#1  
قديم 10-09-2014, 07:37 AM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود غير متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 56,039
ورقة اعترافات علماء الاجتماع


اعترافات علماء الاجتماع*
ـــــــــــــ

(د. أحمد إبراهيم خضر)
ــــــــــــ

15 / 12 / 1435 هــ
9 / 10 / 2014 م
ــــــــــــ

اعترافات الاجتماع 10413404_719553544791916_5298017441430762430_n.jpg?oh=2682474db2568b6436e32294aa03f920&oe=54B8656F

*ـ علم الاجتماع شَعْوَذةُ الأزمنة الحديثة
ــــــــــــــــــــــ


اعترافات علماء الاجتماع
--------------
الحلقة الأولى
-------------


مقـدمة
-------
بسم الله الرحمن الرحيم، والصَّلاة والسَّلام على نبيِّنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
-----------------------------------------------

هذا الكتاب حَصاد ثلاثين عامًا قضَيْناها بين دِراسة وتدريس علم الاجتِماع، عرفنا وتتَلمَذنا على يد الرَّعيل الأوَّل من رُوَّاد هذا (العلم) في مصر، وعاصَرنا وزامَلنا أكثر من جيلٍ لا زال في الميدان، مارَسنا تدريسَه في عِدَّة جامعات بعِدَّة دُوَلٍ مختلفة، ابتُعِثنا إلى الولايات المتَّحدة أكثر من مرَّة، وهناك عرفنا وتتَلمَذنا وعاصَرنا في مرحلتَيْ ما قبل الدكتوراه وما بعدها أبرز المُتَخصِّصين في الفُرُوع الدقيقة لعلم الاجتماع، وهم يعرفوننا كما يعرفون أبناءَهم، وحاوَلُوا أكثر من مرَّة تسخيرنا لخدمة مصالحهم ذات الصلة الوثيقة بأعمال المخابرات الأمريكيَّة باسم (علم الاجتماع العسكري).

بدَأت رحلتنا مع علم الاجتماع في عام 1962 بجامعة القاهرة، كتَبنا فيها مؤلَّفَيْن في هذا الفرع من فروع علم الاجتماع، وكان حَصاد هذه الرحلة الطويلة مُؤلِمًا وشاقًّا على النفس؛ لقد ضاعت سنو حياتنا في شَعْوَذةٍ أطلق عليها (علمًا)، ليس في حقيقته إلاَّ صياغة دينيَّة لمعتوهٍ فرنسي، ومُلحِد يهودي، وشِرذِمة من الماركسيِّين واللادينين... أرادوا له أنْ يكون دينًا جديدًا، وأرادوا لأنفُسهم أنْ يكونوا أنبياء ورسل هذا الدين الجديد، ورغم ذلك فإنَّه لم يخرج عن كونه مجرَّد كلام عامي، ورطانة غامضة، أمَّا النَّزعة العلميَّة التي يتمسَّك بها فقد كانت نزعةً مزيَّفة باعتراف كِبار المؤرِّخين الألمان.

سطرنا حَصاد هذه التجرِبة بين دفَّتي هذا الكتاب، لكنَّ الرسالة التي نودُّ إبلاغَها أبعد بكثيرٍ من السُّطور التي يحتَوِيها، إنها رسالةٌ تنحَصِر في جملةٍ واحدة هي: "أنَّنا لسنا بحاجةٍ إلى علم اجتماعٍ؛ لا في شكله العام ولا فيما يُسمَّى اليوم (بعلم الاجتماع الإسلامي، أو أسلَمَة وتأصيل علم الاجتماع)".

إنَّ هذا الأخير في تصوُّرنا (ضرب من التَّرَف)، و(نوع من العبث) الذي يضرُّ ولا يَنفَع، الإسلام يُذبَح على يد أبنائه قبلَ أعدائه على امتِداد العالم، ونحن مَشغُولون بقَضايا هدفها الأساس صرْف الأنظار عن ذلك الذي يَجرِي لهذا الدين، وإن ادَّعت أنها تَعمَل من أجله، قَضايا من مهامِّها الأخرى أنْ تضع حاجِزًا يَحُول بيننا وبين أنْ ندرك صَفاء هذه العقيدة ونقاءَها ودورَها الحقيقي في الحياة، حاجزًا يَحُول دون فهمنا الصحيح لهذه العقيدة ويُحوِّلها إلى مُصطَلحات ومسائل لا يَعِيها ولا يهتمُّ بها إلاَّ مَن صاغوها بعد أنْ أُعِيدت صياغة عقولهم في دُوَلِ الغرب، لكنَّها لا تشغل في أدمِغَة الناس - من أبسطهم إلى أعقدهم، ومن جاهلهم إلى عالمهم - حيِّزًا يُذكَر.

الناس يرنون إلى عقيدةٍ صحيحةٍ سهلة مَتِينة تستَنِد رأسًا إلى كتاب الله وسُنَّة رسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يسمعونها ويتعلَّمون أُسُسَها وقواعِدَها من عُلَماء مُخلِصين، مُتعمِّقين في الكتاب والسنَّة واللغة العربيَّة وأحكام القرآن وتفسيره، وفي أمور الفقه والتشريع، عُلَماء على وعيٍ بحقيقة العلوم الاجتماعيَّة ونشأتها في زمن الفِصام النَّكِد بين العلم والدِّين، ودورها المعد له لتنظيم حياة الناس بدلاً من الدِّين، وليس من عُلَماء لا يفهَمون من عقيدتهم إلاَّ القُشُور، وكل همِّهم التوفيق من قريبٍ أو بعيدٍ بين ما جاء به الأنبياء والرسل وما قاله العُلَماء والفَلاسِفة.

عادَى رجال الاجتماع في بلادنا الدِّين والصَّحوة الإسلاميَّة؛ هذا (سمير أمين) يشنُّ حملةً شَعواء ضد هذه الصحوة، ويَراها صحوة مزعومة لا تستحقُّ تسميتها، ويَراها مَوْجَةً رجعيَّة تنخَرِط في استِمرار تسلُّط ما يسمِّيه بفكر عُصُور الانحِطاط.

وذاك (سمير نعيم) يشنُّ حملتَه ضد شَباب الجماعات الإسلاميَّة، ويَرمِيهم بالتطرُّف والجمود العَقائدي والانغِلاق الفكري، ويَصِفُهم بأنهم مَرضَى عقليُّون لديهم أوهام حيوانيَّة الرجل وشهوانيَّته تجاه المرأة.

وبين (سمير أمين) و(سمير نعيم) تتعدَّد الرُّؤى وتختلف الأطروحات والصَّحوة الإسلاميَّة، ولكنَّها تنطلق وتصبُّ في نفس النَّهر المعادي لهما.

لا نبغي وَراء سُطُور هذا الكِتاب إلاَّ رضا الله - عزَّ وجلَّ - ونسأَلُه - تعالى - أنْ يكون في ميزاننا يوم القيامة، وأنْ يحشرنا في زمرة مَن رضي عنهم ورضوا عنه.

إنَّ خير مَن نهديه هذا الكتاب هم أولئك الذين التقَيْنا بهم في القاهرة والخرطوم وواشنطن وجدة ونوردج (ببريطانيا)، هؤلاء الذين جعَلَهم الله سببًا في إزالة الغشاوة من على أعيُينا، وهؤلاء الذين وضَعُوا أقدامنا على أوَّل الطريق، وهؤلاء الذين ثبتوا أقدامنا على امتِداد هذا الطريق، أدعوه - عزَّ وجلَّ - أنْ يجزيهم عنِّي خير الجزاء.

أمَّا زوجتي فهي أوَّل مَن شجَّعني على الكتاب، وأوَّل مَن شارَكني وحمل معي وهوَّن عليَّ مشاقَّ هذا الطريق، أسأَلُ الله أنْ تُرافِقني في الآخِرة كما رافقَتْني في الدنيا، ونسأَلُه - عزَّ وجلَّ - أنْ تكون أعمالنا جميعًا خالصةً لوجهه الكريم.


الفصل الأول
علم الاجتماع شَعْوَذةُ الأزمنة الحديثة
هناك عدَّة حقائق أقرَّ بها رجال الاجتِماع في بلادنا وفي بلاد الغرب:
الحقيقة الأولى: هي أنَّ علم الاجتِماع هو شعوذة الأزمِنة الحديثة:
أقرَّ بهذه الحقيقة الطاهر لبيب الأستاذ بالجامعة التونسية، في معرض حديثِه عن موقف بعض المجتمعات الغربيَّة من علم الاجتماع، وتخوُّفه من نقْل هذا المفهوم إلينا، ودعا غيره من رجال الاجتماع إلى الحدِّ من الانبِهار الساذج والتوكُّل الكلي على علم الاجتِماع كمواقف تجعَل منه عصا سحريَّة علميَّة.

من المسلَّم به أنَّ علم الاجتماع يُساعِد على بَلوَرة اهتِمامات وقِيَم الطلاب الذين يلتَحِقون بأقسام الاجتماع بتوقُّعات وآمال عريضة، يريدون أنْ يلمسوا قَضايا المجتمع الحقيقيَّة، فيجدون أنَّ المحاضرات والمؤلَّفات والكتب والمداولات والنِّقاشات تنتَمِي إمَّا إلى مجتمعات غربيَّة أو شرقيَّة، وفوق هذا لا يجدون في المقرَّرات الدراسيَّة والأنشطة العلميَّة ما يَروِي غليلَهم، فيُصابون بالإحباط وخَيْبة الأمل، ثم يُفاجَؤون بأنَّ سني أعمارِهم ضاعَتْ في شَعوَذة باعتِراف أساتذتهم وأئمَّة أساتذتهم من عُلَماء الغرب، وممَّا يؤكِّد لهم ذلك أنهم يتخرَّجون فيجدون أنفسهم غير فاهِمين للمجتمع، وعاجِزين عن التعامُل معه في ضوء ما تعلَّموه.

الحقيقة الثانية: هي أنَّ تدريس علم الاجتِماع في بلادنا لا يعدُّ ضرورة من ضرورات المعرفة والواقع، وأنَّه لو أُلغِي هذا الاختصاص من جامعاتنا فإنَّ غيابه لن يكون نقصًا ولا تخلُّفًا معرفيًّا:

أقرَّ بهذه الحقيقة الطاهر لبيب أيضًا، كما أقرَّ بها كذلك سعد الدين إبراهيم الأستاذ بالجامعة الأمريكيَّة بالقاهرة، اعتَرَف سعد الدين إبراهيم بأنَّه لو افترض أن اختَفَى كلُّ عُلَماء الاجتِماع العرب فجأةً، فإنَّه لا شيء يمكن أنْ يحدث للمجتمع سلبًا أو إيجابًا.

أقرَّ هذا الأستاذ أيضًا بأنَّ الرَّغبة (وليس الضرورة) هي مُبرِّر ظهور علم الاجتماع وعلماء الاجتماع، وهي مبرر وجوده ووجودهم، واستِمراره واستمرارهم، أقرَّ كذلك بأنَّ الفهم الذي يُقدِّمه علم الاجتِماع للمجتمع ليس هو العلم الوحيد وإنما هناك أفهامٌ أخرى قديمة وحديثة بمعنى: أنَّ عِلم الاجتماع ليس هو العلم الوحيد الذي يحتَكِر تقديم الفَهْم عن المجتمع.

شارَك محمد الجوهري الأستاذ بجامعة القاهرة سعد الدين إبراهيم في ذلك، وقال: إنَّ علم الاجتماع لا يستَطِيع تقديم صورة كاملة وشاملة عن الإنسان والمجتمع، وإنَّ تصوُّره لهما جزئي ويُمثِّل وجهة نظرٍ واحدة، وأقرَّ غيرهما من رجال الاجتماع أنَّ دور علم الاجتماع في بلادنا هزيلٌ ومنحصرٌ في التَّلقِين والتَّدرِيس خلف أسوار الجامعة، وأنَّه ليس إلاَّ صورة مرتعشة مهزوزة لمنتجٍ مهزوز تَمَّ في مجتمعاتٍ أخرى ولصالح مجتمعات أخرى - ضد مصالحنا بالطبع - غير قادِر على متابعة التغيُّرات التي تحدُث في مجتمعاتنا ذاتها، الناس في بلادنا - بما فيهم الجهات الحكوميَّة والمؤسَّسات الخاصَّة - لا تَضعُ هذا العلم وأهلَه في مكانة رفيعة، ولا تُسنِد إليهم مهامَّ إجراء بحوث أو اقتراح حلول أو المشاركة في اتِّخاذ قرارات، وكيف يسند إليهم ذلك والناس ترى ضَحالة ما يُعالِجونه وسطحيَّة ما يُعالِجونه، إلى درجة أنَّ منهم مَن كان يدرس (القهوة العربيَّة السادة) ووظيفتها الاجتماعيَّة عبر التصوُّرات المنهجيَّة والأُطُر النظريَّة للباحثين الغربيين؟!

يقرُّ رجال الاجتِماع في الغرب بأنَّ علم الاجتِماع ليس صادقًا كميدانٍ للمعرفة، وأنَّ 95% من دراساته ترتَبِط بالأشكال غير المنطقيَّة من السُّلوك، ورغم ذلك فإنَّ هذا لم يمنعهم من وضْع أغلب أحكامهم في إطارٍ منطقي، المفاهيم في علم الاجتماع تُعالَج كحقائق بسيطة دون معنى ثابت وواضح، كلُّ مفهومٍ في علم الاجتماع له العَدِيد من المعاني، الحسَن والقَبِيح ليس بأنماطٍ مختلفةٍ من السُّلوك، وإنما هما دَرجات مختلفة لاسمٍ واحد: الطلاق، الانتحار، السفاح، وأبناء الزنا، كلُّ ذلك مفاهيم ذات ظِلال مختلفةٍ، لها معانٍ واسعة، القبيح في علم الاجتِماع قد يُصبِح حسنًا، والحسَن قد يُصبِح قَبِيحًا، ليس هناك من اتِّجاه اجتِماعي يُمكِن أنْ يستمرَّ في نفس الخطِّ دون نهاية.

حديث رجال الاجتماع عن التنبُّؤ مبالغةٌ غير منطقيَّة، فعُلَماء الغَرْب - أصحاب هذه القضيَّة ذاتها - يعتَرِفون بأنَّه لا يُمكِن التنبُّؤ بالمستقبل في أيِّ زمن، ولا أحد يعرف ما الذي سيَحدُث غدًا، وأفضَل ما في جَعبَة علم الاجتماع لا يستَطِيع أنْ يَضمَن ذلك.

البناء الفكري العام لرجال الاجتماع في بلادنا يتميَّز بالتشتُّت والتشوُّه، يُغيِّرون أفكارهم مع تغيُّر سياسة الدَّولة، ومع انتِقالهم من مجتمعٍ عربي إلى آخَر يَدفَع أكثر، إنهم يَعتَرِفون بأنهم غير قادِرين على تشخيص واقِع مُجتَمعاتهم تَشخِيصًا دقيقًا، إنهم مَشغُولون بانتِماءاتهم الأيديولوجيَّة، يخشون على مستقبلهم المهني، ومهاجمة بعضهم البعض، ينفون عن بعضهم البعض ما يُسمُّونه بالقِيَمِ العلميَّة والأمانة والدقَّة، ويتَّهمون بعضهم بعضًا بالاستِسهال والتمَرْكُز حول الذات، وتجاهُل أعمال الآخَرين، وإعادة إنتاج ما سبَق إنتاجه، والإخلال بما يُسمُّونه بأسس البحث العلمي النظري والمنهجي والميداني واللغوي، والتخلُّف عن مُتابَعة الإنتاج العالمي، كلٌّ منهم يدَّعِي أنَّه بداية العلم الحقيقي وحامِل شُعلَته، يتَّهِمون بعضَهم بالتبعيَّة وهم من ناقِليها... إلخ.

الحقيقة الثالثة: هي أنَّ النزعة العلميَّة في (علم الاجتماع) نزعة مُزيَّفة، وأنَّ الشُّروط العلميَّة التي حدَّدها العُلَماء في أيِّ معرفة لكي تكون علمًا لا تتوافَر في (علم الاجتماع):

إنَّ هذا العِلم مرتبطٌ بأسماء أشخاص مُعيَّنين، هم الذين اخترَعُوا نظريَّاته ومَدارِسه، يرجع إليهم دائمًا وليس إلى علمٍ مُحدَّد، إنَّه ليس بعلمٍ دولي ولا بالمعنى الدقيق لكلمة "علم"، نشأة علم الاجتماع ليسَتْ نشأة علميَّة، وأصحابُه لا يَشعُرون في قَرارَة أنفُسِهم بأنهم عُلَماء، استِخدام (علم) الاجتِماع لمناهج العلوم الطبيعيَّة وللإحصاء وللرياضيَّات لم يُحقِّق له خَصائص العلم، لم يتحقَّق حلمه في التوصُّل إلى القَوانِين التي تَحكُم حركة المجتمع. الأحكام التي توصل إليها احتماليَّة ترجيحيَّة تَعكِس أهواء مُطلِقيها وميولهم ومَصالِحهم.

الحقيقة الرابعة: هي أنَّ علم الاجتماع (علم) عقائديَّة ليس بالمُحايِد، وأنَّه استعماري بطبيعته، وذو صلةٍ بأعمال المُخابَرات، هدفه الأوَّل ضرب الدِّين والعقيدة بصفةٍ عامَّة، والإسلام وشريعته بصفة خاصَّة:

أقرَّ (جاك.بيرك) بأنَّ علم الاجتماع علمٌ استعماري، وأقرَّ رجال الاجتماع في بلادنا بأنَّ علم الاجتماع أعدَّ بحثًا وتدريسًا ليكون عقلُ رجال الاجتِماع العرب تابعًا للعقل السوسيولوجي الغربي، سَواء في منهجيَّة التفكير أو تصوُّر مهامِّ علم الاجتِماع، وأنَّه حينما رحَل الاستِعمار من بلادنا ترَك وراءَه من الترتيبات المؤسسيَّة والفكريَّة ما يُعِيد سَيْطرته وهَيْمنته والتبعيَّة له، وفي المغرب العربي كان علم الاجتماع في خِدمة الاستعمار الفرنسي، وارتَبَط ارتِباطًا مُباشِرًا بأجهزة المخابَرات، تركَّزت أهدافُه منذ نشأته في مُحارَبة الإسلام وشريعته، وتشجيع مَلامِح الحضارة المغربيَّة ما قبل الإسلاميَّة.

أسهَم علمُ الاجتماع في تحقيق الأهداف الفرنسيَّة الرامِيَة إلى تعميق الهوَّة بين العرب والبربر، والعمل على تطوير البربر في اتِّجاه الحضارة المغربيَّة وليس الإسلام، عمل على إعادة تركيب وتنظيم حياة المغرب العربي في ضوء المرئيَّات الاستعماريَّة.

اهتمَّت المُؤسَّسات الأمريكيَّة في بلادنا اهتِمامًا خاصًّا بترجمة مراجع علم الاجتماع الغربي التي تحتَوِي أفكارًا مُضادَّة للدِّين والعقيدة؛ أشرَفتْ مؤسَّسة فرانكلين - على سبيل المثال - على طبْع كتاب (المجتمع) لمؤلِّفيه (ماكيفر وبيج)، لاقَى هذا الكتاب رَواجًا كبيرًا، نظَر هذا الكتاب إلى تفسيرات الدِّين على أنَّها تفسيرات جامِحة لا بُدَّ أنْ ينقيها العلم، دعا إلى دينٍ عالمي من صِفاته أنَّه دينٌ بلا جهاد، ولا يقوم على مبدأ الإيمان أو الكفر، نظَر المؤلِّفان إلى الدين على أنَّه يُفرِّق الشُّعوب ويَقطَع أوصال الشعب الواحد، ويعتبرانه عقيدةً ضيِّقة الأُفُق غير مُتسامِحة لا تستَنِد إلى العقل، يريد المؤلِّفان دينًا بلا سلطة أخلاقيَّة، لا يُحدِّد القواعد الخلقيَّة للناس، لا يمنَع الاحتِكار ولا الربا، يسعيان إلى أخلاق تحرُّريَّة تنبَثِق من ضمير الفرد، روَّج المؤلِّفان للمذهب الإنساني الذي يعني التخلِّي عن أحكام ما فوق الطبيعة المتعلِّقة بالخلق، والجنة، والنار، ويجتَمِع الناس على قَواعِد الأخلاق الاجتماعيَّة وليس على أساس الدِّين والمعتقدات.

الإنسان في علم الاجتِماع هو ناتج الواقع يُحدِّد له مصيره وينشئه ويُحرِّكه كيف يشاء؛ ولهذا فإنَّ عليه أنْ يخضع لقُوَى المجتمع ومعاييره، والإنسان في علم الاجتماع أيضًا هو خالق الواقع كما أنَّه ناتجٌ له في نفس الوقت، المجتمع يَصنَع الإنسان، والإنسان بدَوْرِه يَصنَع المجتمع، دِراسة المجتمع عند بعض العُلَماء تَبدَأ من الفرد وفي داخِل الأفراد وليس في أيِّ نِطاقٍ آخَر يُمكِن العثور على النُّظُم.

المعنى الحقيقي لعلميَّة علم الاجتماع هو عدم إقراره بوجود قوَّة أوجَدت العالم وسيَّرته وتُحرِّكه وفق إرادتها، إنَّه لا يرتَبِط مُطلَقًا بما هو روحي وما هو ديني، الرُّوحي والدِّيني أحد موضوعات دراسته، يتحكَّم هو فيها ولا تتحكَّم هي فيه، إنَّه (علم)؛ ولهذا لا يُؤمِن إلاَّ بالملاحظة والتجرِبة العلميَّة.

مصادر علم الاجتماع الثلاثة هي نفس مصادر الحضارة الغربية: المَنهَل اليوناني الروماني، والمَنهَل اليهودي المسيحي، والبيئة الأوروبيَّة ذاتها.

عُلَماء الاجتماع الغربيُّون كانوا يرَوْن أنَّ الغرب كان يُعبِّر عن نفسه يومًا بالدِّين، أمَّا اليوم فإنَّ الدين عندهم (معتقدات عتيقة)؛ ولهذا استَعان الغرب بالعلوم الاجتماعيَّة كبديلٍ عن هذه المعتقدات العتيقة، وتحوَّل الدِّين عِندَهم إلى موضوعٍ للبحث الاجتماعي والتاريخي، وإلى تُراثٍ يمكن إخضاعه للدراسة، خاضَ علم الاجتماع معركته ضد الدِّين ووصَف عُلَماؤه هذه المعركة بأنها بالغة القَسْوة والضَّراوة، وتصوَّروا أنَّ النصر الحاسم كان حليفهم.

البِناء الحالي لعلم الاجتماع يَرجِع بصورةٍ أو بأُخرَى إلى الأفكار التي صاغَها رُوَّاد مُبكِّرون مثل (باريتو) الإيطالي، و(دوركايم) الفرنسي، و(ماكس فيبر) الألماني، الأوَّل (كاثوليكي)، والثاني (يهودي)، والثالث (بروتستانتي).

كانت لكلِّ واحدٍ منهم الرَّغبة في أنْ يكون عالِمًا، وكانت العلوم تُمثِّل بالنسبة إليهم فكرة النموذج الذي يُهيِّئ التفكير المحدِّد أو التفكير الصحيح، وهم كعُلَماء اجتماع كانوا يرَوْن أنَّ المجتمعات يمكن أنْ تُحافِظ على تماسُكها من خِلال مُعتَقدات مشتركة، إلاَّ أنهم وجَدُوا أنَّ هذه المعتقدات قد اهتزَّت نتيجةَ نموِّ التفكير العلمي خاصَّة في الوقت الذي ظهَر فيه أنَّ هناك تَناقضًا مُتزايِدًا بين الدِّين والعلم لا يمكن حسمُه، اعتَرَف الثلاثة بوجود هذا التناقُض.

انتَمَى (دوركايم) إلى التفكير العلماني، ووجَد أنَّ التفكير الديني لم يعد قادِرًا على مُواجَهة ما أَطلَق عليه: الرُّوح العلميَّة، كما رأى أنَّ أزمة المجتمع الحديث تَكمُن في أنَّه لم يستَطِع استِبدال الأخلاقيَّات القائمة على الدِّين بأخلاقيَّات قائمة على العلم، وكان يرى أنَّ علم الاجتماع يستَطِيع أن يعاون في إقامة هذه الأخلاقيَّات.

أمَّا (باريتو) فقد كان يصرُّ طوال حياته أنْ يكون عالِمًا، وقادَه هذا الإصرار إلى تكرار قوله بأنَّ القَضايا التي يُمكِن التوصُّل إليها عن طريق المَنهَج التجريبي هي وحدها العلميَّة، وكل القَضايا الأخرى - وخاصَّة الأخلاقيَّة والميتافيزيقيَّة - ليس لها أيُّ قيمة علميَّة.

كان (ماكس فيبر) ينتَمِي إلى عائلة دينيَّة، لكنَّه غير مؤمن وإنْ أبدى احتِرامًا عميقًا للعقيدة الدينيَّة، صُنِّفَ (فيبر) من قبل عُلَماء الاجتماع كفيلسوف وجودي.

فرضت مشكلة العلاقة بين العلم والدين نفسَها على الرُّوَّاد الكبار الثلاثة، قال (دوركايم): "إنَّ العلم يستَطِيع أنْ يفهم الدِّين، وأنْ يُفسِّر قيام مُعتَقدات دينيَّة جديدة".

باريتو أجاب على المشكلة بطريقةٍ ساخِرة فقال: "لا تحفل بالدِّين؛ لأنَّ الرواسب لا تتغيَّر، وسوف تَنشَأ معتقدات جديدة دائمًا".

أمَّا (فيبر) فقد كان يرى أنَّ التناقض قائمٌ بين مجتمعٍ يقوم على العقلانيَّة وبين الحاجة إلى الاعتقاد والإيمان، يقول فيبر: "إنَّ الطبيعة كما يُفسِّرها العلم وكما تُعالِجها التكنولوجيا ليس فيها مُتَّسع لسحر الدين وأساطيره القديمة، يجب أنْ ينسحب الإيمان ليعيش في عُزلَة مع الضمير".

وجَّه العُلَماء الثلاثة النَّظَرَ إلى علم الاجتماع كمفهومٍ لعلم الفعل الجمعي، ورأوا أنَّ الإنسان كمخلوقٍ اجتِماعي وديني هو خالق القِيَم والنُّظُمِ، وأنَّ الدِّين لا يمكن أنْ يكون أساسَ النِّظام الاجتماعي مرَّة أخرى.

هذا بالنسبة للروَّاد الكِبار، أمَّا العُلَماء المُعاصِرون فقد سارُوا في نفس منهج هؤلاء الرُّوَّاد، (تالكوت بارسونز) من أبرز عُلَماء الاجتِماع المُعاصِرين الذين أحدَثتْ نظريَّاتهم دَوِيًّا شديدًا في أمريكا وأوروبا على السواء، ولا يخلو كتابٌ في علم الاجتِماع في بلادنا من الإشارة إليه والكتابة عنه، كان (بارسونز) يرفض الدين بعُنف، ويقول (روبرتسون) في مقالته عن تالكوت بارسونز والدين (sociological analy sis، 1982، p.283): "إنَّ حديثنا عن الدِّين يعني: العودة لموضوع رفض بارسونز الإيمان به بثَبات، وأنَّه بالرغم من عدم إيمانه بالدِّين فقد كتَب فيه ما لم يَكتُب أيُّ عالم اجتماعي آخَر، وأسهمَتْ دِراساته عن الدِّين في توجيه الباحثين الآخَرين بدرجةٍ ساعدَتْهم على فهْم الدِّين بالرغم من أنَّه لم يدرسه وُصولاً إلى الحقيقة، وإنما درسه من زاوية علاقته مع المظاهر الأخرى للحياة الإنسانية".

ويقرُّ رجال الاجتماع في بلادنا بأنَّ (ماركس) كان واحدًا من المفكِّرين الكِبار الذين ينسب (بارسونز) إليهم أُطُرَه النظريَّة.

اعتَرَف العُلَماء الغربيُّون بأنَّ إخضاع الدِّين للدِّراسة العلميَّة من شأنه أنْ يحطم الإيمان الديني، ويعني: نهاية الدين؛ لأنَّ الافتراض الأساس الذي قامَتْ عليه قَضايا علم الاجتماع هو: العالم المحسوس، والخبرة الحياتيَّة، والدِّراسات الإنسانيَّة بكاملها تقوم على مبدأ أنَّ حل مشكلات الإنسان تَكمُن في داخِله وفي فَهْمِه لنفسه قبل أنْ تَكمُن في خارجها، ومن ثَمَّ حدَث انفِصال واضِح بين الواقع والقِيَم حتى في البحوث الاجتماعيَّة تحت دَعاوى الموضوعيَّة والدقَّة المنهجيَّة.

قام رجال الاجتماع في بلادنا بنفس ما قام به عُلَماء الغرب، فطبَّقوا الفكر العلمي على قَضايا الإنسان والمجتمع والدِّين، ففَهِمُوا الإسلامَ في ضوء التُّراث الغربي، فخرَجُوا لنا بصياغات غريبة عن الشَّكل الأوَّل للدِّين، وقالوا: إنَّ الدِّين يجب أنْ يبدأ بتجربة حسيَّة، وإنَّه يمكن ردُّه إلى عنصرٍ معروف حولنا، وإنَّ الناس هم الذين يضفون على الظواهر الطبيعيَّة قَداسةً من عندهم حين يُثِير فيهم مَشاعِر غير عاديَّة.

قالوا لنا: إنَّ الدِّين انبِثاقٌ من الواقع بأبعاده السياسيَّة والاقتصاديَّة والتاريخيَّة، اعتبَرُوا (الله) فكرةً وحالةً نفسيَّة، أطلَقُوا نفس المصطلحات الغربيَّة على كلِّ ما يتعلَّق بالدِّين؛ مثل: (المتعالي، وما فوق الطبيعي، والطُّقوس... إلخ).

تحوَّل الإسلام عندهم إلى دينٍ يُكرِّس الطاعة لتقاليد جامِدة، والمؤمن عندهم مُثقَّل بالتقاليد الدينية التي ترسَّخت في عصور التخلُّف.

التفكير الغيبي عندهم تفكيرٌ سلفي رجعي مغرق في مَتاهات الماضي، أطلَقُوا على النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - صفة (الكارزميَّة) - كما أسماها (ماكس فيبر) - بمعنى: أنَّه يملك جملة من القدرات الخارقة للعادة، وأنَّ له موهبة السُّلطة والزعامة والقُدرة على تَحرِيك الأحداث والأفراد في الطريق الذي يُرِيده، وأنَّ المسألة ليسَتْ مسألة وحي من الله بقدر ما هي صِفات خاصَّة له، النبيُّ عندهم يَنشُر دعوتَه نتيجةً لإحساسٍ أو هاجس عميق بمأساة الإنسان والمجتمع في عصره[1].

العلوم الاجتماعيَّة ليست علومًا مُحايِدة، إنها علوم عقائديَّة، لا يُوجَد هناك شيءٌ اسمه علم مُحايِد، وإذا كان يَصدُق ذلك على العلم عامَّة فإنَّه يَصدُق على علم الاجتِماع بدرجةٍ أكبر، أقَرَّ بذلك (عزت حجازي)، وأقرَّ به (غالي شكري)، ونقَلَه (حيدر إبراهيم) عن (إدوارد سعيد) الذي سلَّم بأنَّه ما من أحدٍ ابتَكَر أبدًا طريقةً لفَصْلِ الباحث عن ظروف الحياة وعن حقيقة انشِباكه، واعيًا أو غير واعٍ، في طبقة ومعتقدات ومنزلة اجتماعيَّة.

النظريَّات الغربيَّة - كما يقول (عادل حسين) - نظريَّات عنصريَّة تقوم على الإحساس بالتفوُّق والهيمنة، تبرز سَيْطرة الغرب الأقوى على النِّظام العالمي المُستَنِد إلى تقسيمٍ دولي ينظُر إلى التنظيمات الاجتماعيَّة غير الغربيَّة بأنَّها أدنى، وغير قابلة للتجديد والتطوُّر، وأنَّ على الغرب مهمَّة تاريخيَّة هي: العمل على تحديث العالم وتمدينه.

الحضارة عندهم احتِكارٌ للبِيض الذين هم أرقى الأجناس، الغرب هو الغاية الوحيدة للتقدُّم الإنساني عند (دوركايم)، وتفوُّق الغرب مسلَّمة من مسلَّمات (ماكس فيبر).

صُوِّرت لنا العلومُ الاجتماعيَّة على أنها علوم عالميَّة تقوم على الموضوعيَّة، وتعتمد على قاعدةٍ قويَّة من المعلومات عن سائر المجتمعات البشريَّة، وهذا تصوُّر أو ادِّعاء غير صحيح؛ لأنَّها تعتمد فقط على خبرة المجتمعات الغربيَّة وحدها.

قبلنا النظريَّات الغربيَّة في بلادنا على أساس أنها علم، تعتَمِد على المنهج العلمي الذي يقوم على الاستِقراء والمُلاحَظة، لا على الحدس والميتافيزيقا والقول المأثور، صُوِّرتْ لنا النظريَّات الغربيَّة - كما يقول (جلال أمين) - على أساس أنها تتَجاوَز حدود الزمن والمكان، وواقِع الأمر أنَّها كانت تُنقَل لنا تحت ستار العلم، قِيَم العالم الغربي وأفكاره ليست لصالح العلم وإنما لصالح دُوَلِ الغرب، تخلَّينا عن ديننا وعن عقيدتنا وعن تصوُّراتنا عن الكون والإنسان والحياة، واستبدلنا بها قِيَمَ الغرب وأفكاره وتصوُّراته وأخلاقيَّاته، لنكتَشِف في النهاية أنَّ ما يدعونه بالنظريَّات الغربيَّة لا علاقة له بالعلم.

(الإنسان هو محور الكون)، العمل يجب أنْ يكون منطلقًا من الإنسان وليس من الله، (هذه هي النقطة المركزية في كلِّ النظريَّات الغربيَّة، وهذا في حدِّ ذاته يَتناقَض جذريًّا مع المسلَّمة الأولى في حياتنا وهي: أنَّ الله هو محور الكون)، نقطة الانطلاق تبدأ منه وتنتهي إليه.

الحقيقة الخامسة: أنَّ رجال الاجتماع في بلادنا لا يُنتِجون علمًا حقيقيًّا: وإنما يستَورِدون الأفكارَ ويستَهلِكونها دون تبَصُّر كما يستهلكون قطع غِيار السيارات وأجهزة التكييف:

النظريات التي يدرسونها في قاعات المحاضرات ذات أهميَّة فقط في البلاد التي نشَأت فيها، وليس لها أهميَّة في بلادنا، نُقِلتْ إلينا دون إعمال الفكر في مدى انطِباقها على أوضاعنا، ولم تُفرَض عليها أيُّ تحفُّظات عند تدريسها تعكس نظرة وأيديولوجيَّة وفلسفة مجتمعاتها دون سِواها.

هناك أربع مَراحِل كُبرَى للتطوُّر العالمي الذي طرَأ على علم الاجتماع لا شأن ولا دخل لنا بها:
المرحلة الأولى: بدَأتْ منذ حوالي الربع الأول من القرن التاسع عشر في فرنسا، أهم من أسهَمُوا فيها سان سيمون وكونت.

المرحلة الثانية: هي الماركسيَّة التي تبلورت في حوالي منتصف القرن التاسع عشر، وعبَّرت عن جهد معين للارتقاء بتراث المثاليَّة الألمانيَّة وإدماجه بنماذج أخرى من التراث كالاشتراكيَّة الفرنسية وعلم الاقتصاد.

المرحلة الثالثة: تُمثِّل علم الاجتماع الكلاسيكي الذي تطوَّر قبل الحرب العالميَّة الأولى، وهي مرحلة توفيق وإدماج بين الوضعيَّة والماركسيَّة.

المرحلة الرابعة: هي مرحلة الاتِّجاه الوظيفي البنائي الذي تبلور في الثلاثينيَّات في الولايات المتحدة عن طريق جماعة من الدارسين الشُّبَّان؛ أمثال: بارسونز وكنجزلي دافيز، وغيرهما.

هذا التطوُّر نحن لا شأنَ لنا به، ورغم ذلك فإنَّ مؤلَّفات رجال الاجتِماع في بلادنا تنقل لنا فكر هذه المراحل وتُتَرجِمه لنا، الرَّسائل الجامعيَّة تعجُّ به شكلاً ومضمونًا، ولغةً وطريقةً في التفكير، ولأنَّ بلادنا يتمتَّع فيها الأجنبي بامتيازات لا حدود لها، ترسَّخ في شعورنا احترامٌ مُبالَغ فيه لكلِّ مُنجَزات الأجنبي، فسهل عليه أنْ يَبِيع بِضاعَتَه الفكريَّة كما يَبِيع بضاعته الماديَّة، وصوَّر لنا فكرَه على أنَّه نِتاجٌ إنساني عام أو ثمرة للتقدُّم المادي الذي لا ينتَسِب لحضارةٍ دون أخرى أو ثقافة بعينها، وسهل عليه إخفاء تحيُّزاته وميوله ونزعاته التي طبعت إنتاجه المادي والفكري، في هذا الجو قبلنا كلَّ ما أنتَجَه هذا الفكر الغربي والهزيمة النفسيَّة تملؤ حياتنا - على حَدِّ قول جلال أمين.

سارَ رجال الاجتماع في بلادنا وراء التقسيم المعروف لنظريَّات علم الاجتماع: نظريَّات الصراع، ونظريَّات التوازن، وتبايَنت رُؤَى باحِثِينا بين هذين الاتِّجاهين من النظريَّات.

في القاهرة والرباط وتونس وبغداد ودمشق واليمن ودول الخليج نشاط ملحوظ ومسموع لرجال الاجتماع، الذين يتأَرجَحُون بين هذين الاتِّجاهين، ينقلون هذه الأفكار، ويعرفون أنَّ دورهم هو دور النادل الذي يُقدِّم الطعام دون أنْ تكون له أيَّة مسؤوليَّة في ظهوره، فهم لم يُشارِكوا في صِياغَة هذه النظريَّات التي تبنَّوها ويُردِّدونها بشكلٍ آلي.

يُبرِّرون أخذَهم لهذه النظريَّات بأنَّ الحضارة الإنسانيَّة لا تتوقَّف عن المَسِير، ونحن نُعطِي لها ونأخُذ منها، ونستردُّ بعضًا من وَدِيعتنا، عندها وتحتَ هذا السِّتار شوَّهُوا الحقائق والتاريخ، فقالوا: إنَّنا أخَذنا من الإغريق فأبدَعنا حَضارةً عربيَّة إسلاميَّة زاهِرة، وإنَّه بإمكاننا أنْ نرسم خُطوات الحركة لمستقبَلنا في أيِّ اتِّجاهٍ نَشاء في ضَوْءِ ما نتعلَّمُه منهم.

النتيجة المُحزِنة التي وصَلنا إليها أنَّ كلَّ ما كُتِبَ عن مُجتَمعاتنا العربيَّة والإسلاميَّة انطَلَق من مَفاهِيم غربيَّة، وما كانت الماركسيَّة والدوركايميَّة والفيبريَّة والوظيفيَّة إلاَّ نِتاجًا لتاريخ المجتمعات الغربيَّة، وأصبَح تمركُزنا حولَ هذه المجتمعات واضحًا وبيِّنًا، تحرَّكت بحوثنا الاجتماعيَّة في ضوء هذه النظريَّات، وأضاعَ باحِثونا أوقاتهم وجهودهم في بحوثٍ مُنطَلقها أجنبي، فحصَّلوا الحاصِل وانقَطعتْ أنفاسُهم لإثبات بدَهِيَّات نائية منذ عهدٍ بعيدٍ، ونقَلُوا لمجتمعاتنا استِنتاجات تحقَّقت فِعلاً في مُجتَمعات أخرى وفي ظروفٍ مُتَبايِنة عن ظروفنا.

أقرَّ رِجال الاجتماع في بلادنا بهذه الحقائق الخمس، ولكنَّهم ما زالوا يأملون في أنَّ استِخدام علم الاجتِماع سوف يُمَكِّنهم من تحقيق أهدافٍ وأنماطٍ ثقافيَّة مُعيَّنة، ما زالوا يأملون من علم الاجتماع أنْ يُجِيبَهم عن كلِّ ما يتعلَّق بالعلاقات الاجتماعيَّة، والتنظيم، والتشريع، ومناهج التعليم، وإعادة صِياغة وبِناء العلاقات، والقِيَم، والنَّظرة إلى الحياة، ومواجهة كُلِّ المعوِّقات، والرَّواسِب، والمَشاكِل، وتشكيل وعْي الناس، إلى آخِر هذه القائمة من الأماني التي لم ولن تتحقَّق أبدًا!

العديد من رجال الاجتماع في بلادنا تعلَّموا في الولايات المتَّحدة، وعادوا إلينا بهذه الأماني، ذهَبُوا إليها على أنها البلد المسؤول عن التقدُّم العلمي في كثيرٍ من ميادين العلوم الاجتماعيَّة المطلوب تحقيقها في بلادنا، لننظُر ما يقوله الأمريكيُّون أنفسهم.

يقرُّ الأمريكيون أنَّ الآلاف المؤلَّفة من البحوث الاجتماعيَّة التي أجروها ونشَرُوها لا قِيمةَ لها من وجهة النظر العلميَّة، وأنها لم تُضِفْ جديدًا إلى رصيد المعرفة الإنسانيَّة، إنهم يُنفِقون ملايين الدولارات على البحوث الاجتماعيَّة، ويُشَجِّعون الباحثين الاجتماعيِّين بالمِنَح الضَّخمة، وينتَهِي كُلُّ ذلك إلى رُكامٍ من الحقائق الجزئيَّة التي لا رابط بينها.

يعتَرِف الأمريكيُّون بحِرصِهم على الوضعيَّة المتعصِّبة، وبأنَّهم يفضلون المفاهيم عن القِيَم الدائمة، وأنَّ الكثير من الذي يدرس في علم الاجتماع غير ذي فكر عميق، يقول القليل عن أيِّ شيءٍ يتعرَّض له، وأنَّه أشبَه بِحَوْضِ فقَّاعات كبير مقبول ظاهريًّا، لا يدخُل أيٌّ من موضوعاته تحت إطار التحقيق العلمي المُعتَنَى به، كُتُبُ المداخل في علم الاجتماع تجمع رَطانات عديدة، والقليل منها هو الذي يُعطِي تفسيرات منطقيَّة جادَّة.

يُقِرُّ العُلَماء الأمريكيُّون بأنَّ علم الاجتماع الأمريكي يُعانِي من فقرٍ في استِخدام الحقائق والخِبرات الحياتيَّة، والافتِقار إلى الارتِباط بالأحداث الكُبرَى المهمَّة، وأنَّه يُعبِّر عن خِبرة المجتمعات الأوربيَّة أكثر ممَّا يعبِّر عن خبرة المجتمع الأمريكي نفسه، يَقوم علم الاجتماع الأمريكي على حِسابات رياضيَّة، ويُهمِل التحليل، ويَجمَع الحقائق طِبقًا للمفهوم الشعبي والتفسيرات الشعبيَّة، توسَّع الأمريكيُّون في إعداد عُلَماء اجتِماعٍ، ولم يصاحب ذلك ارتِفاع في المستوى العلمي، هناك أكثر من عشرة آلاف عالم اجتماع أمريكي، لكلٍّ منهم علم الاجتماع الخاص به.

هذه هي اعتِرافات عُلَماء الاجتِماع الأمريكيِّين، فماذا يقول رجالنا الذين تخرَّجوا من تحت أيديهم؟

الماركسيَّة سقطَتْ في مهدها، لكنَّ الماركسيين في بلادنا باقون، وأبلَغ ردٍّ عليهم هو سقوط أيديولوجيَّتهم جِهارًا نَهارًا، ورغم ذلك ما زالت عندهم قَناعة بها، يَرفُضون الدِّين والعقيدة، يَنظُرون إلى العقيدة على أنَّها جامدة سرمديَّة، المتديِّنون عندهم يُخفون رُوحًا عدوانيَّة، ويستَخدِمون قُوى اجتماعيَّة وسياسيَّة يحمون بها مَصالِحهم، يُفرِّقون بين ما يُسمُّونه بالثقافة العربيَّة وبين الثقافة السائدة التي يقصدون بها الإسلام، يؤمنون بالأولى، أمَّا الثانيَّة فهي عندهم دخيلة ومرفوضة، اضطرَّ مجتمعنا إلى قبولها بوعيٍ وبلا وعيٍ، وسَّعوا مفهوم التُّراث حتى لا يُفهَم منه مجرَّد الدين والعقيدة، وليميِّزوا بين ما يُسمُّونه بالأصيل والدَّخيل من التُّراث، رغم أنَّ كلَّ همِّهم هو كسر احتِكار الفكر الغربي وعدم التقيد بمفاتيح التحليل الغَربي، فإنهم يعتَبِرون أنَّ المعركة الحقيقيَّة لهم هي مع الإسلاميِّين التي ستنتَهِي عندهم إمَّا بانتِصارهم أو انتِصار خصومهم.

الماركسيَّة - كما يقول (جرامشي) -: نظريَّة فلسفيَّة عن العالم، تضمُّ العناصر الأساسيَّة الضروريَّة لإقامة تصوُّر كلي وشامِل عن العالم، وهي في نظره فلسفة شاملة ونظريَّة موجهة، وقانون لكلِّ ما يحتاجه المجتمع لكي يُحقِّق تنظيمه المنشود، ورسالتها المقدَّسة إقامة حضارة جديدة.

يُفرِّق الماركسيُّون في بلادنا بين الماركسيَّة وعلم الاجتماع الماركسي، وإنْ كان بعضهم لا يعتَرِف بالأخير، المهمُّ هنا أنْ نبيِّن الآتي:

إنَّ أحدث ممثِّلي مدارس علم الاجتماع مثل: (هايبرماس) و(فيلمر)، قد تخلَّوا عن الماركسيَّة، أمَّا (كورش) الذي كان قد صاغَ المبادئ الأساسيَّة للعلاقة بين الماركسيَّة والنظريَّة الاجتماعيَّة المعاصرة في مقالٍ شهيرٍ له في عام 1937 فقد تخلَّى عن الماركسيَّة في أواخِر حياته، وقال ما نصُّه: "لم يعد من المفيد الآنَ طرح قضيَّة الصدق النظري لكتابات ماركس وإنجلز؛ ذلك أنَّ كلَّ المُحاوَلات التي سعَتْ إلى إعادة صِياغة النظريَّة الماركسيَّة على نحوٍ تتَلاءَم مع أهداف ثورة الطبقة العامِلَة قد باءَتْ بالفشل".

كما اعتَرَف بعضُ الباحِثين الماركسيِّين من رجال الاجتماع في بلادنا بالآتي:
1- أنَّ الفكر الماركسي قد عجز عن مُلاحَقة التغيُّرات المتلاحقة، ومن ثَمَّ فقَدتْ مفاهيمه وتصوُّراته قدرتَها على تفسير المواقف المختلفة.

2- أنَّ السبب في جمود الفكر الماركسي يعود إلى ضِيق نطاقه وجمود مفاهيمه ومقولاته.

ومثال ذلك الآتي:
أولاً: إنَّ علم الاجتماع الماركسي فشل في تفسير التغيُّرات التي طرأت على البناء الاجتماعي في البلاد الرأسماليَّة؛ حيث تطوَّر النظام الرأسمالي في غير الاتِّجاه الذي تنبَّأ به ماركس.

ثانيًا: إنَّ علم الاجتِماع الماركسي قد عجَز عن فهْم التغيُّرات التي حدَثتْ في المجتمعات الاشتراكيَّة ذاتها، والتي يخضَع الاقتِصاد والصناعة فيهما لسَيْطرة الدَّولة، فأدَّى هذا إلى الشكِّ في الأهميَّة التي أعطاها ماركس للملكيَّة الخاصَّة.

ثالثًا: عجز علم الاجتماع الماركسي عن فهْم قضيَّة استغلال الدُّول المتقدِّمة للدُّول المتخلِّفة، فبالرغم من أنَّ شعوب العالم الثالث تمثِّل بروليتاريا عالميَّة، وأنَّ الطبقة العاملة في الدُّول المتقدِّمة تشكِّل طَلِيعة النِّضال عند ماركس - فإنَّ الأخيرة تُشارِك في عمليَّة استِغلال قرينتها في هذه الدُّول المتخلِّفة.

ورغم هذا الفشَل على المستوى النظري والعملي محليًّا ودوليًّا، فما زالوا يَأمُلون في انتِصار شَعوَذتهم.
----------------------------------------------
[1] انظر تفاصيل ذلك في مقالات رجال الاجتماع في بلادنا في كتاب: "الدين والمجتمع العربي"، الذي أصدَرَه مركز دراسات الوحدة العربيَّة في بيروت عام 1990.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*{الألوكة}
ـــــــــــ
المصدر: ملتقى شذرات

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 10-09-2014, 07:40 AM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود غير متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 56,039
ورقة اعترافات علماء الاجتماع في بلادنا

اعترافات علماء الاجتماع في بلادنا
ـــــــــــــــــــ

اعترافات علماء الاجتماع
---------
الحلقة الثانية
-----------
اعترافات علماء الاجتماع في بلادنا[1]
-----------------------

هذه اعتِرافاتٌ لرجال الاجتماع عن حَقِيقة وأَوْضاع علم الاجتماع في بلادنا، كتَبُوها بأقلامِهم، وننقلها عنهم دُونَ إضافةٍ أو نقصٍ.

يقولُ محمد عزت حجازي - الخبير بالمركز القومي للبحوث الاجتماعيَّة والجنائيَّة بالقاهرة -:
1- "إنَّنا لا نُنتِج علمًا حقيقيًّا؛ وإنما نستَورِد ونستَهلِك دون تبصُّر، ونخلط في ذلك بين ما يُمكِن أنْ يفيد وما لا غناء فيه"، صـ15.

2- "يجبُ أنْ نُسلِّم بحقيقةٍ بسيطةٍ ومهمَّة، وهي: أنَّه لا يوجد شيءٌ اسمُه "علمٌ مُحايِد"، وإذا كان هذا يَصدُق على العلم بعامَّة، فإنَّه يَصدُق على علم الاجتماع بدرجةٍ أكبر"، صـ17.

3- "تحوَّلَ مُعظَمُ المشتَغِلين بعلم الاجتماع إلى مفكِّرين بأجرٍ، يبحَثُون ويدرُسون ويكتُبون في حُدود ما يُطلَب منهم، ويُؤجَرون عليه، وتردَّى بعضٌ منهم في الغَفلة دون قَصدٍ، وتَمادَى آخَرُون في السَّير في طريق الانتهازيَّة والوصوليَّة"، صـ18.

4- عن كتابات أصحاب ما يُسمَّى بعلم الاجتماع الإسلامي يقول عزت حجازي:
"ولكن مُعظَم ما يُكتَب في هذا الاتِّجاه تَغلُب عليه الضَّحالة، ويَكشِف عن شيءٍ غير قليلٍ من السَّطحيَّة والغَفلة، ولا يخلو الأمرُ في بعض الأحيان من الانتهازيَّة وتملُّق مشاعر الجماهير، بل المشاركة الواعية في تزييف الوعي".

5- مُعظَمُ ما عرَض له المشتَغِلون بالعِلم والدِّراسة والبحث موضوعاتٌ أو مشكلاتٌ يفتَقِر الكثيرُ منها إلى عُنصر المُعاصَرة؛ أي: إنَّه تقليديٌّ تجاوزَتْه حركة البحث والتفكير، هذا من ناحيةٍ، وهو من ناحيةٍ أخرى بعيدٌ عمَّا هو محوريٌّ في النظام الاجتماعي وحيويٌّ لحياة البشر"، صـ23.

6- بالنسبة لإشكاليَّة المنهج في علم الاجتماع في الوطن العربي، تَكمُن الأزمة في تصوُّرنا لا في نقص علميَّة العلم، وإنما في اختِيار مَداخل منهجيَّة قاصرة، واستعمال أساليب بحثٍ وأدوات جمْع معلومات مَعِيبة بطريقةٍ غير سليمة، وارتكاب أخْطاء كثيرة في مُمارَسة البحث، والتفريط في الوظيفة التنظيريَّة للعلم، هذا فضلاً عن شيءٍ غير قليلٍ ولا هيِّن من سُوء الفَهْمِ والخلط"، صـ25.

7- عن أدوات البحث الاجتماعي المستخدَمة في بلادنا يقول عزت حجازي:
"ومعروفٌ أنَّ تلك الأدوات تخضَعُ للنسبيَّة الحضاريَّة؛ أي: ترتبط قيمتها وجَدواها بالسِّياق الحضاري الذي تُعَدُّ وتُستَعمَل فيه أصلاً، ومن هنا يكونُ استِيرادُها من سِياقٍ حَضاري إلى آخَر، واستعمالُها بدون تعديلات جوهريَّة - أمرًا غير مقبول.

والقول الذي يتردَّد كثيرًا عن (تطويع) أدوات جمْع البيانات وتقنينها ليتوافَرَ فيها الصدق والثَّبات المطلوبُ توافُرُهما في أيَّة أداة مقبولة علميًّا - لا يَتجاوَز حُدودَ الكَلام والنِّيات إلا في حالاتٍ نادرةٍ، ويقتَصِر في الأغلب على بعْض الإجراءات الشكليَّة التي لا تُحقِّق شيئًا مهمًّا، ولا يَفطِن غير القليلين منَّا إلى أنَّ أدوات جمْع المعلومات ليست محايدةً على الإطلاق، وإنما ينطَوِي إعدادها واستِعمالها على أبْعادٍ أيديولوجية مهمَّة ومؤثِّرة، والخطير في الأمْر هو أنَّ مُعظَم عمليَّات البحث والكتابة في علم الاجتماع عندنا تقومُ على أساس تسليم غير صريح بأنَّ كُلاًّ من أطراف عمليَّة جمْع المعلومات (إنسان مجرد) بدون وعي ولا رَغبات، ولا إحباطات ولا تحيُّزات، وما إليها، ممَّا يُؤثِّر في عائد البحث"، صـ27.

8- عن ناتج الجهد في البحوث الاجتماعيَّة يقول عزت حجازي:
"... ولهذا تنتَهِي مُعظَم الدراسات والبحوث الاجتماعيَّة بعددٍ يكونُ هائلاً في بعض الحالات من الجداول، تتوزَّع فيها المعلومات أو المادة الميدانيَّة، ويُعلق عليها بوصفٍ مُوجَز يُلخص ما يتضمَّنه كلُّ جدول، وقد تُضاف فقراتٌ تُشِير إلى الاتِّجاهات العامَّة التي تنطَوِي عليها المادَّة الميدانيَّة، ويأتي ناتج الجُهد هَزِيلاً لا يُضِيف كثيرًا، وقد لا يُضِيف شيئًا إلى ما يَعرِفه الإنسان المثقَّف - بل العادي - عن موضوع البحث"، صـ28.

9- يردُّ عزت حجازي على الادِّعاء بأنَّ مشكلة علم الاجتماع في بلادنا تَرجِع إلى حَداثته، فيقول:
"... ففي رأي مَن يذهَبُون هذا المذهب أنَّه لَمَّا كان علم الاجتماع حديثَ النَّشأة في بلادنا؛ فإنَّه لا يستَطِيع أنْ يُؤدِّي دورًا مهمًّا، وتترتَّب على هذا نتيجةٌ، هي: أنَّ العلم سوف يستَطِيع بمرور الوقت أنْ يتغلَّب على المشكلات التي تعتَرِض مَسِيرته، ويكونُ أكثر كَفاءةً وفاعليَّة، ولكن تطوُّر عِلم الاجتماع في الوطَن العربي على مَدَى أكثر من نِصف قرن، وشواهد أخرى، لا يوحي بأنَّ الوقت هو سرُّ الأزمة"، صـ32.

10- عن رجال الاجتماع في بلادنا يقول عزت حجازي:
الكثيرون منهم يوجدون هنا - في بلادِهم - بأجسامهم، بينما يعيشون هناك - في الخارج - بأفكارهم وفهمهم وتطلُّعاتهم ونظرتهم إلى الحياة وغير ذلك، ولقد بلَغ اعتِماد بعض المشتَغِلين بعِلم الاجتماع في الوطن العربي على علم الاجتماع الأوربي الغربي المثالي - والأمريكي بخاصة - سواء في مرحلة إعدادهم الأكاديمي، أو في مرحلة ممارستهم لنشاطهم في التدريس والبحث والكتابة - حدَّ التوحُّد معه، لا عن تقديرٍٍ موضوعي لقِيمته وإفادةٍ واعية منه؛ وإنما عن شُعورٍ بالنقص حياله"، صـ35.

هذه هي أهمُّ اعتِرافات عزت حجازي عن أوضاع علم الاجتماع ورجاله في بلادنا، وعن البُحوث الاجتماعيَّة فيها، أمَّا عن حقيقة اتِّجاه عزت حجازي، فهو ماركسي التفكير، علماني النَّزعة، يرى أنَّ (العلمانية) هي أيُّ قيمةٍ يجبُ استِيعابها من تراث الحضارة الأوروبيَّة، مُعادٍ للدِّين، يَرفُض أيَّ هجومٍ على النظريَّات الغربيَّة التي يرى أنها قدَّمت أعمق التحليلات عن تخلُّف الوطَن العربي وتبعيَّته، ويرى أيضًا أنَّ مُعظَم النظريَّات الغربيَّة تَحوِي تجارِب ودُروسًا بالغة الثَّراء والفائدة، وأنَّ تراث أوروبا الغربيَّة لا يحقُّ أنْ يكون ملكًا للأوروبيين وحدَهم، وأنَّ العموميَّات التي تجمَعُ بين المجتمعات البشريَّة تسمَحُ لنا باستِخدام مَقُولات وأفكار وأدوات الغرب، (ص38، 41).

لم يقرَّ (حجازي) بأنَّ النظريَّات الغربيَّة التي قدَّمت في نظره أعمقَ التحليلات عن تخلُّف الوطن العربي - لم تُصمَّم في الأصل لتحليل المجتمع العربي ودِراسته بقدْر ما كانت قد وُضِعتْ لتفسير جُمود المجتمع العربي والمجتمعات الشرقيَّة عُمومًا، مُقابِل ديناميَّة المجتمع الغربي وفاعليَّته.

نظَر الغربيُّون إلى مظاهر حَضارتنا على أنها بَقايا أو فَضلات باقية من الماضي، وخاصَّة (القبيلة والدِّين)، ورغم هذا، فإنَّ "حجازي" قد استَلهَم مفاهيم وادِّعاءات هذه النظريَّات وقَبِلَها، رغم قُصورها وأخطائها، (خلدون النقيب صـ220، 221).

أمَّا عن الاتِّجاه الماركسي لعزت حجازي، فيتجلَّى بوضوحٍ في قوله:
"ومطلوبٌ منَّا ثانيًا أنْ نختار مُنطَلقًا أيديولوجيًّا قادرًا على أنْ يُساعِدنا في أداء عملنا بكَفاءة، وفي تصوُّرنا أنَّ الاتِّجاه الصراعي والمادي التاريخي بعامَّة يُلائِمنا أكثر من غيره، لا في صُوَرِه الكلاسيكيَّة، وإنما في صِيَغٍ أو تركيباتٍ جديدة كفُؤة"، صـ42.

ثانيًا: علي الكنز أستاذ علم الاجتماع بجامعة الجزائر:
1- عن تبعيَّة علم الاجتماع في بلادنا لعلم الاجتماع الغربي والماركسي، وعن ترديد النظريَّات الصادرة من الخارج في جامعاتنا بشكلٍ آلي، يقول الكنز:
"إذا أردنا تَقويمَ المُمارَسات السوسيولوجية الحاليَّة في بلادنا، أمكننا وصفها بتبعيَّتها الأساسيَّة للسوسيولوجيا الغربيَّة، يمكن أنْ نؤكِّد هذه الحقيقة دون خوفٍ، وقد انسَحَب هذا الحُكم علينا سابقًا، تأخُذ هذه التبعيَّة أشكالَ التَّكرار والتقليد، سواء أكان هذا التقليد واعيًا أم غير واعٍ؛ ممَّا يُؤدِّي إلى انعِكاس، أو بالأحرى انحِراف قَضايا وإشكاليَّات العالم الغربي داخل البِنَى الثقافيَّة والاجتماعيَّة لعالَمنا... وفيما يتبدَّى تأثير النظريَّات الإنكلوساكسونيَّة في المشرق، نُلاحِظ أنَّ السوسيولوجيا الفرنسيَّة هي التي تُسَيطِر على المغرب، علمًا بأنَّ التقارُب الجغرافي والثقافي للمغرب مع العالم الغربي يُسَهِّلُ له إقامةَ علاقات مباشرة وعميقة مع النظريَّات التي تَتطوَّر هناك وتزدَهِر، ومن ثَمَّ في القاهرة، كما في الرباط، كما في الجزائر وتونس، نظريَّات دخيلة من إنتاجٍ غربي، وغير مُعدَّة لتُلائِم البيئة الاجتماعيَّة المحليَّة، وهكذا نرى نظريات الوظائفيَّة والبنيويَّة ومختلف الماركسيَّات الصادرة عن باريس وموسكو وفرانكفورت، والمنحى الثقافي وعلم الاجتماع البيولوجي وغيرها أيضًا من التيَّارات الفكريَّة التي ظهَرتْ على الأرض الأوربيَّة انطِلاقًا من إشكاليَّات لها خُصوصيَّتها، نرى هذه النظريَّات قد نُقِلت كما هي إلى الجامعات العربيَّة لتردد فيها بشكلٍ آلي، فيبدو كما لو أنَّ الممارسات السوسيولوجية في بلادنا قد اقتَصَر دورُها على أنْ تكون محطَّات وساطة للنظريَّات الغربيَّة؛ أي: أنْ تقوم بالدور السلبي الذي يعودُ للمقلِّد - كما هو حال الأطفال مع الكبار - هذا هو الدور الذي تُقلِّده بلادنا في مَجالات أخرى كمَجالات نقْل التكنولوجيا مثلاً"، صـ100.

2- يعتَرِف الكنز بأنَّ النظريات الغربية لم تعطنا الأدوات اللازمة لمعالجة قَضايا واقِعنا، وبأنَّ البُحوث الاجتماعيَّة في بلادنا عقيمةٌ يُعاد تركيبُها في إشكاليَّات مُصطَنعة لا تُلائِم الواقع، فيقول:
"ويُواجِه عُلَماء الاجتماع في بلادنا المسائل الصَّعبة ذاتها التي يُواجِهها الصناعيُّون في مجالهم، التي تتعلَّق بالتنظيم الاجتماعي للمصنع المستورد، كما تتعلَّق بتأمين صِيانة الآلات، التي يَنشَأ منها حالةٌ من التبعيَّة للمُختصِّين الأجانب، لقد جعلَتْنا إيجابيَّتنا تجاه النظريَّات السوسيولوجية الغربيَّة نُتقِن التعليمَ في هذا المجال، إلاَّ أنها لم تُعطِنا الأدوات اللازمة لِمُعالَجة قَضايا واقعنا الذي يختَلِف في تكوينه، ويزيد تعقيدًا على واقع المجتمعات الغربيَّة؛ لذا تَبقَى الأبحاث المحليَّة - باستِثناء بعضها القليل - عقيمةً؛ إذ تُؤدِّي في أحسن الأحوال إلى تجميع طائفةٍ من المعلومات التجريبيَّة يُعادُ تركيبُها في إشكاليَّات مُصطَنعة لا تُلائِم الواقع، لقد بَرهَنت التجرِبة أنَّه من الصَّعب استِعمال أدوات تحليل مُستَوردة من حَضارةٍ أخرى في بحوثٍ محليَّة"، صـ100.

3- عن عدم ملاءمة النظريَّات الغربيَّة لبيئتنا، وعن خطَأ رِجال الاجتماع في بِلادنا في نقلها إلينا دون النظَر إلى خصوصيَّة هذه النظريَّات، يقول الكنز:
"وبالفعل فإنَّ علاقتنا بالنظريَّات الغربيَّة، كأيَّة علاقة وضعيَّة براجماتيَّة (ذرائعيَّة) لا يمكن أنْ تُؤدِّي إلى النتائج التي توصَّلت إليها النظريَّات الغربيَّة، وهي نتائجُ غيرُ ملائمةٍ لبيئتنا، كونها جُرِّدت من إطارها الاجتماعي والتاريخي وانفَصلت عن مسار تكوينها المعرفي... فكلُّ النظريَّات الغربيَّة قد نتجَتْ عن علاقتها بالعاملَيْن التاليَيْن: خصوصيَّة مجتمعاتها وقضاياها الاجتماعية والتاريخية من ناحية، والحقل المعرفي الذي نَمَتْ بداخله وطوَّرت قَضاياها النظريَّة المحدَّدة.

يكمن خطأ علماء الاجتماع العرب - في نظَرنا - في اعتِقادهم أنَّه من الممكن استيراد نظريَّات الغرب بغَضِّ النظَر عن ارتباطها بهذين العاملين، خطَأٌ فادح يمكن اعتباره (الْتباسًا تاريخيًّا حقيقيًّا) صـ 100-101.

4- عن تطوُّر تاريخ العلوم الاجتماعية المختلف عن تطوُّرها في الغرب، وعن تنظيم جامعاتنا على صُورة النموذج الغربي، وعن انتِهاج رجال الاجتماع في بلادنا نهجَ (نقل المعرفة) التي تحصَّل عليها الغرب في قرنين من الزمان إلى جامعاتنا لردْم الهوَّة بينهم وبين الغرب، وعن تشدُّد رجال الاجتماع العرب في الارتباط بالنظريَّات المنقولة أكثر من أصحابها، يقول الكنز:

"عرَف تاريخ العُلوم الاجتماعيَّة في البُلدان العربيَّة تطوُّرًا مختلفًا كلَّ الاختلاف؛ عملتْ هذه البلدان في حقبةٍ تاريخيَّة لاحِقة، وبعد أنْ حازَتْ على استِقلالها - على تشييد جامعات حديثة نظَّمَتْها على (صورة النموذج الغربي)، ووجد عُلَماء الاجتماع العرب أنفسهم أمام تأخُّر كبير في التحصيل العلمي، فعمدُوا كزُمَلائهم في المجالات العلميَّة الأخرى، إلى انتِهاج طريق (نقل المعرفة)، هذه المعرفة التي حصَّلَها الغرب طوال قرنين من البُحوث، وقد شملت هذه العمليَّة كلَّ البلدان العربيَّة بأشكالٍ وأوتارٍ مختلفة، إلا أنها كلها اتَّصفت بالميزات الثابتة التالية: إنَّ هذا النقل الذي تَمَّ في مناخٍ من الفَوضَى لم (يتمشكل) ضِمنَ تحديدٍ بعيد النظَر في تفسير مختلف النظريَّات، وبناء المفاهيم في ضوء الواقع المحلي... وإذ وجَدُوا أنفسهم أمام مفاهيم ونظريَّات ضعيفة التأثير لكونها مستوردةً ومقطوعةً عن جذورها الاجتماعية والتاريخية، وعن مَسار تكوينها الإبستمولوجي والزمني، لَجَأَ هؤلاء المستوردون إلى تَشوِيه الحقائق أحيانًا لتَطوِيعها وفْق الأفكار المقتبسة، ممَّا أدَّى بهم إلى علاقة دوغماتية (قطعيَّة) بموضوعهم، من هنا وتأكيدًا لمقولة: (ملكي أكثر من الملك) نجد ماركسيِّي القاهرة مثلاً أكثر قطعيَّة من نظرائهم الباريسيِّين، ونجد أتباع النظريَّة الوظائفيَّة في الرباط أكثر تشدُّدًا من صاحِبها في نيويورك"، صـ102.

5- يعترف الكنز بأنَّ ما يدورُ من نِقاشاتٍ في حقل علم الاجتماع في بلادنا هو نِتاجٌ للتَّجارب العمليَّة التي جرت في الغرب، فيقول:
"تُقدِّم معظم النقاشات التي تَدُورُ في الأجواء السوسيولوجيَّة العربيَّة مفاهيمَ ومواضيع نظريَّة، غالبًا ما تكونُ نتاجًا للتجارِب العمليَّة التي جرَتْ في الغرب"، صـ105.

علي الكنز ماركسي التفكير، يفهَمُ الدِّين في ضوء نظريَّة الصِّراع الطبقي، وهو مُعادٍ للدِّين، ينظر إليه على أنَّه انعكاسٌ لبُؤس العالم وشَقائِه، ويعتبر أنَّ الفكر العقلاني هو تعبيرٌ عن حيويَّة الوعي الجماعي الذي يَعكِس تطوُّر العالم وازدِهاره، من أشهر مقولاته المعادية للدِّين:
"علينا تركُ الاعتقاد بالدِّين؛ لأنَّه لم يُبَرهن على أنَّ الدِّين أصبح بمثابة رؤيةٍ للعالم أو كَثافة، فهو وظيفةٌ عكسيَّة للتطوُّر التاريخي والاجتماعي".

(انظر: علي الكنز، "الإسلام والهوية، الدين في المجتمع العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1990، صـ91-109).

ثالثًا: سالم ساري، مدرس علم الاجتماع بجامعة الإمارات العربية المتحدة:
1- عن سَيْطَرة المفاهيم الغربيَّة على فِكر رجال الاجتماع في بلادنا، وعن عدَم نَجاحهم في تطوير مفاهيم أصيلة لتحليل واقع مجتمعاتنا، يقولُ سالم ساري:
"يكتب رجال الاجتماع العرب والمفاهيمُ التحليليَّة الغربية تَطغَى على مُحِيطهم الفكري، فلم يُطوِّروا إلاَّ قليلاً من المفاهيم التحليليَّة الأصليَّة التي تساعد على فهْم الواقع الاجتماعي العربي وتتوجَّه إلى تغييره، ولم يظهَرْ لسنواتٍ طويلةٍ في التراث العربي لعلم الاجتماع فيما يتَّصل بالمشكلات الاجتماعيَّة التقليديَّة على الأقل إلاَّ تطابقٌ مع المفاهيم النظريَّة الغربيَّة بِمُسلَّماتها وافتِراضاتها وارتِباطاتها"، صـ187.

2- عن معالجة رجال الاجتماع في بلادنا مشكلات مجتمعاتنا في ضوء المفاهيم الغربيَّة التي تجمَّدت في بلادها، يقول ساري:
"وقد أخَذ الاجتماعيُّون العرب مفهوم (المشكلات الاجتماعية) كما تجمَّد في المجتمعات الغربيَّة الصناعيَّة... فلم تخرُج إشكاليَّات البحوث العربيَّة بذلك عن أنماطٍ سلوكيَّة، وأفعال انحرافيَّة، وقيمٍ باثولوجية، أو ظواهر مشكلة قابلة للملاحظة والقياس كاختلالات فرديَّة، واختلافات ثقافيَّة، أو وصمات اجتماعية"، صـ192.

3- عن عدَم وُضوح الرؤية في النظرية والمنهج عند رجال الاجتماع في بلادنا، يقول ساري:
"إنَّ الاجتماعيين العرب يُعانون من عدم وضوح الرؤية في النظرية وفي البحث المنهجي، فهم يَمِيلون في مُعظَم الأحيان إلى نقْد كلِّ ما يُطرَح في المجتمعات الغربيَّة دون التوصُّل إلى نظريَّةٍ للمجتمع العربي، وإنَّ إشكاليَّات بحوثهم تَكمُن في أنها لا تمتُّ بصلةٍ إلى الواقع المجتمعي العربي"، صـ383.

4- عن نقْد رجال الاجتماع في بلادنا للنظريَّات الغربية مع استمرار الاعتماد عليها اعتمادًا كليًّا، يقول ساري:
"كثيرًا ما يصبُّ رجال الاجتماع العرب نقدَهم على النظريَّات والمفاهيم التحليليَّة الغربيَّة؛ بدعوى أنها نائيةٌ وسحيقة، صُنِعتْ لعالمٍ غير عالمهم، ولا تحمل إلا صلة قليلة فقط لواقعهم الاجتماعي المَرِير، وفي حين لا يمكن الإنكارُ أنَّ المجتمعات العربيَّة - كغيرها من مجتمعات العالم الثالث - تخبر مشكلات ذات تعريفات ومصادر ومصاير مغايرة، فإنَّ رجال الاجتماع العرب لم يُقدِّموا البديلَ الجديَّ، نظريًّا ومنهجيًّا لدراسة حَقائق مشكلاتهم العربيَّة، ومن المفارقات العجيبة أنْ يستمرَّ وعيُ رجال الاجتماع العرب بقُصور هذه النظريَّات الغربيَّة جَنبًا إلى جنب مع استِمرار الاعتماد عليها بصورةٍ كليَّة أحيانًا في بحوثهم ودراساتهم العربيَّة"، صـ45.

5- عن عدَم اكتراث رجال الاجتماع في بلادنا بقِيَمِ وتقاليد مجتمعاتهم، ونَظرتهم لها على أنها عاداتٌ وتقاليد جامدة، وتفسيرهم للمشكلات الاجتماعيَّة في ضوء عَقائِدهم ومَصالِحهم الضيِّقة، يقول ساري:
"وستظلُّ المشكلات الاجتماعيَّة تعني بذلك أحكامًا قيميَّة، وتقويمات فنيَّة يُطلِقها مُعرِّفوها ودارسوها وخُبَراؤها على ما يعتَرِي النِّظام الاجتماعي والسياسي القائم - لا تعكس إلاَّ قيمهم وعقائدهم ومصالحهم الضيِّقة، ما لم يتمَّ الرُّجوع في تعريفها وتحديدها إلى أفراد المجتمع العاديين، الذين لا تُعرَف أيُّ مشكلات مجتمعيَّة فعليَّة إلا بهم، وقد لا يُعنَى كثيرٌ من دارِسي علم الاجتماع بالقِيَم المجتمعيَّة الراسخة، شيئًا أكثر من عادات وتقاليد ونُظُم جامدة، تحجب عنهم رؤية التناقُضات والمتغيِّرات والتحوُّلات التي تقَع داخل مجتمعاتهم"، صـ14.

رابعًا: محمد شقرون الأستاذ بكلية الآداب بالرباط بالمغرب:
يعدُّ (محمد شقرون) مثالاً بارزًا لرجال الاجتماع الذين يُهاجِمون استِخدام المفاهيم الغربيَّة مع استمراريَّة الاعتماد عليها في الوقت نفسه، كما أشرنا إلى ذلك في البند الرابع عند سالم ساري، ويتَّضح ذلك من الفقرة الآتية التي ناقَض فيها شقرون نفسه بعد سطْر واحدٍ ممَّا كتبه! يقول شقرون:
"كما أنَّه لا يصلح كذلك قبول الألفاظ المرجعيَّة للآخَرين التي تُؤدِّي بنا إلى ميدانهم الخاص لكي نَخضَع لِمُنطَلقهم الخصوصي في معركةٍ نكونُ الخاسِرين فيها مسبقًا، يجدر بنا - حسب رأيي - أنْ نتكلَّم فيما يتعلَّق بالمجتمعات العربيَّة عن (الأنوميا) عوض الأزمة"، صـ68.

يُهاجِم محمد شقرون تمسُّك العرب بالحِفاظ على أعراضهم وشرفهم، واهتمامهم بتهذيب أخلاقهم بالتمسُّك بالسلوك القويم حسب التقاليد، ويدعو إلى قَطِيعة الماضي، بل فقدان الذاكرة فيما يتعلَّق به، يُطالِبنا بإعادة النظَر فيما يُسمِّيه بالنظام القديم، وفي كلِّ التصانيف التي يقومُ عليها (صـ70، 71)، وهو رجلٌ ماركسيُّ التفكير، مُعادٍ للدِّين، ينادي بالتصادم معه، والسعي نحو تفكيكه، وجعله موضوعًا للبحث العلمي والتاريخي، (انظر محمد شقرون، الظاهرة الدينية كموضوعٍ للدراسة، الدين في المجتمع العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1990 صـ127-136).

خامسًا: غالي شكري، وهو رجلُ اجتماعٍ مصري:
غالي شكري ماركسي التفكير أيضًا، اعتَرَف بأنَّ رجال الاجتماع في بلادنا يستَورِدون العلم الاجتماعي كما يستَورِدون قطع غيارات السيارات، كما يعتَرِف بغِياب الرُّؤية النقديَّة عندهم، وباستخدامهم لأدوات المناهج الغربية التي لا تولد إلا نفس النتائج التي توصَّل إليها الغرب كذلك، أقرَّ غالي شكري بعدم حياديَّة الفكر الاجتماعي، وكشف عن عدَّة نقاطٍ مهمَّة:
الأولى: أنَّ رجال الاجتماع في بلادنا حاوَلُوا فهْم التيَّارات الإسلاميَّة بمنهج غربي فسَد في بلاده أصلاً، وأنَّ هناك العديد من الكتب التي كُتِبت باللغة الفرنسيَّة عن الجماعات الإسلاميَّة المعاصرة في مصر، وأنَّ هذه الكتب سوف تَتحوَّل بالضرورة إلى مَصادِر للباحثين العرب الشباب في بلادهم أو في الغرب.

الثانية: هي أنَّ محاولة التوفيق بين الإسلام والغرب سوف تنتَهِي إلى أنْ يُصبِح الغرب هو المنهجَ، والمجتمعات الإسلاميَّة هي مادَّةَ التحليل.

الثالثة: إنَّ التفاعُل مع الغرب قد أثمر في نظَرِه أينع الثمار، التي يضْرب لها مثالاً بكتاب طه حسين "في الشعر الجاهلي"، فكشَف بذلك عن أنَّ العداء للإسلام، والسعي نحو فهمه على الطريقة الغربيَّة هو أحد أسباب تمسُّك رجال الاجتماع بالمنهج الغربي.

الرابعة: أنَّ الخبراء الاجتماعيين العرَب يشغَلُون مناصب مرموقة في الهيئات العربيَّة والدوليَّة، ويتقاضون رواتب كبيرة من أجل خِدمة أهداف هذه الهيئات ذات الطابع الأيديولوجي (صـ83-97).

سادسًا: حيدر إبراهيم، المحاضر السابق في قسم الاجتماع بجامعة الإمارات العربية المتحدة:
أكَّد حيدر إبراهيم ما أشرنا إليه سابقًا على النحو التالي:
1- عدم حياديَّة علم الاجتماع، وأنَّ العلوم الاجتماعيَّة علوم عقَدِيَّة، وأنَّ الباحث فيها لا ينفَصِل عن ظُروف حَياته، ومُعتَقداته، وطَبقته، وعضويَّته في المجتمع.

2- أنَّ أصحاب ما يُسمَّى بعلم الاجتماع الإسلامي - باستثناء من لهم قَناعات إسلامية واتِّساق فكري - يجمَعُون ما لا يأتلف، شديدو العموميَّة، يضعون المشروع القديم في أكوابٍ جديدة لا يُغيِّرون المضمون، يستَخدِمون المفاهيم الغربيَّة نفسها بوضع ملصقات جديدة عليها، أو إضافة كلمة "إسلامي" أو "مسلم" لهذه المفاهيم، يتحوَّلون في فترةٍ قصيرة من اتِّجاهات ومدارس متناقضة تمامًا مع هذا الاتجاه الجديد الذي تبنوه، تعجُّ مُؤلَّفاتهم بالأخطاء والمُغالَطات المنهجيَّة التي تَتعارَض مع مَنحاهم الجديد.

يُدافِع حيدر إبراهيم عن اتِّجاهه الماركسي، ويُشِير إلى بِدايات محاولات كسْر احتِكار علم الاجتماع الغربي للمنطقة العربيَّة، هذه المحاولات التي بدَأت بترجمة سمير نعيم وفرج أحمد فرج لكتاب أوسيبوف عام 1970، وتأييد عاطف غيث لهذه المحاولة بكتابته مقدمة الكتاب، التي يرى فيها أنَّ الماديَّة التاريخيَّة هي المنهج الأكثر مُلاءَمةً لفهم واقعنا الاجتماعي، يُشِير حيدر إبراهيم أيضًا إلى ترجمة كتاب نقد علم الاجتماع البورجوازي المعاصر، ثم لكتاب عبدالباسط عبدالمعطي (مطالعات نقدية في الاتجاه السوفياتي في علم الاجتماع عام 1977) صـ107-137.

يفهم حيدر إبراهيم الإسلامَ في ضوء المفاهيم الماركسيَّة، وآراء موللر وسبنسر وكونت ودوركايم وغيرتز وفيرث وورسلي ودومونت وطومسون وثربورن وستارك وجلوك وسبيرو وفوشتوانغ ودكسون والتوسير وماكس فيبر ونيدهام، لكنَّ المهمَّ هنا هو أنَّ حيدر إبراهيم من دُعاة ما يُسمَّى بلاهوت التحرُّر وتناقُض الثورة مع الدِّين، (صـ137، انظر كذلك الأسس الاجتماعية للظاهرة الدينية، الدين في المجتمع العربي صـ33-62).

سابعًا: أحمد مجدي حجازي، أستاذ الاجتماع بجامعة القاهرة:
من دُعاة المادية التاريخيَّة ومنهجها الجدلي، ينظُر إلى الدِّين على أنَّه خُرافة وتزييف، ويدعو إلى ما يُسمِّيه بالرؤية التقدميَّة التي تُحرِّر التراث وتُغَربِله ممَّا يُسمِّيه بالقَداسة والتوثُّن (صـ139-161).

ثامنًا: محمود الذواري، أستاذ الاجتماع بجامعة الملك سعود:
أقرَّ الذواري بطُغيان المدارس السوسيولوجية الغربيَّة على التكوين المعرفي لعُلَماء العرب المحدَثِين، لكنَّ الذي أضافَه الذواري هو إشارته إلى احتِقار رجال الاجتماع في بلادنا لتراثهم العربي، واعتقادهم بعدم تمشِّيه مع الحياة العصريَّة، يقول الذواري:
"لكنَّ أزمة المثقَّفين العرب لا تنتَهِي عند فقر أو عدم وجود أساسٍ لقاعدة تفكيرٍ اجتماعي؛ وإنما تتعدَّاه إلى تركيبتهم النفسيَّة (الشخصيَّة)، فمنهم مَن يميلُ إلى تحقير التراث العربي على العُموم؛ لأنَّه في نظَرِهم بعيدٌ عن أنْ يَتماشَى أو يَتلاءَم مع قَضايا الحياة العصريَّة"، صـ174.

تاسعًا: عبدالباسط عبدالمعطي، أبرز أعضاء حزب التجمُّع الشيوعي المصري، رئيس الجمعية العربية لعلم الاجتماع، وأستاذ الاجتماع بكلية البنات جامعة عين شمس:
اعتَرَفَ عبدالباسط عبدالمعطي بالآتي:
1- فقدان الثقة والفَجوة بين متَّخذي القَرار والمتخصِّصين في علم الاجتماع، وأنَّه قلَّما يُستَدعَي المتخصِّصون في علم الاجتماع للمُشارَكة في تحليل القَضايا التي تُواجِهها المجتمعات، أو حتى في حُدود البحوث التي تُجرِيها مؤسَّسات علميَّة رسميَّة، وأنَّ الإفادة منهم تكون في أضيق نِطاق (صـ201).

2- أنَّ رجال الاجتماع في بلادنا يَدرُسون القَضايا والمشكلات بعد حُدوثها وتضخُّم حجمها، وأنَّ معظم القضايا التي دُرست جزئيَّةٌ ومرتبطة بمشكلاتٍ اجتماعيَّة غير سويَّة (صـ202-203).

3- أنَّ النقل الذي يقومُ به رجالُ الاجتماع في بلادنا للفكر الغربي أو الشرقي - ليس نقلاً أمينًا ولا دقيقًا، وأنَّ النقد الذي ينقلونه ضد هذا الفكر نقلٌ حرفيٌّ؛ ممَّا يُخفِي الضعف المعرفي والفكري للمُشتَغِلين بعلم الاجتماع في بلادنا.

4- أنَّ شروط الإبداع عند رجال الاجتماع في بلادنا غير مُتوافِرة، (صـ206).

5- سَيْطَرَةُ المكتبة الغربيَّة على علم الاجتماع في بلادنا، وخاصَّة الفرنسية والأمريكية والإنجليزية، يقول عبدالمعطي:
"فأكثر من 90% من الترجمات هي عن هذا المصدر".

6- أنَّ المؤسَّسات الأمريكيَّة تقومُ بتدعيم وجود الفكر الغربي، ومنها مؤسسة فرانكلين بصفةٍ خاصةٍ، (صـ365).

7- أنَّ هناك بحوثًا مشتركةً بين جامعاتنا وهَيْئات أجنبيَّة تَتِمُّ لصالح الأمريكيين واليهود، ويُشارك فيها رجال الاجتماع في بلادنا، (صـ367).

يُدافِع عبدالمعطي عن تبعيَّته الشخصيَّة للفكر الماركسي وللنظام الاشتراكي العالمي، بقَناعته الأيديولوجيَّة بهذا الفكر، وبأنَّ أساليب النِّظام الاشتراكي لا تطلب تابعين، وأنَّ هذا النِّظام لم يسعَ إلى فرض التبعيَّة على المشتَغِلين بالعلم (صـ365).

يُحدِّد عبدالمعطي أوجُهَ الشَّبَه بين أصحاب الفكر الماركسي وبين ما يُسمِّيه بالتراثيِّين الجُدُد، ويرى أنَّ هناك أرضيَّة مشتركة بينهما، وأنَّ الصِّراع لن يكونَ إلا بينهما، وأنَّ هذا الصِّراع سيُفضِي إلى: "إمَّا سطوة أحدهما وغَلَبته مع بَقاء الآخَر، وإمَّا الوصول إلى تيَّارٍ نوعي جديد يخرج من صِراعهما"، صـ378.

عاشرًا: المختار الهراس، أستاذ الاجتماع بكلية الآداب بالرباط:
يرى الهراس أنَّ الطروحات الماركسيَّة تتضمَّن مع الإمكانات النظريَّة والمنهجيَّة البديل الأكثر مُلاءمة وقُدرة على الاستجابة لواقِع مجتمعاتنا، (صـ285).

حادي عشر: عبدالصمد الديالمي، أستاذ الاجتماع بفاس بالمغرب:
اعترف الديالمي بما يلي:
1- أنَّ رجوع رجال الاجتماع في بلادنا إلى ابن خلدون ما كان إلا مجرَّد عصًا سحريَّة تُغطِّي - عن طريق الوهم - غِيابَ العرب عن ساحَة عِلم الاجتماع، (صـ287).

2- أنَّ عِلمَ الاجتماع في المغرب كان في خِدمة الاستعمار الفرنسي ومخابراته، وأنَّه كان يَسعَى إلى إعادة تركيب حَياة المجتمع المغربي وتنظيمه، وتعميق الصِّراعات العرقيَّة بين العرب والبربر، والعمل على استِمرار الرَّواسب ما قبل الإسلاميَّة فيها على صعيد المعتقدات والمؤسَّسات والممارَسات، وتصوير الإسلام للبربر بأنَّه قوَّة استعماريَّة تسلَّطَتْ عليهم لتسلب منهم مُمتَلكاتهم وهُويَّتهم على وجْه الخصوص؛ ممَّا يُسهِّل الطريقَ لتنصيرهم؛ بالتأكيد على تجنُّب أسلمتهم وتعريبهم، ثم العمل على تَطوِيرهم نحو الثقافة الأوربيَّة.

3- ساعَد علم الاجتماع على تكوين طبَقة متوسِّطة بفضل التعليم، تتوجَّه إلى الوظائف العصريَّة، وتُدافِع عن قِيَمِ الحداثة في شَكلِها الغربي، وخاصَّة في مَجال اللباس والسُّكنَى وتحرير المرأة.

والديالمي من أتْباع الماديَّة التاريخيَّة ونظريَّة الصِّراع الطبقي، ويرى أنَّ ولادة علم اجتماعٍ مغربي مشروطٌ بإنتاج نظريَّة حول الأشكال المغربيَّة الخصوصيَّة للصِّراع الطبقي، (صـ287-307).

ثاني عشر: الطاهر لبيب، أستاذ علم الاجتماع بالجامعة التونسيَّة:
أقرَّ الطاهر لبيب بما يلي:
1- أنَّ تاريخ علم الاجتماع في تونس يَبدَأ بأرسطو، ثم يمرُّ بابن خلدون ومونتسكيو وسان سيمون وروسو وماركس وبرودون ودوركايم ومارسال موسى وماكس فيبر، قبل الوصول إلى أهمِّ مدارس علم الاجتماع المعاصر في أهمِّ البلدان.

2- أنَّ المغرب العربي موضوعٌ مبجَّل لدى بعض علماء الاجتماع الفرنسيين، الذين واكَبُوا نَشأة قسم علماء الاجتماع في تونس.

3- أنَّ المؤلفات في علم الاجتماع في تونس تغلب عليها الثقافة الأوربيَّة - مع الهيمنة الفرنسية - وأنَّ اللغة الفرنسيَّة هي لغة أغلب المراجع.

4- أنَّ سمير أمين هو المرجع الأوَّل في تدريس علم الاجتماع في تونس، وأنَّ ماركس هو الإله الخفيُّ الذي يتغيَّر الموقف منه دون أنْ يُهمِله أو ينفَصِل عنه.

5- أنَّ الواقع المغربي يُفهَم دائمًا عبر قِراءات ماركسيَّة، (صـ309-329).

ثالث عشر: فوزي العربي:
يعتَرِف فوزي العربي بانعِكاس تبعيَّة رجال الاجتماع في بلادنا للفكر الغربي والماركسي على الطلاب، فيقول:
"الوضع الراهن لعلم الاجتماع في البلاد العربيَّة وضعٌ مؤسف إلى حدٍّ كبيرٍ؛ نظَرًا للتحدِّيات التي يُواجِهها، ونظرًا لأنَّ كثيرًا من الأساتذة متأثِّرون غالبًا بالنظريات الغربية والمستوردة والدخيلة على المجتمع العربي، فنجد أنَّ بعضَهُم يناصر في محاضراته ومؤلفاته المدارس الغربية في علم الاجتماع ويُؤيِّدها، ويتعصَّب لها أحيانًا، ويتأثَّرون في ذلك بما كتَبَه علماء الغرب في علم الاجتماع، ونرى البعضَ الآخَر يتمسَّك دائمًا بعِلم الاجتماع الماركسي، ويُؤيِّدون قَضاياهم بأفكارٍ راديكالية لا تمتُّ إلى مجتمعنا العربي الذي نعيشُ فيه بصلةٍ، والنتيجة عكسيَّة سواء من ناحية المسافات، أو من ناحية المناهج أو الموضوعات المطروحة في أقسام الاجتماع في الجامعات العربيَّة تنعَكِس على الطلاب بصفةٍ خاصَّةٍ؛ إذ نجدُ أنَّ الطالب المتخصِّص يتعرَّض لآراء المفكِّرين الغربيين أو الماركسيين، أكثر من تعرُّضه للفكر الاجتماعي عند العرب، وبعبارةٍ أخرى: فإنَّ علماء الاجتماع العرب يُعانُون من التبعيَّة الفكريَّة، ومُتأثِّرون بالنظريَّات المستوردة التي عاصَرُوها في مرحلة التكوين، وما زالوا يُكرِّسون أنفسهم لها"، صـ382.

رابع عشر: عبدالوهاب بوحديبة:
يتحدَّث بوحديبة في نفس القضايا التي تحدَّث عنها فوزي العربي، فيقول:
"لقد تأثَّرنا نحن من الغرب (بالموضات) الباريسيَّة؛ حيث يرتدون الفستان الطويل فنطول، ثم يقصرون فنتبعهم بذلك، يُنادون بالنمط الآسيوي للإنتاج، فنَنساق خمس سنواتٍ نبحَثُ في النمَط الآسيوي للإنتاج، ويقولون: (التبعية)، فندخل في مناقشة قضيَّة التبعيَّة، ثم يقولون: لا تبعية؛ ولكن هناك محاور ومراكز وهوامش، فندخُل في هذه المجادلات"، صـ384.

هذه هي حقيقةُ علمِ الاجتماع في بلادنا، أورَدْناها بأقلام أكثر من أربعة عشر رجلاً منهم:
إنهم يعتَرِفون بتبعيَّة علم الاجتماع في جامعاتنا للفِكر الغربي والماركسي، وبأنَّ رجالَه أكثر تشدُّدًا في تبعيَّتهم لهذا الفكر من أصحابه أنفسهم.

يعترفون بأنَّ علم الاجتماع ليس محايدًا، وبأنهم لا يُنتِجون عِلمًا حقيقيًّا، وإنما يستَورِدون ويستَهلِكون دون تبصُّر.

ناتج بحوثهم هزيلٌ، لا يُضِيف معرفةً إلى المعرفة القائمة عند المثقَّف أو الرجل العادي.

يَعِيشون في بلادنا بأجسامهم، أمَّا عقولهم وفكرهم ففي بلادٍ بعيدةٍ.

مُعظَمهم ماركسيُّون عقلانيُّون علمانيُّون، يتبنون الماديَّة التاريخيَّة والصِّراع الطبقي.

يُهاجِمون وينتَقِدون الفكر الغربي، ويعتَمِدون عليه في الوقت نفسِه، ويرَوْن أنَّه قدَّم أعمق التحليلات عن تخلُّف مجتمعاتنا وأصدقَها، وأنَّ النظريَّات الغربيَّة تَحوِي دُروسًا بالغة الثراء والفائدة.

يسلمون بأنَّ هذه النظريَّات لم تُعطِنا الأدوات اللازمة لِمُعالَجة واقعنا، وأنها تردَّد في جامعاتنا بشكلٍ آلي، وأنَّ جامعاتنا نُظِّمت على النموذج الغربي، وانتَهجَتْ طريق (نقل المعرفة) التي تحصَّل عليها الغرب في قرنَيْن من الزمان.

يُعالِجون مُشكِلاتنا الاجتماعيَّة في ضوء المفاهيم الغربيَّة التي تجمَّدت في بلادها.

ليس عندهم وضوحٌ في الرؤية ولا في البحث المنهجي.

يحتَقِرون تراث أمَّتهم ويَنظُرون إلى عاداتها وتقاليدها على أنها جامدةٌ.

لا تثقُ الدولة فيهم، ولا يُستعان بهم في اتِّخاذ القرارات المتعلِّقة بالقضايا المجتمعيَّة.

يتعاوَنُون مع المؤسسات الأجنبيَّة في تقديم ما تَحتاجُه من معلوماتٍ عن بلادهم.

هذا هو حال علم الاجتماع ورجاله في بلادنا!
-----------------------------------
[1] راجع: "نحو علم اجتماع عربي"، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1986.
---------------------------------------------------
رد مع اقتباس
  #3  
قديم 10-09-2014, 07:44 AM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود غير متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 56,039
ورقة علم الاجتماع: صياغة دينية لمعتوه فرنسي

علم الاجتماع: صياغة دينية لمعتوه فرنسي
ــــــــــــــــــــــ


اعترافات علماء الاجتماع
--------------------

الحلقة الثالثة
-------------

علم الاجتماع: صياغة دينية لمعتوه فرنسي
------------------------------

أوَّل ما يجبُ الإقرارُ به هو أنَّ علمَ الاجتماع بالمعنى الأكاديمي الحديث الذي يُدرَّس في جامعاتنا - بما فيها الجامعات الإسلاميَّة - هو أوروبي النَّشأة، تأسَّس على يد معتوهٍ فرنسي اسمه "أوجست كونت"، لا ارتباطَ له بالإسلام ولا بابن خلدون، وما يجبُ الإقرار به ثانيًا هو أنَّ أفكار علماء اجتماع الغرب التي تُدرَّس في جامعاتنا - بما فيها الجامعات الإسلاميَّة - لا تنفَصِل مُطلَقًا عن التيَّارات الفكرية والأخلاقية السائدة في بلاد الغرْب، وثالثُ ما يجب الإقرارُ به هو أنَّ الأنشطة الفكرية والنظريَّات الكبرى لعلماء الاجتماع تمَّت في أثناء أزماتٍ سياسية واقتصادية كانت المجتمعات الغربية تمرُّ بها، وكان على علماء الاجتماع أنْ يقدموا لمجتمعاتهم صِياغةً نظرية تُمكِّنهم من تَخطِّي هذه الأزمات.

ويعني هذا جميعُه أنَّنا لا شأنَ لنا في بلادنا بأفكار هذا المعتوه، ولا بالتيَّارات السائدة في العالم الغربي، ولا بأزماته التي مرَّ بها، لكنَّ رجال الاجتماع في بلادنا كانوا أكثر عتاهةً من (كونت)، فقَبِلُوا المقولات التي نشَأت وتطوَّرت في هذه المجتمعات ومع أزَماتها، برغم أنها تقومُ على مُسلَّمات تشكَّلت في ظُروفٍ تختلف تمامًا عن ظُروفنا، ولم يكنْ هناك من مُبرِّرٍ لقبول هذه المقولات واعتبارها مُسلَّمات.

نشَأ علم الاجتماع في مناخٍ وظُروف لا شأنَ ولا دَخْلَ لنا بها؛ دِين وكنيسة تدعو إلى الرهبانية، وتمحق الطاقات التي تُؤدِّي إلى المحافظة على النوع، حياة رجال الكنيسة مليئةٌ بالفواحش والمُنكَرات، استَحوَذَ عليهم الجشَعُ وحبُّ المال، انحطَّت أخلاقهم وأخلاق باباواتهم، يبيعون المناصب والوظائف كالسِّلَع، يُؤجِّرون الجنة ويُصدِرون صُكوك غفران في الوقت الذي كانوا يَأمُرون الناس فيه بالحِرمان باسم الدِّين، كنيسة أدخلت كثيرًا من الخُرافات على الدِّين، مَن لم يؤمن بها يُطرَد من رحمة الربِّ، منَعت الناسَ من البحث في فهْم الكتاب المقدَّس وتفسيره، ادَّعت آراء ونظريَّات جغرافية وتاريخية وطبيعية مليئة بالخُرافات والأخطاء عن الكون والإنسان والحياة، جعلَتْها مُقدَّسة لا تُناقَش ولا تُصحَّح ولا تُجرَّب، يَكفُر مَن لا يؤمن بها، وحينما انفجرت العقلية الأوروبية، وحطَّم العلماء قُيود الكنيسة، وأثبتوا خطأ هذه النظريات - ثارت الكنيسة عليهم، وعاملَتْهم كملحدين وزنادقة، وأنشَأت لهم محاكِم تفتيش عاقَبتْ ثلاثمائة ألف منهم، وأحرقت اثنين وثلاثين ألفًا أحياء، قتلت (برونو)، وأحرقت (جاليليو) وغيرهما من الناس والعلماء [1].

كان منطقيًّا إذًا أنْ يَثُور الناس على الدِّين والكنيسة، وأن يفصلوا بين الدِّين والحياة، وبين الدِّين والعلم، وبين الدِّين والعقل، وكان منطقيًّا أيضًا أن تصبح العقلانية والعلمانية هي دينهم الجديد، وأن يقيموا الحياة والعلم على أساسهما، ولكن ما لنا نحن ومال هذا كله؟! الدِّين والعلم في الإسلام متساندان، والدِّين والعقل في الإسلام مُتَسانِدان، والدِّين والحياة في الإسلام لا ينفَصِلان، لكنَّ الببغاوات في بلادنا راحوا يقلدون الغرب في كلِّ شيء، ويدخلون جُحر كلِّ ضب يدخله؛ ففصَلُوا بين الدِّين والحياة، والدِّين والعلم، والدِّين والعقل، وتكشف لنا الفقرة التالية لرجال الاجتماع في بلادنا قمَّةَ هذا العته الذي وصلوا إليه في تقليد الغرب.

يقول عزت حجازي: "فربط سِيادة الدنيويَّة (العلمانيَّة) بسِيادة مبادئ المنفَعَة واللذة ربطٌ ظالِمٌ، لقد خلَّصت الدنيويَّة الإنسانَ الأوروبي من جبروت كنيسةٍ لا تعرف الرحمة، كانت أداةَ إقطاعٍ في سحْق جُموع الشعب، واضطهاد المعارَضة؛ لهيمنتها بغلظة ووحشية، فالدنيوية في تقديرنا علامةٌ من علامات تقدُّم الإنسان الحقيقي، وإنْ كان في تُراث الحضارة الأوربيَّة الغربيَّة ما يُساعِدنا على الخلاص من التخلُّف والتبعيَّة وتحقيق نهضة، فإنَّه يرتبط بهذه القيمة"[2].

نشَأ علم الاجتماع نتيجةً لتغيُّرات ثوريَّة دِراميَّة عنيفة في البيئة الفكرية والدينية والسياسية والاقتصادية للمجتمع الأوربي في القرنين السادس عشر والسابع عشر، ويعكس مصطلح (الثورة) هنا هذه الطبيعة الدراميَّة للتغيُّرات التي حدثت في أوربا، ويعني أيضًا الطبيعة العنيفة والحاسمة لهذه التغيُّرات، وبالرغم من أنَّ هذه التغيرات قد استغرقت عشرات السنين لكي تُصبِح واقعًا فعليًّا، إلا أنها لم تكنْ تحوُّلات مفاجئة بقدْر ما كانت عمليَّات تطوُّريَّة غيَّرت طبيعة العالم الاجتماعي الأوربي بشدَّة.

ثلاث ثورات كُبرَى نشَأ في ظلِّها علم الاجتماع: ثورة (اقتصادية) قضَتْ على بَقايا نظامٍ اقتصادي قديم، وظهرت فيها الصناعات ذات الحجم الكبير، لكنَّ أهمَّ آثار هذه الثورة سُقوط سُلطة الدِّين واهتزاز بناء الأسرة، وثورة (فكرية) أُطلِق على أصحابها (فلاسفة التنوير)، وهم رجالٌ قدَّسوا العقل، وسحَقُوا الدِّين والأسرة؛ لأنهما غير منطقيَّيْن في نظَرِهم ولا يتَّسِقان مع العقل، لم يَرَ هؤلاء الرجال أنَّ فهْم الإنسان والمجتمع ممكنٌ بالرُّجوع إلى الدِّين؛ وإنما بالرُّجوع إلى نموذج "نيوتن"، أدخَلُوا الإنسان والمجتمع تدريجيًّا في حقْل العلم، وكان ذلك نقطة البدء في الانقطاع عن الدِّين الذي كان يُسَيطِر عليهما، كان جُهْد هؤلاء الرجال منصبًّا على مهاجمة الدِّين، وتحرير الفكر من التأمُّلات الدينيَّة، وإخْضاع هذه التأمُّلات لميدان العقل.

تبنَّى رجال الاجتماع والمثقَّفون من العلمانيين وغيرهم في بلادنا أفكارَ التنوير هذه، وانخدَع السُّذَّج منَّا بالمعنى الظاهر والبرَّاق لكلمة التنوير.

أمَّا الثورة الثالثة، فهي (الثورة السياسية)، ويُقصَد بها هنا الثورة الفرنسية التي لا تزال إلى اليوم تَلقَى احترامًا وتبجيلاً واحتفالاً في عالمنا الإسلامي، فقد أثَّرت تأثيرًا بالغًا على كافَّة عُلَماء الاجتماع، استمدَّت هذه الثورة فِكرَها من فلسفة التنوير، فزَلزلت كيان الأسرة، وضرَبتْ سُلطة الأب على أولاده بعد البُلوغ، وحارَبت الرابطة الأبديَّة للزواج، وعادتْ تماسُكَ الأسرة كما عادَت الدِّين أيضًا، ونادَتْ بإلغائه أو إعادة تنظيمه، وجعلَتْه خاضعًا لسُلطة الدولة لا مهيمنًا عليها.

ونحن في بلادنا لا شأنَ لنا بهذه الثورات، وقد أقرَّ عُلَماء الغرب أنفسُهم بأنَّ الثورة الفرنسيَّة تنتَمِي إلى تاريخٍ خاصٍّ بها، وكانت مسبوقة بإنتاجٍ فلسفي خاص بها، ومرتكزة إلى بناء اجتماعي ليس له أيُّ وجودٍ في العالم الإسلامي، وأقرَّ "برنارد لويس" - أشدُّ المستشرقين دَهاءً في إخفاء حقده على الإسلام - بأنَّه لا يمكن العُثور في اللغة العربية على لفظ مرادف لكلمة ثورة "[3] Revolution".

نشَأ علم الاجتماع بعد أنْ تَمَّ التأليف بين تيَّارين كانا يَسُودان في أوربا؛ هما: التيار العقلاني والتيار التجريبي، وهما تيَّاران يخلعان ثقتهما العظيمة على العقل والملاحظة كوسيلتين لحلِّ مشاكل الإنسان والمجتمع، ويَرَيان أنَّ المجتمَع يخضَعُ لسنن طبيعيَّة وليس لسنن إلهيَّة، وأنَّه يمكن حَلُّ مشكلات المجتمع بالكشف عن هذه القوانين لا بالرُّجوع إلى الله خالق هذه القوانين.

كلُّ فكرة من أفكار علم الاجتماع تَسُود في عالمنا اليوم يمكن ردُّها إلى ثلاثة اتِّجاهات رئيسة تَضرِب بجذُورها في علم الاجتماع؛ الاتجاه الأول هو الاتجاه (الراديكالي)، المتأثِّر بفلسفة التنوير، لم يكن هذا الاتجاه مقبولاً في البداية، لكنَّه فرَض نفسَه اليوم، يُنادِي أصحاب هذا الاتجاه بتغيير النظام القائم بالثورة عليه.

والاتجاه الثاني هو الاتجاه (الليبرالي)، وهو اتِّجاه يَقبَلُ النظام القائم، ولا يرى في الثورة مصدرًا للحريَّة، هذان الاتجاهان علمانيان إلحاديَّان، يقول أولهما: إنَّ إعادة بناء أوربا والإنسانيَّة لا يجبُ أنْ يقوم على الدِّين، ويُنادِي الثاني بتحرير الفكر من الدِّين، ويرى أنَّ التقدُّم لن يتحقَّق إلا إذا تحرَّر عقل الإنسان ورُوحه من الروابط الدينيَّة.

أمَّا الاتجاه الثالث، فهو الاتجاه (المحافظ)، يقفُ على رأسه "أوجست كونت"، الذي أُصِيب بأمراض عضوية واختلالات عقليَّة، وكان مُتزوِّجًا من بَغِيٍّ يتستَّر عليها ويَحمِيها من الشرطة، ثم أحبَّ امرأة سجين فرنسي هامَ بها عِشقًا، وخرج على العالَم بدِين جديد، ونصَّب من نفسه (بابا) هذا الدِّين.

كان أوَّل اسمٍ قرَع رُؤوسَنا بشدَّة ونحن طلاب في أيَّامنا الأولى من علم الاجتماع، هو اسم هذا المعتوه الفرنسي، وكان أوَّل ما تعلَّمناه منه هو قانون المراحل الثلاث، هذا القانون الذي أطاحَ بعقل نجيب محفوظ، فخرَج علينا برواياته التي تُهاجِم الله والدِّين، والأنبياء والرُّسل، وعلماء الدِّين وشُيوخه بصورةٍ رمزيَّة يَصعُب على غير المدقِّق إدراكُها.

الذي كان يريدُ أنْ يقوله لنا "كونت" من هذا القانون هو أنَّ عهد تفسير ما يجري في هذا الكون بالرُّجوع إلى الله وإلى الدِّين - قد ولَّى ومضى، إنَّه عهدٌ يُمثِّل الإنسانية في طُفولتها، إنَّ هذه الإنسانية تقدَّمت الآن وتخلَّت عن مثل هذه التفسيرات، ولم تَعُدْ تؤمن إلا بالعلم.

كان من أخطر الدروس التي تلقَّيناها في صِبانا "انفصال الدِّين عن العلم وتعارُضهما"، علَّمونا أنَّ من الرجعية والتخلُّف أن نُفسِّر الظواهر الطبيعية والاجتماعية تفسيرًا دينيًّا، فلا مجال في دراسة علم الاجتماع لتفسير الأحداث بالرُّجوع إلى الله والملائكة والجن والشياطين، فهذا كلُّه من الغيبيَّات، ومن أمور الميتافيزيقا التي لا يعترف بها العلم؛ لأنها خُرافة في خُرافة.

تعلَّمنا الفلسفة الوضعيَّة التي تحدَّثَ عنها هذا المعتوه، والتي استَغرَق تأليفها اثني عشر عامًا، وكنَّا نتوهَّم أنها مجرَّد تطبيق المبادئ العلمية على دِراسة الظواهر الطبيعيَّة والاجتماعيَّة، ما كُنَّا نَعِي أنها فلسفة إلحاديَّة لا تضع مكانًا لله أو للدِّين في حركة الظواهر، إلا بعد أنْ كشَفَها الشيخ مصطفى صبري - يرحمه الله - [4] كُنَّا نرى أن الدِّين والعلم في الإسلام متساندان، وطالما أنهما فلسفة علميَّة، فهي لا تَتعارَض مع الإسلام، لم نكن وحدنا الذين خُدِعنا بهذه الفلسفة، سبَقنا شيوخ الأزهر الذين كانوا يمتَدِحونها، وعرَفنا من الشيخ مصطفى صبري أنَّ الشيخ فريد وجدي قد وقَع في شِباكها، وعرفنا من أساتذتنا في علم الاجتماع الذين كانوا يكتبون بفخرٍ عنها أنها كانت وراء كتاب علي عبدالرازق "الإسلام وأصول الحكم"، ووراء أفكار طنطاوي جوهري، وأنها أحد أسباب سُقوط الخلافة الإسلامية[5].

عرفنا أنَّ الفلسفة الوضعيَّة تَعنِي: إحلال الروح العلميَّة محلَّ الروح الدينيَّة، وعرفنا أنَّ علم الاجتماع قد حلَّ بهذه الفلسفة مشكلات الأخلاق والدِّين، بنى هذا المعتوه الدِّين والأخلاق على فلسفته الوضعية التي لم يَعُدْ بها حاجة إلى الاعتماد على الدِّين، عرفنا أنَّ الفلسفة الوضعية تفصل الأخلاق عن الدِّين، وأنَّ "كونت" حاول أن يصطنع أخلاقًا وضعية بعيدة كلَّ البعد عن أيِّ فكرة دِينية، وخالية تمامًا من أيِّ مصدر إلهي.

الله عندنا هو محور الكون، ومن الله عرَفنا أصلَ هذا الكون ومصيرَه، وجاء أساتذتنا ليُعلِّمونا ما تعلَّموه من هذا المعتوه من أنَّه يستحيلُ على العقل البشري أنْ يصلَ إلى مفاهيم مُطلَقة، وأنَّه حينما يصلُ إلى المرحلة الوضعيَّة سيُقلِع تمامًا عن البحث في أصل الكون ومصيره، وعن معرفة العلل الباطنة من الظواهر، ليبدأ في الاستخدام العلمي المنظَّم المعتمد على الملاحظة والبَرهَنَة للكشْف عن القوانين التي تحكُم حركة الظواهر.

أدرَكْنا استحالةَ التقاء علم الاجتماع مع الدِّين؛ لأنَّ أساتذتنا علَّمونا أنَّ تأخُّر علم الاجتماع في الظُّهور كعلم وضعي ما كان إلا لأنَّ موضوعاته كانت تخضَعُ للأفكار الدينيَّة.

تعلَّمْنا من هذا المعتوه أنَّ المطلق لا وجودَ له في العالم، وأنَّه ليس إلا فكرة زائفة لا يقبلها علمُه الوضعي المحصور في المعرفة النسبيَّة، فقد كان المطلق الوحيد عنده هو "أنَّ كلَّ شيء نسبي" [6].

تعلَّمْنا من هذا المعتوه أنَّ الدِّين مَرَّ بثلاثة أطوار: بدَأ أولاً بالحالة الوثنيَّة؛ وهي عِبادة الطبيعة والشمس والنجوم، ثم مرَّ بمرحلة تعدُّد الآلهة، ثم انتهى إلى مرحلة التوحيد، عبادة الأصنام والشمس كما تعلَّمناها من "كونت" هي الصورة الأولى لفجر الدِّين، وأنَّ مرحلة تعدُّد الآلهة كانت مرحلة اضمحلال وتقَهقُر للفكر الديني، وأنَّ التوحيد هو السبب في ازدياد هذا الاضمحلال والتقهقُر في الفكر الديني.

علَّمَنا هذا المعتوه أنَّ مهمَّة علم الاجتماع هي أنْ يكشف عن سلسلة التحوُّلات المتتابعة للعنصر الإنساني، الذي بدأ من مستوى لا يَرقَى عن مجتمعات (القِرَدة العُليا)، وتحوَّل تدريجيًّا إلى حيث يجد الأوربيون المتحضِّرون أنفسهم اليوم.

الأديان عند هذا المعتوه وُلِدت من الخُزَعبِلات القديمة، ورأى أنَّ الدِّين يجب أنْ يبقى شكلاً، لكنَّ محتواه لا بُدَّ أنْ يتغيَّر؛ ولهذا انشغل في أواخر حَياته بصياغة دِين عالمي بلا إلهٍ، أبقى فيه على الطُّقوس، وبدلاً من أنْ يتَّجه الناس إلى إلهٍ غير مرئي، فإنهم يتَّجِهون إلى الإنسانيَّة لعبادتها.

اختَرَع هذا المعتوه دِينًا جديدًا أسماه (دِين الإنسانيَّة)، وهو دِين تثليثي كالنصرانية؛ أقانيمه: الموجود الأعظم: وهو الإنسان، والوثَن الأعظم: وهو الأرض، والمحيط الأعظم: وهو الفضاء الخارجي المحيط بالأرض، الوثَن الأعظم ضحَّى بنفسه فعرَّضَها للتقلُّب والمذلَّة ليكون منشئًا للموجود الأعظم، فنحن مَدِينون له بالعبادة شكرًا، لكنَّ ممثِّل الكمال الأعلى - وهو الإنسان - هو الأحق لأنْ يُتَّخذ معبودًا، والإنسان عند هذا المعتوه هو أفضل من الله، وأجدر بالعبادة؛ لكونه مستفيدًا من محبتنا، ومحتاجًا إلى خدمتنا، ولأنَّه لا يحثُّنا بالمكافأة على أفعالنا، والمرأة هي أجدَرُ بالعبادة؛ لأنها محلٌّ لتحقيق أماني الصداقة والعشق، جعل لها هذا المعتوه أربعة وثمانين عيدًا نحتفل بها، وتسعة مَراسِم تقديس في السنة[7].

كان هذا الدِّين الشاذُّ لهذا الفرنسي المعتوه ثمرةَ حُبِّه لزَوجة السجين، أحبَّ كونت (كلوتيلد دي فو)، أشعَلَ حبُّه لها قلبَه، وأثَّر في أفكاره ولون فلسفته، وانتهى من هذا الحب إلى القول: إنَّ العالم لا يمكن خلاصه وانتشاله إلا بدِين جديد يغذي في قلوب الناس محبَّة الغير الواهنة، ويُقوِّيها بتمجيد الإنسانية واتِّخاذها دينًا جديدًا وموضوعًا للعبادة، قال "كونت" في إحدى رسائله إلى محبوبته (دي فو): "لقد بدَأت الوضعيَّة الدينيَّة فعلاً في لقائنا الأول يوم الجمعة 16 مايو عام 1845"[8].

أمضى "كونت" أيَّام كُهولته في ابتكار نِظامٍ مُعقَّد من الطُّقوس والصلوات لهذا الدِّين الجديد، واقترح تقويمًا جديدًا استبدل فيه بأسماء الآلهة الوثنية وقدِّيسي العصور الوسطى أبطال الرُّقِيِّ والتقدُّم الإنساني [9].

وبلغت قمَّة شُذوذ هذا المعتوه حينما عيَّن نفسَه البابا الجديد للإنسانيَّة، ودعا المسلمين إلى التخلِّي عن دِينهم ودُخول هذا الدِّين الجديد [10].

نما "كونت" في مونبلييه في أسرةٍ تقليديَّة كاثوليكيَّة، فقَدَ الإيمان وهو في السادسة عشرة من عمره، وتحوَّل إلى شابٍّ مُتحرِّر يقرأ لـ(فولتير)، ثم سعى إلى إبعاد الله باسم الدِّين، وكان يقول: إنَّه مستعدٌّ لتقدير (الله) تاريخيًّا؛ شرط الانتهاء منه ومن ذكره نهائيًّا [11].

وقبل أنْ تنتَهِي قصَّتنا مع هذا الصنَم الذي أقامَه لنا أساتذتنا، أقاموا لنا صَنَمًا آخَر كان تلميذًا نجيبًا لكونت، إنَّه (إميل دوركايم) الذي كنَّا نقرأ في صدر ما ندرسه من مُقرَّرات إهداءات أساتذتنا مُؤلَّفاتهم لرُوحِه، لم يكن دوركايم معتوهًا كأستاذه، وإنما كان يهوديًّا خبيثًا سليلاً لأسرةٍ من الأحبار اليهود، تعلَّم العبريَّة، درَس التوراة و"بروتوكولات حُكماء صِهيَوْن"، أراد له أبوه أنْ يكون رجلَ دِين كما أراد هو ذلك لنفسه، لم يحدثنا أحدٌ عن خلفيَّته وانعكاسات يهوديَّته على فكره إلا حينما قرأنا عن مُخطَّطات اليهود وسَيْطرتهم الفعليَّة على العالم، عرفنا فيما بعدُ أنَّ نسبة علماء الاجتماع اليهود في الولايات المتحدة إلى أعدادهم تزيدُ ستَّ مرَّات، وعرفنا أنَّ اليهود يهتمُّون اهتمامًا غير عادي بعلم الاجتماع، وأنهم عاقدون العزمَ على تفادي نشر القيم، وأنهم يجدُون في إجراءات العلوم الاجتماعية الملاذَ في ذلك.

قرأنا ما كتَبَه "دور كايم" عن الدِّين والأخلاق، لكنَّ أساتذتنا لم يكونوا يعلمون أنَّه ينفذ تعليمات البروتوكول السابع اليهودي، الذي يدعو على زرع الألغام لتهديم الأديان، واستبدال مفاهيم رياضيَّة ماديَّة بمفاهيم الناس عن الله والرُّوح، كلُّ ما أعمى أبصارنا وأبصار أساتذتنا هو أنَّ "دوركايم" عالِم فَذٌّ أرْسى دعائم هذا العلم، وأوَّل مَن حدَّد خصائص الظاهرة الاجتماعية، وأبرز المنهج العلمي في دِراستها.

كان أساتذتنا يَهِيمون إعجابًا بدوركايم، وكانت رسائل الماجستير والدكتوراه تعرض وتشرح وتُفسِّر بإعجابٍ شديد آراءه وأفكاره.

أجرى هذا اليهودي دِراسةً عن الدِّين في عشيرة أستراليَّة بدائيَّة، وخرج من دراسته هذه بنتائج قال: إنها نظرية صالحة للتطبيق على مختلف (المجتمعات) وفي مختلف (الأزمنة)، كانت هذه العشيرة التي درسها "دوركايم" تعبُد (التوتم)، والتوتم هذا هو اسمٌ أو رمزٌ أو شعارُ العشيرة، وعلم يُعبِّر عن شخصيَّتها ويميِّزها عن غيرها، ويعتبر أفراد العشيرة أنفسهم مرتبطين بفضل هذا التوتم برباط قرابة قوي لا يقوم على صِلات الدم أو المصاهرة، وإنما يقومُ على اشتراكهم في اسمٍ واحد، هذا الاسم الذي تحمله العشيرة هو اسم نوع مُعيَّن من النبات أو الحيوان أو الجماد، تعتقد أنَّ لها أوثق الصلات به، هذا النوع النباتي أو الحيواني هو التوتم، وهو ليس حيوانًا بالذات كالسلحفاة أو الكنجارو، وإنما هو معنى كلي يُمثِّلهما على وجه العُموم، ويرمز التوتم إلى قوَّة غيبيَّة، وهو صورة أو وجود مقدَّس، الإله التوتمي هو القوة الغيبية، والتوتم هو الصورة المادية لهذا الإله.

الذي تعلَّمناه من أساتذتنا - وهم يشرَحُون لنا هذه النظرية المدمِّرة للدِّين - هو أنَّ (التوتمية) هي الصورة الأولى للحياة الدينيَّة، وهي أقدم أشكال الدِّين، وأنها مظهر شامل يُفسِّر وجود الله والنفس والعالم من وجهة النظر الاجتماعيَّة، تعلَّمنا أولاً أنَّ (الألوهية) ترجع إلى أصل توتمي، تعلَّمنا ثانيًا أنَّ (الألوهية) ما هي إلا (فكرة)، وأنَّ هذه الفكرة ليست عنصرًا مميزًا للحياة الدينيَّة، وأنَّ الدِّين لم يبدأ (بالإله)، ثم تعلَّمنا ثالثًا أنَّ الألوهية كفكرةٍ متغيِّرةٌ من حيث الزمان والمكان، وأنَّ (فكرة) الله في ذاتها في حاجة إلى شروط الثبات والمعقولية، تعلمنا رابعًا أنَّ الله والمجتمع هما شيء واحد، وأنَّ الله هو المجتمع، وأنَّ المجتمع هو الكائن المطلق، هو الله الذي يتجلَّى في روح الجماعة؛ لأنَّه قوة متسامية، وقيمة متعالية، تحقق غايات إنسانيَّة، ومُثُلاً جمعيَّة، وتعلَّمنا خامسًا أنَّ حقائق الدِّين تصدر من المجتمع على اعتبار أنها مسائل اجتماعيَّة.

تعلَّمنا بصفةٍ عامة أنَّ المجتمع هو الذي يفرز الدِّين، وأن الدِّين ليس نسقًا من الأفكار المتعلِّقة بموضوع محدَّد، وأنه لا شيء اسمه السموُّ والخلود والقَداسة، كلُّ ذلك أفكار وردت إلينا من العالم الاجتماعي.

دعا هذا اليهودي - مثلما دعا إليه أستاذُه المعتوه - إلى قِيام دِين وضعي علماني، وكان يطمح في مجتمع علماني يُسَيطِر عليه ما يشبه الحماسة الدينية، الدِّين الحي عند هذا اليهودي هو الذي ينبثق من الحياة نفسها وليس بما يُسمِّيه بالماضي الميت.

وعند أوَّل فرصة أُتِيحت أمام هذا اليهودي لوضْع أفكاره موضع التطبيق، أسهم في إصدار أوَّل قانون فرنسي في عام 1882 يحظر إمداد الأطفال في التعليم الأولي بتعليم دِيني من سنِّ السادسة إلى الثالثة عشرة، وطبق ذلك في المدارس الفرنسيَّة بالفعل.

وبعد أنْ قضى هذا اليهودي على كلِّ تفكير صحيح في عقولنا عن الدِّين، جاء ليُدمِّر الأخلاق وكلَّ تفكير صحيح في عقولنا عنها، قال دوركايم: "إنَّ علينا أنْ نصنع أخلاقًا لأنفسنا... إنَّه لكي نستطيع إصدار حكم سليم على الأخلاق ونعطيها حقَّها الواجب من الفهْم، فعلينا أنْ ننطَلِق من مُعطَيات الحاضر... إنَّ الحل الأخلاقي للمشكلة الاجتماعية إنما يكون من خِلال التربية العلمانية، ولكي تمارس هذه التربية دورها بكفاءةٍ وفاعليَّةٍ لا بُدَّ من وجودٍ قوي ومتعالٍ مثل (الله)، وهو المجتمع... إلخ".

ولم يُخفِ دوركايم أبدًا تعلُّقه بالعلمانية، التي رأى فيها ضَمانًا للترابط الاجتماعي، وشكلاً من أشكال الاحترام المتبادَل.

سار هذا اليهودي متَّسقًا مع المبادئ الماسونية وأفكار "سان سيمون"، فقال: "إنَّ الإصلاح الأخلاقي في المجتمع لا يتمُّ إلا بالإلغاء التدريجي لنظام الميراث" [12].

وراحَ رُوَّاد علم الاجتماع في بلادنا بلا فهم ولا بصيرة يترجمون إلى العربية ما كتبه هذا اليهودي عن (التربية الخلقية)، بلا أدنى كلمة اعتراضٍ، ولا حتى مجرَّد تعليق، ركَّز دوركايم في هذا الكتاب على سحب الأخلاق من القاعدة الأساسيَّة التي ترتكز عليها، وهي الدين، ترجم هذا الكتاب (السيد بدوي)، وراجعه (علي عبدالواحد وافي)، الذي أدخَلَ علم الاجتماع إلى واحدةٍ من أهم جامعاتنا الإسلامية، ولم ينبس ولو بكلمة تحذيرٍ واحدة تتعلَّق بخطورة هذا الكتاب.

ويمكن حصْر أهم الأفكار الخَطِرَة في هذا الكتاب على النحو التالي:
أولاً: تعليم تلاميذ المدارس أنَّ الأخلاق لا تعتمد على الدِّين، وإنما على العقل؛ حتى يتمَّ تخليصهما ممَّا يسمِّيه بالتحجُّر والثبات:
يقول دوركايم: "لقد استقرَّ عزمنا على أن تكون التربية الخلقية التي نُلقِّنها لأبنائنا في المدارس ذات صبغة دنيويَّة محضة، ونعني بذلك التربية التي لا تستند إلى المبادئ التي تقومُ عليها الدِّيانات المنزلة، وإنما ترتكز فقط على أفكار ومبادئ يُبرِّرها العقل وحدَه؛ أي: إنها في كلمة واحدة: تربية عقلية خالصة.

الواقع أنَّ بناء الأخلاق على أساسٍ عقلي يخلِّصها من التحجُّر والثبات الذي تتعرَّض له منطقيًّا إذا استندت إلى أساس دِيني".

ثانيًا: بعد أنْ يتمَّ فصل الأخلاق عن الدِّين، ويتمَّ تجريد المبادئ الدينية من طبيعتها وتسند إلى العقل - يتمُّ البحث عن وسيلة لإشعار الأطفال بعدم صحة الرموز الدينية، وبعدم الرُّجوع إلى الدِّين:
يقول دوركايم: "ويجب ألا ننسى أنَّه بالأمس فقط كان الدِّين والأخلاق يرتكزان على دعامة واحدة؛ إذ إنَّ "الإله" - وهو محور الحياة الدينيَّة - كان أيضًا الضمان الأعلى للنظام الخلقي، يجب ألا نكتفي بما نقوم به من فصلٍ ظاهري بين الدِّين والأخلاق، بل يجب أنْ نذهب بعيدًا وأن نقصد رأسًا إلى لب المبادئ الدينية؛ لكي نبحث بين ثناياها عن الحقائق الأخلاقية المخبَّأة؛ لكي نعرف كنهها بلغة العقل، وخُلاصة القول: إنه يجب علينا الكشف عن الرموز العقلية لهذه الأفكار الدينيَّة التي ظلَّت لفترةٍ طويلة تجرُّ في ركابها أهمَّ الأفكار الخلقية، حين نشرع في إنشاء تربية أخلاقيَّة غير قائمة على الدِّين، فلا يكفي أنْ نحذف؛ بل يجب أنْ نبدِّل، يجب أنْ نكشف عن هذه القوى الأخلاقية التي لم يستَطِع الناس حتى الآن تصويرها إلا في صورة رموز دينيَّة، يجب أنْ ننزع عنها هذه الرموز ونبرزها في حقيقتها العقلية العارية - إنْ صحَّ التعبير - وأن نجدَ الوسيلة لإشعار الطفل بحقيقتها دون الرجوع إلى أي وسيط ديني".

ثالثًا: التأكيد في النظام التعليمي - بعد إعادة صهره - على الاستعاضة عن الوحي بالعقل:
يقول دوركايم: "يجب علينا أنْ نصهر نظامَنا التعليمي في بوتقة حتى نستخلص منه شيئًا جديدًا، ويجب أنْ نستعيض عن مصدر الوحي القديم الذي لم يَعُدْ يبعث في القلوب إلا صدًى ضعيفًا خافتًا بمصدرٍ آخَر".

رابعًا: اعتبار المجتمع هو غاية السلوك الأخلاقي بدَلاً من "الله":
يقول دوركايم: "المجتمع هو غاية السلوك الأخلاقي، وما دُمنا قد حرمنا على أنفسنا الاستعانة بالأفكار الدِّينية، فلن نجد كائنًا معنويًّا واحدًا يَسمُو على الأفراد ويمكن ملاحظته تجريبيًّا سوى ذلك الذي يكون الأفراد عند اجتماعهم، وأعني به المجتمع، إنَّ الكائن الذي توجه الأخلاق إرادتنا نحوه، وتجعل منه هدفًا أسمى للسلوك لن يتعدَّى واحدًا من اثنين: إمَّا الكائن الإلهي، وإمَّا الكائن الاجتماعي، أمَّا الفرض الأول، فنستبعده على أساس أنَّه بعيد عن متناول العلم، فلم يبقَ إلا الثاني، وهو يَفِي بكلِّ حاجاتنا، ويحقق كل أمانينا؛ إذًا فما من شيء يصلح هدفًا للنشاط الأخلاقي سوى المجتمع، هو النموذج، وهو المصدر لكلِّ سلطة أخلاقية"[13].

تأليه المجتمع وإحلاله مكان "الله" هو الغاية التي سعى إليها هذا اليهودي، الواجب الخلقي يَصدُر من المجتمع، الكائن الأخلاقي الأعظم هو المجتمع، السلطة الأخلاقية العظمى تصدر من المجتمع، الخير الأسمى لسائر الناس هو المجتمع، المثل الأخلاقي الأعلى هو المجتمع، غاية الغايات هو المجتمع، المشرِّع الوحيد للقيم هو المجتمع، إنه خالقها وحافظها والحارس الأمين لكلِّ خيراتنا وفضائلنا، وهكذا تعلَّمنا من أساتذتنا، عبدالعزيز عزت يُهدِي مؤلفه عن الفلسفة وعلم الاجتماع إلى روح دوركايم، ويُصدِر كتابًا خاصًّا عن "الأخلاق" يُلخِّص لنا فيه الأفكار التي تعلمها من هذا اليهودي، ومن عبدالعزيز عزت وغيره من أساتذة الاجتماع المحدثين أيضًا تعلَّمنا أخطر مبدأ تعرَّضنا له، وهو أنَّ "الأخلاق نسبية وليست مطلقة، وهي وضعيَّة أيضًا، وتعلَّمنا تبعًا لذلك أنَّ ما هو أخلاقي وفاضل في مجتمعٍ ما، قد لا يكون كذلك في مجتمعٍ آخَر، وأنَّ الأخلاق تختلف باختلاف الزمان والمكان".

نجَح اليهود في تدمير الأخلاق غير القائمة على الدِّين، وأسند إلى دوركايم أوَّل منصب أكاديمي في فرنسا؛ لنجاحه في تطوير أخلاق علمانيَّة على مستوى التعليم الفرنسي، كان مدير التعليم العالي الفرنسي على إدراك كامل باهتمامات دوركايم وسعيه نحو الأخلاق العلمانية؛ فقدَّم له منحة إلى ألمانيا في عام 1887، وعيَّنَه في جامعة بوردو ليقوم بتدريس العلوم الاجتماعية وعلم أصول التدريس [14].

أصمَّ أساتذتُنا آذانَنا بكتاب دوركايم عن "تقسيم العمل الاجتماعي"، ولو كنَّا قرأنا مقدمته بإمعانٍ؛ لفهمنا خطورة هذا المؤلَّف على ديننا وعقيدتنا؛ لتأكيده على انفصال الدِّين عن العلم.

يقول دوركايم في مقدمة هذا المؤلَّف: "يُعتَبَر هذا الكتاب محاولة مثمرة لمعالجة حقائق الحياة الأخلاقية طبقًا لمناهج العلم الوضعي"[15].

كان التأمُّل في حقائق الحياة مرفوضًا عند دوركايم؛ لأنَّ العلم - والعلم فقط - هو الذي سيساعدنا على تكييف أنفسنا للواقع، وعلى تحديد ما هو مثالي، وعلى معالجة المشكلات، وبلغت به الثقة في العلم إلى درجة أنه ادَّعى أن العلم قادر على ألا يقف صامتًا حتى أمام الأسئلة المتعلقة بالمسائل المطلقة.

أعمى هذا اليهوديُّ أبصارَ أساتذتنا عن إدراك أي شيء غير مقولاته، لم تمتدَّ عيونهم إلى أبعد من أقدامهم وهم في أوربا، فلم يعرفوا أنْ "هنري بونكاريه" رفَض الأخلاق العلميَّة، وقال: إنها لم تكن ولن تكون، لم يعرفوا تلازُم الدِّين والأخلاق عند "فيخته" وقوله: "إنَّ الدِّين من غير أخلاق عبث، والأخلاق من غير دين عبث"، ولم يعرفوا أنَّ "كانت" لم يرَ ضمانًا للأخلاق يوثق به غير الدين، هذا إذا افترضنا أنَّ الإسلام قد مات في قلوبهم وليس لهم إلا الغرب قبلة يعترفون بها.

جُحر الضب الذي دخَل فيه أساتذتُنا أظلَمَ عليهم، فلم يُدرِكوا معنى أنَّ تلاميذ دوركايم من الفرنسيين - وعلى رأسهم "جاستون ريتشارد" - قد جهروا بإلحاده، وأنَّ من المربِّين الفرنسيين أنفسهم مَن صرخوا مُعلِنين خطورة هذا اليهودي؛ هذا "جان إيزوليه" يقول: "إن تأثُّر علم الاجتماع الذي يدرس في مائتي معهد للمعلِّمين في فرنسا بآراء السيد دوركايم وحدَه، من أعظم الأخطار القومية التي تُهدِّد البلاد"[16].

لم ينمَحِ من ذاكرتنا ما علَّمَه لنا أساتذتنا من أنَّ الدِّين ظاهرة اجتماعيَّة، وأنَّه نشَأ اجتماعيًّا، ولم يدرس لنا ذلك في الجامعات فقط، بل كان يدرس في المدارس الثانوية أيضًا[17].

وراح الجيل الجديد من الأساتذة ينقلون فكْر دوركايم هذا من مصر إلى العالم العربي كلِّه، إلى أنْ وصَل إلى الجامعات والمدارس في مدن الجزيرة العربيَّة نفسها، الرَّعِيل الأوَّل من أساتذة الاجتماع في بلادنا هم من تلاميذ المدرسة الفرنسيَّة هذه، هضَمُوا واستوعَبُوا تمامًا فكْر كونت ودوركايم وعلَّموه لنا.

يقول الدكتور محمد الجوهري - أستاذ علم الاجتماع بجامعة القاهرة -: "دخَل علم الاجتماع إلى مصر من الباب الفرنسي في وقتٍ مبكِّر تحسدنا عليه الكثير من الدول النامية"[18].

وتَصِفُ الدكتورة علياء شُكري - أستاذة علم الاجتماع بجامعة عين شمس - عُنفَ تأثير المدرسة الفرنسية وفِكر دوركايم على جيلها وجيل أساتذتها، فتقول: "إنَّ المدرسة الفرنسية هي من بين كافَّة المدارس الاجتماعية التي طبعت تقاليد علم الاجتماع في مصر بطابعها، ففي فرنسا ومن فرنسا أُلقِيت أوَّل دروس علم الاجتماع على الطلاب المصريين أساتذتنا الأوائل؛ سواء مَن ذهب بنفسه يدرس هناك، أو مَن تلقى مبادئ هذا العلم وقضاياه ومشكلاته على يد أساتذة فرنسيين في السنوات الأولى من علم الاجتماع بالجامعة المصرية (جامعة القاهرة حاليًّا)، لقد تلقَّينا ونحن طلاب بقسم الاجتماع بجامعة القاهرة دُروسًا عميقة في علم الاجتماع الفرنسي وفي دقائق علماء الاجتماع الفرنسيين، لم يكن يَخطُر ببالنا يومًا أنَّ إميل دوركايم قد أخطأ في رأيٍ من آرائه، أو قصَّر في دِراسة موضوعٍ من الموضوعات التي تناولها، أو أنَّ البحوث الحديثة قد تجاوزَتْه وتجاوزَتْ مدرسته في بعض النواحي".

وفي فقرةٍ أخرى لا تدعُ مجالاً للشك عن الدور الخطير الذي لعبَتْه المدرسة الفرنسية في السيطرة على عُقول الجيل الثاني من رُوَّاد علم الاجتماع في بلادنا، تقول علياء شكري: "إنَّ الفكر السوسيولوجي في فرنسا فكرٌ أمين على تراث علم الاجتماع، وإنَّ على كلِّ مَن يتناول علم الاجتماع الفرنسي المعاصر أنْ ينطلق من مدرسة "دوركايم"، إنَّ علم الاجتماع الحديث يَدِين بنشأته بشكلٍ مباشر إلى إنجازات المدرسة الفرنسيَّة الحديثة المعاصرة، وإنَّه لا يتصوَّر أنْ يشرع الدارس في دُخول هذا العلم دون أنْ ينهل من تراث هذا الفكر الكلاسيكي الرِّيادي الذي عبَّد الطريق أمام أجيالنا المعاصرة".

وفي مقدمة كتابها عن علم الاجتماع الفرنسي المعاصر، كتبت علياء شكري ما لا يحتاج منَّا إلى أيِّ إضافة أو تعليق، تقول: "... وإنما نحن نُقدِّم على صفحات هذا الكتاب باللغة العربية - فيما أعلم - معالجةً شاملةً، وإن تكن غير كاملة لفكر بعض علماء الاجتماع من المفكِّرين الاجتماعيين الفرنسيين، وعلى رأسهم أستاذي الراحل "جورج جيرفتش"، و"كلود ليفي ستروس"، فالواقع أنَّ معظم الكتابات العربيَّة عن علم الاجتماع قد غمطت هذين العالمين حقَّيهما من المعالجة المفصَّلة، ومع إدراكنا لما ينطوي عليه فكر هذين "العملاقين" من "غموض وصعوبة" على التناوُل، إلا أنَّ اقتحام المغامرة وبذل هذا الجهد الشاق رسالة أحسست أنَّ واجبي الأول أنْ أتصدَّى لها، خاصَّة في دراسةٍ كهذه كرَّسْتُها لعلم الاجتماع الفرنسي، وهما بلا جدال في جيل ما بعد دوركايم أبرز وجهين على ساحة علم الاجتماع الفرنسي"[19].

ظلَّ تأثير المدرسة الفرنسية قائمًا على أساتذة الاجتماع حتى أواخِر السبعينيَّات على مختلف الجامعات المصرية، باستثناء جامعة عين شمس التي يسَيطِر على أساتذتها في علم الاجتماع الفكر الماركسي اللاديني، وأسهَمَ الأساتذة الأجانب بدورٍ كبير في تدعيم تراث دوركايم في مصر، ومنهم عالم الأنثروبولوجيا المعروف "رادكليف براون".

آتَتْ جهود المدرسة الفرنسيَّة في ضرْب الإسلام ثمارها على يد أحمد الخشاب - أستاذ الاجتماع الأسبق بجامعة القاهرة - نظَر الخشاب إلى العقيدة على أنها أهمُّ عائقٍ في صِياغة نظريَّة عربيَّة، وأسماها بالأيديولوجيَّة الغيبيَّة، التي تُعتَبر إطارًا مرجعيًّا لتفسيراتٍ تبريريَّة لعقليَّة تسلُّطيَّة رجعيَّة[20].

هذه كانت أولى الثمار؛ ظهور جيلٍ من أساتذة الاجتماع العرب العقلانيين، الذين يرَوْن أنَّ التصوُّر الديني لم يعد الإطار المرجعي الأساس للفكر، وأنَّ التصوُّر العقلاني للعالم يُخلِيه من كلِّ ما هو مقدَّس، ويجعله يتكوَّن من عناصر قابلة للتركيب والاستعمال.

ومن المعروف أنَّ التراث العقلاني يرتَبِط بظُهور الفكر العلماني والتشكيكي في كلٍّ من فرنسا وإنجلترا في القرن التاسع عشر، وأنَّ العقلانية تتناوَل الدِّين تناولاً علمانيًّا بحتًا، وتخضع كلَّ ما هو دِيني ورُوحي وغيبي لأدوات تحليل عقلانيَّة، تنفي من المبدأ التصوُّرات الغيبيَّة.

لم ينجَحْ فكْر دوركايم في ضرب مفهوم الدِّين عند أساتذة الاجتماع في بلادنا فحسب؛ وإنما شوه هذا المفهوم عندهم أيضًا، فحتى هؤلاء الذين رفضوا اعتبار الدِّين ظاهرة اجتماعيَّة، أطاحُوا بشعائر الدِّين بعيدًا، وقبلوا اعتبار الألوهيَّة "فكرة"، واعتبروا الدِّين تجربةً يُعانِيها الصوفي، وأنَّ الله لا يتَّصل إلا بالإنسان الفرد، ولا ينكشف إلا في عُزلة ميتافيزيقية أو خلوة روحيَّة بعيدًا عن المجتمع، حاوَل هؤلاء الهروبَ من دوركايم، فوقعوا أسرى لأفكار الفيلسوف الوجودي "كيركجورد"[21].

الذي أردنا أنْ نقوله هنا أنَّ تأثير المدرسة الفرنسيَّة لم يقفْ عند حدود روَّاد علم الاجتماع الأوائل في بلادنا، إنما امتدَّ إلى الأجيال العديدة التي تلَتْهم حتى أواخر السبعينيَّات من هذا القرن.

انشغَلَ الجيل الأول بنقل الفكر الأوربي - وخاصَّة الفرنسي منه - إلى المكتبة العربية، تأثَّروا جميعًا بالمدرسة الفرنسية والفكر الدوركايمي، وحينما قرؤوا "مقدمة ابن خلدون" صبوها في إطارٍ دوركايمي، وعكست كتبهم برمَّتها هذا التأثير الفرنسي، علي عبدالواحد وافي واحدٌ من أتباع مدرسة دوركايم، تتلمذ على يد "فوكونيه" تلميذ دوركايم، لم يَتجاوَز وافي ولم يخرج عن الدائرة الدوركايمية، عبدالعزيز عزت لم يكن أقلَّ حماسًا من وافي في خُضوعه لفكر دوركايم، السيد بدوي هو الذي ترجم "التربية الخلقية" لدوركايم إلى العربية، كما ترجم للعديد من مُفكِّري هذه المدرسة، ولا يخرج عن ذلك أيضًا مصطفى الخشاب، وحسن سعفان، وغيرهما من الروَّاد الأوائل.

هاجَم الجيل الحالي من رجال الاجتماع في بلادنا الروَّاد الأوائل، واتَّهموهم بالتخلُّف، وبأنهم لم يكونوا قادِرين على مواكبة التطوُّرات الحديثة، سواء على المستوى العالمي، أو على مستوى استيعاب الواقع المحلي وتغيُّراته، وصَفُوا عهدهم بأنَّه حالِك السَّواد.

يقول محمد الجوهري مُشِيرًا إلى عهد هؤلاء الروَّاد: "... ولكنَّ الليل لا يمكن أنْ يكون حالكًا دونما نهاية، ولا بُدَّ أن تقشع بعضَ ظلمات الليل خُيوطٌ ولو واهية من ضوء الفجر"[22].

ولم يكن ضوء الفجر هذا إلا ظلمات وليلاً أشد حُلكة وظلمة من ذلك الذي أغرقنا فيه الروَّاد الأوائل.

لكنَّ أبرز ما كشف عنه محمد الجوهري هو أنَّ هذه الظلمة وهذا الليل الحالك السَّواد قد غَزَا جامعاتنا الإسلامية بلا استثناء، بما فيها ما يُسمِّيه بالجامعات الدينية[23].

دخَل هذا الظلام الحالك إلى جامعة الأزهر، تسلَّل إلى كلية اللغة العربية، ووقعت في هدوءٍ أكبرُ كارثة أكاديميَّة لم يفطن أحدٌ إلى حجم خُطورتها حتى الآن، عندما اقتحم علم الاجتماع كثيرًا من شُعَبِ كلية أصول الدِّين، وبالذات شعبة العقيدة، وامتدَّ أخطبوطه إلى كلية الشريعة وكلية البنات بجامعة الأزهر، أيضًا لتمتَزِج العقيدة العقلية اليقينية المقطوع تمامًا بأنها من الله - عزَّ وجلَّ - بنظريَّات ظنيَّة تُمثِّل انعكاسات للواقع الشخصي لمنظِّريها، ويختلط ما جاء به الأنبياء والرسل بما قاله العلماء والفلاسفة، ويذهب نَقاء هذا الدِّين وصَفاؤه مع ترَّهات علماء الاجتماع، كما ذهَب مع الطهطاوي من قبلُ.

الدكتور علي عبدالواحد وافي التلميذ المخلص الوَفِيُّ للمدرسة الفرنسية في علم الاجتماع يَصِفُ "دوركايم" بأنَّه "الشيخ العلاَّمة" لهذه المدرسة، ويصف هذه المدرسة بأنها صبَّت علم الاجتماع في أسس قوميَّة وسليمة، وأنها قدَّمت مؤلفات قيمة، وأنَّ العلم بفضلها خطَا خطوات حثيثة نحو الكمال، ويصف أعضاء هذه المدرسة - وعلى رأسها أستاذه فوكونيه - بأنهم نابهون[24].

بهذه الخلفيَّة أدخَلَ وافي علمَ الاجتماع إلى واحدةٍ من جامعاتنا الإسلامية البارزة بعد أنْ خَبَتْ شعلة الأزهر، ووضَع بنفسه منهجه وخطَّته، وألقى فيه محاضرات عامَّة وخاصَّة، ولم ينسَ بالطبع الإشارة إلى أنَّ هذا العلم سيدرس من منطلق إسلامي، وفي ضوء تعاليم الإسلام وما يُقرِّره من أحكام.

وفي جامعة إسلامية أخرى - زُرتها بنفسي - وهالني ما رأيتُه من اختلاطٍ في فُصول الدراسة بين الطلبة والطالبات، ومن صورةٍ لفتاةٍ محجبة ترتدي البنطلون في سِباقٍ للجري منشورة في قلب تقويم الجامعة، والأخطر من هذا وذاك أنَّ الجامعة هناك دمجت بين العلوم الاجتماعية والعلوم الشرعيَّة في قسمٍ واحد، ويتخصَّص الطالب في واحدةٍ من هذه العلوم بعد قضاء عامين تقريبًا في دراسته لكليهما، كما هالَنِي أنْ وجدتُ أنَّ أكثر من ثمانين بالمائة من مُقرَّرات علم الاجتماع لا تختلف عن مَثِيلاتها، ليس في أيِّ جامعة أخرى علمانيَّة، بل في أيِّ جامعةٍ غربيَّة كذلك، وفي جامعةٍ إسلاميَّة ثالثة انتُدِبتُ إليها مرارًا لم يختلف وضْع المقرَّرات في علم الاجتماع عمَّا أشرنا إليه في سابقتها، وعاصَرتُ فترةً تظاهرت فيها الطالبات من أجْل الاختلاط.

وعن حقيقة هذا الذي تُحاوِل جامعاتنا ربطَه بالإسلام، يقرُّ علماء الاجتماع في الغرب بأنَّ دراسة علم الاجتماع لا تهزُّ المعتقد الديني فقط، بل إنها تقتله كذلك.

يعترف بنتون جونسون باهتزاز الأساس الفكري للعلاقة بين الدِّين وعلم الاجتماع منذ لحظة تأسيس العلم[25].

ويعترف "روبرت بيلا" بأنَّ محاضراته عن الدِّين أدَّت إلى أزمات حادَّة في الإيمان بين طلابه، وأصرَّ "بيتر بيرجر" على ضرورة أنْ يكون منطلق علم الاجتماع هو الإلحاد المنهجي، ويجب أنْ يبدأ العلماء عملَهم انطلاقًا من الإنسان لا الله، وبضرورةٍ أنْ يعترف عُلَماء الأديان بالنتائج الإلحاديَّة التي وصلت إليها العلوم الاجتماعية، إنَّ عليهم أنْ يُكيِّفوا أديانهم مع الفكر الحديث [26]، علمًا بأنَّ لـ"بيرجر" هذا أنصارًا حتى في جامعاتنا الإسلامية، وهناك مَن هو على وشْك ترجمة أعماله إلى العربيَّة.

وتكشف البحوث الأمريكية أنَّ الشباب الذي لا يرفض الدِّين ولا القيم التقليدية، يُحجِم عن دراسة علم الاجتماع؛ لأنَّه يرى فيه تهديدًا للأمن النفسي الذي يمنحه له الدِّين [27].

كما تَكشِف هذه البحوث أيضًا أنَّ علماء الاجتماع الذين لا يَزال للدِّين صَدًى في نفوسهم، كما عبروا عن ذلك في توجُّهاتهم النظريَّة، لم يروا أنَّ المستقبل الكامل للدِّين، وظلَّ (الله) ابتسامة باهتة في أعمال الكثيرين منهم.

يرى مُؤرِّخو علم الاجتماع أنَّ القرن التاسع عشر كان قرن التخلُّص من الله أو التفكير فيه ولكن بصورةٍ مختلفة، كما يرون أيضًا أنَّ الله قد اختفى وإنْ كان قد نظم العالم قبل اختفائه، وأنَّ علم الاجتماع قد ظهَر في هذه الظروف محددًا أهدافه في فهْم أبنية المجتمعات الجديدة، وما إذا كان من الممكن أنْ يعيش الإنسان بدون إله.

ومنذ بُزوغ الخيوط الأولى لعلم الاجتماع أُعِدَّ له أنْ يحل محلَّ الدِّين، وليكون دينًا جديدًا، وأُعِدَّ لعلماء الاجتماع أن يكونوا رُسُلَ هذا الدِّين الجديد وأنبياءه، هذا ما قاله تلامذة "سان سيمون" الثلاثة، وهم "بازار" و"أنفانتان" و"كونت" في محاضراتهم التي ألقوها في باريس [28].

وقد حمل الأمريكيُّون لواء هذه الدعوة من الفرنسيين؛ يقول الباحثون الأمريكيون: "إنَّ مُعظَم القضايا التي تدخُل في ميدان علم الاجتماع لها ما يُناظِرها في الدِّين، وإنَّ المسألة ليست مسألةَ تشابُهٍ في القضايا فحسب، بل تشابهًا في الأدوار التي يضطلع بها علماء الدِّين وتلك التي يضطلع بها العلماء الاجتماعيون".

ويقولون أيضًا: "ليس هناك مَن يُنكِر أنَّ العالم الاجتماعي يُمارِس نفس الدور أو الوظيفة الاجتماعيَّة التي يقوم بها رجل الدِّين الذي يقرأ المستقبل في أحشاء الثور، وإنْ كان العالم الاجتماعي يقرؤه من الرسم البياني أو من تقريرٍ ما من الكمبيوتر".

وقالوا ثالثًا: بصراحةٍ واضحةٍ: "إنه يمكن النظر إلى علم الاجتماع على أنَّه أحد الضرورات البديلة للأديان التقليديَّة، إنَّ أحد الطرق التي يمكن التصرُّف بها بعد اختفاء الله هو خلق آلهة أخرى، وتطوير وسائل جديدة للخَلاص ولإنقاذ البشريَّة، ووضع تصوُّر جديد لبناء مملكة الإنسان التي ستحلُّ محلَّ مملكة الله التي اختفَتْ، ومن هنا ظهَر علم الاجتماع كدِيانة علمانيَّة جديدة".

وقالوا رابعًا: "إنَّ المعرفة فقط هي التي توصل إلى إدراك الحقيقة، وهي أساس إنقاذ الإنسان وخَلاصه، ولهذا رفَض علم الاجتماع الإيمان بالدِّين منذ نشأته".

نفذ الأمريكيون وَصايا هذا المعتوه الفرنسي وزميليه، وشكَّل علماء الاجتماع هناك جماعة دينيَّة، ولكن هل نجحوا في ذلك؟

ليقرأ رجال الاجتماع في بلادنا هذه الحقيقةَ الْمُرَّة التي انتهى إليها علم الاجتماع في الولايات المتحدة، عبْر تعليق العلماء الأمريكيين الذين يُتابِعون حركة علم الاجتماع كدِينٍ جديد، يقول هؤلاء العلماء: "لقد كان لعلماء الاجتماع كطائفة تلبس ثوب الدِّين نظرةٌ منحرفة للعالم، كانوا يعتقدون أنها صحيحة، وحاوَلُوا إقناع الآخَرين بصِدقها، واقع الأمر أنهم لم يُحقِّقوا أيَّ نجاحٍ في هذا الإقناع خارج قاعات الدرس، وكانوا يُغَطُّون فشلَهم المستمرَّ بمحاولات تنظيم أنفسهم، وعرض المكتسبات التي حقَّقَتْها جماعتهم في نشْر عقيدتها، كما كتبوا العديد من المقالات عن مُغامَراتهم الناجحة في هداية الوثنيين، وبذَلُوا جُهودًا في توثيق ما يقولون بعقْد محاضرات ومؤتمرات وندوات ولقاءات سنويَّة لإقناع أنفُسِهم بذلك، ومع بداية الستينيَّات صدَّق علماء الاجتماع الأساطير التي نسجوها حول أنفسهم مع تزايُد فُرَصِ العمل أمامهم، ومع توافُر ميزانيَّات للبحوث، وفتح أقسام جديدة لعلم الاجتماع، لم يكن النجاح الذي حقَّقوه إلا انعكاسًا لفشلٍ حقيقي؛ ولهذا كان لا بُدَّ لهم من البحث عن كبش فداء يلقون اللوم عليه، يجعلونه مَرَّةً في فساد مُؤسَّساتهم وجمعياتهم، وأخرى في فساد التوجيه النظري، وثالثة في فساد الجامعات نفسها، صاغوا كلَّ ذلك فيما أسموه بأزمة علم الاجتماع، التي لم تكن في حقيقتها سوى مرحلة انتقالية نحو معتقدات جديدة بدلاً من المعتقدات الخاصة بدِينهم الجديد" [29].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] قطب، سيد، المستقبل لهذا الدين، دار الشروق. القاهرة 1983 م، ص33 - 46.
[2] حجازي، محمد عزت، الأزمة الراهنة لعلم الاجتماع في الوطن العربي، نحو علم اجتماع عربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1986م، ص38.
[3] بادي، برتران، أثر الثورة الفرنسية في العالم الإسلامي، المجلة الدولية للعلوم الاجتماعية، باريس، 1989م، عدد 119 ص1.
[4] صبري، مصطفى، موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين، دار إحياء التراث العربي، بيروت الجزء الأول ص148-149.
[5] عيسى، محمد طلعت، أتباع سان سيمون وفلسفتهم الاجتماعية وتطبيقها في مصر، رسالة دكتوراه قُدِّمت لجامعة القاهرة، 1957 م، ص113.
[6] De Cappens, Peter Roche ,ideal Man in classical sociology, The pensylvania state uni press, 1976,pp.12-46.
[7] تابع: مصطفى صبري، ص148.
[8] لاكروا، جان، أوجست كونت؛ ترجمة: منى النجار الرافعي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ص89-90.
[9] Normano.J.F., Saint simon. And American social Forces oct.,1932,pp.8-14.
[10] تابع: طلعت عيسى، ص29.
[11] تابع: لاكروا، ص94.
[12] تابع De Cappens والتفصيلات الدقيقة عن دوركايم ص47 وما بعدها.
[13] بدوي، السيد، التربية الأخلاقية؛ لإميل دوركايم، راجع ترجمة علي عبدالواحد وافي، مكتبة مصر القاهرة، ص4 وما بعدها.
[14] clark T.Emile Durkkheim And the institutionalizaion of sociology in the French University System. Archieves d europeam de Sociologie.9.1. 1965 pp.37-17.
[15] Durkheim,Emile Divisim of habor in society,n.y.,1933,pp.32-35.
[16] علياء شكري، علم الاجتماع الفرنسي المعاصر، دار الكتاب للتوزيع، القاهرة 1979 ص36.
[17] من الكتب المدرسية التي يدرس فيها لطلبة الثانويات منذ زمن بعيد أنَّ الدين ظاهرة اجتماعية، كتاب مصطفى فهمي وآخرين، مبادئ علم الاجتماع، مكتبة النهضة المصرية القاهرة، الطبعة الأولى، القاهرة 1954، وغيره كثير.
[18] الجوهري، محمد، الكتاب السنوي لعلم الاجتماع، العدد الأول، دار المعارف - القاهرة ص7.
[19] علياء شكري، مرجع سابق، المقدمة.
[20] الخشاب، أحمد، الاجتماع التربوي والإرشاد الاجتماعي، القاهرة، ص495-496، وانظُر أيضًا مُؤلَّفه: في تاريخ التفكير الاجتماعي، ص8-13، (الدكتور أحمد الخشاب من أتباع المدرسة الإنجليزية أصلاً).
[21] إسماعيل، قباري أحمد، علم الاجتماع والفلسفة، دار المعرفة الجامعية الجزء الثالث ص155-158.
[22] الجوهري، مرجع سابق، ص8.
[23] تابع ص11.
[24] علي عبدالواحد وافي، علم الاجتماع، القاهرة 1966 الطبعة الثانية ص127-128.
[25] Johnson Benton, social Theory and the Religious Truth,Sociological Analysis 1977V.38,41,pp.368-388.
[26] Baum, symphony Commonal 1980,9, p.263.
[27] Glen, D.N. and Weiner, D. some trends in social origins of American sociologist,4,1969 p.300.
[28] Penguin books1975,p.69.Gouldner A.for sociology
[29] انظر مقالتنا: أزمة علم الاجتماع، مجلة المجتمع الكويتية، عدد 862-12 أبريل 1988 ص38-39.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رد مع اقتباس
  #4  
قديم 10-09-2014, 07:46 AM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود غير متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 56,039
ورقة مؤشرات الارتباط بين الماسونية وعلم الاجتماع

مؤشرات الارتباط بين الماسونية وعلم الاجتماع
ـــــــــــــــــــــــ


اعترافات علماء الاجتماع
-----------------
الحلقة الرابعة
------------

مؤشرات الارتباط بين الماسونية وعلم الاجتماع
------------------------------------

أخيرًا، سلَّم أحدُ رجال الاجتماع في بلادنا واعتَرَف بأنَّ الشُّكوك تحيطُ بنشأة علم الاجتماع؛ شكوكٌ تتعلَّق باختِيار اسمه ومَجالاته، ومَناهِجه وإجْراءاته، ولماذا تفجَّرَ التبشيرُ بهذا العِلم الجديد في الرُّبع الأوَّل من القَرن الماضي بالذات؟ هل لإقناع الناس بضَرُورة وُجودِه ومشروعيَّته، أم لأنَّ هُناك أهدافًا حقيقيَّة كانت تعمَل من وَراء سِتار؟ يَكفِينا هذا الاعتراف كنُقطةِ بِدايةٍ، وإن توَقف صاحبه عند هذا الحدِّ في كتابه الذي كرَّسَه لخِدمة توجُّهاته الماركسيَّة[1].

واقع الأمر أنَّ تأسيس عِلم الاجتماع - ذلك الذي يُدرَّس في كلِّ جامعاتنا، بما فيها الجامعات الإسلاميَّة - يرتَبِط ارتِباطًا وثيقًا باسم الفيلسوف الفرنسي (أوجست كونت)، وقليلاً ما يُشار إلى هذا الدور المهمِّ الذي لَعِبَه أستاذُه (سان سيمون) في تأسيس هذا العلم، إنَّ (سان سيمون) هذا هو مِفتاحُنا في بَيان مُؤشِّرات العلاقة بين الماسونيَّة وتأسيس علم الاجتماع.

الماسونيَّة في حقيقتها حركةٌ تنظيميَّة ذات طابع عالمي، ولكنَّها ذات هدفٍ يهودي على وجه التحديد تكرِّس كلَّ صور العصر وأدواته للحِفاظ على الإنسان اليهودي، وتُمكِّنه من السَّيْطرة على مَسار المجتمعات الإنسانيَّة، وتوجيه خُطاها بالتحرُّر من كلِّ ضَوابط الإيمان بالله، وهي أيضًا حركةٌ سياسيَّة تعمَل على تَقوِيض أركان كُلِّ سُلطة، دينيَّةً كانت أم مدنيَّةً، وهي في أصلها مؤسَّسة يهوديَّة في تاريخها ودَرجاتها وتعاليمها وكلمات السر فيها؛ أي: إنها يهوديَّة من الألف إلى الياء، وكل ماسوني ما هو إلا تجسيدٌ للعامل اليهودي، وهي في مُعتَقداتها ومُثُلِها ولُغتها وتنظيمها تُعبِّر عن الرُّوح اليهوديَّة، وتَتطلَّع إلى الآمال التي تَتطلَّع إليها إسرائيل وتدعَمُها، وخاصَّة ما يتعلَّق منها بالقدس[2].

أمَّا (سان سيمون)، فهو مفكِّر فرنسيٌّ، وُلِدَ في باريس في 17 أكتوبر 1760 م، كان منذ طُفولته ميَّالاً إلى التحرُّر من الدين ومن سُلطة الأسرة، ألحَقَه والدُه بدير (سان لازار) فترةً من الوقت، لكنَّه كان يُفضِّل السجن عن الالتزام بتعاليم الدِّين، عاش (سان سيمون) في الحي المعروف (رويال بالاس بباريس)، وهو الحي الذي كان يجمع في ذلك الوقت وزارةَ المالية والبورصةَ وبيوتَ اللعب والدعارة، كلاًّ في آنٍ واحد، عاشَر (سان سيمون) امرأةً اسمها (جولي جوليان) عشر سنوات، ثم بعَث بها إلى أحد أصدقائه بعد أنْ وجَدَها عِبئًا عليه، حاوَل الانتِحار فأطلق الرصاص على نفسه، ولم يمتْ؛ لكنَّه فقَد عينَه اليمنى، كانت تصرُّفاته مثيرةً للشك، وباعثةً على الريبة، كان لا يتَّخذ مذهبًا واحدًا في تفكيره، بل يعلن للناس مذهبًا، ويبطن آخَر يسرُّه إلى أصدقائه وخاصَّته، صادر البوليس كتاباته ومخطوطاته، واتَّهمه بالتضليل وهدم المبادئ الدينيَّة[3]، وهو عين ما تسعى إليه الماسونيَّة.

تعرَّف (أوجست كونت) على (سان سيمون) في عام 1817م بعد أنْ بلغ الأخير الستين من عمره، أعجب سان بكونت وجعَلَه سكرتيرًا له مدَّة ست سنوات، وكان من أقرب المقرَّبين إليه، تأثَّر كونت بسان سيمون تأثُّرًا كبيرًا، واستَقَى منه العديدَ من الأفكار المدمِّرة للدِّين؛ كفكرة الإنسانيَّة العالميَّة، وقانون المراحل الثلاث، والفلسفة الوضعيَّة، كان كونت يقول عن أستاذه سان سيمون: إنَّه "إنسان أصيل وطريف، وإنَّه يحمل له صداقة أبديَّة، ويُكنُّ له الحبَّ كوالده"، وما أنْ توتَّرت العلاقة بينهما لم يعدْ كونت يتحدَّث إلا عن "التأثير المشؤوم لصداقته المنحوسة مع أحد المشعوذين المختلِّين الذين التَقَى بهم في المرحلة الأولى من شبابه!"[4] ويقصد به سان سيمون.

وفي حين يرى البعض أنْ سان سيمون وأوجست كونت هما المؤسِّسان الرسميَّان لعلم الاجتماع الغربي، فإنَّ البعض الآخَر ينسب لـ(سان سيمون) وحدَه فضْل إقامة دَعائِم علم الاجتماع الحديث، وعلى رأس هذا البعضِ الفيلسوفُ الفرنسي الماسوني الشهير (برودون)، وهو أحدُ تلامذة سان سيمون، وأحدُ أبرز دُعاة الاشتراكيَّة، لم يكنْ برودون يُخفِي احتِقاره لكونت، وكان يرى أنَّ نظريَّات كونت ليست إلاَّ تكرارًا لنظريَّات سان سيمون[5].

ويرى رجال الاجتماع العرب أنَّ سان سيمون هو مؤسِّس علم الاجتماع الحديث في أوروبا، وأنَّ أهميَّته تَكمُن في أنَّه هو المفكِّر الوحيد الذي استَطاع أنْ يُؤثِّر على كلِّ اتِّجاهات علم الاجتماع المحافظة منها والراديكالية[6]، وهنا تُوضَع علامة استفهام كبرى!

حقيقة الأمر أنَّ الماركسيَّة (سلاح الجناح الراديكالي في علم الاجتماع)، وعلم الاجتماع المحافظ (ممثَّلاً في أوجست كونت) - نبعَا من مصدرٍ واحد، هو علم الاجتماع الغربي، وقد حدَّد (جولدنر) العلاقةَ بين علم الاجتماع والماركسيَّة من ناحية، وسان سيمون من ناحية أخرى، بقوله: إنَّ التصوُّرات السوسيولوجية التي قدَّمها كلٌّ من ماركس وكونت تجدُ جذورها العميقة في فِكر سان سيمون، وقد تحرَّك نصفُ علم الاجتماع المتمثِّل في الماركسية نحو الشرق بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، حتى أصبَحَ العلم الاجتماعي الرسمي في الاتِّحاد السوفياتي، أمَّا النصف الثاني من علم الاجتماع المتمثِّل في علم الاجتماع الأكاديمي، فقد تحرَّك نحو الغرب وشكَّل جُزءًا مهمًّا من الثقافة الأمريكيَّة[7] والماركسيَّة، كما جاء في بَيان المشرق الفرنسي الماسوني الأعظم لعام 1904 بـ(وليدة الماسونيَّة)، وكان مُؤسِّساها (كارل ماركس وفريدريك إنجلز) من ماسونيي الدرجة الحادية والثلاثين، ومن مُؤسِّسي المحفل الإنجليزي، وكانا من الذين أداروا الماسونيَّة السريَّة، وصدَر بفضلهما البَيان الشيوعي المشهور.

وكان النورانيون الماسون قد دعوا في مؤتمرهم في عام 1829م بنيويورك إلى ضمِّ الحركات الفوضويَّة في روسيا وأوربا الوسطى والمجتمعات الإلحاديَّة في أوربا إلى بعضها البعض، وجعلها في منظمة عالمية يُطلَق عليها الشيوعيَّة، وكلف ماركس وإنجلز بِمُقتَضى ذلك بوضْع المبادئ والنظريَّات التي من شأنها تنفيذ المشروع، وتَمَّ إمدادهما بالمال، فكتَبَا في حيِّ سوهو بلندن كتابهما: "رأس المال والبيان الشيوعي".

هذا، وتدلُّ كافَّة الأبحاث السياسيَّة ودراسة التاريخ التحليلي للظواهر الاجتماعيَّة والسياسيَّة على أنَّ الشيوعيَّة ما هي إلا شكلٌ من أشكال العمل الماسوني اليهودي السري الموجَّه[8].

لم يكن كارل ماركس يُكِنُّ أيَّ احترامٍ لأوجست كونت، وكان يعتَبِره مُهرِّجًا سياسيًّا، وعالمًا ضعيفًا[9].

تصدَّى ماركس للدِّفاع عن سان سيمون، وخاصَّة في كتابه "الاقتصاد السياسي والفلسفة"، وهناك عبارات بأكملها استمدَّها ماركس من سان سيمون، وعلى الأخص المتعلقة منها بفكرة علوم الإنسان، والأهم من كلِّ هذا وذاك هو أنَّ كثيرًا من الفقرات التي تضمَّنها المنشور أو البيان الشيوعي الذي أصدره ماركس وإنجلز وردت بصياغات مختلفة في أوَّل استعراض شامل قدَّمه (بازار) أحد تلامذة سان سيمون لمذهبه، وكان (بازار) هو أوَّل مَن استخدم عبارة (استغلال الإنسان لأخيه الإنسان)، وهو التعبير الذي استخدمه من بعده ماركس وأتباعه من الشيوعيين[10].

أمَّا دور كايم عالم الاجتماع الفرنسي اليهودي المعروف، الذي كان يُهدِي روَّاد علم الاجتماع في بلادنا كتبهم إلى روحه، وتعدَّدت الرسائل العلميَّة لطلابنا إعجابًا به وهيامًا به، فقد أكَّد في كتابه عن (الاشتراكيَّة): أنَّه "يجب أنْ ننسب إلى سان سيمون وحدَه الشرف الذي يُنسَب إلى أوجست كونت بأنَّه أنشَأ علمًا جديدًا، هو علم الاجتماع".

ويُضِيف دور كايم أنَّ سان سيمون لم يرسم فقط خطَّة هذا العلم الجديد؛ بل إنَّه حاوَل أنْ ينفذها، ويقول أيضًا بأنَّ جميع الأفكار التي تسود عالمنا اليوم تجد جذورها عند سان سيمون، ويؤكِّد (ماكسيم لروا) أنَّ سان سيمون وليس أوجست كونت هو الذي أنشأ علم الاجتماع، ويعتبر (لروا) أنَّ سان سيمون هو الأستاذ المشترك لكلٍّ من ماركس وبرودون ودور كايم، وأنَّه هو الذي مهد الطريق إلى الاشتراكيَّة.

مهَّد سان سيمون لأفكار ماركس، وأكَّد عالِم الاجتماع (جورج جيرفيتش) في محاضراته بالسوربون عن كارل ماركس وسان سيمون أنَّ ماركس قد تأثَّر بآراء سان سيمون التي عرفها أتْباعه عام 1829 - 1830، كان ماركس صديقًا للشاعر الألماني (هن)، وكان (هن) يتردَّد على صديقه ماركس كثيرًا، وكان يرشده وصديقه الشخصي في العاصمة الفرنسيَّة التي قَدِمَ إليها قبل ماركس، وهو الذي عرَّفه بأتباع سان سيمون وجعَلَه على صلةٍ وثيقة بهم[11].

ويكفي القارئ أنْ يعلم أنَّ هؤلاء الأتْباع الذين كان ماركس على صلةٍ وثيقة بهم قد رحَلُوا إلى مصر خصيصى لضرب الإسلام بأفكار سان سيمون، تمكنوا من احتلال أعلى المناصب، التي كان منها قيادة حرس محمد علي، ونذكِّر القارئ هنا مرَّة أخرى بمقولة ماركس التي امتدح فيها محمد علي لضربه الإسلام قائلاً: "إنَّ محمد علي هو الشخص الوحيد القادر على إحلال رأس حقيقي محلَّ عمامة المراسم"[12].

كان سان سيمون قد التَقَى - كما يقول المؤرخ (ألبير ماتييه) - في عام 1791 بالزعيم الشيوعي (بابيف)، وأصبح سان سيمون بعد هذا اللقاء واحدًا من كِبار الأثرياء بعد أنْ تعدَّدت أسفاره.

هذا، ويمكن بوضوح شديد تلمُّس أفكار كارل ماركس عن الطبقات والصِّراع الطبقي، وتضامُن الطبقة العاملة (البروليتاريا) في فكْر سان سيمون، كان الأخير يرى أنَّ طبقة الصنَّاع يجب أنْ تشغل الصفَّ الأول؛ لأنها أكثر الطبقات أهميَّة؛ لأنَّ الغالبيَّة العُظمَى من المُواطِنين في أيِّ مجتمع ينضَوُون بالضرورة تحت طبقة الصنَّاع، ولكنَّ أفراد هذه الطبقة يفتَقِرون إلى الإحساس بروح التضامُن الطبقي الذي يجمع شملهم، وأنَّه لا بُدَّ من تضافُر الصنَّاع للقَضاء على الطبقة غير المنتجة[13].

هذه المبادئ الاشتراكيَّة - كما تكشف واحدةٌ من المجلات الألمانيَّة الماسونيَّة الصادرة في عام 1894 - كانت خيرَ عضدٍ للماسونيَّة، فناصرَتْها تمامًا، كما جاء في البروتوكول الثالث من بروتوكولات اليهود:
"إنَّنا نقصد أنْ نَظهَر كما لو كنَّا المحرِّرين للعمَّال، جِئنا لنُحرِّرهم من هذا الظُّلم، حينما ننصَحُهم بأنْ يلتَحِقوا بطبقات جيوشنا من الاشتراكيين والفوضويين والشيوعيين، ونحن على الدَّوام نتبنَّى الشيوعيَّة ونحتضنها، متظاهرين بأنَّنا نُساعِدُ العمال طوعًا لمبدأ الأخوَّة والمصلحة العامَّة للإنسانيَّة، وهذا ما تُبشِّر به الماسونيَّة الاجتماعيَّة"[14].

ومن أبرز المبادئ الاشتراكيَّة التي دعا إليها سان سيمون "إلغاء حقِّ الوراثة وإلغاء الملكيَّة الفرديَّة"، تصوَّر سان سيمون أنَّ فَساد المجتمعات ناتجٌ عن وجود الملكيَّة الفرديَّة، ورأى أيضًا أنَّ حقَّ الوراثة يُفسِد العلاقات الاجتماعيَّة[15].

وعن علاقة إلغاء حقِّ الملكيَّة والوراثة بالماسونيَّة هناك مشروع (آدم وايز هوايت) - أستاذ اللاهوت والقانون الديني بجامعة (أنغولد شتات) - الذي اعتَنَق اليهوديَّة، واستَأجَرَه اليهود في عام 1770 لإعادة تنظيم البروتوكولات اليهوديَّة القديمة في ثوبٍ جديدٍ، أنهى (هوايت) مشروعَه في عام 1776، وكان أهم ما تضمَّنته بنود المشروع: إلغاء الإرث، وإلغاء الملكيَّة الخاصَّة، إلى جانب إلغاء الأديان بالطبع[16].

وكما كانت الماسونيَّة وسان سيمون وَراء المبادئ الاشتراكيَّة والنظام الشيوعي، كانا أيضًا وَراء الرأسماليَّة ووَراء العُلوم الاجتماعيَّة، والفلسفة، والاقتصاد، والدِّين، والسياسة، والتاريخ، والتقنية، والصناعة، والحرب الأمريكيَّة، وإنشاء الممرَّات حول العالم، وصِياغة مواثيق عُصبة الأمم لخِدمة الأهداف الماسونيَّة.

يقول جي نورمانو - الأستاذ بجامعة هارفارد - في مقالةٍ يصفُ فيها عالميَّة وإسهامات سان سيمون: "كلُّ العلوم الاجتماعيَّة خصَّبَتْها كتابات سان سيمون، الاشتراكيَّة من صُنع سان سيمون، وهو في نفس الوقت بنى الرأسماليَّة التي تُعَدُّ إحدى الإنجازات التي كان يحلم بها والتي تُميِّز عالمنا اليوم، أثر سان سيمون في الفلسفة والاقتصاد، وفي التاريخ والدِّين والسياسة، هو المؤسِّس الأوَّل لعلم الاجتماع، وهو الذي صاغَ مسوَّدة عُصبة الأمم في عام 1814، وهو فوق كلِّ ذلك قائدٌ للنُّخبة الجديدة من السياسيين والصحفيين ورجال التقنية والصناعة، وهو المتحدِّث الرسمي باسم الجيل الذي يحمل روح التحديث الثائرة، شارَك في الحرب الأمريكيَّة في عام 1779، سافَر إلى المكسيك ليعرض على حاكِمها مَشرُوعًا لإنشاء ممرٍّ يُوصل المحيط بالبحر"[17].

من أين لرجلٍ بمفرده كلُّ هذه القدرات التي تحدَّث عنها نورمانو في مقالته التي كتَبَها دِفاعًا عن سان سيمون وأتباعه؟ سرعان ما تنكَشِف الحقيقة حينما يظهَر ارتباط سان سيمون برجال المال والبنوك اليهود في أوروبا وأمريكا، وعلى رأسهم (روتشيلد).

لَمَع اسم (روتشيلد الأول) - الذي عاش من عام 1743 إلى عام 1812م - في ميادين الصيرفة والمراباة وسائر المعاملات الماليَّة، فوجَّه الحاخامات اليهود أنظارهم لاستِخدامه واستخدام أسرته في تنفيذ مُخطَّطاتهم العالمية الكبرى، ونبَغ في هذا المجال أحدُ أبنائه (ناتان روتشيلد)، فحمل مع أبيه ومن بعده بالاشتراك مع جماعةٍ من رِجال المال اليهود من المُرابين العالميين تنفيذ مخطَّطات الحاخامات اليهود، وكان (روتشيلد الأول) قد دعا اثني عشر يهوديًّا من أرباب المال العالميين إلى (فرانكفورت)، وكان إذ ذاك في الثلاثين من عمره، وعقد المجتمِعون مؤتمرًا لتأسيس احتكارٍ عالمي يَسُوقون فيه أموال العالم إلى سُلطانهم؛ لتَسخِيرها في تحقيق الأهداف اليهوديَّة العالميَّة[18].

أُعجِب (روتشيلد) بأفكار (سان سيمون)، وتُشِير المذكِّرات المعاصرة إلى تَعاطُف (آل روتشيلد) اليهود مع أتْباع سيمون وأفكارهم، تلك التي حمَلُوها معهم إلى مصر وحاوَلُوا تطبيقها، هناك أيضًا علاقة سيمون مع رجل البنوك اليهودي (أوليند رودريج)، الذي أخَذ على عاتِقِه مهمَّة نشْر أفكاره وتحمل تكاليف ذلك.

يُضاف إلى ذلك أنَّ أخلص تلاميذ سان سيمون - وهو (إنفانتان)، قائد حملة الأتباع إلى مصر - كان ابنًا لأحد رجال البنوك، وكان (سان سيمون) على علاقةٍ وثيقة (بفرنسيسكو كابرس) مؤسس بنك (سانت تشارلز) بإسبانيا، الذي عرض بالاشتراك معه على الحكومة الإسبانية مشروع قناة (إنبار تيرو).

وكما كان الشيوعيُّون وراء سان سيمون وهو يتحدَّث عن تضامُن الطبقة العاملة والصِّراع الطبقي وإلغاء الملكيَّة الفرديَّة وحق الإرث - كان الرأسماليون وراءه أيضًا، كان رجال الأعمال من أكبَرِ المدافعين عنه وهو يتحدَّث عن ضرورة سَيْطرتهم على الثروات العامَّة، والانفِراد بحكم البلاد، وضرورة أنْ يعهد إليهم بإدارة الثروات العامَّة؛ لأنهم - في نظره - هم الذين يستطيعون تحقيق رغبات الرأي العام[19].

وبذلك تمكَّن اليهود من إحكام سَيْطرتهم المالية على العالم بمختلف نُظُمِه التي كانوا وراءها، سواء أكانت اشتراكيَّة أم رأسماليَّة.

إنَّ وقفةً دقيقة عند الكلمات التي أشرنا إليها لنورمانو عن سان سيمون، وارتباطات الأخير برجال البنوك والمال اليهود، وخاصَّة (آل روتشيلد)، وكذلك عند مقولة (دور كايم): "إنَّ جميع الأفكار التي تَسُودُ عالمنا اليوم تجدُ جذورها عند سان سيمون" - لَتَكشِفُ بوضوحٍ أنَّ عِلم الاجتماع لم يكنْ إلاَّ اختراعًا ماسونيًّا يهوديًّا، رُوعِي فيه أنْ يحتوي ويشتَمِل على مختلف التيَّارات الفكريَّة التي تُوجِّه حركة المجتمع، سواء أكانت محافظة أو ثوريَّة، بحيث لا تَخرُج عن الأُطُر التي حُدِّدتْ لها، لكن هذه التيَّارات مهما اختلفَتْ، فإنها تتَّفِق على شيءٍ واحد، وهو (ضرب الدِّين).

يضرب الاتِّجاه المحافظ الدِّين بدعوى الإيمان بالقيم الإيجابية للجوانب غير العقلانيَّة من السلوك؛ كالتقاليد والخيال والمشاعر والدِّين، مع القول باستحالة إقامة ما يُسمُّونه بالعقائد الدينيَّة التقليديَّة بشَكلِها القديم، ثم العمل على إيجاد مجموعةٍ من المعتقدات والقِيَم التي تَظهَر في دِيانةٍ وضعيَّة علميَّة يلتفُّ الناس حولها، لكنَّها ليس لها ارتباطٌ بإلهٍ أو جنَّة أو نار، ويضرب الاتجاه الثوري الدِّين ضربًا مباشرًا بنَقدِه العنيف للدِّين، ورفضه ما يسمِّيه بالعقليَّة اللاهوتيَّة الغيبيَّة.

وتُعتَبر الثورة الفرنسيَّة أحد أوجُهِ الارتِباط بين سان سيمون والماسونيَّة، مهَّدت الماسونيَّة للثورة الفرنسيَّة كما جاء في مجلَّتها آكاسيا الصادرة في عام 1903، ولعبت الماسونيَّة - كما جاء في محفل إنكرس الأكبر الماسوني عام 1923 - أهم الأدوار في إشْعال الثورة الفرنسيَّة، وقال الماسون فيها: "يجب أنْ نكون على أُهبَة الاستعداد للقِيام بأيِّ ثورةٍ منتظرة في المستقبل"[20].

عاصَر سان سيمون هذه الثورة وعايَش أحداثها، وتكشف سجلات الثورة المدوَّنة أنه أصبح في فترات لاحقةٍ أكثر ولاءً وحماسًا لها، وشارَك في بعض إجراءاتها، بل إنَّه مُنِحَ في عام 1793 شهادة المواطن الصالح مرَّتين، وشارَك أيضًا في خريف العام نفسه كعضوٍ فعَّال في الحلقات الثوريَّة المتطرِّفة في باريس[21].

أمَّا أبرز صُوَرِ العلاقة بين سان سيمون والماسونيَّة، فهي (فكرة الإنسانية) التي تُعتَبر المحور الأساس الذي تدورُ في فلكه نظريَّات علم الاجتماع[22].

يقول (هاوكنز) في "موسوعة الدِّين والأخلاق": "إنَّه يمكن أنْ ننظُر إلى الماسونيَّة على أنها دِين من صُنع الإنسان"[23].

أمَّا جيمس كارتر، فيقول: "إنَّ الماسونيَّة تُحاوِل أنْ تنمِّي دينًا جديدًا يتَّفق عليه كل الناس"[24].

وفكرة الإنسانيَّة العالميَّة هذه فكرةٌ ماسونيَّة تهدف إلى أنْ تحلَّ عبادة الإنسانيَّة محلَّ العبادة بدلاً من الله، وقد جاء في مضابط الشرق الأعظم الماسوني عام 1913 قولهم: "وسوف نتَّخذ الإنسانية غايةً من دون الله"[25]، وجاء أيضًا في كتاب "معنى الماسونيَّة" قول (ولمشهرست): "لا يَزال المعبد غير مكتمل الآن ولم ينتهِ بعد، إنَّه هذا الكيان الجمعي من الإنسانيَّة نفسها، ونحن نعرف كيف نُكمِله"[26].

والمذهب الإنساني أو النَّزعة الإنسانيَّة كما يَراه عالِمَا الاجتماع (ماكيفر وبيج) مذهب يَنزِع إلى التخلِّي عن أحكام ما فوق الطبيعة المتعلقة بالخلق والجنَّة والنار، وما تنطَوِي عليه النَّفس من خطيئة، وما أشبَهَ ذلك... ثم يعمل جاهدًا على أنْ يجمع الناس على أساسٍ من قواعد الأخلاق الاجتماعيَّة، لا على أساس المذهب الديني، أو الجماعات الدينيَّة، أو المعتقدات بوجهٍ عام[27].

والنَّزعة الإنسانيَّة طريقةٌ للتفكير تؤكِّد على أهميَّة الإنسان في طبيعته ومكانه في العالَم، وتجعَل من الإنسان وليس الله محورَ الكون؛ ولهذا فإنَّ الإنسانيَّة في جملتها وتفصيلها ثورة ضد الدِّين الذي لا تؤمن به ولا بالتدخُّل الإلهي، وترفض الله والغيبيَّات، وليس فيها مكانٌ لما هو مقدَّس أو مُوحًى به، وترى أنَّ مستقبل الحياة على الأرض يقَع على أكتاف الإنسان وحده؛ ولذا فهي تُركِّز على الحياة الدنيا دون الآخرة.

هذا، وقد أعادَ أصحاب النَّزعة الإنسانيَّة في العصر الحديث تعريف (الدين والله) بصورةٍ تؤدِّي إلى الاستِغناء عنهما بطريقةٍ مُستترةٍ غير مباشرة، لا بطريقةٍ صريحة مكشوفة.

(الله) عند البعض منهم: هو المُثُل الإنسانيَّة العليا والمبادئ الاجتماعية وحدَها، وعند البعض الثاني: هو الذات الشاملة في كلٍّ منَّا، وعند البعض الثالث: هو التفاعُل المتبادَل بين الأفراد، ومن ثَمَّ تبتَعِد هذه التعريفات عن المفهوم الحقيقي للألوهيَّة، وتقطع الصلة تمامًا بينها وبين مفهوم (الله) المألوف عند الناس.

أمَّا (الدِّين)، فهو عند أصحاب النَّزعة الإنسانية: اتِّجاه أو موقف وليس بمضمون، فالشيوعيَّة والإلحاد تدخُل بذلك ضمن الأديان، ويرى (لامونت) أنَّ أيَّ دعوة منظمة تنظيمًا اجتماعيًّا تنجَح في كسْب وَلاء الناس وعواطفهم هي دِين، وعلى هذا الأساس تكون: كرة القدم، ونقابات العمال، والإجراءات السياسيَّة، والجيوش، والجمعيات الأدبيَّة، من ضروب النشاط الدِّيني[28].

وتقول النشرة الماسونيَّة في 15 ديسمبر 1866: "علينا نحن الماسون أنْ نتحرَّر من كلِّ اعتقاد بوجود الله".

وجاء في نشرة 1922 القول: "ستقوم الماسونيَّة مقام الدِّين، والمحافل مقام المعابد".

وجاء في نشرة الشرق الأعظم في فرنسا في يوليو 1856: "نحن الماسون لا يُمكِننا أنْ نتوقَّف عن الحرب بيننا وبين الأديان؛ لأنَّه لا مَناصَ من ظفرها أو ظفرنا، ولا بُدَّ من موتها أو موتنا، ولن نَرتاح إلا بعد إقفال جميع المعابد"[29].

أمَّا (سان سيمون)، فقد أوضَحنا أنَّه كان منذ طُفولته ميَّالاً إلى التحرُّر من شؤون الدِّين، وكان يرى أنَّ الدِّين ما هو إلا اختراعٌ قامت به الإنسانيَّة، والعلم عنده هو الذي يجبُ أنْ يكون دِيانةَ المستقبل، يقول سان سيمون في أحد كتاباته: "بالنسبة لكم أيها السادة الذين تعلَمون جيدًا كم باتَت العقائد القديمة خاليةً من القوَّة والحياة، باتَ لا مفرَّ من أنْ تَشعُروا بقوَّة الحاجة إلى عقيدةٍ عامَّة جديدة تنتَمِي إلى الحالة الراهنة للحضارة والمعارف".

وقال أيضًا في موضعٍ آخَر: "إنَّ الدِّين يُصابُ بالشيخوخة مثْل المؤسسات الأخرى، وهو مثْل المؤسسات الأخرى بحاجةٍ إلى أنْ يتجدَّد بعد فترةٍ من الزمن"[30].

ويظهر اتِّجاه سان سيمون المادي الإلحادي على النحو التالي:
1- يرى سان سيمون أنَّ الإنسان هو الذي اختَرَع الله مَدفوعًا بدوافع ماديَّة، وبعد أنْ تَمَّ له ذلك الاختراع اعتَقَد في أهميَّة نفسه، ويذهَبُ سان سيمون إلى أبعد من ذلك فيقول: "إنَّ فكرة الله[31] في الحقيقة فكرةٌ ماديَّة، وهي نتيجةٌ لدورة السائل العصبي في المخ".

2- اقتَرَح سان سيمون تكوينَ جمعيَّة من واحدٍ وعشرين عُضوًا لتمثيل الإرادة الإلهيَّة في هذا الكون.
ويقول سان سيمون: إنَّ الله يُحدِّثه ويُوحِي إليه بفكرة الديانة الجديدة - ديانة نيوتن - ويقول له: "إنَّ مجلس نيوتن سوف يُمثِّلني على الأرض"، فيقسم الإنسانيَّة إلى أربعة أقسام: (الإنجليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية)، وسوف يكون لكلِّ قسمٍ من هذه الأقسام مجلس على غِرار المجلس الرئيس، وسوف يرتَبِط كلُّ فرعٍ في العالم - مهما كان مَوطِنه - بأحدِ هذه الأقسام (الأوربية الغربية بالطبع)، وبالمجلس الرئيس، ومجلس القسم الذي يتبعه، وينتخب النساء في هذه المجالس على قدَم المساواة مع الرجال[32].

ومن المُضحِكات المُبكِيات أنْ يَعرِض رجال الاجتماع في بلادنا على طلابهم آراء سان سيمون بإدارة شؤون الإنسانيَّة وفقًا للجنسيَّات السالفة الذكر، بطريقةٍ تعكس مدى ضَحالة ونضب العقيدة فيهم، بالإضافة إلى السطحيَّة الشديدة في الفَهم.

هذا محمد الغريب عبدالكريم - أستاذ ورئيس قسمي الاجتماع وعلم النفس بجامعة أسيوط بمصر - بدلاً من أنْ يشرَحَ لطلاَّبه ما وَراء أفكار سان سيمون، نجدُه يحتجُّ على سان سيمون؛ لأنَّه تجاهَل أقدم شعوب الأرض، مثل: الشعب المصري، والهندي، والصيني... التي كانت يجب أنْ تُمثَّل في مجلس نيوتن الذي يُمثِّل الإرادة الإلهيَّة لإدارة شؤون الإنسانيَّة[33].

3- كتَب سان سيمون مشروعَ تأسيس موسوعة يدخل تحتها كل ما هو ليس (بدِيني)، وقال في هذا المشروع: "إنَّني أعتقدُ في الله الذي خلَق العالم وأخضَعَه لقانون الجاذبيَّة"، هذا (الإله) الذي يعتَقِد فيه سان سيمون ليس سوى مصطلح جديد للطبيعة في صُورتها المثاليَّة، أو كما يُعبِّر عنه بأنَّه: "النظام العظيم للأشياء"، وقد حدَّد رجال الاجتماع العرب (الله) عند سان سيمون بأنَّه إلهٌ مجرَّد لا شخصي، خالدٌ في الطبيعي، ومذهبه النهائي شكلٌ من أشكال وحدة الوجود.

وعن اتِّساق مفهوم سان سيمون عن الله مع مفهوم الماسونيَّة، يقول تلميذه الفيلسوف الاشتراكي الماسوني (برودون): "ليست الماسونيَّة سوى نكران جوهر الدين، وإنْ قال الماسون بوجود الله أرادوا به الطبيعة وقواها الماديَّة، أو جعَلُوا الإنسان والله كشيءٍ واحد"أو أو جعلوا الإنسان والله ككشئ واحد، ونتيجةً لهذا الإلحاد البيِّن؛ فقد صُودِرت مخطوطات مشروع إنشاء الموسوعة الجديدة، واتُّهِم سان سيمون بالتضليل وهدْم المبادئ الدِّينيَّة.

4- ارتَبَط هدْم سان سيمون للدِّين بهدْم الأخلاق القائمة على الدِّين، ودعا إلى أخلاق دنيويَّة تقومُ على العمل والتعامُل بمنأى عن كلِّ نزعةٍ روحيَّة أو سماويَّة؛ بمعنى: إعادة بناء الأخلاق على أسسٍ جديدة، يتمُّ عبرها الانتقالُ من الأخلاق السماويَّة إلى الأخلاق الأرضيَّة التي تَتلاءَم في تصوُّره مع التطوُّر الفكري والعلمي المعاصر، ويقرُّ رجال الاجتماع العرب بأنَّ الأخلاق عند سان سيمون مسألة دنيويَّة علمانيَّة أساسًا لا غاية لها فيما وَراء القضايا الزمنيَّة، وهدفها تحقيقُ أقصى قدرٍ من السعادة في الحياة.

5- بعد أنْ قضى سان سيمون على الدِّين والأخلاق القائمة عليه، أبرَزَ دور (الفن)، هذا السلاح الماسوني المهم، وقال: إنَّ الفن سيُسهِم في صِياغة الأخلاق القائمة في المجتمع، وسيُشكِّل المعتقدات والآراء والمشاعر.

أمَّا الموسيقا، فهي عند سان سيمون وسيلةٌ من وسائل التثقيف الخلفي، وقد حدَّد (ولمشهرست) في كتابه "معنى الماسونيَّة" علاقتها بالموسيقا قائلاً: "إنَّ الموسيقا ليست هي هذا النوع الوسيلي أو الذي يُعبَّر عنه بالصوت، إنها التطبيق الحيُّ لفلسفتنا، إنها توافق الحياة الإنسانيَّة بانسجامٍ مع الله، حتى تُصبِح الروح الشخصيَّة متَّحدة مع الله"[34].

6- أسَّس سان سيمون مذهب (الوضعية)، هذا المذهب الذي انخدَع به عُلَماء الأزهر في بلادنا، وكان أحد المَعاوِل المهمَّة التي قَضَتْ على دولة الخلافة الإسلاميَّة، يُمثِّل هذا المذهب مدرسةً قائمة بذاتها في علم الاجتماع.

وقد كان مذهبًا معروفًا في القرن السابع عشر والثامن عشر، ولكنَّه لم يكن معروفًا بهذا الاسم، يعني المذهبُ الوضعي عند سان سيمون تطبيقَ المبادئ العلميَّة على جميع الظواهر الطبيعية والإنسانية، وفهمها في ضوء هذه المبادئ مجرَّدةً من (الدين) تمامًا.

كان سان سيمون مقتنعًا بأنَّ المعرفة الأساسيَّة قد تطوَّرت عبر ثلاث مراحل، هي: المرحلة (اللاهوتية أو الدينية)؛ بمعنى: تفسير الظواهر تفسيرًا دينيًّا؛ أي: الرجوع إلى تحديد علَّة الظواهر إلى الإله، ثم تأتي المرحلة (الميتافيزيقية)؛ أي: ما وراء الطبيعة؛ وهي تمثِّل تطوُّرًا بسيطًا عن الحالة الأولى؛ كالاعتقاد في أنَّ النجوم تسيرُ في دَوائر؛ لأنَّ الدوائر هي أكمَلُ الأشياء، أو تفسير النموِّ في النبات بنِسبته إلى قُوَى الإنبات، وأخيرًا المرحلة (الوضعيَّة) التي تُفسِّر الظواهر بنسبتها إلى القوانين التي تحكُمُها، والأسباب المباشرة التي تُؤثِّر فيها، والاعتماد على الملاحظة والتجريب.

ووفقًا لهذا القانون أطاحَ سان سيمون بالدِّين بعيدًا، واعتبَرَه مرحلةً مضتْ تُعبِّر عن طُفولة الإنسانيَّة، ونظَر إلى العلم كإطارٍ محقَّق وصادق من المعتقدات الراسخة التي تَحلُّ محلَّ الدين، وأنَّه هو الذي سيُقدِّم بدلاً من الدِّين النَّظرةَ المترابطة والشاملة للكون بما فيه الوجود الإنساني على أساسٍ وضعيٍّ، وليس على أساسٍ ديني؛ ذلك لأنَّ المعرفة الإنسانية قد تجاوَزت مرحلةَ التفكير الديني والميتافيزيقي، وستحلُّ طبقة العُلَماء محلَّ ما يسمُّونه برجال الدِّين، وبهذا يكون العلم قد ورِث الدِّينَ إلى الأبد، وسيَفقد ما يسمَّى برجال الدِّين وذوي الخلفيَّات الدينيَّة تفوُّقَهم الثقافي، ويصبحون غير قادِرين على مُنافَسة المثقَّفين الثوريين العقلانيين الصاعِدين، الذين سيَقُودون المجتمعَ ويَهدِمون المجتمع القديم القائم على الدِّين[35].

العلوم الوضعيَّة عند سان سيمون سوف تتصدَّى لما يُسمِّيه بالنُّفوذ الرجعي للأديان، وهي التي سوف تُوفِّر الوسائل الضروريَّة التي تُساعِد على معرفة الطبيعة وإخضاعها.

الدِّين والتفكير العيني عند سان سيمون معرفة مزيَّفة تجبر العقولَ على طاعةٍ عَمياء؛ لهذا فإنَّ التربية الوضعيَّة عنده سوف تُوفِّر معرفة عقلانيَّة يمكن الهيمنة عليها، وربَط سان سيمون بين تقدُّم المعرفة الوضعية وتضاؤل استشارة مَن يسمِّيهم برجال الدِّين في أمور الدنيا، وبذلك يصبح الاتِّصال بالعلماء بطريق مباشر وغير مباشر هو الصورة الوحيدة للإدراك العلمي السليم.

يقرُّ رجال الاجتماع في بلادنا بتأثير هذه الفلسفة الوضعيَّة على بلادنا الإسلاميَّة؛ يقول طلعت عيسى: "هذا الاتِّجاه الفكري الذي نشَأ في فرنسا، وجَد طريقَه إلى الذيوع والنجاح في الشرق مهْد الفلسفات العريقة والفلسفة الإسلاميَّة التي تَقُوم على التوحيد".

والغريب في الأمر أنَّ هذه الفلسفة لم تَلقَ نجاحًا في فرنسا، بل لقيت نجاحًا في بلادنا، وبُنِي على دَعائِمها صرح دول وإمبراطوريَّات في الشرق الإسلامي، كما يقول طلعت عيسى.

أمَّا عن دور الفلسفة الوضعيَّة - أو الفلسفة الإثباتيَّة الإلحاديَّة كما يُسمِّيها الشيخ مصطفى صبري - في القضاء على دولة الخلافة الإسلامية، فيتحدَّث عنها رجال الاجتماع في بلادنا على النحو التالي:
"كانت فكرة الفصْل بين السلطتين الروحيَّة والزمنيَّة هي الدعامة التي تغلغلت على أطرافها الفلسفة الوضعيَّة في الشرق... استولى الخليفة العثماني على مقاليد الأمور باسم الدِّين، وكان بذلك يجمَعُ بين السُّلطتين الروحيَّة والزمنيَّة في الوقت نفسه، فكان حال العالم الإسلامي أشبه بأوربا في العصور الوسطى، وبالملك الذي يستمدُّ سلطته من الله رأسًا لا من الشعب؛ ولهذا وَجدت فكرةُ الفَصل بين السُّلطتين الزمنيَّة والروحيَّة طريقَها إلى قُلوب المسلمين، وكانت الشَّرارة الأولى التي سبَّبت فيما بعدُ إلغاء الخلافة وقِيام الثورة التركية في عام 1908".

كان هذا هو الدور غير المباشر للماسونيَّة في القَضاء على دولة الخلافة الإسلامية عبر الفلسفة الوضعيَّة في علم الاجتماع، أمَّا عن دور الماسونيَّة المباشر في القَضاء على الخلافة، فيَحكِيه السلطان عبدالحميد بنفسه قائلاً:
"إنَّني لم أتخلَّ عن الخلافة الإسلاميَّة لسببٍ ما، سوى بسبب المُضايَقة من رُؤَساء جمعيَّة الاتحاد المعروفة باسم (جون ترك) وتهديدهم، اضطرِرتُ وأُجبِرت على ترك الخلافة، إنَّ هؤلاء الاتِّحاديين قد أصرُّوا وأصرُّوا عليَّ بأنْ أُصادِق على تأسيس وطنٍ قومي لليهود في فلسطين، ورغم إصرارهم فلم أقبَل بصورةٍ قطعيَّة هذا التكليف، وأخيرًا وعَدُوا بتقديم 150 مليون ليرة إنجليزية ذهبًا، فرفضتُ هذا التكليف بصورةٍ قاطعة أيضًا"[36].

وجمعية الاتِّحاد والترقي هذه التي يتحدَّث عنها السلطان عبدالحميد، تأسَّست في بادئ الأمر في باريس على يد جماعةٍ من الشبان الأتراك، الذين تشبَّعوا بالأفكار الفرنسيَّة، وأمعَنُوا في دراسة الثورة الفرنسيَّة، كانت المحافل الماسونيَّة - وعلى الأخص المحفل الإيطالي في يلانيك - تُرحِّب بأعمال هذه الجمعيَّة، وتنتَصِر لها، وكانت جلساتها تُعقَد في غُرَفِ المحافل الماسونيَّة التي يستَحِيل على الجواسيس أنْ يصلوا إليها مهما بذلوا من جهد، وكان الكثيرون من أعضاء هذه المحافل مندَمِجين في جمعيَّة الاتحاد والترقِّي، وكان أعضاء هذه الجمعية ينتَفِعون بالأساليب الماسونيَّة في الاتِّصال بإسطنبول؛ بل في التقرُّب من القصر ذاته، وأخذت هذه الجمعية تعقد الجلسات السرية وتهيِّئ للثورة ضد الخلافة، وظلَّت كذلك حتى عام 1908؛ حيث قامت بالانقلاب واستولتْ على الحكم.

خلاصة ما سبق:
-----------
أنَّ الفيلسوف الفرنسي (سان سيمون) - ذلك الذي استندَتْ إليه مختلف اتِّجاهات علم الاجتماع - كان مرتبطًا برجال المال والمرابين اليهود، كان الغرب يَراه نبيَّ الرأسمالية، في نفس الوقت الذي كانت فقراتٌ كثيرةٌ من البَيان الشيوعي الذي أصدَرَه ماركس وإنجلز مستمدَّة من سان سيمون، دعا سان سيمون إلى إلغاء حق الملكيَّة، وحق الوراثة، وهي نفس بنود المشروع الماسوني الذي صاغَه آدم هوايت، مهَّدت الماسونيَّة وأشعلت الثورة الفرنسيَّة التي عايَشَها وعاصَرها سان سيمون، وكان أكثر الناس ولاءً وحماسًا لها، دعت الماسونيَّة إلى أنْ تحلَّ عِبادة الإنسانيَّة محلَّ عبادة الله، فكرَّس سان سيمون فِكرَه للدعوة إلى الإنسانيَّة، قضَت الماسونيَّة على الأخلاق بعد أنْ قضتْ على الدِّين، وركَّزت على الفن والموسيقا، فدعا سان سيمون إلى نزْع الدِّين من الأخلاق، ثم أعاد بناءَها على الفن والموسيقا، أسس سان سيمون مذهب (الوضعيَّة) الذي كان أحد مَعاوِل هدم الخلافة الإسلاميَّة، وهو نفس ما سعَتْ إليه الماسونيَّة التي كانت وَراء جمعية الاتِّحاد والترقِّي إلى أنْ سقطت الخلافة.
--------------------------------------------------------
[1] محمود عودة، تاريخ علم الاجتماع، الجزء الأول، دار النهضة العربية، بيروت ص7.
[2] صابر طعيمة، الماسونية ذلك العالم المجهول، دار الجيل بيروت، 1986 ص11 ،12 ،121 ،141، 143، وانظر أيضًا:
E.l.Hawekins, free masonery in encyclopedia of religion and ethics,vol vi N,Y,1967.P.120.
[3] محمد طلعت عيسى، أتباع سان سيمون وفلسفتهم الاجتماعية وتطبيقها في مصر، رسائل جامعية، مطبوعات جامعة القاهرة، 1957 ص 31 ،33، 37، 41، وانظر أيضًا: بيار أنسار، سان سيمون؛ ترجمة: إبراهيم العريس، المؤسسة العربية للطباعة والنشر، 1979 ص8.
[4] جان لاكرو، أوجست كونت؛ ترجمة: منى النجار، بيروت 1977، ص20-21.
[5] يرفض برودون الأخْذ بالأديان، ويُؤكِّد أن الإنسان وُلِد ليعيش دون الاعتقاد في ديانة ما، تابع: طلعت عيسى ص10، 25.
[6] تابع: محمود عودة ص42.
[7] السيد الحسيني، نحو نظرية اجتماعية نقدية، دار النهضة العربية، بيروت 1985، ص172.
[8] تابع: صابر طعيمة ص399، 426.
[9] تابع: السيد الحسيني ص61.
[10] تابع: طلعت عيسى ص10، انظر أيضًا: هاينزموس، الفكر الاجتماعي؛ ترجمة: السيد الحسيني وجهينة سلطان، ص28.
[11] تابع: طلعت عيسى ص11، 56، 81.
[12] ز.أ.ليفين، الفكر الاجتماعي والسياسي الحديث؛ ترجمة: بشير السباعي، ابن خلدون، بيروت، الطبعة الأولى 1978 ص26.
[13] تابع: طلعت عيسى ص39.
[14] تابع: طعيمة ص428-429.
[15]تابع: طلعت عيسى ص94-95.
[16] تابع: طعيمة ص424-425.
[17] J.F.Normano,Saint Aimon And America,Social Forces,oct.1932 PP.8-14.
[18] تابع: طعيمة ص421-424.
[19] تابع: Normano P.9.
[20] انظر: طعيمة ص428، وأيضًا: جواد رفعت اتلخانة، أسرار الماسونية؛ ترجمة: نور الدين الواعظ وسليمان القابلي، مدرسة دار العلوم، قطر ص28.
[21] تابع: محمود عودة ص46.
[22] من أبرَزِ المؤسَّسات الدوليَّة المتغلغِلة في عالَمنا الإسلامي الداعية للنَّزعة الإنسانيَّة (منظمة اليونسكو)، جاء في البيان المشترك لمجموعة الخبراء العشرة المجتمِعين بدعوة من اليونسكو ما نصُّه: "وهذا المجتمع يجبُ أنْ يَأخُذ صورة نزعة إنسانيَّة جديدة، يتحقَّق فيها الشُّمول بالاعتِراف بقِيَمٍ مشتركة تحت شعار تنوُّع الثقافات... إنَّ منظمةً دوليَّة مثل منظمة اليونسكو قادرةٌ على أنْ تدعو جميع قُوَى التربية والعلم والثقافة إلى تكوين نزعةٍ إنسانيَّةٍ كهذه... إنَّ قيام تفاهُم دولي ونزعة إنسانيَّة جديدة هو من جهةٍ ضروريٌّ لنَجاح العلاقات السياسيَّة، كما أنَّ هذا التفاهُم وهذه النَّزعة الإنسانيَّة الجديدة هما من جِهة أخرى عُنصران مهمَّان في مُواصَلة السعي إلى المعرفة"، انظر: أصالة الثقافات ودورها في التفاهم الدولي؛ ترجمة: حافظ الجمالي، دار الفكر العربي، القاهرة 1963 ص426.
ويقول (رينيه ماهو) - المدير العام الفرنسي الأسبق لليونسكو، والذي رافَقَها منذ عام 1946 -: "لقد خطَّط اليونسكو أنْ يُحقِّق هدفًا سياسيًّا مقصودًا، إنها لا تعمَل لمجرَّد تطوير التربية والعلم والثقافة بحدِّ ذاتها... إنَّ منظمة اليونسكو قد مكَّنت رجال يومنا ونساءه من أنْ يظهروا الأمل بصورةٍ كافية إيمانهم بأنَّ الإنسانيَّة واحدة"، ويقول في موضعٍ آخَر: "اليونسكو هي عن قصدٍ منظمة (علمانيَّة) تمامًا، ليس فقط في تركيبها، وإنما أيضًا بمجرَّد مفهومها؛ ولهذا فإنَّ علاقتها بالسلطات الدِّينية علاقة (شك وتحفُّظ)، إلاَّ أنَّه من المُلاحَظ أنَّ هذه العلاقة تتحوَّل مع الصليبيَّة إلى علاقة فهْم متبادَل؛ (بحجة) مساعدة الدول النامية.
وتجمع اليونسكو والصليبية - باعتراف (رينيه ماهو) نفسه - وحدة غرض تحت ادِّعاء (مصير الإنسان على الأرض)"؛ انظر: عزيز الحاج، اليونسكو، 1975 ص129.
ويذكر جَواد اتلخانة أنَّ مُدِيري شُعبة التعليم والثقافة في اليونسكو من اليهود مثل (سومرفيلد) و(جي إيزنهارد)، ويُدِير شُعبة الثقافة العالميَّة اليهوديُّ (ويلكسر)، والاستعلامات اليهودي (كايلن)، والميزانيَّة اليهودي (ويتز)، والهويَّة اليهودي (سبيكي)، والسياحة اليهودي (إيرامسكي)، والتعيين اليهودي (ويرسل)، انظر: جواد اتلخانة، مرجع سابق ص50، انظر كذلك: مفتريات اليونسكو على الإسلام؛ لمحمد عبدالله السمان.
[23] تابع: Hawkins P.120
[24] James Carter, free masonery, in the world book encyclopedia, vol3, childercraft int.inc.P.208
[25] تابع: طعيمة ص415.
[26] W.L.Wilmahurst,The meaning Of Masonery,Bell publishing.Com.N.Y.1980.P.71
[27] ر.م. ماكيفر، تشارلز بيج، المجتمع؛ ترجمة: علي عيسى، مؤسسة فرانكلين، مكتبة النهضة المصرية، الجزء الأول ص343-344.
[28] هنتر، ميد، الفلسفة، أنواعها ومشكلاتها؛ ترجمة: فؤاد زكريا، القاهرة ص395 وما بعدها.
[29] تابع: طعيمة ص139-140.
[30] تابع: بيار انسار ص128.
[31] يعتقد الكثيرون - ولا سيما في العالم الغربي - بالله ويؤمنون به، لكنَّ اعتقادهم وإيمانهم مبنيٌّ على أنَّ الله (فكرة) وليس بحقيقة، ويرى هؤلاء أنَّ الإيمان بوجود إلهٍ إيمانٌ بوجود فكرة الإلهيَّة، وهي فكرةٌ يقولون: إنها جميلة؛ لأنَّه ما دام الإنسان يتخيَّلها ويعتَقِد فيها، فهو يبتَعِد عن الشرِّ ويقترب من الخير؛ لهذا يَسهُل أنْ يجرَّ هؤلاء الناس إلى الإلحاد والارتداد عن الإيمان بمجرَّد أنْ يبدأ العقل في التفكير في لمس وُجود هذه الفِكرة، فإذا لم يلمس وجودها كَفَرَ بالله وألْحَدَ، والإيمان بالله كفكرةٍ وليس كحقيقة يستَتْبع أنْ يكون الخير والشر فكرةً أيضًا وليس بحقيقةٍ، وقد سار بعض رجال الاجتماع في بلادنا على هذا المنوال فنظَرُوا إلى (الدِّين) على أنَّه ظاهرةٌ، وإلى (الله) على أنَّه فكرة، والصواب أنَّ الله حقيقةٌ وليس بفكرة، وله وجودٌ ملموس ومحسوس، وإنْ كان يستحيل إدراك ذاته.
[32] تابع: طلعت عيسى ص36، 44-45.
[33] محمد الغريب عبدالكريم، نظرية علم الاجتماع المعاصر، المكتب الجامعي الحديث ص72.
[34] تابع Wilmshurst 189.
[35] يقوم المثقفون في عالمنا الإسلامي اليوم بنفس الدور الذي ألقاه على عاتقهم سان سيمون، وما درجات الماجستير والدكتوراه إلاَّ أساليبٌ مرسومةٌ ومخطَّطة ليستَمِع الناس إلى ما يقوله أصحابها، وما يُفتُون به، فيحلُّون بذلك محلَّ علماء الدِّين، ولكن على أساسٍ وضعي، وليس على أساس الكتاب والسنَّة، وهذا هو عين ما حدَث حينما تَمَّ القضاء على المحاكم الشرعية والقُضاة الشرعيين بإحلال رجال القانون والمحاكم المدنيَّة محلهم، انظر أيضًا: طلعت عيسى ص43، 48-53.


[36] انظر: انسار بيار ص 65، وطلعت عيسى ص 113، 114، 126 وطعيمة ص436.

-----------------------------------------------
رد مع اقتباس
  #5  
قديم 10-09-2014, 07:49 AM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود غير متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 56,039
ورقة أين يلتقي الطهطاوي بعلم الاجتماع ؟

أين يلتقي الطهطاوي بعلم الاجتماع ؟
ــــــــــــــــــ

اعترافات علماء الاجتماع
----------------

الحلقة الخامسة
------------

أين يلتقي الطهطاوي بعلم الاجتماع ؟
-----------------------

لا تَزالُ تحمِل شَوارِع أهمِّ المدُن في بلادنا - حتى جزيرتنا العربيَّة - اسم (رفاعة رافع الطهطاوي)، وما زالَ الكثيرون يَنظُرون إليه على أنَّه عالِمٌ أزهريٌّ متميِّز لَعِبَ دورًا بارزًا في خِدمة الإسلام وتَنوِير المسلمين!

إنَّ الأمر يَحتاجُ إلى بَيانِ هذا الدَّور المتميِّز الذي لَعِبَه الطهطاويُّ في ضرْب الإسلام وخلْع المسلمين من جُذور عقيدتهم، وإلقائهم في أحْضان الحضارة الأوربيَّة.

في الفترة التي خُطِّط فيها للقَضاء على الخِلافة الإسلاميَّة، كان محمد علي واليًا على مصر، كان محمد علي شخصًا سيِّئ السُّمعة، معروفًا بالقَسوة وغلظ الكبد، محبًّا للعظَمَة إلى حَدِّ الجنون، احتضنَتْه فرنسا احتِضانًا كاملاً؛ لينفذ لها كلَّ مخططاتها، أنشأَتْ له جيشًا مُدرَّبًا ومجهَّزًا بأحدث الأسلحة، وبنَتْ له أسطولاً بحريًّا، كما بَنَتْ له القناطر الخيريَّة لتنظيم عمليَّة الريِّ في مصر؛ لتعهد إليه بدورٍ خطيرٍ، أدَّاه بنَجاحٍ، وهو أنْ يَأخُذ لمصر مظاهر الحضارة الأوربيَّة؛ أي: الطريقة الغربيَّة في الحياة، وبمعنى أكثر تحديدًا: أنْ ينقل مصر من المرتكز الإسلامي إلى شيءٍ آخَر يُؤدِّي بها إلى الخروج من حيِّز الإسلام كليةً[1]، هذا الخروجُ من الإسلام اعتَبَره العلمانيُّون في بِلادنا مَكسَبًا وإنجازًا مُهِمًّا حقَّقه محمد علي لمصر، وتصوَّروا - ببلاهةٍ أو بقصدٍ - أنَّ القَضاء على محمد علي وتصفيته ودُخول الاستعمار إلى بلادنا؛ إنما كان لحِرماننا من مَكاسِب وإنجازات الحضارة الغربيَّة، وما تحمِلُه من أفكارٍ ونظريَّات ورُؤى ومفاهيم جديدة تُخالِف هذه الظُّلمة الدَّهماء الكامنة في مُتون المتأخِّرين المسلمين وشروحهم، بما فيها من تعقيدٍ وغُموض وإسفاف - على حَدِّ قولهم[2].

أسَّس له الفرنسيُّون تسعةً وعشرين مصنعًا في عام 1837.

أقنَعَه (لاميير) بإنشاء مدرسةٍ للهندسة العسكريَّة.
وفَّر له (تورنيه) وسائل النقل بالسِّكك الحديديَّة.
ساعَدَه (دي شارم) في بِناء الطُّرُق والجُسُور.
بحَث له (ليفيفر) عن المعادن وأقنَعَه باستِغلال الثروة المعدنيَّة إلى أقصى حدٍّ.
شرع له (لامي) في تنفيذ نفَق شبرا.
اهتمَّ (جافاري) و(جوندريه) بالصناعات الكيماويَّة.
أقامَ له (بوسكو) مزرعةً نموذجيَّة بشبرا تُرشِد الفلاحين إلى أنسَبِ طُرُقِ الزراعة.

عدل له (أوليفيه) أساليب الري التي كانتْ سائدةً في مصر منذ أقدم العُصور، وساعَدَه في إقامة المشاريع الكُبرَى على النيل.

أمَّا (روجيه)، فقد أقامَ له أوَّل نواةٍ لفرقةٍ موسيقيَّة كاملة العدَّة في مدرسة المدفعيَّة بطرة، فجِيء له بمجموعةٍ من الفنَّانين الممتازِين الفرنسيِّين مثل (ماشرو) و(آشار) و(ألريك)، الذين سجَّلوا له لوحات واقعيَّة تُعبِّر عن المذهب السائد في الفنِّ آنَذاك.

وفَّر الفرنسيُّون لمحمد علي معاهد الثقافة الفنيَّة للتوجيه والإعداد الفني الحر، الذي يجعَلُ من الفنان سيِّدَ نفسِه، يستَخدِم ملكاته وتصوُّراته وخَياله إلى أبعَدِ حَدٍّ ممكن غير مُقيَّد لا بمنهج ولا بتقاليد ولا دِين، قالوا له: إنَّ هذه المعاهد الفنيَّة هي سبيلُ نشْر الأخلاق العالية، وإنَّ الفنَّان ما هو إلا رسولٌ من رُسُلِ الإنسانيَّة، وهادٍ إلى الأخلاق الاجتماعيَّة الواجب توافُرها في المجتمع الحديث، أعَدُّوا له تمثالاً له ولابنه إبراهيم، ملَّكهم محمد علي مُقدَّرات مصر كلها، عيَّن محمد علي الفنان (ألريك) الذي أعدَّ له تمثاله بمدرسة الرسم بالجيزة.

أمَّا (لاربان)، فقد تولَّى قيادةَ مدرسة الهندسة العسكريَّة.
عين (دي بلفون) كبيرَ مهندسي مصلحة الطُّرُق والكَبارِي.
تولَّى (برون) إدارة مدرسة الطب.
أدار (ربرينو) مدرسة المدفعيَّة بطرة ثمانية عشر عامًا.
ورأس (دي شارم) مصلحة الطُّرق والكَبارِي... إلخ.

تزعَّم هؤلاء جميعًا (بارتلمي بروسير أنفانتان) الذي اشتَهَر (بالأب أنفانتان)، اشتَرَك (أنفانتان) في بناء القناطر الخيريَّة لمحمد علي، ومات له في هذه العمليَّة اثنا عشر رجلاً من رجاله بالطاعون، لكنَّه اعتَرَف في أحد رسائله بأنَّه لم يأتِ إلى مصر من أجل هذا الهدف.

كان مجموع رجال أنفانتان خمسةً وخمسين رجلاً، أتوا إلى مصر على ظهْر سفينتين، غادَرت الأولى ميناء مارسيليا الفرنسي في 18 مارس 1833 متَّجِهة إلى الإسكندريَّة بقيادة (بارو) و(فيلسيان دافيد)، وغادَرت الثانية الميناء الفرنسي نفسه في 23 سبتمبر من العام نفسه بقيادة (أنفانتان) نفسه، وما أنْ صَعَدَ (أنفانتان) على ظهْر السفينة حتى حيَّاه رِجالُه بنشيدٍ أطلَقُوا عليه (تحيَّة الأب)، سهر الرجال ليلتهم الأولى يُنشِدون أناشيد أسموها (الأناشيد السان سيمونيَّة)، قضت السفينة في عرض البحر تسعة عشر يومًا، وما أن اقتربت من ميناء الإسكندريَّة حتى رفَعُوا على ساريتها شعار (سان سيمون).

كان هؤلاء الرجال رجالَ فكرٍ وأدبٍ وسياسةٍ، وفن وموسيقا ورسم، وطب وهندسة، وزراعة وتجارة وصناعة، كان منهم كيميائيون وضبَّاط بحريَّة ورُؤَساء تحرير ومُحرِّرو صحف تصدُر في لندن وباريس، كان منهم أيضًا مستشرقون ودبلوماسيُّون ممَّن خدَمُوا في آسيا الصُّغرى وتركيا بالذات لفترةٍ طويلةٍ[3].

مَن هم هؤلاء الرجال؟ ولماذا جاؤوا إلى مصر؟ وما علاقتهم بالطهطاوي وعلم الاجتماع؟
هؤلاء الرجال هم أتْباع المفكِّر الفرنسي (سان سيمون) مؤسِّس علم الاجتماع وأستاذ (أوجست كونت)، أمَّا لماذا جاؤوا إلى مصر؟ فقد جاؤوا لضرْب الإسلام عن طريق تَلقِيح أفكاره بأفكار سان سيمون، ولهدف آخَر أكثر تحديدًا أسموه (تغيير نظرة الشرق المُحافِظ إلى المرأة)، وهي الأهداف نفسها التي سعَى إليها الطهطاوي وكرَّس لها حياتَه وجُهدَه وفكرَه، كما أنها هي الأهداف عينها التي قامَ بها علم الاجتماع في الماضي، ويستمرُّ في السَّير عليها اليوم في كلِّ جامعاتنا، بما فيها الجامعات الإسلاميَّة.

كان (رفاعة الطهطاوي) حلقةَ الوصل بين مصر والعالم الغربي من جهةٍ، وعلم الاجتماع من جهةٍ أخرى، ممثَّلاً في (أوجست كونت) وأتْباع (سان سيمون)؛ ولهذا فإنَّ الذين أرَّخوا لعِلم الاجتماع في مصر أوضَحُوا أنَّ الأفكار التي حملَها (الطهطاوي) تحدَّت الأفكار القديمة، وأعدَّت لمرحلة الانقطاع عن الماضي (أي: الإسلام)[4].

حينما نفَّذ (محمد علي) والي مصر سياسة التغريب ابتَعَث طلابًا شبَّانًا إلى فرنسا، وجعَل الطهطاوي معلمهم الديني، اتَّصل الطهطاوي أثناء بعثته إلى فرنسا (1826-1831) بأوجست كونت وتتبَّع أبحاثه، كما اتَّصل في نفْس الوقت بالفيلسوف الإنجليزي المُعاصِر لهما (جون ستيوارت ميل)، كانتْ شخصيَّته (الطهطاوي) محلَّ إعجاب (أوجست كونت)، وموضع تعليق الفيلسوفين الفرنسي والإنجليزي في الرسائل المتبادَلة بينهما[5].

اتَّصل (الطهطاوي) بأتباع (سان سيمون) في باريس، ثم قابَلهُم في القاهرة حينما جاؤوا إلى مصر داعِين إلى مذهَبِهم، ونقَل عنهم الكثيرَ من الآراء والأفكار والنظريَّات الاجتماعيَّة التي أسهَمتْ في فَساد إسلام المصريِّين، والمرأة المسلمة بصفة خاصَّة.

كان الطهطاوي - كما يقول الأستاذ (محمد قطب) - واحدًا من الأئمَّة العِظام يوم ذهَب إلى فرنسا، وعاد إلى مصر واحدًا من أئمَّة التغريب، ورسم نُقطة بداية تسرُّب الخطِّ العلماني إلى مصر والعالم الإسلامي، استقبَلَه أهلُه بالفرح يومَ عادَ من فرنسا بعد غيبة سِنين، فأشاحَ عنهم في ازدِراءٍ، ووسمَهُم بأنهم فلاَّحون لا يستحقُّون شرف استِقباله[6].

لكنَّ السؤال المهمَّ هنا هو: مَن هم أتْباع (سان سيمون) هؤلاء؟ وأين يلتَقِي بهم (الطهطاوي)؟
إنهم (ماسونيون) مثل أستاذهم، ويلتَقِي معهم الطهطاوي في نقطة تحقيق أهداف الماسونيَّة في القَضاء على الإسلام، وتدمير الخِلافة الإسلاميَّة، وتغريب المسلمين، سَواء أكان يَدرِي أو لا يدري أنهم ماسونيُّون.

في التاسع عشر من مايو 1825 مات (سان سيمون)، وقد أحاطَ به جمعٌ من أتْباعه المُخلِصين الذين آلوا على أنفُسِهم حمْل رسالة أستاذِهم من بَعدِه، من بين هؤلاء الأتْباع رجلُ المال اليهودي (أوليند رودريج)، والدكتور (بيلي)، والمشرع (دي فرجييه).

انضمَّ إليهم (أنفانتان) في اليوم التالي للوَفاة، قادَ أنفانتان الحركةَ الفكريَّة لمدرسة سان سيمون زُهاء ربع قرْن من الزَّمان، كرَّس هؤلاء الأتباع جُهدَهم ووقتَهم ومالَهم لإحياء دَعوة سان سيمون وتطبيقها في مصر، وكما ذكَرنا في فَصْلٍ سابقٍ فإنَّ (كارل ماركس) كان قد اتَّصَلَ بهؤلاء الأتْباع عن طريق الشاعر الألماني (هن)، وكان على صلةٍ وثيقةٍ بهم.

وذكَرنا أيضًا أنَّ (ماركس) امتَدَح (محمد علي)؛ لأنَّه الوحيد الذي استَطاع - في نظَرِه - أنْ يُطِيح بما أسماه (عمامة المراسم)، وأنْ يضَع بدلها رأسًا حقيقيَّة، إشارةً إلى ضَربِه للإسلام واستِبداله به الأفكار اللاإسلاميَّة[7].

تخرَّج العديدُ من هؤلاء الأتباع من مدرسة الهندسة العسكريَّة في باريس، لماذا مدرسة الهندسة العسكريَّة بالذات التي تجمَّع بها الأتباع، وكانت من أهمِّ عوامل نجاح دعوتهم؟ ولماذا قال (أنفانتان) عنها: "يجبُ أنْ تُصبِح مدرسة الهندسة العسكريَّة المجرَى الذي تَسِيرُ فيه أفكارُنا لتَشِيع في المجتمع الخارجي"؟ ولماذا أرسَلَ محمد علي مُبتعَثيه - وعلى رأسِهم الطهطاويُّ - إلى هذه المدرسة بالذات؟

علامات استفهام كثيرة تحتاج إلى مزيدٍ من البحث، أمَّا الشيء الواضح هنا، فهو أنَّ هذه المدرسة تمثِّل مَعقِلاً ماسونيًّا قويًّا التَقَى فيه الطهطاويُّ بأتْباع سان سيمون.

قبل أنْ يرحَلَ (الأتْباع) إلى مصر أسَّسوا لأنفُسِهم في باريس معبدًا خاصًّا أسموه (كنيسة شارع مونسيني)، اختارَ (الأتباع) كلاًّ من (بازار) و(أنفانتان) آباء لهذه الكنيسة، كما أسَّسوا أيضًا بعضًا من الأديِرَة الصغيرة، أعدَّ الأتْباع في هذا المَعبَد العُدَّة لدعوتهم الجديدة، وصاغُوا لها حِكَمَها وأناشيدَها، سنَقِفُ هنا عند أحد هذه الأناشيد، واسمه (نشيد افتتاح المعبد)، الذي تكشف كلماته عن المرامي اليهوديَّة لتدمير الدِّين عامَّة، والإسلام خاصَّة، يقول النشيد:
"إنَّ بابل الشرق القديمة وأهرامات مصر وكنائس آبائنا، كلها بجانب المعبد المارد تظهَرُ كالأقزام، وبجانب عظمته كالمتسوِّلين العُراة".

يُفسِّر طلعت عيسى هذه الكلمات فيقول: "يهدف أتْباع سان سيمون إلى تكوين وحدةٍ تشمَلُ الإنسانيَّة جَمعاء دُون اعتِبارٍ لاختلافٍ ديني أو عُنصري، فالدِّيانات القديمة التي قامَتْ في بابل ومصر وكنائس الآباء والأجداد، كلُّها تَتضاءَل أمام الوحدة الأصيلة التي سيُحقِّقها قيامُ المعبد الجديد، الذي تكون فضيلته الأساسية العملَ والإنتاج، معبد دعامته أخلاق دنيويَّة صناعيَّة بعيدة كلَّ البُعد عن النَّزعات الميتافيزيقيَّة أو التيولوجيَّة (الدينيَّة) التي تَسُودُ عصرَ ما قبل التصنيع".

ومن الجدير بالذِّكر أنَّ رئيس الحكومة ووزير الحربيَّة في فرنسا كان قد أصدَرَ أوامرَه بمنْع هذا النشيد ولو بالقوَّة.

حاوَل الأتْباع الدعوة إلى مذهبهم، وتعبئة الرأي العام الفرنسي للسفر إلى مصر في المدن الفرنسيَّة؛ مثل: ست، ومونبلييه، وليون وغيرها.

أدرك الفرنسيُّون الطابعَ الإلحاديَّ للدعوة، فواجَهُوهم بالاستِنكار والإهانة، والضرب والقذف بالحجارة، وحاوَلُوا إلقاءَ الأتْباع في نهر الرون، رفَع النساء والأطفال في وُجوههم شعارات: عاشَ الدِّين، عاشَ الصليب، ليسقُط الأنبياء المزيَّفون الأفَّاكون السياسيُّون ورِفاق المرأة، طالَبت الجماهيرُ بقطْع رقابهم، تصدَّى لهم الجيش والبوليس الفرنسي، وعمل على الإسراع برحيلهم إلى مصر التي أسماها (بلاد الخازوق)، وألقي القبض عليهم وقُدِّموا إلى محكمة السين بتُهمة تشويه القِيَم الأخلاقيَّة، وتمخَّضت المحاكمة عن سجن (أنفانتان) في عام 1832.

كان (أنفانتان) وفيًّا متحمِّسًا في تنفيذ مبادئ أستاذه (سان سيمون) رسول الإنسانيَّة - كما كان يُسمِّيه - وكان يعتَقِد أنَّ الله أرسَلَه لإنقاذ البشريَّة كما فعل من قبلُ عيسى ومحمد والأنبياء أجمعون، وذلك كما جاء في رسالته إلى أحد تلامذته.

بدأ (أنفانتان) في سجن (سان بلاجي) يُخطِّط للسفر إلى مصر؛ لتطبيق أفكار (سان سيمون) التي صبَغَها هو وأتباعه بصفة الحتميَّة، واعتبَرُوها لازمة التحقيق، كتب (أنفانتان) في مذكِّراته الخاصَّة عن مصر: "غادَرت سجني في الغرب، وسأضَعُ نفسي في خِدمتك".

لماذا كان يَسعَى الأتْباع إلى الرحيل إلى الشرق وإلى مصر؟ لنقف قليلاً عند كلمة "الرحيل إلى الشرق وإلى مصر"، ولنَرَ جذور ارتباطاتها بالماسونيَّة.

جاء في الرسائل التي أرسَلَها أنفانتان إلى رجاله:
"الشرق، تلك الكلمة الساحرة المليئة بالضِّياء والغُموض، الشرق الغامض غموض الصحراء، يمكنك أنْ تبشِّر الشرقَ بمقدمي، وأنْ تعتبرَه الوطن الذي نرنو إليه.. الشرق معناه مصر الساحرة، أرض فرعون وموسى وأرض النيل".

وعن ارتباط الشرق ومصر بالماسونيَّة، رجَعنا إلى مجموعة المحاضرات التي أُلقِيتْ وكُتِبتْ إلى أعضاء المحفل الإنجليزي الماسوني الأعظم، والتي ضُمَّت في كتابٍ يحمل اسم (معنى الماسونية) ألَّفه (ولمشهرست) الذي يُوصَف بأنَّه مؤرخٌ متميِّزٌ عالِمٌ بالدِّيانات، خدَم الماسونيَّة اثنين وثلاثين عامًا.

يقول (ولمشهرست): "إنَّ الأسئلة التي يطرَحُها كلُّ مَن يَدخُل المحفل الماسوني: مَن أنا؟ من أين أتَيْتُ؟ وأين سأذهب؟ تجيب عليها الماسونيَّة إجابات مشرقة ونورانيَّة: إنَّنا أتينا من الشرق الغامض، المصدر الأبدي للضِّياء والحياة... وفي الدرجات العُليا من الماسونيَّة من المفروض على الماسوني أنْ يوسع معرفته، وأنْ يتحقَّق من أنَّ المصدر الأساسي للحياة ليس في الغرب وليس في هذا العالم، إنَّه في الشرق الذي أتَيْنا منه أصلاً، إنَّ كلَّ الحياة الإنسانيَّة نشَأت في هذا الشرق الغامض وانتَقلتْ معنا، إنَّ الغرب يجبُ أنْ يعود مرَّة أخرى إلى مصدره، إنَّ الماسونية ما هي إلاَّ سلسلة من التمثيليَّات الدراميَّة التي تهدف إلى إعداد هؤلاء الذين يُعنَون باكتِشاف فَحواها، مُستَفِيدين من التلميحات التي تُطلِقها في شكلٍ مجازي، وبالأمثلة التي تُقدِّمها، والتوجيهات التي تُعزز بمقتضاها عودتنا إلى الشرق... نحن نعرف كيف أنَّ الطموحين للحكمة الغامضة زاروا مصر"[8].

إنَّ تفسير كلِّ ما سبق، وقراءة الوثائق الخاصَّة بمجيء الأتْباع إلى مصر، والتي ظلَّت محبوسةً وسريَّةً في وزارتي الحربيَّة والخارجيَّة الفرنسيتين - لا تكشف إلاَّ عن هدفٍ بعيدٍ، هو التمهيد لقِيام الدولة اليهوديَّة في الشرق، وتحقيق الأحلام اليهوديَّة في التوسُّع من النيل إلى الفرات، والتي لا تقومُ إلا بضرب الإسلام وتغريب المسلمين.

صحيحٌ أنَّ هذا الهدف لم يَظهَر بوضوحٍ في هذه الوثائق، وإنما يُفهَم عبر التلميحات التي جاءَتْ عبرها، كانت كلمات (أنفانتان) وتصرُّفاته لا تخلو من المجازات والغُموض؛ مثل قوله لأحد رجاله: "نعم، إنَّني جئتُ إلى مصر لأقومَ بتوصيل البحرين بعضهما ببعض، وأنت قد جئت لنفس المهمة أيضًا، ولكنِّي جئتُ إلى مصر لأقوم كذلك بشقِّ قناة بنما".

ويفسر ذلك قول (ولمشهرست): "إنَّ تعاليمنا محجوبة الهدف، وتأتي في صورة مَجازات واستعارات رمزيَّة، إنَّ الأسرار العميقة للماسونيَّة لا تطفو على سطح الشعائر ذاتها، وهي مثل الأسرار العميقة للحياة: محجوبة بشدة، ومخبَّأة بإحكامٍ".

أقرَّ رجال الاجتماع في بلادنا أنَّ مجيء الأتباع إلى الشرق كان يحمل وراءه غايات وأهدافًا سياسية واقتصادية واجتماعية، وأنَّه كان استكمالاً لِحَملة بونابرت على مصر.

جاء في خِطاب أحد الأتباع إلى (أنفانتان) إشارة صريحة لذلك، يقول فيها: إنهم "أمام حملة مسيحيَّة جديدة، بدأتها فرنسا الجمهوريَّة في عام 1799، وأُعِيدت هذه الحملة عن ضميرٍ مخلصٍ لذات الغاية في عام 1833".

كانت الحملة الأولى صليبية عسكرية، أمَّا الحملة الثانية، فهي حملة يهودية ماسونية تحت مسمَّى (المسيحيَّة الجديدة).

هذه المسيحيَّة الجديدة كما جاءت في كتابات (سان سيمون) في 1825 هي (الشيوعيَّة)، التي تقومُ في صورة مبادئ لأخلاقٍ اجتماعيَّة ذات مظهر مسيحي تكونُ لصالح الطبقة العاملة، ولا مكان فيها لما يُسَمُّونه بالعبادات والطقوس، وليس فيها إلهٌ، ولا جنَّة ولا نارٌ، ولا تهديد ولا وعيد.

هذا، وقد عبَّر (أنفانتان) عن ذات الهدف في رسالته إلى تلميذه (بارو) مُشِيدًا بالدور الذي أسهَمَ فيه محمد علي لإنجاز هذا الهدف، فقال: "لقد حطَّم النيل جسوره، واندَفَع إلى مسافاتٍ تجاوزَتْ بكثيرٍ ما وصَل إليه سيره يومًا ما، حاملاً المبادئ التي أثارَها نابليون على ضفافه، والتي أضفَى عليها محمد علي الخصوبة...".

ورغم الدِّفاع المستميت من جانب رجال الاجتماع في بلادنا عن سان سيمون وأتْباعه، فإنَّ الوثائق أجبرَتْهم على الاعتراف بأنَّ للحَملة غايات دينيَّة أو سياسيَّة خفيَّة.

يقول طلعت عيسى مُعلِّقًا على خِطاب لاميير لأنفانتان: "كيف يربط لاميير بين الحملتين؟ كيف يعتبر أنَّ رحيل أتباع سان سيمون إلى مصر هو حملة مسيحيَّة جديدة؟ هل كانت وَراء أهداف المدرسة السان سيمونية غايات دينيَّة أو سياسيَّة خفيَّة؟ وما معنى خِطاب أنفانتان إلى بارو قبل سفَرِه إلى مصر يُوصِيه قائلاً: "عليك أنْ تطلع وتكون على علمٍ تامٍّ بجميع الأعياد الإسلاميَّة وبتقاويم المسلمين الدالة على هذه الأعياد، وعليك أنْ تبحث عن كلِّ ما يقرب الصلات الشرقية والغربية المحمدية والمسيحية"؟

قلنا: إنَّ الطهطاوي ابتُعِث إلى مدرسة الهندسة العسكريَّة بباريس، وهي المدرسة التي تخرَّج فيها (أتباع سان سيمون)، والتي وصَفناها بأنها معقل ماسوني مهم، في هذه المدرسة تمَّت إعادة تشكيل هويَّة (الطهطاوي)؛ ليُشارِك الأتباع في ضرب الإسلام وتغريب المسلمين.

الإسلام عند الأتْباع مجموعة نُظُمٍ بالية لا بُدَّ أنْ تُوجَّه إليها الضربات، ولا بُدَّ من إعداد وتعبئة الرجال الذين يتَّجِهون من الغرب إلى الشرق لأداء هذه المهمَّة، ولم يكن (الطهطاوي) إلاَّ واحدًا من هؤلاء الرجال المتحمِّسين المستعدِّين للقِيام بهذا العمل، والمتشرِّبين لما عند الغرب تشرُّبًا تامًّا، هذا ما تكشفه رسالة (هنري فورتيل) إلى (أرليه ديفور)، التي يقولُ له فيها: "صديقي، ممَّا لا شكَّ فيه أنَّ أهمَّ عملٍ لنا في فرنسا سوف يقوم على إعداد الرجال المتحمِّسين للتدفُّق من الغرب إلى الشرق... يحملون الضربات القاضية للنُّظُمِ البالية، وهم في غَمرة الحماس الذي يُصاحِب إنشادهم للمارسلييز".

حدَّدت الوثائق الفرنسيَّة السبيلَ الذي اتَّبعه الأتباع في ضرْب الإسلام وتغريب المسلمين، وهو السبيل نفسه الذي سلَكَه (الطهطاوي)، تقول الوثائق: إن الأتباع "كانوا يهدفون إلى تلقيح الأفكار القديمة التي تسودُ الشرق بأفكارٍ جديدة ظهرت في الغرب وتأكَّد نجاحُها، أو بمعنى آخَر: كانوا يهدفون إلى تغيير الأساليب القديمة التي عفا عليها الفكر والزمن بأساليب حديثة، وتحويل العادات العتيقة إلى عاداتٍ تُلائِم مُقتَضَى الزمان والمكان".

سار (الطهطاوي) على هذا النهج نفسه؛ فحقَّق نجاحًا أذهَلَ أعداء الإسلام بمختلف ميولهم واتِّجاهاتهم؛ هذا "ز. ليفين" يقول في مُؤلَّفه الذي يَحمِل طابعًا ماركسيًّا: "لم يكن هناك بُدٌّ من توضيح المفاهيم الجديدة للقارئ بالمزاوجة بينها وبين الأفكار المألوفة، وكان على الطهطاوي أنْ يُعبِّر عن الأفكار الجديدة في صِيغة قديمة، فهو في سِياق دفاعه عنها يُورِد عشرات من الاستِشهادات من القُرآن والأحاديث النبويَّة وأمثلة من التاريخ العربي، ويَسُوق المقارنات في مُصطَلحات إسلاميَّة، ويُورِد آراء لأعلام عرب تتَّفق مع ما يذهَبُ إليه، وإنَّ الدقَّة التي يفعل بها الطهطاوي ذلك لَتشهَدُ بشكلٍ غير مُباشِرٍ على فهْمه العميق لغَرابة الأفكار والمفاهيم الجديدة بالنسبة لِمُواطِنيه.. وهو لا يجدُ فرقًا كبيرًا بين مبادئ القانون الطبَعِيِّ والشريعة، ويُحاوِل التدليل على أنَّ الأشكال الأوربيَّة للنِّظام الاجتماعي معروفة للمسلمين منذ زمنٍ بعيد، ولا تَعارُض بينها وبين الإسلام، لقد كان نشاط الطهطاوي أوَّل مساهمة كبرى في الدعوة لآراء المنورين الفرنسيين الاجتماعية-السياسية بين العرب"[9].

هذا المسلك الذي سلَكَه (الطهطاوي) هو المسلك نفسه الذي يَسلُكه اليوم مَن يُحاوِلون تأصيلَ علم الاجتماع أو علم النفس في بلادنا، فيُلبِسونهما رداءً إسلاميًّا، مُتَجاهِلين أنَّ الإسلام والكفر لا يلتَقِيان.

انطَلَق الأتْباع والطهطاوي من مدرسة الهندسة العسكريَّة لإنجاز هدفٍ أكثر تحديدًا، وهو إفسادُ المرأة المسلمة، كان الأتْباع يسعَوْن إلى تغيير نظرة الشرق المحافظ إلى المرأة.

وكانوا وهم يتجوَّلون في المدن الفرنسيَّة يرفعون شعار أنهم ذاهبون للبحث عن المرأة في مصر، ورغم أنَّ رجال الاجتماع في بلادنا يقولون: إنَّ البحث عن المرأة رمزٌ حركي (للجمهوريَّة)، فلا فرقَ يبدو عندنا؛ لأنَّ (الجمهوريَّة) كانت تعني (الشيوعيَّة) كما تقول وثائق الشرطة الفرنسيَّة عن الأتْباع، كان الأتْباع يسعَوْن إلى تغيير نظْرة الشرق المُحافِظ لتتَّسق مع نفْس نظرة كلٍّ من الأستاذ والأب للمرأة، كان (أستاذُهم) سان سيمون منغمسًا في الحب المفتوح دون أنْ يُبشر به، كما تقول موسوعة العلوم الاجتماعيَّة[10]، أمَّا (الأب) أنفانتان، فقد كان من أنصار الحب المفتوح مثل أستاذه.

وتشهَدُ الموسوعة الأمريكيَّة[11] بأنَّ لأنفانتان نظرةً متطرِّفة عن الزواج، الذي رأى فيه ضرورة أنْ يكون مرنًا مطَّاطًا يُوافِق الأمزجة الخاصَّة لأطرافه، أمَّا موسوعة تشامبرز، فقد شهدت أنَّ (أنفانتان) قسَّم الزواج إلى نوعين: أولهما: دائم بحيث يَتناسَب مع الأمزجة المستقرَّة، والثاني: مُتغيِّر ووقتي يُلائِم الأمزجة الحيَّة والمتقلِّبة[12].

وكما أكَّدت الموسوعة الأمريكيَّة اعتِقال الحكومة الفرنسيَّة لأنفانتان وإيداعه السجن بسبب أفكاره التدميريَّة، فإنَّ الموسوعة البريطانيَّة حدَّدت أنَّ اعتقاله كان بسبب قِيادته لجماعةٍ سريَّة محظورة، وبسبب تشجيعه لِمُمارَسات مضادَّة للأخلاق العامة[13].

أمَّا (الطهطاوي)، فقد دعا إلى تحرير المرأة؛ أي: سُفورها، وإلى اختلاطها بالرجال، بل إنَّه أزالَ عن الرقص المختلط وصمةَ الدنس، فقال: إنَّه حركات رياضيَّة مُوقَّعة على أنغام الموسيقا، ولا ينبغي النظَر إليه على أنَّه عمل مذموم.

امتدحت المشتغلات بعِلم الاجتماع في بلادنا أفكار وآراء (الطهطاوي)، وقلن: إنَّ قيمة وأهميَّة الأفكار التي نادَى بها المجدِّدون الإسلاميُّون تنبع من قُدرتها على التحريض على التمرُّد، والثورة على الأوضاع القائمة التي تميَّزت بالتخلُّف والجمود، وسفَّهن ممَّا أسمينَه بالخِطاب السلفي الرجعي، الذي ارتَبَط بحسن البنا وحسن الهضيبي وسيد قطب، كما امتَدَحنَ أفكار (قاسم أمين) التي جاءت امتدادًا لأفكار (الطهطاوي)، وركَّزن بصفةٍ خاصَّة على قول الأوَّل بأنَّ الحِجاب يخلُّ بنظام الجسد، ويُضعِف الأعصاب، وأنَّه أثرٌ من آثار الاستبداد الذي كبَّل الحياةَ السياسيَّة المصريَّة، وأنَّه فُرِضَ على المرأة لإعلان ملكية الرجل لها واستئثاره بها.

جاءَت الصَّحوة الإسلاميَّة لتَضرِب هي بدَوْرِها أماني وأحلام المُشتَغِلات بعلم الاجتماع في إفساد المرأة المسلمة في الصميم، ها هي (ليلى عبدالوهاب) - أستاذة الاجتماع في مصر - بعد أنِ امتَدحَتْ آراء الطهطاوي، تشهَدُ بنفسها على بُذور انطِفاء جَذوتها، ممثَّلة في انتِشار الحِجاب بين أعدادٍ كبيرةٍ من النِّساء من مختلف الطبقات والشرائح الاجتماعيَّة، وفي الريف والحضر، سجَّلت بنفسها إيمان النساء بأنَّ المرأة إذا خرَجتْ سافرةً استَشرَفها الشيطان، وسطَّرت بنفسها الآيات الدالَّة الداعية إلى الحِجاب في سورتي الأحزاب والنور، وسجَّلت نظرة النساء إلى قاسم أمين وهدى شعراوي على أنهما صنمان، وأنهما يُمثِّلان النقطة السوداء في تاريخ المرأة، وشهدت أيضًا رفْض النساء لِحُكمِ المرأة ورئاستها للدولة وللوزارة؛ استِنادًا إلى قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ما أفلَحَ قومٌ ولَّوا أمرَهم امرأة))[14].

أردنا أنْ نقول هنا: إنَّ الأفكار التي حملها الطهطاوي والاتِّصال بالغرب قد مهَّدا لتأسيس عِلم الاجتماع في مصر، أثبتنا هنا الارتباط بين الأهداف الماسونية وأهداف أتْباع سان سيمون الذين التَقَى بهم الطهطاوي في مدرسة الهندسة العسكريَّة بباريس، ونفذ معهم ما سعَوْا إليه من ضربٍ للإسلام وتغريبٍ للمسلمين، وإفسادٍ للمرأة المسلمة؛ عن طريق تَلقِيح أفكار الإسلام بأفكار سان سيمون.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] ليلى عبدالوهاب، تأثير التيارات الدينية في الوعي الاجتماعي للمرأة المصرية، الدين في المجتمع العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1990، ص281-295.
[2] معن زيادة، معالم على طريق تحديث الفكر العربي، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة، الكويت، 1987، ص174.
[3] انظر تفصيلاً لكلِّ ما جاء في هذه المقالة عن أتْباع سان سيمون في: محمد طلعت عيسى، أتباع سان سيمون: فلسفتهم الاجتماعية وتطبيقها في مصر، رسائل جامعية، مطبوعات جامعة القاهرة، 1957، انظر أيضًا: الوثائق المهمَّة التي جاءت في الرسالة والتي استندنا إليها هنا ص172حتى 283.
[4] انظر الفصل الخاص (هل تحتاج بلادنا إلى علماء اجتماع؟).
[5] مصطفى فهمي وآخرون، مبادئ علم الاجتماع، مكتبة النهضة المصرية، الطبعة الأولى 1954، ص (و، ز).
[6] تابع: طلعت عيسى ص77، 81.
[7] ز.ا. ليفين، الفكر الاجتماعي والسياسي الحديث، ترجمة: بشير السباعي، دار ابن خلدون بيروت، 1978، ص26.
[8] W.l.WILMSHURST. The Meaning Of Masonary,Bell publishino Co.,N.y., 1980، P.29,30,48,50,178,179.
[9] تابع: ليفين ص36.
[10] Martin U.Martel, Saint Simon,The Encyclopedian Of Social Sciences,The Fress.U.S.A,v.13.Pp.593-44.
[11] Corporation,U.S.A ,V.10.P.333 The encyclopedia Americana,
[12] Chambers Encyclopedia,London,1973,v.8.P.172-173.
[13] The New Encyclopedia Britannica,E.B.inc.,London,1973-74V.3 P844.
[14] محمد قطب، واقعنا المعاصر، مؤسسة المدينة، جدة، 1989 ص205-210.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رد مع اقتباس
  #6  
قديم 10-09-2014, 07:52 AM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود غير متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 56,039
ورقة الهدف ليس علم الاجتماع فحسب !

الهدف ليس علم الاجتماع فحسب !
ـــــــــــــــــ



اعترافات علماء الاجتماع
----------------

الحلقة السادسة
------------

الهدف ليس علم الاجتماع فحسب
---------------------

أتْباع سان سيمون - مؤسِّس علم الاجتماع وأستاذ أوجست كونت الذي تلتَقِي عنده مختلف تيَّارات واتِّجاهات علم الاجتماع؛ المحافِظة منها والراديكاليَّة - جاؤوا إلى مصر؛ لتَطبِيق أفكار أُستاذهم، وتمكَّنوا من السَّيْطرة على محمد علي وعلى مُقدَّرات الإنتاج في مصر، وتَكشِف لنا الوثائقُ التي كانت حبيسةً في وزارتي الخارجيَّة والحربيَّة الفرنسيَّتين، وفي مدرسة الهندسة العسكريَّة ومكتبة الترسانة بباريس - أنَّ القضيَّة لم تكنْ قضيَّة (علم اجتماع) فقط، بل إنها أبعد من ذلك بكثيرٍ.

جاءَ أتْباع سان سيمون إلى مصر يَحمِلون معهم مشروعًا لشَقِّ قناة السويس ومشروعًا آخَر لتصنيع مصر[1]، كيف يكون ذلك لخير المسلمين في مصر والله - تعالى - قد حدَّد بوضوحٍ أنهم لا يَرجُون فينا إلاًّ ولا ذمَّة؟!

قال الأتْباع في البداية: إنَّ مشروع شقِّ قناة السويس عملٌ تستَلزِمه (الديانة) السان سيمونيَّة، هدفُه تحقيق الإرادة الإلهيَّة التي حملها (رسول الإنسانيَّة) سان سيمون، ولَمَّا شعروا بافتِضاح أمْرهم عدَّلوا الهدف فقالوا: إنَّه عملٌ صناعي من الطراز الأوَّل، سيؤدِّي تحقيقُه إلى رَخاء وسعادة الإنسانيَّة، قالوا: إنَّه أخطر مشروع عملي في القرن التاسع عشر، وإنَّه يُسجِّل في مصر دليلاً على حُبِّ أتْباع سان سيمون لها بتقديم هذا العمل الإنساني العظيم، أعلَنَ (أنفانتان) - زعيم الأتْباع وأخلص تلامذة سان سيمون - "أنَّ اليوم الذي ستُشَقُّ فيه قَناةُ السويس هو يوم النصر والوحدة بين الشرق والغرب... إنَّ مشروعنا ليس نظريًّا، لكنَّه يتطلَّب منَّا العرق والجُهد".

لَم يكن شقُّ قناة السويس مشروعًا أُقِيمَ حبًّا في مصر وأهلها، ولم يكن هدفه تحقيق فكرة الإنسانيَّة العالميَّة كما يَزعُمون رغمَ أنها فكرةٌ ماسونيَّة الأصل.

تقول الوثائق الفرنسيَّة: إنَّه في 13 يناير 1834 قدَّم (مينو) القنصل العام لفرنسا في مصر الذي كان (ديلسبس) نائبَه في ذلك الوقت - أنفانتان والمهندس فورتل إلى محمد علي والي مصر، حاوَل فورتل إقناعَ محمد علي بشقِّ القَناة، لكنَّ الأخيرَ كان مشغولاً بفكرة إقامة القناطر (التي شارَك فيها الأتْباع) لتنظيم فيضان النيل، وكان يعلَمُ أنَّ مشروع حفْر القناة يتطلَّب قُرُوضًا من الدول الأجنبيَّة.

استعانََ أتْباع سان سيمون بالقُوَى العالميَّة وبالمموِّلين والدبلوماسيين لتنفيذ فكرة شقِّ القناة، تكوَّنت في 27 نوفمبر 1846 جمعيَّة لدِراسة المشروع بها خُبَراء من ألمانيا والنمسا وإنجلترا، كان مقرُّ الجمعيَّة هو دار أنفانتان في باريس، وبدئ في الإجراءات التحضيريَّة لتنفيذ المشروع، كتَب أنفانتان إلى البارون النمساوي (دي بروك) الذي كان يُمثِّل بلادَه لدى حُكومة تركيا يَرجُوه أنْ يُوضِّح للحكومة الروسيَّة المصلحة التي ستَعودُ عليها لو تَدخَّلتْ في هذا المشروع الذي سيُؤدِّي إلى تسوية (مسألة الشرق) على أُسُسٍ وأهدافٍ جديدة.

يقول (طلعت عيسى): إنَّ (ديلسبس) سرَق المشروع من أتْباع سان سيمون وأنكَرَ عليهم دورهم، إلى درجة أنَّه لم يتدخَّل أحدٌ منهم في العقد التأسيسي للمشروع؛ مستندًا إلى حِماية الإمبراطور نابليون الثالث في مُواجَهة الخليفة العثماني.

لا شكَّ أنَّ هناك عَلامات استفهام لا بُدَّ وأنْ تُطرَح: ما هي علاقة أتْباع سان سيمون بالقُوَى العالميَّة وبالمموِّلين والدبلوماسيِّين الذين تدخَّلوا لتنفيذ المشروع؟ ولماذا يُحدِّد الأتْباع أنَّ هذا المشروع سيُعِيد تسوية مسألة الشرق على أُسُسٍ وأهدافٍ جديدة؟ وما ارتِباط مسألة الشرق بالإنسانيَّة العالميَّة التي تتحقَّق عندهم بوَصْل القارَّات ببعضها عن طريق الممرَّات المائية؛ حتى تنتَقِل الثقافات وتتقارَب الميول وتتناسَق الاتِّجاهات على أساسٍ علمي سليم - كما يدَّعون؟

لنأتِ إلى الأهداف القريبة من مشروع شقِّ القناة، يكشف (نورمانو) عن هذه الأهداف فيقول على لسان أنفانتان: "إنَّ مسألة شقِّ قناة السويس ليست مسألةً نظريَّةً أو مسألة سياسيَّة، إنها مسألة تجاريَّة".

تقول الوثائق: إنَّ (رودريج) ذلك الذي كان على رُفات سان سيمون عند وَفاته، هو من كبار رجال المال اليهود، وكان أنفانتان نفسه ابنًا لأحد رجال البنوك أيضًا، أستاذهم سان سيمون ارتَبَط (بفرانسيسكو كابرس) مُؤسِّس بنك سان تشارلز في إسبانيا، وهذا يعني ارتباط سان سيمون وأتْباعه بالدوائر البنكيَّة اليهوديَّة ورجال المال اليهود، وخاصَّة (آل روتشيلد) كما أوضَحنا فيما سبق.

هذا، ويُؤكِّد (نورمانو) أنَّ سان سيمون كان قد طوَّر بِناءً متدرجًا للنظام الصناعي، واعتَبَر أنَّ رجُل البنك هو الموجِّه القومي للإنتاج، وأنَّ سياسة الإقراض (الديون) هي المميِّز للتنظيم الاجتماعي الجدي، وأنَّ البنك هو القوَّة الضابطة المحرِّكة لهذه العمليَّة.

كان مبدأ الإقراض أو سياسة إغراق العالَم في الدَّين هو المشكلة البنكيَّة التي اعتبَرَها (نورمانو) أعظمَ إنجازات السان سيمونيين، وهو الطريق الذي سلَكَه رجال البنوك للسَّيْطَرة على الحياة المُعاصِرة، كما كان التدخُّل في مشروعات شقِّ القنوات المائيَّة وبناء السكك الحديديَّة وسيلةً لضَمان سَيْطرة رأس المال اليهودي على العالم، عبَّر (نورمانو) عن ذلك بقوله: "إنَّ الطرق الحديديَّة والقنوات والبنوك هي محور الأمل في العصر الذهبي الجديد"[2].

هذا هو عين ما حدَث في مصر؛ توالَت القُروض التي اقترضَتْها مصر بين أعوام 1864 - 1875 حتى بلغَتْ نحو خمسة وتسعين مليونًا من الجنيهات، جاءَتْ بعثة كييف عام 1875 لفحْص ماليَّة مصر، واقترحتْ لضرورة إصلاحها إنشاء مصلحةٍ للرقابة على ماليَّتها، وأنْ يخضع الخديوي لمشورتها، أُنشِئ صندوق الدَّين عام 1886 لتسلم المبالغ المخصَّصة للديون من المصالح المحليَّة، فكانت حكومة أجنبيَّة داخل الحكومة المصريَّة، وتولَّى الرقابة على الماليَّة المصريَّة مُراقبان: أحدهما: إنجليزي لمراقبة الإيرادات، والآخَر: فرنسي لمراقبة المصروفات، ثم تطوَّرت الرقابة إلى وزارة مختلطة يَرأَس الماليَّة فيها إنجليزيٌّ، ويَرأَس الأشغال فيها فرنسيٌّ، وهكذا إلى أنِ احتُلَّت مصر عن طريق القُروض.

من هنا يمكن بسُهولةٍ اكتشافُ أهداف أتْباع سان سيمون من مشروع شَقِّ قناة السويس: عملٌ يهوديٌّ تجاريٌّ، أولاً: أغرق مصر في الديون، وأدَّى إلى احتلالها ثانيًا، ومهَّد ثالثًا لتأسيس دولة إسرائيل لتكون القناة في خِدمتها وخِدمة إسرائيل الكُبرى فيما بعدُ.

الهدف الأول والثاني اعتَرَف بهما (نورمانو) في مقالته عن (السان سيمونيين وأمريكا)، أمَّا الهدف الثالث فيَكشِفه (أنفانتان) نفسه، جاء في الوثائق الفرنسيَّة على لسان (أنفانتان) في خِطابه إلى فورتل: "نعم، إنَّني جئتُ إلى مصر لأقومَ بتَوصِيل البحرين بعضهما ببعض، وأنت قد جِئتَ للقِيام بنفْس المهمَّة أيضًا، ولكنَّني جئتُ إلى مصر لأقومَ كذلك بشقِّ قَناة بنما".

ليست هناك قَناة بنما في مصر، ولكنَّه تعبيرٌ مجازي غامضٌ استعمَلَه أنفانتان كعَهدِه دائمًا، إلاَّ أنَّه يُمكِن كشْف معنى هذا التعبير المجازي الغامض بالرجوع إلى قول (ولمشهرست) في كتابه "معنى الماسونية" الذي جاء فيه: "إنَّ النظام الماسوني استمرَّ كما نعرف عبر القنوات التي أشارَ إليها العهد القديم".

ثم إلى قول (أنفانتان) في موضعٍ آخَر من رسائله: "... يتعيَّن علينا أنْ نُنشِئ ما بين مصر التاريخيَّة وبلاد يهوذا القديمة إحدى الطرق التي توصل أوربا بالهند والصين".

هذا هو سندنا في الكشف عن الهدف الثالث للأتْباع من مشروع حفْر قناة السويس.

كما يشهَدُ التاريخ الحديث والمعاصر أنَّه ما تحقَّق للمسلمين إلا سَيْطرة اسميَّة على القناة، أمَّا السَّيْطرة الفعليَّة فكانت لليهود؛ يفتحونها متى يريدون، ويغلقونها متى يريدون، وتمرُّ سفنهم فيها بالطريقة التي يُرِيدونها، وقد ظهَر التحدِّي اليهودي الصليبي سافِرًا في أزمة احتِلال الكويت الأخيرة، ليشهد أنَّ المعركة بيننا وبينهم ما كانت - ولا تزال - إلاَّ معركة إسلام وكفر؛ إذ نشَرت الصُّحف الأمريكية والبريطانية صورتين لحاملة الطائرات الأمريكيَّة (ساراتوجا) وهي تعبُر القناة خلْف أحَد المساجد الكبرى في مدينة السويس، وقد أبرزت الصورتان المسجد بمآذنه وقبَّته، وكتب تحتهما: "حاملة الطائرات الأمريكية ساراتوجا تعبُر البحر الأحمر وراء أحَد المساجد في مدينة السويس متَّجِهة جنوبًا إلى الخليج"[3].

هذا عن مشروع شَقِّ قَناة السويس، نأتي إلى مشروع التصنيع الذي حمَلَه الأتْباع معهم إلى مصر كمبدأٍ من مبادئ أستاذهم (سان سيمون)، قال الأتْباع: إنَّ التصنيع ليس غايةً في ذاته، وإنما هو وسيلةٌ لغايةٍ أسمى وهي: الوصول بالمجتمع إلى حالةٍ مِن الاستِقرار السياسي والاجتماعي، قالوا: إنَّ تحقيق العَدالة الاجتماعيَّة يستَلزِم تصنيع المجتمع، حتى يتحرَّر الأفراد من حالة الرقِّ والاستعمار التي يَعِيشون فيها، وحتى يحكُموا أنفسَهم بأنفُسِهم، قالوا: إنَّ التصنيع هو أهمُّ وسائل القَضاء على البطالة وعدَم الإنتاج والكسل واللصوصيَّة وضعف النفس، وإنَّه في داخل الصناعة نفسها تُوجَد القُوَى الحقيقيَّة في المجتمع التي تعمَلُ على حِفظِه وصِيانته، أسَّس الأتْباع في مصر تسعةً وعشرين مصنعًا، واهتمُّوا بالنَّقل والسكك الحديديَّة وبالبحث عن المعادن والصِّناعات الكيماويَّة، وفي مقابل ذلك وضَعُوا مُقدَّرات الإنتاج في مصر في يدهم تمامًا، كيف يكونُ ذلك لخير المسلمين في مصر والله - تعالى - قد حدَّد بوضوحٍ أنهم لا يَرجُون فينا إلاًّ ولا ذمَّة؟!

لنَعُدْ إلى تحليل نورمانو عن السان سيمونيين: عرَضنا فيما سبَق لمقولة نورمانو من أنَّ "الطُّرق الحديديَّة والقنوات والبنوك هي مُكوِّنات الأمل في العصر الذهبي"، قال سان سيمون عن هذا العصر الذهبي: إنَّه يُؤسَّس على (القُوَى الصناعيَّة الجديدة)، وقال أيضًا: "إنَّ الموت الحقيقي للنِّظام القديم وبِناء الحريَّة الحقيقيَّة من نتائج الصناعة"؛ لهذا يستَلزِم الأمر ضَرُورة الوقوف على ما يقصده سان سيمون بالنِّظام القديم حتى نفهَمَ أهداف أتْباعه من تَصنِيع مصر.

يستَخدِم عُلَماء الاجتماع مصطلح (النظام القديم) لا للإشارة إلى مرحلةٍ تاريخيَّةٍ مُعيَّنة مرَّ بها المجتمع الأوروبي فحسب، بل للإشارة أيضًا إلى نِظام ما قبل الصناعة (بصفة عامَّة) كنظامٍ (غير مرغوبٍ فيه)، وغالبًا ما يُراد به أيُّ نظام (بربري) و(غير متحضِّر) يرتبط (بدِين أو عقيدة).

الصناعة عند الأتْباع لا (الدِّين) هي التي توصل الناس إلى السعادة؛ لأنَّ العلوم الوضعيَّة قد تغلَّبت على (الدِّين والعُلوم الروحيَّة)، وقدَّمت إليهم معرفةً غايتُها الوحيدة تحقيق السعادة الإنسانيَّة وهي الصناعة.

لا أحد يُنكِر أنَّه بدُون الصناعة لن يتقدَّم العالم الإسلامي، ولا أحدَ يجهل أنَّ الغرب يَحُول بيننا وبين أنْ نكون قوَّة صناعيَّة حتى تظلَّ بلادنا سُوقًا استهلاكيَّة لهم، بل إنهم صدَّروا إلينا كتبًا في الاقتصاد خُصِّصت لإقْناعنا بأنَّ أمامَنا مراحل عديدة حتى نتقدَّم صناعيًّا، إنَّهم قد يَسمَحُون لنا بالتصنيع التافِه، لكنَّهم لن يسمحوا لنا (بصناعة الآلات) التي تُوجَد منها باقي الصناعات وباقي المصانع، غالبيَّة شبابنا المُبتَعَثين إلى دول الغرب خاصَّة مُنغَمِسون في دِراسة العُلوم الإنسانيَّة؛ ليُشكِّلوا هم بما درَسُوه عقَبةً أُخرى أمام تقدُّمنا الصناعي، فيَعُودون ويَقُولون لنا: إنَّه لا بُدَّ من أنْ يسبق هذا التقدُّمَ التخلِّي عن عاداتنا وتقاليدنا ومُثُلِنا، وبصفةٍ عامَّة التخلِّي عن عقيدتنا.

تُدرِك الماسونية تمامًا أنَّ القبض على زِمام الصناعة مع التمسُّك بالإسلام سيُؤدِّي بالمسلمين إلى قيادة العالَم؛ ولهذا حرص الماسون على الفَصْلِ بين الدِّين والصناعة، وربْط الأخيرة بالفنِّ والموسيقا، صوَّر سان سيمون للعالم أنَّ الدِّين والصناعة لا يَلتَقِيان، وأنَّ السَّيْطرة الكاملة لا بُدَّ وأنْ تكون لرجال الصناعة على حِساب ما يُسمِّيهم برجال الدِّين، أعلن سان سيمون صَراحةً أنَّ العِلم قد ورث الدِّين إلى الأبد، ورأى أنَّ رجال العلم والصناعة هم الذين يجبُ أنْ يحكُموا؛ لأنهم أكثر إحاطةً ومعرفةً بقوانين الكون، وما عليهم إلاَّ إملاء الأوامر فقط، المجتمع الصناعي عند سان سيمون لن يقومَ على ما يُسمِّيه بالدِّين التقليدي، وإنما على دِينٍ من اختِراعه هو، وإلهٍ من اختراعه هو، وليست الصناعة إلا وسيلةً للقَضاء على ما يُسمِّيه بالنِّظام القديم وما يقومُ عليه من دِينٍ وأخلاقٍ.

هذه هي مَبادئ أُستاذهم عن الصناعة التي جاؤوا ليطبِّقوها في مصر.

ما أنْ جاء الأتْباع إلى مصر حتى وزَّعوا العمل بينهم بطريقةٍ مكَّنتْهم من السَّيْطرة على وسائل الإنتاج والمَرافِق المهمَّة، أقاموا المزارع النموذجيَّة، وعدَّلوا من أساليب الري؛ لأنَّ (محمد علي) كان هو المالك الوحيد للأرض، يستغلُّها وكأنها مزرعة خاصَّة به.

اتَّسق هذا مع مبدأ الأتْباع القائل بأنَّ السَّير بالمجتمع نحو التصنيع لن يتحقَّق إلاَّ إذا أشرَفَ الحاكم على الزراعة إشرافًا تامًّا، ومن هذه الخطوة بدَأ الأتْباع في تطبيق المبادئ الشيوعيَّة في مصر التي تقومُ على إلغاء الملكيَّة الفرديَّة في ضوء ما يسمُّونه بمبدأ عدم استِغلال الإنسان لأخيه الإنسان، ثم إلغاء الملكيَّة الوراثيَّة التي تُؤدِّي عندهم إلى استِغلال الطبقة العاملة، وكذلك لإقرار نوعٍ من النظام ترثُ فيه الدولة لا الأسرة، مع إلغاء قانون العَرض والطَّلب، وإلغاء البيع والشراء؛ لأنهما في نظَرِهم طريقتان فاسدتان في توزيع الإنتاج.

ربَط الأتْباع بين الصناعة والفن والموسيقا؛ فأسَّسوا أوَّل نواة لفرقةٍ موسيقيَّة كاملة العدَّة في مدرسة المدفعيَّة بطره، واهتمُّوا بالفنون الجميلة والتصوير والرسم والنحت كجزءٍ من رسالتهم في قِيادة المجتمع، أعدُّوا تمثالاً لمحمد علي ولابنه إبراهيم - كما أشرنا من قبل - ضخَّموا من دور الفن وقالوا: إنَّ الفن كهنوت - أو دِين - له قدسيَّته، والفنان عابدٌ في مِحراب فنِّه، ورسولٌ من رُسُلِ الإنسانيَّة، وهادٍ إلى الأَخْلاق الاجتماعيَّة.

السؤال هنا: هل أدَّى تصنيع مصر إلى تحقيق العَدالة الاجتماعيَّة التي كان يتشدَّق بها الأتْباع؟ لنترُك هنا رجال الاجتماع أنفُسَهم يتحدَّثون عن الوَبال الذي أُصِيبت به مصرُ بسبب مشروع التصنيع الذي جاءَ به الأتْباع؛ عملاً بفلسفة أستاذهم سان سيمون.

يقول طلعت عيسى مُعلِّقًا على ما تَحقَّق فعلاً لمصر على يد أتْباع سان سيمون:
1- يجزم التاريخ الحديث بأنَّ الفلاح المصري قد هبَط إلى مَرتَبة العامل الأجير، ولم يَعُدْ يرى نفسَه مُرتَبِطًا بالأرض برِباط المصلحة الذاتيَّة؛ فقلَّ اهتمامه سواء في انتِقاء البذور أو إعداد الأرض أو العناية بالمحصول.

2- لَم تتحقَّق العدالة الاجتماعيَّة التي رفَع الأتْباع شعارها، بل تأكَّدت سياسة الاحتكار، وأجبَرت الحكومة الفلاحين على بَيْعِ حاصلات أراضيهم على أساس السعر الذي تُحدِّده لهذه المحاصيل، وهذا ينطَوِي على الظُّلم والإرهاق، وفيه مُصادرةٌ لحقِّ الملكيَّة وحِرمان المالك من الاستِمتاع بحقِّه، ومن الانتفاع من تَزاحُم التجار الذي يَنجُم عنه مُضاعَفة الثمرة للبائع، إنَّ هذا العمل يَقتُل كلَّ نشاطٍ فردي، ويَقبِض أيدي الناس، ويَضرِب عليهم حِجابًا من الفقر والجُمُود.

3- إنَّ الحكم العنيف المُتَناهِي في القَسْوة الناشئ عن تحوُّل الدولة إلى مالكٍ لكافَّة وسائل الإنتاج قد أدَّى إلى تَراخِي الأيدي العاملة وهُبوط النَّزعة الابتكاريَّة لديها.

4- كان أتْباع سان سيمون يأخُذون بفِكرة الحريَّة الاقتصاديَّة؛ أي: تطبيق مبدأ (دعْه يعمل - دعْه يمرُّ) بأوسع مَعانِيه في مختلف نواحي الاقتصاد المصري؛ ولهذا نشطت تجارة مصر الخارجيَّة، ولكنَّها لم تكنْ لصالح المواطنين، وإنما كانت متَّجهةً لتنفيذ سياسة ثابتة يرسمها الحاكم يُؤكِّد بها نِظام الاحتِكار في الميدان التجاري، وأصبحت الدولةُ هي التاجر الوحيد والمُصدِّر الوحيد والمستورد الوحيد.

5- كانتْ أفكار السان سيمونيين من أهمِّ العوامل التي قَضَتْ على طوائف كثيرة من التجار نتيجةً لاحتكار محمد علي للتجارة، كما هبَطتْ بالقدرات الصناعيَّة الضروريَّة، وصرفت الاهتمامَ عن الإنتاج الزراعي لعدم تمكُّن الفلاح من توريث الأرض التي يزرَعُها لأعقابه.

6- أصبح مبدأ (عدم استغلال الإنسان لأخيه الإنسان وتعاوُن الجميع في سبيل استغلال الإنسان لِمَظاهِر الطبيعة) على حِساب العمَّال والفلاحين والمواطنين الذين يكسبون قُوتَهم بسَواعِدهم، وأصبح الحاكم هو المُنتِج الوحيد والصانع الوحيد والمالك الوحيد.

7- لم يُؤدِّ التصنيع إلى سعادة مصر - كما ادَّعى الأتْباع - بل كان من العوامل التي قَضَتْ على الابتكار الصناعي، وبدَّل القُوَى الإنتاجيَّة العاملة إلى مجرَّد أداةٍ في يد المنتج، وجرَّد أعمال الإنسان من صِفات الرُّقيِّ، وهبَط بمستواها، وهدَم قوَّة الوحدة الإنتاجيَّة، وأشاع الانحِلال الاجتماعي والتناحُر بين الطبقات.

8 - كانت سياسة التصنيع قائمةً على أساس إلغاء الملكيَّة الفرديَّة، وإلغاء حق الوراثة؛ ممَّا أعاق تكوين المُثُلِ العليا في المجتمع المصري؛ إذ وضعت نظامها على قاعدةٍ تُؤثِّر في شخصيَّة الفرد وفي حَوافِز العمل لدَيْه، إنها زوَّدت الإنسان الطالح اجتماعيًّا بعُدَّةٍ سياسيَّة يستَخدِمها في سُبُلٍ تضرُّ بالصالح العام؛ إذ يستطيع أنْ يُوجد بها نُظُمًا تُعَدُّ من أخطَرِ ما اختَرعَتْه المدنيَّة من أسلحة الهدْم والتقويض.

هذه هي خُلاصة نتائج تطبيق الأفكار الشيوعيَّة في مصر التي جاء بها الأتْباع التِزامًا بمبادئ أُستاذِهم سان سيمون عن التصنيع، وهذه هي عَدالتهم الاجتماعيَّة والاستقرار السياسي والاجتماعي الذي يتحدَّثون عنه.

لكنَّ الأتْباع ما جاؤوا لضرْب مصر اقتصاديًّا واجتماعيًّا تحت سِتار التصنيع فحسب، وإنما جاؤوا - وتحت نفس ستار التصنيع - لإزاحة الشريعة الإسلاميَّة وإحلال التشريعات الفرنسيَّة مكانها، وهو أحد الأهداف التي جاء نابليون إلى مصر لتحقيقها، واعتَرَف الأتْباع بذلك في قولهم: إنَّ حملتهم هي إعادةٌ لحملة نابليون (عن ضميرٍ مُخلِص لذات الغاية).

يقول الأتْباع بصراحةٍ ووضوح: "إنَّ التنظيم القضائي نفسه يُصبِح غيرَ ذي موضوعٍ في مجتمعٍ صناعي متكامل"، ويقولون أيضًا: "إنَّ المصدرَ الأصيل لكلِّ الفضائل الإنسانيَّة هو العمل، وإنَّ هناك أُناسًا يحصلون على مَزايا دون تحمُّلِ أيِّ نوعٍ من المخاطر"؛ ولهذا فإنَّ المدرسة السان سيمونية تهدف إلى (استقرار التشريعات) التي تكفل القضاء على هذه المزايا.

لكنَّ هذه المهمَّة عُهِدت هذه المرَّة إلى الرجل الذي أعادَ الأتْباع صِياغة عقله في مدرسة الهندسة العسكريَّة إلى (رفاعة الطهطاوي).

بدأ الطهطاوي هذه المهمَّة على مراحل:
الأولى: محاولة التوفيق بين (شرعة الفرنسيين الوضعيَّة) والشريعة الإسلاميَّة.
الثانية: حض الناس على القبول بما أخَذ به الأوربيُّون من قوانين وضعيَّة؛ لما فيها من (فائدة)، وعلى أساس أنَّ دستور الفرنسيين جديرٌ بالاقتباس، رغم أنَّه نتاجٌ إنساني مَصادِره إنسانيَّة لا شرعيَّة، يقول الطهطاوي في ذلك: "فلنذكُره لك وإنْ كان غالب ما فيه ليس في كتاب الله - تعالى - ولا في سنَّة رسوله"[4].

بدَأ الطهطاويُّ التنفيذَ الفعليَّ لمهمَّة إزاحة الشريعة، وكان سلاحُه في ذلك (مدرسة الألسن) التي أسَّسها وأشرَفَ عليها، ويحدِّثنا عُلَماء الغرب عن الكيفيَّة التي أدَّى بها الطهطاوي هذه المهمَّة، يقول بي.جي.فاتكيوس P.I.Vatikiotis أستاذ علم السياسة في الشرقَيْن الأدنى والأوسط في كتابه "التاريخ الحديث لمصر" - وهو أحد كتب سلسلة الدراسات الآسيوية والإفريقية في التاريخ الحديث التي أشرَفَ عليها المستشرِق اليهودي (بيرنارد لويس) -: "لقد كان الطهطاوي أوَّل مصري قدَّم بطريقةٍ منظَّمة وذكيَّة المبادئ العامَّة للمُؤسَّسات السياسيَّة الأوربيَّة، قدَّم الطهطاوي أفكارَ عصرِ التنوير والثورة الفرنسيَّة، وهما عِماد هذه المؤسَّسات، كان الطهطاويُّ معجبًا بعقلانيَّة التنوير الأوربي؛ ولهذا فقد فتَح الطريق لتابِعِيه للهُجُوم المكثَّف على ما هو تقليديٌّ في مصر".

"أدخَلَ الطهطاويُّ إلى قُرَّائه المصريين وهو يَصِفُ الدستور الفرنسي والمؤسَّسات السياسيَّة الفرنسيَّة فكرة (السلطة العلمانيَّة) ومفهوم القانون الوضعي المشتق من مصادر أخرى غير (المصادر الإلهيَّة)".

"تَرجَم الطهطاوي من القانون المدني الفرنسي الوثيقة الدستوريَّة (الشرطة) - كما أسماها - وهي عبارةٌ عن دِراسات قانونيَّة وتشريعات علمانيَّة كانت ذات أهميَّة كبيرة في عهد إسماعيل، الذي كان قوَّامًا إلى الأخْذ بالمجموعات القانونيَّة الأوربيَّة.

عُرِفَ الطهطاوي بإدارته لمدرسة الألسُن في مراحلها المتميِّزة من تاريخها 1835-1849، 1864-1868، 1868-1871، خرَّجت هذه المدرسة ودرَّبت المترجِمين والمشرِّعين والإداريين، وترجم ما مجموعُه ألفَا عملٍ من الأعمال الأوربيَّة إلى اللغة العربيَّة".

"كان لمدرسة الألسُن تأثيرها العظيم في ظُهور أوَّل مُحامِين ومُشرِّعين في مصر، كان أبرز المهامِّ التي خصَّصَها الخديوي إسماعيل لهذه المدرسة هو ترجمة مجموعة القوانين الأوروبيَّة؛ مثل: قانون نابليون... تخرَّج في هذه المدرسة (قدري باشا) الذي كان أعظم إنجازاته أنَّه نسَّق الشريعة الإسلاميَّة لتكون على (نمط المجموعات القانونيَّة الأوربيَّة) في ثلاثة مجلدات... هناك صالح مجدي باشا وعثمان جلال، وهما ممَّن شارَكُوا في ترجمة القانون النابليوني، ورأسوا المحاكم المختلطة التي ترجموا قوانينَها إلى العربيَّة"[5].

الذي يَبقَى لدينا الآن: ما هو موقفُ رجال الاجتماع في بلادنا من سان سيمون وأتْباعِه والأفكارِ التي حمَلُوها معهم وطبَّقوها في مصر؟

يَعرِف رجال الاجتماع في بلادنا من الذين تابَعُوا الحركة السان سيمونيَّة الفسادَ العقديَّ عند سان سيمون وأتْباعه، يعرفون رأيَ سان سيمون بأنَّ الله فكرةٌ ماديَّة ناتجة عن دورة السائل العصبي في المخ، وأنَّ الدِّين اختراعٌ قامَتْ به الإنسانيَّة، وأنَّ العِلم يجبُ أنْ يكون دِيانةَ المستقبَل، يعرفون أنَّ الأخلاق عن سان سيمون أرضيَّة لا سماويَّة.

يعرفون حقيقة الأفكار الشيوعيَّة وما جنَتْه مصرُ من مآسٍ نتيجةً لتَطبِيقها، إنهم يَعرِفون كلَّ ذلك لكنَّ الخواء العَقدي عندهم وشدَّة تعلُّقهم بالغرب أدَّى بهم إلى الآتي:
1- وصَفُوا أفكارَ سان سيمون بأنَّها ذات عُمقٍ وأصالةٍ، برَّرُوا غُموضَها بأنَّه غموضٌ مقصود، فسَّروا تناقُضَها بأنَّه أمرٌ تقتَضِيه الظُّروف السياسيَّة السائدة في عصره، عدوا سان سيمون (مُبدِعًا لا نظيرَ له)، و(رسولاً للإنسانيَّة) يفتح الآفاقَ لمذهبٍ جديدٍ وفلسفةٍ جديدةٍ، قالوا: إنَّ الأساس الاجتماعي يقوم على دَعائمَ أصيلةٍ لا تَزال باقيةً على مرِّ العصور".

"وصَفُوا الأتْباعَ بأنهم (ذوو جُرأة وإخْلاص)، وتأسَّفوا على المجتمع الذي يعيشُ بلا غايةٍ سامية؛ كتلك التي يسعَى وراءها أتْباع سان سيمون".

2- لا يَعرِف رجال الاجتماع في بلادنا من الإسلام إلاَّ اسمَه؛ ولهذا كشَف اعتِراضهم على الدِّيانة السان سيمونية عن سطحيَّة وجَهالة كاملة عن الدِّين وعن الإسلام، أوقعَهُم فيها علمُ الاجتماع نفسُه، فدافَعُوا عن الدِّين من منظور علم الاجتماع فانتقَلُوا من إلحادٍ إلى إلحادٍ، قالوا: إنَّ الدِّين ظاهرةٌ اجتماعيَّة؛ أي: إنَّه من صُنع الناس، قالوا: إنَّ الأدْيان التي تقومُ على التوحيد في الأمم الحديثة ما كانت كذلك إلا لأنَّ القوانين الاجتماعيَّة وطبيعة الحياة فيها تُساعِد على الاعتقاد في قوَّة واحدة علويَّة مستقرَّة لهذا الكون.

قال رجال الاجتماع في بلادنا ما نصُّه: "إنما طبائع الأشياء والقوانين الاجتماعيَّة التي تسيرُ المجتمعات الإنسانية هي التي تعمَلُ من تِلقاء نفسها على إيجاد الدِّين بالشكل الذي يتَّفق مع طبيعة كلِّ مجتمع".

3- رفَع رجال الاجتماع في بلادنا عن الأتْباع الاتِّهام الذي وجَّهه الغربيُّون أنفُسهم إليهم بأنهم شيوعيُّون، قالوا: إنَّ دعوتهم إلى القَضاء على حقِّ الملكيَّة وحق الوراثة ليست بشيوعيَّة، في الوقت الذي اعترَفُوا فيه بأنَّ أفكار سان سيمون مهَّدَتْ لأفكار (ماركس).

قالوا: إنَّ اشتراكيَّتهم ليسَتْ كاشتراكيَّة ماركس، وإنَّ مفهوم الطبقة العاملة عندهم ليس هو المفهوم عينه عند ماركس.

4- انطَلَى عليهم الادِّعاء بأنَّ ديلسبس سرَق مشروع شقِّ القناة من أنفانتان رغم أنهم سجَّلوا شُكر ومُبارَكة الأخير لما قام به الأوَّل، اعترَفُوا بأنَّ القَناة شُقَّتْ بأعمال السخرة والتعذيب وبعرَق وبدِماء آلاف المصريِّين، لكنَّ جَهلَهم جعلَهُم ينسبون هذا إلى ديلسبس، فقالوا: إنَّ "مشروع ديلسبس ما هو إلاَّ صورة سوداء في تاريخ الإنسانيَّة وتاريخ فرنسا خاصَّة، ولا يتَّفق مع فكرة الإنسانيَّة العالميَّة، ولا مبادئ مدرسة سان سيمون"، في الوقت الذي خلَعُوا على أفكار أنفانتان صفة النَّبالة والسُّمو.

الذي أردنا أنْ نكشِفَه هنا هو الدَّور المهم الذي لَعِبَه أتْباع سان سيمون - مُؤسِّس علم الاجتماع وأستاذ أوجست كونت - في ضرب الإسلام وتغريب المسلمين، وإفساد المرأة المسلمة، وتدمير مصر اقتصاديًّا واجتماعيًّا، وتطبيق الأفكار الشيوعيَّة بها، وسَيْطرتهم على مُقدَّرات مصر وعلى حاكِمها، ثم إغراقها في الديون تمهيدًا لاحتلالها وتأسيس دولة إسرائيل، وشق قناة السويس على دِماء وجُثَثِ المصريين لتكون في خِدمة إسرائيل الكُبرَى.

إنَّ هذا كلَّه لَيَشهَدُ - مِصداقًا لما قالَه (الشهيد سيد قطب) - بأنَّ المعركة بيننا وبينهم هي معركة عقيدة مهما رُفِعت في ميدانها من شعارات ورِوايات مزيَّفة تُخالِف ذلك، وأنَّنا نُواجِه أعداء يتربَّصون بنا، ولا يَقعُدون عن الفتك بنا بلا شفقة ولا رحمة إلا إذا عجزُوا عن ذلك، وإنَّ وراء هذه العداء تاريخًا طويلاً يشهَدُ بأنَّ هذا هو الخطُّ الأصيل الذي لا يَنحَرِف إلاَّ لطارئٍ ثم يعودُ فيأخذ طريقَه المرسوم، وإنَّ حقيقة الاعتداء فيهم أصيلةٌ تبدأ من نُقطة كُرههم (للإيمان) بِذاته وصُدودهم عنه، وتنتَهِي بالوقوف في وجْه هذا (الإيمان) والتربُّص به.

يقول الله - عزَّ وجلَّ -: ﴿وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ * اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [التوبة: 8 - 9].

هذا هو السبب الأصيل للحِقد الدَّفِين علينا والانطِلاق في التنكيل بنا، إنَّه الفُسوق عن دِين الله والخروج عن هُداه، إنهم يُضمِرون الحقدَ لكلِّ مؤمن، ويتبعون هذا المنكر مع كلِّ مسلم، ويُوجِّهون حِقدَهم وانتِقامهم لهذه الصفة التي نحنُ عليها: (الإسلام).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] راجع كلَّ ما كُتِب في هذه المقالة عن سان سيمون في المرجعين الآتيين للدكتور محمد طلعت عيسى: أتباع سان سيمون وفلسفتهم الاجتماعية وتطبيقها في مصر، رسالة دكتوراه، مطبوعات جامعة القاهرة 1957، وسان سيمون، دار المعارف مصر.
[2] راجع كل ما أشرنا إليه هنا عن نورمانو في المقالة الآتية:
J.F.Normano. Saint Simon and America,Social,forces,oct.,1932.PP.8-14.
W.L.wilmshurst.The meaning of Masontery,bell publishing co.,N.Y.,1960.P.179.
[3] نُشِرت الصورتان في صحيفتي Financial Times اللندنية الصادرة 21 أغسطس 1990 وU.S.A to-day الأمريكية في 23 أغسطس 1990.
[4] معن زيادة، معالم على طريق تحديث الفكر العربي، عالم المعرفة العدد 115 يوليو 1987، الكويت ص189-191.
[5] P.j.Vatikiotis.The Modern History Of Egypt,Weidenfeld and Nicolson,London,1969.PP.115-123.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رد مع اقتباس
  #7  
قديم 10-09-2014, 07:56 AM
الصورة الرمزية عبدالناصر محمود
عبدالناصر محمود غير متواجد حالياً
عضو مؤسس
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
المشاركات: 56,039
ورقة علم الاجتماع: غبش في التصور وتشوش في النظرية

علم الاجتماع: غبش في التصور وتشوش في النظرية
ـــــــــــــــــــــــــ



اعترافات علماء الاجتماع
----------------

الحلقة السابعة
------------

علم الاجتماع: غبش في التصور وتشوش في النظرية
------------------------------

أولاً: غبش في التصوُّر:
------------

أوَّل ما تعلَّمناه حينما كُنَّا طلاَّبًا بقسم الاجتماع بجامعة القاهرة هو أنَّ هناك نظامًا كامنًا في الطبيعة، وأنَّ علم الاجتماع يَسعَى إلى اكتِشاف ووصْف وتفسير النظام الذي يُميِّز الحياة الاجتماعيَّة للإنسان، تعلَّمنا من أساتِذتنا أنَّ الأحداث تَتِمُّ في شكلٍ مُتَتابع مُنتَظِم؛ حيث يُمكِن صِياغة أحكامٍ قابلة للتَّجرِيب حول علاقة حادثةٍ بأخرى عند نُقطةٍ مُعيَّنة من الزمن وتحت ظروفٍ مُحدَّدة، تعلَّمنا من أساتِذَتنا أنَّ الناس في حَياتهم اليوميَّة يَقُومون بملايين الأفعال الاجتماعيَّة وهم يَتفاعَلون مع بَعضِهم البعض، وأنَّ هذا الكمَّ الهائل من الأفعال لا يُؤدِّي إلى الفَوضَى والاضطراب؛ بل يُؤدِّي إلى ظُهور ضَرْبٍ من النِّظام يَتمكَّن الفرد بِمُقتَضاه من أنْ يحقِّق أهدافه دُون أنْ يَتداخَل أو يَتضارَب مع أهداف الآخَرين، علَّمَنا أساتِذتُنا أنَّ مهمَّة علم الاجتماع تنحَصِر في الوُقوف على كيفيَّة حُدوث ذلك، وكيف أنَّ التنسيق بين الأفعال المتنوِّعة الصادرة من الأفراد يُؤدِّي إلى تدفُّق الحياة الاجتماعيَّة واستِمرارها، وكيف يمكن التخلُّص من حالة الاضطراب والصِّراع الناتجة عن مُحاوَلة تحقيق بعض الناس أهدافهم على حِساب الآخَرين.

تعلَّمنا من أساتذتنا أنَّه ليس من شأن علم الاجتماع أنْ يضع برنامجًا لرفاهية الناس، وأنَّه ليس نظريةً للإصلاح الاجتماعي، وأنَّه ليس قانونًا للأخلاق، إنَّه - فقط - منهجٌ متخصِّص ووجهة نظَر مشابهة لتلك التي للعلوم الطبيعيَّة، إنَّه يُحلِّل الظواهر التي تَنشَأ نتيجةً لحياة البشر ويُفسِّرها، وإنَّه لا يضَع أحكامًا قيميَّة، ولا يضَع مستويات للسلوك الإنساني، إنَّه لا يَستَحسِن ولا يُدِين سياسة معيَّنة أو برنامجًا خاصًّا، ولكنَّه يصف ببساطةٍ العلاقةَ بين العلَّة والمعلول ويُحلِّلها، إنَّه يبحث فيما هو كائنٌ، ويترك ما يجب أنْ يكون لِمَن يهتمُّون بالجانب الأخلاقي والمشكلات الاجتماعيَّة.

انجذَبْنا إلى بريق علم الاجتماع - كغيرنا من طلاَّب علم الاجتماع في العالم - على أمَل أنْ يُساعِدنا هذا العلمُ على فهْم أسباب فَوضَى الحياة الاجتماعيَّة المُعاصِرة، وعلى أمَل أنْ نجدَ فيه حُلولاً للمشكلات الاجتماعيَّة التي يُعانِي منها المجتمع، والآن وبعد ثلاثين سنة أكمَلناها في دِراسة وتَدرِيس علم الاجتماع اكتَشَفنا أنَّ كلَّ ذلك كان سَرابًا في سراب.

لم يستطع علم الاجتماع أنْ يُحقِّق أمانينا منذ كنَّا طلابًا وحتى الآن؛ لا في فهْم أسباب فوضى الحياة الاجتماعية، ولا في تقديم ولو حلاًّ واحدًا لمشكلةٍ واحدةٍ يُعانِي منها مجتمعنا.

اكتشَفْنا أنَّ العلوم الاجتماعيَّة برُمَّتها ما هي إلا علومٌ أوربيَّة الصُّنع، وأنها عجزت - في بلادها - عن إثارة القَضايا المتَّصلة بصَمِيم وُجود الإنسان، اكتشفنا أنَّ ما درَسْناه لم يكنْ أكثر من مجرَّد أفكار فلسفيَّة، وقيم ومواقف أخلاقيَّة، تخصُّ مجتمعات وثَقافات تختَلِف عنَّا، لقَّنَها لنا أساتذتنا تحت سِتار العِلم وباسم المنهج العلمي، كنَّا ندرس نظريَّات لم تكن منفصلةً - أبدًا - عن التحيُّزات العنصريَّة والفرديَّة لأصحابها، وباسم الالتزام بالمنهج العلمي كان علينا أنْ نَقبَل هذه النظريَّات كمُسلَّمات، لم تكن أبدًا خاضعةً لتمحيصٍ علمي، بل كانت مُستَمدَّة في معظمها من الحدْس والتخمين والانعِكاسات الشخصيَّة لواقع مُنظِّريها، أساتذتنا حوَّلونا إلى أجيالٍ ذليلة تابعة تافهة، فسكرت أبصارنا، وبلغت بنا السطحيَّة والغَفلة إلى أنْ نقول: إنَّ تراث الغرب ليس ملكًا للغرب وحدَه، إنما هو تراث الإنسانيَّة، ومن حقِّنا أنْ نأخُذ منه كما سبَق أنْ أسهَمْنا في بنائه.

كانت على قُلوبنا وعلى سَمعنا وعلى أبصارنا غِشاوة، فقلنا: إنَّ هناك عُموميَّات تجمَعُ بين المجتمعات البشريَّة تسمح لنا باستخدام مَقُولات وأفكار وأدوات ظهَرتْ في غير مجتمعاتنا وغير ثقافتنا، إلى أنِ اكتَشَفنا بعد حينٍ أنَّ العُلوم الاجتماعيَّة علومٌ عقديَّة تحمل فِكرًا مُعيَّنًا، وأيديولوجيَّة خاصَّة تُعادِينا أو تَزدَرِينا في أحسن الأحوال، وتُحرِّضنا على احتِقار ثَقافتنا، وترغمنا على الاعتِقاد بأنَّنا أدنى، تقول لنا: إنَّهم هم الكعبة وهم النموذج الوحيد للتقدُّم، وما علينا إلاَّ أن نتبعهم طواعيةً واختيارًا، وإلا فستظهر لعلومهم الاجتماعيَّة أنيابها الحادَّة، فهي علومٌ لا يعرف الجهلاء منَّا أنها محميَّة بقوَّةٍ مسلَّحةٍ.

اكتشفنا أنَّ الحياة الاجتماعيَّة شيءٌ عادي، سهلة بسيطة، يمكن التعبير عنها بلُغةٍ يسيرةٍ يفهَمُها كلُّ الناس، لكنَّنا كُنَّا أسرى لما تعلَّمناه من أساتذتنا الذين عقَّدوا لنا هذه الحياة، حينما جعَلُوا من دِراسة المجتمع تكنيكًا فنيًّا مُعقَّدًا له قواعد صارمة، ويتطلَّب التمكُّن منه مرحلةً من الإعداد الطويل، والتدريب المتواصِل، تعلَّمنا هذا التكنيك، والتَزَمنا بالقواعد الصارمة، وانتهَيْنا من الإعداد والتدريب، وفُوجِئنا بأنَّ رجل الشارع لم يستطع أنْ يتعرَّف على نفسه وسط تعقيداتنا، ولطمنا بقوله إنَّه أقدر من عالِم الاجتماع على فهْم المجتمع وفهْم الناس، وأنَّ مقولاتنا مقولاتٌ من الدرجة الثانية، تُمثِّل ما كوَّنَه الناس العاديون عبر حياتهم اليوميَّة، وأنَّ المعرفة التي نُقدِّمها ليست اكتشافًا جديدًا، وإنما هي تأكيدٌ أو إعادة صِياغة لما هو قائمٌ في: حياة الناس، وحديثهم، ولغتهم، وخِبرتهم، وعملهم... وأنَّ ما نقوم به ليس إلاَّ تنظيمًا أو إعادة صِياغة للمفاهيم الموجودة فعلاً بين الناس.

كنَّا نعتقد أنَّنا سنصبح كعلماء الفيزياء والكيمياء والأحياء، الذين أنفَقُوا الشطر الأعظم من حياتهم قبل أنْ يصبحوا حجَّةً في تخصُّصاتهم، وسنصبح يومًا ما حجةً في شؤون المجتمع، لكنْ (ول ديورانت) صاحب "قصة الفلسفة" الشهير صفَعَنا بقوله: "كلُّ صبي حلاَّق أو بقَّال يعتَبِر نفسه حجَّة ومرجعًا يعرف كلَّ حَلٍّ لكلِّ مطلب وكل حاجة في هذا العالم".

كبار عُلَماء ومُؤرِّخي العالم؛ بل أساطين علم الاجتماع ذاته لم يُقِيموا لنا وزنًا ولا احترامًا، وجعلونا موضع سُخريتهم ونِكاتهم، هذا يقول: "إنَّ علم الاجتماع هو العلم الذي يأخُذ ما يفهمه كلُّ واحد منَّا، ويصوغُه في عباراتٍ لا يفهمها أيُّ أحد منَّا"، وذاك يقول: "إنَّ عُلَماء الاجتماع لا يفعَلُون أكثر من التعبير عن كلِّ ما هو واضح بطريقةٍ مُعقَّدة وغامضة"، وثالث يقول: "إنَّ علم الاجتماع علم نفاية"، ورابع يقول: "إنَّه علم طفيلي"، وخامس يقول: "إنَّ لبعض الفنَّانين والأدباء والصحفيين حسًّا ووعيًا فكريًّا لا يوجد عند عُلَماء الاجتماع المتخصِّصين"، وسادس يقول: "إنَّ لصحيفة واحدة أو لعمودٍ واحد فيها يحظى بدرجةٍ من الشعبيَّة أو لبرنامج في الراديو أو التليفزيون - جاذبيةً وتأثيرًا واسعًا يَفُوق تأثير عُلَماء الاجتماع ولو مجتمعين".

وثامن يسخَر من الغموض والتعقيد اللغوي في مؤلَّفات علم الاجتماع؛ فيشير إلى كتابٍ يتكوَّن من خمسمائة وخمسٍ وخمسين صفحة أُعِيدت ترجمته إلى مائة وخمسين صفحة؛ ليَسهُل قِراءته، وظلَّ رغم ذلك محافظًا على غُموضه، ووَصَفَه عالِمُ اجتماع شهير بأنَّه عبارةٌ عن مجموعةٍ فارغة من الألفاظ ذات الرَّطانة الكاذبة.

درسنا عشرات المفاهيم في عِلم الاجتماع، ثم اكتَشَفنا أنها جزءٌ يسيرٌ من ترسانة ضَخمة من المصطلحات الغامضة التي لا تفيد في أيِّ تحليل، واكتَشَفنا أيضًا أنَّ المعرفة المستخرَجة من هذه المفاهيم إذا جُرِّدت من أغطيتها الفنية وطبقاتها اللفظيَّة التي تحتَمِي بها لا تختَلِف كثيرًا عن المعرفة اليوميَّة لعامَّة الناس، لقد نجح علماء الاجتماع في اختراع مفاهيم تَزخَر بها مؤلفات العلم، ورغم ذلك فإنَّ هذه المفاهيم لم تُسهِم في تقديم صورةٍ حقيقيَّة للمجتمع الإنساني.

بعد رحلةٍ طويلة جدًّا مع علم الاجتماع، اكتشفنا أنَّه لا يُمثِّل وحدة فكرية متجانسة، ليس هناك نموذج نظري واحد تحقَّقت له الهيمنة الكاملة، فعلى امتداد تاريخ العلم تنشأ نظريَّات وأفكار، ثم يأتي ما يُخالِفها، فيُعاد النظر فيها ويؤلف غيرها... وهكذا.

نظريَّات العلم تعرَّضت لانتقاداتٍ شديدة وعديدة، البحوث الاجتماعيَّة تعرَّضت لمراجعةٍ شاملة، اتجاهات هنا وهناك تُعِيد النظر في كلِّ المسلَّمات النظرية والمنهجية للعلم.

منذ أنْ ظهَر علم الاجتماع إلى حيِّز الوجود وهناك اختلافات جوهريَّة بين عُلَمائه حول: طبيعته ومناهجه وأهدافه القُصوَى، كما أنَّ تتبُّع تاريخ هذا العلم يبيِّن أنَّ عُلَماءه قد أخفَقُوا في الوصول إلى اتِّفاق عام حول قَضاياه، ولا تزال هناك تَناقُضات فكرية، وتصوُّرات متباينة فيما بينهم لم تُؤدِّ بهم إلى إجماعٍ حول تفسير الواقع الاجتماعي والإطار الثقافي لأيِّ مجتمعٍ من المجتمعات.

الظُّروف التي كتب فيها كِبار عُلَماء الاجتماع، والوقت الذي كتبوا فيه كلَّ ذلك - لم يَعُدْ قائمًا، الحلول التي قدَّموها لا تصلح للأفراد الذين يَعِيشون في عالم اليوم والأحداث التي تُحِيط بهم.

لم يستطع علم الاجتماع أنْ يُقدِّم لنا صورةً كاملة وشاملة للإنسان والمجتمع، لم يُقدِّم لنا إلا وجهة نظر مُعيَّنة - من بين وجهات نظَر عديدة - وهي وجهة نظَر محدودة ومُحدَّدة، المشتَغِلون بعلم الاجتماع يُدرِكون دائمًا نسبيَّة وقُصور آرائهم، ونسبيَّة التساؤلات التي يطرحونها، ويُدرِكون أيضًا قُصور الإجابات التي يعتقدون أنهم انتهوا إليها.

التنظير الذي قام ويقوم به عُلَماء الاجتماع ما هو إلا ضربٌ من التَّرَفِ، المفكِّرون الذين يَصُوغون نظريَّاتهم عن المجتمع الإنساني يتبنَّون مواقف تتَّصل اتِّصالاً مباشرًا بمصالحهم، عالِم الاجتماع اليوم لا يُعتَبر رجلاً عامًّا أو رجلاً لكلِّ المجتمع؛ لأنَّ حياته لا تتَّسِق مع ما يكتب وما يعتقد، إنَّه لا يطرح موضوعات جديدة، ويردُّ المشكلات دائمًا إلى مسائل شخصيَّة، ويغرقنا في ضربٍ من التأمُّل الاستبطاني أو الرومانسيَّة.

عُلَماء الاجتماع صِنفان: مُنظِّرون خياليُّون يعيشون في بُروجٍ عاجية، لا يَعرِفون شيئًا عن العالم المحيط بهم، بعيدون عن الواقع الحقيقي للمجتمع، وجامعو بيانات ينفذون بحوثًا لحِساب الآخَرين نظير مقابل مادي، لا يلتزمون بأيِّ قيمةٍ حتى القِيَم التي يتذرَّعون بها، وكل عُلَماء الاجتماع يعملون داخل نسيجٍ اجتماعي مُفتَّت كانوا هم أحدَ عمد تخريبه، وجامعات مشلولة لم تستطع أنْ تخرج عن الدور المرسوم لها.

علم الاجتماع كفرعٍ أو تخصُّص علمي - كما يعتَقِد أصحابُه - ليس إلاَّ مجموعة من المشكلات المتراصَّة جنبًا إلى جنبٍ دون وُجود علاقة عميقة تربط بينها.

النتائج التي يمكن استخلاصها من بحوث علم الاجتماع ليست إلا مجموعة من التعميمات التي يُسمُّونها (بالتعميمات الأمبريقية)، ويقصدون بها ما يستَنتِجه الباحث من فحْصه للعلاقة بين متغير وأكثر، القوانين التي وعَدُونا بها منذ الربع الأول من القرن التاسع عشر لا أثَر لها، الإنجازات التي تحقَّقت عبر تاريخ العلم كله وصلتْ إلى طريقٍ مسدود، وإذا سلَّمنا بأنَّ الهدف الأسمى لأيِّ علمٍ من العلوم هو الحدُّ من مخاطر المستقبل والتنبُّؤ بمشكلاته، فإنَّ هذا الهدف لم يتحقَّق حتى الآن.

ولهذا كلِّه لا نستغرب اليوم حينما يقول علماء الاجتماع: "إنَّه يجب علينا التخلِّي عن الفكرة الذاهبة إلى أنَّ الطبيعة الإنسانيَّة تنتَظِم في شكل عُلوم فرعيَّة تعكسها أقسام الجامعات المختلفة".

طالِبُ الدراسات العليا المتميِّز القارئ المتابع للجديد في علم الاجتماع، هو الذي يَقضِي ليله ونهاره بين أدوار ورفوف كتب ودوريات علم الاجتماع قديمها وحديثها بمكتبة الجامعات الأمريكية بالقاهرة، ولا سبيل له غيرها؛ فمكتبات جامعاتنا المحليَّة أقرب إلى المكتبات العامَّة عنها كمكتبات جامعيَّة، حينما ابتُعِثنا إلى الولايات المتحدة سَواء على نفقة الدولة أو سافرنا إليها على نفقتنا الخاصَّة، كنَّا نشعر بسعادة غامرة ونحن نجمع الجديد في علم الاجتماع من مكتبات جامعات: جورج واشنطن، وجورج تاون، وهاوارد، والجامعة الأمريكية بواشنطن، وجامعة شيكاغو، والمكتبات المحلية في فيرفاكس وهويلنج وألكساندريا، كانت سعادتنا لا حدَّ لها ونحن نلتقي وجهًا لوجه ونحاور مَن كنَّا نقرأ عنهم في الكتب؛ أمثال: موريس جانوفتر، ودافيد سيجال، ومادي سيجال، وجون بلير، وتوماس كورتلس، ونانس جولدمان...

• ثم اكتشفنا بعد أنْ شابت خُصَيلات شعرنا ونحن نلهث وراء كلِّ كلمة ينطقون بها: أنَّنا لم نكتب منهم شيئًا له قيمة، بل كنَّا نُقدِّم لهم من قلب تخصُّصاتهم الفرعيَّة ومن نفس مكتباتهم التي لا تبعد كثيرًا عن حجرات مكاتبهم - ما لم يسمَعُوا عنه من قبلُ.

• اكتشفنا أنَّ في الولايات المتَّحدة عشرة آلاف عالِم اجتماع أمريكي لكلِّ منهم علمُ اجتماع خاصٌّ به، وبعيدًا عن أنَّنا كنَّا ننقل إلى بلادنا فكرًا لا يخصُّها، اكتشفنا أنَّ علم الاجتماع الأمريكي نفسه ما هو إلاَّ مزيجٌ غريبٌ من عناصر متفرِّقة متباعدة، تُعبِّر عن خبرة المجتمعات الأوربيَّة أكثر ممَّا تُعبِّر عن خبرة المجتمع الأمريكي ذاته، الدوريات الأمريكية التي كنَّا نفخر ونحن نُتابِع أحدثَ ما كُتِبَ فيها تركِّز تركيزًا مُبالَغًا فيه على قَضايا محدودة، لا تُشكِّل في مجموعها إطارًا فكريًّا يُمكننا الاعتمادُ عليه في فهْم المجتمع.

• اكتشفنا أنَّ أوَّل مَن تقلَّد السُّلطة بالولايات المتحدة ربوبيُّون، يؤمنون بالله بغير اعتقادٍ بدِين مُنزَّل، ويقوم مذهبهم على الإيمان بدينٍ طبيعي مبنيٍّ على العقل لا الوحي، وينكر تدخُّل الخالق في نواميس الكون، تقوم قيمهم على أساس أنَّ ما هو طيِّب في هذا الكون يأتي من آراء الناس العاديين وليس من دِين، هؤلاء الناس هم الذين أسَّسوا المدارس والجامعات وطبعوا الكتب لتعليم الأمريكيين، وهم الذين نجري وراءهم لننقل إلى بلادنا أفكارهم ومنظوراتهم.

ولهذا؛ لا نتعجَّب إذا اكتشفنا أنَّ كتب مداخل علم الاجتماع تحتَوِي على رطانات عديدة، القليل منها يُعطِي تفسيرًا منطقيًّا جادًّا للقضية التي يتناوَلُها، وحتى هذا التفسير وهذا التناول مُتعدِّد الألوان أكثر منه تفسيرًا تحليليًّا، ولا نتعجَّب أيضًا من هذا الكساد الأكاديمي الملحوظ الذي ظهر بانخِفاض أعداد الطلاب المسجلين في أقسام الاجتماع بالجامعات الأمريكيَّة.

ونسجِّل هنا بعضًا من اعتِرافات علماء الاجتماع الأمريكيين في اجتماعهم السنوي الثالث والأربعين، الذي عقَدُوه في عام 1979، وحضَرَه (موريس جانوفتز، وآرلين كابلاند، ونوربرت ويكي، وروبرت ليك).

جاء في اعترافات العلماء الأمريكيين ما نصه:
"يجب أنْ نُسلِّم بأنَّ هناك توسُّعًا كبيرًا في أعداد علماء الاجتماع، صاحَبَه زيادة في أعداد المجلات العلميَّة، لكن لم يصاحبْه ارتفاع في المستوى العلمي، بل على العكس، نحن نسلِّم تمامًا بأنَّنا أنتجْنا قدرًا ضخمًا من البحوث والتحليلات قليلة الجودة، كما أنَّ جهود الاعتماد على المناهج الكميَّة البحتة في إيجاد نظرية قد فشلت...

نحن لدينا الآن عَناوين وقَضايا ذات انتشار واسع، لكنَّها تخدم المصالح الشخصيَّة والمفاهيم الذاتيَّة لأصحابها، وتُغذِّي تطوُّر شبكات المصالح المشتركة، ولا يعني هذا الانتشار وجود أدوات نظرية ومنهجية قويَّة قادرة على فهْم المجتمع؛ ولهذا فإنها ليست مُؤثِّرة، إنَّ نظريَّاتنا ومناهجنا طورت بسرعة مصايد للرطانة وقصر النظر، إنَّ صورتنا الحاليَّة أمام الناس تعكس ذلك، من الصعب أنْ تجد إشارة إلى علم الاجتماع في وسائل الإعلام العامَّة؛ بسبب ما لدَيْنا من غُموضٍ لا يمكن فهمُه، ومن الصَّعب أيضًا أنْ تجد مُشرِّعين أو رجال أعمال أو إدارة أو صانعي سياسة يعتقدون أنَّ علم الاجتماع بإمكانه أنْ يجيب على الأسئلة التي يحتاجون إلى إجاباتٍ عليها".

ورغم هذا الاعتراف الصريح من كبار علماء الاجتماع في أمريكا، فإنَّ عشرات من مبعوثينا يذهبون إليهم كلَّ عام ليأخُذوا عنهم هذه الرطانة، وقصر النظر، والأدوات النظريَّة، والمنهجيَّة غير المؤثِّرة وغير القادرة على فهْم مجتمعاتهم ذاتها، ونحن لا نكسب منهم شيئًا، وإنما هم الذين يكسبون منَّا كلَّ شيء، البحوث الميدانيَّة التي يُجرِيها المبتَعَثون على قُرانا ومدننا، وعاداتنا وتقاليدنا، وثقافتنا بوجه عام، هي شرط متطلَّب ليمنحهم الأمريكيون الدرجة العلمية، وهي التي تصبح تحت تصرُّف صانعي السياسة عند الحاجة إليها؛ أي: إنَّنا بأموالنا وبأيدينا نُوفِّر لهم ما تحتاجه مخابراتهم من معلوماتٍ عن البنية الاجتماعية والتركيبة الثقافية لبلادنا، بدءًا بالعاصمة، وانتهاءً بأبعد قرية عنها.

ثانيًا: تشوُّشٌ في النظريَّة:
حينما بدَأنا نخطو الخطوات الأولى في مرحلة الدراسات العليا، كانت هُناك مقولاتٌ تعلَّمناها وقرأناها واستَوْعبناها، وكان علينا أنْ نسيرَ على هديِها في طريقنا الطويل نحو الماجستير والدكتوراه.

قرَأنا لعالِمٍ اجتماعي أمريكي: "إنَّ النظريَّة بالنسبة لعلماء الاجتماع كالدِّين بالنسبة للجمهور"، ثم تعلَّمنا أنَّ على علم الاجتماع أنْ يتَّجِه نحو صِياغة نظرية قادِرة على توليد حُلول اجتماعيَّة للمشكلات الإنسانيَّة.

علَّمَنا أساتذتنا أنَّ حلَّ مشاكل المجتمع غير ممكنٍ إلا في حالة واحدة؛ وهي: أنْ يستند الحل دائمًا إلى أطارٍ دقيقٍ من المفاهيم العلميَّة ذات الاتجاه النظري الواضح، قالوا لنا: إنَّ النظرية هي التي تحدُّ الحدود، وتُقِيم الفواصل، وتُعطِي للبيانات معنًى، قالوا لنا: إنَّ البحث دُون سند من نظرية أو اتجاه ليس إلا نوعًا من العبَث؛ لأنَّ النظريَّة تُمكِّن الباحث من فهْم المجتمع في صُورته الكلية، وتُعطِيه إطارًا للبحث في مناطق محدودة متَّسقة مع الصورة التي استَمدَّها من النظريَّة، وإنَّ البحث إذا لم يجرِ في إطارٍ فكري محدَّد فإنَّه سيكونُ محاولة عقيمة لا تتقدَّم خطوة في فهْم المجتمع.

علَّمَنا أساتذتُنا أنَّ النظريَّة يجب أنْ تتوافر فيها عدَّة شروط؛ منها: استنادُ قَضاياها إلى أفكارٍ محدَّدة، واتِّساق هذه القضايا الواحدة مع الأخرى بحيث يمكن أن تُستَقرأ منها تعميمات، وأنْ تكون هذه القضايا منتجة؛ حيث تقود إلى مزيدٍ من الملاحظات التي توسع نِطاق المعرفة.

بمثْل هذا المنظور البرَّاق انطلَقْنا سعيًا وراء النظرية المنشودة في بحوثنا، ولَمَّا كان في قُلوبنا بَقايا من عقيدة؛ فكَّرنا في ربْط بُحوثنا بهذه العقيدة، لكنَّ أساتذتنا قطعوا علينا حتى مجرَّد التفكير في وُلوج هذا الطريق، فقالوا لنا: إنَّ هناك فَرْقًا بين النظرية والنظر؛ النظريَّة في علم الاجتماع ليست (بنظر)؛ بمعني: أنها يجب ألاَّ ترتبط بأنساقٍ أو مذاهب محدَّدة من الفكر والدِّين، والعقيدة عند عُلَماء الاجتماع هي شيءٌ من هذا القَبِيل.

أمَّا النظريَّة عندهم، فإنها تُستَمدُّ أصلاً من نتائج دِراسةٍ أُجرِيتْ في الواقع الاجتماعي في مواقف متعدِّدة، أمَّا إذا استندَتْ إلى دِين أو عقيدة، فهي في نظَر أساتذتنا تصوُّرية وغير واقعيَّة، وأكَّدوا علينا بضرورة رفض ما أسموه بالأيديولوجيَّة الغيبيَّة التي لا تخرج - في نظرهم - عن إطارٍ مرجعي لتفسيراتٍ تبريريَّة لعقليَّة تسلُّطيَّة رجعيَّة يجبُ الإطاحة بها؛ لأنها أوَّل العثرات التي تقفُ في وجه النظرية المنشودة.

طرَحنا الدِّين والعقيدة جانبًا وبدَأنا البحثَ عن هذه النظرية وقَضاياها ومفاهيمها؛ فإذا بنا أمامَ بناءٍ هَشٍّ مهلهل صُوِّر لنا على أنَّه علم، كان أوَّل ما اصطدمنا به أنَّنا وجدنا علم الاجتماع يتحدَّث بحرارةٍ عن النظرية، وعن فائدة النظرية، ولَمَّا سعينا لنعرف ما المقصود بالنظرية واجهَتْنا تعريفاتٌ متضاربة وغامضة في أحسن الأحوال.

كان من الصعب علينا أنْ نجد اتِّفاقًا بين علماء الاجتماع على نظرية واحدة، أو على تفسيراتٍ محدَّدة لما يتحدَّثون عنه، لقد كانوا مختلفين على أوَّل مفهومٍ يجب أنْ يتَّفقوا عليه، وهو: (مفهوم المجتمع)، لم نجد بناء فكريًّا متماسكًا يمكن أنْ نضع إصبعنا عليه، ومنذ أعوامنا الأولى في طريقنا في هذا العِلم نجدُ مَن يُشبِّه لنا المجتمع بالكائن الحي، وآخَر يُصوِّره لنا على أنَّه آلة تدُور بفعل مجموعةٍ من الطاقات المتحرِّكة، وكأنَّنا نتعامَل مع الميكانيكا، وثالث يُصوِّر لنا الحياة الاجتماعية في ضوء العوامل الاقتصادية، ورابع يُفسِّرها في ضوء العوامل النفسيَّة، وخامس يتحدَّث عن العوامل الجغرافية، وسادسٌ له الغلبة على الساحة فيُصوِّرها لنا على أنها قصص من قصص الصراع يتغلَّب فيها فريقٌ على آخَر، ويتبادَلان الهزيمة والانتصار في دورةٍ محدَّدة من الزمان، تتعاقَب فيها سلسلةٌ متَّصلة من الحلقات... وهكذا، ومعظم مَن كتبوا في علم الاجتماع كانوا قد فشلوا في تخصُّصاتهم الأصلية، فدخَلُوا ميدانهم الجديد بتصوُّراتهم القديمة.

يعجُّ العلم الآن بالتصوُّرات المتناقضة؛ هذا من مدرسة شيكاغو، وذاك من مدرسة فرانكفورت، هذا ماركسي أصولي، وذاك ماركسي جديد، هذا ظاهراتي، وذاك إثنوميثودولوجي، وهكذا... هناك حشْد هائل من الآراء والنظريَّات في علم الاجتماع، هذه الآراء والنظريَّات ليست مختلفةً فقط، ولكنها متضاربة ومتصارعة أيضًا، القَضايا التي تبحثُ فيها هذه النظريَّات غير متجانسة، المفاهيم التي هي المادة الأوَّليَّة في بناء أيِّ نظريةٍ ليس هناك اتِّفاق عليها، كلُّ نظرية تضمُّ اتِّجاهات فرعيَّة، وكلُّ اتجاه فرعي يحشد مفاهيم ومصطلحات مختلفة لشيءٍ واحد أو متَّفقة لأشياء مختلفة، وهي في جميعها تختلف اختلافًا كبيرًا على المناهج المناسبة التي يمكن استخدامها في الحصول على المعرفة الواقعيَّة أو تنظيمها.

وكما تعلَّمنا من أساتذتنا علَّمْنا طلابَنا أنَّ أيَّ باحث في علم الاجتماع لا غنى له عن نظريةٍ توجِّهه في جمع الوقائع المختلفة للظاهرة التي يدرسها، والتي يريد أنْ يختبر صدقها، وفي اختياره للمناهج والأدوات التي يستخدمها، وأنَّه إذا لم يفعلْ ذلك فإنَّه سوف يتخبَّط في جمْع معلوماته، وستكون نتائجه غيرَ مترابطة؛ ولهذا سيعجز في النهاية عن أنْ يضفي عليها معنى ويُفسِّرها.

يبحث الطالب عن النظريَّة المنشودة فإذا به أمام كمٍّ كبير من النظريَّات؛ فيقع في حيرةٍ أي النظريَّات سيختار؟ وعلى أيِّ أساس ستكون مفاضلته بين النظريَّات؟ وهنا سيقع ضحيَّةً للتوجُّه الفكري لأستاذه، وسيكتشف الطالب - كما اكتشفنا من قبلُ - أنَّه ليست هناك نظرية واحدة متفق عليها، بل إنَّه ليس هناك مسمَّيات تكون أساسًا لهذا التصنيف، وفوق ذلك كلِّه سيجد اختلافًا في التفسيرات التي يتناوَلون بها ما يختلفون عليه.

وإذا كان الطالب يبحَثُ في ميدان الجريمة واجهَتْه نظريَّاتٌ تقول له: إنَّ الجريمة مرتبطةٌ بالبناء الطبقي للمجتمع، وأخرى تقول: إنها نتاجُ عوامل سيكولوجية وإيكولوجية، واليوم يربطونه بتقليعةٍ جديدة هي علم الضحايا، إذا كان يبحث في ميدان التفكُّك الاجتماعي وجد أمامه نظريَّة تفسِّره في ضوء الانحراف عن المعايير الاجتماعية، وأخرى تفسِّره في ضوء نظريَّات الصحَّة العقليَّة، وإذا كان يبحث في آثار التليفزيون على المجتمع واجهتْه نظريَّات تقول له: إنَّ مشاهدة التليفزيون تُؤدِّي إلى مزيدٍ من العزلة بين الناس والانفصال عن المعايير الاجتماعية، وأخرى تُؤكِّد له الدور الإيجابي الذي يلعَبُه التليفزيون في عمليَّة التنشئة الاجتماعيَّة، وإذا ذهب يدرس في مَجال الأسرة وجَد نظريَّات تؤكِّد له أنها في انهيارٍ مستمر، ثم وجد أخرى تؤكِّد له صلابتها وأهميَّتها، فماذا يفعل الطالب إذًا؟

• لقد اكتشفنا أنَّ الصياغات النظريَّة مكرَّرة وسطحيَّة، تطرَح قضايا هي في الواقع رَداءات جديدة لأفكارٍ قديمة، يُوهمنا عُلَماء الاجتماع بأنَّ نظريةً ما قد استقرَّت، وهي في داخلها مليئةٌ بالتناقضات والزيف والمصطلحات أو المقولات المأخوذة من أُطُرٍ مرجعيَّة شديدةِ التبايُن.

• اكتشفنا أنَّ نظريَّات علم الاجتماع نظريَّات لا تدعمها الحقائق، وأنها لا تخرج عن كونها تأمُّلات فكرية لا ترقى إلى مستوى أنْ تكون نظريَّات لعلم، رغم مُرور ما يقرب من قرنٍ ونصف القرن على اكتساب دراسة المجتمع عنوان العلم، كلُّ نظرية تحمل اسم شخص أو تُعبِّر عن فكر جماعةٍ تُفسِّر المجتمع في ضوء رؤيتها الخاصَّة، وجميعهم لا يملكون حتى التحقُّق من صدق ما يقولونه.

النظرية في علم الاجتماع ليست مسألة عقلٍ أو منطقٍ، إنها تعكس أصلاً افتراضات وعواطف، والاستجابة لهذه النظريَّات تتضمَّن عواطف أولئك الذين يقرَؤُونها أو يكتبونها، إنهم يُفسِّرون ما يرَوْنه من خلال ما يقرُّون (هم) أنَّه واقعي أو حقيقي.

النظريَّة الاجتماعيَّة تضرب بجذورها في مشاعر وأحاسيس المنظر، وتقوم أساسًا على رؤية متحيِّزة تعكس الافتراضات التي تَشرَّبها المنظر من ثقافته التي تربَّى عليها، وكلُّ صانعِ نظريَّةٍ يُقدِّم وجهة نظره عن الواقع الاجتماعي من واقع الفكر الذي يتبنَّاه.

إنَّ عالِم الاجتماع مثله مثل أيِّ شخصٍ آخَر تترسَّب في كيانه مجموعةٌ من الأحكام والافتراضات، وليس هناك ما يَقِيه من التأثُّر بها؛ فهو إنسانٌ يعيشُ في ثقافة معيَّنة، شأنه شأن غيره، ولا بُدَّ أنْ تدفَعَه الثقافة بطابعها وتُلقِي بظلالها على تفكيره وآرائه.

لقد تبيَّن لنا أنَّ نظريَّات علم الاجتماع ليست لها قوَّة توجيهيَّة، وغير قادرة على فهْم المشكلات الواقعيَّة، لا تستطيع تحديد مشكلة بطريقة منظَّمة، ولا توجه جهدًا لحلِّ مشكلة، أصحابها يُقدِّمون أُطُرًا فكرية بالغة التجريد، انشغلوا بالمعاني التركيبيَّة والمفاهيم الجافَّة التي تتميَّز بالتعقيد النظري واللغوي لما هو سهل وواضح.

إنها نظريَّات لا تتمتَّع بالكفاءات التي تجعلها قادرةً على الإحاطة بكلِّ جوانب واقع المجتمع وصفًا وتفسيرًا، إنها نظريَّات ضيِّقة النِّطاق، غير قادرة على استيعاب مختلف أنماط المجتمعات والثقافات، يَغِيبُ عن أصحابها الإحساسُ الأصيلُ بالمشكلات الاجتماعيَّة، إنها نظريَّات ذات عموميَّة شديدة لا ينزل رِجالها إلى مستوى الواقع، تستفيض في التصنيفات بصورة كبيرة، بحيث لا توسع فهمنا ولا تجعل خِبرتنا أكثر عُمقًا، وفوق هذا كلِّه هي نظريَّات نشَأَت وتطوَّرت في مجتمعات تُغايِر طبيعتها طبيعة مجتمعنا، الحديثة منها ترتبط أيضًا بالتحوُّلات التي حدثت في المجتمعات التي نشَأَت فيها، ورغم ذلك فإنها عنصريَّة تعبِّر عن خبرة المجتمعات الغربية وحدَها، تنظُر إلى ثقافة المجتمع الغربي على أنها قمَّة الثقافات الراقية، ونحن بالنسبة إليها ثقافات متخلِّفة.

والأهم من هذا وذلك أنَّ المحور الذي تنطلق منه هذه النظريَّات والذي يترُك بصماته على كلِّ فرعيَّاتها هو اعتبارها أنَّ الإنسان محوَرُ الكون، وأنَّه ليس لله ولا للدِّين أيُّ شأن في توجيه وحركة هذا الكون، يمتدُّ هذا الأصل الفاسد إلى كلِّ جزئيَّةٍ من جزئيَّات هذه النظريَّات.

وننقل هنا بعض الفقرات التي تتضمَّن اعتراف عُلَماء الاجتماع بفشل هذه النظريَّات:
"لا الماركسية ولا البنيوية ولا الدوركايمية ولا الغيبرية تتمتَّع الآن بسُمعة طيِّبة، إنَّ الأحلام العريضة التي فتحتها أمامنا لم تتحقَّق إلا جزئيًّا وبصفةٍ هشَّة، أضفْ إلى ذلك أنَّ المجتمعات تطوَّرت في اتِّجاهاتٍ متبايِنة عن العُقود السابقة، إنْ لم تكنْ مناقضةً لها تمامَ التناقُض، إنَّه لم يبقَ أحدٌ ينتظر من كُبرَى النظريَّات أنْ تُسهِم بصفةٍ إيجابيَّة في القفز بالبحوث الاجتماعيَّة".

"إذا كانت الوضعيَّة الكلاسيكيَّة قد بَدَتْ غير ملائمة تمامًا لفهْم الواقع الأوروبي خِلال القرن التاسع عشر، فإنَّ الوضعيَّة المحدَثة ما لبثَتْ أنْ أعلَنتْ إفلاسَها بسبب مبالغتها في تبنِّي نموذج العلم الطبيعي، واعتِمادها على تصوُّرات نظريَّة لا تُسهِم في فهْم حركة المجتمع بقدر ما تسعى إلى تجميده والتعبير عنه في شكْل صِياغات رياضيَّة خالية من نبْض الحياة الإنسانيَّة، وإذا كانت الوضعيَّة المحدَثة قد لقيَتْ مصيرها المحتوم، فإنَّ النَّزعة الوظيفيَّة ما لبثت أنْ تعرَّضتْ لضرباتٍ قاصمة".

"قَضايا الوظيفيَّة قَضايا باطلةٌ، لا تدعمها إلاَّ براهين بدائيَّة للغاية، إنها لا تقلُّ إلحادًا عن النظرية الماركسية... ولم تُوفَّق في تقديم تحليلات مُقنِعة، وبخاصَّة خارج منطقة الحضارة الأوربيَّة".

"الظاهراتيَّة والتفاعليَّة الرمزيَّة والبنائيَّة الوظيفيَّة هي عبارةٌ عن تقاليع تستخدم مفهومات مجرَّدة بالغة التعقيد، تستعصي على الفهْم، وتُظهِر المتحدِّث بمظهر العالم الفذِّ المتمكِّن، وتخفي حقيقة تعالمه، علاوةً على أنها عديمة الصلة بالواقع المعاش".

"أجهَدَ المنظِّرون الاجتماعيُّون أنفسَهم في محاربة بعضهم بعضًا، سقطت الوظيفيَّة ولم نعدْ نحن بحاجةٍ إليها الآن، وبسُقوطها فقَدَ علماء الاجتماع وحدتهم ومبرِّر وجودهم، عارضتْ نظريَّات الصِّراع الوظيفيَّة، لكنها لم تستَطِع أنْ تحتلَّ عرشها أوتوماتيكيًّا، وكما حدَث في الفصْل الأخير من تراجيديا شكسبير قتل كل بطلٍ الآخَر، ولم يعدْ لدينا الآن نظرية باقية".

"إنَّ هناك انحسارًا أكاديميًّا أدَّى إلى ضعفنا، وجعَل كلَّ شيء ينحدر إلى الأسوأ، إنَّه من الصعب علينا أن نعمل في بيئة مُشوَّهة ومعادية، إنَّ المزاج المعرفي الآن قد أنتج نماذج تفسيريَّة متعدِّدة متصارعة عن الكائن البشري".

ويعتَرِف العلماء الاجتماعيون بعدَّة حقائق مهمَّة عن العلوم والنظريَّات الاجتماعية، نوردها هنا على النحو التالي:
الأولى: أنَّ الحقل المعرفي الذي تطوَّرت فيه نظريَّات علم الاجتماع حقلٌ راعَى ما يسمَّى بقواعد اللعبة المشتركة والمقبولة ضمنيًّا من الجميع، والتي أوجدت حيِّزًا مكانيًّا مُشترَكًا لجميع الفرقاء.

الثانية: وننقلها هنا على لسان علماء الاجتماع الأمريكيين:
"تنطلق النظريَّات والنماذج والمنظورات الخاصَّة بعلم الاجتماع من داخل الأبنية العامَّة للمجتمعات الرأسماليَّة... وعلماء الاجتماع في هذه الأبنية يعيشون أصلاً في (سوق أكاديمي) يشتدُّ فيه الصراع على الهيبة والعُمَلاء والمستَمِعين، ولا بُدَّ في هذه السوق من الابتكار والاختراع لضَمان السوق والعملاء، ومن ثَمَّ لن يبقى في هذه السوق أصحاب النظريَّات والآراء القديمة؛ فالسوق لا يعيش بأفكار الأمس، بل بالأفكار الجديدة التي تُعطِي الهيبة، وتفتح مجالات ومؤتمرات ومراكز بحث وأقسام جديدة، إنَّ هذه الأفكار والآراء والنماذج الجديدة ليست بحثًا نبيلاً عن الحقيقة، إنها بحثٌ عن الهيبة والوظيفة والعُمَلاء".

الثالثة: أنَّ الشك في قيمة وجَدوَى العلوم الاجتماعية قد زاد في السنوات الأخيرة، وأنَّ المشتغِلين بهذه العلوم لم تكن لهم القُدرة على متابعة الأحداث المهمَّة، لا في مجتمعاتهم ولا عبر العالم، كما أنَّ قلَّة العائد الملموس من هذه العلوم لم يُمكِّن أصحابَها من تدعيم مركزهم أو إقناع حُكوماتهم بجدوى بحوثهم التي يشوبُها الجدل والافتراضات والتعميمات الفضفاضة التي لا تستند إلى أساسٍ مَتِين من الواقع، وقد أدَّى الشكُّ في هذه العلوم إلى زيادة حدَّة السخرية والتهكُّم اللاذع عليها باتِّهام العلماء الاجتماعيين بأنهم يقضون ربع قرنٍ من حياتهم للبرهنة على حقائق يعرفها الناس من أجْل إعطائها الصبغة العلميَّة.

الرابعة: أنَّ العلوم الاجتماعية ليست علومًا عالميَّة، ولا يمكن القول بأنَّ نتائجها ذات مصداقيَّة عالميَّة؛ لأنها لم تُجرَ إلا على الغرب الحديث، كما أنها لا تستند إلى قاعدةٍ كافية من المعلومات عن سائر المجتمعات البشريَّة؛ ولهذا فإنَّ نظريَّاتها لا تنطبق إلا على مجتمعات الغرب فقط.

الخامسة: أنَّ قادة الفِكر الغربي في العلوم الاجتماعية انطلقوا من مبدأ تفوُّق واستعلاء الغرب على العالم، وكان مفهوم التفوُّق الغربي مسلَّمة أساسيَّة عندهم، والذين حاوَلوا منهم إنصاف الإسلام مثل (رودنسون)، كان يستهدف القول للمسلمين بأنَّ الإسلام إنْ كان صالحًا للماضي فهو غير صالحٍ الآن.

السادسة: أنَّ العلوم الاجتماعية الغربية ارتبطت ارتباطًا مباشرًا بالدولة ومُخطَّطاتها؛ ولهذا فإنَّ النظريَّات الغربية سارت وفْق مخطط السيطرة الغربية على النظام العالمي، وعلى أساس مسلَّمة تفوُّق الغرب، وأنَّ الحضارة الغربية هي الغاية الوحيدة للتقدُّم العالمي المنشود؛ ولهذا لا بُدَّ من سِيادة أفكاره، ومشروعيَّة سَيْطرته على العالم.

السابعة: أنَّ الكثير من الدراسات الاجتماعية يتمُّ بتوجيهٍ من إدارات المخابرات في الدول المختلفة، ولا سيَّما المخابرات الأمريكيَّة التي تُسخِّر أعدادًا من المتخصِّصين للقيام بدِراسات معيَّنة ليس في أمريكا وحدَها بل في العالم كله؛ بغرض التنبُّؤ والتكهُّن، ثم التحكُّم والتوجيه والإدارة بما يتَّفق مع المصالح العسكريَّة والسياسيَّة والاقتصاديَّة الغربيَّة.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: حلقات من كتاب (اعترافات علماء الاجتماع، عقم النظرية وقصور المنهج في علم الاجتماع).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــ
رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية

الكلمات الدلالية (Tags)
الاجتماع, اعترافات, عملاء


يتصفح الموضوع حالياً : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
أدوات الموضوع

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


المواضيع المتشابهه للموضوع اعترافات علماء الاجتماع
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
النظرية والمنهج في علم الاجتماع Eng.Jordan كتب ومراجع إلكترونية 1 10-03-2016 09:49 PM
الشائعة من منظور علم الاجتماع السياسي Eng.Jordan مقالات وتحليلات مختارة 0 01-04-2013 03:54 PM
اعترافات فوق القمر عمر سيف الدين نثار الحرف 1 06-25-2012 06:43 PM
النظريات الحديثة في علم الاجتماع التربوي Eng.Jordan بحوث و مراجع و دراسات تربوية واجتماعية 0 02-18-2012 08:20 PM
علم الاجتماع الرياضي شذى الكتب بحوث و مراجع و دراسات تربوية واجتماعية 0 01-29-2012 01:05 PM

   
|
 
 

  sitemap 

 


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 02:05 AM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.12 by vBS
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والمشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59