورد في كتب عديدة له، ككتاب "الأيام الحاسمة قبل معركة المصير وبعدها" (ص 83).. ولكن ما يقوله الخبير المسلم المخلص لا يجد التطبيق إعداداً ولا تنفيذاً من قبل المسؤولين عن توجيه الأمور في بلادنا العربية الإسلامية!
مرة أخرى نقول:
إن القضية ليست قضية توفر الطاقة الكافية للتفوق بل قضية "التوجيه" المفقود. ويمكن لنا إيراد العديد من الأمثلة الأخرى على افتقاد عنصر توجيه الطاقة البشرية الكميّة الكبرى لدينا توجيهاً هادفاً لإيجاد نوعيات الإنسان المطلوب في مختلف القطاعات الحيوية الأخرى غير العسكرية، وسنصل مع كل مثال إلى نفس النتيجة.
إنّ سبب هزائمنا لا يعود إلى تفوق عدونا بطاقته البشرية علينا، بل إلى سوء توجيه طاقتنا البشرية الأكبر، وإن عامل الانتصار الحاسم في المستقبل، على المدى المتوسط على الأقل، رهن بتوفير عنصر التوجيه السياسي السليم لطاقتنا في مجموع المنطقة على كل صعيد، ولا سيما على الصعيد العسكري.
إن إيجاد المقاتل المسلم بالنسبة الكافية، يحتاج إلى خطة يضعها الخبراء، وينفذها مسؤولون مخلصون، لنرتفع بنسبة المقاتلين إلى عدد السكان من 0,775 في المائة حالياً (و1,2 في المائة وقت الحرب) إلى 5 في المائة (و10 في المائة على الأقل وقت الحرب) حتى يكون جيلنا القادم قادراً على إحراز النصر وأذِنَ به الله عز وجل.
ويسري هذا أيضا على القطاعات الحيوية الأخرى للاستفادة من طاقتنا البشرية الكبرى استفادة حقيقية.
ويقول الله تعالى في آيات متعاقبة من سورة آل عمران: ((ولتكن منكم أمّةٌ يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهَوْن عن المنكر وأولئك هم المفلحون. ولا تكونوا كالذين تفرّقوا واختلفوا من بعدِ ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذابٌ عظيم))-الآيتان 104 و105-
((كنتم خيرَ أمّة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهَوْن عن المنكر وتؤمنون بالله.))- من الآية 110-
((ضُربت عليهم الذلّة أينما ثُقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباؤوا بغضب من الله وضُربت عليهم المسكنة ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون.))-الآية 112-

الطاقة السوقية
1- العمق البريّ السوقي
2- إدارة المعركة.. والعنصر السوقيّ
3- القيادة.. والتفوّق السوقي
4- الموقع السوقي البحري
5- الطاقة السوقية "الجويّة"
6- مشكلة الطاقة العسكرية النووية
مصطلح "السوقية" هو المصطلح الذي استخدمه لأوّل مرة في حدود علمنا اللواء الركن محمود شيث خطاب، الذي كان له إسهام كبير في جهود بُذلت لتوحيد المصطلحات العسكرية العربية"، ونستخدم هذا المصطلح السوقية، المعروف بلفظة الاستراتيجية الشائعة، للتعبير هنا عن قطاع: الموقع الجغرافي والتسلّح المناسب له، كمثال على القطاعات الأخرى. ونظرة واحدة إلى خارطة المنطقة تكشف عن رجحان كفة الميزان لصالح الدول الستة المذكورة رجحاناً كبيراً، وتغني عن الكلام المفصل. فهذه البلدان تحيط بالكيان اليهودي الباطل في فلسطين من الشمال والشرق والجنوب، بما يجعل قدرته على البقاء والنفاذ والتوسع أمراً شاذاً في الموازين الموضوعية، لا يمكن تفسيره إلا بأنّ هذه البلدان لم تستغلّ موقعها السوقي الممتاز كما ينبغي حتى الآن. إن مجموع بنية هذا الكيان الشاذ شاذّة بسبب الموقع أولاً. ونكتفي هنا ببيان مختصر لما يرتبط من ذلك بأسلوب التسلّح وسياسة "الدفاع الأمنية" خاصة.
العمق البريّ السوقي
ليس لهذا الكيان الباطل امتداد برّي يعتمد عليه في أيّ اتجاه، وهو ما يُعبَّر عنه بـ "العمق البري السوقي" الضروري لإحراز النصر في أية معركة حربية كبيرة، وذلك ما يثير قلق العدو إلى أقصى الحدود، ويثير أمل المخلص لقضية فلسطين إلى حدّ كبير.
يثير قلق العدو ويعبّر عن ذلك "آلون" في كتابه "إنشاء وتكوين الجيش الإسرائيلي" ( ص 171) كمثال فيقول:
"رغم التحسينات المذهلة في نظام الدفاع الإقليمي عن البلاد، تبيّن أكثر من أي وقت مضى أن الأخذ باستراتيجية دفاعية خالصة، تسمح للعدو بأن يختار بحرية زمان ومكان وأسلوب هجومه، معناه تعريض إسرائيل لأفدح الأخطار. إنّ الردّ الوحيد على هجوم مهدّد به هو المبادرة الشاملة من جانب إسرائيل. هجوم مضاد إجهاضي إذا استدعى الأمر، هدفه تحطيم قوات العدو."
ومثال آخر ما ورد على لسان موشي دايان عام 1955م:
"يكاد لا يوجد مكان في إسرائيل لا تطاله نيران العدو باستثناء صحراء النقب."
أو ما قال به حاييم هيرتسوج عام 1961م:
"يمكن إصابة الأشخاص برصاص المسدسات في بعض مباني الحكومة"، وكان آنذاك مدير المخابرات الإسرائيلية..
كما ذكر محمود شيث الخطاب في كتابه "الوجيز في العسكرية الإسرائيلية" (ص 43 و44).
وبالمقابل يثير هذا الفارق الاستراتيجي الأمل لدى الخطّاب فيقول في كتاب "الأيام الحاسمة قبل معركة المصير وبعدها" (ص 91):
"مساحات البلاد العربية الشاسعة أكثر من مساحة „إسرائيل“ آلاف المرات، لذلك فإن „إسرائيل“ لا تستطيع أن تتغلغل بالعمق في بلاد العرب، لأن ذلك يحتاج إلى أعداد ضخمة من المقاتلين لحماية خطوط مواصلاتهم وللصمود أمام الهجمات العربية، ونفوس „إسرائيل“ في وضعها الراهن يعجز عن تهيئة مقاتلين ينهضون بمثل هذا الواجب الصعب المستحيل. والأهم من ذلك، أن „إسرائيل“ بمساحتها الضيقة ستتعرّض إلى القصف الجوي والقصف بالصواريخ والقصف بالمدفعية الثقيلة، فتخرب „إسرائيل“ وتصبح أثراً بعد عين."
حديث الأمل هذا يدلي به خبير عسكري بتقديرات الخبير العسكري الموضوعية، وكان قبيل حرب 67م بأيام.. والمساحات الشاسعة التي أشار إليها، هي مساحة الدول الستة المذكورة آنفا، والمهدّدة قبل سواها بالخطر الإسرائيلي، وتبلغ أربعة ملايين كيلومتر مربع تقريباً، أي حوالي 133 مرة ضعف الأرض المحتلة، أمّا مجموع مساحة الأرض العربية من المحيط إلى الخليج فيعادل حوالي 12 مليون كيلومتر مربع أي 400 ضعف مساحة الأرض المحتلة.
أمّا الواقع الذي خيب الأمل وعكس مفاهيم الخبرة الموضوعية فقد تمثّل في أنّ المسؤولين في الكيان الباطل وضعوا خطط تسلحهم ومعاركهم على أساس تجاوز "التفوق السوقي العربي" عليهم، وأنّ المسؤولين في بلادنا أهملوا كلّ استفادة حقيقية مثمرة من هذا التفوق.
إدارة المعركة.. والعنصر السوقيّ
لقد اعتمد اليهود في قوتهم البرية اعتماداً أساسياً على مبدأ "الانتشار السريع" وتسلّحوا بسلاح المدرعات والآليات السريعة الحركة في الدرجة الأولى إذ "أصبح سلاح المدرعات الفرع الحاسم في القوات البرية" على حدّ تعبير آلون في كتابه "إنشاء وتكوين الجيش الإسرائيلي"، (ص 173).. فالمطلوب نقل أية معركة تنشب إلى الأرض غير المحتلة من الأرض العربية.
رغم ذلك يمكن التأكيد بمفهوم السوقية العسكرية، أنّ هذا الأسلوب في التسلّح يمثّل ميزة سوقية لصالح العرب إلى حد بعيد.
إنّ وجود حوالي 4000 آلاف آلية مصفحة محصورة في أرض ضيقة نسبياً، يجعل توجيه الضربة الأولى لها قبل انتشارها في "عمقنا السوقي" عاملاً حاسماً في مجرى المعركة إلى حد كبير، لا سيما عندما تتحشّد تلك الآليات عند الحدود استعداداً للحرب.. كما حدث مثلا قبيل غزو لبنان عام 1982م، وعلى مدى عدّة شهور، دون أن يتحرّك أيّ جيش عربي، كما هو معروف.
ولم تكن „إسرائيل“ إلى وقت قريب تملك من القوة الدفاعية ما يكفي لصدّ فعّال لهذه "الضربة الأولى"، التي انتظرها المخلصون على الدوام، وأحجم عن توجيهها المسؤولون على الدوام، بينما كان الإسرائيليون يضاعفون تسلّحهم لهذا الغرض بالذات بعد حرب 1967م على وجه الخصوص.. حسبما يؤكّده الخبراء العسكريون من الجانبين، وفق ما ورد في كتيّب ""ميزان القوى العسكري في منطقة الشرق الأوسط 1977-1978" من إعداد قاسم جعفر، وما ورد أيضا في كتاب "إنشاء وتكوين الجيش الإسرائيلي" لإيجال آلون.
ورغم التراجع في السنوات التالية بدلا من التطوير على الجانب العربي.. يبقى التفوق العربي السوقي، موقعاً وتسلحا، قائماً على صعيد السلاح البري، ولقد كان التفوق المصري-السوري فقط على „إسرائيل“ في مجال الدبابات سنة 1973م يعادل نسبة 5 إلى 2 (4000 إلى 1700)، أما في عام 1982م فقد أصبحنا أمام هذه النسبة نفسها 5-2 ولكن عند مقارنة التسلحّ العربي في الدول الستّ المواجهة للخطر مع التسلّح الإسرائيلي (10000 إلى 4000) وليس تسلّح دولتين فقط!..
إنّ اضطرار „إسرائيل“ لتكثيف قدرتها المدفعية الدفاعية بسبب رقعتها الجغرافية الضيقة مفهومٌ عسكريا، أما أن يكون 70 في المائة من أصل 10000-12000 قطعة مدفعية صاروخية لدى البلدان العربية الستة مخصّص للدفاع، فأمر لا يمكن تفسيره سوقياً، إلا بأن البلدان العربية لا تعدّ هذا التسلّح لمواجهة „إسرائيل“ أصلاً.. وهو ما يشير إليه "أطلس الصراع العربي الصهيوني"، من إعداد مازن البندك (ص 53) والتقرير السنوي للمعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية في لندن لعام 1981م.
ولا يُعلّل هذا الخلل بمسألة استيراد السلاح، فالواقع أن استيراد السلاح البري أو تصنيعه محلياً يدخل في حيز الإمكان، إذا توفر بعض الإخلاص والجهد والتوجيه السليم، ولقد أصبح جزء كبير من الأسلحة البرية الإسرائيلية يصنع محلياً.
ويقول أمين النفوري في كتابه "توازن القوى بين العرب وإسرائيل" (ص: 164) عن وضع هذا التوازن قبل عام 1976م:
"غير أنهم (أي اليهود) لم يستطيعوا في أية جبهة عربية حشد قوات مدرعة متفوقة على تلك الجبهات إفرادياً، لا من حيث العدد ولا من حيث العدة، بالرغم من أن ثلث مجموع قواتها العامة تتألف من المدرعات"
وهذا منا يراه أيضا واضعو كتاب "ميزان القوى العسكري في منطقة الشرق الأوسط"، منطلقين من مقارنة الطاقات البرية المتوفرة سنة 1978م، قبيل عقد اتفاقات كامب ديفيد، إذ وضعوا افتراضات للمعركة، اختتموها بقولهم (ص 32-33):
"أمّا على المستوى القطري فتتغيّر الحسابات كلها بطبيعة الحال وتجري المقارنة بين قوة القطر العربي الواحد المعني و“إسرائيل“، وفي هذه الظروف يكون لـ“إسرائيل“ تفوق كمّي واضح بالنسبة لأي دولة عربية على حدة."
القيادة.. والتفوّق السوقي
ننطلق مبدئياً ممّا هو موجود بالفعل فنجد بمنطق القوّة السوقية العسكرية، أنّ ميزان المعركة يمكن أن يتبدّل تبدّلاً جذرياً إذا نفّذت البلدان الستة المذكورة خطّة هجومية مشتركة، وكانت في يدها المبادرة إلى توجيه الضربة الأولى، وتوفّرت لجيوشها قيادة موحدة. وهذه العناصر الثلاثة لا تتوفّر في الوقت الحاضر، والعنصر الأساسي بالنسبة إليها وهو"نيّة الحرب" غير متوفر أصلاً. إذن، هل القضية هنا أيضاً قضية تفوق في الطاقة السوقية، موقعاً وتسلحاً برياً، أم هي قضية توجيه؟
إننا نفتقد الاستعداد الحقيقي لخوض المعركة العادلة بدلاً من التسوية الجائرة، ولا نفتقد القوة والطاقة اللازمة لإحراز النصر.
إنّنا نفتقد القيادات السياسية والعسكرية المخلصة التي توجه طاقاتنا نحو المعركة العادلة لا نفتقد الطاقات. وما كان لعدوّنا أي تفوق علينا في أية حرب سبقت إلاّ في مضمار التوجيه، في مضمار "نية الحرب" واتخاذ الأسباب الكافية لخوضها والانتصار فيها.
ذاك هو الحال عام 1948م.. وذاك هو الحال عام 67م.. وذاك هو الحال، بعد العبور، عام 1973م كما أثبتت لنا "المبادرة الشهيرة" للرئيس المصري السابق السادات.. وذاك هو حالنا اليوم أيضاً.
وإذا توفّر الاستعداد للجهاد، وسيتوفر بإذن الله، وتوفرت له القيادة المخلصة -وستتوفر بإذن الله- فإنّنا في حاجة لتبديل ميزان المعركة على المدى المتوسط:
- إلى خطة مشتركة لخوض المعركة، تتجاوز التفرقة القاتلة الراهنة
- وإلى جهد حقيقي لتصنيع السلاح البري محلياً على أساس تأمين عنصرين: الانتقال السريع إلى أرض المعركة وممارسة الهجوم قبل الدفاع
- وأن يقترن هذا وذاك بالعمل على زيادة القطعات العسكرية الآلية التي تُخَصّص لهذه المعركة المصيرية مع العدوّ الأول، وإزالة التناقضات القائمة في المنطقة حالياً التي تستهلك ما يتوفّر من سلاح بري بكميات هائلة في معارك داخلية وجانبية.
الموقع السوقي البحري
ما يقال عن الموقع السوقي والتسلّح على الصعيد البري، يقال مثله وزيادة عن الموقع السوقيّ والتسلّح على الصعيد البحري.
فالمجال البحري من جهة الجنوب هو بالنسبة للعدو من وجهة النظر السوقية "مصيدة" ما بين الساحلين الشرقي والغربي للبحر الأحمر، هذا إذا توفّر التوجيه العسكري السليم في السعودية ومصر. والبحر الأحمر هو منفذ الكيان الصهيوني الباطل تجاه آسيا وإفريقية حالياً، ويمكن أن ينقلب إلى رأس حربة ضده. فطول السواحل السعودية عليها 95 ميلاً، ووراءها العمق البري والبحري السعودي، وطول الساحل الأردني أربعة أميال، وطول السواحل المصرية 125 ميلاً، ووراءها العمق البري والبحري المصري؛ أي أن طول السواحل البحرية العربية على خليج العقبة 224 ميلاً مقابل ستة أميال هي طول ساحل الأرض المحتلة عليه، ولا يزيد عرض المضيق الصالح لعبور السفن على 500 متر.. وهذا ما يفصّل فيه محمود شيث الخطاب في كتابه ""الأيام الحاسمة قبل معركة المصير وبعدها" (ص 26 و27). ويبلغ طول السواحل العربية على البحر الأبيض المتوسط أكثر من ستة أضعاف طول ساحل الأرض المحتلة عليه، وتتمتع السواحل العربية بامتداد ساحلي سوقيّ نحو الشمال والغرب (تركيا وليبيا) الأصل فيه أن يكون في صالحها لا ضدّها.
ويخشى الإسرائيليّون من هذا التفوّق السوقيّ لصالح العرب من جهة البحر الأبيض المتوسط أكثر من خشيتهم له من جهة البحر الأحمر، وهم الذين اعتبروا إغلاقه في وجههم إعلاناً للحرب. وذاك ما جعلهم يضعون في حسابهم عام 1967م احتمال تلقّي الضربة الشديدة الأولى في "المراكز الصناعية والمناطق المدنية بغارات جوية وقصف من البحر" أو بـ"إنزال لمشاة الأسطول مع المظليّين وراء الخطوط لتحقيق أكبر قدر ممكن من الإرباك والفوضى وتقطيع خطوط المواصلات." كما أوضح ذلك إيجال آلون في كتابه "إنشاء وتكوين الجيش الإسرائيلي" (ص 188).
ولا عجب في ذلك إذ لم يكن لدى الإسرائيليين حتى ذلك الحين سلاح بحرية يذكر مقابل أكثر من 50 وحدة بحرية ثقيلة و50 وحدة بحرية خفيفة لدى مصر وحدها، وكان تعداد القطع البحرية على أنواعها لدى „إسرائيل“ عشرين قطعة، ولدى الدول الستّة المحيطة بها 200 قطعة، كما يقول أنيس الصايغ في كتيّب "ميزان القوى العسكرية بين الدول العربية وإسرائيل" (ص 71 و83 و91) مشيرا إلى أنّ التفوق لصالح العرب من حيث تعداد جنود البحرية أيضاً كان يعادل أكثر من 4 إلى 1.
هل يمكن القول إنّ من أسباب هزيمة 1967م وجود تفوق إسرائيلي على صعيد الموقع والتسلح البحري؟ أم أن الأمر هنا، مثل في المجال البري، أمر توجيه لا أمر طاقة وتفوق في الطاقة؟
ولكنّ الإسرائيليين الذين يتعلّمون من دروس الحرب، ولم ينسوا حادثة تدمير "مدمرة إيلات" بعد حرب 1967م سارعوا إلى تطوير سلاح بحريتهم تطويراً كبيراً، بصناعة محلية واستيراد من الخارج، وبالقرصنة عند اللزوم -وحادثةُ سرقة القوارب الخمسة من فرنسا مشهورة- حتى أصبح لديهم عام 1982م أكثر من خمسة عشرة بحرية ثقيلة وحوالي خمسين زورقاً بحرياً سريعاً، وفق التقرير السنوي لعام 1981م للمعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية في لندن وكتاب "ميزان القوى العسكري1977-1978" (ص 76-84)، وتجاوزوا ذلك إلى أكثر من الضعف مع حلول عام 2003م.
ولكن إلى جانب التفوق السوقي العربي من حيث "الموقع" البحري، يبقى التفوق السوقي من حيث "التسلّح" البحري لصالح الطرف العربي، فحتى عام 1982م –تاريخ صياغة هذا البحث في طبعته الأولى- يؤكّد التقرير السنوي السنوي المشار إليه بقاءَ التفوّق قائما لصالح سوريا ومصر والسعودية بوجود ً أكثر من 70 قطعة بحرية ثقيلة، وأقلّ من 50 زروقاً سريعاً بقليل لديها، كما بقي التفوّق العدديّ في سلاح البحرية لصالحها أيضا بما يعادل 33000 جندي بحرية عربي مقابل 3300 يهودي وقت السلم، وحوالي 55000 عربي مقابل 13000 وقت الحرب.
وكما كان الحال عام 1967م كان هذا التفوق البحري قائماً سنة 1973م أيضا، ولكن أسفرت الحرب آنذاك عن تدمير 11 قطعة بحرية عربية مقابل لا شيء على الطرف الآخر.. حسبما ورد في كتاب "المسح الاستراتيجي 1973م-حرب تشرين وقضايا استراتيجية عالمية" (ص 46).
لماذا؟
إنّ القضية ليست قضية تفوّق في العدد ولا العدّة، علماً بأن باستطاعة الدول العربية الثلاثة المذكورة أن ترفع عدد قواتها البحرية وعدّتها على المدى المتوسط أضعافا مضاعفة.. إذا استغلّت طاقاتها الذاتية استغلالاً حقيقياً وفق سياسة داخلية وخارجية سليمة. وعندما يتوفر عنصر التوجيه السليم، يوجد التنسيق، والتعاون، والتحرّك العسكري المتكامل، بما يجعل البحرية العربية مصدر خطر كبير على عمق الكيان الصهيوني الباطل بدلاً من الوضع المعاكس الراهن، ويجعلها قادرة على قطع الطريق الرئيسية للإمدادات الخارجية له وقت الحرب، وهو طريق البحر الأبيض المتوسط.
وقد يلوّح البعض هنا بوجود الأساطيل الأمريكية في مياهنا، فلنكن صرحاء، إنّ الولايات المتحدة الأمريكية التي تدعم „إسرائيل“ بأقصى ما يمكنها، لم تتدخّل تدخلاً عسكرياً مباشراً في أية معركة سابقة لأسباب دولية معروفة، إذا أحسنا استغلالها استطعنا أن نجعل لأنفسنا "وجوداً" في عالمنا وعصرنا، وإذا لم نحسن بقينا على ما نحن عليه، لا يكاد يكون لنا "وجود" داخل أرضنا نفسها، ولم تجد نفسها قادرة على الهجوم المباشر واحتلال بلد عربي عام 2003م، إلاّ نتيجة ما أصبح لها من مرتكزات "عربيّة" في المنطقة، يستحيل دونها أن تنفذ مخططا عسكريا هجوميا ضدّ أي بلد عربي.
ولمسألة الظروف الخارجية حديث لاحق إن شاء الله، إنّما نورد في هذا الموضع ملاحظة عابرة.
إنّ المقارنة الجارية هنا بصدد ما يقال عن "تفوّق إسرائيلي"، انطلقت من المقارنة في الحروب الخاسرة السابقة، وآنذاك كان صراع النفوذ بين الدولتين الكبريين هو العامل الأول في تحديد تصرفاتهما تجاه بعضها البعض وتجاه مختلف التطورات المحلية. ولكنّ استغلال هذا العامل استغلالاً سليماً هو ما لم يتحقق، لعدم اقترانه بالاعتماد على قدرتنا الذاتية، اعتمادا نثبت به مصلحتنا أوّلا لندفع الآخرين إلى وضع ذلك في حسابهم.
وقد رأينا أنّ الاتحاد السوفييتي، رغم طرد خبرائه من مصر عام 1972م، يقيم جسرين جويين إلى مصر وسوريا في 10/10/1973م، عندما ظهرت الانتصارات المبدئية العربية.. ثمّ نجد أنه، رغم علاقاته الخاصة بمنظمة التحرير الفلسطينية، لم يحرّك ساكناً على الصعيد العسكري أو السياسي عندما ظهر أنها -حسب الموازين التقليدية- تواجه معركة خاسرة في بيروت الغربية المحاصرة سنة 1982م وقد انفرد بها الميدان العربي في وجه „إسرائيل“.
في الحالتين لم يكن الاتحاد السوفييتي يتحرّك أو يمتنع عن التحرّك إلا وفق ما يراه محققاً لمصلحته، ولكن التطورات المحلية هي التي نستطيع بطاقاتنا الذاتية التأثير على مجراها، وهي التي تؤثر بدورها على المنظار الذي ترى الدول الأخرى عبره تلك المصلحة الذاتية.
وبمقدار ما نستخدم طاقاتنا ونصنع معاركنا يمكن لنا التأثير على تلك الظروف الدولية بدل أن نتركها تؤثر علينا وتتحكم بواقعنا ومستقبلنا.
ونعود بعد هذا الاستطراد إلى نقطة التفوق على صعيد الطاقة السوقية البحرية لنؤكد على أن ضياع أثر هذا التفوق إنما هو في الدرجة الأولى:
- لافتقاد كل تنسيق بين دولنا القائمة
- وحلول التخوّف تجاه بعضها البعض بدلاً من التعاون،
- وتوجيه بعضها لطاقاته البحرية إلى مشرق الأرض العربية ومغربها من دون "قلبها" المهدّد بالخطر الصهيوني.
فضلاً عن افتقاد نية الجهاد للتحرير أصلاً.
الطاقة السوقية "الجويّة"
ليس للعدوّ مجال جويّ يذكر، إنّما بات يفرض وجوده على المجالات الجويّة للدول العربية المجاورة بصورة صارخة، تفضح حقيقة خوائها. بينما تملك الدول العربية الستة المذكورة من العمق الجويّ ما يجعلها قادرة دون ريب على تبديل هذا التفوّق المزعوم، بقليل من التنسيق والجهد مع الإخلاص.
وليست قضية العمق الجويّ بالأمر الهيّن في موازين القوى الجويّة، فهو يعني القدرة على تخزين الجزء الأعظم من السلاح المتوفر بعيدا عن متناول مدى نيران العدو، والقدرة على توزيعه على مسافات متباعدة تحول دون إمكانية القضاء عليه بهجوم مباغت، وغير ذلك من الميزات التي يجدها من يريد في الكتب العسكرية الاختصاصية.
وإلى جانب ميزات هذا العمق السوقي الجوي، كانت أسلحة الجوّ العربية في تفوّق مستمر من حيث العدد والعدّة على سلاح الجو الإسرائيلي. وقد تأرجحت التقديرات حول ما كان لدى „إسرائيل“ من طائرات مقاتلة عشية نكبة 1967م فتراوحت بين 245 و400 طائرة مقابل 650 لدى مصر وسوريا أو 1100 لدى الدول العربية الستة.. كما يؤكّد أنيس الصايغ في "ميزان القوى العسكرية" (ص 71 وما بعدها) ويؤكّد رفيق حبيب مطلق في كتابه "إسرائيل قبيل العدوان" (ص 74 و75).
فهل كانت الضربة الأولى التي وُجّهت للطيران العربي بسبب نقص في عدد أو عدّة، أم كانت نتيجة عدم توفّر القيادة السليمة اليقظة؟
يقول رئيس أركان فرنسي سابق:
"كان عجيباً قلّة حذر الطيران المصري وتدميره بهذه السهولة مما يدلّ على فقدان الإنذار في مطاراته، ولو أنّ الجيش الإسرائيلي اصطدم بغير ما لاقاه لكان غير سعيد إطلاقاً."
كما نقل أمين النفوري في كتابه "توازن القوى بين العرب وإسرائيل" (ص 242-243).. ولكن ربّما صدق "باروخ نادل" فيما تحدّث عنه بصدد أسباب الضربة الجويّة الأولى في كتابه: "تحطمت الطائرات عند الفجر"!
ولقد قيل في ذلك أكثر من هذا أو أقل، مما يلتقي في مغزاه عند نقطة واحدة: غفلة القيادة على الأقل.
ولم يختلف الحال كثيراً عام 1973م فالتفوّق هو التفوّق في العدد، لدى سوريا ومصر ما تأرجح تقديره بين 630 و 900 طائرة، ولدى „إسرائيل“ 500، حسب الأرقام الواردة في "أطلس الصراع العربي الصهيوني" (ص: 53). ولكنّ عنصر المفاجأة لم يكن إلى جانب العدوّ هذه المرة، فكانت خسارته لنحو 100 طائرة في الفترة الأولى من الحرب، إلى أن حوّل الجانب العربي الحربَ بعد أيام من حربٍ هجومية إلى "حربٍ سلمية"! فتحوّلت الخسائر للاتجاه المعاكس، وتحولت نتيجة الحرب أيضاً.. وكان مجموع خسارة الإسرائيليين في الحصيلة النهائية 120 طائرة مقابل 368 على الطرف العربي.. كما ورد في "المسح الاستراتيجي 1973م" (ص 46).
هل كانت القضية قضية حجم طاقة السلاح الجوي، أم هي آنذاك، كما هي الآن، قضية القيادة وأسلوب القيادة ودرجة يقظة أو غفلة القيادة؟
ثم أصبح العدو يمتلك أثناء غزو لبنان عام 1982م ما يقدّر بـ 650 طائرة مقاتلة هجومية من المستوى الجيد مقابل 1400 طائرة مقاتلة هجومية من مستويات مقاربة لدى الدول الستة المحيطة به، أي بنسبة 1 إلى أكثر من 2، وكان عدد أفراد سلاحه الجوي وقت السلم حوالي 28000 بالمجموع مقابل 110000 فرد، أي بنسبة 1 إلى 4، ووقت الحرب 55000 مقابل 130000 فرد، أي بنسبة 1 إلى 2,5 تقريباً.
مرة أخرى يطرح السؤال: لصالح مَن كان التفوق في الطاقة من حيث عدد قطع السلاح أو عدد أفراد القوّات المسلّحة؟
ولو فصّلنا في المقارنة بين القدرة الضاربة لقطع السلاح من حيث المستوى التقني العام أو من حيث طاقة المتفجرات، لما وصلنا بعد التفصيل أيضاً إلا للنتيجة نفسها: طاقتنا في السلاح الجوي هي المتفوقة على طاقة العدو الصهيوني، من حيث الموقع السوقي عمقاً، ومن حيث حجم السلاح عدة وعدداً.
وقد أدى افتقاد العمق الجوي الإسرائيلي، وخوف الإسرائيليين من أن تتحرّك أسلحة الجوّ العربية يوماً ما تحرّكاً موجهاً بالفعل توجيهاً سليما، إلى بذل جهود كبرى لتطوير شبكة الدفاع الجوي، فقد
"تبيّن أنّه في حالة هجوم جويّ فإن البلاد كلّها ستكون معرّضة بدرجة متساوية"
على حدّ تعبير "آلون". ومع ذلك يقرّر العدوّ أنّ العامل الحاسم ليس في عدد الطائرات والطيارين، وعدد الصواريخ والمدافع المضادّة للطائرات، وإنّما هو في خطة المعركة ومجراها على حسب ما تقرّره القيادة القادرة وتوجهه.. فيقول آلون بعد استعراضه للإجراءات الدفاعية في المجال الجويّ:
"مع ذلك فقد ظلّ الدفاع الرئيسي عن المطارات والسكان على السواء، جزءاً من الخطة الاستراتيجية الشاملة، إخراج قاذفات القنابل المعادية من المعركة في اللحظة الأولى للحرب، وإبقاء سفن العدوّ البحريّة وقاذفات صواريخه على مسافة لا خطر منها على المدن الساحلية"
كما جاء في كتابه "إنشاء وتكوين الجيش الإسرائيلي" (ص 176).
وكان الاحتمال الأول الذي تخشاه „إسرائيل“ عام 1967م هو "هجوم جوي على القوّة الإسرائيليّة الجويّة وهي لا تزال على الأرض"، فاستبقت ذلك بـ "هجوم مضادّ مسبق".. ثمّ كانت تخشى من هجوم متعدّد الاتجاهات في وقت واحد على جبهات عديدة تقوم به قوّات بريّة (عربية) تتمتّع بغطاء جويّ متفوّق، فاستبقت „إسرائيل“ ذلك بتوجيه الضربة الأولى للسلاح الجويّ العربيّ قبل أن يضمن للمعركة ذلك الغطاء الجويّ العربيّ "المتفوق".. كما ورد في الكتاب نفسه (ص 187-188).. ولا تنفي هذه الحسابات جميعاً أن العدوّ الصهيوني كان يدرك "نوعية الموقف الحربي العربي" عام 67، فيقول آلون في الكتاب نفسه (ص 198 و199):
"بدا أنّ هناك الكثير من عنصر المقامرة والتمنيات في التحركات المصرية، بدلاً من التفكير الاستراتيجي البارد. ولكنها الفرصة المواتية إن لم يكن المخطّط لها من أجل توسّع جديد، ثم الخشية من أن يتحوّل عدم سلب المبادرة من الطرف العربيّ إلى عمل انتحاري بالمعنى الحرفي للكلمة."
يجب أن نقول بوضوح:
لقد كان الأمر الحاسم عام 1967م وكان الأمر الحاسم عام 1973م ولا يزال الأمر الحاسم إلى الآن هو عنصر التوجيه السياسي والعسكري، عنصر القيادة. وكلّ قول بوجود تفوّق إسرائيليّ جويّ باطل بالمقاييس الموضوعيّة لموازين التفوّق، وصحيح بمفهوم افتقارنا إلى القيادة الموجهة على المستوى العربيّ حتى الآن!
مشكلة الطاقة العسكرية النووية
لقد شاع على ألستنا في الحقبة ما بين النكبتين العسكريتين 1948 و1967م ما أراد العدو أن يشيعه من تهوين من شأنه وتهويل من شأن قدرتنا الضاربة في طول المنطقة وعرضها، حتى أمكن تنفيذ المخطط التوسعي في حرب 1967م.
ثم شاع على ألسنتنا في الحقبة ما بعد هاتين النكبتين العسكريّتين ما أراد العدو أن يشيعه من تهوين من شأن قدرتنا على النهوض ومواجهته وتهويل من قدرته الضاربة في طول المنطقة وعرضها، حتى أمكن له تثبيت أقدام توسّعه العسكري وبدأ يتطلّع إلى مرحلة توسّع (سلمي) جديدة بأسلوب جديد.
وجاءت حرب 1973م فأعادت الموازين العسكريّة إلى نصابها شيئا ما، بأن أبرزت إمكانيّة المواجهة العسكرية، كما يرى المفكر أحمد صدقي الدجاني في القسم الأول من كتابه: "ماذا بعد حرب رمضان".. ولكن سرعان ما ظهرت أهداف التسوية السياسية التي تتلخص بكلمة واحدة: التسليم.. أي التسليم باحتلال جزءٍ من الأرض على الأقلّ، وهو ما أفسح المجال للتوسّع اليهودي السلميّ بعد العسكريّ.
وفي هذا الإطار العام لتطور وضع القضية، يمكن أن نضع ما دار ويدور من حديث بشأن "التفوق" الإسرائيلي النووي، و"العجز عن مواجهته"!
وليس هذا الحديث جديداً، إنما اكتسب في إطار الوضع الراهن لقضية فلسطين أبعاداً جديدة.
إنّ المساعي الإسرائيلية على الصعيد النووي بدأت مع ولادة الكيان الباطل على أرضنا المحتلة، ونمت إلى درجة الإعلان شبه الرسمي عن أن "إسرائيل" أصبحت تمتلك بالفعل القنابل النووية. ولكنّ تصوير ذلك وكأنّه "حدث مفاجئ.. أو كشف سرّ من الاسرار" أمر يثير العجب على الأقل، فتكفي الإشارة هنا إلى بعض ما كتب عن ذلك، مثل:
- كتاب: "دقيقتان فوق بغداد" باللغة الانكليزية في أواخر أيار/ مايو 1982م، وما أثير حوله من ضجة إعلامية..
- "السلاح النووي والصراع العربي الإسرائيلي"، للدكتور سلمان رشيد سلمان..
- "أخطار التقدم العلمي في إسرائيل"، ليوسف مروة..
- "العسكرية الإسرائيلية" (ص 123-133) و"طريق النصر في معركة الثأر" (ص 105-153) و"الوحدة العسكرية العربية" (ص 164-190) للواء الركن محمود شيث خطاب.
فالقضية مطروحة معروفة على المستوى العربي منذ زمن طويل، والمشكلة الحقيقية هي مشكلة "التعامل السياسي الرسمي" معها.. على امتداد عدّة عقود متتالية، ومع مضيّ الإسرائيليين في ميادين التسلّح الكيماويّ والجرثومي أيضا.
لا نتعرض للتفاصيل إنما نقتبس بعض الملاحظات التي لها علاقة بموضوع البحث بصدد المقارنة بين الطاقات المتوفرة وطريقة استغلالها، وذلك عن بعض من درس مسألة التسلح النووي الإسرائيلي والأوضاع العربية المقابلة على هذا الصعيد ونشر نتائج هذه الدراسة.
الملاحظة الأولى:
إنّ من الأهداف الأساسية للسياسة الصهيونيّة على هذا الصعيد ما يعبّر عنه بـ "الردع من خلال الشكّ" وينعكس المقصود به في كلمة لشمعون بيريس عام 1966م إذ قال:
"إنني أعرف أن العرب يتكلّمون في نوايانا النووية، وأعرف أن هذا الشكّ قوّة رادعة، فلماذا نخفّف هذا الشكّ، ولماذا نعمل على إيضاح موقفنا."
كما ورد في كتاب "السلاح النووي والصراع العربي الإسرائيلي" (ص 74) للدكتور سلمان رشيد سلمان الذي يقول أيضا (ص 106):
"إن إسرائيل قد استفادت وحتى الآن من اتباع سياسة "الردع من خلال الشك" نظراً لعدم وجود استراتيجية عربية واضحة المعالم بالنسبة لهذا الموضوع المهمّ، ممّا جعل „إسرائيل“ تحقن العالم العربي بين المدّة والأخرى بتصريحات غامضة عن قدرة „إسرائيل“ النووية حتى تزرع في العالم العربي الخوف من قدرتها الخارقة وبالتالي تمهّد للأفكار الانهزامية لتنتشر في العالم العربي."
ومن تلك الأفكار الانهزامية الداعية إلى التسليم ما سبقت الإشارة إليه ككتاب بعنوان "عندما تسكت المدافع" لمحمد سيد أحمد!..
والملاحظة الثانية:
إنّ عدم الردّ على هذا التحدّي الصهيونيّ النوويّ هو لافتقاد وجود استراتيجية عربية واضحة المعالم، على حد تعبير الدكتور سلمان رشيد سلمان، أمّا مسألة الإمكانات والقدرة الموضوعية على الرد، فالواقع
"أن إنتاج السلاح النووي لم يعد سرّاً من الأسرار، كما كان من قبل، فكلّ تفاصيل هذا السلاح أصبح مكشوفاً على نطاق واسع. كما أصبح لدى العرب خبرات كافية، ولديهم المال الوفير الذي لا يعجز أبداً عن توفير العلماء والخبراء الذين يحتاجون إليهم وتوفير الأفران والمفاعلات والمسرّعات، الخ..."
كما ورد في مقال بعنوان: "الدول العربية في مجابهة التحدي الصهيوني النووي"، للواء الركن محمود شيث خطاب، في مجلة "الأمة" القطرية (العدد 20، شعبان 1402هـ) مع شرح التدابير العربية الواجب اتخاذها لمواجهة التحدي. فالقضية على هذا الصعيد تتجلّى كسواها، متمثلّة في قضية تفوّق إسرائيلي في استغلال الطاقات المتوفرة، وليست قضية تفوّق إسرائيلي من حيث وجود تلك الطاقات أصلاً."
ولا يعود عدم الاستغلال إلى عجز (نوعي) بل هو (العجز السياسي) كما في الميادين الاخرى، وهو ما يتبيّن على سبيل المثال دون الحصر، (1) في مسارعة الدول العربية (فرادى) إلى الانضمام إلى المعاهدات الدولية التي ترسّخ احتكار أسلحة الدمار الشامل ودون الحصول على أيّ مقابل بإلزام العدوّ الإقليمي لها بخطوات مماثلة، ثمّ (2) خضوع اكثر من دولة للضغوط الخارجية وإلغاء برامجها (العلمية والتقنية) في الميادين التي يمكن أن تشكّل يوما ما (مصدر خطر) تجاه العدوّ الإقليمي على صعيد توفير (قوّ’ الردع) الضروري لأسلحة الدمار الشامل التي لم ينقكع عن صناعتها.. ويزيد على ذلك (3) تحوّل بعض الدول العربية وبغض النظر عن نوعية أنظمة الحكم، إلى أدوات ضغط ومنطلق تهديدات عسكرية تجاه أيّ دولة عربية (تتمرّد) على إرادة احتكار السلاح الغربية-الإسرائيلية المشتركة، وهو ما وصل في حالة العراق إلى المشاركة الواقعية في حرب الاحتلال عام 2003م..
هذه السياسة التراجعية إلى درجة يمكن وصفها بالانتحارية والمقترنة بمتابعة إهمال ما يصنع الطرف الآخر وما ينكشف منه للقيام بحملات "سياسية" عالمية على الأقلّ، هو وليس (العجز النوعي) ما يعطي الطرف العدوّ أسباب التفوّق الظاهر للعيان في هذه الاثناء. وما تزال هذه السياسة مستمرة.. من قبل كتابة سطور الطبعة الأولى من هذا الكتاب عام 1982م، إلى ساعة إصدار طبعة 2003م، ولا حاجة للبحث طويلا عن الأدلّة، فهي متوفّرة بصورة متجدّدة متواصلة، ومن أراد فليرجع إلى المقالة المنشورة في جريدة الأهرام القاهرة ساعة كتابة هذه السطور (8/7/2003م) بقلم الأستاذ فهمي هويدي، بعنوان: سجل الإبادة المسكوت عنه، ويتعرّض فيها إلى آخر ما كشف هذه الأيام على هذا الصعيد، واسلوب التعامل السياسي والإعلامي العربي معه.
فمن هم المسؤولون عن عدم استغلال طاقاتنا بالصورة الكافية لمواجهة التحديات الصهيونية على كل صعيد وعلى هذا الصعيد؟
الملاحظة الثالثة:
إنّ تمييع القضيّة على جانب من الخطر يقارب خطر العجز نفسه، وهو مما ساهم ويساهم على مدى السنوات الماضية حتى الآن في استمرار استغلال عدوّنا للطاقات المحدودة المتوفرة لديه، واستمرار غفلتنا عن تحرّك منهجي مشترك فعال. ويجب أن يكون واضحاً لنا، كما يقول الخطّاب في المقال نفسه أنّ
"إنتاج السلاح النووي العربي، هو الضمان الوحيد لإحجام العدو الصهيوني عن استعمال السلاح النوويّ ضدهم! وكلّ ادّعاء يخالف هذه الحقيقة، كالاعتماد على الضمانات الدولية، وعلى معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية لا قيمة له من الناحية العملية. كما أنّ كلّ وعد تقطعه دولة حليفة أو صديقة للعرب، بتزيدهم بالسلاح النووي عند الحاجة لا ينفّذ أبداً. وحتى في حالة تنفيذه، يكون الوقت المناسب لاستعماله قد مضى إلى غير رجعة".
ونقتبس ختاماً لهذه الملاحظات المعدودة كلمات أخرى في هذا الموضوع البالغ الأهمية، من المقالة نفسها للواء الركن محمود شيث خطاب أيضا، يقول فيها:
"إن العرب في محاولاتهم إنتاج السلاح النووي، هدفهم الأول والأخير الدفاع عن حقهم في العيش ببلادهم أسياداً لا عبيداً.. يجب أن نضع النقاط على الحروف، ونفكر بمستقبل بلادنا وأطفالنا، وألاّ نميّع الأمور، فقد ضيّعنا كثيراً من الوقت في تمييع قضايانا المصيرية، فأصبحت أجزاء من بلادنا محتلة، وأجزاء أخرى منها مهددة بالاحتلال، وأصبحت كرامتنا مهدورة، ومصيرنا مهدداً بأفدح الأخطار. فهل من سميع مجيب، أم على قلوبنا أقفالها!!"
والله عز وجل يقول:
((إن شرّ الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون. الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كلّ مرّة وهم لا يتقون. فإما تثقفنّهم في الحرب فشرّد بهم من خلفهم لعلهم يتذكرون. وإما تخافنّ من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين. ولا يحسبنّ الذين كفروا سبقوا، إنّهم لا يُعجزون. وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوّة ومن رباط الخيل ترهبون به عدوّ الله وعدوّكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يُوفّ إليكم وأنتم لا تظلمون))

الطاقة الاقتصادية
1- معايير التفوّق الاقتصادي
2- صناعة "العجز"
3- صناعة "التفوّق"
معظم الذين يقولون بتفوّق إسرائيلي لا يجهلون بل يتجاهلون حقيقة يؤكدها الخبراء كبدهية ثابتة، وهي أن تفوّق الدول على بعضها يقاس بقدراتها الاقتصادية أولاً، وليس بقدراتها العسكرية وحدها، فالطاقة الاقتصادية توجد الطاقة العسكرية والعكس ليس صحيحاً. وقد يقرّ البعض بهذه الحقيقة ولكن يقولون آنذاك بوجود تفوّق اقتصادي إسرائيلي أيضاً.
لماذا؟
لماذا يعتبرون هذا الكيان الشاذ المصطنع متفوّقاً على الدول العربية منفردة ومجتمعة؟!
معايير التفوّق الاقتصادي
إنّ معايير التفوق الاقتصادي ثلاثة: الثروة المادية، والطاقة العلمية، والإنجاز، أي قدرة الإنسان، عمالاً وخبراء، على تحويل هذه الثروة وتلك الطاقة إلى إنتاج بالإدارة السليمة والجهد الموجه، فإذا فصّلنا الحديث في هذه المعايير الثلاثة في المقارنة التالية اتضح لنا مكمن المشكلة.
1- إنّ في البلدان الستة المذكورة كبلدان المواجهة المباشرة وحدها ثروة معدنية هائلة متنوعة، لا يُجهل حجمها، بدءاً بالنفط الخام والغاز الطبيعي، مروراً بالفوسفات والحديد، وانتهاء باليورانيوم. ولا يملك الكيان الصهيوني الباطل شيئاً يُذكر إلى جانبها
2- وفيها أراضٍ شاسعةٌ واسعةٌ صالحةٌ للزراعة تبلغ مساحتها عشرات أضعاف ما احتلّه الكيان الصهيوني الباطل بفلسطين، وتصلح لإنتاج مختلف أنواع المزروعات بدءاً بالحبوب، مروراً بالحمضيات والنباتات الزيتية والخضار والفواكه، وحتى القطن والألياف، بما يكفي لتغطية الحاجيات الذاتية العربية من الغذاء والمصنوعات الغذائية والزراعية، ويزيد عليها دون ريب، وسبقت الإشارة إلى أنّ مساحة الأرض العربية لهذه الدول الستة تعادل 133 ضعف مساحة الأرض المحتلة حالياً، وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ حوالي 20 في المائة منها صالح للزراعة ولكنّ معظمه مُهملٌ أو غير مُستثمر بالصورة المثالية، بينما تبلغ مساحة الأرض الزراعية بفلسطين حوالي 40 في المائة، ولكن 90 في المائة منها على الأقلّ مُستغَلٌّ استغلالاً كبيراً.
3- وفيها أيدٍ عاملة لا يُعجزها الإنتاج على كل صعيد. ولا يكاد يملك الكيان الصهيوني الباطل من اليد العاملة ما يحافظ به على بقائه لولا استغلال اليد العاملة من أبناء فلسطين الشرعيين المستعمَرين.. ولكنّ البطالة الفعلية والبطالة الخفيّة في بعض هذه البلدان الستة تتجاوز 50 في المائة من القوّة العاملة المتوفرة، بينما يستهلك الكيان الصهيوني ما لديه من أيدٍ عاملة، وهو في حاجة ماسّة إلى المزيد مما يجده من خلال الانفتاح السلمي عليه، ويجد قسماً من ذلك من خلال الاحتلال.. ويشرح ذلك كتاب "العرب في ظل الاحتلال الإسرائيلي منذ 1948م"، لحبيب قهوجي، (ص 61-83) مع بيان أساليب الاستغلال ودرجاته في مختلف المجالات، وقت الازدهار الاقتصادي ووقت الأزمات، وأشدّ من ذلك ما يسري على الأرض المحتلة عام 1967م دون ريب.
4- ومن وراء تلك الدول الستة أسواق تصريف للإنتاج تسمح بتصعيده بما لا يبدو له حدود في الوقت الحاضر، شريطة اتباع سياسية اقتصادية تكاملية بين البلدان الإسلامية، و"وطنية" بالمعنى الصحيح للكلمة تجاه الشرق والغرب، ولا يكاد يجد الكيان الصهيوني الباطل سوق تصريف واحدة قريبة إلا بمقدار ما تعطيه إياه التسويات السلمية، الحاضرة والقادمة.. الحاضرة، كما هو الحال مع مصر والأردن مثلا، والقادمة لأنّ مشاريع التسوية المطروحة باسم "الشرق أوسطية" لن تصل لِما يخالف ما وصلت إليه مصر أو الأردن من حيث "تطبيع العلاقات"، في محاولات قسرية من جانب الحكومة، ورفض شعبي متصاعد عاما بعد عام. ولئن كان انفراد مصر بالسلام الكامل حتى الآن يقف حجر عثرة بصورة جزئية في وجه تحقيق منافع اقتصادية أكبر لصالح الإسرائيليين فإنّ مقدّمات تحقيق "الصلح الجماعي" يراد لها أن تزيل كلّ حرج، وكلّ عقبة، ليس بين اليهود والعرب فحسب، بل وبين اليهود ومجموع المنطقة الافريقية والآسيوية الإسلامية وغير الإسلامية.
5- وإنّ عدد المختصين في مختلف القطاعات الاقتصادية، بدءاً باستصلاح الأراضي للزراعة وحتى تقنية العقول الألكترونية والملاحة الكونية من "العرب" لدى الدول الستّ المعنية بالبحث أضعاف ما لدى "إسرائيل" من اليهود، بل لدى مصر وحدها أضعاف ما لدى "إسرائيل"، بل إنّ عدد المختصين من أبناء فلسطين الشرعيين وحدهم يزيد في كثير من المجالات على ما لدى الكيان اليهودي الباطل من المختصين، ولكنها الأوضاع السياسية العربية التي تُفقد هذا التفوق العددي مفعوله على صعيد الواقع.
ولكن.. رغم تفوق العرب على إسرائيل، في سائر المعطيات الاقتصادية الأساسية للتفوق:
تصاعد حجم الإنتاج الاجتماعي العام الإسرائيلي –فيما عدا سنوات الانتفاضة الأولى والثانية- عاما بعد عام، ليتجاوز حجم الإنتاج الاجتماعي العام في أكثر من دولة عربية معا، وهذا مثال واحد على اختلاف مستوى درجة استغلال ما يتوفّر من طاقات، وليس مثالا على أصل معطيات التفو|ٌ، عندما يتوفّر التوجيه السياسي والاقتصادي القويم.
صناعة "العجز"
إنّ السبب الحقيقي في عدم استغلال طاقاتنا المادية والاختصاصية والعلمية والبشرية الإنتاجية كما ينبغي، لا يكمن بحال من الأحوال في ضعفها وتفوّق مزعوم لعدوّنا علينا بها. فهذه الطاقات موجودة بوفرة هائلة ونوعيات ممتازة، ولكنّ السبب يكمن في الظروف السائدة في بلادنا إجمالاً بما فيها الأقطار الستة المذكورة. هذه الظروف، السياسية في الدرجة الأولى، التي توجد الفوارق الهائلة بين الطبقات داخل القطر الواحد، وفيما بين الأقطار الشقيقة، وتمنع تعاونها وتكاملها، وتسبب "هجرة الأدمغة" إلى الخارج تحت وطأة الضغوط عليها، غالباً.
وهِيَ هِيَ الظروف التي جعلت بلادنا باقتصادها تابعة للدول الأجنبية، ففرّقتها عن بعضها، ومنعت تقدّمها جملة، كما منعت تقدّم البلد الواحد بمفرده. فليس من الممكن أصلاً بناء التقدم الاقتصادي على دعائم التبعية.
و"التقدّم" الإسرائيلي الاقتصادي تقدّم مصطنع، لا يستند إلى قواعد راسخة، مثله مثل البنية الاقتصادية والاجتماعية للكيان الصهيوني الباطل بكاملها. ولهذا ترهق عوامل الضعف وجوده داخليا، من غلاء وتضخم وفوارق طبقية، كما تتآكل مكانته خارجياً من "حملات الاستجداء" المتوالية، وفي فترة الإعداد الأولى لهذا البحث، كانت نسبة التضخم الإسرائيلية في أعوام 1980-1982م تتأرجح ما بين 100 و140 في المائة، فهي من أعلى النسب في العالم إطلاقاً. وكان الوضع سيئاً باستمرار، ولكن كان ينتعش بعد التوسّع العسكري أو السياسي.. ونجد المزيد عن ذلك مثلا في فصل "الدين العام في إسرائيل" وفصل "التضخم المالي في إسرائيل" من كتيب "السياسة المالية في إسرائيل"، ليوسف شبل.
هذا الوضع الشاذّ المهلهل هو الذي يجعله أحوج ما يكون إلى انفتاح المنطقة المحيطة به عليه، من أجل أسواق التصريف القريبة، واليد العاملة الوفيرة الرخيصة، ومصادر المواد الخامّ والطاقة الغنية، وذاك بالذات، ما تستجيب له التسويات السلمية المطروحة على بساط البحث بصورة مخزية.
ويدور بالمقابل الحديث عن إرهاق كاهل بعض أقطارنا بالديون الخارجية أيضاً، ويقال بعجزها، لهذا السبب (!) عن "الاستمرار" في ممارسة الدفاع عن حقّنا في أرضنا. ولكنّنا ونحن نرى هذه الديون التي تبلغ عشرات المليارات من الدولارات، على سوريا ومصر والأردن خاصة (وما صُنع من الديون صنعا بمئات المليارات على العراق) من بين الدول الستة المذكورة، يجب علينا أن نرى في نفس الوقت كيف تجد الفوائض المالية طريقها من تراب السعودية، وهي من هذه الدول الستة أيضاً، المحيطة بالعدوّ المهددة بخطره، إلى الأسواق المالية والاقتصادية الغربية، التي يصنّفها المسؤولون أنفسهم بين أسواق مالية يسيطر اليهود عليها وأخرى تدعم اليهود بفلسطين بغير حساب. إنّ هذه الودائع والاستثمارات في الغرب لتزيد حجماً في الوقت الحاضر على خمسة أضعاف مجموع الديون التي تثقل كاهل مختلف الدول العربية الفقيرة مع بعضها البعض ما بين المحيط والخليج. ولا تتوفّر أرقام إحصائية رسمية ودقيقة عن حجم هذه الودائع والاستثمارات العربية في الغرب، ولكن توجد تقديرات مدروسة قريبة من الواقع، تصل بها إلى زهاء 800 مليار دولار، وهو رقم لا يشمل قيمة الأملاك العقارية.
القضية قضية توجيه وليست قضية عجز وتفوّق في المعطيات الأساسية التي تحقّق التفوّق.
ومن الأمثلة الموضحة لعامل التوجيه هنا:
إنّ الميزانية العسكريّة الإسرائيليّة تعادل وسطياً ربع الإنتاج الاجتماعي العام. كذلك فمجموع الميزانيات العسكريّة للدول الستة المذكورة، مع وجود تفاوت بينها، تعادل وسطياً ربع مجموع الإنتاج الاجتماعي العام فيها. ولكن تصبح المقارنة سليمة عندما نذكر: أنّ الحجم الفعلي للميزانية العسكرية الإسرائيلية لا يصل إلى خُمس (20 في المائة) الميزانية العسكرية للدول الستة المذكورة. ثم يتضح عامل "التوجيه" عندما نرى: أنّ „إسرائيل“ أوجدت بهذا الخُمس جيشاً يضرب ويبطش متفوقاً على تلك الجيوش التي تمتنع عن التدخل في مثل المعركة الضارية التي دارت على أرض لبنان (1982م)، أو لمجرّد الضغط أثناء الجرائم التي ارتكبها ويرتكبها الإسرائيليون داخل الأرض الفلسطينية المغتصبة.
صناعة "التفوّق"
ليس التفوق الإسرائيلي إذن في أيّ مجال من المجالات، وفي هذا المجال الاقتصادي بالذات، ناتجاً عن تفوّق أصيل في المعطيات الأساسية الضرورية للتفوّق، إنّما هو في عملية استغلال المعطيات المتوفرة فحسب، في عملية التوجيه. والمسؤوليةُ عنه هي مسؤولية أولئك الذين يحملون اسم "المسؤولين" عن توجيه مقاليد الأمور في بلادنا.
وإذا صدقت النوايا في تبديل هذا الوضع المؤلم، وجب علينا على المدى المتوسط:
1- أن نعتبر أقطارنا وطناً واحداً، وثرواتنا ثروة مشتركة، وعمالنا والمختصين من أبناء أمتنا إخوة في العمل الموحد لبناء المستقبل الواحد المشترك.
2- أن نضع مخططاً مشتركاً بعيد المدى لاستغلال الثروة المادية الكبرى والطاقات العملية الذاتية والقوة البشرية العاملة والمختصة في عملية بناء اقتصادي متكامل، مستقلّ بأهدافه عن القوى الدولية الأجنبية، قائم على أساس تحقيق المصلحة العليا المشتركة، معبّئٍ لسائر الإمكانات والجهود المتوفرة، يضع المعركة الحاسمة المحتّمة في حسابه على المدى القريب والبعيد، ويجعل الإعداد لها جزءاً من خطوة التطوير الشاملة المتكاملة على كل صعيد.
3- أن نخرج بأقطارنا حقيقةً لا كلاماً من فلك التبعيات الأجنبية، ونجعل تكاملها وتعاونها مع بعضها هو الأصل والأساس في معاملاتها، ونجعل تعاملها مع سواها رهناً على ما يحقق مصالحها مجتمعة ومنفردة، ونحقق فيها من أسس العدالة الاجتماعية ما يزيل الهوّة الفاصلة بين بعضها، والفوارق الطبقية القائمة في كلّ منها، ويجمع كافّة الجهود لتحقيق التقدم المنشود على أسس سليمة راسخة.
وآنذاك لا نجد دولة تملك الخبرة الفنية ولا تملك المال، أو تملك المال ولا تملك القوة العاملة، أو تملك الثروة المعدنية ولا تملك أسواق التصريف، ولا نجد هذه تقيم بناءها الاقتصادي بأسلوب يقلّد الرأسمالية ولا يتقنها، والثانية بأسلوب يقلّد الاشتراكية ولا يتقنها، وإذا بها مع بعضها عاجزةٌ عن صدّ مطامع أجنبية بما في ذلك الوقوف في وجه الصهيونية وكيانها الباطل على أرضنا.
إنّ القضية قضية توجيه.. فلنوفر في بلادنا التوجيه السليم، نوجد لها التفوّق على أعدائها في كل ميدان من الميادين.

الظروف المناسبة
1- مسؤولية الذين "يصنعون" الظروف
2- دور "العدوّ" الأمريكي
الظروف نوعان: ظروف نصنعها، وظروف لا نملك صنعها، ولكن نملك أن نستفيد منها.
والظروف قسمان: محلي، ودولي. الأصل في المحليّ منها أننا نصنع جُلّه، ولا ندع القوى الخارجيّة تؤثر فيه إلاّ بالشكل الذي نريد. والأصل في الدوليّ منها أننا نشارك في صنعه ونؤثر فيه تأثيراً ينمو بمقدار ما تنمو القيمة الحقيقية لوجودنا كطرف من أطراف ما يُسمّى بالأسرة الدولية.
مسؤولية الذين "يصنعون" الظروف
وإذا كان العدو الصهيوني يملك في الوقت الحاضر، لأسبابٍ لا نتعرض لها هنا، أن يفرض في أرضنا ظروفاً مفاجئة في إطار ما يسمى بسياسة فرض الأمر الواقع، فإنه لا يملك قطعاً صناعة سائر تلك الظروف السائدة في أرضنا، ما بين أقطارنا، وداخل القطر الواحد، تفرقةً واقتتالا، وظلماً واضطهادا، كما لا يملك من مقوّمات التأثير على مجموع الأوضاع الدولية أكثر ممّا نملك نحن أيضاً من مقوّمات التأثير ولكنّه يصنع بما يملكه أضعاف ما نصنع؛ إذا كنّا نصنع شيئاً أصلا.
والمعوّل في ذلك كله على "مَن" يصنع الظروف ويؤثّر فيها ويستفيد منها.
إنّ الأقطار العربية بتنازعها مع بعضها البعض، وبولاء معظمها لدول أجنبية، هي التي ترسّخ مع بعضها البعض أوضاع النزاع والخلاف والاقتتال، وأوضاع التبعيات الانتحارية، فترسّخ بذلك بنفسها عجزها جميعاً عن صنع ما يخدم المصلحة المشتركة رغم مصالح الهيمنة الدولية.
وإن الأقطار العربية التي تضع مصالحها الإقليمية الضيقة المحدودة فوق كل مصلحة مشتركة، هي التي تجعل نفسها مع بعضها البعض في موضع العجز عن خدمة قضية مصيرية مشتركة.
وإنّ القطر العربي الواحد الذي يُبقي السوادَ الأعظمَ من أبنائه محروماً من حرية الكلام، معزولاً عن قضيته، مشغولاً بلقمة عيشه، أو مشغولاً ببذخه وبطره، مرهقاً بالمظالم المفروضة عليه، أو مُخدّراً بالمتع الدنيوية المُغدقة عليه، مثل هذا القطر لا يمكن أن يصنع من هذا الواقع تعبئة جماهيرية ضرورية لخوض المعارك المصيرية، وإذا كان الجيش هو الذي يقاتل عادة، فالعمق البشريّ الذي يعتمد الجيش عليه في كل مجال هو هذه التعبئة الجماهيرية المفقودة.
وإنّ القطر العربيّ الذي يجعل قضية الجيش فيه هي قضية السلطة وحماية السلطة، وفرض ما تريده السلطة، ولا يتورع عن دفع الجيش وما تكوّن غلى جانبه من أجهزة قمع مسلّحة، لخوض معارك مع الشعب من أجل السلطة، لا يمكن بحال من الأحوال أن يصنع محلياً أو عربياً أو دولياً ظروفاً تعين على النصر من قريب أو بعيد.
هل من الممكن القول بعدُ أنّ من أسباب الانتصارات العسكرية الإسرائيلية الظروف الملائمة لها، أم يجب أن نقول:
إن المسؤولين عن توجيه الأمور في بلادنا في موضع العجز محلياً وعربياً ودولياً عن تحقيق أهدافنا المشروعة في أرضنا، وهذا العجز المرتبط بهم هم، يجعلها -رغم كل ما تملكه من ميزات في الأصل- عاجزة عن التأثير في مجرى الظروف الدولية، بل عاجزة عن مجرد الاستفادة مما يطرأ من الظروف.
إنّ من المقوّمات الأساسية التي يحتاج إليها أي بلد في العالم للتأثير على مجرى الأحداث، ما يلتقي عند الشروط الأولية التالية:
1- الاستقرار الداخلي، بمعنى أن يحسّ أفراد الشعب أنهم يمارسون سطلة حكمهم بأنفسهم من خلال ممثليهم الشرعيين، حتى يكون هؤلاء موضع الدعم الداخلي وهم يتحركون دوليا
2- الاستقرار الاجتماعي، بمعنى أن يسود المجتمع تكافؤ حقيقي في الحقوق والواجبات، المعنوية والمادية، وأن يسوده الأمن القائم على العدالة والنزاهة وضمان حفظ الكرامة والحريات والحقوق الأصلية للفرد، حتى لا يكون الشغل الشاغل للفرد هو السعي لتحصيل حقوقه أو لسلب حقوق الآخرين، فلا تجمعه مع الآخرين رابطة مصلحة مشتركة ولا خدمة قضية مصيرية
3- الاستقرار الاقتصادي، بمعنى أن يكون استغلال ما يملكه القطر من ثروات وطاقات وفق منهج متوازن متكامل هادف، يحقق التقدم المطرد، ويمنع الاستغلال الداخلي والخارجي بمختلف ألوانه وأشكاله ومجالاته.
وهذا كله ممّا نملك بأيدينا مسألة إيجاده، ولكن لا يبدو على قياداتنا السياسية في الوقت الحاضر ما يشير إلى أنها تفكر في إيجاده أصلاً.
وبالمقابل، نجد الكيان اليهودي الباطل في فلسطين، يفتقد الاستقرار على هذه المستويات الثلاثة، إنّما يستمدّ مقوّمات تأثيره على ظروف المنطقة حوله ممّا أوجدناه نحن في أقطارنا من أوضاع تسمح له، رغم ظروفه الذاتية المعيقة، بالتأثير على مجموع المنطقة.. وإنّما تجمع أفرادَه على هذا الطريق الغاية المشتركة: الاغتصاب والتوسّع، وهم فيما عدا ذلك قلوبهم شتى، وخلافاتهم أكبر ممّا تحتمله أيّة دولة معتبرة، لولا ما يجدونه من هذا الدعم غير المباشر في المنطقة حولهم، بما يجعلهم يتجاوزون المرة بعد المرة نقطة الضعف في خلافهم من خلال تلك الغاية المشتركة، وهم يرون أنفسهم قادرين على تحقيق المزيد منها يوم بعد يوم.
دور "العدوّ" الأمريكي
ونحن إذا وفّرنا تلك المقوّمات الثلاثة الرئيسية للتأثير على الظروف المحلية والدولية، استحال على الدول الكبرى أن تقف من قضايانا الموقف الذي تقفه الآن وهي آمنة من ردود الفعل، ضامنة لتحقيق ما تريد، عبر هذا النظام أو ذاك، ما دامت الأنظمة الحاكمة كلّ في طريق، يؤدّي إلى مختلف أشكال التبعيات والخضوع، ولكن لا يؤدي إلى اجتماع بينها على أيّ درب من الدروب، لاسيما على تلك الدرب الموصلة لفلسطين بمواجهة العدوّ الجاثم بفلسطين مواجهة مشتركة.
وإنّ دعم الولايات المتحدة الأمريكية المستمرّ لهذا الكيان الباطل لا يعود إلى سيطرة الصهيونية العالمية في الولايات المتحدة الأمريكية، قدر ما يعود إلى الالتقاء الراسخ بين المصالح الأمريكية والصهيونية تجاه منطقتنا العربية والإسلامية.
ومن أشدّ الأفكار خطراً علينا وإضراراً بنا وبحاضر بلادنا ومستقبلها تلك الدعوى التي شاعت في بعض أقطارنا: يجب أن نستميل أمريكا إلى جانبنا بربط مصالحها بنا، حتى نكون في يوم من الأيام "الحليف المفضل عندها على إسرائيل".. وقد أثبتت العقود الماضية أنّ النتيجة هي نقيض ذلك تماما، وظهرت هذه النتيجة على صورة كارثة عبر احتلال العراق.
وإنّنا -علاوة على ما في هذا الاتجاه من روح الهزيمة والاستخذاء- لا نصنع بمتابعة الجري وراء هذا الهدف، الذي لن يتحقّق على كل حال، سوى تلبية الهدف الأمريكي الأصلي، بتثبيت مطامع الولايات المتحدة الأمريكية في السيطرة على أرضنا وعلى حساب شعوبنا، ولا نكون قد حققنا شيئاً فيما يتعلق بمواجهة "إسرائيل" سوى مزيدٍ من التثبيت لوجودها، هذا إذا كان أصحاب تلك الدعوى يفكّرون بتلك المواجهة أصلا، ولا ينطلقون في تلك الدعوى ابتداء من مصلحتهم الذاتية الأنانية الضيّقة، المرتبطة بالمطامع الأمريكية.
ثمّ إنّ أمريكا -ويجب أن يرسخ هذا في فهمنا لواقع عالمنا وعصرنا- ليست عدوّة لنا لأنها مع "إسرائيل" فقط، بل إن عداءها لنا عداء أصيل باق، بوجود "إسرائيل" وبغير وجودها على السواء.
إنّنا، إذا أردنا أن ننتقل على المدى المتوسط بأقطارنا من أوضاعها المزرية الراهنة، ومن عجزها عن التأثير الفعّال في ظروفها المحلية فضلاً عن الظروف الدولية، إلى وضع نكون قادرين فيه على التحكم بصنع ظروفنا، والمشاركة في صنع ظروف عالمنا وعصرنا، والاستفادة منها في المعركة الحاسمة، وجب علينا:
1- الانتقال بأقطارنا إلى ذلك الوضع المستقر، بأركانه الثلاثة المذكورة، الاستقرار السياسي، والاستقرار الاجتماعي، والاستقرار الاقتصادي..
2- الانتقال من السياسات المتفرّقة المفرّقة إلى سياسة مشتركة موحّدة مستقلّة عن القوى الأجنبية..
3- التعامل مع كل طرف دولي من منطلق المصلحة المشتركة بيننا نحن، لا من مصلحة جزئية لطرف واحد منّا معه..
وإنّ الظروف الدولية الراهنة، بما فيها من صراع متجدّد بين القوى الدولية في الشمال، وصراع على "الحياة" بين الشمال والجنوب، لهي من أشد الظروف ملاءمةً لنا بأوضاعنا الراهنة، للاستفادة الحقيقية من تلك الظروف اعتماداً على ما تملكه بلادنا من:
- قدرات اقتصادية ومالية كبرى..
- وإمكانات سياسية وسوقية واسعة النطاق..
- وطاقات بشرية واختصاصية وعسكرية..
لوضع سياسة موحدة مشتركة، تخدم القضية المصيرية على المدى القريب والبعيد، وتنتقل بنا من مرحلة الهزائم إلى الانتصارات، ومن مرحلة النكبات والتسويات الجائزة إلى استعادة الحقوق وإقرار الأوضاع العادلة، وحمل رسالة الخير والهدى المضيئة لمستقبل البشرية على هذه الأرض.
القضية قضية توجيه، فأين هو التوجيه السليم؟ وأين هم الموجهون؟

العقيدة والإرادة
1- المنطلق الإسلامي المشترك
2- التعبئة.. والقيادة
نقف لحظات عند مجموع نتائج المقارنات المعقودة في الفصول السابقة، فنعدّدها موجزة، ثم نبحث عن العامل المشترك بينها:
1- المعركة الحاسمة بين الكيان الصهيوني الباطل ومجموعة البلدان المحيطة به المهددة بخطره معركة حتمية الوقوع على المدى المتوسط
2- التفوّق الكميّ في طاقتنا البشريّة يوجب تنفيذ خطة مشتركة للارتفاع بمستوى استغلالها، وإيجاد نسبة أعلى من المقاتلين، ومن المنتجين على كل صعيد، ليكون جيلنا القادم أقدر على إحراز النصر الذي عزّ على جيلنا الحاضر حتى الآن
3- التفوّق السوقيّ القائم حالياً لصالح الدول الستة المحيطة بالعدو، يوجب للاستفادة منه أن يقترن بخطة متكاملة على صعيد التسلّح البريّ والبحريّ والجويّ، تتجاوز التناقضات الراهنة، وترفع حجم الطاقة العسكرية الكمّية والنوعيّة المتوفّرة، وتنطلق من ضرورة المعركة الهجوميّة تجاه العدوّ، قبل تحرّكه وانتشار قوّاته وبلوغه أهدافه الأولى في أيّة جولة قادمة
4- التفوّق الكبير لصالح هذه البلدان الستة على صعيد المعطيات الاقتصادية الأساسية، يوجب عليها لاستغلالها استغلالاً هادفاً أن تنطلق من اعتبار نفسها قطراً واحداً بثروة مشتركة، وهدف اقتصادي متكامل، تسعى لتحقيقه بمخطّط مشترك، يخرج بها من التبعية الأجنبية، كما يخفّف الفوارق الطبقية القائمة بينها وداخل كل منها، ويجعل الإعداد للمعركة المصيريّة المشتركة جزءاً أساسياً من خطة التطوير الشاملة المتكاملة
5- لا يتحقّق ما سبق تعداده دون تعبئة جماهيريّة هادفة، والتعبئة ممكنة التحقيق بشرط أن توجد في أقطارنا أوضاع مستقرة داخلياً، سياسياً واجتماعياً واقتصادياً، على أسس الحرية والعدالة والشورى والأمن والتكافؤ. فهذا ما يوجد الظروف المحلية الملائمة لخوض المعركة المشتركة، ويمنع عدوّنا من استغلال ظروفنا السيّئة لصالحه، وهو ما يمكننا من التأثير الفعّال على الظروف الدوليّة، والاستفادة من الطارىء منها ليساعدنا في معركتنا المصيرية.
إنّ هذه الواجبات الخمسة الضرورية لتحقيق النصر على المدى المتوسط في المستقبل، لا يمكن تحقيقها كما ينبغي، إلا بتوفير شرطين أولين أساسيين:
أولاً: وجود المنطلق الواحد، والتصوّر الواحد، والهدف المشترك، والمنهج المشترك للتحرك.
ثانياً: وجود القيادات السياسية وغير السياسية، المخلصة الواعية الخبيرة، المتعاونة مع بعضها على أداء هذه الواجبات المصيرية.
ولانرى سبيلاً لتوفير هذين الشرطين الأساسيين في بلادنا الإسلامية التي أرهقها ما صنعه بها المتغرّبون والمتمركسون وسائر المنحرفين عن الإسلام، إلاّ الإسلام، عقيدة ومنهجاً شاملاً للحياة والحكم.
المنطلق الإسلامي المشترك
ما من أمة حريصة على البقاء إلاّ وتكون حريصة على عقيدتها. وما من أمّة تستطيع البقاء فعلاً، ما لم تتوفر لها إرادة البقاء، أفراداً وجماعة، وما من أمّة حرصت على عقيدتها وأرادت البقاء إلاّ وجدت السبيل لبلوغ ما تريد. ولا نعني بالبقاء، مجرد الوجود الحسّي، بل نعني بقاء تلك الأمة بشخصيّة متميزة، وفاعليّة مؤثرة في حياة الأسرة البشرية، وفي عصرها، وفي التاريخ. وإنّنا لنرى الشواهد على هذه السنّة الاجتماعية التاريخية منذ أقدم العصور إلى يومنا هذا، وسستسري في المستقبل ما شاء الله إلى أن يرث الله الأرض وما عليها.
قد تكون العقيدة صالحة أو فاسدة، وقد تكون الإرادة إرادة خير أو شر، ولكن لا بدّ منهما من أجل ذلك البقاء، ولا يمكن اصطناعهما، كما لا يمكن استيرادهما ولا إكراه أمّة من الأمم عليهما، إنهما العنصران اللذان يتفاعلان مع الوجود التاريخي والحضاري لكل أمّة، وقوّتهما تنبع من هذا التفاعل المديد العميق، وتنعكس في حياة الفرد والأمة. ولا يمكن أن نوجد لأفرادنا وأمتنا وبلادنا منطلقاً واحداً وتصوراً مشتركاً وأن نسير نحو أهداف مشتركة على منهج مشترك، بغير الاعتماد على عقيدة الإسلام وعلى إرادة شعوبنا النابعة من هذه العقيدة. لهذا كلّه لا نرى، كما أسلفنا، سبيلاً لتوفير الشرطين الحيويين لحياة أمتنا وبلادنا بعد عشرات السنين المرهقة الماضية إلا بالعودة الحقيقية إلى الإسلام.
لقد ردّت المناقشة التحليلية الموضوعية أسباب التفوق الإسرائيلي علينا واقعياً رغم توفر مقومات التفوق لدينا من دون „إسرائيل“ إلىعامل مشترك واحد:
- إنّهم يوجهون القليل الذي يملكونه توجيهاً هادفاً مثمراً، وفق عقيدتهم المحرفة الفاسدة وإرادة الشر التي جمعتهم عليها، وإننا نفتقد عنصر التوجيه الهادف المثمر للمقومات الكبرى التي نملكها، وفق عقيدتنا الصالحة وإرادة الخير النابعة منها..
إنّنا نريد تحويل الطاقة البشرية الكمّية التي نملكها إلى طاقة نوعيّة، على صعيد إيجاد المقاتلين، كمثال، فهل توجد أية عقيدة، بمفهوم الكلمة الشائع، تحوّل الفرد العادي إلى مقاتل يطلب الشهادة أكثر مما يطلب عدوه النصر، كما تصنع عقيدة الإسلام الربانيّة بالمسلم؟
هل تحتاج هذه الحقيقة إلى شواهد تاريخية أو إلى أدلة منطقية بعد، إلاّ عند مَنْ لم يقرأ التاريخ ولم يستوعب الواقع؟
فكيف نريد تحقيق تفوقنا على صعيد الواقع إذن بغير الإسلام؟
نريد أن يتحول التفوق السوقي الذي نملكه إلى خطة هجومية تستفيد منه، والتفوق في العدد والعدّة بما لدينا من جيوش إلى تفوّق في ساحة معركة مشتركة هادفة نخوضها.
فهل يوجد مبدأ غير الإسلام يطالب أصحابه كما يصنع دين الإسلام، بالسوقية العسكرية الهجومية، وأرضُهم محتلة، وعدوُّهم يهدّدهم صباح مساء، إذ يفرض آنذاك الجهاد على الرجل والمرأة، والكبير والصغير، ليلاً ونهاراً، حتى يتحقق تحرير كل جزء من دار الإسلام، وحتى يُرَدَّ كل عدو يهدّد أي فريق أو فرد من أمّة المسلمين الواحدة؟
ترى هل يستقرئ الذين يفتشون عن سوى الإسلام لتحقيق مثل هذا الهدف، إن وجد من يعمل لذلك الهدف فعلاً، هل يستقرؤون التاريخ ويفكّرون بالحاضر والمستقبل، أم أنهم ينطلقون من أفق ضيّق لا يستوعب تاريخاً إلاّ ما كان من مقولات سجّاني فكرِهم، ولا يستشرف مستقبلاً إلا بحدود ما يضمن بعض المتاع فيما لا يضمنون من بقية أعمارهم، ثمّ هم يدورون في حلقة مفرغة، ما بين المبادئ المستوردة وبين الهزائم المتتالية.
كيف نريد تحقيق تفوّقنا على صعيد الواقع بعد كل ما كان من تجارب مضنية، وإخفاقٍ متكرر، بغير دين الإسلام عقيدة وانتماء غير المسلمين في أرضه إليه حضارة وتاريخا، وما الإسلام المُنزل من عند الله في حاجة لدليل يثبت قدرته على ذلك، ولقد أثبت قدرته بشهادة التاريخ وشهادة الدراسة والبحث والاستقصاء.
نريد أن تتحوّل إمكاناتنا الاقتصادية المادية والعلمية الاختصاصية الكبيرة إلى تفوّق حقيقي وفق استغلال سليم موجّه لما فيه مصلحتنا ومصلحة معركتنا المصيرية، فهل يوجد نظام كنظام الإسلام، يستثير كل طاقة فردية مهما صغرت، ويفرض استغلال كل ثروة تتوفر مهما قلّت، ويعبئ هذا وذاك لمصلحة الإنسان ولمصلحة المسلمين ومن يسكن معهم في بلادهم جميعاً دون استثناء، مقرّراً التكافؤ الكامل بين أبنائه، بما يجعل فقيرهم وغنيهم، وصغيرهم وكبيرهم، وضعيفهم وقويّهم، وحاكمهم ومحكومهم، ورجالهم ونساءهم، يجعلهم جميعاً لَبِناتٍ في البناء المرصوص الواحد، وقِطعاً تحيا مع بعضها بحياة الجسد الواحد.. ثمّ إلى جانب ذلك هو النظام الذي يجعل الجهاد ذروة سنامه وجزءاً ثابتاً من مجموع بنيانه.
التعبئة.. والقيادة
إنّ من يضع هذا موضع سؤال أحد اثنين: جاهل وجب عليه التعلم، أو عدوّ وجب على المسلمين رفضه وردّه.
أمّا تعبئة الجماهير التي تنادي الثورات وحروب التحرير بها في مشارق الأرض ومغاربها تحت مختلف الشعارات، فهيهاتَ هيهاتَ أن يجد مبدأ من المبادىء سبيلاً إلى تعبئة المسلمين غير الإسلام، وإلى استنفار المسلمين لهدف جليل، غير الإسلام لهدف إسلامي.. بل حتّى إلى تعبئة غير المسلمين، ممّن يشاركون المسلمين في بلادهم وتاريخهم وحضارتهم ومصيرهم المشترك.
قد ينجح أصحاب تلك الدعوات في تضليل فريق وإثارته، لفترة من الزمن، تطول أو تقصر، ولكنها تنتهي قطعاً مع كشف التضليل. أمّا أن يحركوا طاقات النسبة العظمى من مئات الملايين من الدار البيضاء، إلى الفيليبين بغير كلمة لا إله إلا الله، وأن يستثيروا عزائمهم الجبارة لغير طريق الجهاد في سبيل الله وإعلاء كلمة الله، فذاك من المستحيل بحكم التاريخ وأحداثه، والواقع وحقائقه، والمنطق بكل مقياس من مقاييسه.
إنّ السبيل الوحيد لتعبئة جماهير بلادنا لقضيّة فلسطين وسواها من قضايانا الكبرى المعاصرة، هي السبيل التي تجعل الشهادة على مرضاة الله وبلوغ النصر لرفع كلمة الله هدفاً غالياً، لا يتزحزح المسلم الصادق عنه لحظة واحدة ولا يشكّ في تحقيقه لحظة واحدة.. ((إنّا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد))- الآية 51 من سورة غافر-
وكلّ من يحول بين جماهيرنا المسلمة وبين إسلامها، فهو قصد أم لم يقصد، يحول بينها وبين التعبئة لقضاياها المصيرية، فيخون بذلك قضايانا المصيرية، فضلاً عن خيانة الإسلام نفسه، وإن كان من غير المسلمين، فهو بذلك يتخلّى عن "المخرج" الكفيل بالوصول به في هذه البلاد إلى المكانة الجديرة بها في واقع العالم المعاصر.
إنّ إيماننا العميق الراسخ، بإذن الله، بإسلامنا يجعل اعتقادنا بأنه السبيل الوحيد لخير أمتنا في دنياها وآخرتها جزءاً من عقيدتنا، ولكنّه الإيمان الذي يقترن بالاقتناع الموضوعي العميق؛ بالدراسة المنهجية وتحكيم العقل والمنطق، كما أمر الإسلام نفسه، ولا يمكن مع الإخلاص واستقامة التفكير أن يصل أحدٌ صادقٌ في دعوى الدفاع عن قضايانا المصيرية إلا للنتيجة نفسها.
وإنّ الالتقاء على الإسلام يوحّد منطلقاتنا وتصوراتنا وأهدافنا، وباستيعابنا لديننا وعالمنا وعصرنا نستطيع السير على منهج إسلامي مشترك بعد أن تفرّقت بنا الدروب، ولم تصل بنا إلا إلى التشتت والضياع وأمراض نشكو منها وندرك أنها سبب الهزيمة بعد الهزيمة، والنكبة بعد النكبة، والمأساة بعد المأساة، ثم لا نغيّر شيئاً.
وإن الأخذ بالإسلام كما أنزله الله عز وجل، والارتفاع إلى مستواه كما ينبغي، يوجد تلك القيادات التي نفتقر إليها ولم نفتقر إليها في تاريخنا الإسلامي الماضي، ويوفّر لها المواصفات التي نفتقدها الآن، ولم يكد يعرفها التاريخ البشري كما عرفها عند القادة المسلمين، وينتقل بهذه القيادات وبأمّتنا معها، من الحضيض الذي هوينا فيه إلى القمم العالية التي نتطلع إليها بآمالنا ولم تصدق بعد إرادتنا في العمل لبلوغها، فدليل الإرادة هو الحركة، ولم نتحرّك كما ينبغي.
إنّنا لندعو دعوة مخلصة صادقة، تنبع من قلوب الشهداء والجرحى والمشردين، للعودة إلى هذا الدين، ندعو دعوة واعية صادقة، كل من شذّ عن الطريق، للعودة إلى هذا الطريق.
ندعو شعوبنا الإسلامية التي لا تزال قلوبها تخفق بلا إله إلاّ الله، أن تفجّر خفقات قلوبها قوّة عقيديّة خلاّقة بنّاءة، تحرّكها على الطريق الصحيح، وتوحّد خطاها نحو الأهداف السامية الغالية، وتدفعها لتبلغ بمنهج الإسلام، دين الحق والعدل والهدى، مكانتها الجديرة بها في هذا العصر والعالم، وتجرف كل من يعترض طريقها هذا من أعداء الأمّة والدين.
إنّ أمّتنا تواجه معركة يتقرر فيها مصيرها على مدى أجيال، فلا يجوز التهاون ولا التقاعس ولا التردّد، فلنكن الجسر لأجيال المسلمين القادمة إلى الحياة الكريمة الحرة العادلة القويمة، ولنكن مشعل الخير والحق والهدى للبشرية جميعاً. فإن لم نكن كذلك فلن نضرّ الله شيئاً، والله غني عن العالمين.. ((وإنْ تتولّوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم)) –الآية 38 من سورة محمد-
((وعدَ اللهُ الذينَ آمنوا منكم وعملوا الصالحات لَيَستخلِفَنَّهُم في الأرض كما استخلفَ الذين من قبلهم وليُمكِنَنَّ لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلَنَّهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون)) – الآية 55 من سورة النور-

قائمة المصادر والمراجع
فيما يلي قائمة بمجموع الكتب وبعض المقالات التي استعين بها في إعداد هذه الدراسة، وقد وردت استشهادات من بعضها في الفصول المتقدّمة، واستفيد من الطلاع على بعضها دون ورود استشهادات ما، وتُذكر هنا دون اعتبار لاتجاه الكتاب أو مؤلّفه وما ورد فيه، ممّا قد يتفق أو يختلف مع الموقف الإسلامي في قضية فلسطين، والذي ينطلق منه كاتب هذه السطور.
1- بقلم اللواء الركن محمود شيث خطّاب:
- طريق النصر في معركة الثأر-دار الفتح-بيروت- الطبعة الأولى 1386هـ/1966م
- الأيام الحاسمة قبل معركة المصير وبعدها- دار الفتح-بيروت- الطبعة الثانية-آب 1967م
- الوحدة العسكرية العربية - دار الإرشاد- بيروت-الطبعة الثانية- 1989هـ/1969م
- الوجيز في العسكريّة الإسرائيلية- دار الإرشاد- بيروت-الطبعة الثانية- 1988هـ/1969م
- العسكريّة الإسرائيلية- دار الفكر- بيروت- الطبعة الثانية- 1390هـ/1970م
- إرادة القتال في الجهاد الإسلامي- دار الفكر- بيروت- الطبعة الثانية- 1393هـ/1973م
- الدول العربية في مجابهة التحدّي الصهيوني النووي- مقالة في مجلة "الأمة" القطرية-الدوحة- العدد رقم 20/ شعبان 1402هـ وحزيران/يونيو 1982م
2- بقلم الدكتور سلمان رشيد سلمان
- السلاح النووي والصراع العربي-الإسرائيلي – دار ابن خلدون-بيروت- الطبعة الأولى 1978م
3- بقلم اللواء حسن البدري
- الحرب في أرض السلام، الجولة العربية الإسرائيلية الأولى 1948-1948م – دار الوطن العربي والمؤسسة العربية للدراسات والنشر- القاهرة- وبيروت- 1976م
4- من منشورات مركز الأبحاث لمنظمة التحرير الفلسطينية في بيروت
- إبراهيم العابد: العنف والسلام، دراسة في الاستراتيجية الصهيونية- سلسلة دراسات فلسطينية رقم 10-آذار/ مارس 1967م
- أنيس صايغ: ميزان القوى العسكرية بين الدول العربيّة وإسرائيل- سلسلة دراسات فلسطينية رقم 12-أيار/ مايو 1967م
- يوسف مروة: أخطار التقدّم العلميّ في إسرائيل- سلسلة دراسات فلسطينية رقم 17-آب/ أغسطس 1967م
- رفيق حبيب مطلق: إسرائيل قبيل العدوان- سلسلة دراسات فلسطينية رقم 19-إيلول/ سبتمبر 1967م
- أنجلينا الحلو: عوامل تكوين إسرائيل السياسية والعسكرية والاقتصادية- سلسلة دراسات فلسطينية رقم 16-آب/ أغسطس 1967م
- يوسف شبل: السياسة المالية في إسرائيل- سلسلة دراسات فلسطينية رقم 36-تموز/ يوليو 1968م
- حبيب قهوجي: العرب في ظلّ الاحتلال الإسرائيلي منذ 1948- سلسلة دراسات فلسطينية رقم 38- آذار/ مارس 1972م
5- إعداد قاسم م. جعفر:
- ميزان القوى العسكري في منطقة الشرق الأوسط 77-1978م- المؤسسة العربية للدراسات والنشر- بيروت- الطبعة الأولى- نيسان/إبريل 1978م
6- ترجمة بيّار عقل:
- المسح الاستراتيجي-1973م- حرب تشرين وقضايا استراتيجية عالمية- المؤسسة العربية للدراسات والنشر-بيروت- الطبعة الأولى- نيسان/إبريل 1977م، نقلا عن المعهد الدوليّ للدراسات الاستراتيجية في لندن
7- إعداد مازن البندك:
- أطلس الصراع الرعبي الصهيوني حتى بداية 1978م- دار القدس- بيروت
8- أحمد صدقي الدجاني
- ماذا بعد حرب رمضان؟.. فلسطين والوطن العربي في عالم الغد- الطبعة الأولى 1394هـ و1974م
9- أمين النفوري:
- توازن القوى بين العرب وإسرائيل- دراسة تحليلية استراتيجية لعدوان حزيران 1967م- الطبعة الاولى 1968م
10- إيجال آلون:
- إنشاء وتكوين الجيش الإسرائيلي- دار العودة- بيروت- الطبعة الأولى- تشرين أول/أكتوبر 1971م
11- اللواء محمد جمال الدين محفوظ:
- المدخل إلى العقيدة والاستراتيجية العسكرية الغسلامية- الهيئة المصرية العامة للكتاب – القاهرة- 1976م
12- لطفي الخولي:
- مقالة "ولم تكن حرب أكتوبر آخر الحروب" – مجلة "الوطن العربي" باريس- العدد الصادر يوم 2/7/1982م
13- فهمي هويدي:
- مقالة "سجلّ الإبادة المسكوت عنه" – جريدة "الأهرام" القاهرة- العدد الصادر يوم 8/7/2003م
والحمد لله ربّ العالمين.

المصدر: ملتقى شذرات

__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية

الكلمات الدلالية (Tags)
مقارنة, الماضية, التفوّق, الحروب, السياسية, الإسرائيلي, القوّة, دراسة, حقيقة, وإدارتها


يتصفح الموضوع حالياً : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
أدوات الموضوع

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


المواضيع المتشابهه للموضوع حقيقة التفوّق الإسرائيلي دراسة مقارنة لأسباب القوّة وإدارتها السياسية في الحروب الماضية
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
الإسلام واليهودية دراسة مقارنة من خلال سفر اللاويين عبدالناصر محمود مقالات وتحليلات مختارة 0 09-25-2013 07:35 AM
أثر الأذكار ونحوها من خارج الصلاة على صحتها (دراسة فقهية مقارنة) Eng.Jordan دراسات ومراجع و بحوث اسلامية 0 03-01-2013 08:02 PM
استرجاع الجيل الثالث من الويب دراسة تحليلية مقارنة Eng.Jordan بحوث ودراسات منوعة 0 12-30-2012 02:06 PM
دراسة مقارنة في القانون المدني العراقي والمصري Eng.Jordan بحوث ودراسات منوعة 0 08-03-2012 05:04 PM
بيع التقسيط وتطبيقاته المعاصرة دراسة مقارنة Eng.Jordan بحوث ومراجع في الإدارة والإقتصاد 0 01-21-2012 05:32 PM

   
|
 
 

  sitemap 

 


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 01:13 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.12 by vBS
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والمشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59