#1  
قديم 05-12-2019, 11:47 AM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan غير متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,410
افتراضي الحضارة الإسلامية وأسباب سقوطها وعوامل النهوض بها


الحضارة الإسلامية بين أصالة الماضي وآمال المستقبل
(8)
الباب السابع
الحضارة الإسلامية وأسباب سقوطها وعوامل النهوض بها
(4)


جمع وإعداد
الباحث في القرآن والسنة

علي بن نايف الشحود


حمل المرجع كاملاً من المرفقات

الباب السابع
الحضارة الإسلامية وأسباب سقوطها وعوامل النهوض بها (4)

#هويتنا والعولمة كتاب يدعو إلى تحديث الأصالة وتأصيل الحداثة
الأحد23 ربيع الثاني 1427هـ – 21 مايو 2006م
الصفحة الرئيسة
مفكرة الإسلام: صدر حديثا في المغرب كتاب للدكتور عباس الجراري بعنوان هويتنا والعولمة وفيه يؤكد أن هويتنا العربية الإسلامية ليست عامل تضييق وانغلاق وانزواء، ولكنها عامل توسيع وانفتاح وتحاور والتقاء، موضحا أن التمسك بها يعني نبذ الشعور بالاغتراب، ويعطي الحق في التميز، ويمكن اتخاذها مجالا للحوار والتواصل.
و يلاحظ الدكتور عباس الجراري أن العرب والمسلمين يتحركون فرادى وبانفعالات ذاتية، في حين أن العالم يريد أن يتعامل مع دول مجتمعة وموحدة، أي مع تجمعات وليس مع دول متفرقة.
يقول المؤلف: إن هذا البعد الجماعي هو ما نفتقده، أو بالأحرى تفتقده النخبة الباحثة عن سبيل الخروج من مأزق التخلف، أو هي في الحقيقة تستبعده، غافلة عن قوة رصيده ومدى ما له من فاعلية وتأثير ويدعو كذلك إلى أن نحدّث الأصالة ونؤصل الحداثة، في غير تزمت يؤدي إلى الانطواء، وفي غير انبهار يفضي إلى الاستلاب.
يشير الجراري في مقدمة كتابه إلى أن إثارة قضية هويتنا والعولمة تنطلق من السعي إلى إيجاد مكان لهذه الهوية، حتى تستمر قادرة على الحياة، وحتى نكون مؤهلين لمواصلة المسير وإمكان العيش.
ويذكر بالحقيقة المؤلمة التالية : إن الواقع الذي يعانيه العالم ـ والعربي والإسلامي منه على الخصوص ـ يبرز مدى التمزق الذي تعمقه وتوسع خروقه القوى الكبرى، العاملة بكل الوسائل ـ مهما تكن غير مشروعة ـ على أن تبقى هي وحدها المتحكمة في المنظومة الدولية، بغرور وطغيان، ومن خلال قطبية لا تنافس ولا تنازع، ولو على حساب حاجات الشعوب المستضعفة ورغبتها في التعايش والتواصل والتعاون بأمن وسلام.
ويتابع قوله إن مواجهة تلك الهيمنة بالنسبة لهذه الشعوب، سوف لا تستند إلى القوة العسكرية أو حتى الاقتصادية ـ على أهميتها ـ، ولكنها ستعتمد بالدرجة الأولى على العنصر الحضاري والثقافي، متمثلا في هوية تلك الشعوب، بكل المكونات التي تشكل هذه الهوية، بدءا من العقيدة واللغة والتراث.
ويشدد على أن الإلحاح على مقوم العقيدة ينطلق من الحالة الراهنة التي يعيشها الإسلام، باعتباره قوة تزعج خصومه، وباعتباره هدفا لهم، على حد ما تكشف الحرب الصليبية الجديدة التي لم يخفف من حدتها زعم الحوار ودعوى التعايش.
وبعدما يعرض منظور الإسلام للهوية من خلال توجيهات القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف وما يعززهما من حكم التراث وما يملأه من أدبيات إرشادية، ينتقل للحديث عن العولمة من حيث كونها نظاما يسعى إلى فرض خططه المالية والاقتصادية والتسويقية، ومن خلال ذلك فرض أفكاره ومناهجه، ثم قيمه وأنماط سلوكه، ليصل في النهاية إلى فرض هيمنته وسيادته.
ويبرز القطبية الأحادية التي تمثلها الولايات المتحدة الأمريكية في هذا الصدد، بما تمثله من تقدم تكنولوجي، تتجسد قوته في الثورة التي تشهدها المعلومات، والتي أحدثت تغييرا في المفاهيم والمسارات التابعة لها، بدءا من الاقتصاد العالمي وإمكانات توجيهه والسيطرة عليه وهو وضع ـ يضيف المؤلف ـ تواكبه المجموعة الأوربية أو تسير في ركابه، علما بأن الدول الآسيوية تزاحم فيه وتنافس بمهارة واقتدار.
ويستدرك بالقول إن تأثير هذه الثورة يضعف حين يتعلق الأمر بالثقافة التي يبدو أنها لن تنقاد ـ كما انقاد الاقتصاد ـ سواء بالنسبة لأوربا أو آسيا فتمسك الأوربيين بهويتهم أو هوياتهم الثقافية واضح، ومثله تمسك الآسيويين، إن لم يكن هؤلاء أكثر تشبثا وإيمانا بثقافتهم.
والسبب كامن في ما لهؤلاء وأولئك [الآسيويين والأوروبيين] من إرث ثقافي غني يشكل هوياتهم بثوابت راسخة، تتمثل ـ على الخصوص ـ في اللغة وما يرتبط بها من فكر وأدب وقيم تجعلهم بها يصمدون، غير قابلين للاندماج في السياق الثقافي الذي تحاول فرضه تلك الثورة.
وهم، بهذا الرفض موقنون أن حرصهم على ثقافتهم لا يحول، بل لم يحل دون التنافس في عالم الاقتصاد والتبريز في هذا الميدان.
ويتوقع الكاتب أن يحمل تيار العولمة للشعوب أنماطا من التحرر والانفتاح، إلا أنها ـ كما يقول ـ لن تستفيد منها إلا فئة معينة من هذه الشعوب، طالما أن معظمها ما زال يرزح تحت وطأة الفقر والأمية والحياة التقليدية، بعيدا عن وسائل الحضارة الحديثة.
وهذا لا شك عائق يمنع اندماجها في التيار، بل ربما ستزيدها العولمة تهميشا وتخلفا سيفرضان عليها المزيد من القهر والاضطهاد، ليس من قبل العولمة مباشرة، ولكن من قبل الفئة المحلية المستفيدة منها، أي من قبل النخبة المؤهلة التي قد تواجه ـ على المدى القريب أو المتوسط ـ صراعا داخليا، أو صداما مع الفئات غير المستفيدة ثم يدعو الجراري إلى الانخراط الواعي والفعال في العولمة، إذ يقول: 'حتى لا نكون متطفلين أو عالة أو مجرد مستهلكين أو أدوات استهلاك، فإن علينا أن ندخل في سياق العولمة بهويتنا الإسلامية، وقبل ذلك علينا أن نتخلص من عقد الماضي وما رسخه واقع التخلف في النفوس، مما يحتم أن نراجع ذاتنا من خلال مفهوم صحيح لهذه الهوية، من شأنه أن يرد الاعتبار للشعوب الإسلامية، ويمنحها مكانتها الحق، ويجعلها ليس فقط قادرة على التكيف مع العولمة والإسهام فيها أو الاندماج، ولكن يجعلها أيضا مؤهلة لإيجاد التوازن اللازم بين القوى الحالية أو المتوقعة'.
ويدعو إلى النظر إلى الخصوصيات التي يتميز بها كل قطر من الأقطار العربية والإسلامية، ليس باعتبارها عناصر تفريق وتفقير لكيان الأمة، ولكن باعتبارها عناصر تقوية لتجميعها وإخصابها، واستثمارها لإغناء تراكمي وإبداعي كذلك لحضارة العرب والمسلمين وثقافتهم، وبالتالي لهويتهم المشتركة، وجعلهم قادرين بها على مواكبة العولمة والمساهمة فيها بفعالية وإيجاب.
ويختم المؤلف كتابه بالقول : إن من شأن هذا الانخراط في العولمة أن يجعلنا قادرين على تعديلها لتكون معتدلة ومتوازنة، ولتكون في النهاية بشرية وإنسانية، بما يقتضي مراعاة الجوانب البشرية والإنسانية للمجتمعات، ولاسيما ما تبرزه الثقافات المختلفة لهذه المجتمعات، والنامية منها على وجه الخصوص، وفي طليعتها العربية والإسلامية، في تمسك بقيمها ونسقها الفكري وسياقها الخلقي، بعيدا عن أي تنميط مفروض ومرفوض في الوقت نفسه.
=============
#ل ندع الغد يصنع بدوننا؟
الأحد23 ربيع الثاني 1427هـ – 21 مايو 2006م
الصفحة الرئيسة
محمد سيد بركة
مفكرة الإسلام: وسنوات القرن الحادي والعشرين تتوالى مسرعة لايزال العالم العربي والإسلامي، من خلال مثقفيه، يطرح على نفسه التساؤلات عينها التي كانت مطروحة في الربع الأخير من القرن التاسع عشر الميلادي.
العالم العربي الذي كان مع محيطه الإسلامي الأوسع مركز الحضارة والأكثر تقدما في القرون الأربعة التي تلت الفتح الإسلامي، بدأ يتأخر في بطء حتى القرن السابع عشر ثم في سرعة حتى أصبح هامشيا بالنسبة إلى تطور الحضارة العالمية ماديا وفكريا .
أسلافنا و العصر الذهبي
لقد شهدت الحضارة الإسلامية عصرا ذهبيا كان فيه للمسلمين قوة لا تقف في وجهها قوة، كان فيه العالم العربي الإسلامي وريثا للحضارات السابقة ومطوراً لها. فقد كانت الرياضيات فيه، في الغالب الأعم، عربية والطب عربيا، وكذلك علم الفلك، وعلم الفيزياء، وعلم الكيمياء، ومعظم الفلسفة ... حتى أن البيروني - أحد عباقرة المسلمين في القرن العاشر الميلادي والذي وصفه المستشرق الألماني سخاو بعد إطلاعه على مؤلفاته بأنه أعظم عقلية عرفها التاريخ – كان هذا العبقري يقول : إن الهجو بالعربية أحب إلي من المدح بالفارسية.
ذلك العصر الذهبي أوجد لدى المسلمين شعورا مشروعا بالانتماء إلى تراث غاب كليا منذ أكثر من ثلاثة قرون وصار إنتاج المسلمين في مجالات العلم والتقنية، وحتى في مجال الفكر، محدودا إن لم نقل معدوما.
ومع بداية الاحتكاك بالغرب في بداية القرن التاسع عشر بدا واضحا أن العالم العربي والإسلامي صار هامشيا في مجالات شتى اللهم إلا بعض الأسماء النادرة، والتي برزت في الغرب ومن خلال مؤسساته وهيئاته العلمية. والعلم وتطبيقاته الفنية [التقنية] واحدا من هذه المجالات التي أصبح العالم العربي الإسلامي فيها هامشيا ..
لقد كان أسلافنا سابقين في ميادين العلوم المختلفة فقد نقلوا المعارف والعلوم المختلفة عن غيرهم من الأمم وأخضعوها لمقاييس عقيدتهم بعقل متفتح وقلب بصير وهم بذلك لم يكونوا مجرد ناقلين منقادين بل استخدموا عقولهم وحكموا منطقهم وخاضوا غمار التجربة فآثروا المعرفة الإنسانية ومهدوا السبيل لتقدم العلوم وازدهار الحضارة.
يقول الدكتور علي عبد الله الدفاع في كتابه 'إسهام علماء المسلمين في الرياضيات' :
وجه المسلمون عنايتهم للأنشطة الذهنية منذ الأيام الأولى للإسلام بادئين بالعلوم العلمية كالرياضيات والفلك.
ولقد كان هناك أساس ديني لحاجة المسلمين للرياضيات والفلك، فبالوسائل الهندسية يمكن تحديد اتجاه القبلة التي يولون وجوههم شطرها في صلواتهم اليومية، كما أن المسلمين كانوا في حاجة إلى علمي الحساب والجبر لحساب المواريث والفرائض، وليعلموا عدد الأيام والسنين، وبالفلك يمكن للمسلمين تحديد غرة شهر رمضان المعظم شهر الصيام، وكذلك تحديد الأيام الهامة الأخرى ذات الصبغة الدينية.
من هذا المنطلق برز أسلافنا في علوم الفلك والرياضيات والطب والكيمياء والفيزياء وما حققوه من انجازات في هذه المجالات كانت هي الأساس الذي قام عليه التقدم العظيم الذي عرفته هذه العلوم في أوربا ثم في أمريكا.
لقد وجه أسلافنا عنايتهم إلى إعادة دراسة الكتب العلمية القديمة لدى الشعوب المختلفة وعملوا على تصحيح الكثير منها وتنقيحه وإضافة مكتشفاتهم الخاصة.
محنة العلم في بلادنا
من المتعارف عليه بين مؤرخي الفترة الحديثة أن النهضة العلمية في العالم العربي والإسلامي تعود إلى أوائل القرن التاسع عشر، وأن أجلى مظاهر هذه النهضة تلتمس في حركات الإصلاح في الأزهر وفي التعديلات الأساسية التي أدخلت على النظام التعليمي في أواسط القرن قبل الماضي تحت تأثير موجة التغريب وتأسيس المدارس التبشيرية الأجنبية.
وقد أنشئت مجالس ومراكز للبحث العلمي تحول بعضها إلى مؤسسات وهيئات مما يشير إلى أن النهضة العلمية الحديثة في العالم العربي الإسلامي عريقة، على الأقل من حيث تاريخ بدايتها.
ومؤخرا أصدرت منظمة العمل العربية تقريرا متميزا وفريدا بعنوان البحث العلمي بين العرب والكيان الصهيوني وهجرة الكفاءات العربية.
كشف التقرير حقائق مذهلة ومرعبة عن الفجوة التكنولوجية والعلمية بين العرب والكيان الصهيوني والتي تجسد تفوقا علميا وتكنولوجيا صهيونياً ساحقا إلى درجة أن التقرير العربي أوصى بضرورة زيادة المخصصات المالية العربية لأغراض البحث والتطوير العلمي إلى 11 ضعفا عن موازناتها الراهنة حتى يمكن للعرب الاقتراب من سد الفجوة العلمية مع الكيان الصهيوني.
ومن أبرز الحقائق التي كشف عنها تقرير منظمة العمل العربية عن الفجوة العلمية والتكنولوجية بين العرب والكيان الصهيوني ما يلي:
ـ معدل الإنفاق العربي على البحث العلمي لا يزيد عن اثنين في الألف سنويا من الدخل القومي، في حين أنه يبلغ في الكيان الصهيوني 1.8في المائة.
ـ نصيب المواطن العربي من الإنفاق على التعليم لا يتجاوز 340 دولارا سنويا، في حين يصل في الكيان الصهيوني إلى 2500 دولار سنويا.
ـ في حين يأتي الكيان الصهيوني في المرتبة رقم 23 في دليل التنمية البشرية على مستوى العالم والذي يقيس مستويات الدخل والتعليم والصحة، فإن مصر تحتل المرتبة رقم 199 [طبقا لتقرير عام 2002]، وسوريا تحتل المرتبة 111 والأردن المرتبة 92 ولبنان المرتبة 82 وهي الدول العربية المحيطة بالكيان الصهيوني [أو دول الطوق].
ـ أما في استخدام الحاسب الآلي ففي حين يوجد في الكيان الصهيوني 217 جهاز حاسب آلي لكل ألف شخص، يوجد في مصر 9 أجهزة فقط لكل ألف شخص، وفي الأردن 52 جهازا و39 جهازا في لبنان.
وكشف التقرير أن مصر وحدها فقدت 450 ألف عالم وباحث ومتخصص من أفضل الكفاءات العلمية بهجرتهم إلى الغرب، وأن نسبة العقول العربية تزيد بين العلماء والتكنولوجيين في أميركا وكندا على 2 %.
وفي تقديرنا، فإن هذه الفجوة العلمية والتكنولوجية بين العرب والكيان الصهيوني هي التي أدت إلى هذا الخلل الاستراتيجي الخطير في موازين القوى في المنطقة لمصلحة الصهاينة، وجعلها قادرة على تحدي العرب كافة وجعلهم في موقع الهزيمة وهو ما يفسر في أحد جوانبه عجز العرب عن دحر عدوهم على مدى أكثر من نصف قرن بسبب استمرار حالة التخلف العلمي العربي، التي جعلت الكثرة العددية العربية غير قادرة على تحقيق التفوق للعرب في صراعهم مع الكيان الصهيوني ، وجعل الكيان الصهيوني يتفوق رغم القلة العددية السكانية في مواجهة العرب، لامتلاكه تفوقا نوعيا في القدرات البشرية والإمكانات العلمية انعكست تفوقا استراتيجيا في القدرات العسكرية والصناعية والتكنولوجية.
وفي تقديرنا، فإن هذا التفوق العلمي والتكنولوجي الصهيوني النوعي المدعوم أميركيا يوفر للكيان الصهيوني فرصا متعاظمة لفرض هيمنته الإقليمية على منطقة الشرق الأوسط، كما يساعدها على التشدد في مفاوضات التسوية مع العرب، ويدفعه إلى التطلع دائما لفرض تسويات سياسية بالشروط والإملاءات التي يريدها.
إن فشل العرب في معارك التنمية والنهضة العلمية والتكنولوجية على مدى أكثر من نصف قرن كان عاملا مركزيا وراء سلسلة الانكسارات والاحباطات العربية في الصراع مع الكيان الصهيوني. وفي المستقبل المنظور، لا توجد إمكانية لتعديل هذا الخلل الاستراتيجي في غياب جهود عربية حقيقية ومتسارعة لسد هذه الفجوة العلمية والتكنولوجية أمام الكيان الصهيوني. فإحدى أكبر المشكلات التي تواجه المستقبل العربي وتهدده باستمرار هي أوضاع التخلف والعجز والتدهور التنموي والاقتصادي والإخفاق العلمي والتكنولوجي، واستمرار ظاهرة نزيف الأدمغة، أو هجرة العلماء العرب إلى الخارج وخاصة إلى الغرب الأوروبي والأميركي.
أسباب تخلفنا العلمي والتقني
ولكن ثمة سؤال يفرض نفسه هو: لماذا لم تثمر حتى اليوم هذه النهضة العلمية في مؤسساتنا وهيئاتنا ثمرتها المرجوة برغم ما يزيد على القرنين على هذه النهضة؟
هل السبب موقف ديننا الإسلامي من العلم؟ أم هو نظامنا التربوي والتعليمي؟ أم هو الضياع والقلق الذي يشل الإبداع والتفكير العلمي؟
لنحاول مناقشة هذه التساؤلات لنتبين ماهو السبب الحقيقي في تخلفنا العلمي والتقني؟
ولنبدأ بموقف الإسلام من العلم والعلماء.
لقد بات من المسلم به لدى مفكري الشرق والغرب على السواء أن الحضارة العربية الإسلامية والتي قامت دعائمها على أسس من الدين الإسلامي قد أولت العلم اهتماما وشأنا لا ينازعه أي نشاط آخر في المجتمع الإسلامي، وليس من نافلة الحديث القول إن العلم احتل مكانة في الحضارة الإسلامية تعادل مكانة العبادات.
فالعلم صفة من صفات الله تعالى، وطلب العلم عبادة، والعلماء ورثة الأنبياء، والعلم جهاد، والانصراف للعلم فضيلة لا أعظم ولا أشرف منها، وأهل العلم أعلى شأنا من أصحاب السلطان، وأثرهم أبعد منهم في توجيه الجماعة.
إن القرآن الكريم والأحاديث النبوية، وما أثر عن السلف، وما يروى من الوقائع، كلها تشير إلى ما للعلم وأهله من مكانة مرموقة في المجتمع الإسلامي، منذ نشأة هذا المجتمع نفسه، والشواهد التاريخية على ذلك تكاد لا تحصى وقد شهد بذلك أساطين الفكر الغربي والفكر الشرقي على السواء... فهل نحن اليوم أوفياء لموقف ديننا الإسلامي من العلم والعلماء؟
والواقع إن نظرة المجتمع العربي الإسلامي الحديث للعلم والعلماء نظرة تقدير وإجلال ولكنها نظرة ما تزال فردية لا جماعية، فالأفراد يبذلون في سخاء من أجل تعليم أولادهم، غير أنهم لا ينفقون بمثل هذا السخاء على المؤسسات والهيئات العلمية والمشاريع البحثية مما يدل على أن الوعي العلمي في مجتمعنا الإسلامي ما يزال سطحيا لا يتعدى حدود المصالحة الفردية، بل إن الاتجاه السائد في مجتمعنا هو أن إنشاء الجامعات والهيئات العلمية من شئون الدولة فهي التي ترعاها وتوجه سياستها مما يجعلها لا تتمتع بالاستقلال التام والحرية وما يعرقل مسارها من نظم بيروقراطية تسيطر على مجتمعنا العربي الإسلامي.
فكان يجب علينا أن نحصر دور الدولة في تقديم الأوقاف والهبات لهذه المؤسسات دون التدخل في توجيهها. وما تاريخ الأزهر عنا ببعيد يوم أن كانت له أوقافه وممتلكاته مما يجعل لبعض شيوخه الحق في عزل الحاكم أو توليته.
أما عن مؤسساتنا العلمية والتربوية فالدارس لتاريخنا الحديث والمعاصر يرى أن النظريات العلمية والفلسفات التربوية مأخوذة بلا تبديل أو تحوير يذكر من الفكر الغربي.
فمن المحزن أن نقول إنه لا يوجد لدينا حتى الآن نظريات علمية أوتربوية نابعة من تراثنا وفكرنا. إن البحث العلمي في المنطقة العربية الإسلامية يعاني من مشاكل عديدة تعود إلى عدد من العوامل أدت بالنهاية إلى نتاج فكري منخفض إن لم يكن منعدما وهذه العوامل منها ما هو عام كالعوامل السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية، ومنها ما هو خاص كضعف التكوين العلمي والثقافي للباحث، أو سيطرة الاعتبارات الشخصية على علا قات البحث العلمي، أو عدم وجود جزاءات رادعة عن السرقات العلمية.
خاتمة : الكيان الصهيوني مصدراً للإنجازات العلمية
من المخجل والمحزن أن يصبح الكيان الصهيوني قوة إنتاج علمي ومصدرا للإنجازات العلمية التقنية. فعلى سبيل المثال زادت صادرات الكيان الصهيوني من المنتجات الإلكترونية من حوالي مليار دولار أمريكي في عام 1986 إلى قرابة الستة مليارات دولار أمريكي في عام 1999 وبلغ حجم الإنفاق على التعليم من الناتج القومي الإجمالي عند الصهاينة 6,6% عام 1999 في حين بلغ في العام نفسه 5.3 % بالولايات المتحدة الأمريكية و 3.8% باليابان و 3.7 بجمهورية كوريا و 2.8% بالصين وقد بلغ الناتج المحلى الإجمالي في العام نفسه 91965 مليون دولار في الكيان الصهيوني و 6952020 بليون دولار بالولايات المتحدة الأمريكية و 5108540 مليون دولار باليابان و 455476 مليون دولار بجمهورية كوريا و 143669 مليون دولار في الصين . ويدل ذلك على أن إنتاجية البشر في الكيان الصهيوني شديدة الارتفاع بالمقارنة بمحيطها العربي .
ويلاحظ أن نصيب الإنفاق على التعليم من الناتج القومي الإجمالي في معظم البلدان العربية ارتفع بدرجة ملحوظة بين عامي 1980 و1985 على حين كان أدنى في عام 1995 منه في عام 1980 فقد بلغ الإنفاق العام على التعليم من الناتج القومي في مصر على سبيل المثال 5.7% عام 1980 وانخفض إلى 5.6% عام 1995 وفى المغرب 6.1% عام 1980 وانخفض إلى 5.6 % عام 1995 .
إن التنمية الشاملة لأية دولة تتوقف على عناصر ثلاثة : أولها الوعي بمشكلة التخلف وأبعادها، وثانيها الوعي بضرورة القضاء على مشكلة التخلف والتخلص منها، وثالثها الوعي بضرورة القضاء على ظاهرة التخلف. وقد أدرك الصهاينة حتى قبل قيام الدولة أهمية هذه العناصر الثلاثة مما جعلهم ينشطون في تأسيس المنشآت العلمية البحثية وينتجون كما متجددا من العلم والمعلومات والمعرفة. وبلغت نسبة العلماء- والتقنيين عندهم 76 لكل 10000 شخص عام 2000 لذا فإنهم يتمتعون بعدد يفوق غيرهم كثيرا في نشر البحوث في مجالات العلوم الطبيعية والهندسة الوراثية والمجالات البيولوجية عموماً، مما أسهم في إيجاد بيئة علمية اعترفوا فيها بالباحث المتفرغ كعضو في المجتمع له دوره المهم.
===============
#المسلمون في ألمانيا بين رغبة التعايش والتحديات الداخلية
السبت 22 ربيع الثاني 1427هـ – 20 مايو 2006م
الصفحة الرئيسة
رسالة ألمانيا: يكتبها طه عبد الرحمن
مفكرة الإسلام [خاص]: منذ أن اتحدت ألمانيا الشرقية وألمانيا الغربية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991، بدأت المناداة بعودة برلين لتكون عاصمة ألمانيا الموحدة، إلا انه ومنذ ذلك التاريخ تأثرت أوضاع المسلمين الحياتية في ألمانيا بشكل كبير، إلى أن تزايدت بعد أحداث 11 سبتمبر.
وحرصا من 'مفكرة الإسلام' على رصد أوضاع المسلمين في ألمانيا فقد انتقلت إلى هناك للتعرف على أبرز المشاكل التي تواجههم في هذه البقعة الأوروبية التي تذكر الدراسات التاريخية أن غالبية مسلميها ينتمون إلى المذهب السني 'حوالي 65%'، إلا أنه وطبقا للدراسات وقياسات الرأي فإن غالبية المسلمين لا يمارسون العبادات بشكل منتظم وحتى صلاة الجمعة لا يحرص على تأديتها سوى ما يقل عن 10 % فقط.
وبحسب الدراسات التاريخية فإن العديد من التوقعات في ألمانيا، تشير إلى أن أعداد المسلمين المتجنسين سوف تتزايد، نظرا لوجود استعداد لدى الجالية الإسلامية للتجنس بغض النظر عن التسهيلات التي يمكن أن تقدم أو لا تقدم في محاولة منهم للقيام بدور سياسي في ألمانيا، رغم ما كل يواجهونه من مشاكل وتحديات.
ويطالب أعضاء الجالية الإسلامية بضرورة تحرك المؤسسات الإسلامية المختلفة لبحث قضاياهم في الوقت الذي يطالبون فيه إخوانهم بعدم نقل مشاكل بلاد المواطنة إلى بلاد الهجرة، إضافة إلى مطالبتهم بعدم كيل النظم الغربية بمكيالين. ففي الوقت الذي تناصر فيه كثير من الدوائر الغربية 'إسرائيل'، تقف موقف العداء من قضايا العرب والمسلمين.
تاريخ المسلمين في ألمانيا
حسبما تؤكد الدراسات ، فإن تاريخ المسلمين الموثق في ألمانيا يرجع إلى القرن الثامن عشر، أما الاتصالات بين المسلمين والألمان أنفسهم فتسبق ذلك، حيث شهدت هذه الفترة اتصالات عدة بين ملوك ألمانيا والمسلمين كما هو ثابت تاريخيا، بل إن بعض الفترات القديمة شهدت وجود جالية إسلامية مستقرة منذ ذلك الوقت.
كل هذا يدل على أن التعامل مع الحضارة الإسلامية كان تعاملا أكثر إنسانية وحضارة وانفتاحا مما نراه اليوم من كل ما هو غريب خشية تغيير النمط الأوروبي، لكن هذا التاريخ القديم شهد تجديدا في ستينيات القرن الماضي عندما أتت مجموعات كبيرة من المسلمين للعمل في ألمانيا.
وبشكل أكثر توضيحا فان الإسلام دخل ألمانيا الاتحادية والنمسا والجزء الألماني السويسري منذ مئات السنين، وكان ذلك عند وصول الفاتحين المسلمين الأتراك إلى مشارف في، ويرجع سبب وجود الجاليات الإسلامية في ألمانيا بهذا العدد الكبير إلى حركة الاعمار التي قام بها الألمان بعد الحرب العالمية الثانية وهزيمتها.
وبقدوم العمال وزيادة أعداد الطلبة الدارسين وللعوامل الأخرى بدأ الوجود الملحوظ والمكثف للمسلمين في ألمانيا، وكان هذا الوضع كفيلا بأن يدفع المسلمين لإقامة اتحاد إسلامي يضم الجميع، حيث تم تكوين أول اتحاد إسلامي في أوائل الخمسينيات، كما أقاموا بعض المساجد الصغيرة لتأدية الصلاة فيها، وبمرور الوقت زاد عدد الجاليات بشكل كبير.
وهنا تنبه أعضاء الاتحاد الإسلامي لضرورة الاهتمام بالأجيال القادمة حتى لا يذوبون في المجتمعات الأوربية، فتم إنشاء بعض المراكز الثقافية والمدارس، وبدأ التنسيق بين الهيئات والمؤسسات المختلفة، التي يطلق عليها حاليا المجلس الإسلامي، وكذلك بعض المؤسسات التنسيقية بهدف تنسيق جهود الهيئات الإسلامية للحصول على حقوقهم المشروعة كالسماح بتعليم مبادئ الإسلام لأبناء المسلمين في المدارس الألمانية، وتكوين المراكز الإسلامية، وان ترعى هذه المراكز شئون الجاليات، خاصة من ناحية الأحوال الشخصية بشكل رسمي، والحصول على اعتراف رسمي بالإسلام في ألمانيا أسوة بالمسيحية واليهودية.
وعلى الرغم من عدم وجود إحصاءات شاملة عن الانتماءات الدينية بوجه عام في ألمانيا إلا أنه استنادا على التقديرات المختلفة يتراوح عدد المسلمين ما بين 3 إلى 3.2 مليون مسلم منهم حوالي نصف مليون مواطن من المواطنين الألمان الذين اعتنقوا الإسلام, أما بقية المسلمين فغالبيتهم العظمى من أصول تركية ويشكلون السواد الأعظم للجالية المسلمة في ألمانيا , أما البقية الأخرى فينحدرون من أصول عربية , بالإضافة إلى مسلمي البلقان وشبه القارة الهندية.
وبوجه عام يصعب القول إن المسلمين في ألمانيا يتعرضون لتفرقة أو اضطهاد منهجي , فالقانون الأساسي الألماني' الدستور' يكفل حرية العبادة ويحمى هذا الحق ولكن هذا لا يمنع من وجود ' مضايقات' كثيرة تواجه المجتمع المسلم في ألمانيا, كثير منها نابع من عدم قدرة المسلمين على الاندماج الثقافي والاجتماعي في المجتمع الذي يعيشون فيه.
وهذه أحد القضايا الأساسية المطروحة على بساط النقاش في ألمانيا منذ عدة سنوات مضت وحتى قبل وقوع أحداث 11 سبتمبر التي تعتبر متغيرا رئيسيا في النظرة إلى المسلمين.
والإسلام في ألمانيا معظمه يميل إلى الطابع التركي نتيجة لاستقدام الشركات والمؤسسات في حقبة الازدهار الاقتصادي أو كما يسمى 'المعجزة الألمانية' في نهاية ستينات وسبعينات القرن الماضي للآلاف من الأتراك ليقوموا بالأعمال الدنيا التي لم تلق إقبالا من المواطنين الأملان أو لم تكن تليق بالوضع الاقتصادي المزدهر الذي نعموا به في تلك الفترة ثم سمحت السلطات الألمانية بعد ذلك بتوحيد أسر هؤلاء العاملين الأمر الذي أدى إلى زيادة أعدادهم.
وفى بداية قدوم المسلمين إلى ألمانيا لم يمثل القادمون الجدد من المسلمين للمجتمع الألماني الذي لم يلتفت أو لم يعنه وجودهم في الأساس ونظر إليهم على أساس أنهم ' ضيوف' مؤقتين سرعان ما سوف يغادرون البلاد لكون ألمانيا في تلك الفترة لم تكن مجتمع هجرة .
كما أن تكيف الأجانب من المسلمين على العيش في ألمانيا لم يكن بالأمر اليسير ولذلك يمكن القول إن ألمانيا في تلك الفترة كانت مجتمعا مغلقا إلى حد ما ولم تكن فكرة الوحدة الأوروبية تبلورت بصورتها الحالية مما سهل انتقال الأفراد بين المجتمعات لالأوروربية فضلا عن أن أفكار العولمة بكل تداعياتها المختلفة لم تكن قائمة.
المهاجرون المسلمون الأوائل عاشوا على هامش المجتمع الألماني , وحسب الشواهد , لم يكونوا يوما جزءا منه ولذلك لم تعبأ بهم الدولة أو المواطنون ونظرا لثقافتهم المختلفة والمتعارضة في كثير من الأحيان مع الثقافة الألمانية فضلا عن عدم إلمام الكثيرين منهم باللغة الألمانية وهوة ما جعلهم يعيشون في مجتمعات خاصة بهم ' جيتو' أو كما بات يقال يطلق عليهم فيما بعد ' المجتمعات الموازية'.
وبعد سنوات من الهجرة والاستقرار ووجود جيل ثان من هؤلاء المهاجرين بدأ الصدام مع المجتمع الألماني الذي بدأ يفيق هو الأخر على حقيقة أن هناك مجتمعات أخرى تنمو على هامش المجتمع الأساسي, وتختلف عنه في كثير من السلوكيات مختلفة مشاكل كثيرة يتعين مواجهتها منها الزواج القسرى وجرائم الشرف وبناء دور العبادة بمخالفة للقوانين القائمة والذبح على الطريقة الإسلامية وخاصة ذبح الخراف في عيد الأضحى .
هذه المشاكل امتدت لتطال المدارس العامة من عدم اختلاط الطالبات المسلمات مع نظرائهن الألمان وعدم المشاركة في الأنشطة الاجتماعية والرياضية وزاد من عزلة المسلمين انتشار الفضائيات منذ بداية حقبة السبعينات في القرن الماضي , فزادت من ثقافة ' الجيتو' لأنها نقلت المجتمعات الأصلية إلى المهاجرين المسلمين في ألمانيا باللغة الأم والثقافة القومية فزادت من الهوة الموجودة بالفعل بين المهاجرين ومجتمعهم الحالي.
ويجمع المسلمون في ألمانيا على أن أحداث 11 سبتمبر كمتغير هام في النظرة إلى المسلمين انعكس على المناخ الاجتماعي الذي يعيش فيه المسلمون في ألمانيا وزاد ه تدهورا.
وكنتيجة لتصاعد الحرب على ما يسمى بالإرهاب والتركيز على التهديد القادم من التطرف الديني كما يصفه الغرب فقد زادت النزعة العنصرية والتفرقة ضد المسلمين الذين شعروا بالعداء وأنهم ليسوا أهلا للثقة وتلاحقهم وصمة عار بسبب عقيدتهم فان بعض وسائل الإعلام الألمانية ساهمت في إذكاء هذه النزعة .
وعلى الرغم من بعض المحاولات الايجابية في أعقاب 11 سبتمبر استهدفت مد جسور حكومية إلا أن هذا لم يستطع وقف تنامي مناخ العداء للمسلمين ونظرة الارتياب تجاههم خاصة وأن قضية الخلط بين الإسلام والإرهاب جرى التعامل معها وكأنها أحد المسلمات وانعكس ذلك في تعمق شعور المسلمين بالعزلة بأنهم محاصرون أو في أفضل الأحوال مراقبون .
ولذلك سجلت كثير من منظمات حقوق الإنسان وقوع عدة حالات مثلت مضايقات للمسلمين شملت إهانات لفظية والتهديد بالقتل في بعض الأحيان وهجمات ضد المؤسسات الإسلامية إلا أنه مع ذلك فان الأمر لم يتحول إلى ظاهرة حيث اقتصرت المضايقات على حالات حصرية وفى ظروف بعينها ومع ذلك لا يزال المناخ غير مريح .
تحديات بالجملة
ومن هنا فان المسلمين في ألمانيا تواجههم العديد من التحديات نتيجة الأسلوب الذي تعاملهم به الحكومة الألمانية بدعوى الحملة على الإرهاب منذ أحداث 11 سبتمبر والتي ساهمت بدورها في دعم وتأكيد الاتجاهات السلبية ضد المسلمين حيث تستخدم السلطات الاعتبارات الأمنية كذريعة لتبرير الإجراءات التي تستهدف المسلمين بوجه عام حتى ولو لم يتورطوا في أعمال مخالفة للقانون أو حتى بمجرد أن تحوم حولهم الشبهات إلا أنها تستهدفهم لكونهم مسلمين بحجة حماية الأمن القومى حيث تتخذ ضدهم إجراءات كحملات التوقيف والاستجوابات وتفتيش المنازل ومراقبة دور العبادة.
ولا يتوقف شكوى المسلمين عند حد السلطات فقط وإنما تمتد أيضا إلى الإعلام الألماني الذي يلعب أثرا سلبيا في تشكيل اتجاهات الرأي العام عن المسلمين في ألمانيا من خلال تغطيته غير المتوازنة ويغلب عليها الأحكام المسبقة .
هذا ما تؤكده دراسة بجامعة ايرلانجن حول 'صورة الإسلام في الإعلام الألماني' إذ تشير إلى أنه سواء في الصحف أو الإذاعة أو التلفزيون أو حتى في المعاجم فان هناك صورة نمطية عن الإسلام والمسلمين, هذه الصورة تبلورت منذ سنين وخاصة بعد الثورة الإيرانية في العام 1979 حتى أنه في حال عدم استخدام مثل هذه الصورة يظل الانطباع الأول هو السائد وهو الجانب السلبي عن المسلمين لدى الألمان.
ولذلك تعمد كثير من وسائل الإعلام الألمانية إلى تناول مواضيع بعينها عن الإسلام وغالبا ما لا يتم طرح هذه المواضيع بالموضوعية المطلوبة أو عدم معرفة تامة بالإسلام والمسلمين خاصة وأنه في الآونة الأخيرة ظهرت العديد من التقارير التي تركز على ما تراه من جوانب سلبية للمسلمين مثل مشكلة القتل على خلفية الشرف والزواج بالإكراه أو العنف في العائلة المسلمة .
وفى هذا السياق فقد سبق أن نشرت مجلة ' فوكس ' الأسبوعية على صفحة الغلاف عنوانا يحمل اسم' الضيوف المخيفين' وذلك في إشارة إلى المسلمين الذين يعيشون في ألمانيا فيما تطرقت مجلة ' دير شبيجل' في أحد تحقيقاتها إلى تقييد حقوق المرأة المسلمة عنوانه ' بنات الله عديمات الحقوق ' في إشارة إلى ما أسمته معاناة المرأة المسلمة في ألمانيا من وطأة الظروف الاجتماعية التي تفرض عليهن أمورا باسم الدين تنال الكثير من حقوقهم فيما يعتبرها كثير من المستشرقين الأمان أن هذه الأمور لا تمت إلى الشريعة الإسلامية بصلة وإنما هي تابعة من فهم خاطئ للدين والعادات والتقاليد الإسلامية.
ويؤكد مصطفى أبو الحمد مقيم في مدينة بون- إن الحفاظ على هوية المسلم أمام هذه التحديات تبدأ بالتعليم، وان كثيرا من المسلمين يفتقدون التعليم الذي يدعم هويتهم، ولذلك فان التعليم سيبقى بجوار دور المساجد الدور الأساسي الذي لا غنى عنه، خاصة وان النظام الألماني يسمح بان تقام مدارس خاصة تشرف عليها الطوائف الدينية، ويعترف بشهاداتها شريطة أن تلتزم بالحد الأدنى من القانون والنظام التعليمي المعمول به.
ولذلك فإنه توجد عدة مدارس أنشئت لاستغلال هذه الرخصة منها واحدة في ميونخ ومدرسة في برلين وغيرهما، إضافة إلى مدارس تخدم مصالح البعثات الدبلوماسية مثل أكاديمية الملك فهد في بون، كما أن النظام نفسه يعطى الحق للطوائف الدينية أن تضع مناهج مواد التدريس، وان تشرف على تأهيل المعلمين، وعلى ما يتعلق بهذه المواد المنهجية، بعد أن كان هذا الحق محجوبا عن المسلمين فيما قبل.
تحديات المرأة المسلمة
ومن أبرز التحديات التي تواجه المرأة المسلمة في ما تواجهه هناك، خاصة بعد القرار الصادر منذ فترة بمنع ارتداء المسلمات للحجاب في المدارس الحكومية، واستثناء المصالح وجهات العمل من هذا القرار، وهو التحدي الذي يضاف إلى جملة من التحديات التي تواجه المرأة المسلمة في الغرب بعد قرار منع الحجاب في المدارس الفرنسية.
إلا انه رغم ذلك، فهناك رغبة من المسلمات في ألمانيا في ارتداء الحجاب والحفاظ على ارتدائه، رغم وجود إشكال عدة من التطهير العرقي والديني تعانى منه المرأة المسلمة، ففي كثير من الحالات ترفض المؤسسات قبول المرأة المسلمة المثقفة المتعلمة ذات الكفاءة لمجرد مظهرها الإسلامي، أو يرفض أصحاب العقارات إسكان الأسرة المسلمة لمظهرها الأجنبي في السكن.
يضاف إلى ذلك جملة أخرى من التحديات التي تواجه المرأة المسلمة في ألمانيا، وهى أن القانون الألماني لا يوثق الزواج الثاني، وان كان لا يعاقب عليه مثل القانون الأمريكي ، ورغم ذلك فان البعض من النازيين الجدد وغيرهم كثيرا ما يهاجمون الزواج الإسلامي.
وحسبما يؤكد محمد الأحمدي - مقيم في ألمانيا منذ 19 عاما- ورغم تمتعه بالجنسية الألمانية، فان أغلب مسلمي ألمانيا يعيشون هناك منذ 40 عاما، ولم يحصلوا على الجنسية في ظل تعديل قانون التجنس، رغم أن هذا القانون يسمح لمن يولد في ألمانيا بغض النظر عن جنسية أبويه يعطى الجنسية الألمانية، بالإضافة إلى جنسية احد أبويه، وعليه أن يقرر مع بلوغه 23 سنة اى الجنسيتين يأخذ، فهي إذا جنسية مزدوجة إلى اجل مسمى .
المشاركة السياسية
الدكتور محمود أبو الدهب- مقيم في ألمانيا - يؤكد أن وضع المسلمين اضعف من أن يشاركوا في الأمور السياسية، وان كان لبعض المسلمين في برلين بعض الآراء السياسية التي يبرزونها، إلا انه للآسف الشديد- كما يقول- توجد خلافات حادة بين الجوانب الفكرية بين المسلمين، وبالتالي فمن الصعب أن يتحدوا نحو فكر إسلامي محدد، ينطلقون من خلاله لتشكيل حزب ديني.
ويضيف عادة ما يكون هناك عقد مؤتمر سنوي، الغرض منه طرح إحدى القضايا المرتبطة بالأوضاع الإسلامية في ألمانيا أو أوروبا، ونتعمد أن يكون المؤتمر في أيام عيد الميلاد، حتى يمكن أن نجذب المسلمين إلى المؤتمر لعدم خروجهم إلى الاحتفال بمثل هذه الأعياد، حتى لا يقعوا في الزلل والمعاصي من خلال ارتكاب الموبقات ورؤية المشاهد الخليعة، وبالتالي فنحن نجمع المسلمين في هذه الأوقات من خلال المؤتمر السنوي بالمراكز الإسلامية لمتابعة الدروس والندوات الدينية ومعايشتهم في جو إسلامي، يعود بالرفاهية على أولاد المسلمين، حتى يدركوا أن الإسلام لديه أوقات لقضاء الفراغ بشكل مباح.
ويشير د. أبو الدهب إلى الدور الذي تلعبه الصهيونية في ألمانيا أو ما يقوم به النازيون الجدد للحيلولة دون دخول الأجانب في الإسلام، ولذلك فهم دائما يستعدون الحكومة الألمانية على المسلمين من خلال وسائل الإعلام المختلفة، فهي تقوم بدور بشكل مباشر في كل ما ينشر عن الإسلام، وإبراز سلبيته في مختلف المجالات، وبالطبع لا يسمح لنا بالرد على ادعاءاتهم الكاذبة، أو المحاولة لتوضيح صورة الإسلام الصحيحة.
ويقول: نلجأ إلى وسائل لإبراز صورة الإسلام وحماية المسلمين من محاولات الاختراق والتشويه عن طريق زيارات المسلمين للتجمعات وإرشادهم لكيفية التعامل مع العناصر المخالفة داخل المجتمع الألماني، ونقوم بتوفير الصحف والمجلات الإسلامية باللغات الانجليزية والألمانية، كمحاولة لإبراز الصورة الصحيحة للإسلام عن طريق تناول سيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ومواقف القرآن الكريم.
الحوار بين الشرق والغرب
ولعل ابرز ما يطرح نفسه على الساحة الألمانية، ما يدور في هذه الأيام،قضية الحوار بين الشرق والغرب، ولذلك فان تعبير الحوار مع الإسلام في ألمانيا أصبح تعبيرا شائعا، وسيطر على الخطاب الألماني في مؤسساته الرسمية والفكرية بهدف التعرف أكثر على الحضارة والثقافة الإسلامية، وتأثير هذه الثقافة على النواحي الاجتماعية والسياسية على المجتمعات العربية والإسلامية بوجه عام، وكذلك معرفة الفوارق بين هذه المجتمعات التي تشترك في نفس الدين الواحد لكنها تختلف اختلافا كبيرا فيما بينها حتى يمكن رسم إطار سياسي يتلاءم مع كل مجتمع على حدة.
غير انه بعد إحداث 11 سبتمبر وما تلاها من إعلان الولايات المتحدة الحرب على ما يسمى بالإرهاب أصبحت العلاقات الثقافية الخارجية لألمانيا احد المكونات الرئيسية في السياسة الخارجية الألمانية بسبب اللغط الكثير الذي أثير حول الإسلام والخلط بينه وبين الإرهاب، مما كان له تداعيات خطيرة على العلاقات بين الدول، وقفزت العلاقات الثقافية الخارجية من حالة السكون أو عدم الاهتمام لتصبح في مقدمة أولويات السياسة الخارجية الألمانية، حيث سارعت وزارة الخارجية الألمانية إلى القيام ببعض المبادرات والمشروعات لتعزيز الحوار الإسلامي الأوروبي حتى لا تسقط السياسة الخارجية الأوربية بوجه عام في فخ صدام الحضارات.
ويرى الكثير من الباحثين أن مسارعة ألمانيا وغيرها من الدول الأوربية إلى الاهتمام بهذا العامل الثقافي إنما يرجع إلى محاولة مواجهة أو موازنة السياسة الأمريكية التي اعتمدت على التدخل العسكري في أعقاب أحداث سبتمبر، وما أسمته أمريكا بالحرب الوقائية، وهو المبدأ الذي تعارضه غالبية الدول الأوروبية التي ترى أن السياسة الثقافية الخارجية هي سياسة أمنية، ولكن بوسائل مختلفة تهدف إلى منع نشوب الصراعات من خلال الحوار.
وأخيرا تبقى الإشارة إلى أن كل هذه التحديات والمشاكل التي تواجه المسلمين في ألمانيا، يرجعها الكثيرون من الجاليات المسلمة إلى التأثير الصهيوني، ومحاولاته ضدهم، والتأييد الرسمي لإسرائيل، الأمر الذي أدى إلى حالة من عدم الارتياح بين الرأي العام، وفى المناقشات السياسية والصحفية حول سياسة إسرائيل وسلوكها مع الفلسطينيين، ويرون أن هذه الممارسات يمكن أن تشكل عائقا أمام عملية التسوية، وتقويض الجهود الدولية والأوربية الرامية إلى حل الصراع وإقامة دولة فلسطينية.
وهنا يؤكد المراقبون في ألمانيا أن برلين تسعى إلى إقامة توازن بين التزامها الراسخ إزاء أمن إسرائيل وقبولها مبدأ حق تقرير المصير للفلسطينيين، وهو المبدأ الذي أقرته السوق الأوروبية المشتركة في إعلان في عام 1980، ثم تطور هذا المبدأ بعد ذلك لقبول قيام دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل.
============
#نحو صورة وسطية حضارية نقدم بها الإسلام للعالم
الأربعاء 19 ربيع الثاني 1427هـ – 17مايو 2006م
الصفحة الرئيسة
- يجب تقديم الإسلام على أنه نظام شامل وليس أجزاء متفرقة.
- ينبغي إبراز عطاء علماء الإسلام في المجال الاجتماعي وخاصة رعاية المرأة.
- ينبغي الاهتمام بالدعاة الذين يقدمون الإسلام للناس.
- الإسلام حرر الإنسان ذاتًا وعقلاً وضميرًا وعقيدة.
د. ليلى بيومي
مفكرة الإسلام: رغم ما قدمته الصحوة الإسلامية من جهد طيب في مجال الدعوة وتيسير التدين للشباب والناس جميعًا .. إلا أن الملاحظ أن هناك سلبيات كثيرة رافقت خطاب الصحوة الدعوى ما بين الإفراط في الزجر والتخويف يصل إلى حد سد باب التوبة في وجه النادمين ،وبين التساهل إلى حد التفريط في الثوابت والأصول. والناس حيارى .. إلى من يستمعون ؟ .. ثم إن الخطاب الدعوي موجه أيضًا في شكل من أشكاله إلى غير المسلمين .. ومن ثم ينبغي أن يكون فيه من النضج والعمق والاعتدال ملامح تجعله مؤثرًا ومرشدًا. فما هي الصورة الوسطية الحضارية التي ينبغي على الدعاة تقديم الإسلام بها سواء إلى المسلمين في الداخل أو غير المسلمين في الخارج ؟.
ينبغي تقديم الإسلام كمهج ونظام
يقول د. علي مدكور عميد معهد البحوث التربوية بجامعة القاهرة: إننا لابد أن نقدم الإسلام للناس على أنه منهج ونظام .. فالإسلام باعتباره المنهج الأخير هو نظام التوجيه حياة البشر ومعنى أنه نظام أي أنه كل مكون من أجزاء وكل جزء يؤثر في جزء ويتأثر به. والإسلام بهذا المعنى هو منهج الحضارة بل هو الحضارة. وهذا يعني أننا حينما نقدم الإسلام لا يجب أن نقدمه في أجزاء متفرقة بل لا بد أن يقدم في صورة كلية شاملة أولاً ثم تأتي التفاصيل في مرحلة تالية. والإسلام كنظام مبني على شقين :الشق الأول هو : الشق الاعتقادي ،والشق الثاني هو : الشق الاجتماعي.
والشق الاعتقادي في الإسلام هو : التصور الإنساني للألوهية والكون والحياة والإنسان. وهذا الشق هو جوهر مناهج الفلسفة التي نقدمها لأبنائنا وللآخرين كي يتعرفوا على الوجه الحضاري للإسلام.
ولهذا فإذا أردنا تقديم الإسلام للآخرين فلا يجب أن نقدمه في صورة رؤى فكرية لهذا المفكر أو ذاك أو رؤى اعتقاديه لبعض الفرق مثل أهل السُنَّة أو الشيعة .. الخ وإنما نقدم التصور الاعتقادي من القرآن والسنة مباشرة.
أما فيما يتعلق بالشق الثاني وهو شق التصور الاجتماعي فهو : يتعامل مع أمور من قبيل كيف نقيم النظام السياسي والنظام الاجتماعي وكيف نقيم الأسرة وما هي العلاقة بين أفرادها والعلاقة بينهم وبين غيرهم .. وما هي الثقافة ؟ وكيف نتعامل معها ؟ وكيف نقيم مناهج التربية والفنون والآداب والإعلام ؟.. الخ.
وهذا الشق الاجتماعي منبثق عن الشق الاعتقادي.. فمثلاً كيف نتعامل مع الغيبيات في الكون مثل الروح والملائكة والجن والشياطين ؟ وكيف نتعامل مع المشهودات في الكون مثل : الماء والجبال والأنهار والحيوانات والإنسان ؟ كل هذه الأمور والأسئلة تأتيها موجهات من الشق الاعتقادي لأن الله أقام الكون وبناه على نظام ولو أخللنا بهذا التوازن الدقيق في الكون فسوف يعود الخلل علينا.
فلو لوثنا الماء والهواء وفتحنا ثقبًا في الطبقة الحامية للأرض فهذا كله سوف يعود علينا بالضرر. وعلى هذا نستطيع أن نقول إن هناك نظامًا للسياسة في الإسلام وعلينا أن نقدمه على أنه نظام وليس جزئيات .. وإذا لم نقدمه هكذا فإننا بذلك نسيء للإسلام. كما أن الاقتصاد في الإسلام نظام فيه جزئيات كثيرة منها الزكاة والمواريث والصدقات .. الخ. ونقطة الضعف أننا ندرسه كأجزاء متفرقة كل جزئية في سُنَّة من سنوات الدراسة وفي كتاب منفصل. إن النظام الاقتصادي الإسلامي شامل ولا يجوز لنا أن نقدمه كأجزاء وإلا فقد معناه ، كذلك فإن النظام التربوي في الإسلام هو نظام شامل ومتكامل ووحدة واحدة تأتيه التوجيهات من الشق الاعتقادي .. والأمر ينطبق أيضًا على الفنون والآداب والإعلام .. الخ.
إننا يجب ألا ننسب أخطاءنا إلى الإسلام ولا يجب أن نعرض الإسلام كما يفعل صاحب المعرض الذي يجلس أمام معرضه بثياب رثه وشعر أشعث فيمر الناس فلا يدخلون معرضه. وإنما علينا أن نبدأ بأنفسنا فنعلمها قبل أن ندعو الناس.
التركيز على الجوانب الاجتماعية في الخطاب الدعوى
يقول د. حسن الشافعي رئيس الجامعة الإسلامية العالمية بباكستان سابقا:ً إننا ونحن ندعو المسلمين وغير المسلمين للإسلام علينا أن نهتم بالجانب الاجتماعي حيث وضع المرأة والأسرة الذي هو معيار صحيح لحضارة أي مجتمع .. لأن الأسرة أعظم مؤسسة إنسانية. وفي هذا المجال فإن المرأة المسلمة تتساوى مع الرجل من حيث القيمة الإنسانية والمسؤولية القانونية والحقوق والواجبات .. ولا يتعارض ذلك مع التخصص في العمل فلكل منهما مواهبه وملكاته .. وللأسف فإن وضع المرأة في مجتمعاتنا دائمًا ما يثار من وجهة نظر تغريبية .. لكننا نريد أن نثيره دائمًا في إطاره الإسلامي. وإذا كنا نرى الآن المرأة المسلمة أصبحت رئيسة وزراء فإننا مازلنا نسمع عن الفصل بين الرجل والمرأة في جامعاتنا وعن منع المرأة من أمور معينة على سبيل القهر. والأخطر من ذلك ما سمعناه أخيرًا في أفغانستان عن حبس المرأة تمامًا وعدم السمح لها بالخروج لا للتعليم ولا للعمل .. إن هذه تشوهات خطيرة في الوجه الحضاري الإسلامي.
ورغم السلبيات التي لدينا فما تزال الأسرة المسلمة متميزة وهو ما جعل الأمير تشارلز ولي عهد بريطانيا يقول للبريطانيين : تعلموا من الباكستانيين عندنا والمسلمين كيف يحافظون على أسرهم وكيف يوقرون كبيرهم ويرعونه ويعطفون على صغيرهم. إن الترابط والتكامل لا يزال يجعل الأسرة المسلمة هي الأكثر تماسكًا في المجتمعات المعاصرة لكن هناك اتجاه عالمي يحاول الانقضاض على هذه الأسرة المسلمة المتماسكة … ووضح ذلك تمامًا في مؤتمر السكان في القاهرة ثم في مؤتمر المرأة في بكين. حيث يريدون الترويح لأسرة بلا رجال ، وبلا بنات ،ولا علاقات وإنما أسرة من رجلين أو امرأتين .. الخ.
ورغم تميز الأسرة المسلمة فهي مهددة من الداخل أيضًا فهناك انحرافات وميل إما إلى اليمين أو اليسار والأمر في حاجة إلى إعادة بناء وتدعيم.
وأضاف د. حسن الشافعي قائلاً : إن هناك نقطة مهمة ينبغي مناقشتها في هذا البعد الاجتماعي وهي : الإرشاد الديني الرسمي والشعبي .. فعلى صعيد الإرشاد الديني الرسمي نجد أنه كان متميزًا حتى الأربعينات. أما الآن فهو مليء بالغوغائية والعاطفية والضحالة وهناك نقص خطير في إعداد الدعاة. إننا إذا كنا نريد تغييرًا في مجتمعنا فإن التغيير يأتي من المسجد ولذلك فلابد من إعطائه الاهتمام الذي يناسبه حتى يستطيع أن يحدث الأثر المطلوب.
وفي المجال الاجتماعي لا يفوتني التنبيه إلى نقطة هامة وعقبة تحول دون تقديم الوجه الحضاري للإسلام وهي: أن الفجوة الاجتماعية تزداد اتساعًا وسوف تتسع أكثر مع اتساق الخصخصة وقوانين السوق وسلطة المال التي ليس لها قلب ولا دين. ونحن هنا ننادي بالزكاة التي لو طبقت على ثرواتنا ومنها البترول وغيره لغيرت وجه المجتمع. إن قوانين السوق لا تبحث إلا عن الربح والكسب وليس لها أخلاقيات ولذلك فلابد أن نقيم من الإسلام رقيبًا عليها بنظمه وقوانينه.
ملامح أساسية يجب أن تسود الخطاب الدعوى الإسلامي
يقول د. أحمد هيكل وزير الثقافة المصري الأسبق: إن الدعاة إلى الإسلام حينما يخاطبون المسلمين أو غير المسلمين يجب أن يركزوا على عدة ملامح أساسية تفرد بها الإسلام عن كل النظم القديمة والحديثة وأول هذه السمات والمبادئ هي : الحرية … فالإسلام ركز على حرية الإنسان ذاتًا وعقلاً وضميرًا وعقيدة ما لم يركز عليها أي دين آخر.
و بالنسبة لتحرير الإنسان ذاتًا فإن الفقهاء والمفكرين المسلمين يجمعون على أن الأصل في الإنسان أنه حُرْ وأن العبودية طارئة لأسباب سياسية واقتصادية واجتماعية وعرقية .. والإسلام حاول أن يحرر الإنسان بوسائل كثيرة ولم يكن من الممكن حينما جاء الإسلام أن يحرر الرق دفعة واحدة لأنه كان سيسبب تخريبًا اقتصاديًا وكان سيرسي مبدأ عدم المعاملة بالمثل بالنسبة للآخرين الذين يسترقون في الحرب أسرى من المسلمين. لكن الإسلام شرع تحرير الموجود من الرقيق بأساليب كثيرة .. فكل الكفارات وكل القرب وكل السُنَنْ تقوم على أشياء كثيرة في مقدمتها فك رقبة. وأما بالنسبة لتحرير عقل الإنسان فكان ذلك بدعوة الإسلام الناس إلى التأمل والنظر وإعمال العقل وترك التقليد وترك اتباع الأهواء وذم اتباع الأقدمين .. ولقد سخر القرآن من ذلك سخرية كبيرة ووجه الناس التوجيه الذي يحرر عقولهم.
وبالنسبة لتحرير الضمير فقد شرع الله سبحانه الحلال والحرام وربى الضمير على أن هناك إلهًا يحاسب وعلى أن هناك جنة ونارًا وأنه لا يستوي الذين يصلحون والذي يفسدون.
و بالنسبة لتحرير عقيدة الإنسان فهي نقطة يقف الإنسان عندها مبهورًا دائمًا .. لأن الإسلام أكد على حرية العقيدة كما لم يؤكد دين ولا نظام. فالعقيدة في الإسلام حرة مائة في المائة .. وشعار الإسلام في هذا هو [ لا إكراه في الدين ] .. والذين يتوهمون أنهم يستطيعون تغيير عقيدة الناس بجد السيف مخطئون .. وكل ما ورد في ذلك من نصوص وممارسات تبتعد عن شعار الإسلام.
ويضيف د. أحمد هيكل أن هناك ملامح أخرى ينبغي أن يضمنها الدعاة في رسائلهم الدعوية ومنها المساواة. فالإسلام أول تشريع سوى بين البشر كافة تسوية مطلقة فلا ألوان ولا طبقات ولا أجناس ولا أعراق ولا أي شيء إلا التقوى.
إن الحضارات السابقة مثل الرومانية واليونانية وغيرها جعلت من الناس طبقات .. طبقة النبلاء .. وطبقة أصحاب الدماء الزرقاء .. وطبقة العمال .. وطبقة الفلاحين .. وكل طبقة لها قوانين خاصة. أما الإسلام فكان أول تشريع ألغى العنصرية والتي لم يستطع العالم أن يلغيها إلا في وثيقة حقوق الإنسان عام 1948. كما لابد من التركيز على ملمح العدالة المطلقة التي تصل إلى حد المبالغة حينما يقول الرسول الكريم : [والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها] .. ولم نسمع نبيًا ولا حاكمًا ولا مسئولا قال مثل هذا الكلام. ولا نعرف مثل قول عمر بن الخطاب لأبي موسى الأشعري حينما ذهب إلى اليمن : [آسي بين الناس في مجلسك ووجهك حتى لا يطمع شريف في حيفك ولا ييأس ضعيف من عدلك]. والمساواة في الإسلام تصل إلى حد نظرة القاضي إلى المتقاضين وجلسة القاضي من المتخاصمين. فلا يجلس مقبلاً على واحد ومعرضًا عن الآخر ولا يجلس مبتسمًا لواحد ومكفهر الوجه للآخر. ومن هذه الملامح أيضًا : الشورى حيث يرفض الإسلام الحكم الشمولي المطلق ويرفضه الاستبداد بالرأي. وحسبنا أن نعلم أن رسولنا طولب بالشورى وهو نبي [ وشاورهم في الأمر
=============
#الوقف الخيري يحل المشكلات الاقتصادية في بلاد المسلمين
الأربعاء 28 ربيع الأول 1427هـ – 26 أبريل 2006م
الصفحة الرئيسة
- أستاذ يهودي يشيد بالوقف الإسلامي ويتعجب من إلغاء المسلمين له.
- الوقف حل عبقري وغير مستورد لكثير من مشكلاتنا.
- مطلوب إعادة الوقف وتطويره ليتصدى لمشكلاتنا العلمية والإنتاجية.
د. ليلى بيومي
مفكرة الإسلام: ظل نظام الوقف الإسلامي متفردًا في خصائصه ومقوماته عبر العصور .. وكان هذا النظام انعكاسًا حقيقيًا لما غرسه الإسلام في نفوس أبنائه من حب الخير ومحاربة شح النفوس. فرأينا مئات وآلاف الخيّرين الذين يوقفون أموالهم كلها أو جزء منها على الدعوة الإسلامية، أو على طلاب العلم ،أو على مجموعة من المساكين والفقراء، وكانت هذه الأوقاف تتمثل في الأراضي الزراعية والعقارات والمحلات وغيرها. إلا أنه مع تغير ظروف مجتمعاتنا وصل الأمر إلى حد اختفاء وإلغاء الأوقاف الخيرية في ظل الظروف الاقتصادية غير المواتية واتساع الفجوة بين الطبقات وازدياد أعداد الفقراء والمحتاجين.
فلسفة الوقف
يقول د. سيد دسوقي حسن أستاذ هندسة الطيران بجامعة القاهرة والمفكر الإسلامي إن منظومة الأعمال والأنشطة في أية دولة تتجه مع مرور الوقت إلى الجمود والجنوح إلى منطقة الأمان الاقتصادي بعيدًا عن الأعمال الريادية التي من شأنها أن تجدد شباب الأمة، والتي تحتاج بطبيعتها إلى روح المجازفة الحالمة. وفي مثل هذه الظروف تلعب فكرة الوقف دورًا أساسيًا في اجتياز حواجز الخوف الاقتصادي حيث تتيح المشروعات رصيدًا ماليًا يأخذ بيدها في أول الطريق ،ولا يخفى علينا الدور الكبير الذي قامت به فكرة الوقف في تاريخنا الإسلامي والخدمات الجليلة التي أدتها الأوقاف لمختلف مجالات الحياة.
والوقف نوعان : نوع سلبي متآكل كمن يوقف دارًا للفقراء فتبلى الدار مع الزمن وتنتكس قيمة النقود ويؤول الوقف في النهاية إلى لا شيء.
وهناك نوع من الوقف ينمو مع الزمن ويشب مع الأيام كمن يوقف المال على عمل إنتاجي من شأنه أن يساعد الناس على امتلاك قدرات إنتاجية يزيدون بها وقفهم ويجددون بها حياتهم. أو من ينفق المال ويوقفه حتى يمتلك الناس أدوات الإنتاج أو يمتلكون عملاً منتجًا أو خبرة أصيلة ،أو يحمل لهم أهل الخبرة من بلاد أخرى لينقلوا لهم خبرات بلادهم ، وكل ذلك يهدي في ميدان الحضارة إلى صراط مستقيم... وما نبتغيه هو وقف من النوع الثاني.
نوع منتج وليس نوعًا سلبيًا .. ونحن ندرك أن كثيرًا من أهل الخير في بلاد المسلمين يوقفون أموالهم على النوع السلبي وقليل منهم يوقف على النوع الثاني.
ويضيف د. سيد دسوقي إنه إذا كانت الحكومات والمؤسسات الرسمية تعاني مشكلات اقتصادية كبيرة لا تستطيع معها تحقيق ما يصبو إليه الناس فالمفترض أن يتدخل أهل الخير ليحلوا هذه المعضلة ويقدموا لمجتمعاتهم وينفقوا من أموالهم .. ولكن أين هم أهل الخير في بلاد المسلمين ؟ لقد انقطع زادهم فلم يعودوا ينفقون في أعمال الخير إلا قليلاً. وربما نعجب أنه في بلاد الفرنجة حيث يظن الناس أن الرأسمالية تنشب أظفارها .. لكننا نجد أن آلاف من المحسنين هناك يوقفون أموالهم على هذه الأعمال الخيرية .. وكل يوم تنشأ في بلادهم جمعيات خيرية لتنمية صناعات بعينها أو تعمل على ازدهار جامعات ومراكز بحوث علمية وتطبيقية. وعلى مستوى العالم توجد تسعون ألف جمعية خيرية منها اثنان وعشرون ألفاً في الولايات المتحدة وحدها تنفق ما يزيد على ثلاثين مليار دولارًا كمنح بحثية لتطوير العلوم والتكنولوجيا. ونحن – المسلمين – لا ملجأ لنا من القهر العالمي إلا أن نسعى بكل ما نملك لإيجاد الوقف الذي يساعد على الابتكارات وتنميتها.
الأوقاف من إضافات التشريع الإسلامي المثمرة
ويقول د. علي أبو المكارم عميد كلية دار العلوم السابق إن الأوقاف الخيرية تمثل في التاريخ الإسلامي رافدًا مهمًا من روافد بناء المجتمع والفرد معًا لأنها كانت تتيح للمجتمع الحصول على المال بوسائل اختيارية لتحقيق المصالح العامة كتعليم الطلبة والإنفاق عليهم خلال مرحلة دراستهم أو إنشاء المستشفيات أو الملاجيء فيما كان يسمى 'بالتكايا'. وكرصد الأموال لخدمة بيوت الله وتعميرها أو لمساعدة المحتاجين في كافة المجالات. ومعنى هذا أن الأوقاف الإسلامية بصورتها الصحيحة تتيح المساهمة الفعالة لأفراد المجتمع وتمكن المجتمع بالتالي من تحقيق التوازن الضروري في مجالات الإنفاق. ولقد كان ذلك كله سبيلاً للأفراد كي يشعروا بالرضا عن أنفسهم إذ ينفقون في سبيل الله ويخففون عن إخوانهم من الضعفاء والمحتاجين.
ومن الثابت تاريخيًا أن المساجد في العالم الإسلامي كانت تتلقى ريع ما يوقف عليها من عقارات وأراضٍ شأنها في ذلك شأن المستشفيات والتكايا وكان ذلك هو الذي يسر للمسلمين تقديم هذه الخدمات العامة منذ صدر الإسلام إلى مطلع أو أواسط القرن العشرين. وأظن أن إلغاء هذه الأوقاف والاستيلاء عليها قد ترتب عليه إحجام المسلمين القادرين على القيام بدورهم الذي قاموا به على مدى التاريخ .. وأحسب أن ذلك خطأ لا مفر من الاعتراف به ، لأنه حال دون مشاركة هؤلاء المسلمين مشاركة منظمة في رعاية مجتمعاتهم.
وليس صحيحًا ما يقال من أن الجهود الذاتية تستطيع أن تقوم بهذا الدور لأن هذه الجهود تفتقد الأساس الديني الذي يعطيها التجرد والفاعلية. وأرى أنه من الواجب الآن إعادة النظر في مسألة الأوقاف خصوصًا وأن الظروف الاجتماعية والاقتصادية تستدعي مزيدًا من المشاركة الجماهيرية وتقتضي من القادرين المساهمة الإيجابية في حل مشكلات المجتمع .. ولن يكون ذلك ممكنًا بصورة فعالة ونشطة إلا عن طريق الأوقاف الخيرية لأنها هي التي تمكن المسلم القادر من أن يضع أمواله في خدمة بيئته المحيطة به ومن أن يضمن استمرار الإنفاق منها بالشروط التي يراها دون أن تتدخل في ذلك إرادة الأجهزة الرسمية وما يعنيه ذلك من البيروقراطية.
فالاهتمام بالأوقاف الخيرية يمكن أن يترتب عليه في المستقبل كما ترتب عليه في الماضي اهتمام بأنماط معينة من التعليم أو بأشكال محددة من الرعاية الاجتماعية .. وهذا كله يتيح الفرصة بصورة إيجابية للحركة الاجتماعية لكي تحقق غايتها في إقرار السلام والطمأنينة بين أفراد المجتمع .. وهذا بالطبع غير ما يطالب به المسلم من الزكاة وما يجب عليه من الصدقات. وهكذا فإن الأوقاف الخيرية إضافة من إضافات التشريع الإسلامي لحل المشكلات الاجتماعية وتحقيق التوازن النفسي بين أفراد المجتمع من ناحية وبين الفرد والمجتمع كله من ناحية أخرى.
الأوقاف علاج للأنانية
أما د. أحمد عبد الرحمن أستاذ الفلسفة الإسلامية فيقول : إن المسلمين كانوا أذكياء حينما كانوا يوقفون أموالهم في شكل أراضٍ أو عقارات .. فالأرض لا تتبدد ولا يستطيع أحد أن يسرقها .. بينما لو كان الوقف في مشروعات تجارية لامتد إليها النهب والاختلاس. ونحن في هذه الأيام يجب أن تتكامل دعواتنا التربوية مع الإعلام والقيم السائدة في المجتمع. فالإعلام والفنون الموجودة الآن تخاطب الغرائز وتشجع على الأنانية وحب الذات .. أما العمل التطوعي فهو إنكار للذات وفيه حب الخير للناس .. والأوقاف الخيرية الإسلامية هي قمة العمل الخيري التطوعي الخالي من الأنانية.
ففي مجال التدابير الوقائية في الإسلام أو فيما يخص النواحي الأمنية فإننا نقسم الناس إلى ثلاثة أقسام : القسم الأول هو الإنسان الذي يعمل لنفسه على حساب الآخرين ويؤذيهم فهو يقتلهم ويسرقهم، والقسم الثاني هو الإنسان الذي يعمل لنفسه ولا يؤذي غيره ولكنه ليس على استعداد لمساعدتهم ، والقسم الثالث هو الإنسان الذي يعمل لنفسه ويساعد الآخرين.
وإذا تكاملت الأجهزة في المجتمع لتحبيذ النوع الثالث والعمل على انتشاره فسوف يؤدي ذلك إلى تقليل الجريمة واختفاء القضايا أمام المحاكم واختفاء الغش والتزوير والرشوة والتقاعس عن العمل وكلها مظاهر أنانية.
وهكذا فالوقف عمل متعدد الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية والأمنية والتربوية .. فما أجمل أن يشعر الإنسان أنه يخدم الآخرين ويساعدهم ويخفف عنهم وما أعظم أن يشعر الإنسان أنه ذو قيمة في مجتمعه.
عالم يهودي يشيد بالوقف الإسلامي
أما د. محمد راغب أستاذ التاريخ الإسلامي فيقول إن البروفيسور اليهودي إسحاق رايتر ألَّف كتابًا عن نظام الوقف الإسلامي يقول فيه : إنه نظام مهم جدًا ولا يوجد مثله في العالم .. فهو يسمح بتداول الثروة .. هذه المعضلة التي استعصت على كل النظريات والفلسفات والثورات ويتعجب هذا الأستاذ اليهودي من تصفية هذا النظام الإسلامي المتميز بأيدي المسلمين أنفسهم.
ويضيف د. محمد راغب أن نظام الوقف الإسلامي يمكنه المساعدة الفعالة في مجال التعليم حيث يمكن وقف مدارس بكامل تجهيزاتها وكذلك عمارات كاملة لإسكان الطلاب .. كما يمكن أن يساعد نظام الوقف في منع تضخم الثروة وظهور الاحتكارات التي تعصف بالفقراء والمساكين. وقد ثبت بالتجربة أن التدخل الرسمي للدولة لا يجدي بل يدمر نظام الوقف.
ليتنا نفكر في إعادة نظام الوقف مرة أخرى فهو حل عبقري لكثير من مشكلاتنا وهو في نفس الوقت حل ذاتي وغير مستورد وغير مكلف.
تخيف العبء عن الدولة
ويؤكد د . رفعت العوضي رئيس قسم الاقتصاد بتجارة الأزهر أن إحياء شعيرة الوقف سيؤدي إلى تخفيف العبء عن الموازنة خاصة في مجالات التعليم والصحة والخدمات الاجتماعية والشبابية , وأن مجالات الوقف غير محددة ويمكن أن تشمل إقامة الصناعات الحرفية ومراكز التدريب علي الحرف والكمبيوتر والبحث العلمي وإقامة الطرق والمرافق , خاصة أنه لا يقتصر علي العقارات والأراضي ولكنه يمتد إلى الأموال المنقولة بل والخدمات .
فالوقف صدقة خيرية ذات تميز واضح كاستثمار مستمر , وهو يبعد الصدقة عن الاستهلاك خاصة أن مشكلة الأعمال الخيرية أنها تزيد الاستهلاك بينما الوقف لبناء مدرسة أو مستشفي أو طريق هو عمل خيري استثماري , وأن الوقف هو صانع الحضارة الإسلامية وانه كان السبب لعدم قيام وزارات للصحة والتعليم والبيئة والشئون الاجتماعية في عدد من الدول الإسلامية إلى عهد قريب لقيامه بوظائف تلك الوزارات .
ويشير د. العوضي إلى وجود فوضي حاليا بسوق الاستثمار في التعليم الخاص حيث يسترد رأس المال خلال ثلاث سنوات وهذه الربحية العالية مؤشر غاية في السلبية حتى إن إحدى الجامعات الخاصة حققت أرباحا غير موزعة مقدارها 200 مليون جنيه في عام واحد , بينما نجد أن جامعات غربية كثيرة مثل أكسفورد وكمبردج وهارفارد تقوم علي نظام الوقف .
ويقول د. رفعت العوضي إن توني بلير رئيس الوزراء البريطاني قد نجح في قيادة حزب العمال البريطاني من خلال برنامج الطريق الثالث وكان كلينتون من أنصار هذا البرنامج وهو برنامج يعتمد علي ساقين هما الكفاءة الاقتصادية والجدارة الاجتماعية وإذا كانت العولمة يمكن أن تحقق الكفاءة الاقتصادية فإن الوقف يمكن أن يكون أداة لتحقيق الجدارة الاجتماعية وهناك 12 دولة أوروبية اتجهت للطريق الثالث .
ودعا إلى استرداد الأزهر لأوقافه وهو ما يخفف العبء عن ميزانية الدولة التي تتحمل ميزانية جامعة الأزهر والتي بها 60 كلية جامعية , وقال إن الوقف كان سببا في استقلال الدعاة المفكرين خلال العقود الماضية , وحتى يتم تطوير الوقف فلا مجال لذلك إن لم نبدأ بتطوير قانون الوقف , وإذا كنا نتبع حاليا سياسة الخصخصة فلتمتد الخصخصة إلى وزارة الأوقاف ولتكن مشرفة وليس مالكة والتي تتسبب أيلولة الأوقاف إليها في إحجام القادرين علي الوقف .
الوقف تغلغل حياة المسلمين
ويشير د . محمد شوقي الفنجري أستاذ الاقتصاد الإسلامي إلى بعض المجالات التي امتد إليها نشاط الوقف خلال القرون الماضية ومنها المكتبات العامة ورعاية المخطوطات وإقامة البيمارستانات للعلاج ورصف الطرق وصيانتها وتجهيز العرائس الفقيرات بالحلي ورعاية النساء المختلفات مع أزواجهن وتطبيب الحيوانات والطيور والحدائق المخصصة ثمارها لعابري السبيل ومؤسسة نقطة الحليب لإمداد المرضعات بالحليب والسكر وإقامة أسواق التجارة ووكالاتها بالمدن وعلي طرق التجارة .
وإقامة مؤسسات الصناعة مثل السجاد والعطور والقناديل والورق والمنتجات الخشبية والزجاجية والأغذية والملابس , وإقامة الأفران للخبز والحمامات العامة للنظافة والعبارات لنقل الناس عبر الأنهار والترع وإقراض المحتاجين بدون عوض وإقامة المطاحن العامة لطحن الحبوب بالمجان وإنشاء القناطر والجسور علي الأنهار والترع وإقامة الخانات التي ينزل فيها المسافرون . وهو ما يشير لاتساع مجالات الوقف والتي يمكن أن تخفف العبء عن ميزانية الدولة. كما يمكن أن يمتد نشاط الوقف إلى كل المجالات التي يحتاجها المجتمع مثل البحث العلمي والتدريب والترجمة والإذاعات والصحف المتخصصة والأقمار الصناعية ومحو الأمية واستصلاح الأراضي والبطالة .
=============
#الأمريكان وجريمة التخريب الثقافي للعراق
السبت 10ربيع الأول1427هـ – 8 أبريل 2006م
الصفحة الرئيسة
محمد سيد بركة
مفكرة الإسلام: الأمة التي تنسى تاريخها محكوم عليها أن تبدأه من جديد. ونقصد بالنسيان الاغتراب الفكري والتغافل عن ربط الماضي بالحاضر وثقافة الأمم هي تاريخها.
ويقاس تقدم الأمم بمقدار اهتمامها بالثقافة ومن هنا أولت الحضارة الإسلامية الثقافة اهتمامًا كبيرًا، وكانت بغداد عاصمة الرشيد تباهي بلدان الدنيا بمكتباتها وعلمائها وظلت بغداد تؤدي دورها الثقافي في الحضارة الإسلامية بعد إزالة آثار التدمير المغولي، تكبو حيًنا وتنهض أحيانًا، ولكن كانت الكارثة الكبرى بعد سقوطها في التاسع من أبريل 2003 على أيدي شرذمة من شذاذ الآفاق. وبدأت عمليات سلب ونهب واسعة النطاق في بغداد وبعض المدن الأخرى.. وقد نقلت هذه العمليات للعالم كله عبر شاشات التلفزيون حيث قام الجيش الأمريكي فقط بحماية مباني وزارتي النفط والداخلية ومن ضمنها المخابرات العراقية وبقيت المؤسسات الأخرى بدون أية حماية.
وحقيقة الأمر أن الوضع الثقافي في العراق يشهد اليوم تراجعًا ثقافيًا واضحًا، ينعكس على مجالات واسعة في الحياة السياسية والاجتماعية، والفكرية، ويُفرز إشكاليات ثقافية معقدة ذات خصوصية عراقية، تجعل الواقع الثقافي العراقي يتحرك في فضاءات أدنى من فضاءات الثقافة في العالم العربي والإسلامي، رغم وجود طاقات ثقافية مبدعة تستند إلى عمق ثقافي أصيل يمتد إلى عصور تاريخية عريقة في الفكر والآداب والفنون. وهذا نتيجة لما خلفته الهجمة البربرية الأمريكية من دمار في كل شيء وهنا سنحاول أن نذكر بما فعلوه من تخريب وتدمير ثقافي لعل الذكرى تحفز وتشحذ الهمم وتدعو المتقاعسين إلى العمل الجاد من أجل إزالة غمة الاحتلال وعودة العراق إلى دوره الريادي في أمته الإسلامية
تراثنا القومي فقدناه
عاثت جموع من الناهبين نهبًا وتخريبًا في المكتبة العراقية في بغداد وأضرموا النار فيها، مخلفين وراءهم أكوامًا من الكتب والمخطوطات أحالتها النيران رمادًا وتراثًا ثقافيًا للبلاد قد ذهب طعمًا للنيران.
كما نهبت الجموع مكتبة الأوقاف، وهي المكتبة الإسلامية الرئيسة في العراق القريبة من المكتبة الوطنية وأضرمت النار فيها. وهذه المكتبة تحتوي على نسخ من المصاحف والمخطوطات الدينية التي لا تقدر بثمن.
ومَنْ يتتبَّع أخبار المكتبات القديمة في العراق يجد أنها متنوعة، فمنها ما هو خاص بالأشخاص، وما هو عام للجمهور، وبعضها ديني خُصّص للمعابد والأديرة والمساجد والمدارس، والآخر دنيوي تناول العلوم والمعارف بشكل عام، وبعضها حكومي له علاقة بالسجلات الرسمية والدواوين، والآخر شعبي تكون في الأسواق، وهذا واضح لكل من يتتبع أنباء المكتبات والكتب.
ويلعب تقادُمُ الزمن دورًا مُهمًّا في تقديم المعلومات الخاصة بالمكتبات، فكلما تَقَادَمَ الزمن تقلّ المعلومات، وكلما كان الزمن متأخرًا تتوفر لنا معلومات أوفر تُساهم بإلقاء الأضواء على المكتبات من حيث أنواعها ومحتوياتها. إن الحديث المفصل عن مكتبات العراق يتطلب مجلدات.
إنّ عيون اليهود شاخصة نحو محتويات الخزائن العراقية، وغيرها من خزائن بلاد العرب والمسلمين، وتضاف إلى الخزائن القديمة خزائن الكتب الإسلامية المخطوطة التي تطورت في العراق الذي ضم مكتبات الخلفاء العباسيين، وأشهرها: مكتبة المنصور، ودار الحكمة التي رعاها الخلفية هارون الرشيد وابنه الأمين ثم المأمون، وخزانة المعتضد، وخزائن: المكتفي، والراضي بالله، والقائم بأمر الله، والمقتدي بالله، والناصر لدين الله، والمستنصر بالله المعروفة بالمستنصرية، والمستعصم بالله، ودار المسناة البغدادية، وتضاف إلى خزائن الخلفاء مكتبات الملوك والسلاطين والوزراء والعلماء، وخزائن المكتبات العامة والخاصة، وأوقاف المساجد والتكايا والزوايا والرباطات، والمدارس وخاصة المدارس النظامية الشافعية التي انتشرت في رحاب العالم الإسلامي.
وقد تعرضت الكتب لآفات عديدة نذكر منها الإحراق بالنار، والإغراق بالماء، والوأد بالتراب، والغسيل والمسح، وقد شهدت على إغراق الكتب مأساة سقوط بغداد سنة 656هـ/ 1258م ، وما فعله جيش هولاكو، وتجلت مأساة حرق كتب مكتبات الأندلس في ساحة غرناطة سنة 1492م على أيدي أنصار فرديناندو وإيزابيلا.
والجديد في مآسي مكتبات التراث ما تعرضت له مكتبات العراق في ظل الاحتلال الأنجلوـ أمريكي من نّهْبٍ وسلب وإتلاف، وقد لفتَ انتباهَ الْمُهتمين بالتراث تحويلُ حركَةُ سير القوات الأمريكية نحو مدينة الكفل العراقية بشكل خاص، وكان بإمكانها الوصول إلى بغداد بطريق أقرب من طريق الكفل، وتلك الحركة تدلُّ على أن سببَ ذلك التوجه هو سرقة مخطوطة التلمود القديمة التي كانت في مكتبة الكفل، ولا يستبعد وجود لصوص آثار صهاينة مع القوات الغازية، وهم أصحاب خبرة في محتويات مكتبات العراق القديمة والحديثة.
لقد أسفر الغزو الأنجلوـ أمريكي عن مأساةً عراقية وعربية وعالمية شملت الأرواح والأبدان، واستهدفت التراث بشكل عام، وتراث المسلمين بشكل خاص، وساهم في نجاح هذه المؤامرة غباء مثقفي النظام العراقي الذين جمعوا الكثير من التراث في العاصمة بغداد مما سهّل إبادته لاحقًا على أيدي المعتدين، والدليل على ذلك دار صدام للمخطوطات التي جمعت فيها آلاف المخطوطات من كافة نواحي العراق خلال السنوات الماضية ثم سُرقَ منها ما سُرق، وحُرق ما حُرق، ولذلك فإننا ننبه بقية الدول العربية إلى الخطر الذي يتهدد تراثها المجموع، والذي لم يُصَوَّرْ، ولا توجد منه نسخ متعدِّدة، ونأملُ أن تُعاد المخطوطات إلى المكتبات الأصلية الموزعة في المحافظات والمناطق لعلها تسلم إذا ما حصل غزو خارجي أو وقعت فتنة داخلية، راجين أن يبقى تُراثنا برعاية العلماء، لا تحت تصرف اللصوص والعملاء.
المتحف الوطني العراقي في ذمة التاريخ
من الأماكن التي تعرضت إلى نهب وسلب وتركت جروحًا عميقة في ذاكرة العراقيين وجميع العالم هو سرقة المتحف الوطني العراقي حيث سرق من المتحف 170 ألف قطعة أثرية وكانت بعض هذه القطع من الضخامة في الحجم ما يستحيل سرقته من قبل أفراد عاديين وبرزت شكوك على أن تكون هذه السرقة بالذات منظمة. والحقيقة أن المأساة طالت أكثر من نصف مليون قطعة أثرية منقوشة أو منحوتة أو مخطوطة، ويوجد في الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا وألمانيا أكثر من مليون قطعة أثرية قبل هذه الحرب الفظيعة.
'أنقذوا المتحف العراقي أنقذوه من أجل الإنسانية أنقذوا خمسة آلاف سنة من الحضارة والتاريخ'، هذا ما رددته صارخة والدموع تسيل من عينيها نضال أمين مديرة المتحف الوطني العراقي السابقة. وقالت نضال: 'يمكن للمرء أن يسرق الطعام من أحد ليأكله ويمكن له أن يسرق أي شيء ومن أي كان ليبيعه من أجل الحصول على مبلغ من المال ليؤمن حاجاته لكنه من غير الممكن أن يسرق الإنسانية كلها ويدمرها'. وتعمل نضال منذ أكثر من 30 عامًا في هيئة الآثار والتراث العراقية.
وقالت السيدة: إن المتحف العراقي يضم في قاعاته كنوزًا أثرية لا تقدر بثمن ابتداء من أقدم الحضارات، السومرية مرورًا بالبابلية فالأشورية فالإسلامية. واتهمت نضال الجنود الأمريكيين بالتقاعس عن حماية المتحف العراقي، قائلة: 'هذا أكبر دليل على فقدانهم للوعي الحضاري وجهلهم وتجاهلهم للتاريخ'. وكان المتحف الوطني العراقي قد تعرض لأعمال نهب وسلب وتخريب كبيرة لأيام متتالية عقب سقوط بغداد. وأصبحت خزانات العرض في المتحف الضخم الذي يقع على ساحة تسمى ساحة المتحف العراقي ينتصب في مواجهتها نصب يمثل بوابة عشتار البابلية والثور المجنح الأشوري، فارغة من محتوياتها من الآثار ومحطمة الزجاج على أيدي اللصوص والمخربين. ولم يكترث المخربون لوجود الصحفيين في المتحف حيث واصلوا عمليات النهب وهم يبتسمون ولم تنفع توسلات حارس المتحف أبو حسن لهم أن يتركوا المتحف حيث لم يبق فيه شيء يذكر مما يمكن حمله. وقال أبو حسن 'لقد ذهبت بنفسي إلى بعض الجنود الأمريكان الذين كانوا يوجدون قرب دبابتهم وتوسلت إليهم أن يمنعوا هؤلاء السراق ولو بإيقاف دبابتهم أمام بوابة المتحف أو بإرسال مجموعة من الجنود لحمايته ولكن دون جدوى'.
وبحسب شهود عيان فإن عملية نهب المتحف الوطني العراقي تمت على أيدي القوات الأمريكية، وإن العديد من الدبابات خرجت محملة بالعديد من الكنوز التراثية الثمينة، ثم أطلقت يد الغوغاء لاحقًا، لتأتي على ما تبقى من كنوز العراق وآثاره، التي ترجع لآلاف السنين.
القوات الأمريكية كانت تعمد إلى فتح أبواب المؤسسات والمراكز والجامعات والوزارات العراقية، أمام الغوغاء وجماعات النهب والسلب، ثم تبقى تراقب ما يحدث، لضمان أكبر تخريب ممكن لتلك المؤسسات.
وبما أن منظمة اليونسكو مسئولة عن حماية التراث الإنساني فقد تحركت بعد فوات الأوان ببرود لا يشبه حماسها الذي هزّ العالم عندما فجّرت طالبان تمثال بوذا في باميان.
تصفية العلماء
منذ بدء الاحتلال الأمريكي للعراق، وعلماء العراق وأساتذة جامعاته وعقوله المفكرة يعيشون مأساة مروعة تتوالى فصولها يومًا بعد يوم. حيث يتعرض هؤلاء العلماء والأساتذة إلى حملة تصفية شاملة منظمة، وتتعرض المؤسسات الأكاديمية والعلمية والجامعات إلى حملة تخريب وتدمير منظمة. الكل يعلم الأعداد المهولة من العلماء والأساتذة الذين تم اغتيالهم في ظل الاحتلال. وقد نشرت معلومات كثيرة في مختلف العالم عن فرق الاغتيالات الصهيونية التي تولت، بدعم مباشر من الاحتلال الأمريكي، تصفية هؤلاء العلماء والأساتذة، أو إجبارهم على الرحيل عن العراق. إن الأرقام المعلنة عن العلماء والأساتذة الذين تم اغتيالهم أو إجبارهم على الرحيل مفزعة. يكفي أن نشير هنا إلى المعلومات التي ذكرت في ندوة متخصصة عقدت بالقاهرة تشير هذه المعلومات إلى أن فرق الاغتيالات الصهيونية اغتالت 310 من علماء وأساتذة العراق. ولاحقًا تم الكشف عن أن أكثر من 500 من علماء العراق وأساتذته موضوعون على قوائم الاغتيال الصهيوني. وتشير أيضا إلى أن 17 ألفًا من العلماء والأساتذة أجبروا على الرحيل عن العراق منذ بدء الاحتلال. هذه التصفية الجماعية لعلماء العراق وأساتذته، ليست سوى وجه واحد من وجوه محنة قاسية مؤلمة يعيشها أساتذة العراق اليوم، وتعيشها جامعاته ومؤسساته الأكاديمية.
مؤخرًا أصدرت 'رابطة الجامعيين العراقيين' تقريرًا عن أشكال الاعتداءات على أساتذة الجامعات والمؤسسات التعليمية في العراق. التقرير كشف عن حقائق مأساوية، سواء عن صور وأشكال الاعتداءات على الأساتذة والجامعات، أو عن الجهات التي تنفذ هذه الاعتداءات.
ومن صور الاعتداءات التي رصدها التقرير: القتل، حيث تعرضت أعداد كبيرة من الأساتذة للقتل، وقيدت كل الجرائم ضد مجهول ولم يتم تقديم أي أحد للمحاكمة. ثم الاعتقال، حيث اعتقل الكثير من الأساتذة على أيدي قوات الاحتلال مع سرقة الأموال وتخريب الممتلكات الخاصة، ثم الخطف، حيث تعرض الكثير من أساتذتهم أو أبنائهم للخطف من قبل عصابات إجرامية منظمة. ثم الإقصاء القسري من المناصب الإدارية. وأيضًا تدخل جهات أجنبية مشبوهة في إدارة الاحتفالات وإقامة معارض الكتب. ثم انتهاك حرمة الجامعات والمؤسسات التعليمية من قبل القوات الأمريكية والحرس الوطني والميليشيات الخاصة. ويكشف التقرير أن هذه الاعتداءات وغيرها، لا تشنها فقط قوات الاحتلال، وإنما أيضًا قوى وجهات طائفية، وعصابات إجرام منظمة. أي أن علماء وأساتذة العراق محاصرون اليوم ومستهدفون من الاحتلال والعدو الصهيوني والميليشيات الطائفية والعصابات المنظمة في نفس الوقت. هي إذن حملة تصفية وإبادة منظمة لكل علماء وأساتذة العراق وعقوله. وهي حملة تخريب شاملة لكل مؤسساته العلمية وجامعاته. مفهوم بالطبع أن هذه الحملة هي جزء من حملة الإبادة الشاملة للعراق وتدميره في ظل الاحتلال. لقد ابتدأ مسلسل الاغتيال الأهوج بعد أيام من غزو العراق باغتيال الدكتور محمد الراوي نقيب أطباء العراق ورئيس جامعة بغداد، وهناك سلسلة طويلة من الاغتيالات والتصفيات قيل إنها تعدت الـ 1500 شخصية عراقية ما بين أستاذ جامعي وعالم ومهندس وطبيب وعالم دين وسياسي وصحفي وفنان، مازالت قضاياها مسجلة في مراكز الشرطة ضد 'مجهول'! ولا يشمل هذا الرقم الإحصائية التي نشرتها صحيفة طبية بريطانية عن مقتل 100 ألف مدني عراقي منذ الغزو على أيدي قوات الاحتلال. وإذا ما أضفنا إلى هذه القائمة، أعداد الآلاف من العراقيين من أصحاب الكفاءات ممن اضطرتهم الظروف لمغادرة العراق والهجرة إلى حيث الأمان، وكذلك الآلاف ممن شملتهم قرارات هيئة 'اجتثاث البعث' سيئة السمعة لنعرف أن هناك مخططًا لاستنزاف العقل العراقي بالاغتيال مرة وبالتهجير مرة وبالتجويع تارة أخرى..
الأمين العام لرابطة أكاديمي ومثقفي العراق اتهم 'الموساد' الصهيوني بالوقوف وراء اغتيالات علماء العراق، وأن قرارات فصل العلماء العراقيين من وظائفهم وضعت في تل أبيب بهدف الاقتصاص من منفذي برامج العراق العلمية.. وقال: إن معظم الضحايا هم ممن لم يكونوا محسوبين على النظام السابق مما يجعل تصفيتهم ترتبط بمخطط يهدف إلى تحطيم مؤسسات العراق الوليدة مشيرًا إلى أن الهدف هو قتل الخلايا النوعية في جسد المجتمع العراقي لمنعه من مواصلة مسيرة التطور والنمو. وأكدت أوساط عراقية مطلعة في بغداد أن الموساد الإسرائيلي طلب من المخابرات الأمريكية ترك ملف العلماء العراقيين برمته إلى عملاء الموساد في العراق، مشيرين إلى أن الموساد يريد تهجير هؤلاء العلماء أو اغتيالهم إذا رفضوا التعامل معه.
وبحسب مصادر إعلامية فإن العشرات من العلماء والكفاءات العلمية العراقية بدءوا بالفعل بمغادرة بلادهم للنفاد بجلدهم من التصفيات الجسدية التي تنفذ أحيانًا لأسباب تتعلق بوجهات النظر والآراء السياسية، فضلاً عن أسباب أخرى تتعلق بتدني أجورهم التي يقولون: إنها لا تتناسب مع شهاداتهم العلمية ولا مع الظروف المعيشية.
الجنرال مارك كيميت الناطق الرسمي باسم قوات الاحتلال الأمريكي صرح في مؤتمر صحفي يوم 2/5/2004 أن عدد الذين تمت تصفيتهم ممن وصفهم بذوي الياقات البيض من الطبقة المتعلمة جاوز الألف شخص منذ الاحتلال. وكان الصحفي البريطاني روبرت فيسك، قد كتب مقالة في الإندبندنت يوم 15/7/2004 عن ظاهرة اختطاف واغتيال الأكاديميين العراقيين. وقال فيسك: إن المغول، حولوا ماء نهري دجلة والفرات للسواد عندما دمروا كل ثقافة العراق في ذلك الوقت. ومنذ الاجتياح الأنجلو ـ أمريكي، يقول الكاتب: تم اغتيال عدد كبير من أكاديميي الجامعات.. ويقول الكاتب: إن معتدين مجهولين قاموا بذبح عميدة كلية القانون بالموصل وزوجها في فراشهما، وهي القصة التي لم تجد من يتحدث عنها في الإعلام الغربي، كما يقول فيسك. ويتساءل هنا عن الجهة التي تقف وراء عمليات القتل هذه، مستبعدًا أن يكونوا من الطلاب الغاضبين علي أساتذتهم. ولا يستبعد أن يكون الفاعلون من الذين يتصيدون البعثيين، مع أنه غير متأكد، حيث يقول: إن معظم الأساتذة في الجامعات الذين أجبروا على الانضمام للبعث لم يكونوا سوى حملة بطاقة انتساب لا أكثر ولا أقل، بل إن رئيس جامعة بغداد محمد الراوي الذي اغتيل العام الماضي، يعتبر رجلاً إنسانيًا وليبراليًا. ومع ذلك فالأساتذة في الجامعات يراقبون أبواب غرف المحاضرات ومكاتبهم بحذر، تمامًا كما يفعل طلابهم. خاصة إن الذين يقومون بالعمليات لا يهتمون بوجود طلاب في الحادث، فالدكتور صبري البياتي، أستاذ الجغرافيا قتل أمام طلابه، على باب الجامعة. وأشار أحد زملائه للمكان الذي اغتيل فيه، مشيرًا إلى أن طلابًا شاهدوا القاتلين، ولم يكن بمقدورهم فعل أي شيء على حد قول فيسك.
أحد أساتذة الجامعة علق على اغتيال الدكتور عبد الرزاق النعاس الأستاذ في كلية الإعلام أمام مبنى كليته: إن الكادر التدريسي بات ممزقًا بين واجباته العلمية والوطنية وبين خوفه من رصاصة غادرة تترصده لافتًا إلى أن استهداف الكفاءات العلمية بات ظاهرة تؤكد وجود جهات منظمة، تسعى إلى إفراغ العراق من عقوله العلمية وخبراته.
إن العمليات التصفوية تجري وفق مخطط متقن، وتستهدف العقول العلمية بغض النظر عن الانتماء الطائفي، وإن كانت الغالبية العظمى ممن تم اغتيالهم من أهل السنة، وتشير أصابع الاتهام إلى جهات مدعومة من إيران تقوم بتنفيذ مسلسل الاغتيالات، بمسدسات مزودة بأجهزة كاتم صوت متطورة، وبخاصة حملات التصفية التي استهدفت كبار الضباط الطيارين العراقيين ممن شاركوا في الحرب العراقية الإيرانية، حيث بلغ عدد من تمت تصفيتهم 28 ضابطًا من رتبة عقيد وعميد ولواء. ويقال: إن الاختيار وقع على الذين نفذوا ضربات جوية على موانئ إيران الخليجية في الثمانينات، وبخاصة في جزيرة خرج التي كان لها أثر فاعل في اضطرار إيران لوقف القتال آنذاك.
رابطة الأساتذة الجامعيين أعلنت أن أكثر من 182 أستاذًا جامعيًا ومحاضرًا اغتيلوا خلال السنوات الثلاث الماضية، لائحة الأسماء التي طاولها رصاص مجهولين تظهر الدرجات العلمية المختلفة والتخصصات المتنوعة، ما يؤكد أن الجهات التي تقف خلف هذه الاغتيالات لا تسعى إلى تصفية أسماء أو تخصصات بعينها، فالقائمة تضم علماء في الطب واللغة والفنون والعلوم وغيرها. ومن المؤلم وقوف الحكومة وأجهزتها الأمنية عاجزة إزاء ما يواجهه الأساتذة من مخاطر واكتفاؤها بلعب دور المتفرج على ما يجري دفع الكثير من الكفاءات العلمية إلى الهجرة أو الانتقال من مدينة إلى مدينة داخل العراق، والانزواء بعيدًا عن الأضواء.
إن تخريب العراق وتصفية العقول العراقية هو الهدف الأساس لهذه الحملات، وأن سلطات الاحتلال والمخابرات المركزية والموساد الإسرائيلي والمخابرات الإيرانية كلها متورطة في التصفيات إضافة لميليشيات الأحزاب التي جاءت مع الدبابات الأمريكية. ويشير العديد من المحللين السياسيين بأصابع الاتهام إلى 'الموساد' الإسرائيلي الذي يتولى ملف هؤلاء العلماء، ويقود حملة لاجتثاثهم أو تهجيرهم أو اغتيالهم خشية أن يهاجروا إلى دول عربية أو إسلامية، مؤكدين أن ذلك المخطط الإجرامي أصبح أمرًا معروفًا ومكشوفًا، وقد أشارت له الكثير من وسائل الإعلام الغربية.
وفي النهاية
نرى أن سقوط بغداد يشبه السقوط الذي تم قديمًا على يد التتار، وكذلك السقوط الذي تم لغرناطة آخر ممالك الأندلس، ولعله كان قبل سقوط بغداد الحديث، كان هناك سقوط ثقافي، ربما كان سقوط المدينة أثر من آثار هذا السقوط والاضمحلال الحضاري في الأمة كلها، ولن يظهر أثر سقوط بغداد بصفة سريعة إلا في بعض القصائد والمقالات والتحليلات الفكرية والسياسية، لكن هذا التأثير سيظهر تباعًا بعد ذلك في بعض الإشكال الإبداعية من رواية ومسرحية ورسائل جامعية. وهذا السقوط متوقع لأنه مخطط له ومقصود، لأن هؤلاء يعرفون جيدًا مكامن التقدم والثقافة والحضارة لدينا، كما حدث قبل غزو نابليون لمصر، فقد كانوا يعرفون كل شخصية علمية وكل أثر مرموق، كما يعرفون أن هذه الأمة لن يصلح أمرها بهذا العبث الحضاري، لأن ما تملكه هو كنوز للإنسانية، وليس ملكًا لها وحدها، وإنما للإنسانية كلها.. هناك أشياء كثيرة ضاعت منا ولا تعوض، لكننا تعودنا على هذا، فنحن منذ فترات طويلة نتعرض لأزمات متوالية. وإنني مدرك أن هذه الأمة رغم ما يحيطها من مصاعب وإحباطات ستعاود نهضتها مرة أخرى وربما لن يراها جيلنا لكنها بالفعل قائمة.
=============
#فقه التغيير .. دراسة جديدة لفكر مالك بن نبي
الاثنين 5 ربيع الأول1427هـ – 3 أبريل 2006م
الصفحة الرئيسة
مفكرة الإسلام : مازال فكر مالك بن نبي يشكل محور اهتمام لكثير من الكتاب و الباحثين نظرا لما يكتسبه من أهمية و عمق و متجددة ، بحيث صدر مؤخرا عن عالم الأفكار كتاب جديد يتناول فقه التغيير عند مالك بن نبي لعبد اللطيف عبادة ، تعرض من خلاله إلى محاولة الرائدة للمفكر في فلسفة التغير و الثورة ، هذه الفلسفة التي ارتبطت حسب الكاتب بأصول سلفية سليمة و تمكنت من إبراز الكثير من عيوب المجتمع الإسلامي المعاصر و تناقضاته التي تكف نشاطه و تشل فاعليته.
فبعد فصل كامل خصصه الكاتب للتعريف بحياة مالك بن نبي و آثاره و فكره استعرض في ثمانية فصول أخرى دور العلم و العلماء في تحقيق ما أسماه بالإقلاع الحضاري في نظر المفكر و تقديم نقد و تقويم مناهج الحركات الإسلامية المعاصرة في التغيير على ضوء فكره ليركز بعدها على منهج التغير عند بن نبي الذي كان يرى بأنه لا يمكن تغير العالم دون تغيير نفسية الإنسان لأن نفسية الإنسان ليست مجرد انعكاس لما يحدث في العالم من تغييرات مادية، بل هي المحرك للتغيير سلبا و إيجابا. و كذا التصورات التي قدمها بن نبي للتجديد الفكري و السياسي في العالم الإسلامي و منهجه في تحليل و غرس بعض القيم السياسية من الحرية إلى التغيير. كما طرح المؤلف قضية الإسلام و التنمية بين بن نبي و بعض رواد الفكر الجزائري المعاصر من بينهم أحمد طالب الإبراهيمي، عبد الله شريط، مولود قاسم ، عبد المجيد مزيان ، وألقى الضوء على المذهب الاجتماعي لبن نبي في تفسير الثورة تفسيرا إسلاميا، مشيرا أن المفكر تمكن من فهم الثورة الجزائرية أحسن من غيره ذلك لأن منهجيته يضيف الكاتب كانت متحررة من المذاهب و الأفكار المسبقة ليستعرض في خاتمة بحثه الذي قدمه مجموعة من النقاط لأساسية في فكر بن نبي من بينها: أن الحضارة ليست تمدنا عند صاحب كتاب آفاق جزائرية ، بل هي شرط مادي و معنوي ، كما أن الحضارة بالنسبة له هي التي تصنع منتجاتها و ليس العكس و بمعنى أدق الاستيراد لا يولد حضارة و لا يمكن حل مشكلة الحضارة بالتقليد ، أما التغير الاقتصادي فلا يمكن أن يحصل حسبه إلا باستثمار ما في البلاد من طاقات ، كما يعتبر الثقافة مجموعة الصفات الخلقية و القيم الاجتماعية التي يتلقاها الفرد منذ ولادته كرأسمال أولي و حركة التغير إنما تنبثق حسب المفكر من الثقافة بهذا المفهوم ، إلى جانب اقتراحه المتعددة لمواجهة السيطرة الغربية و الدعوة إلى مواجهة الآثار الوخيمة للصراع الفكري و على إنشاء علة اجتماع خاص بالعالم الإسلامي و الرجوع للدعوة الإسلامية التي أحدثها ظهور الإسلام في الجزيرة العربية ... داعيا في الأخير إلى ضرورة التمحيص أكثر في فكر مالك بن نبي وإعادة قراءته على ضوء المعطيات الجديدة الداخلية و الخارجية في عصر العولمة و الكوارث التي حلت بالعالم الإسلامي.
===========
#خمس مؤامرات كبرى على الإسلام .. أخر ما كتبه أنور الجندي
الثلاثاء 7 صفر 1427هـ – 7 مارس 2006م
الصفحة الرئيسة
مفكرة الإسلام : صدر عن دار الاعتصام في القاهرة كتاب: الضربات التي وجهت للانقضاض على الأمة الإسلامية .. خمس مؤامرات كبرى على الإسلام من فجر الإسلام وحتى الآن، للكاتب والمفكر الإسلامي أنور الجندي.
يعد هذا الكتاب أخر ماكتبه الجندي حيث يحلل فيه المؤامرات الكبرى على الإسلام من فجره وحتى الآن ..فقد جاء الإسلام ليكون حدا فاصلا في التاريخ الإنساني بين عصر الأديان وعصر الدين العالمي الخاتم برسالة القرآن وقيادة محمد صلى الله عليه وسلم ، حاملا رسالة التوحيد الخالص ليخرج البشرية من الظلمات إلى النور .
وقد جاء كتاب 'أنور الجندي' في تسعة أبواب كان عنوان الباب الأول : من جبهة بيزنطية إلى نهاية الحروب الصليبية . وأشاد فيه إلى أن أول أعمال الغرب المسيحي في مواجهة الفتح الإسلامي الزاحف هو العمل على صده ووقفه وتحطيم خطته التي كانت تتمثل في تحويل البحر الأبيض المتوسط إلى بحيرة إسلامية ، وكانت هناك جبهتان : الأولى هي بيزنطة ، والثانية : هي الأندلس .
وتحدث المؤلف عن الأحداث الكبرى فتحدث عن معركة ملاذكرد [ 463 هـ – 1071 م ] والحملة الصليبية الأولى [ 494 هـ – 1096 م ] ومعركة حطين [ 583 هـ – 1187 م ] ومعركة عين جالوت [658 هـ – 1259م]وآخر الحروب الصليبية [690 هـ – 1291م] .
أما الباب الثاني فتناول: الزحف المغولي التتري على أرض الإسلام من سقوط بغداد إلى نصر 'عين جالوت' إلى إسلام 'بركة خان' . وقام بتحليل الأحداث الكبرى مثل دخول قوات المغول إلى بغداد [656 هـ – 1257 م ] وانتصار جيش مصر على جحافل التتار [ 658 هـ – 1260 م ] وحملة التتار على حلب في نفس العام ثم الاستيلاء على أنطاكية [666 هـ – 1268 م ] .
كما تناول الباب الثالث : 'جهاد المماليك في مواجهة خطر الصليبيين والتتار' وبين فيه أن هذه المرحلة العاصفة التي تفجرت فيها المؤامرات على الإسلام كشفت عن عناصر جديدة من المسلمين حملت لواء الدفاع عن الإسلام والجهاد في سبيله والاستشهاد من أجله تتمثل في: السلاجقة والأكراد والمماليك ، فمن السلاجقة ظهر 'عماد الدين زنكي' و'نور الدين محمود' وكان دورهما في مواجهة الحروب الصليبية قويا وبارزا ، ومن الأكراد ظهر 'صلاح الدين الأيوبي' الذي استرد بيت المقدس من أيدي الصليبيين ، ومن المماليك 'قطز' و'الظاهر بيبرس' و'قلاوون' و'الأشرف بن قلاوون' وكان دور المماليك قويا وممتدا وحاسما فقد استطاعوا بعزيمة جبارة تصفية نفوذ التتار والصليبيين وتحقيق أكبر نصر في هذا المجال .
'عصر الإنقاذ '
يعد كثير من المؤرخين عصر المماليك بأنه عصر الإنقاذ فهم الذين أنقذوا الحضارة الإسلامية من الدمار العام على أيدي المغول والتتار حين حطموا قواتهم في عين جالوت ، وأنهم أنهوا الحكم الصليبي في بلاد الشام وأحيوا الخلافة الإسلامية وجعلوا مركزها القاهرة .
وكذلك كان الظاهر بيبرس أبرز هؤلاء الأبطال فقد قاد معركة عين جالوت مع قطز ثم انتزع صفد ويافا والشقيف وأنطاكية من 'الإفرنج' ثم أقام منهج الإصلاح الاجتماعي على شرعة القرآن .
كما تميز عصر المماليك بظهور الموسوعات الكبرى في الأدب والنحو وعلم الحديث والفقه والتاريخ ففي عهدهم ظهرت الموسوعات : ' صبح الأعشى للقلقشندي ، ولسان العرب لابن منظور ، والفتاوى لابن تيميه ، ووفيات الأعيان لابن خلكان ، والبداية والنهاية لابن كثير ، وسير أعلام النبلاء للذهبي ، والنجوم الزاهرة لابن تفرى بردى '.
في الباب الرابع : 'من الأندلس إلى قلب أوروبا' ، تناول المؤلف الأحداث الكبرى ومنها عبور طارق بن زياد نهر الزقاق [ 92 هـ – 711 م ] وسير عبد الرحمن الغافقي في جيش إلى فرنسا [ 110 هـ – 732 م ] ، كما تناول الغزوة لروما من مسلمي الأندلس وشمال إفريقيا وكريت بقيادة 'يوسف بن تاشفين' [ 479 هـ 1088 م ] وتأكيده على إسلامية الأندلس إلى عام [ 897 هـ – 1492 م ] .
في الباب الخامس : 'تطويق عالم الإسلام' يؤكد الجندي – رحمه الله - على مقاومة المسلمين عمليات التنصير والصمود في وجه الاجتياح، وغدر الحكام الجدد، واستمرار المقاومة من عام 1492 إلى عام 1608 م عندما قام الأسبانيون بطردهم نهائيا حين جمعوا مئات الألوف منهم في عملية تهجير بشعة وقذف بهم إلى الشاطئ الآخر [تطوان والجزائر وتونس] وحيل بين الأبناء والآباء والأمهات في ذلك العصر، كوسيلة من وسائل مطاردة المسلمين ومحاولة حصارهم للقضاء على الإسلام نفسه .
في الباب السادس : ' من فتح القسطنطينية إلى سقوط الخلافة' تحدث المؤلف عن ولادة الدولة العثمانية [ 687 هـ – 1288 م ] والهجرة إلى سواحل المغرب ودخول الأتراك أوروبا ومحاصرة العثمانيون لفيينا ، كما تحدث عن عزل السلطان عبد الحميد عام 1908 م .
ولا شك أن الدولة العثمانية في التاريخ الإسلامي دولة مفترى عليها ، كما أطلق عليها الدكتور عبد العزيز الشناوي في مؤلف يحمل هذا العنوان . فقد شكلت الدولة العثمانية منذ ظهورها خطرا متزايدا على أوروبا وتصدت للوجود البرتغالي في الخليج وفي المياه الشرقية وساندت مسلمي الأندلس الذين تعرضوا للاضطهاد الأسباني وحررت طرابلس الغرب وتونس والجزائر من الاحتلال، وسيطرت بعض الوقت على الملاحة في البحر المتوسط ، كما ساندت 'مارتن لوثر' بوصف مذهبه أقرب إلى التوحيد الإسلامي من المذهب الكاثوليكي .
وفي الباب السابع : 'الآن انتهت الحروب الصليبية' ، انتهت الحروب الصليبية بهزيمة قوى الغرب عام 1291 م وانسحابهم إلى بلادهم مدحورين ، ولكن الاستعمار ظهر بشكل آخر منذ قيام الحملة الفرنسية إلى مصر وبداية مرحلة النفوذ الأجنبي والسيطرة على العالم الإسلامي .
أما الباب الثامن : تناول سقوط القدس في أيدي الصهيونية ، ثم تحدث في الباب التاسع : عن أبعاد المؤامرة على الإسلام فتحدث عن الحملة الفرنسية على مصر 1798 م، ودخول الإنجليز القدس 1917 م، وإحراق المسجد الأقصى 1969 م، ولا تزال المؤامرة على الإسلام وبيت المقدس مستمرة .
كتاب أنور الجندي كتاب قيم يستحق القراءة والتأمل خاصة وأن صاحبه كاتب كبير له دور رائد في إيقاظ الوعي لدى شباب الصحوة الإسلامية في نهاية السبعينات وبداية الثمانينات من القرن الميلادي، ومؤلفاته دورها جلي في تصحيح العديد من المفاهيم المغلوطة والمنتشرة.
=============
#مفكرة الإسلام تحاور المفكر د. جعفر شيخ إدريس
السبت 4صفر 1427هـ – 4 مارس 2006م
الصفحة الرئيسة
- الحركات الإسلامية نجحت في إحداث ثورة اجتماعية.
- حينما تكون المعركة بيننا وبين الغرب فكرية فنحن الغالبون.
حاوره في القاهرة/ محمد سيد بركة
مفكرة الإسلام: د. جعفر شيخ إدريس أحد أعلام الدعوة والفكر في العالم العربي والإسلامي، وله أثره في مسيرة العمل الإسلامي.
تخرج في كلية الآداب [قسم الفلسفة] بجامعة الخرطوم عام 1961 وعين بها معيدا. ترك الدراسة واستقال من الجامعة ليشارك في العمل السياسي الإسلامي. وكان مرشح جبهة الميثاق بمدينة بور تسودان. ثم عاد للجامعة مرة أخرى عام 1967 فحول المشرف رسالة الماجستير إلى دكتوراه فأكملها في عام 1969 وحصل على الشهادة عام 1970 بعد أن ابتعثته الجامعة إلى بريطانيا مرة أخرى.
عمل في قسم الفلسفة جامعة الخرطوم 1967 - 1973 وقسم الثقافة الإسلامية جامعة الرياض [الملك سعود حالياً ]، ومركز البحوث بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، وكلية الدعوة والإعلام جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وكان يدرس طلاب الدراسات العليا بالجامعة مواد العقيدة والمذاهب المعاصرة. كما أشرف على الكثير من رسائل الماجستير والدكتوراه.
وهو الآن مدير لقسم البحث بمعهد العلوم الإسلامية والعربية في أمريكا ومدير الهيئة التأسيسية للجامعة الأمريكية المفتوحة.
ألقى أحاديث ودروس ومحاضرات في كثير من الجامعات والمراكز الإسلامية والمساجد في كثير من بلدان العالم في أفريقيا وآسيا وأوروبا وأستراليا وأمريكا الشمالية ودول الكاريبي وأمريكا اللاتينية.
شارك في كثير من البرامج التلفازية والإذاعية في عدد من الدول، كما أشرف على رسائل علمية لدرجة الدكتوراة والماجستير، وشارك ببحوث قيمة في عدد كبير من المؤتمرات الإسلامية والعالمية.
وما إن علمنا بوجوده في مصر حتى هرعنا للقائه والاستئناس برؤاه الثاقبة حول مايجري في عالمنا من أحداث من وجهة نظر إسلامية.
** بعد الهجمة الشرسة والتطاول على الرسول الكريم في رسوم وأفلام.. هل الصورة النمطية للإسلام في الغرب ما زالت أسيرة فتح القسطنطينية والأندلس والحروب الصليبية والاستعمار الأوروبي لبلداننا في العصر الحديث؟
* هنالك تصور صحيح للإسلام في الغرب يعرفونه ولا يرضونه وهو أنه في الوقت الذي سيطرت فيه العلمانية على الغرب وصارت تقريبا هي الأيديولوجية وأن الدين صار في زاوية من الزوايا .. لكن العالم الإسلامي يعتبر الدين مسألة جوهرية هذه يعرفونها .. عامتهم قد يستغربون لأنه بسبب سيطرة العلمانية صار من المألوف عندهم أن يسخر الناس من الخالق والأنبياء ..تجد السخرية في قصصهم وشعرهم وأدبهم ونكاتهم .. ولذلك يستغربون من هبة العالم الإسلامي واستنكاره الشديد لتلك الرسوم المقيتة .. هم -أقصد الغرب- يعتقدون أن ما حدث عندهم نوع من التطور وأننا ما زلنا متخلفين ولا نفهم مسألة حرية التعبير .. ما زلنا متدينين جامدين.
الأوربيون عندهم نوع من العصبية المقيتة حيث يرون أنهم هم المقياس لكل شيء .. تاريخهم أحسن تاريخ .. أدبهم أحسن أدب .. فكرهم هو الفكر فهم الموجودون ولا يوجد في الكون غيرهم .. إنهم ينظرون إلى الآخر بكل صلف وعنجهية واحتقار وهذا نوع من العصبية البغيضة.
إن مفكريهم يقولون إن التخلف في حقيقة الأمر ليس تخلفا في كل أمر ..
وأقول وغيري يقول ولا ينكر أنه حدث عندنا تخلف في أهم مزايا العصر وهي العلوم التجريبية وما نتج عنها من تقدم تقني هائل أدى إلى تطور اقتصادي وعسكري غير مسبوق...لكن هذا لا يعني أن ينظر إلينا الأوربيون على أننا متخلفون.. فعندما جاء النبي صلى الله عليه وسلم كان العرب متخلفين لدرجة لا تقاس حيث قيل كان نصيب أحد المسلمين من الغنائم في إحدى الغزوات شيئا ثمينا فطلب ألف درهم فيه فقيل له إنه يساوي أكثر من ذلك فقال لا أعلم بعد الألف شيئا ..
وما كان من ناحية العمران عندهم لا يساوي شيئا بجانب حضارتي الفرس والروم .
أما عن حرية التعبير في الغرب فليست مطلقة، وتعليل الغرب ما يفعله بدعوى حرية التعبير تعليل سخيف.
أود أن أقول إن تعليل الغرب لما يفعله من إساءة بأن الغرب لايعرف سقفا لحرية التعبير ..هذا تعليل مردود عليه ولون من البهتان والتزييف.
إن إساءات الغرب وافتراءاته ضد الإسلام ورموزه سابقة على النهضة الأوربية حيث بدأت منذ العصور الوسطى وقبل أن يعرف الغرب مايسميه الآن حرية التعبير ..وهناك أمر آخر هو أن الغرب بدعوى العلمانية يتحدث عن أن حرية التعبير مطلقة وهذا كما قلت آنفا تعليل سخيف.
خذ مثلا التشكيك في المحرقة، فبالأمس القريب تمت محاكمة مؤرخ بريطاني وحكم عليه بالسجن لمدة ثلاث سنوات لأنه شكك في المحرقة رغم إعلانه التراجع عن كلامه، ومن قبله نذكر ما حدث مع جارودي. ثم يا أخي إن الأمير تشارلز قدم شكوى ضد جريدة لأنها نشرت بعض كلام كتبه في مذكراته الخاصة فأين حرية التعبير المطلقة ..وهكذا عندهم أمثلة كثيرة.
في حرية التعبير لا يوجد مجتمع يمنع التعبير منعا كاملا ولا يبيحه إباحة كاملة وإنما الخلاف أين توضع الحدود.. وهذا يعتمد على قيم وتصورات الناس.
ففي الغرب لا يضعون قيودا على الكلام الفاحش ولا يضعون حدودا للطعن في الأديان حتى دينهم، حتى أن جماعة منهم قالوا أن المسيح شاذ.
** بدأت الحركة الإسلامية تجني بعض ثمار جهادها الطويل متمثلا ذلك في تمكن بعض الحركات الإسلامية كحماس في تشكيل حكومات، واشتراك في مجالس نيابية ...ألا ترون ذلك مقدمة لنجاح أكبر؟ أو ما تفسيركم لذلك؟
* أولا أظن أنه من عدم الإنصاف للحركات الإسلامية أن يقاس نجاحها بمجرد وصولها إلى السلطة.
الحركة الإسلامية بكل أنواعها نجحت نجاحا كبيرا في أنها أحدثت ما يسميه الغربيون ثورة اجتماعية إسلامية يعني في سلوك الناس وهذا هو الذي ترتب عليه النجاح الآخر وهو الوصول إلى الحكم.
هل يكون هذا بداية لنجاح أكبر ؟ لست متأكدا فمازال الغرب مسيطرا على العالم. قد يرجع الغرب مرة أخرى ويعود إلى تأييد النظم القهرية ما دام النظام الديمقراطي سيأتي بنظم إسلامية وأود أن أقول إن الغرب الآن، ولا سيما أمريكا، يعتقدون أن الإسلام خطر على مصالحه القومية فلن يسمحوا إلا بنجاح محدود ومشاركة محدودة .. وموضوع حماس كان مفاجأة لحماس نفسها.
** الإعلام الأمريكي معروف بكذبه وترويجه للأباطيل خاصة إذا كان الأمر يتعلق بقضايا عربية وإسلامية .. وكمعايش للمجتمع الأمريكي ما هي نسبة الأمريكان الذين يؤيدون حقوقنا العربية والإسلامية؟ وهل كل المجتمع الأمريكي مغرر به من إدارة بوش المتطرفة ومن الإعلام الصهيوني ؟
* أولا هناك حقيقة وهي أن الأمريكان أجهل خلق الله بكل شيء، بل بأمريكا نفسها، أغلبهم لا يعرفون شيئا حتى عن بلادهم . سأقول لك شيئا مضحكا يدل على جهلهم، فقد نشرت جريدة لوس أنجلوس تايمز في كاليفورنيا سؤالا : ما الإسلام؟ فجاءت الإجابات تنم عن جهل فظيع فمن قائل إنه دين إسرائيل إلى قائل إنه الإرهاب إلى غير ذلك من إجابات مضحكة. والذين يعرفون متأثرون بالإعلام.
ولكن هنالك قلة يمثلها اليمين المتطرف وهؤلاء يعرفون وعندهم عداء شديد للإسلام ويعدون الإسلام في وثيقة تحدث عنها صحفي محترم في جريدة نيو إس أيه يصرح فيها لأول مرة بأن الإسلام باعتباره دينا هو خطر على المصلحة القومية الأمريكية، ولذلك فهم قرروا محاربته بالطرق التي يرونها مناسبة ويبدءون بما يسمونها الوهابية. ثم يقولون لا بأس أن نتعاون مع بعض الجماعات المعتدلة فالشعب الأمريكي كما قلت آنفا شعب جاهل والحكومة في سياستها الخارجية لا تراعي الشعب ولا تتأثر به فالسياسة الخارجية ليست ممثلة للشعب ولكن لفئات معينة عندها عداء للإسلام.
** كنا نعتقد أن الأقليات الإسلامية الموجودة في الغرب وبتفاعلها مع هذه المجتمعات سوف تقوم بدور إيجابي في تحسين صورة الإسلام لكننا وجدنا بعد أزمة الرسوم المسيئة أن هذا لم يحدث.. هل قصرت هذه الأقليات الإسلامية؟
* مما لاشك فيه أن وجود هذه الأقليات مهم جدا فلا يمر يوم إلا ويدخل في الإسلام أعداد كبيرة، وربما تتحسن صورة الإسلام، أما التأثير في المجتمع فأمر يحتاج إلى قوة إعلامية كبيرة، وهذا أمر لا تستطيعه الجماعات في أمريكا.. ولكن بعد ثورة الاتصالات ووجود الانترنت صارت هناك مواقع كثيرة تبين حقيقة الإسلام..ولكن هناك مشكلة كبيرة أن الجماعات الإسلامية في الغرب مختلفة مع بعضها اختلافا كبيراً.
أيضا أظهرت قضية الرسوم أن الدنمرك تلك البلد الصغير دولة متعصبة لدرجة أن ملكتهم نفسها تخرج وتسب المسلمين وتتهمهم بالتخلف والجهل وأنهم لم يصلوا إلى الدرجة التي يفهمون فيها حرية التعبير.
** هل ترون في تركيز الحركة الإسلامية على العمل السياسي أمرا سلبياً وهل البديل هو العمل الاجتماعي الدعوي ..كيف ترون هذه الإشكالية؟
* أنا في رأيي أن على الحركات الإسلامية أن تكون أعقل وتسلك الطرق السلمية.
ولقد ثبت بالتجربة أن في المواجهة تكون الحركات الإسلامية هي الخاسرة.
وهذه سنة النبي صلى الله عليه وسلم ..فربنا أمر المسلمين أن يكفوا أيديهم ويقيموا الصلاة، لكن لا يمدون أيديهم، ولم يأمرهم إلا بعد أن هاجروا وصارت لهم دولة.
على الحركة الإسلامية أن تركز على الدعوة، التي هي بصراحة بيان للحق بحسب الحال، وهي لا تحرّف الدين بغرض إقناع الناس.
[ يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك و إن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لايهدي القوم الكافرين ] المائدة 67.
فإذا ركزت الجماعات الإسلامية على العلم وركزت على فهم الفكر الغربي والأحوال العالمية وصاروا يشاركون مشاركة قوية سيكون النصر حليفنا بإذن الله.
إن الأمريكان يقولون إن المعركة معركة فكرية، وأنا أؤكد أنه عندما تكون المعركة فكرية أقول بكل ثقة وتأكيد نحن إن شاء الله غالبون.
فعلى الجماعات الإسلامية الدعوة إلى الإسلام وبيان العقيدة والعبادات متعاونة كل فيما ينجح فيه .. أعني أن تكمل كل جماعة الجماعة الأخرى ولامانع من التخصص مادام لا يوجد إنكار وخصومات .
** من واقع استقرائك لمجريات الأحداث … كيف ستكون طبيعة العلاقة المستقبلية بين الإسلام والغرب، هل ستكون علاقة صدام أم حوار؟
* شكل هذه العلاقة يحدده الناس، ونظرتهم إلى مصالحهم، والوسائل التي تتحقق بها هذه المصالح. فالكاتب الأمريكي هنتنجتون في تحليله ينطلق من كونه عالم اجتماع يرصد الواقع ويفسره، فانتهى من تحليله إلى أن الصدام القادم سيكون بين الحضارة الغربية من جهة والحضارتين الإسلامية والكنفوشيوسية من جهة أخرى ، ويعتمد في تحليله على أن الدول الإسلامية بدأت تتعاون مع الصين واليابان وأنهما ستمدان هذه الدول بالأسلحة.
وإذا افترضنا صحة هذا التحليل، فإن السبب في ذلك يكون الغرب، لأنه لا يريد للدول الإسلامية أن تتطور أو أن تمتلك ما تدافع به عن نفسها.
وإذا كان هنتنجتون يرى الدين مكوناً من أهم مكونات الحضارة، فإن ذلك يعني أن المسافة أقرب بين الغرب والإسلام، من تلك المسافة التي بين الإسلام والكنفوشيوسية، لأن النصارى واليهود نسميهم نحن المسلمين أهل الكتاب، ولهم منزلة خاصة في الدين الإسلامي.
إذن فالسبب الحقيقي للتعاون القائم بين المسلمين وأصحاب الحضارة الكنفوشيوسية ليس نابعاً من طبيعة الحضارتين، بل من معاملة الحضارة الغربية لهما.
وأنا استبعد الصدام وبخاصة الصدام المسلح، لأن من المعروف أن الأسلحة التي تمتلكها الولايات المتحدة الأمريكية وحدها تكفى لتدمير العالم كله عدة مرات، فكيف إذا أضيف إليها ما لدى الدول الغربية الأخرى، والصين وروسيا، وغيرها، فليس هناك من أحد سيستفيد في حالة حدوث صدام شامل، وأعتقد أن الغربيين حريصون كغيرهم على الحياة، ولن يكون أي صدام في صالحهم، ولكن هذا لا ينفي أنه سيكون هناك صدامات وحروب محلية، كما هو الحال اليوم .
** ألا ترى أن اهتمامنا يتزايد بالغرب، في حين لا نهتم بأصحاب الحضارات الأخرى؟
* نحن مهتمون به، وهناك ظاهرة عجيبة في الغرب، فما أن تقرأ ما يكتبه مفكروه الكبار، إلا وتظن أن الغرب في خطر داهم وقريب. ولذلك فهم يتكلمون كثيراً عن العالم الإسلامي، ويعرفونه معرفة جيدة أكثر من معرفتنا نحن بالغرب، بل أحسن مما يعرف كثير منا مجتمعاتنا . أما اهتمامنا بالغرب فأمر طبيعي، لأن حضارته هي المسيطرة عسكرياً وإعلامياً ومادياً، ومصالح كل هذا العالم مرتبطة به، حتى أصحاب الحضارات الأخرى الذين تعنيهم يهتمون بالغرب أكثر من اهتمامهم بنا .
ومع ذلك فإن للعالم الإسلامي علاقات واسعة مع الصين واليابان والهند، ولا توجد مشكلة بيننا وبينهم، أما الغرب فينبغي أن نتعرف على حضارته، لأنها هي التي تسيطر على هذا العالم كله.
** انهيار الحضارة الغربية محل مراهنة من بعض المسلمين فمن المستفيد إذا حدث ذلك؟
* انهيار الحضارة الغربية إذا حدث سيكون بسبب الانحلال الأخلاقي، فانهيار الاتحاد السوفيتي السابق، ربما يقال إنه لعامل اقتصادي، أما انهيار الغرب - إذا حدث- فسيكون لأسباب أخلاقية. فأنا أرى أن قضية المخدرات من أخطر القضايا التي تهدد الغرب، وأذكر أنَّ واحداً ممن هداهم الله إلى الإسلام قال لي : إنه عندما تخرج قبل ثلاث سنوات أو أربع كانت نسبة الذين يتعاطون المخدرات بصفة دائمة تصل إلى 40%، إضافة إلى أن جميع الطلاب يمكن أن يكونوا قد تعاطوها مرة واحدة على الأقل، أما الآن ، فإن الذين لا يتعاطون المخدرات أصبحوا يمثلون الأقلية. وهناك مشكلة التفكك الأسري أيضاً من مهددات الحضارة الغربية، فإذا فسد الفرد بالمخدرات وانحلت الأسرة، ماذا بقى في المجتمع؟.
ولكن لماذا تقول انهيار، ولا نقول : إن الله يمكن أن يهديهم إن شاء الله إلى الإسلام أو على الأقل أن يتأثروا بالقيم الإسلامية التي بدءوا يعرفونها، وعلينا أن نرجو لهم الهداية، لأنهم إذا اهتدوا حافظوا على كل هذه الإنجازات المادية التي حققها الإنسان في هذا العصر.
ومن الخطأ الظن أن انهيار الحضارة الغربية يعني آلياً سيطرة المسلمين، لأن من الممكن أن تؤول السيطرة إلى حضارة أخرى مثل الحضارة اليابانية أو الصينية، وقد تكون الحضارة البديلة أسوأ من الحضارة الغربية، إذ ليس من الإنصاف أن ننكر أن هناك قيماً إنسانية تلتزمها الحضارة الغربية على الرغم من كل علاتها. وسواء بقيت الحضارة الغربية أو انهارت، فإن مشكلاتنا ستظل قائمة، لأنها نابعة من داخلنا، وليس الغربيون هم الذين يمنعونا من أن نجعل أمتنا أمة شامخة. فالمسلمون منقسمون بين من يريدون بناء الحياة على أساس الإسلام ومن يريدون تبني العلمانية الغربية، وأحملّ أصحاب الفكر العلماني مسؤولية ما نحن عليه من ضعف لما أحدثوه من انشقاق في داخل العالم الإسلامي.
** في مقابل تناولكم لبعض الأخلاقيات المهددة للحضارة الغربية، هناك من يرى أن العالم الإسلامي ليس بمنأى عن بعض الاضطراب في الجانب القيمي؟.
* نعم يوجد اضطراب في منظومة القيم في العالم الإسلامي، ولكنه ليس في حدة التدهور الأخلاقي في الغرب. فهناك حوادث في الغرب تقشعر لها الأبدان كالاعتداءات الجنسية على المحارم والأطفال، وجرائم القتل التي أصبحت وجبة يومية، ولم يُعد مستغرباً أن يُقتل الإنسان من غير جناية ارتكبها إلا أن هناك إنساناً مخدراً يحمل معه سلاحاً يريد استخدامه. أما في عالمنا الإسلامي فلا تزال الأسرة على تكاتفها وتماسكها مهما بدا لنا أن الأمور ليست على ما يرام.
** نأتي إلى إشكالية دائما ما يثيرها العلمانيون وهي الإسلام والديمقراطية.. ألا ترون أن الربط بين الدين والدولة يتم عادة على حساب الديمقراطية وهل ينفي الإسلام الديمقراطية؟.
* أهم ما في الديمقراطية وأفضل، هو ما يسمى بحكم القانون، وحرية التعبير في نطاق ذلك القانون، واختيار الناس لمن يحكمهم. وكل هذه مبادئ إسلامية لا يحتاج المسلم لأن يأخذها من غيره، وإن كان من الحكمة أن يستفيد من تجارب غيره، ولا يلزم أن نسميها ديمقراطية، لأن الديمقراطية في معناها الأصلي، بل المعنى الذي يفاخر به كثير من الغربيين هي حكم الشعب أو الأمة، والإسلام هو حكم الله تعالى. لكن هذا لا يمنع من أن تكون هنالك أمور مشتركة، فالدين يتضمن ويقر كثيراً مما استحسنه الناس بعقولهم وتجاربهم. فالشورى التي نقول إنها إسلامية كانت موجودة وممارسة حتى في العصر الجاهلي العربي، لكنها صارت ذات صبغة إسلامية حين وضعت في إطار مجموعة القيم الإسلامية. وكذلك يمكن أن نفعل بالديمقراطية. إن أكبر خطأ نرتكبه هو أن نحاول أن نكون نسخة من التجربة الغربية. إن الممارسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية لا تنفك عن قيم الناس الحضارية. لقد وقعنا في مثل هذا الخطأ في بعض نواحي حياتنا الاجتماعية لأن بعضنا ظن أن ما يمارسه الغرب من عادات وتقاليد في المأكل والملبس والاحتفال هو وحده المناسب للعصر الذي نعيش فيه. فإذا أردنا أن نكون معاصرين فيلزمنا أن نكون كالغربيين.. هذا وهم كبير جر علينا وما يزال يجر ويلات عظيمة
=============
#كيف غير الإسلام الطب؟ مقال منشور في مجلة بريطانية
السبت 4صفر 1427هـ – 4 مارس 2006م
الصفحة الرئيسة
مفكرة الإسلام: نشرت المجلة الطبية البريطانية [British Medica Journal] وهي إحدى أهم المجلات الطبية في العالم، وأكثرها انتشارا مقالا في عدد شهر ديسمبر 2005 بعنوان كيف غير الإسلام الطب: الأطباء والعلماء العرب يضعون أسس الممارسة الطبية في أوروبا للبروفيسور عظيم مجيد من لندن. وكان المعهد الملكي لبريطانيا العظمى قد ناقش في نفس الشهر أن العالم الغربي قد يبدو مختلفا اليوم لولا عظمة العلماء المسلمين في بغداد والقاهرة وقرطبة وأماكن أخرى.
ويتعرض الكاتب إلى الحضارة الإسلامية التي انتشرت من الهند شرقا وحتى الأندلس غربا وكيف أن العالم لا يتذكر دور العلماء المسلمين الذين برزوا بين عام 800 - 1450 ميلادي وتأثيرهم على الحضارة الغربية في مجال العلوم والتكنولوجيا والطب.
وحيث إن كثيرا منا نحن المسلمين بدأ يفقد الثقة بنفسه وبقدرتنا كأفراد وكأمة على إضافة الجديد للعالم وبسبب الحملات التي يتعرض لها المسلمون في كل مكان فإني أردت أن أستعرض هذا المقال لعله يعيد لنا بعضا من العزة والثقة بأنفسنا وقدراتنا ويستلهم هممنا لبذل المزيد من الجهد في طلب العلم. وقد كان للمقال صدى طيب حيث وردت للمجلة عدة رسائل تشيد بدور العلماء المسلمين في ازدهار الحضارة.
ويستعرض الكاتب كيف أن العرب المسلمين وخروجهم من جزيرة العرب احتكوا مع ثقافات عريقة كالثقافة اليونانية وغيرها وتفاعل معها المسلمون بحركة ترجمة نشطة بلغت أوجها في عهد المأمون فيما يعرف ببيت الحكمة في بغداد عام 830م مما جعل اللغة العربية في ذلك الوقت أهم لغة علمية في العالم وهذا يوجب علينا في هذا الوقت الاهتمام بلغتنا العربية وبالترجمة ودراسة العلوم بلغتنا إن أردنا أن نعود لما كنا عليه.
وبجمع العلوم من مختلف الثقافات استطاع العلماء المسلمون أن يضيفوا كثيراً من التقدم العلمي في مجالات كثيرة كالرياضيات والفلك والكيمياء والزراعة والطب وغيرها. فهم أول من استخدم تقطير المياه وأول من استخدم الكحول في التعقيم وهذه الممارسة لا زالت تستخدم حتى الآن. ووضع العلماء المسلمون أسس الممارسة الطبية الحديثة فقبل الحضارة الإسلامية كانت أوروبا تعتمد على رجال الدين في العلاج ولم تكن توجد أي مستشفيات أو مراكز طبية في حين أوجد العرب المستشفيات والمراكز الطبية التي بدأت التعليم الطبي المنظم وادخل الأطباء العرب كثيراً من التنظيمات التي لاتزال تستخدم في المستشفيات الحديثة كالأجنحة الخاصة بالرجال وأجنحة النساء والاهتمام بنظافة العاملين في المستشفيات ونظافة المنشآت الصحية للحد من انتقال العدوى أو ما يعرف حالياً بالتحكم في العدوى [infection Control] وكانوا أول من أدخل نظام الملفات الطبية والصيدليات.
واستعرض المقال بعد ذلك بعض الأطباء المسلمين المبرزين كا بن النفيس الذي عاش في القرن الثالث عشر الميلادي وهو أول من وصف الدورة الشريانية الرئوية وقد سبق في ذلك وليام هارفي بثلاثمائة سنة ولكن الغرب للأسف لا يشير إلى هذه الحقيقة المثبتة. كما يشير الكاتب إلى الجراح أبو القاسم الزهراوي الذي ألف كتاب التصريف والذي ترجم إلى اللاتينية وعد الكتاب الطبي الأساس في الجامعات الأوروبية في القرون الوسطي. والزهراوي أول من وصف كثيراً من الأمراض الوراثية ومرض استسقاء الرأس وطور كثيراً من التقنيات الجراحية وهو أول من استخدم خيوط الكاتقت في خياطة الجروح. وأشار الكاتب كذلك إلى الرازي الذي يعده بعضهم أعظم طبيب مسلم وهو صاحب كتاب المنصوري الذي يقع في 10 مجلدات والذي استمرت إعادة طباعته حتى القرن التاسع عشر الميلادي. كما ضمت مناهج الجامعات الأوروبية كتب ابن رشد وكتب ابن سينا القانون في الطب. وقد عد كتاب القانون في الطب أعلى مرجع طبي في أوروبا لعدة قرون. ويعد ابن سينا أول من ادخل النظام العلاجي الذي يعتمد على العوامل العضوية والنفسية والدوائية مجتمعة. وبدأ بعد ذلك اختفاء وهج الحضارة العلمية الإسلامية باحتلال بغداد من قبل المغول وسقوط الأندلس وظهور الدولة العثمانية وانعكست الآية وتغير تدفق العلوم وتغيرت موازين القوى العلمية على مدى ال 600 سنة الماضية وفقدنا كثيراً مما كنا نتميز به وتركنا الريادة لغيرنا. راجيا أن يكون هذا المقال عامل تحفيز لنا لشحذ الهمم للحاق بركب العلوم والتقدم.
==============
#الأمة الإسلامية والخروج من المأزق
الثلاثاء 29 المحرم 1427هـ –28 فبراير 2006م
الصفحة الرئيسة
د. علي عبد الباقي
مفكرة الإسلام : لا يختلف أحد من المسلمين على أن الأمة الإسلامية الآن في مأزق، وأنها تواجه تحديات كثيرة وخطيرة ومتعددة ولا تتعامل معها بما تستحقه من برامج المواجهة المناسبة.
وقبل أن نستعرض أهم التحديات التي تواجه الأمة فإننا نؤكد على أن إعادة نهضة الأمة وبعث حضارتها من جديد سهل للغاية من حيث الطريق ولكنه صعب للغاية من حيث النوايا. وإن صحة هذا الطريق تأكدت لنا عبر 14 قرناً من الزمان، حيث إن النظم السياسية تذهب وتجيء وتصعد وتهبط، والإسلام باق بكل مبادئه وأحكامه سواء في نظام التشريع أو في نظام الأخلاق.
وأولى التحديات التي تواجه الأمة الإسلامية هي أزمة الديمقراطية والحكم الرشيد حيث تتعطش شعوبنا إلى الحكم الرشيد المبني على المساءلة والشفافية والتعددية السياسية والعدالة وسيادة القانون. ويتفق الجميع اليوم على أن الديمقراطية والتنمية وجهان لعملة واحدة وأمران متلازمان، وأنه لن تتحقق التنمية في بلادنا إلا من خلال الأنظمة السياسية المنتخبة بطريقة ديمقراطية، يتم فيها تفعيل دور مؤسساتنا الأهلية وجمعيات المجتمع المدني الأصيلة التي تحمل هم الأمة، لا التي يمولها الغرب وتتحدث باسمه.
إن معظم مشاكل الأمة تكونت بفعل الأنظمة الاستبدادية غير الشرعية، التي تغيب عنها مساءلة الأمة. هذه الأنظمة هي التي نما وترعرع الفساد في كنفها، فانهارت مشروعات التنمية. تلك التنمية التي تتبدى للعيان في التخلف المزمن في مجال التنمية الاقتصادية والبشرية. فمن غير المقبول أن يبقى مجموع الناتج العام للعالم الإسلامي كله، بمئات ملايينه التي تزيد على خُمس أبناء البشرية وبرقعته الجغرافية التي تغطي حيزا كبيرا من المعمورة وتزخر بثروات عديدة، مقصورا على نسبة لا يُعتدّ بها في أرقام الاقتصاد العالمي وحساباته.
ومن التحديات كذلك أزمة التعليم والثقافة التي تتجلى في الجهل والأمية الحَرفيّة والرقمية، وضعف مناهج التعليم في أرجاء العالم الإسلامي، وندرة مراكز الأبحاث والعلوم، وغياب تكنولوجيا المعلومات التي هي القوة الأولى المحرّكة للاقتصاد العالمي، وندرة الكتب والمؤلفات وقلة القارئين في العالم الإسلامي.
ويعاني العالم الإسلامي كذلك من أزمة القيم التي تتجلى في عدم التقيّد بالحقوق العامة، وفي مقدمها حقوق الإنسان وكرامته وغيرها من الممارسات اللاإنسانية التي تخدش مفهوم القيم في مجتمعاتنا، وتجعلنا موضع النقد والتندر.
كما أن العالم الإسلامي يعاني في الفترة الأخيرة من ظاهرة تفشي تيارات التطرف الديني، وما نجم عن ذلك من أعمال عنف وإرهاب وظهور اتجاهات تكفيرية ومدارس للتعصّب الديني. وقد شجعت أعمال العنف والإرهاب خارج العالم الإسلامي وداخله أخيرا استشراء ظاهرة عداء الإسلام وكراهيته في العالم، وهو ما أوجد بدوره تحديا جديدا خطيرا يقتضي من العالم الإسلامي التعامل معه ومع غيره من التحديات بمنهجية عصرية وخطط ناجعة... والكثير من الجدية والمسؤولية.
سنن الله الحاكمة
واقع العالم الإسلامي حسب التشخيص الأمين يؤكد أن المسلمين ناس من الناس، وأمة من الأمم، لا يتقدمون إلا بما يحوزون من العلم والعمل والكفاح، وتجري عليهم سنن الله الحاكمة في هذا الكون، فإن أخذوا بهذه السنن نالوا السبق وحققوا أهدافهم، وإن خاصموها وتخلوا عنها- كما هو حالهم الآن- تداعت عليهم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها.
فكل أمة من الأمم لها ساعات إقبال وساعات إدبار، وللحضارات في أيام تراجعها خصائص تلازمها، وكذلك سلوك أبنائها المنتمين إليها، كما أن لها خصائص تلازمها أيام نهضتها وكذلك سلوك أبنائها المنتمين إليها.
والفرق بين حالة النهضة وحالة التراجع أنه في حالة النهضة يرتفع سلطان العلم والمعرفة بحثاً عن الإبداع، أما في حالة التراجع فينكمش العقل ويتضاءل دوره ويحل محله شطحات الخيال، فلا يتبدى الواقع على حقيقة ولكن يتبدى كما يريده الخيال.
وفي حالة النهضة تفتح الأمة ذراعيها للآخرين تواصلاً معهم وتنافساً، أما في حالة التراجع فتشيع روح العزلة ويسود الانقطاع والابتعاد والإحساس بالخطر وسوء الظن بالآخرين.
وفي حالة النهضة أيضا تتطلع الهمم إلى المستقبل وتنشغل به وترجو منه خيراً وتطمح إلى مزيد من الريادة. أما في حالة التراجع فيكون الماضي وحده هو الملاذ انطلاقا من اليأس فلا يبقى إلا التغني بأمجاد الأولين والتشكيك في أمجاد الآخرين.
ظواهر سلبية
إننا هنا نرصد بعض الظواهر السلبية والغالبة في العالم الإسلامي اليوم وتتمثل أولاها في الحيرة الحضارية الكبرى واستمرار القضايا المعلقة، وهذه الظاهرة سائدة في العالم الإسلامي من مشرقه لمغربه. فهناك مجموعة قضايا تعيش بيننا منذ مئات السنين لا نتركها فنستريح ولا نحلها فنستريح وإنما نعلقها، مثل مكانة الدين في المجتمع، وهذا أمر خطير، فهل يعقل أن هناك أمة لم تتفق على شيء خطير كهذا؟ هناك من ينظر للإسلام على أنه نظام شامل للحياة وهناك من ينظر له على أنه يتعلق بالمساجد فقط وأن الارتباط بالإسلام هو تخلف، وهذه قضية كفيلة بأن تهدم أمة.
وهكذا فإن هناك حزبان في مجتمعاتنا وهناك حرب أهلية تبرد أحيانا وتسخن أحيانا أخرى. فهل يبقى للأمة بعد ذلك جهد لمواجهة تحدياتها. وعندنا مثل هذه القضايا الكثير في الأمور المالية والاقتصادية وفي قضايا المرأة وقضايا التربية.. الخ.
وثاني هذه الظواهر السلبية أننا أمة نعيش في فرقة وتشرذم ولا تكاد دولتان إسلاميتان لا توجد بينهما خصومة ونزاع .
فنحن نسير بعكس العالم الذي يتجمع فيه المختلفون. فأوروبا التي خاضت حربين عالميتين غير الحروب العديدة السابقة بينها تتناسى ذلك وتنشئ الاتحاد الأوربي والسوق الأوروبية، أما نحن فإذا لم نجد في حاضرنا خلافا اخترعنا خلافا.
وثالث هذه الظواهر الاشتباك الأليم بين الحكومات والرعية في غالبية الدول الإسلامية، وبسبب هذا الاشتباك سال الدم الحرام واختفى الأمن وضاعت مواردنا الاقتصادية.
والضحية الوحيدة من هذا كله هي الأمة التي لن يبقى من طاقتها شيء لتواجه به مشاكل التخلف والجهل.
وإذا كان هناك عناصر ضعف في الأمة فإن هناك عناصر قوة. وأهم عناصر القوة هذه أن تيار التدين الصحيح ينتشر في الأمة من أقصاها إلى أقصاها، كما أن تيار التوجه نحو القيم الحافظة للأديان يقوى في العالم كله لأن الناس اكتشفوا أن الجانب الروحي أهم من الجانب المادي.
وثاني عناصر القوة هو أنه رغم كل التيارات الشاردة والشاذة التي تنتشر باسم الإسلام فإن التيار العريض للأمة الإسلامية لا يزال تيارا سليما يحمل نفحات النبي صلى الله عليه وسلم، وسيرة الصالحين في حق وحب وخير وجمال، ولا يزال المنحرفون هامشا صغيرا عن يمين هذا التيار أو شماله.
قضيتان رئيسيتان
إننا هنا نركز على قضيتين رئيسيتين لا بد من حسمهما في واقع المسلمين كي يمكن تمهيد الأرضية للمستقبل.
أولا قضية الحرية: فالذي يبنى الحضارة ليس العبد ولكنه الحر، وهو من كان مرفوع الرأس حر الحركة، والأمة غير الحرة لن تبني حضارة. وقضية الحرية في عالمنا الإسلامي ينبغي أن تكون قضية محورية. وفي العالم عشرات من الجمعيات الدولية لحماية حقوق الإنسان لا نكاد نجد فيها مسلماً بل كل روادها يهود.
إن الحرية غريزة فطرية ومفهوم رائع تلتقي عنده المشاعر وتتجاوب معه العواطف وتتطلع إليه النفوس، وهي ليست شيئاً ثانوياً في حياة الإنسان بل حاجة ملحّة وضرورة ماسّة من ضروراته، باعتبارها تعبيراً حقيقياً عن إرادته وترجمة صادقة لأفكاره. فبدون الحرية لا تتحقق الإرادة وعدم تحقيق الإرادة يعني تكبيل الإنسان ووأد كافة طموحاته وتطلعاته، وإلقائه في هوة الضياع والموت البطيء، وهو ما لا ينسجم أبداً والغاية من وجود هذا الكائن الإلهي والدور المناط به والمسؤولية التي تقع على عاتقه، وبدون الحرية لا تتحقق ذاتية الإنسان وكرامته وقدرته على تقرير مصيره، وبدونها أيضاً لا تتحقق سعادته.
فالحرية إذن منحة إلهية للإنسان الذي حباه الله تعالى بكل المقومات الأخرى اللازمة خلال مسيرته الحياتية والتي تضمن له أداء دوره الريادي على الأرض في أحسن صورة.
وثاني هذه القضايا هو فض الاشتباك، أي أن ندخل في سلسلة من المصالحات. فنجمع الدول العربي والإسلامية ونزيل الخلافات بينها مقتدين بما يحدث في العالم من حولنا واضعين مصلحة الأمة ككل فوق كل اعتبار.
ثم فض الاشتباك بين الحكومات وشعوبها، فالحكومات عليها ألا تأخذ الناس بالتهم وعليها أن تتصور أن كل متدين ليس متطرفا، وعليها أن تصون الشاب من أول الطريق فتقدم له علما سويا وعملا وتحسن إليه وتشعره بآدميته. وعلى الحركات الإسلامية في ذلك أن تؤمن أن الإصلاح ليس بالوثوب على السلطة وأن المسلم في فسحة من دينه ما لم يصب دما حراما، وأن الإساءة لصورة الإسلام جزء منها وارد من الخارج والجزء الآخر صنعناه بأنفسنا. وعليهم أن يعرفوا أن الناس يريدون اللين في الدعوة والمعاملة والله يقول [فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك].
ثم يجب فض الاشتباك بين الحركات الإسلامية وبعضها لتكون قوة مضافة للإسلام وللدعوة الإسلامية ولا تفتن المسلمين في دينهم وتكون عامل توحد بين المسلمين.
معايير لمصداقية الحكم الإسلامي
إن قضية حاكمية الشريعة قد كثر اللغط حولها، وتم التخويف بها على نطاق واسع. ونحن نؤكد أن هناك معايير أو مقاييس لمصداقية الحكم الإسلامي إذا وجدت كان الحكم إسلاميا، وإذا لم توجد لم يكن الحكم إسلامياً. وإذا وجد بعضها وفقد الآخر فإنه يكون إسلامياً بقدر ما وجد وغير إسلامي بقدر ما فقد.
والمعيار الأول: هو أن يكون الهدف هو إعمار الأرض، أي إقامة المصانع وزراعة الأرض والنهضة بالصناعة والتجارة، وتيسير الخدمات والرعاية ونشر التعليم الخ.. أو كما نقول تحقيق رخاء الفرد ورفاهيته.
والمعيار الثاني: أن يكون المناخ هو الحرية الواسعة بكافة أنواعها.
والمعيار الثالث: أن يكون المحور هو العدل الذي هو 'بصمة الإسلام' لو كان للأديان بصمات. ولأن الغرض الأسمى من الحكم هو تطبيق العدل. ليس فحسب لما هو مفهوم بداهة- ولكن أيضاً لأن العدل هو الحق مطبقاً. والحق هو الذي أقام الله تعالى عليه السموات والأرض وأنزل كتبه، وأرسل رسله له.
والمعيار الرابع: هو أن تكون الشورى وسيلة اتخاذ القرار، وفي الإسلام ما هو أقوى من الشورى وهو حق مساءلة الحاكم إلى درجة عزله.
وأخيراً نأتي إلى المعيار الخامس والأخير وهو: أن يكون الحكم رسالة وليس مغنما أو وسيلة لاكتساب الجاه والسيطرة واستبعاد الجماهير والشعوب كما كان منذ أن ظهر الملوك والأباطرة والقادة العسكريون من الحكم الفرعوني حتى الإمبراطورية الرومانية.
=============
#السقوط الحر
الثلاثاء 29 المحرم 1427هـ –28 فبراير 2006م
الصفحة الرئيسة
محمد عادل
moh.adel@islammemo.cc
مفكرة الإسلام : كشفت السنوات الأخيرة بوضوح أن الإسلام يمثل عقبة أساسية أمام مشروع الهيمنة الأمريكي وأن العالم الإسلامي بات بما يمتلكه من رصيد فكري وثقافي وحضاري على رأس التحديات التي تواجه مشروع السيطرة الأمريكية على العالم .
ويبدو أن التصورات والحلول المقترحة للتغلب على هذا العائق وزحزحته لإفساح الطريق أمام المشروع الأمريكي متنوعة لدى مخططي الإدارة الأمريكية ويجمعها مساحة مشتركة تصب في أهمية تغيير شكل الواقع في دول العالم الإسلامي ومنطقة الشرق الأوسط على وجه الخصوص.
والمتأمل في السياسة الأمريكية في المنطقة يلمح شواهد إثبات على الرغبة الأمريكية الملحة في تغيير الأنظمة في المنطقة العربية التي تمثل مركز العالم الإسلامي بعد أن أصبح الكثير من تلك الأنظمة بصورتها القديمة - التي سئمتها الشعوب - غير مهيأ للعب الدور المطلوب والمشاركة في رسم ملامح الصورة الأمريكية للشرق الأوسط، وباتت تتعارض مع طبيعة المشروع الجديد الذي يحمل 'الديمقراطية' الأمريكية المفصلة للمنطقة, ومن ثم فقد انتهت المرحلة التي يمكن أن تلعب فيها دورًا يتوافق والمصالح الأمريكية.
ولأن المنطقة باتت على حافة الانفجار الكبير بسبب حالة الاختناق السياسي والتأزم الشعبي؛ ما ينذر بتغيرات سياسية كبيرة قد تسير في اتجاه عكسي يتصادم والمصالح الأمريكية، فكان من الملح أن تستبق أمريكا وتأخذ هي بمبادرة التغيير وتُسارع إلى الإمساك بخيوطه وتروج لذلك إعلاميًا للاحتفاظ بأوراق اللعبة بيدها بالكامل، لتتصرف كيف تشاء حسب الرؤية والمصلحة الأمريكية، محاولة في الوقت ذاته إيهام شعوب المنطقة - والتي تسعى للتغيير - بأن التغيير المرتقب قد تحقق بفضل المبادرة الأمريكية.
لذا فقد دأبت دوائر الفكر ومراكز التخطيط الاستراتيجي على وضع الحلول البديلة للواقع السياسي الحالي في الشرق الأوسط، وبناءً على ذلك رفعت الإدارة الأمريكية شعار التغيير والإصلاح, وكان ذلك متزامنًا مع تبنيها لمبادرة 'الشرق الأوسط الكبير' ، والذي يبدو أنه سيحمل وفقًا للمفهوم الأمريكي ملامح مختلفة لأنظمة جديدة.
ولأن تغيير المنطقة وعلى رأسها الأنظمة لا يتم بما يتوافق مع المصالح الأمريكية إلا بتغيير الشعوب, فكان لزاما أن يُخطط وعلى محور مواز ٍ لتغيير الواقع العربي الذي برغم فقده الكثير من مقومات صموده الحضاري إلا أنه ما زال يدافع المشروع الأمريكي بالمنطقة ويعوقه.
- وسواء كانت الرؤية حول طبيعة التغيير المنتظر تقوم على البندقية والدبابة والصواريخ الذكية، أم سيكون الدور الأساس في هذا المخطط لأسلحة الغزو الحضاري والثقافي المغلفة بغلاف أمريكي من أمثلة - 'العولمة' و'حوار الأديان' و'الحرية' و'الديمقراطية' وغيرها الكثير في الجعبة الأمريكية - فإننا يمكن أن نتلمس ومن خلال تصريحات مسئولي الإدارة الأمريكية والسياسات التي بدأت أمريكا تطبقها بالمنطقة أهم ملامح هذا المخطط الهادف لتغيير الأنظمة والشعوب, والذي يقوم في أساسه على سياسية 'الاستبدال' التي تتمثل أهم محاورها في:
- استبدال الحالة السياسية المتأزمة في الدول العربية 'بالديمقراطية الأمريكية المفصلة' التي تحوي صناديق اقتراع خاوية إلا من أصوات مؤيديها، وحرية تتسع لتشمل جميع الأطياف سوى منتقدي سياساتها ، ودستور يكفل التبادل السلمي للسلطة لكن بدون تجاوز للخطوط الحمراء والتي لا تعطي أمريكا الحق لغيرها في رسمها ، والواقع السياسي العراقي القريب خير شاهد على ذلك .
-استبدال الأنظمة القمعية والتي سقطت في أعين شعوبها ، -وسواء كان الاستبدال قائمًا على تغيير فعلي للنظام ورموزه أم الإبقاء على الأنظمة القابلة لتغيير أفكارها وسياساتها بما يتواءم والدور الجديد والمحدد أمريكيًا - ففي كلٍ فإن البديل المنتظر لابد أن يكون أنظمة هزيلة تفتقد لأدنى درجات الاستقلالية ، ولا تحمل أي طموح وطني أو قومي - فضلا عن أن يكون إسلاميًا - ينهض لمقاومة المشروع الأمريكي.
-استبدال الواقع الثقافي للبلدان العربية القائم في كثير من أدبياته على الثقافة الإسلامية بما تحويه من معاني التميز والعالمية والهيمنة والصمود ، والرافض للكثير من مفردات الغرب الثقافية والتي تصطدم بالثوابت والهوية العربية، بآخر يغلب عليه لغة 'السلام' و'التعايش'و'الحداثة' والعولمة'، وبالطبع بالمفهوم الأمريكي لتلك المصطلحات.
-استبدال اجتماعي قائم على التدخل في القواعد الأسرية والأعراف الاجتماعية التي تحكم العلاقة بين أفراد المجتمع العربي المسلم بهدف تغيير النمط' المحافظ' التي اعتادت عليه المجتمعات العربية بآخر مختلف يسود فيه دعاوى' تحرير المرأة' و'المساواة' و'الحرية الجنسية'، ويتدخل في أدق تفاصيل الحياة اليومية بدءًا 'بمنضدة الطعام' وانتهاءً 'بغرفة النوم'. وما مؤتمرات بكين والقاهرة وغيرها من المنتديات الأممية المتعلقة بشئون الأسرة والمجتمع - والتي تؤسس لمفهومات جديدة 'شاذة' لطبيعة ودور الرجل والمرأة - إلا غيض من فيض مما يُخَطَط للمجتمعات العربية.
-استبدال جغرافي يهدف لإضعاف مراكز الثقل العربي بتفتيت الدول المحورية الكبرى لدويلات صغيرة هامشية تتمحور حول مشاكلها المحلية ويغيب دورها إقليما ودوليا، أو استبدالها بدول أخرى صغيرة الحجم ضعيفة التأثير سهلة الانقياد يسلط عليها الضوء تقدم كمثال للدولة النموذج التي تستأهل الدعم والرضا الأمريكي.
إن منظومة 'الاستبدال' الأمريكية التي تهدف لصناعة دول 'تافهة' بما تحويه من أنظمة 'هشة' وشعوب 'هلامية' تملك من عوامل الضعف ما يفتح الطريق لأمريكا لتثبيت هيمنتها وتحقيق مشاريعها بالمنطقة، تمهيدًا لما يصح تسميته بـ'السقوط الحر' للأنظمة والذي لابد أن يوازيه 'سقوط حر' للشعوب يهدف لسلخ الهوية واستلاب الحضارة ، وكل ذلك يأتي في إطار استراتيجية أمريكية أوسع تهدف لتضليل الأمة وإقناعها أن ثمة نجاح قد تحقق وأن التغيير المنشود قد حدث على يد أمريكا وبفضل مشاريعها 'الاستبدالية'
=============
#أسس الحضارة الاسلاميه
الفصل الاول: بسم الله ارحمن الرحيم
الحضاره الاسلاميه
1/ القران الكريم
2/ السنه النبويه
3/ اللغه العربيه
4/ شعوب البلاد المفتوحه والخط العربي
5/ الاطار الجغرافي
6/ التأ ثيرات الاجنبيه
اولآ : القران الكريم
يعد القران الكريم احد الاسس الريئسيه الذي نبعث منه الحضاره الاسلاميه باعتباره المصدر الاساسي للاسلام وحجر الزاويه الذي تقوم عليه الشريعه الاسلاميه.
ومن المعروف ان الفران الكريم نزل على الرسول محمد صلى الله عليه وسلم منجما على مدى الثلاث وعشرين سنه التي ضل خلالها يدعو الى الله سبحانه وتعالى ليكون اقرب الى الحفض واسهل على الضبط وابعد عن النسيان وقد حرص الرسول واصحابه على حفض الايات واستضهارها كما حرص ايضا على تدوينه فأ تخذ له كتبه يدونون ما ينزل عليه من ايات ويلازمونه حيثما ذهب عرفو بكتاب الوحي قاموا بتسجيل الايات على مواد متباينه اختلف في احجامها واشكالها وتنوعت في موادها بين قطع من العضم والخشب والفخار والجلد وجريد النخل والحجر
ومن ثم قد استخدم في حفض القران الكريم الذي بلغت صوره مائه واربعه عشر سوره وسيلتان هما
1 - الحفض والتدوين فقد تولى الرسول صلى الله عليه وسلم ترتيب الايات بنفسه فعين موضعها من بعضها البعض وتحديد مكانها في السورالمختلفه طبقا لما اخبر به الوحي ثم انتقل بعد ذلك الى الرفيق الاعلى وقامت حركه الرده واستشهد في موقعه اليمامه ما يقارب من سبعين صحابيا من حفضه القران الكريم وخشى عليه عمر من الضياع
بموت الحفاض فاقترح على الخليفه ابو بكر الصديق ان يجمع القران الكريم في صحف توضع بين دفتين وتردد ابو بكر في اول الامر وخاصه وان الرسول صلى الله عليه وسلم لم يامر بذلك ثم استجاب بعد ذلك لم اشار به عمر ابن الخطاب
رضي الله عنهما اجمعين واستدعى زيد بن ثابت احد كتاب الوحي وامره بنسخ القران الكريم في مصحف فجمعه من وافع المدونات التي كانت لدى كتاب الوحي وبمساعده حفضته المشهود لهم بالتقوى وقوه الذاكراه اذ يروى ان ابو بكر كلف عمر ابن الخطاب وزيد بن ثابت بأن يقفا عند باب المسجد ويطلبا من كل من يحفض شيئا ان يذكر لهما مايحفض وهكذا تم حفض القران الكريم في عهد ابو بكر الصديق وحفض المصحف لديه مده حياته ثم انتقل بعد وفاته الى عمر بن الخطاب الذي تولىبعده الخلافه وبقى عنده حتى مقتله فحفض عند السيده حفصه احدى زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم وكانت تعرف باتقانها للقراءه والكتابه
ولما كان القران الكريم هودستور الاسلام والمسلمين فقد كان من الطبيعي ان يكون بثابه المصدر الاول والريئسي الذي نبعث منه الحضاره الاسلاميه اذ يكمن فبه سرد الاصاله الاسلاميه وعضمتها لاانه كتاب يهدي للتي هي اقوم لاياتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فيه خير البشر سواء من الناحيه الروحيه او العقليه او الاجتماعيه فهو يدعو الى عقيده حقه تقوم على الوحدانيه عقيده واضحه خاليه من التعقيد والغموض والابهام
ثانيا : السنه النبويه
عما قريب ان شاء الله
المصدر:الحضاره الاسلاميه في العصور الوسطى
تاليف الدكتور احمد عبد الرزاق احمد
ليسنانس اداب اداب من قسم الاثار الاسلاميه-جامعه القاهره 1963ميلادي
ماجستير في الاثار الاسلاميه -جامعه القاهره1968
دكتوراه المرحله الثالثه في الاثار الاسلاميه-جامعه باريس( السربون ) 1970
يعمل استاذ وريئسقسم الارشاد السياحي و**** كليه الاداب للدراسات العلياء والبحوث بكليه الاداب - جامعه عين شمس
==============
#خصائص الحضارة الإسلامية
لكل حضارة وعلى مر العصور العديد من الخصائص التي تتصل بشعب تلك الحضارة ونظرته إلى الحياة وتفكيره وعاداته وتقاليده ومدى تفاعله مع بيئته و تميزها هذه الحضارة على الحضارات الأخرى ولعل من أبرز خصائص الحضارة الإسلامية مكايلي :
1- العالمية والحيوية : تعني العالمية في الحضارة الإسلامية أنها ليست حضارة محصورة على فئة أو جماعة أو منطقة أو جزئية معينه ولكن هي صالحه للناس كافه ودليل ذلك قوله تعالى ( وما أرسلناك للناس كافة بشيرا ونذيرا ) حيث سمحت هذه الحضارة بسرعة دخول الناس للإسلام وانتشار الأفكار بينهم بكل سهولة وحيوية , ولعل أبرز م أيميزها ويجعل من السهل على من يعتنقونها التواصل مع بعضهم البعض وتبادل الأفكار بكل يسر هي فريضة الحج التي فرضها الله عز وجل على كل مسلم بالغ حر عاقل وقادر ليلتقي فيها المسلمون من مشارق الأرض ومغاربها ويتبادلون فيها الأفكار والأحاديث التي تتعلق بأمور دينهم ,وقد ساهمت بذلك في توسعت الأمم والأجناس واستطاعت تلك الشعوب والبيئات التي دخلت في هذه الحضارة إن تطور حياتها معنويا وماديا تطويرا واضحا في ظلها وترتقي بجميع مكونات الحياة بعد إن كانت متخلفة , بل مما يبين حيوية هذه الحضارة أنها أثرت في المدنية العالمية وفي نقل تراث الأمم القديمة وكان لها أثر فعال في الشرق والغرب وبالإضافة إلى ذلك فإنها كانت من عوامل النهضة الأوروبية الحديثة .
والحضارة الإسلامية قوية بذاتها لأنها تعتمد على أسس متينة من الدعائم الروحية والخلفية والفكرية , ولذلك لم يؤثر تمزق الوحدة السياسية الإسلامية على استمرار الوحدة الحضارية القائمة على الإسلام والعروبة .
(ولقد بدأ المفكرون في القرن العشرين يدعون إلى حكومة عالمية , فأين هم من الإسلام ورسوله الكريم الذي دعا إلى أخوة المسلمين في الدين , وأخوة الناس جميعاً في الإنسانية , ولم يجعل لعربي على أعجمي فضلا إلى بالتقوى والعمل الصالح , وألغى الفروق بين الأفراد والطبقات والعناصر والأجناس والألوان والشعوب , وجعل أساس الحكم المحافظة على الكرام والإنسانية ونشر كلمة الله والهدى والنور والحق والخير والمعرفة , الدين واحد والناس جميعا أخوة يحكمهم حاكم واحد بما أنزل الله , ويقول توماس كارل يل في كتابه الأبطال (( إن الرسالة التي أداها ذلك الرسول الكريم ( صلى الله عليه وسلم ) مازالت السراج المنير مدة ثلاثة عشر قرناً لأكثر من مائتي مليون من البشر , وإن رجلاً كاذباً لاستطيع أن يوجد دين وينشره , وعجيب واليم الله أمية محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فلم يقتبس من نور أي إنسان آخر , ولم يغترف من مناهل غيره , ولم يكن إلا كجميع الأنبياء , أولئك الذين أشبههم بالمصابيح الهادية في ظلمات الدهور )) ) (1)
2- المرونة والشمول والتطور : مما يبين شمولية الحضارة العربية الإسلامية أنها لم تقتصر الحضارة الإسلامية على مدينة الإسلام وحدها بل ضمت إليها مدينة العرب قبل الإسلام وما اقتبسته من مدنيات أخرى في الشرق والغرب من خلال عملية التأثير المتبادل , ثم افرغ هذا المزيج في قالب خاص طبع بالنزعة العلمية وحب الاستقصاء والابتكار ولم يقتصر الإبداع والابتكار على العلوم الشرعية فقط ولكن كان واضحاً في معارف العلوم والآداب والفنون الأخرى ومن معالم شموليتها أنها اهتمت بتربية الفرد والمجتمع من النواحي المختلفة في الحياة الدنيا والآخرة وسعت إلى التوفيق بينهما وقد اهتمت بعالم الملك والملكوت دون تقصير بجانب للجانب الأخر لأنهما مترابطين ترابط وثيق , ولما كان الإسلام خاتمة الرسالات فمن الضروري إن تكون حضارته حضارة متطورة تستطيع إن تسع كل تطورات الحياة الإنسانية ولا تقف جامدة إمام متغيرات الحياة البشرية في واقعها الفردي والجماعي , فاعتمدت في تشريعاتها على الكتاب والسنة والاجتهاد والذي يتضح لنا من خلال المؤلفات المختلفة في العلوم الإسلامية والإنسانية والطبيعية المختلفة .
3- الإيمان والولاء للإسلام وعقيدته : تؤمن هذه الحضارة بالله ورسالاته وأنبيائه عليهم السلام وتهتدي بهدى خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم فمتى سماكان الشخص متشرب لهذه الفكرة ومؤمن بتا ويعمل على أساسها فإنه يعتبر من المسلمين حيث انه من السهل الإنظماl للمسلمين لأن الدين الإسلام مرتبط كل الارتباط بهذه الفكرة والتي لتتعارض مع العقل لأن الإسلام يقوم أساساً على مبدأ تعقل الإيمان والاقتناع بت ولالتفت لما دونها من انتماء لشعب أو منطقة أو قبيلة او عنصرية , بل حث الإسلام على إستغلال ما أتانا الله من نعم كثيرة كخلقة الله عز وجل للإنسان من مادة وروح والتي متى ماروعية فإن حياته تسير نحو الصلاح قال تعالى ( وابتغ فيما اتاك الله الدار الآخرة , ولاتنس نصيبك من الدنيا ) وقال الرسول صلى الله عليه وسلم ( ومامن مسلم يغرس غرساً أو يزرع زرعاً فيأكل منه انسان او طير او بهيمة الا كانت له به صدقة ) . ولعل الدين الإسلامي قد أكد على ضرورة الولاء للإسلام والمسلمين دون غيرهم في ظل الدولة الإسلامية وحضارتها قال تعالى ( لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون الله ) وقوله تعالى ( إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا ) ولم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم يهادن الكافرين ولو كانوا من أقرب أقربائه كعمه أبي لهب , وقد حث الإسلام على العمل ولم يهمل جانب المادة بل ربط العمل بالإيمان بل تعتبر الحضارة الإسلامية حضارة إيمان وعمل وانتاج قال تعالى ( وقل أعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون )
( جعل الإسلام رابطة العقيدة الأصل الذي يجتمع ويتفرق عليه الناس ورفض كل العصبيات : الطبقية والقومية والعنصرية والقبلية , وماشابه ذلك , يقول المولى عز وجل < يا أيها الناس أتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء > ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم < أيها الناس : إن ربكم واحد , وأباكم واحد , كلكم لآدم وآدم من تراب , إن أكرمكم عند الله أتقاكم , ولا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى > ) (2)
4- نزعة التسامح والإنسانية : تتجلى صورة النزعة الإنسانية في الحضارة الإسلامية من خلال طريقتين الأولى رسالة الإسلام التي جاء بها القرأن الكريم وحدث الرسول صلى الله عليه وسلم بها والثانية هي ماورثة العرب من الأخلاق الحميدة التي رواها لنا التراث العربي , ولقد ذكرت العديد من الألفاظ في القرأن الكريم والسنة النبوية والتي تحث على الإنسانية وتدعوا إليها في كل زمان ومكان , فعن معاذ بن جبل أنه قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أوصيك بتقوى الله , وصدق الحديث , ووفاء العهد , وأداء الأمانة , وترك الخيانة , وحفظ الحياد , ورحمة اليتيم , ولين الكلام , وبذل السلام , وحفظ الجناح ) , وقد حث الرسول صلى الله عليه وسلم على التواصل والمبادرة الإنسانية حيث قال : أفضل الفضائل ان تصل من قطعك , وتعطي من حرمك , وتصفح عمن ظلمك ) , فالحضارة الإسلامية حضارة إنسانية ملائمة لفطرة الإنسان وخصائصه المتعددة ومسايرة لتطلعاته وقادرة على تلبية حاجاته , فهو في نظر الإسلام كائن حي خلقه الله تعالى واختاره من بين المخلوقات جميعا ليكون خليفة الله في ارضه لأنه مؤهل للتكليف الالهي والمسئولية , وقد ارسل إليه الرسل كي يهدونه إلى سواء السبيل , بل وقد نظر الإسلام إلى غير المسلمين من أهل الذمة نظرة تسامح وأعطاهم حقوقهم وقد أثنى العديد من المؤلفين المسلمين على العلماء والكتاب من أهل السنة وهو مالم تعرفه أوروبا .
( ولا يزال الغرب يدعي أن أول من أعلن حق الإنسان في الحرية والأخاء والمساواة وأنه واضع حقوق الإنسان , وما أشد جرأة هؤلاء وهؤلاء على الحقائق , فلقد سبقهم الإسلام بأجيال وقرون إلى إعلان حقوق الإنسان وتأييدها وحمايتها , ومابالكم بدين حرر المرأة من جور الرجال , وحرر العامل من ظلم صاحب العمل , وحرر الرقيق والخدم من العبودية والهوان , وحافظ على حق الإنسان في الحياة والأمن , وحقة في الملكية , وفي الكرامة الإنسانية , وفي تكوين الأسرة , وفي الإشتراك في إدارة شئون الدولة , ودعا إلى العدالة بأجلى معانيها , وإلى الأخاء بأصدق مدلولاته , وإلى الحرية الكاملة , والمساواة الشاملة , والاشتراكية العادلة , وحمى أتباع الأديان الأخرى , وجعل لهم ماللمسلمين وعليهم ماعليهم من واجبات وحقوق , شعاره في ذلك الآية الكريمة < يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى , وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا , إن أكرمكم عند الله أتقاكم > , فلقد كان أفلاطون وأرسطو من فلاسفة اليونان يقرران حرمان العمال والصناع والموالى من الحقوق المدنية , لانحطاط مايمارسونه من مهن , وكان غيرهما يضع الرقيق والحيوانات في منزلة سواء , فأين هذا من سماحة الإسلام وسمو مبادئه , التي سوت بين الناس جميعاً ) (3)
5- النزعة السلمية : تفيض الحضارة الإسلامية بروح السلام وألفاظه من خلال فريضة الصلاة والتحية بين المسلمين قال تعالى ( وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها ) , وجاء في الحديث الشريف ( إذا دخلتم بيوتكم فسلموا على أهلها فأن الشيطان اذا سلم أحدكم لم يدخل بيته ) , فتحية الإسلام يتعامل بها المسلم مع غيره من أهل بيته والأخرين وغير المسلمين وقد أوصى الإسلام بحقوق الجار مهما كان معتقدة , قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( الجيران ثلاثة : جار له حق واحد , وجار له حقان , وجار له ثلاثة حقوق . فالجار الذي له ثلاثة حقوق : الجار المسلم ذو الرحيم , له حق الجوار وحق الاسلام , وحق الرحم . وأما الذي له حقان فالجار المسلم , له حق الجوار وحق الاسلام . وأما الذي له حق واحد فالجار المشرك ) , وحقوق الجار تلزم جاره مشاركته فيما يحزنه ويسره ويرشده إلى مايجهله من أمور دينه ودنياه , فالإسلام دين سلام وأمان يأمن فيه الفرد على نفسه وعرضه وماله وأهله حتى ينصرف إلى العمل والإنتاج ويتنقل بين الدول العربية والإسلامية بكل أمان , فقليل من الآيات التي تحث على القتال بالمقارنة مع تلك التي تدعوا إلى السلم دائماً , لكن التمسك بالاسلام لايتعارض مع الحفاظ على مصالح المسلمين .
( بل قد أمر الإسلام المسلمين أن يعدلوا مع أعدائهم وان لايجورو عليهم قال تعالى < ولايجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا , أعدلوا هو أقرب للتقوى , واتقوا الله , أن الله خبير بماتعملون > ) (4)
6- النزعة العلمية : حث الإسلام منذ نزول أول آية فيه على طلب العلم والتأكيد عليه , قال تعالى ( اقرأ باسم ربك الذي خلق ) , وقد كرم الدين الإسلامي العلماء في قوله تعالى ( شهد الله انه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط ) , وقد ذُكر العلم ومشتقاته في عدد كبير من الآيات في القرأن الكريم , قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكانة أهل العلم عند الله سبحانه وتعالى ( أول من يشفع يوم القيامة الانبياء ثم العلماء ثم الشهداء ) , وقوله صلى الله عليه وسلم ( من سلك طريقاً يطلب فيه علما سهل الله له طريقا إلى الجنة ) , وكان الحصول على الأجر والثواب هو أبرز الدوافع التي دفعت العلماء لطلب العلم أو تدريسه , وكانت الأمانة العلمية من أشد الأمور التي يحرص عليها العلماء المسلمين فقد نهجوا منهج الرقة والأمانة العلمية بالتجربة والمشاهدة والبحث والتحري والاعتماد على الحقائق العلمية الثابتة واجتناب الظنون والشبهات بالجهود المضنية في المعارف المختلفة , وهو ماشهد عليه الكثير من المستشرقين كسيديو .
7- النزعة العقلية : دعا الدين الإسلامي إلى إستغلال العقل خير إستغلال حيث وردة العديد من الأيات التي تدعوا إلى إستخدام العقل وتؤكد على النزعة العقلية منها ( أفلا يعقلون ) , ( أفلا يتفكرون ) , ( أفلا ينظرون ) لذلك رفع الإسلام القلم عن ( الجاهل – النائم – المخمور ) لأن عقولهم لم تنضج والدين الإسلامي يدعوا لأستخدام العقل ويكلف فقط من له عقل صحيح وناظج , وغالباً مايتفوق المسلمين على غير المسلمين عند مناظرتهم بأستخدام النظرة العقلية وليس النظرة العاطفية وقد اعتمد المسلمون على العقل في انتاجاتهم العلمية المختلفة بما فيها العلوم الشرعية .
( وأكبر أثر للإسلام في هذا المجال الكبير , هو أنه حارب الأديان الفاسدة , والعقائد الزائفة , ووجه الناس كافة إلى الله وحده لا شريك له , فرفع من شأن العقل , وذم التقليد والمقلدين , ونهى عن إتباع الآباء في غير الحق , وحارب الأوهام الفاسدة التي تضعف من شأن العقل وتدعوه إلى الكسل والجمود , وسلب الاسلام الناس ماكانوا يزعمون من القدرة على تسخير مافي الوجود من غيب , وجعل كل ذلك مرده إلى الله وحده , يعلم الغيب وماهو أخفى , فزالت عن العقل ظلمات كثيفة كانت تحول بينه وبين الفهم والادراك والرؤية الصحيحة , ودعا الإسلام إلى العلم الصحيح والتفكير السليم وبعث في الناس حب المعرفة والثقافة , وفرض على العالم إرشاد الجاهل وتهذيبه , إلى غير ذلك من مقومات الحياة الصحيحة , إلى غير ذلك من مظاهر الرقي العقلي والفكري وفي مقدمتها ان الإسلام دعا الناس إلى أن لا يؤمنوا إلا بمايؤدي إليه العقل والدليل والبرهان الصحيح , وإلى أن يمحصوا الأمور , ويتثبتوا في الحكم على الأشياء , فلا يصدرون عن هوى , ولا يحكمون إلا بعد تنقيب وتدقيق واستنباط صحيح , وهذا هو منهج البحث في الإسلام والذي قامت عليه الحضارة الإسلامية الباهرة ) (5)
8- الشورى : جاء الدين الإسلامي ليؤكد ماكان عليه العرب في الجاهلية من خلال تشاورهم في أمورهم العامة قبل , حيث كانت المناظرة والمفاوضة والتحكيم طريقهم في حل مشاكلهم وخصوماتهم في حالتي السلم والحرب , وقال تعالى ( وشاورهم في الأمر ) وقال سبحانه ( وأمرهم شورى بينهم ) ومن أبرز المواقف التي تبين لنا صورة الشورى في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء والتابعين من بعده هي ( إشارة الحباب بن المنذر بتغيير منزل المسلمين في بدر استعدادا للحرب ) وقد استجاب الرسول صلى الله عليه وسلم له , وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث آخر (( يا أيها الناس من كنت جلدت له ظهراً فهذا ظهري فليستقد مني , ومن كنت شتمت له عرضاً فهذا عرضي فليستقد منه , ومن أخذت له مالاً فهذا مالي فيأخذ منه , ولا يخش الشحناء فهي ليست من شأني )) (6) ( بيعة أبي بكر الصديق رضي الله عنه ) , و ( بيعة عثمان بن عفان رضي الله عنه ) , وقول عمر رضي الله عنه لعمرو بن العاص (( متى أستعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً ؟ )) (7) , وقال علي كرم الله وجهه (( من استبد برأيه هلك )) (8) , ( وقد أُثر عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله (( أسمعوا وأطيعوا , وإن تأمر عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة )) فالرسول صلى الله عليه وسلم يأمر بأطاعة إمام المسلمين , ولو كان عبداً حبشياً , أسود اللون والرأس , وهذه روح الديمقراطية الإسلامية التني تنادي بالمساواة بين جميع الطبقات , ولا تفرق بين الأغنياء والفقراء او غيرهم من طبقات المجتمع ) (9)
9- اللغة العربية : تتجلى الصورة الحقيقية للحضارة العربي الاسلامية باللغة العربية باعتبارها الوسيلة الأساسية للتعبير عن نفسها من خلال تراثها العلمي والأدبي والفني , وأصبحت المقوم الثاني للشعوب الإسلامية بعد الإسلام في وحدتهم , بل كان الصفوة من المجتمعات الغربية في عصر النهضة يقدمون على تعلم اللغة العربية ويترجمون الكتب إلى لغاتهم ثم ينسبون الكتاب إلى أنفسهم مما يؤدي إلى وضعه كعالم وهو لايتعدى كونه مترجماً ولعل أبرز مادفعهم لفعل مثل هذا الشيئ هو كره بعض الغربيين لقبول شيء من العلماء العرب , وقد تشرفت هذه اللغة بنزول القرآن الكريم فيها , قال تعالى ( إنا أنزلناه قرأنا عربيا لعلكم تعقلون ) فكان الفضل الأكبر للقرأن الكريم في حفظ تراث اللغة ووحدة المتكلمين بها والتخفيف من فوارق اللهجات العربية قبل الإسلام حتى سادتها لغة قريش وهي لغة القرأن الكريم
=============
#الوظيفة العامة في الإسلام... فكر إداري
الصفحة الرئيسة
ترتكز فكرة الوظيفة العامة في الإسلام على أن الوظيفة العامة واجب ديني، وأنها تكليف وليست حقًا، ومن ثم فإن دوام الوظيفة للفرد العامل مرهون بدوام صلاحية شاغلها، فمن يثبت عدم صلاحيته لها ينحى عنها.
ـ والمنهج الإسلامي قائم على أن وجود الرجل المناسب في المكان المناسب هو واجب شرعي وضامنًا لسلامة العمل وحسن الأداء، والإسلام يربي الفرد على الإحسان والإتقان، ولا يسود الأمر إلا لأهله، كما فعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع أبي ذر عندما طلب منه أن يوليه فقال له: [[إنك ضعيف وإنها أمانة، وأنها يوم القيامة حسرة ندامة]].
ـ ولقد ألزم الإسلام ولاة الأمور باختيار الأصلح لشغل الوظيفة العامة، فالقواعد الأساسية في النظام الإسلامي ترتكز على أن الصلاحية أساس الاختيار، وعملية الاختيار في النظام الإسلامي لها ضوابط محكمة، إذ إنها تعتمد على تحديد مهام الوظيفة بكل دقة وتفصيل، ثم اختيار المتنافسين، ومن ثم يمكن القول بأن الإسلام كان له فضل السبق على الإدارة المعاصرة في وضع الضوابط لاختيار العاملين لشغل الوظائف العامة، فقد حرص الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ والخلفاء الراشدون من بعده على ألا يكلف شخص غير كفء بعمل عام وهناك من هو أكفأ منه.
ـ وهكذا عرفت الوظيفة العامة في الإسلام بأنها خدمة عامة تستهدف إشباع حاجات المواطنين، ولم تكن الوظيفة في الإسلام لمن يسألها، بل كانت لمن يستحقها وتتوافر في الكفاية.
ـ وكان الاختبار قبل الاختيار مبدأ أساسيًا في الإسلام، فلا يشغل فرد وظيفة عامة قبل أن تثبت باختبار صلاحيته، وكان لابد من توافر شروط معينة فيمن يتولى الوظائف العامة، ومن أهمها القوة والأمانة والكفاية، والمقصود بالكفاية أن يكون من تم اختياره لشغل الوظيفة العامة هو الأصلح والأكفأ.
ـ وكان تقدير الأجر على أساس عادل وهو 'الأجر على قدر العمل' وهو الأساس الذي تنادي به الإدارة الحديثة وتقف عاجزة عن تطبيقه. وقد اهتم الإسلام بالحوافز والروادع، بل إن الإسلام كان يقرن دائمًا الروادع بالحوافز.
ـ وكان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقوم بتدريب من يستعملهم على مصالح المسلمين، ويزودهم بالنصائح والإرشادات، ولم يفت الخلفاء الراشدين ـ رضوان الله عليهم ـ ما للتدريب من أهمية بالغة في تنمية المعارف والقدرة على تفهم الأعمال فأولوه الكثير من اهتمامهم فكانت المدينة، المنورة على عهد عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ أشبه بالجامعة التي تخرج فيها القادة والولاة والأفراد.
فلم يكن عمر رضي الله عنه يبعث أحدًا إلى الأمصار إلا بعد أن يكون قد اختبره بالتدريب والمناقشة، حتى أنه كان قلما يخطئ اختيار عماله كل في المكان الذي يصلح له.
والخلاصة:
أن التربية الإسلامية القائمة على إصلاح النفس والضمير والارتباط بمراقبة الله في السر والعلن، والنظر إلى الإنسان على أنه مستخلف في الأرض لعمارتها وأن الله كرمه وأسجد له الملائكة، ومبدأ المساواة في الحقوق والواجبات والعدالة الاجتماعية القائمة على مبدأ العدل الرباني تنشئ نظامًا إسلاميًا رائعًا فاق في ميادين الحضارة الغربية الزائفة ومبدأ الإدارة في الإسلام أقوى بكثير من مبادئ الحضارة الغربية التي لا زالت تتلمس الطريق لعلها تجد من يرشدها إليه.
============
#انظروا عمَّن تأخذون دينكم ؟!
الأحد غرة ذي الحجة 1426هـ – 1 يناير 2006م
الصفحة الرئيسة
خباب بن مروان الحمد
مفكرة الإسلام: الحمد لله الذي جعل في كلِّ زمان فترة من الرسل, بقايا من أهل العلم يدعون من ضلَّ إلى الهدى, ويصبرون منهم على الأذى, يحيون بكتاب الله الموتى, ويبصِّرون بنور الله أهل العمى, فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه! وكم من ضالٍ تائه قد هدوه! فما أحسن أثرهم على الناس, وأقبح أثر الناس عليهم. ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين, وانتحال المبطلين, وتأويل الجاهلين...
أمَّا بعد:
فإنَّ لأهل العلم منزلة عالية في دين الإسلام, ودرجة رفيعة سامقة, كيف لا... وهم الذين اجتباهم الله لحفظ دينه, ونشر كلمته, وقرنهم بشهادته فقال: [ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ ]، ونفى المساواة بين من يعلم ومن لا يعلم، فقال: [ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُون]، وأوضح أنَّ ألصق الصفات بأهل العلم, خشيتهم لله تعالى, فقال: [ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ]، ومن خشية العلماء لربهم أنَّهم لا يتكلمون إلا بالعلم والهدى, ويخشون ربهم من فوقهم أن يتقوَّلوا عليه بلا علم, ويوقِّعوا عنه بجهل؛ لأنَّهم وقَّافون عند حدود الله ونواهيه, إذ قال تعالى: [ وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً] [الإسراء:36].
إلاَّ أنَّه ـ وللأسف ـ قد تقحَّم بوابة العلم, وولج فيها مولجًا لا يستحقه, أناسٌ ليس لهم في العلم الشرعي كبير إنعام، حيث امتطوا صهوة العلم والتعليم, فتراموا على شاشات الفضائيات, وأوقعوا بأرجلهم على مهاد المنابر, وتكالبوا في الكتابة بالصحف والجرائد والمجلات, إمعانًا منهم لتعليم الناس ما يهمُّهم, في شئون الدين والدنيا, وقسم آخر وهم كثيرون إذا اجتمعوا في المجالس والنوادي, وطُرحت مسألة فقهية أو شرعية, وجدت المختص وغير المختص يخوض فيها, ويتمنطق متحدثًا عنها, مدَّعياً أنَّ لديه علمها وحكمها, على حدِّ ما ذكره الشيخ: 'محمد الغزالي' ـ رحمه الله ـ: [ قرأت كتابًا لأحد المهندسين يفسِّر حقيقة الصلاة تفسيرًا لم يعرفه المسلمون طوال أربعة عشر قرنًا؛ فعجبت لهذا الحُمق في خرق الإجماع, وقلت: أما يجد هذا المخترع مجالاً لذكائه في ميدان الهندسة ليتقدَّم فيه، بدلاً من أن يشغل نفسه ويشغلنا معه بهذه التوافه ] [ ليس من الإسلام ـ للشيخ: محمد الغزالي /56 ]. فترى كثيرًا ممَّن على شاكلة هذا الشخص زاعمين أنَّهم مثقفون ومطَّلعون يطلقون لأنفسهم باب الاجتهاد في التحدّث عنها بآرائهم, والغريب أنَّ ذلك يحصل في كثير من المجالس، وخصوصًا مجالس كثير من العوام أو غير المتخصصين في العلم الشرعي، ممَّن تخصصوا في العلوم التجريبيَّة أو الطبيعيَّة أو غيرها, وكانوا بعيدين بُعد المشرقين عن البحث والاطِّلاع في أصول الشريعة ومحكماتها، فتجد كثيرًا منهم 'يلتُّ ويعجن' في المسألة التي قد تكون مشكلة, ولو عُرضت على عمر ـ رضي الله عنه ـ لجمع لها أهل بدر ليتباحثوا فيها, ويعطوا الحكم الشرعي المناسب لها، المبني على الكتاب والسنّة ! وإن طُرحت على أهل العلم أعطوها حقَّها من البحث والتفكير, ورحم الله زمنًا جاء فيه أنَّ الإمام مالك قال: [ إني لأفكر في مسألة منذ بضع عشرة سنّة, فما اتَّفق لي فيها رأي إلى الآن ]، وقال: [ ربما وردت علي المسألة فأفكر فيها ليالٍ ] [ ترتيب المدارك 1/178].
وإنَّ العجب ليأخذني كلَّ مأخذ, حين أرى هؤلاء المتقحِّمين باب العلم حين تُعرض أية مسألة من متعلقات الشريعة فيتحدثون عنها, ولم يكلِّفوا أنفسهم البحث عن حكمها ودلائل حلِّها أو حرمتها، بل تجد المبادرة والمسارعة للإفتاء وإبداء الرأي بحجَّة أنَّها وجهة نظرهم, ولا يعني أن تكون وجهة النظر صحيحة, وكأنَّ علم الشريعة علم يُتناول على مائدة الحوار والكل يبدي رأيه متوقعًا ومخمِّنًا أنَّ ذلك هو الحكم الشرعي !
مع أنَّ هؤلاء العوام أو من يتسمَّون بالمثقفين ـ أمثال [ صاحبنا ] ـ لو أنَّ رجلاً غير متخصص في الفن الذي هو من اختصاصهم وتكلم فيه زاعمًا أنَّ رأيه صواب, وأنَّ ما يقوله لا يلزم أن يكون صحيحًا, لنظروا إليه نظر شزر, وقرَّعوه بشديد الخطاب؛ لأنَّه تكلّم فيما لا يحسنه, ومن يتكلم بما لا يحسن يأتي بالعجائب !
وَصَدَقُوا... ولكن لِمَ لا تمرَّر هذه القاعدة والمنهجية عليهم كذلك ؟ أمَّ أنَّ علم الشريعة متاح لكل أحد أن يكون مجتهدًا فيه, وغيره من العلوم لا يتحدَّث فيه إلاَّ من تخصص به وثنى ركبته في نيله عند أهله ؟!
وقد لاحظ تلك المشكلة الإمام 'ابن رجب' ـ رحمه الله ـ واشتكى منها قائلاً: [ يا لله العجب ! لو ادَّعى معرفة صناعة من صنائع الدنيا, ولم يعرفه الناس بها, ولا شاهدوا عنده آلاتها لكذَّبوه في دعواه, ولم يأمنوه على أموالهم, ولم يمكِّنوه أن يعمل فيها ما يدَّعيه من تلك الصناعة, فكيف بمن يدَّعي معرفة أمر الرسول وما شوهد قط يكتب علم الرسول, ولا يجالس أهله ولا يدارسه ! ] [ الحكم الجديرة بالإذاعة ].
* أقوال علماء الإسلام في النهي عن التكلم بلا علم:
وقد تواترت كتابات العلماء في التحذير من التكلّم بلا علم والإفتاء بالجهل, ومنهم الإمام الشافعي فقد قال ـ رحمه الله ـ: [ فالواجب على العالمين أن لا يقولوا إلاَّ من حيث علموا, وقد تكلَّم في العلم من لو أمسك عن بعض ما تكلَّم فيه منه لكان الإمساك أوْلى به وأقرب من السلامة له، إن شاء الله ] [ الرسالة /41 ].
وقال الإمام 'ابن حزم': [ لا آفة على العلوم وأهلها أضر من الدخلاء فيها وهم من غير أهلها, فإنَّهم يجهلون ويظنُّون أنَّهم يعلمون, ويفسدون ويقدرون أنهم يصلحون ] [ مداواة النفوس /67 ]
وقال شيخ الإسلام 'ابن تيميَّة' ـ رحمه الله ـ: [ ولا يحل لأحد أن يتكلَّم في الدين بلا علم، ولا يعين من تكلَّم في الدين بلا علم, أو أدخل في الدين ما ليس منه ] [ مجموع الفتاوى 22/240 ]، وقال كذلك: [ فمن تكلَّم بجهل وبما يخالف الأئمة؛ فإنَّه يُنهى عن ذلك ويؤدَّب على الإصرار, كما يُفعل بأمثاله من الجهال, ولا يُقتدى في خلاف الشريعة بأحد من أئمَّة الضلالة، وإن كان مشهوراً عنه العلم, كما قال بعض السلف: لا تنظر إلى عمل الفقيه، ولكن سله يصدقك ] [ مجموع الفتاوى 22/227 ]، وقال كذلك: [ ومن تكلم في الدين بلا علم كان كاذبًا، وإن كان لا يتعمد الكذب، كما ثبت في الصحيحين عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما قالت له سبيعة الأسلمية، وقد توفي عنها زوجها سعد بن خولة في حجة الوداع فكانت حاملاً فوضعت بعد موت زوجها بليالٍ قلائل، فقال لها أبو السنابل بن بعكك: ما أنت بناكحة حتى يمضي عليك آخر الأجلين, فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: [ كذب أبو السنابل, بل حللت فانكحي ] [ مجموع الفتاوى 10/449 ].
* من يملك حقّ التكلُّم بالعلم:
ممَّا يهمُّ المسلم المعاصر لهذا الزمن, أن تكون له بيِّنة لصفات من يُؤخذُ عنهم العلم, ومعرفة جليَّة لسمات أهله وأصحابه؛ لئلاَّ يختلط عليه الحق بالباطل, والصواب بالخطأ, وليعبد الله على بصيرة وبيِّنة، خصوصًا أنّ أحاديث صريحة أتت عن رسول الله ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ في التحذير ممن يتقمصون مسوح العلم وينطقون به, ومن أئمة الضلال الذين يحكمون بالجور والجهل, ومن ذلك أنَّه ـ عليه الصلاة والسلام ـ قال: [ سيأتي على الناس سنوات خدَّاعات يُصَدَّقُ فيها الكاذب, ويُكَذَّبُ فيها الصادق, ويؤتمن فيها الخائن, ويخوَّن فيها المؤتمن, وينطق الرويبضة. قيل: وما الرويبضة؟ قال: الرجل التافه, يتكلم في أمر العامَّة ] أخرجه ابن ماجه [4042 ]، وأحمد في المسند [ 2/291 ] بسند حسن, وانظر السلسلة الصحيحة للألباني [ 1887 ]، وثبت عند أحمد من حديث أبي الدرداء أنَّ النبي ـ صلى الله عليه وسلَّم ـ قال: [ إنَّ أخوف ما أخاف عليكم الأئمة المضلون ] [ المسند 6/441 ]، وحدَّث عبد الله بن عمرو بن العاص ـ رضي الله عنهما ـ أنَّ رسول الله ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ قال: [ إنَّ الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد, ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتَّى إذا لم يُبقِ عالمًا؛ اتخذ الناس رؤوسًا جهَّالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم؛ فضلُّوا وأضلُّوا ] [ أخرجه البخاري 1/174،175 في كتاب العلم, ومسلم واللفظ له 4/258 ].
لأجل هذا يتحتَّم على مبتغي طريق الحق, ومريد طوق النجاة وسبيل الفلاح أن يعرف صفات من يأخذ عنهم العلم؛ لئلا يضيع الطريق الشرعي, ويضل السبيل, وسأذكرها في عدَّة نقاط:
*صفات من يؤخذ عنهم العلم:
1ـ خشية الله تعالى:
وهي صفة لصيقة بأهل العلم الراسخين الربَّانيين, الذين يخشون ربهم, ويراقبونه في ما دقَّ وكبر, جليلاً كان أو حقيرًَا, فخشية ربَّهم ملازمة لهم, لا يحيدون عنها ولا يتحايلون عليها, بل هم لله وبالله وعلى الله يفضون له جميع أمورهم, ويتعلقون بحبال الرجاء والخشية منه، ولهذا كان يقول جمع من أهل العلم كابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ وغيره: [ كفى بخشية الله علمًا, وكفى بالاغترار به جهلاً ]، وحين نادى أحدهم الإمام الشعبي قائلاً له: يا عالم. فقال الشعبي: [ إنَّما العالم من يخشى الله ]، وكان طلاب العلم لا يتلقون العلم إلاَّ عمَّن عُرف بالخشية والخشوع, فقد قال النخعي ـ رحمه الله ـ: [ كان الرجل إذا أراد أن يأخذ عن الرجل نظر في صلاته وفي حاله وفي سمته, ثمَّ يأخذ عنه ].
2ـ تلقي العلم عن الراسخين في العلم:
وذلك لئلاَّ تكون له منهجية مبعثرة في قواعد الترجيح, ودلائل الاستنباط, وأن يكون تلقيه من أفواه العلماء وشفاههم؛ فيكون متقنًا للأحكام, ولهذا كان السلف الصالح كالإمام الشافعي يقول: [ من تفقه من بطون الكتب ضيَّع الأحكام ] [ تذكرة السامع والمتكلم /83 ].
فلا يعقل آيات الله, ولا يفقه أحكامها ويستنبط دلائلها إلا البارعون في العلم, كما قال تعالى: [ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ ] [العنكبوت: 43]، وكقوله تعالى: [ وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُم] [النساء: 83]؛ فأهل العلم هم أوْلى الناس باستنباط أحكام الدين وشرائعه. قال محمد بن سراقة البصري: حقيقة الفقه عندي: الاستنباط. قال تعالى: [ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُم ] [ المنثور في القواعد 1/67 ـ بواسطة: أصول الإفتاء والاجتهاد التطبيقي 1/68 لمحمد أحمد الراشد ]؛ لهذا حثَّنا الله تعالى على سؤالهم إن أشكل علينا أمر شرعي, فقال تعالى: [ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ] [الأنبياء: 7].
أخرج الدارمي في سننه في مقدمته: عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ [ خُذُوا الْعِلْمَ قَبْلَ أَنْ يَذْهَبَ ] قَالُوا: وَكَيْفَ يَذْهَبُ الْعِلْمُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ وَفِينَا كِتَابُ اللَّهِ؟ قَالَ: فَغَضِبَ ـ لَا يُغْضِبُهُ إلاَّ اللَّهُ ـ ثُمَّ قَالَ: [ ثَكِلَتْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ أَوَلَمْ تَكُنِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمْ شَيْئًا ؟! إِنَّ ذَهَابَ الْعِلْمِ أَنْ يَذْهَبَ حَمَلَتُهُ, إِنَّ ذَهَابَ الْعِلْمِ أَنْ يَذْهَبَ حَمَلَتُهُ ].
قال الإمام الشوكاني ـ رحمه الله ـ: [ إنَّ إنصاف الرجل لا يتمُّ حتَّى يأخذ كلَّ فنٍّ عن أهله كائنًا ما كان؛ فإنَّه لو ذهب العالم الذي تأهَّل للاجتهاد يأخذ مثلاً الحديث عن أهله، ثمَّ يريد أن يأخذ ما يتعلَّق بتفسيره في اللغة عنهم؛ كان مخطئًا في أخذ المدلول اللغوي عنهم, وهكذا المعنى الإعرابي عنهم فإنَّه خطأ ]، ثمَّ يؤكِّد الإمام الشوكاني هذه المنهجيَّة المتَّزنة بقوله: [ فالعالم إذا ظفر بالحق من أبوابه, ودخل إلى الإنصاف بأقوى أسبابه, وأمَّا إذا أخذ العلم عن غير أهله، ورجَّح ما يجده من الكلام لأهل العلم في فنون ليسوا من أهلها؛ فإنَّه يخبط ويخلط, ويأتي من الأقوال والترجيحات بما هو في أبعد درجات الإتقان وهو حقيق بذاك] ا.هـ [ أدب الطلب ومنتهى الأرب /76 ]
وكم من مدَّعٍ للعلم, متعالم مع جهل, ينظر لنفسه نظر الكبر والغرور؛ فيظنُّ أنَّ جمع العلم يكون من قراءته للكتب فحسب, فلا حاجة لأن يقرأ العلم على أهله, ولا ليثني ركبه عند أهل العلم, تلقيًا منهم ومذاكرة معهم, ومراجعة عليهم؛ ليعلو كعبه في العلم, ويعلم أنَّه [من البليَّة تشيُّخ الصحيفة]، وقد كان أهل العلم ينهون عن نيل العلم من الكتب فحسب, بل لابد من مقارنة ذلك بالحضور عند أهل العلم, والتلقي من الأشياخ؛ ليقوى باع الطالب في العلم, ويشتد عوده في الفهم, ويصلب مراسه لمعالجة مشكلات الكتب وما يكتنفها من مسائل غامضة. قال كمال الدين الشمني:
من يأخذ العلم عن شيخ مشافهةً يكن من الزيف والتصحيف في حرمِ
ومن يكن آخذاً للعلم من صحف فعلمه عند أهل العلم كالعدم
قال الأوزاعي : كان هذا العلم شيئاً شريفاً , إذ كان من أفواه الرجال يتلاقونه ويتذاكرونه, فلما صار في الكتب ذهب نوره وصار إلى غير أهله.
وحين يتأمل المرء في بعض الكتب الصادرة, وما يجد فيها من فهم خطأ لبعض نصوص الكتاب والسنَّة, وأقوال أهل العلم؛ يتيقن بأنَّ الخطأ ليس في صياغة الشيخ في كتابه بدلالاته اللغوية, ومعانيه الكلاميَّة, وإنَّما من الفهم القاصر لقارئ الكتاب؛ ممَّا يجعله ينزلق في الفهم القاصر, كما قال ابن القيم: [ما أكثر ما ينقل الناس المذاهب الباطلة عن العلماء بالأفهام القاصرة] [مدارج السالكين2/431]. وصدق من قال:
وكم من عائب قولاً صحيحاً وآفته من الفهم السقيم
ولا عجبَ أن ترى كثيراً من المسائل التي وقعت بها أخطاء علميَّة, أدَّت فيما بعد لأن تكون أقوالاً تنسب لبعض المنتسبين للعلم؛ لتكون خلافاً يحكى أمد الدهر, وذلك لقلَّة الفهم, وضعف العلم, ولو سكت هؤلاء القوم ولم ينطقوا لكان ذلك بهم أحرى وأوْلى من أن يتكالبوا على التدريس والتعليم, وبضاعتهم في العلم مزجاة, وممَّا يحسن إيراده في هذا المقام ما قاله كلثوم العتابي حيث قال: [لو سكت من لا يعلم لسقط الاختلاف ] معجم الأدباء[5/19] وقال أبو حامد الغزالي: [لو سكت من لا يعرف قلَّ الاختلاف, ومن قصر باعه وضاق نظره عن كلام علماء الأمَّة والاطِّلاع عليه فماله وللتكلُّم فيما لا يدريه, والدخول فيما لا يعنيه, وحق مثل هذا أن يلزم السكوت] [الحاوي للفتاوى2/116].
ولهذا كان أهل العلم ـ رحمهم الله جميعاً ـ إذا سئلوا عن مسألة ولم يعرفوا لها جواباً قالوا : الله أعلم, ولم يفذلكوا أو يكذلكوا, بل كانوا متَّسمين بالوضوح تجاه مستفتيهم, إن علموا حكم المسألة قالوا بها, وإن جهلوها قالوا لا نعرفها, بل كانوا لا يجزمون في فتاويهم ـ في بعض الأحيان ـ إن شعروا أنَّ المسألة قد تحتمل أوجهاً متعدِّدة, كما نقل عن الإمام مالك أنَّه في بعض الأحيان إن أفتى قال: [إن نظنُّ إلاَّ ظنَّاً وما نحن بمستيقنين] [جامع بيان العلم وفضله2/146] وممَّا نقل عن بعض أهل العلم حين كانوا لا يعرفون حكم المسألة أو يجهلونها, ما نُقِلَ عن علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ أنَّه قال: [وأبردها على الكبد إذا سئل أحدكم عمَّا لا يعلم, أن يقول : الله أعلم] [تعظيم الفتيا لابن الجوزي/81].
3ـ ألاَّ يكون من أصحاب تتبع الرخص, ومن المتساهلين في فتاويهم وتعليمهم:
والحقيقة أنَّ أصحاب تتبُّع الرخص صاروا يستمرؤون هذه الخصلة وخاصَّة في هذا الزمان, بل صاروا يأتوننا بأسماء جديدة للفقه, فطوراً يقولون: نحن من دعاة [تطوير الفقه الإسلامي] وتارة يقولون : نحن أصحاب مدرسة [فقه التيسير والوسطيَّة] وليتهم كانوا كذلك, فهناك فرق بين التيسير الذي هو سمة الفقهاء الراسخين, والتفريط الذي هو سمة المتساهلين!
بيد أنَّ التيسير والترخيص لا يؤخذ إلاَّ من رجل عالم ثبت ثقة، وأمَّا أن يؤخذ ذلك من كل أحد يدَّعي الاجتهاد والتعليم؛ فإنَّ ذلك هو المرفوض قطعاً, وبما أنَّ الربَّاني يرفض الغلو والتشديد, فهو كذلك يرفض الترخيص والتساهل من غير الثقات, لذا قال الإمام سفيان الثوري ـ رحمه الله ـ[إنَّما العلم عندنا الرخصة من ثقة فأما التَّشدد فيحسنه كلُّ أحد] [جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر 1/784]. فليفرَّق بين أصحاب مدرسة التيسير المتَّبعين لضوابط الشرع, وبين أولي التساهل والتفريط والتمييع وعلى هذا فقس، من أنصار تطويع الفتوى للواقع, وليِّ أعناقها لتواكب هذا العصر وتوازن ميوله واتجاهاته خشية أن يُنْبَزُوا بأنَّهم متشدِّدون متنطِّعون!
وصرنا نرى فتاوى يضحك الجهلاء منها, كشيخ يرى جواز كشف شعر المرأة لأنَّ هناك عالماً كان يرى كشف شعر المرأة , ولذا فلا بأس بأن تكشف المرأة شعرها, وشيخ يفتي النساء المسلمات ويدعوهنَّ إلى التَّخلِّي عن الحجاب تلافياً لموجة الاعتداءات على المسلمين التي شهدتها بريطانيا عقب الهجمات على لندن, وآخر يرى جوازَ بيعِ المسلمينَ للكفَّارِ الخمرَ, بدعوى الضرورة والحاجة:
أمور تضحك السفهاء منها ويبكي من عواقبها الحليم
وثالث يفتي بجواز التطبيع مع اليهود مع أنَّ إباحة ذلك قضيَّة خطيرة للغاية، وشيخ ٌيرى جواز إمامة النساء للرجال, أو يرى جواز التدخين لمن يقدر على شرائه, أو بمن يقول بجواز لبس البنطال للنساء في الشوارع بحجَّة أنَّه يستر جسدها, أو بجواز مصافحة المرأة الأجنبيَّة للرجل وتقبيله لها أو تقبيلها له, أو من شيخ يرى جواز أن يتغنَّى الفسقة المغنُّون بالقرآن ويعزفوا الوتر على آياته, وآخر ما اطَّلعت عليه ما نشر عن أحدهم بأنَّه يشكِّكُ في نزول عيسى بن مريم ـ عليه الصلاة والسلام ـ إلى الأرض في آخر الزمان , ضارباً على الأحاديث الواردة عن النبي ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ في إثبات هذه المسلَّمة العقديَّة ! وقد سمعت من ذلك عجباً لا أحبُّ أن أزيد به القارئ ضحكاً مزجياً بتعجُّبٍ واستغراب.
ومن الوسائل التي يحاول أدعياء تطوير الفكر الإسلامي أن يطرحوها , اتِّخاذ التلفيق الفقهي وسيلة لمعايشة ضغوط الواقع, والمقصود بالتلفيق: أن لا يلتزم المفتي أو مستنبط الحكم مذهباً معيَّناً في فتاواه وفي حكمه, بل يحاول أن يأخذ برخص الفقهاء, ونوادر العلماء, وتيسيرات المتقدِّمين؛ لتكون مناسبة لفقه القرن الواحد والعشرين, وهو قرن اندماج الثقافات مع الآخر الغربي/ الكافر؛ ليكون ذلك وسيلة على إظهار الإسلام بروح المعاصرة والمسايرة!
وقد اطَّلعت مؤخراً على كتاب جديد كتبه: [مراد هوفمان] بعنوان: [في تطوُّر الشريعة الإسلامية] يقرِّر فيه إسلاماً يسميه [الإسلام المعتدل] إذ يرى أنَّ الشريعة الإسلامية قابلة للتطور والمرونة؛ ولذا يرى أنَّ شهادة المرأة كافية وخاصَّة في الأمور الاختصاصيَّة بل وملزمة /صـ47، ويرى أنَّ تعدد الزوجات هو استثناء لحالات خاصَّة حيث يسمح به في حالة الأمَّهات الأرامل ممَّن لديهنَّ أطفال يتامى، أو مع يتيمات, أو لهدف العناية بالأيتام /صـ41، كما يرى أنَّه لا ينبغي إقامة حدِّ الردَّة على المرتد عن الإسلام /صـ53, ويرى أنَّ الإسلام ـ كنتيجة نهائية لبحث كتبه في عشرين سطراً ـ لم يقرَّ أبداً رجم الزناة /صـ55، بل يرى أنَّ الحديث عن مفاهيم دار الحرب ودار الإسلام للتعبير عن العلاقة بين الشرق والغرب بأنَّها مفاهيم تجاوزها الزمن /صـ65, إلى غير ذلك من الضَّلالات التي وقعَ فيها هذا الرجل؛ ليجعل أحكام الإسلام تُؤخذُ بهذه الطريقة المنهزمة, والمُمَيَّعة! [ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ] [يونس: 59]
ولولا أن يُظنَّ بنا غلوٌّ لزدنا في المقال من استزادا
فهذا الرجل وأمثاله الذين صار لهم توسع وانتشار, من الأشكال التَّي تعرض الدين الإسلامي بطريقة تجعل النصوص الإسلاميَّة ملويَّة أعناقها لتتواءم ـ كما زعموا ـ مع معطيات الحضارة, ومتغيرات الزمن؛ وليؤسٍِّسوا فقهاً اجتهاديَّاً جديداً يرعى مصالح الزمان, وضغوطه الدولية، والَّتي من أهمِّها أن ينظر الغرب إلى هذه العقول بأنَّها عقول مرنة ومنفتحة, وصدق من قال من علمائنا المعاصرين: إنَّ الاجتهاد لم يُفتح في هذا الزمان وإنَّما كسر كسراً! فرحم الله من قال:
إن رُمْتَ حقَّاً لهذا الدِّين مصلحة لا تظلم القوس أعط القوس باريها
ولقد كان علماؤنا الأجلاَّء يحرِّمون استفتاء المفتي المتساهل, كما ذكر الإمام ابن مفلح قائلاً: [ يحرم تساهل المفتي, وتقليد معروف به] [التقرير3/351 بواسطة : زجر الفقهاء عن تتبع رخص الفقهاء/66]، وكان الإمام أيوب السختياني ـ رحمه الله ـ يقول: [يخادعون الله كأنَّما يخادعون الصبيان] [أعلام الموقِّعين 4/176ـ177]؛ ولهذا شكا بعضهم إلى الفقيه ابن حجر الهيتمي أحدَ قضاة المسلمين , لأنَّه يشدِّد على الناس فلا يحكم إلاَّ بالقول الصحيح, ولا يسلك بهم مسلك التخفيف والترخيص فأجاب ـ رحمه الله ـ بقوله: [ما ذُكر عن هذا القاضي إنَّما يُعَدُّ من محاسنه لا من مساوئه؛ فجزاه الله تعالى عن دينه وأمانته خيراً, فإنَّه عديم النظر إلى الآن ـ ثمَّ قال: ـ فقيام هذا القاضي حينئذٍ بقوانين مذهبه, وعدم التفاته إلى الترخيص للناس بما لا تقتضيه قواعد إمامه يدلُّ على صلاحه ونجاحه وفلاحه] [الفتاوى الكبرى الفقهية 4/324 بواسطة زجر الفقهاء عن تتبع رخص الفقهاء لجاسم الدوسري/22, وكتاب تحذير الفضلاء للمقطري/35ـ36]
ولهذا فإن المنتسبين لأصحاب مدرسة [فقه التيسير ـ أي التساهل والتمييع لقضايا الشريعة ـ] المدَّعين أنَّهم أولو الوسطيَّة والاعتدال؛ فإنَّك واجد في كتاباتهم ودروسهم وفتاويهم عجائب من الأقاويل, التي يرون أنَّهم بها قد وافقوا بين الأصالة الفقهية, والمعاصرة الزمانيَّة، ومن ذلك ما قاله الشيخ مصطفى المراغي لأعضاء لجنة وضع لائحة الأصول للأحوال الشخصيَّة ـ وكان رئيسها ـ : [ضعوا من المواد ما يبدو لكم أنَّه موافق الزمان والمكان, وأنا لا يعوزني بعد ذلك أن آتيكم بنص من المذاهب الإسلاميَّة يطابق ما وضعتم] [تراجم الأعلام المعاصرين لأنور الجندي/ص428].
آه من دهر خؤون أهله لا يرون العلم للدين شعارا
طلبوا علماً بماضي غيرهم حالهم أحسن إذ كانوا صغارا
فإذا ما الشيب في أذقانهم ملؤوا الآفاق ظلماً وبوارا
وقد كان أهل العلم يحذِّرون أشدَّ التحذير من الأخذ برخص العلماء وزلاَّتهم, وأن تُجعل ديناً يدين العبد بها ربَّه, فإنَّ ذلك علامة على ضعف الإيمان, وقلَّة الديانة, قال الأوزاعي: [من أخذ بنوادر العلماء خرج من الإسلام] [السير/125].
4ـ أن يكون له باع طويل في تلقِّي العلم والاجتهاد في تحصيله:
إنَّ ضرورة التأصيل العلمي, وقوَّة التمكن الشرعي, له أثره البالغ ـ ولا شكَّ ـ في أهليَّة العالم أو المعلِّم وقت تعليمه وكتابته وإفتائه, ذلك أنَّه يعطي المتعلِّم أو المستفتي اطمئناناً لمن يسأله، والقارئ ارتياحاً لما يكتبه الداعية المعلِّم، وقد كان أهل العلم الربَّانيين السابقين منهم واللاحقين يطلبون العلم, ويجتهدون في نيل مرامه, من المهد إلى اللحد، كما قال الإمام أحمد, فكانوا لا يفارقون كواغد العلم, ولا أوراق الشريعة, فهي معهم في حلِّهم وترحالهم, بل لا يتركون معلِّميهم وأساتذتهم في طلب العلم عليهم بثني الركب عندهم، ولك أن تعلم أنَّ إماماً كابن الجوزي طلب علم القراءات وقد كان باقعة في العلم, علاَّمة في الإدراك والفهم, مشهوراً بين الأنام, ومع ذلك يطلب هذا العلم مع ابنه الصغير وهو في سنِّ السبعين, ولم يكن كبر عمره, وشرف رسوخه في العلم, حائلاً بينه وبين طلب العلم, وملازمة أخذه وإدراكه, والعيش معه ليل نهار, حفظاً واطِّلاعاً وبحثاً ومذاكرة وفهماً وتعليماً وإفتاءً, وقد قال علماؤنا بأنَّه: من لم يتقن الأصول حرم الوصول.
إلاَّ أنَّ القضيَّة ـ وللأسف ـ اختلفت وخاصة في هذا الزمان الذي كثر فيه المستعجلون للتدريس, والمتزبِّبون قبل أن يتحصرموا, والمدَّعون للعلم والعلم بريء منهم [فعلى هذا لا يكتفي بمجرَّد انتسابه إلى العلم, ولو بمنصب تدريس أو غيره, لا سيما في هذا الزمان الذي غلب فيه الجهل, وقلَّ فيه طلب العلم, وتصدَّى فيه جهلة الطَّلبة للقضاء والفتيا, فتجد بعضهم يقضي ويفتي وهو لا يحسن عبارة الكتاب, ولا يعلم صورة المسألة, بل لو طولب بإحضار تلك المسألة وهي في الكتاب لم يهتدِ إلى موضعها, فإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون:
لقد هزلت حتَّى بدا من هزالها كلاها وحتَّى سامها كل مفلس]
[ما بين القوسين من رسالة في الاجتهاد والتقليد ـ للشيخ: حمد بن ناصر بن معمَّر/48ـ49]
حتَّى قال الأستاذ: مالك بن نبي ـ رحمه الله ـ : [والحقيقة أنَّنا قبل خمسين عاماً كنَّا نعرف مرضاً واحداً يمكن علاجه, هو الجهل والأميَّة, ولكننا اليوم أصبحنا نرى مرضاً جديداً مستعصياً هو[التعالم]. وإن شئت فقل: الحرفيَّة في التعلُّم , والصعوبة كلَّ الصعوبة في مداواته . وهكذا فقد أتيح لجيلنا أن يرى خلال النصف الأخير من هذا القرن ظهور نموذجين من أفراد في مجتمعنا: حامل المرقعات ذي الثياب البالية, وحامل اللافتات العلميَّة] [شروط النهضة/91 ]. ولهذا فإنَّ أحد متعالمي زماننا، وهو مهندس ميكانيكي، أخرجَ كتاباً عنوانه: [ إصلاح أكبر خطأ في تاريخ الأمَّة الإسلاميَّة] حيث يدَّعي أنَّ مسند الإمام أحمد ليس للإمام أحمد وإنَّما لابنه عبد الله, بدعوى أنَّ المسند قبل كلِّ حديث أو أثر مرويٌّ بسنده, يبدأ به بقوله حدَّثنا عبد الله, قال حدَّثنا الإمام أحمد، فخرج هذا المسكين بالنتيجة العلميَّة التي لم يدركها جميع علماء الحديث على مرِّ الزمن, واستخرجها هو بفطنته وعلمه وكياسته, ولم يعلم هذا المتعالم أنَّ مسند الإمام أحمد قد رواه عنه كاملاً ابنه عبد الله؛ ولهذا كُتب فيه: حدَّثنا عبد الله ابن الإمام أحمد, وصدق من قال: العلم فضَّاح لغير أهله.
كلُّ من يدَّعي بما ليس فيه فضحته شواهد الامتحان
بل وصل بعضنا إلى درجة [الانحطاط الفكري] في تلقِّي العلم الشرعي ممن لم يعرف عنه نبوغه به, فقد حدَّثني أحد العلماء المعاصرين عن أحد الكتَّاب الغربيين الذين انتسبوا لدين الإسلام, أنَّه استُضيف في أحد الفنادق، وكان حضور الناس إليه بالمئات, وكان ممَّن حضر ذلك المؤتمر النساء المسلمات, وبدؤوا يسألونه عن كلِّ صغيرة وكبيرة وصاحبنا الغربي لا يفتأ يجيب عن كلِّ ما يسأل عنه, حتَّى إنَّ إحدى النساء الحاضرات سألته عن مسألة من مسائل الحيض المشكلة عليها ليجيب عنها بما يراه مناسبًا, والعجيب أنَّ المقدِّم له يسأله عن ذلك وهو يعلم أنَّ ذلك الرجل المنتسب لدين الإسلام حديث عهد بإسلامه ! فكيف بالله يلج هذا الرجل تلك المداخل وهو قريب عهد بالإسلام؟! ورحم الله ابن رشد إذ قال: [كان العلم في الصدور واليوم صار في الثياب][ خلاصة الأثر للمجبي 1/275ـ بواسطة التعالم للشيخ الدكتور بكر أبو زيد /صـ35].
ولن أستطرد بذكر شيء من هذا القبيل؛ فلا أحبُّ أن أنكأ الجراح, ولا أذرَّ الملح على الجراح! ولله درُّ الإمام ابن تيميَّة حين نَقَلَ عن بعضهم: [وقد قال بعض الناس: أكثر ما يفسد الدنيا نصف متكلم, ونصف متفقه, ونصف متطبب, ونصف نحوي, هذا يفسد الأديان وهذا يفسد البلدان, وهذا يفسد الأبدان, وهذا يفسد اللسان] [مجموع الفتاوى5/118].
5ـ أن يتلقَّى العلم ممَّن يقدِّر العلماء ويحترمهم.
المسلم الذي يهوى الحق ويطلبه؛ لابدَّ أن تكون لديه علامة لحبِّ أهل العلم وإنزالهم منزلتهم, واحترام علمهم, وقد أخبرنا رسول الله ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ كما في حديث عبادة بن الصامت ـ رضي الله عنه أنَّه قال ـ: [ليس من أمتي من لم يجل كبيرنا, ويرحم صغيرنا, ويعرف لعالمنا حقَّه] [أخرجه أحمد بسند جيد].
بيد أنَّ المطَّلع على حال الكثير من الصحفيين ـ وهم الذين يأخذون العلم من الكتب دون المشايخ ـ كما قال الزمخشري في التعاريف[1/449] أو من يتسمَّون بالصحافيين وهم جمَّاعو الأخبار, فسيجد المراقب لكتاباتهم شيئاً عجيباً من قلَّة احترام العلماء, والاستهانة بعلمهم, بل الاجتهاد في تحقيق كثير من القضايا في مجلاَّت لم تُعرف بروح العلم, بل عرفت بالعلمنة والفسق, ثمَّ يأتي أحدهم ويناقش قضيَّة حكم استماع الموسيقى والأغاني في نصف صفحة, ويعرض قول من شذَّ رأيهم في إجازة الاستماع لتلك المعازف, ويعرض بل يشنِّع ويشغِّب على العلماء الذين أفتوا بحرمتها, وخاصَّة في هذا العصر؛ لأنَّ تلك الفتوى لا تتواءم مع القرن الحادي والعشرين!
بينما تجد عند السابقين من طلاَّب العلم قمَّة احترامهم لعلمائهم, فهذا لا يطرق الباب على شيخه إلاَّ بأطراف أصابعه, وهذا يهاب من النظر إليه إجلالاً له واحتراماً, وآخر يخشى أن يزعج شيخه بتصفُّح الأوراق أمامه والانشغال عن درسه بها, وهذا ينتظر شيخه من المساء إلى الصباح وقد سفَّته الرياح حتَّى يفتح الشيخ له بابه, وآخر لا يأتي عند شيخه إلاَّ ويقبِّلُ يده ويدعو له بالخير, وآخر لا يصلي صلاة إلاَّ ويدعو لشيخه بالخير والجنَّة, ورحم الله ربيعة بن أبي عبد الرحمن إذ قال: [الناس في حجور علمائهم كالصبيان في حجور أمَّهاتهم] [شرح ابن أبي العز للطحاوية1/105].
أمَّا الآن فتجد أنّ القوم المتعالمين إذا تعلم أحدهم مسألة أو عشر مسائل, بدأ يكتب في الصحف والمجلاَّت والجرائد، وينشر علمه الغزير! فيخطِّئ الأئمة المجتهدين, ويستدرك عليهم ما يظنُّه من زلاَّتهم, بدعوى الحجَّة الزائفة: [هم رجال ونحن رجال]، ولا شكَّ أنَّ الاحتجاج بهذه المقولة حجَّة ساقطة لوجوه:
الوجه الأوَّل: أنَّ الاحتجاج بهذه الكلمة غير صحيح؛ لأنَّ الذي قالها الإمام أبو حنيفة, كما نقل مقولته عنه ابن حزم ـ رحمه الله ـ: [ ما جاء عن الله تعالى فعلى الرأس والعينين, وما جاء عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فسمعاً وطاعة, وما جاء عن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ تخيَّرنا من أقوالهم, ولم نخرج عنهم, وما جاء من التابعين فهم رجال ونحن رجال ] [الإحكام لابن حزم4/573]، فأبو حنيفة حين قال هذه الكلمة, فقد قالها لأنَّه يصنَّف من التابعين, حيث رأى أنس بن مالك, واجتمع مع جمهرة من التابعين الأكابر، فيصدق عليه أنّه رجل وهم رجال لأنَّه هو وهم من التابعين, ومن لنا بعلم أبي حنيفة في هذا العصر, لنقول فيه: هو رجل وهم رجال!
الوجه الثاني: أنَّ هناك فرقاً عظيماً بين هؤلاء الرجال العصريين, ومن قبلهم من الرجال السابقين؛ لأنَّ التابعين هم من القرون المفضَّلة, التي امتدحها رسول الله؛ وهو ما أدَّى بابن رجب إلى أن يؤلِّف كتاباً بعنوان: [فضل علم السلف على علم الخلف]، ولذا فإنَّ كلام السلف قليل كثير البركة, وكلام الخلف كثير قليل البركة.
الوجه الثالث: أنَّ من يدَّعي أنَّه رجل ينبغي عليه أن يعرف قدره وقدر الرجال الذين سبقوه, وإذا كان أبو عمرو بن العلاء يقول: [ما نحن فيمن مضى إلاَّ كبقل في أصول نخل طوال] [سير أعلام النبلاء 6/407] مع أنَّ أبي عمرو يعدُّ في عُرف أهل السير شيخَ القرَّاء والعربية.
فهؤلاء المدَّعون للعلم والشيخوخة في طلبه, لم يعرفوا قدر علمائهم, وإذا كانوا يعدُّون أنفسهم أنَّهم رجال, فإنَّ الرجال يحترم بعضهم بعضاً, وأوْلى بهؤلاء المدَّعين للرجولة أن يقال في حقِّهم ما قاله الشيخ عبد الرزاق عفيفي لأحدهم حين ادَّعى أمامه تلك الدَّعوى قائلاً له : نعم ... هم رجال ... وأنت دجَّال!!
ورحم الله مجاهداً حين قال: [ذهب العلماء فلم يبقَ إلاَّ المتكلِّمون, والمجتهد فيكم كاللاعب فيمن كان قبلكم] [أخرجه أبو خيثمة في كتاب العلم/66]؛ فالله المستعان.
وفي الختام:
فإنَّ مريد الحق, ومبتغي سبل الهدى, ينبغي أن يحتاط في الأخذ لدينه, وأن يعرف من يؤخذ عنهم العلم, وما صفاتهم, وقد كان علماؤنا الأجلاَّء يُعْنَوْنَ بهذه القضيَّة أشدَّ الاعتناء, فقد قال الإمام محمد بن سيرين ـ رحمه الله ـ: [إنَّ هذا العلم دين؛ فانظروا عمَّن تأخذون دينكم] [شرح مسلم للنووي1/84]. فليس كلُّ من لبس لباس العلم يؤخذ عنه, وليس كلُّ من صدَّره الإعلام والفضائيَّات والصحف يُظَنُّ أنَّه ذلك الرجل الخِرِّيت الذي فقه دين الله, ورضي بمقتضاه, وألمَّ بفحواه, وليس كلُّ من كتب مقالاً أو بحث مسألة شرعيَّة أو كتب كتاباً يعدُّ عالماً أو طالباً للعلم, أو مؤهَّلاً لأن يؤخذ عنه العلم, ويكفي أنَّ أئمتنا قالوا: ليس العلم بكثرة الرواية والدراية, ولكنَّه نور يقذفه الله في قلب المؤمن الموفَّق, مصداقاً لقوله تعالى: [ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُم ] [البقرة: 282]. قال الإمام ابن القيِّم:
والعلم يدخل قلب كلِّ موفَّق من غير بوَّاب ولا استئذان
ويردُّه المحروم من خذلانه لا تشقنا اللهم بالخذلان
فاعرف يا ابن الإسلام دينك, واختر لنفسك عالماً متفقِّهاً في دين الله تنهل منه العلم, وتأخذ عنه الفتوى, وإيَّاك ومشايخ السوء، فعنهم ابتعد, ولهم خالف, وعلى آرائهم فاضرب, متأسِّياً بقول العربي الأصيل: [ليس ذا عشَّك فادرجي].
كتبت هذا المقال مذكِّراً بأهمِّيَّة هذه القضيَّة, ومنبِّهاً لها في زمن قلَّ فيه من يعطي لأهل العلم الربَّانيين قدرهم, ويعرف علمهم, وما أنا ـ والله ـ إلاَّ رجل مستفيد من بضاعتهم, متطفِّل على موائدهم, فرحمني الله برحمته، وجعلني ممَّن يهتدي بهدي نبيِّه وصحابته.
أسير خلف ركاب النُّجب ذا عرج مؤمِّلاً كشف ما لاقيت من عوج
فإن لحقت بهم من بعد ما سبقوا فكم لربِّ الورى في ذاك من فرج
وإن بقيت بظهر الأرض منقطعاً فما على عَرَجٍ من ذاك في حرج
سائلاً المولى أن يعصمنا من الفتن, وأن يحفظنا من زلل القول والعمل, والحمد لله ربِّ العالمين.
==============
#المرأة الأمريكية والتاريخ!!
الأحد غرة ذي الحجة 1426هـ – 1 يناير 2006م
الصفحة الرئيسة
د.باسم خفاجي
مفكرة الإسلام: لعبت المرأة دوراً هاماً في تاريخ البشرية، وكان لها دور حاسم في تغيير مجرى الكثير من أحداث العالم. وعرفت البشرية عبر حضاراتها المختلفة نساء عظيمات، ولكن بعض الحضارات فشلت في أن تنجب للبشرية نساء يذكرهن التاريخ، بينما نجحت حضارات أخرى في إنجاب نساء كان لهن أثراً ملموساً في حضارات أممهم.
ومن اللافت للنظر أن أمريكا – رغم حضارتها المدنية – قد فشلت في أن تقدم للبشرية امرأة واحدة من سلسلة النساء اللائي ساهمن في صياغة تاريخ البشرية. ليست أمريكا هى الحضارة الوحيدة التي لم تقدم للعالم نساء يعرفهن التاريخ، فكلا من الحضارة الرومانية واليونانية لم تنجحا أيضاً في ذلك، وكذلك الحضارة الصينية.
عندما غادر سيموند فرويد – عالم النفس المعروف – أمريكا عائداً إلى النمسا ذكر أن أحد التجارب الأمريكية الهامة هى تجربة تحرير المرأة، وأعرب عن اعتقاده أن التجربة لن تنجح في إسعاد المرأة الأمريكية، ولعله كان محقاً في ذلك. لقد حصلت المرأة الأمريكية على العديد من الحقوق المدنية، ولكنها فقدت في المقابل العديد من الحقوق الإنسانية، ويفسر ذلك انتشار الإكتئاب والانتحار والطلاق والأمراض النفسية لدى المرأة الأمريكية بدرجة أكبر من معظم الدول الصناعية المتقدمة، وأعلى بدرجة كبيرة من باقي دول العالم.
إن الحفاظ على الحقوق الإنسانية للمرأة أهم من الحفاظ على الحقوق المدنية لكي يحافظ المجتمع على توازنه رغم استحقاق المرأة لكل من الحقوق المدنية والإنسانية ليس مناً من الرجل، ولكنه حق سنه الخالق لها. ولكن التاريخ يشهد أن المرأة نجحت بشكل أكبر في التأثير على المجتمع عندما تمتعت بكامل حقوقها الإنسانية من محبة وتعاطف المجتمع معها، وتقدير الرجل لدورها في بناء الأمة حتى وإن لم تتمتع بكل الحقوق المدنية التي تمتع بها الرجل.
لقد ساهمت المرأة في القرون الماضية في صناعة تاريخ أوربا الحديث رغم عدم حصولها على الحقوق المدنية المتعارف عليها اليوم. وشهدت أوربا إنجازات الملكة فيكتوريا في بريطانيا. والإمبراطورية كاثرين في روسيا القيصرية، وجين دو آرك التي وحدت فرنسا. كان للحضارات الأخرى التي احترمت المرأة واحاطتها بالحب والتقدير نصيبها الوافر أيضاً من نساء التاريخ.
فقد أنجبت الحضارة المصرية كليوباترا، وكذلك الحال مع الأمة الإسلامية التي أخرجت للعالم العديد من النساء اللائي صنعن التاريخ وغيرن من مساره أيضاً وعلى رأسهن أمهات المؤمنين عائشة وخديجة رضي الله عنهن.
إن الحضارات تنجب عظيمات عندما تحظى المرأة باحترام وتقدير المجتمع، وعندما يحيطها المجتمع بالمحبة والتعاطف، وليس بالتنافس والإستغلال. ومن يظن أن المرأة كانت مهملة في تاريخ البشرية قبل القرن العشرين، فليعيد قراءة التاريخ فقد فاته الكثير.
لم يذكر التاريخ عائشة رضي الله عنها أو كليوباترا أو الملكة فيكتوريا فقط لأن مجتمعاتهم شملتهن بالمحبة والتقدير .. ولكن لأن المرأة في تلك الحقب التاريخية كانت محل المحبة والإحترام من كل المجتمع لكل النساء. لم تحتج المرأة في تلك الأيام أن تتعرى لكي تعرف وتشتهر، ولم تستخدم المرأة كسلعة إعلانية أو سائقة شاحنة لكي تنعم بالحرية. لقد تحررت المرأة في أمريكا، وأصبحت قادرة على منافسة الرجال في معظم ميادين الحياة، ونجحت في الحصول على حق الإنتخاب وحق استخدام قدراتها وأحياناً حتى جسدها للنجاح المادي، ولكنها فقدت الكثير من محبة المجتمع واحترام الأجيال الناشئة، ولذلك فقدت السعادة، وتوارت عن صفحات التاريخ.
=============
#صنعة الخط والمخطوط والوراقة والفهرسة في الحضارة الإسلامية
الاثنين 24 ذي القعدة 1426هـ – 26 ديسمبر 2005م
الصفحة الرئيسة
مفكرة الإسلام : صدر مؤخرا في دمشق كتاب بعنوان صنعة الخط والمخطوط والوراقة والفهرسة في الحضارة العربية الإسلامية من تأليف عبد القادر أحمد عبد القادر .
يتناول الكتاب مواضيع تتعلق بتاريخ المكتبات الإنسانية منذ ما قبل الميلاد، ويستفيض المؤلف في تعريف المخطوط العربي ومكوناته المادية ومضامينه من الغلاف وعنوانه، وحتى التقيدات والحواشي والهوامش المسجلة على جوانب صفحات المخطوط، والجذاذات المثبتة جانب المواقع والمواضيع الشارحة لبعض بنود المخطوط، أو المفسرة لبعض الكلمات والرموز أو المصححة لخطأ تاريخي أو علمي أولغوي وقع فيه المؤلف أو سها عنه الناسخ أو فوائد يضيفها مالك المخطوط أو قارئه.
وأشار المؤلف إلى صيغ تملك أو شراء أو مطالعة أو قراءة أو سماع أو ما كتب على الأوراق الملحقة بالمخطوط في وسطه أو آخره بعد بداياته.
حفل الكتاب بتعاريف منهجية اصطلاحية للمخطوط العربي الإسلامي من ناحية مضامينه الفقهية والتاريخية والعلمية والفكرية في علوم الفلك والإسطرلاب والأرض، وكذلك بمتابعة مكوناته المادية من الورق والمداد وأنواعه وألوانه وثباته، وأنواع الخط ومدارسه وأشكال الزخرفة لمقدمته وإطار صفحاته، وركز علي الكيفية التي يتم بها إنهاء المخطوط سواء عليه أكتبها المؤلف أو الناسخ.
وتطرق المؤلف إلى المكتبات المحلية والدولية التي تحتفظ بنسخة أو نسخ من بعض المخطوطات.
وعرّف بكلمة الفهرسة التي تعني السجل الذي تكتب فيه أسماء الكتب ومنحى تطورها ومعناها اصطلاحيا ويأخذ بيد الباحث والدارس ليجد ما يساعده على معرفة الكتاب ومؤلفه وموضوعه وتاريخ تأليفه ودار نشره.
وفرّق بين فهرسة المخطوطات القلمية وفهرسة المطبوعات الحجرية وبين الكتب المواكبة لتطور التنفيذ الآلي والحاسوبي وفق معايير عالية الدقة والإخراج الطباعي.
ولاحظ المؤلف ضرورة التنبه للمهام التي ينبغي أن يراعيها المفهرس لمكان النسخ أو الطبع وأنواع الخط الذي كتب به المخطوط، وعدد أجزائه إن جاوز المجلد الواحد وعدد الأوراق ومقاسها طولا وعرضاً وعدد الأسطر في كل صفحة وهل تم تدقيق المخطوط ومراجعته من خبير إضافة للمصنف أو الناسخ، وعرّف بمضمون بطاقة فهرسة المخطوطات المصورة ـ الميكروفيلم ـ وبالرموز المستخدمة في المخطوطات والمطبوعات لعلة الاختصار.
وينتقل لبيان أهمية التصنيف في علم فهرسة المخطوطات لتنظيمها، بهدف تسهيل استخدامها والتعريف بها. وعرّج على تعريف التنصيف لغة ومصطلحاً على تعدادها بين المؤلفين الإسلاميين وصولاً بها حتى تعاريف الاختصاصين المعاصرين لعلم المكتبات الدولية والمحلية، بناءً على تراكم معلوماتهم وخبراتهم ومهاراتهم في تقسيم العلوم من كلياتها إلى أجزائها والتدرج فيها من الأعم إلى الأخص في كل اختصاص.
ويعني تصنيف المخطوطات ضم الموضوع المتعلق بجانب معين في حزمة واحدة، فتنضم كتب الفقه وفروعها في حزمة واحدة، وكتب الطب واختصاصاتها قديماً وحديثاً في رزمة وكذلك فروع الفيزياء والكيمياء والرياضيات والفلك والجيولوجيا والميكانيكا» وتطرق الباحث عبد القادر أحمد عبد القادر إلى أنظمة الفهارس المعاصرة وتطور تقنياتها وهي: نظام التصنيف العشري العالمي، نظام مكتبة الكونغرس الذي يقسم الموضوعات إلى واحد وعشرين قسماً رئيساً منها دوائر المعارف، والفلسفة، والدين، والتاريخ،السياسة، القانون، التربية والتعليم، الموسيقى، الفنون الجميلة، اللغات، والآداب، العلوم، الطب، الزراعة، التقنيات، العلوم العسكرية والبحرية، والببلوغرافيا وعلم المكتبات.
وبيّن الباحث الفوارق بين نظام تصنيف المخطوطات ونظام تصنيف المطبوعات. ويستتبع التصنيف للمخطوطات الأصيلة أو المصورات الرقمية أو الفيلمية أو الأقراص المدمجة CD كل تفصيل لصناعة فهرسة المخطوطات التي تبدأ بالرقم، والعنوان، الناسخ، تاريخ التأليف، النسخ، عدد الأوراق، قياسها، وشكل الحظ، والمراجع، والملاحظات، الإجازات، السماعات ، التملكات والتحبيسات وهذه جميعها تعطي الباحث والدارس لمحة تقريبية عن حالة المخطوط أو الكتاب وفيما إذا كان مصوباً ومصححاً، ومن ذلك أن الباحث عبد القادر أحمد عبد القادر وجد في مخطوط الأمالي الشجرية، الجزء الثالث، لابن الشجري، هبة الله بن علي [542 هـ]، نسخة الخزانة العامة بالرباط، رقم 4255/342 مكناس: المصورة على الفيلم 3190، وفيه قرأ جميع هذا الكتاب وهو الامالي على مصنفه سيدنا الأجل.. أدام الله أيامه الشيخ الأمام العالم النحوي أبو الغنائم حسن بن محمد بن شعيب الو اسطي.
وثبّت هذا السماع أبو محمد حسن بن علي بن عبيد المقري، وذلك في مجالس آخرها يوم الاثنين خامس رجب سنة تسع وثلاثين وخمسمائة، هذا صحيح.
ومما كتب من قراءة أبي الغنائم حسن بن محمد، ومن قراءة محمد بن محمد علي المؤلف، وما كتبه المؤلف من صحة لهذه القراءة، نستدل على أن هذه النسخة مصححة تصحيحاً كاملاً، وأن هذه النسخة كانت منسوخة سنة 539ه، فيقدر بذلك تاريخ نسخها في القرن السادس الهجري، إذ لم يسجل الناسخ تاريخ نسخها.
وأحاط الباحث بالمشكلات التي تواجه المفهرس، إذ تعد كل نسخة مخطوطة عالماً قائماً بذاته، وما يمكن ان ينطبق على نسخة مخطوطة قد لا ينطبق على سواها من المخطوطات.
والإشكاليات التي قد تعترض المحقق في مخطوط ما، نادراً ما تعترضه في مخطوط غيره بعينها تماماً لذا تعددت المعلومات وتراكمت الخبرات وتطورت المهارات المتعلقة بمشكلات فهرسة المخطوطات وتصنيفها من ناحية الحلول والقواعد المشفوعة من قبل المؤلف عبد القادر احمد عبد القادر بأمثلة معينة حية.
==============
#محمد كرد علي ..علامة الشام ومؤسس أول المجامع العربية
الأربعاء 12 ذي القعدة 1426هـ – 14 ديسمبر 2005م
الصفحة الرئيسة
محمد سيد بركة
مفكرة الإسلام : هو محمد بن عبد الرزاق بن محمد كرد علي، ولد في دمشق عام 1876 وعاش فيها. أصله من أكراد السليمانية [من أعمال الموصل]، تعلم في الكتاب القراءة والكتابة والقرآن الكريم، ودرس المرحلة الإعدادية في المدرسة الرشدية، ثم أتم تعليمه الثانوي في المدرسة العازارية.
عشق محمد كرد علي الكتابة والصحافة، وأولع بمطالعة الكتب وجمعها منذ صغره، وقد شجعه والده رغم أميته على اقتناء الكتب، وقدم له المساعدة الكافية لامتلاكها. ولما اشتد ساعده بالعلم واللغة أخذ يقرأ الصحف والمجلات بالفرنسية والتركية والعربية، فزادته المطالعة تعلقاً بالصحافة وعشقاً للمعرفة والعلم. وعندما كان في السادسة عشرة، كان يكتب الأخبار والمقالات ويدفع بها إلى الصحف، ولم تقف هواياته عند هذا الحد، بل أحب الشعر العربي، والسجع المنمق، وعكف على شيوخه ينهل من علمهم وأدبهم، وهم من مشهوري عصره في بلده أمثال: سليم البخاري، الشيخ محمد المبارك، والشيخ طاهر الجزائري.
في العام 1897 عُهد إليه بتحرير جريدة [الشام] الأسبوعية الحكومية، واستمر مدة ثلاث سنوات وكان يلتزم في مقالاته بالسجع. ثم أخذ كرد علي يراسل مجلة [المقتطف] المصرية لمدة خمس سنوات، فانتقلت شهرته إلى مصر.
رحل كرد علي إلى القاهرة، ولبث فيها شهوراً عشرة تولى خلالها تحرير جريدة الرائد المصري، وتعرف إلى علمائها وأدبائها، ورجال الفكر فيها، فاتسع أفقه وذاع صيته، وباتت شهرته في مصر لا تقل عن شهرة أدباء تلك الفترة وعلمائها الأعلام.
عاد كرد علي إلى دمشق، ورُفعت إلى واليها التركي وشاية به ففتش بيته، وظهرت براءته فهاجر إلى مصر عام 1906، وأنشأ مجلة المقتبس الشهرية نشر فيها البحوث العلمية والأدبية والتاريخية، كما قام بتحرير جريدة الظاهر ثم التحرير في جريدة المؤيد وهما يوميتان. وكان ينقل عن مجلات الغرب أحدث أنباء العلم والحضارة والاختراع والتقدم، كما ترجم عدداً من الكتب المخطوطة النادرة فجمع بين القديم والحديث.
عاد محمد كرد علي إلى دمشق عام 1908 بعد إعلان الدستور العثماني، وأصدر مجلة المقتبس وجريدة يومية أسماها المقتبس بالتعاون مع أخيه أحمد، كما أسس لها مطبعة خاصة، غير أن السلطة العثمانية ضايقته وحاربته ولاحقته وأغلقت الجريدة بعدما اتهمه أحد ولاة الترك بالتعرض للعائلة السلطانية في إحدى مقالاته، ففر إلى مصر ثم إلى دول أوروبا وعاد مبرأ، وتكرر ذلك في تهمة أخرى، فترك الجريدة اليومية لأخيه أحمد وانقطع للمجلة، واشتد جزعه بعد إعلان الحرب العالمية الأولى وابتداء حملة الانتقام من أحرار العرب، فأقفل المجلة والجريدة، وكاد يساق كما سيق غيره من نقدة نظام الاستبداد ودعاة التحرر إلى المشانق، إلا أنه أنقذته [خلاصة حديث] وجدت في القنصلية الفرنسية بدمشق كتبها أحد موظفي الخارجية الفرنسية قبل الحرب، وكان هذا قد زار كرد علي في بيته وأراد استغلال نقمته على [الاتحاديين] ليصرفه إلى موالاة السياسة الفرنسية في الشرق، فخيب كرد علي ظنه، ونصحه بتبديل سياستهم في الجزائر وتونس، وأيضاً مثلها [نشرة رسمية سرية] كان قد بعث بها سفير فرنسا في الأستانة إلى قناصل دولته في الديار الشامية يحذرهم بها من كرد علي ويقول: إنه لا يسير إلا مع الأتراك. وأوراق أخرى من هذا النوع أظهرها تفتيش القنصليات في أوائل الحرب، فدعاه جمال باشا إليه مستبشراً، وأعلمه بها وأنذره إن عاد إلى المعارضة ليقتلنه هو بمسدسه، ثم أمر بإعادة فتح الجريدة ومنحه مساعدة مالية. ثم ولاه تحرير جريدة [الشرق] التي أصدرها الجيش، فأمضى كرد علي مدة الحرب مصانعا بلسانه وقلمه، وظل يخشى شبح جمال باشا حتى بعد الحرب، وفي مذكراته ما يدل على بقاء أثر من هذا في نفسه إلى آخر أيامه.
تأسيس المجمع العلمي
وبعد دخول العهد الفيصلي واستقلال سورية عن الدولة العثمانية،
وجد كرد علي الفرصة سانحة لتحقيق الحلم الذي طالما راوده، ألا وهو إنشاء مجمع علمي عربي على غرار ما تفعله الأمم المتحضرة لحفظ تراثها وصون لغتها، ونشر آدابها وعلومها. وعرض الفكرة على الحاكم العسكري رضا باشا الركابي الذي وافق على قلب ديوان المعارف برئيسه وأعضائه مجمعاً علمياً عربياً. وكان ذلك في الثامن من حزيران عام 1919، وعُين محمد كرد علي رئيساً للمجمع.
تحول ذلك الديوان بجهد من رئيسه محمد كرد علي إلى 'المجمع العلمي العربي'، أو ما اشتهر بعد ذلك باسم 'مجمع اللغة العربية' للنهوض باللغة العربية وآدابها، وهو أول المجامع اللغوية ظهورا، وقد بذل محمد كرد علي جهدا كبيرا في تكوين هذا الصرح العلمي، ونجح في إبعاده عن التيارات السياسية والحزبية، وأنشأ له مجلة رصينة، صدر العدد الأول منها في [21 من ربيع الآخر سنة 1339هـ= 2 من يناير 1921م]، ونشر له على صفحاتها 41 مقالة أدبية وتاريخية، وفتح قاعة المجمع للجمهور لسماع المحاضرات العامة التي كان يلقيها رجال الأدب والفكر، وكان من نصيب محمد كرد علي منها 62 محاضرة.
وقد ظل محمد كرد علي رئيسا للمجمع العلمي طوال حياته، لم يشغله عنه منصب تولاه، وصار شغله الشاغل، لا يبخل عليه بوقت أو جهد، يمضي فيه معظم وقته ويعده بيته وملاذه.
كان المجمع عند كرد علي أغلى من فلذة كبده، وهبه كل حياته وكل نشاطه، كما وهب مجلته كل جهده وعبقريته ولم يكن ليتخلف عن التردد على المجمع إلا لأمر طارئ.
في الوزارة
وإلى جانب رئاسة المجمع العلمي العربي، اختير كرد علي لتولي وزارة المعارف سنة [1338هـ= 1920م] بعد استيلاء القوات الفرنسية على البلاد، وأثناء وزارته بعث عشرة من الطلاب لاستكمال دراستهم العالية في الجامعات الفرنسية، وطاف بأوروبا في زيارة علمية اتصل خلالها بالمستشرقين والعلماء، وسجل هذه السياحة العلمية في مقالات طريفة، جمعها مع غيرها في كتابه الذي ذكرناه آنفا 'غرائب الغرب'، ثم ترك الوزارة بعد خلاف مع الحكومة، واكتفى برئاسته للمجمع، وأُسند إليه تدريس الآداب العربية في معهد الحقوق بدمشق سنة [1343هـ=1924م]، وكان له الفضل الأكبر في تعليم الخطابة والإنشاء بهذا المعهد.
عاد كرد علي إلى الوزارة مرة أخرى سنة [1347هـ= 1928م] في حكومة الشيخ تاج الدين الحسيني، واغتنم فرصة وجوده في هذه الوزارة؛ فأنشأ مدرسة الآداب العليا، وجعلها تابعة للجامعة السورية، كما هيأ جميع أسباب افتتاح كلية الإلهيات، وأضيفت إلى الجامعة.
ولما أُنشئ مجمع اللغة العربية في القاهرة سنة [1352هـ= 1933م] كان محمد كرد علي واحدا من مؤسسيه الأُوَل.
وبعد خروجه من الوزارة ظل منصرفا إلى القراءة والكتابة، لا ينقطع عنهما، ولا يحول بينه وبينهما إلا المرض، وشغل وقته بإدارة المجمع العلمي العربي، وفي أواخر حياته أصدر مذكراته في 4 أجزاء، وقد أثارت دويا هائلا، وأوجدت له خصومات وعداوات.
آثاره الفكرية
وكان محمد كرد علي إماماً في الصحافة، وحجة في التحقيق، وعلماً في الكتابة والتأليف، وزعيماً من زعماء القلم والفكر في الوطن العربي، إذ كان أول من أنشأ جريدة ومجلة راقية في دمشق، وكان أول من أسس مجمعاً علمياً عربياً، ثم تلاه مجمع اللغة العربية في مصر ثم بعض المجامع الأخرى في عدد من بلدان الوطن العربي.
أما أسلوبه فقد وصف بالسهل الممتنع، فهو رقيق التعبير، بليغ باللفظ، الكلمات فيه على قدر المعاني، والجمل تطول حيناً وتقصر حيناً آخر، وهو في جميع الأحوال لا يتكلف ولا يتصنع، ويهدف إلى التركيز على المعنى دون أن يعطي كبير اهتمام للمبنى، وكان ينحو في كثير مما يكتبه منحى ابن خلدون في مقدمته.
جمع محمد كرد علي بين الصحافة والجامعة، والوزارة والمجمع العلمي العربي بدمشق، والمجمع اللغوي في مصر. وقد تولى وزارة المعارف مرتين في عهد الاحتلال الفرنسي.
كان محمد كرد علي من أصفى الناس سريرة، وأطيبهم لمن أحب عشرة، وأحفظهم وداً... وقد كتب في وصف نفسه: [خُلقت عصبي المزاج دمويه، محباً للطرب والأنس والدعابة، أعشق النظام وأحب الحرية والصراحة وأكره الفوضى، وأتألم للظلم، وأحارب التعصب، وأمقت الرياء].
يقف محمد كرد علي في المكانة الأدبية والعلمية الأولى بين أنداده الأعلام العرب. وقد بلغت مؤلفاته التي تركها اثنين وعشرين مؤلفاً، هي: - خطط الشام، وطُبع سنة [1344هـ= 1925م] في 3 أجزاء، وهو من أهم كتبه. - الإسلام والحضارة العربية، وطُبع في القاهرة في مجلدين سنة [1353هـ= 1934م].- أمراء البيان، وطبع بالقاهرة سنة 1937م.- أقوالنا وأفعالنا، ويضم عددا من مقالاته الإصلاحية، وطبع بالقاهرة سنة 1946م.-[تاريخ الحضارة] جزآن، ترجمه عن الفرنسية. ـ [غرائب الغرب] مجلدان. ـ [دمشق مدينة ***** والشعر]. ـ [غابر الأندلس وحاضرها]. ـ [القديم والحديث] وهو منتقيات من نقالاته. ـ [كنوز الأجداد] في سير بعض الأعلام. ـ [الإدارة الإسلامية في عز العرب]. ـ [غوطة دمشق]. ـ [المذكرات] أربعة أجزاء.
كما حقق كتبا من عيون من عيون التراث العربي، منها:- سيرة أحمد بن طولون للبلوي، وطُبع في دمشق سنة [1358هـ=1939م]
- المستجاد من فعلات الأجواد للتنوخي، وطبع بدمشق سنة [1366هـ= 1946م]- تاريخ حكماء الإسلام للبيهقي، وطبع بدمشق سنة [1366هـ= 1946م1947م].].- كتاب الأشربة لابن قتيبة وطبع بدمشق سنة [1367هـ= 1947].
وفاته
توفي محمد كرد علي يوم الخميس الثاني من نيسان [أبريل] 1952 في دمشق، ودفن بجوار قبر معاوية بن أبي سفيان في دمشق.
المراجع:
ـ عبد الغني العطري [عبقريات شامية، مطبعة الهندي، دمشق، الطبعة الأولى [1986].
ـ خير الدين الزركلي [موسوعة الأعلام، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة الخامسة 1980، الجزء السادس.
جمال الدين الألوسي - محمد كرد علي - دار الشئون الثقافية العامة -بغداد -1986م.
سامي الدهان -قدماء ومعاصرون -دار المعارف -القاهرة -1961م.
فضل عفاش -رحالات في أمة -دار المعرفة - دمشق -[1408هـ= 1988م].
محمد رجب البيومي -النهضة الإسلامية في سير أعلامها المعاصرين -دار القلم - دمشق [1415هـ= 1995م].
==============
#جهود العلماء المسلمين في تقدم الحضارة الإنسانية
الأربعاء 12 ذي القعدة 1426هـ – 14 ديسمبر 2005م

(2) أخرجه مالك في الموطأ، في الجهاد، النهي عن قتل النساء والولدان في الغزو (ح1292) عن يحيى بن سعيد مرسلا.
(3) حقوق غير المسلمين في بلاد الإسلام، للعايد ص 6 – نقلاً عن قصة الحضارة 13/131.
(4) معاملة غير المسلمين في الإسلام 1/256 – إعداد : المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية – الأردن .
(5) مستشرق فرنسي، كان يدرس اللغات الشرقية في باريس، له العديد من المقالات عن جغرافية البلدان الإسلامية، وألف كتاباً اسمه :"تاريخ فلاسفة المسلمين وفقهائهم". انظر : الأعلام للزركلي 5/120 .
(6) ينظر : هداية المرشدين، لعلي محفوظ ص 531، ومنهج الداعية في دعوته لغير المسلمين، لأسماء الوهيبي ص 13 .
(7) الحسبة في الإسلام، لشيخ الإسلام ابن تيمية ص 13 .
(8) أخرجه مسلم في صحيحه، في السلام، باب النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام (ح2167) – من حديث أبي هريرة .
(9) أخرجه البخاري في صحيحه في الأدب، باب 35- ومسلم في صحيحه في السلام (ح10) – من حديث عائشة .
(10) أخرجه مسلم في صحيحه في البر والصلة (ح87) – من حديث أبي هريرة .
(11) أخرجه البخاري في صحيحه، في المغازي، باب قصة دوس والطفيل بن عمرو (ح4392) ، ومسلم في صحيحه في فضائل الصحابة (ح2524) – من حديث أبي هريرة .
(12) أخرجه مسلم في صحيحه في السلام، باب النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام (ح2167) – من حديث أبي هريرة .
(13) فتح البارىء 11/40 .
(14) انظر : تفسير الطبري 25/63 .
(15) تفسير ابن كثير 4/136 .
(16) ص 533 .
(17) يراجع في تفاصيل ذلك : الولاء والبراء في الإسلام / للقحطاني . والموالاة والمعاداة في الشريعة الإسلامية / للجلعود . والاستعانة بغير المسلمين ص 51 – 86، وفقه الاحتساب على غير المسلمين ص 33 – 36 كلاهما للدكتور عبد الله الطريقي .
(18) ويراجع في تفسير الآية : تفسير ابن كثير 1/538 .
(19) زاد المعاد 3/158- 161 .
(20) الذمة : بمعنى العهد والأمان والضمان والحرمة والحق . ومثلها : الذمام . ( انظر : النهاية في غريب الحديث 2/168 ) .
(21) على أنه ينبغي أن يعلم بأنه لا يجوز عند الفقهاء عقد معاهدة أبدية، انظر أحكام المعاهدات في الفقه الإسلامي، دراسة مقارنة د / إسماعيل العيساوي .
(22) يجوز عند المالكية والحنفية عقد الذمة مع جميع أصناف الكفار واستثنى الحنفية منهم عبدة الأوثان من العرب، انظر حاشية الدسوقي للدردير 2/206، شرح السير الكبير للسرخسي 5/1692، الموسوعة الفقهية – مصطلحات أهل الذمة - .
(23) ينظر : مجموع الفتاوى لابن تيمية 28/414، وفقه الاحتساب على غير المسلمين ص 4 – 5 – 14 – 15 .
(24) انظر : كشاف القناع 3/28، 32 – 36، فتح القدير لابن الهمام 4/277-282، البدائع للكاساني 7/100، مغني المحتاج للشربيني 4/2-9 – 219، اللباب في شرح الكتاب للميداني 4/115، معاملة غير المسلمين في الإسلام 1/249 .
(25) الناسخ والمنسوخ في القرآن لابن خزيمة ص 264، والناسخ والمنسوخ لابن حزم 2/179، والناسخ والمنسوخ للنحاس ص 264، وتفسير المنار 10/199 .
(26) أخرجه أحمد (ح5115)، وابن أبي شيبة 5/313، والبيهقي في الشعب (ح1199) – من حديث ابن عمر، وإسناده ضعيف لأنه من رواية عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان وهو ضعيف .
(27) أخرجه البخاري في صحيحه في الاعتصام بالكتاب والسنة (ح7284)، ومسلم في الإيمان (ح20 – 21) – من حديث أبي هريرة .
(28) السياسة الشرعية ص 123 – 125 .
(29) أخرجه البخاري في صحيحه، في الجهاد (ح2966)، ومسلم في صحيحه في الجهاد (ح1741) – من حديث أبي هريرة .
(30) انظر : رسالة القتال لابن تيمية ص 125 .
(31) كهرقل وكسرى والمقوقس والمنذر بن ساوى وملك عمان وصاحب اليمامة هوذة بن علي والحارث الغساني وغيرهم من ملوك وأمراء المناطق انظر : نصوص هذه الرسائل في صحيح مسلم بشرح النووي 12/103، 111 زاد المعاد3/688ـ697، وحياة الصحابة للكاندهلوي 1 / 31، 124 .
(32) انظر مجموع فتاوى ابن تيمية 28/ 414، ومراتب الإجماع لابن حزم ص 201.
(33) السياسة الشرعية ص 123 .
(34) ويرى بعض الباحثين المعاصرين أنه لا يسوغ طرح هذه المسألة على أن العلاقة مع الكفار سلم أو حرب، لأن فيه إيهاماً يؤدي إلى اللبس في شأن هذه العلاقة هل هي قبل تبليغ الدعوة ورفض الاستجابة أو بعد ذلك، لأن الفرق بينهما مختلف . انظر : أحكام المعاهدات في الفقه الإسلامي للعيساوي ص 50 – 51، والجهاد والقتال في السياسة الشرعية 1/828 – رسالة دكتوراه، د محمد خير هيكل .
(35) فتح القدير 1/742 .
(36) تفسير الطبرى 2/109، تفسير ابن عطية 8/132، تفسير البغوي 1/162 .
(37) الفتاوى 28/354 .
(38) رسالة القتال لابن تيمية ص 125 .
(39) شرح مسلم 1/98 – 99 .
(40) تفسير ابن كثير 2/469 .
(41) المحرر الوجيز 8/178 .
(42) تفسير السعدي 2/244 .
(43) انظر : المبسوط 10/3، البحر الرائق 5/81، حاشية ابن عابدين 4/128، المغني 9/172-173، كشاف القناع 3/40، مطالب أولي النهى 2/509، روضة الطالبين 9/259، الفواكه الدواني 1/396، شرح صحيح مسلم للنووي 1/197 – 12/36، سبل السلام 4/45، الموسوعة الفقهية 16/143، موسوعة الإجماع لابن تيمية ص 340 .
(44) البخاري (ح3701)، ومسلم (ح2406)، وأحمد 5/333– من حديث سهل بن سعد .
(45) أخرجه مسلم في صحيحه 5/139، والترمذي (ح1617)، وابن ماجه (ح2858) – من حديث سليمان بن بريدة عن أبيه .
(46) أخرجه أحمد (ح2105)، والدارمي (ح2444)، وأبو يعلى (ح2591) – من طريق ابن أبي نجيح عن أبيه عن ابن عباس، وسنده صحيح .
(47) اختلاف الفقهاء ص 2 .
(48) انظر : أحكام أهل الذمة لابن القيم 1/5 .
=============
#المخاوف الأمريكية من الإسلام السياسي
علي البلاونة 7/10/1425
20/11/2004
نشرت مجلة تايم الأمريكية في 20/9/2004 تحقيقا صحفياً مطولاً عن بوادر نشوب حرب وصراعات قوى داخل الدين الإسلامي، وعبر مكوناته التنظيمية، وقالت إن مستقبل الإسلام السياسي، يدور الآن بين فكي النزاع الذي يقوده المتطرفون والراديكاليون من جهة وبين المعتدلين من جهة أخرى، وقالت: إن أحداث 11 أيلول أحدثت مزيداً من الانقسام والصراع بين الطرفين، وبخاصة فيما يتعلق بعلاقة الدين الإسلامي بالغرب، وهي علاقة برأيينا تشهد بالطبع انقساماً وتضاداً واضحاً على خلفيات سياسية، استغل فيها العامل الديني استغلالاً متميزاً، لدرجة تم فيها استنزاف القوى الإسلامية، لمستوى الانفعال والتفاعل مع الحدث، في إطار مجموعة الفواعل والمصالح الأمريكية في العالم الخارجي، ونعتقد أن الولايات المتحدة وفي الفترة الممتدة من 1979 ولغاية 1990 -أي قبل غروب الاتحاد السوفيتي- أسهمت في صيرورة الإسلام السلفي الجهادي عبر البوابة الأفغانية، وهي التي تنكره اليوم وتحاربه بقوة كما توضحه مجلة التايم.
وكشفت التايم عن إن الحرب والصراع لم يكن ناجماً عن أحداث 11 أيلول الأمريكية، و إنما أسهمت هذه الاحداث في ظهوره إلى العلن، وكشف المستور في داخل الدين الإسلامي ، الذي اعتبرته انعكاساً لحالة التناقض في الجوانب الفكرية والتنظيمية وفي مسألة بناء الدولة، ويذهب المحلل السياسي (ميكائيل دوران) إلى أن الحرب بين قوى الاعتدال والتطرف يمكن وصفها بأنها أشبه ما تكون بنزاعات داخلية حادة، قد يكون لها آثارها العنيفة والمدمرة على العالم الإسلامي مستقبلاً، الأمر الذي قد يدفع الآباء للوقوف في وجه أبنائهم الذين اعتنقوا الأفكار السلفية المتطرفة.
هذه المخاوف تتعزز في ضوء الصورة التي يحاول أن يرسمها الغرب عموماً عن الإسلام مختزلاً الحضارة الإسلامية في مجموعة من الأحداث غير الناضجة والمفصولة عن السياق العام للسلوك الحضاري والإنساني للإسلام، والتي جاءت بشكل فج بسبب مجموعة الظروف المختلفة التي وضع أو مرّ بها العالم الإسلامي، والناجمة عن سلسلة من الضغوط الخارجية والداخلية أيضاً.
وتضيف التايم في تحقيقها الى أن نسبة المتطرفين في العالم الإسلامي ازدادت بعد احداث 11 ايلول الأمريكية، فالحرب على الإرهاب واحتلال أفغانستان والعراق، وما يتعرض له الفلسطينيون من دمار وقتل يومي، اذكيا نار التطرف والعنف (الجهاد) لدى الحركات الإسلامية، حيث ترى هذه الجماعات أن الإسلام أصبح مستهدفاً ويتعرض للهجوم، فيما يرى المعتدلون أن احتلال العراق وما حدث في سجن أبو غريب جعل جهودهم في الدعوة إلى الاعتدال والانفتاح ونبذ العنف وقيم التطرف مجرد صرخة في الهواء.
ولعل أحداث عدة تكشف عن حالة التناقض الغربي حيال العالم الإسلامي، ويجعل من طروحاتهم بضرورة تبني القيم الديمقراطية والانفتاح الليبرالي الفاقدة للظروف الموضوعية، عملاً بيزنطياً وخضاً للماء، حيث جاءت النداءات الأمريكية بإقامة الحرية والديمقراطية في العراق مخيبة للآمال، ومؤكدة في الوقت ذاته أن الغرب مازال يجهل أو يتجاهل كيفية التعامل مع العالم الإسلامي وقواه الحية.
"الديلي تلغراف" الصحيفة البريطانية الواسعة الانتشار والتي ساندت الحرب على العراق تكشف النقاب وفي 23/10/2004 عن أبرز معالم التناقض الغربي حيال العالم الإسلامي، في بعض مظاهرها الحديثة الطابع، فقد كشفت الصحيفة النقاب وعلى لسان ضابط أمريكي عن أن شخصية الزرقاوي قد جرى تضخيمها واستخدامها كإطار ومبرر للإعمال الأمريكية الوحشية، وأن شخصية الزرقاوي كانت مجرد أكذوبة تم تصنيعها لتؤدي دورين محوريين داخلي وخارجي، إذ إن السياسة الأمريكية بحاجة دائماً لمطاردة شرير!. وأضاف: "كنا ندفع لرجال العصابات والمجرمين عشرات الآلاف من الدولارات للقيام بأعمال وحشية ضد مدنيين، ومن ثم لصق هذه الأعمال بالزرقاوي، لقد كنا نخشى الرأي العام وما زلنا لا نستطيع الاعتراف بقوة المقاومة العراقية، إلا أننا بمستطاعنا الاعتراف بقوة شخصية مجرمة لتبرر لنا أمام الرأي العام أية أخطاء نقترفها".
إذًا هناك قصدية وراء مجموعة الأفعال المشينة والتي يرفضها الإسلام، غير أن الهدف من هذا الربط بين هذه الأعمال والإسلام هو مسخ لصورة الإسلام السمحة لدى الرأي العام الغربي، وتأسيس دوافع للعداء بين الطرفين، وهذا العمل من شأنه مضاعفة قيم التطرف والعنف والتقاطع مع المشروع الغربي الأمريكي، الأمر الذي يجعلنا نؤكد ما ذهب البعض إليه من ظاهرة الإسلام فوبيا ظاهرة تم إنتاجها في مجمعات المعلومات والمختبرات السياسية لخدمة الأهداف والمصالح البعيدة والاستراتيجية.
هذا المنطق جرى التفكير فيه عقب تصاعد المد الإسلامي في المجتمع الأوروبي من ناحية، واعتراف العديد من الأوروبيين بصحة المنهجية الإسلامية الإنسانية والعلمية، وكانت ظاهرة الإسلام فوبيا ليست الخوف من الظاهرة الجهادية في الإسلام أو الأصولية الإسلامية، و إنما كان الخوف الحقيقي من جاذبية الإسلام في الأوسط الأوروبية حتى بعد أحداث 11 أيلول 2001 والتي شكلت لدى البعض منهم تحولاً داخلياً إيجابياً نحو حقيقية الإسلام على عكس الهدف الحقيقي للرسالة السياسية للحدث. ومن ناحية أخرى يرى بعض المحللين أن السياسة الخارجية الأمريكية وتحديداً باتجاه العالمين العربي والإسلامي تتحرك في إطار الأجندة الإسرائيلية.
وفي تقرير المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية ( iiss ) عن العام 2004 – 2005 قد كشف التقرير جملة من التناقضات الأمريكية حيث أشار إلى ما يلي:
إن الحرب على الإرهاب ضاعفت من نشاط تنظيم القاعدة، وبخاصة قيادات الدرجة الثانية، والتي عملت على ما بوسعها لاستخدام كافة والوسائل للتمويه وحرية الحركة والفعل والتأثير، وقد أصبحت القاعدة منتشرة في 60 دولة من العالم.
إن الحرب على العراق فاقمت من مخاطر الإرهاب على العالم الغربي، حيث أصبحت المصالح الغربية عرضة للتهديد المباشر، الأمر الذي يؤثر على الاستقرار السياسي والاقتصادي والأمني لهذه الدول.
إن احتلال العراق أوجد دافعاً حقيقياً لقوى التطرف الإسلامي للتنامي والظهور والبروز بمظهر المدافع عن الإسلام والثروة، والعمل على طرد الاحتلال الأجنبي، وكلها أهداف مشروعة بنظر الشارع العربي والإسلامي.
إن تنامي الظاهرة الأصولية في العالم العربي والإسلامي عموماً ناجم عن المعايير المزدوجة التي تتعامل بها السياسات الأمريكية والغربية مع العالم الإسلامي.
ويقول التقرير: إن تنظيم القاعدة يحاول العمل على تطهير العالم العربي والإسلامي من الهيمنة الأمريكية، فقد عزز الاحتلال الأمريكي في العراق من منطق القاعدة، وجعلها أكثر قدرة على التحرك وكسب أعضاء جدد وتجنيدهم في خدمتها.
إذًا وعلى الرغم من المبررات التي تساق في مجال محاربة ومكافحة الإرهاب، والعمل على تجفيف منابع التطرف والأصولية في العالم وتحديداً العربي والإسلامي، بحاجة لإعادة النظر، كون التطرف والإرهاب ليس إسلامياً فقط، وإنما هناك إرهاب إسرائيلي وأمريكي، يتجاوز القانون الدولي والأخلاقيات الدولية والإنسانية، كما وأن هذه المبررات تعمل و بطريقة ما -وعلى المدى الاستراتيجي- على استنزاف عقل الأمة الاستراتيجي، ودفعه نحو مزيد من الانفعال والعنف والتطرف كوسيلة وخيار متاح وبديل للغة حوار المصالح المتبادلة بين الطرفين.
هذه الصورة النمطية عن العالم العربي والإسلامي وعن الإسلام على الخصوص لم تأت من فراغ، بل جرى ويجري التأسيس والتعبئة الدائمة لها في الذهنية الغربية اليمينية، بشكل يومي وشحنها بمزيد من الطرف والصور والنماذج، ونسيان النموذج الحضاري الإسلامي بتعمد واضح، والعمل على تهميش دوره، الأمر الذي يسهم في ايجاد البيئة والبنية التحتية لانتعاش الظاهرة الأصولية المتطرفة، والتي تعتقد بأهمية إفشال المشروع الغربي في المنطقة من خلال استهداف رموزه أو مصالحه ، واستنزافه في معارك مختلفة.
إن ابن لادن والزرقاوي لا يعبران عن حضارة الأمة الإسلامية، ويجعل الغرب من الاستثناء القاعدة للحكم والقياس والتصرف، وكذلك فإن رامسفيلد وكوندليزا رايس وبوش لا يعبّرون عن الشعب الأمريكي، ولكنهما بالطبع إفرازات اجتماعية سياسية، بحاجة للقراءة والتحليل لبيان أسباب ظهور مثل هذه النماذج وسيطرتها وتأثيرها على الرأي العام.
المطلوب منا البحث عن أدوات جديدة لخطاب سياسي وثقافي حضاري وعقلاني يكون مؤهلاً وقادراً على مخاطبة الرأي العام الغربي والأمريكي؛ فهناك متسع وهامش للحوار والتأثير في العقل السياسي الأمريكي، ونعتقد أن ثمة تحولات إيجابية رافقت أحداث 11 أيلول لدى قاعدة واسعة من الأمريكيين، وبخاصة من هم على صلة بالواقع العربي والإسلامي، الذي دفعهم للتفكير المنطقي بضرورة إعادة النظر في سياسات بلادهم حيال العالم الإسلامي تحديداً، وهي قوى بحاجة للدعم والمساندة.
إن هذا الرأي ينطق به باحثون أمريكيون تجولوا في عدد من الدول العربية؛ حيث تعتقد هذه الشخصيات أن حركة الإخوان المسلمين هي من الحركات المعتدلة، وإنها تنتظم في إطار مجموعة القوانين ولديها القدرة والقابلية للحوار والمساهمة والمشاركة الديمقراطية، وإنها تؤمن بالحق في الاختلاف، وإن كان لها رأي متطرف إزاء السياسات الأمريكية، إلا أنها عبّرت عن أن الضغط المتزايد على خزان الإخوان سيؤدي إلى إنعاش القاعدة السلفية التي تمتد وتنتشر بسرعة كبيرة، ولكنها ليست منتظمة أو مشروعة التنظيم وفيها نفس راديكالي، يمكن أن يكون مستقبلاً مشروعاً لتنظيم إرهابي، وأكد الباحثون على أن الرؤية الأمريكية للعالم الإسلامي فيها جانب كبير من القصور كونها رؤية كانت تمر عبر البوابة الإسرائيلية فقط.
اليوم، هناك دراسات أمريكية ميدانية اكتشفت العالم الإسلامي على حقيقته، وكشفت النقاب عن زيف الصورة التي كان الأمريكيون يتصورونها عن هذا العالم ، غير أنهم أنحوا باللائمة على المثقفين العرب الذين وجدوا في المشجب الأمريكي مكاناً مناسباً لتبرير عجزهم عن الفعل والتأثير في المجتمع الأمريكي ونخبه، وتركوا المجال للآخر لقيوم بعملية ملء الفراغ، وبما يتناسب ومصالحه. وعلقوا أيضاً على الخطب المنبرية في المساجد والتي تدعو إلى انكسار أمريكا وتراجعها بالقول: إن المنطق العلمي يؤكد بأن الفعل الكلامي غير المقرون بالعمل دلالة عجز، وليس دلالة إيمان، بالرغم من أن القران الكريم ينادي بضرورة وأهمية الحوار والجدال بالتي هي أحسن ، كأسلوب حضاري في التعامل مع الآخر.
===============
#التربية على حقوق الإنسان
عبدالله محمد السهلي 2/6/1427
28/06/2006
لقد كرم الله الإنسان, واصطفاه على سائر خلقه, وجعله سيدًا في الأرض وأمده بالوحي السماوي: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً). [الإسراء:70]. والإنسان يُعدّ من القضايا الكبرى في أي فلسفة تربوية، بل هو قطب رحاها وحجر الزاوية فيها. وإذا كانت التربية أداة التغيير، والانتقال بالإنسان إلى المثل العليا فإن العلاقة بينها وبينه علاقة دائرية، فالإنسان ينتج التربية ويتأثر بها في الوقت نفسه. والتربية نمط حضاري تعكس غاية المجتمع من أبنائه؛ لذا فهي الأداة الاجتماعية المحققة للانسجام والترابط بين أفراد المجتمع، وحين تُصاب التربية باضطراب وعدم وضوح، فإنها تنعكس على النشء متمثلاً في اضطراب ثقافته، وضعف انتمائه واستلابه ثقافياً؛ مما يؤثر سلباً في حركة البناء الحضاري (1)
وقد تنامى في العقدين الأخيرين الحديث عن قضية حقوق الإنسان، وارتبطت مبادئ حقوق الإنسان والدفاع عنها في العصر الحديث بالغرب الذي أصبح مرجعاً للحقوق الإنسانية، وقد ساهم الاستعمار في تأطير النظرية الغربية للمفاهيم المكونة للحقوق الأساسية للإنسان، ثم ظهرت العولمة امتداداً للاستعمار الثقافي من خلال أوعيتها الإعلامية النافذة إلى قلب العالم الإسلامي، والتي تسعى إلى قولبة الشعوب على النمط الغربي، فكانت الوسيلة المُثلى لتسويق حقوق الإنسان.
إن التطوّر التاريخي لفكرة حقوق الإنسان يؤكد على تحقيق الأهداف والقيم الغربية، والتي ترتبط بالخبرة التاريخية لسياق حضاري معين، فالانطلاق الفعلي لفكرة حقوق الإنسان جاء مع الثورة الفرنسية، وهدف إلى التخلص من استبداد الملوك، وتزامن مع كتابات مفكري تيار الإصلاح الديني البروتستانتي في أوروبا والتي سعت لإزالة سلطان الكنيسة وكتابات الوضعيين، وهي التي أكدت على فكرة المجتمع المدني وكون الإنسان ذا حقوق طبيعية لا إلهية، "فالطبيعي" يحل محل "الإلهي" أو "الوحي".(2) مما يعني أن مفهوم حقوق الإنسان هو تركيز للقيم والمبادئ التي انتهى إليها الفكر الأوروبي والرأسمالي في تطوره التاريخي (3)، كما أنه نموذج للمفاهيم التي يحاول الغرب فرض عالميتها على الشعوب الأخرى في إطار محاولته فرض سيطرته ومصالحه القومية.
وخلاصة ما سبق فإن قضية حقوق الإنسان من وجهة النظر الغربية مرتبطة ارتباطاً وثيقًا بالنظرية الرأسمالية الغربية وبالإرث الكنسي البروتستانتي متدثرةً بعباءة البرجماتية الذرائعية، وبالتالي خطورة تعميمها أو الانخداع بها في ظل ضغط الواقع المعيش في بعض الأقطار الإسلامية, الأمر الذي ينتج نوعًا من الصراع الثقافي وغياب الهوية الإسلامية وازدواج المعايير، مما يولد أجيالاً شوهاء بعيدة عن مصدر عزتها، مغيبة عن هويتها الإسلامية. الأمر الذي استحث عدداً من المفكرين والكتاب المسلمين للكتابة في هذا الموضوع وإبراز موضوع حقوق الإنسان في الإسلام ومقارنتها بالفكر الغربي, إلاّ أن هذه الكتابات كانت في المجال الحقوقي والفكر السياسي والتشريع الإسلامي ومقارنته بالقانون الوضعي. وعلى الرغم من أهمية التربية في حياة الأمة؛ إذ هي التعبير الصريح عن عقيدتها وفلسفتها تنعكس من خلالها تصوراتها وأهدافها من الإنسان، وتعكف على تحقيق غايتها منه، وعلى الرغم من أهمية دراسة هذا الموضوع من الجانب التربوي ( ) لمسيس الحاجة إلى إبراز القواعد والأسس التربوية التي يُبنى عليها موضوع حقوق الإنسان في الإسلام وارتباطها بمقاصد الشريعة الإسلامية، وتوضيح اختلافها، ومباينتها للفكر والتصور الغربي للموضوع، على الرغم من هذا كله لا نجد إلاّ عدداً يسيراً من الدراسات التربوية تناولت هذا الموضوع، وهذا اليسير من الدراسات - مقارنة بحجم القضية وزخمها العالمي- تنطلق من حقوق الإنسان بتقنينها الغربي، وقد جاءت في مجملها محاولات باهتة غايتها صب الأفكار الإسلامية في أطر وقوالب غربية بعيدة عن التأصيل التربوي الإسلامي الذي يعكس جوهر المنظومة القيمية الإسلامية متجاهلةً اختلاف و تباين الأنساق المعرفية بين النموذج الغربي والنموذج الإسلامي(4)، ذلك أن هذه الممارسات والتطبيقات مرتبطة ـ بوصفها نظامًا فكريًا محدداً ـ بمنظومة الأفكار والمفهومات التي تقوم عليها, والمناداة بتسويق هذه التطبيقات والممارسات في بلاد المسلمين، يعني تقبل هذا الوعاء الفكري الذي تقوم عليه. في ظل غياب إطار مرجعي تربوي يوضّح المبادئ والأسس النظرية للتربية الإسلامية على حقوق الإنسان، ويُجلّي أهدافها ومصادرها وطرقها وخصائصها المميزة لها.
وقد انبنت مضامين الحقوق المعتمدة حالياً على مرجعيات فلسفية يمكن العودة بأصولها إلى عصر النهضة الأوروبي الذي أعلى من شأن الإنسان الفرد واعتبره غاية في حد ذاته، وأسمى الكائنات جميعها. ومع تنامي الطبقة البرجوازية، وفي خضم مواجهتها للكنيسة ونظام الإقطاع وحقوق الملوك الإلهية، تبلورت نظرية "الحق الطبيعي" والتي تعني "أن للإنسان حقوقاً يحميها القانون الطبيعي، وُلدت معه، وهي لصيقة به، ولا يملك حتى الإله ذاته أن يغيرها، وهذا يترتب عنه التزام القوانين الوضعية بها، ويعتبر فلاسفة القرنين السابع عشر والثامن عشر "حرية الأفراد ومساواتهم" هي أصل الحقوق الطبيعية كلها. وهي حقوق تجد مرجعيتها العقلية وعالميتها وشموليتها في القول بـ"حالة الطبيعة" للإنسان، على اعتبار أن هذا الأخير يشكل جزءاً لا يتجزأ من الطبيعة ويخضع لقوانينها، ولكي يحافظ الأفراد على حقوقهم الطبيعية ضمن الاجتماع الإنساني فإن فلاسفة أوروبا الحديثة أقروا ما يسمى بـ"العقد الاجتماعي"، وهو ميثاق يتنازل بموجبه الأفراد عن سيادتهم وحريتهم للحاكم، من أجل تحقيق السلم والأمن بينهم، أما (جان جاك روسو) (1712-1778) الذي يُعدّ أكثر فلاسفة أوروبا الحديثة تقريراً لفرضية العقد الاجتماعي، فهو يرى أن: "الإنسان بطبعه لا يستطيع أن يعيش بمفرده، بل لا بد من اجتماعه مع غيره من بني جنسه، ولمّا كانت إرادتهم تختلف وتتضارب، فإن اجتماعهم لا يستقيم له حال إلاّ إذا كان مبنياً على "تعاقد" في ما بينهم يتنازل بموجبه كل واحد منهم عن حقوقه كافة للجماعة التي ينتمي إليها، والتي تجسمها الدولة كشخص اعتباري ينوب عن الناس في تنظيم ممارستهم لحقوقهم، وبذلك تتحول تلك "الحقوق الطبيعية" إلى "حقوق مدنية": وتبقى الحرية والمساواة هما جوهر هذه الحقوق" (5) .
لقد كانت أفكار ومضامين نظرية الحق الطبيعي وفلسفة العقد الاجتماعي من بين الدواعي الرئيسية لإقرار "إعلان حقوق الإنسان والمواطن" خلال الثورة الفرنسية لسنة 1789. فهذا الأخير نص "على أن الناس يولدون أحراراً ويظلون أحراراً متساوين قانوناً (المادة الأولى)، وألاّ تُفرض حدود الحريات إلا بقانون (المادة الرابعة)، وأن السيادة للأمة (المادة الثانية)، وأن القانون هو التعبير عن الإرادة العامة (المادة السادسة)" هذه المبادئ الأساسية، والأفكار بما عرفته من تحليلات وتعثرات وانتقادات ونجاحات أو إخفاقات على مستوى التطبيق، وإضافات كانت الموجه الأساس والإطار العام الذي اعتمده واضعو "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان" 1948 والاتفاقيات الدولية التي جاءت بعهده(6).
وإذا كانت بعض الكتابات الغربية تحاول تأكيد هذه "العالمية" للمفهوم، فإن دراسات أخرى، خاصة في إطار علم الأنثروبولوجيا، تؤكد على نسبية المفهوم وحدوده الثقافية مؤكدة أهمية النظر في رؤية حضارات أخرى للإنسان وحقوقه، انطلاقًا من الفلسفة التي تسود الدراسات الأنثروبولوجية الحديثة، وهي التأكيد على التباين والتعددية في الثقافات والخصوصيات الحضارية لكل منطقة. (7)وقد أدّى هذا الاختلاف إلى هجوم بعض الكتابات الغربية على الإسلام واتهامه بأنه هو العدو والتحدي الحقيقي لحقوق الإنسان بمفهومها "العلماني" و"العالمي"، فهذه الكتابات لم تدرك اختلاف المفاهيم الإسلامية عن غيرها، ومرجعيتها المتميزة نتيجة ارتباطها بالشرع، وبحث أصحابها عن مفهوم "حقوق الإنسان" بعناصره الغربية ولفظه اللغوي فلم يجدوه، وغفلوا عن خصوصية اللغة وخصوصية الرؤية الإسلامية للإنسان وحقوقه، فالإسلام قد بالغ في رعايته حقوق الإنسان إلى الحد الذي جعلها في نظره ضرورات، ومن ثَمَّ أدخلها في إطار الواجبات، فالمأكل والملبس والمسكن والأمن وحرية الفكر والاعتقاد والتعبير والمشاركة في صياغة النظام العام للمجتمع ومحاسبة أولي الأمر، كل هذه أمور نظر إليها الإسلام لا باعتبارها فقط حقوقًا للإنسان "يمكن" السعي للحصول عليها والمطالبة بها، بل هي ضرورات واجبة للإنسان، والمحافظة عليها هي محافظة على ضرورات وجوده التي هي مقاصد الشرع، فضلاً عن حفظ حاجيَّات هذا الوجود بوضع أحكام العلاقات الإنسانية في سائر المعاملات، وأخيرًا، حفظ تحسينيات الوجود الإنساني من مكارم الأخلاق ومحاسن العادات (8).
إن منطلق حقوق الإنسان في الخطاب الغربي هو الحق الطبيعي المرتبط بذاتية الإنسان من الناحية الطبيعية - بغض النظر عن الفكر والمنهج - بينما الحق الشرعي للإنسان في الإسلام يستند إلى التكريم الإلهي، ويرتبط بمفاهيم الأمانة والاستخلاف والعبودية لله وعمارة الأرض، ولا ينفصل عن حقوق الله لارتباطه بالشريعة التي تنظمه، وهو ما يجعله غير قابل للإسقاط بعقد أو صلح أو إبراء، فحقوق الإنسان الشرعية ليس من حق الفرد أو الجماعة التنازل عنها أو عن بعضها، وإنما هي ضرورات إنسانية توجب الشريعة الحفاظ عليها من قبل الدولة والجماعة والفرد، فإذا قصَّرت الدولة وجب على الأمة أفرادًا وجماعات تحملها؛ لذا كان مدخل "الواجب الشرعي" في الرؤية الإسلامية هو المدخل الأصح لفهم نظرة الإسلام للإنسان ومكانته وحقوقه، خاصة السياسي منها، تحقيقًا للمنهج الذي يربط بين الدراسة الاجتماعية السياسية والمفاهيم الشرعية من أجل بلورة رؤية إسلامية معاً (9).
وفي ظل غياب أو- تغيب -الوعي الإسلامي خلال القرنين الماضيين وتخلّف المسلمين, وتقهقر الحضارة الإسلامية, وفرض الفكر الأجنبي والغزو الثقافي والقوانين المستوردة التي جاء بها المستعمر. اختل وضع الإنسان, وظهرت انتهاكات الحقوق, وتنادى العلماء والدعاة والمصلحون لبيان تكريم الله للإنسان, وأن مقاصد الشريعة المقررة أساسًا هي المنطلق الرئيس لإنسانية الإنسان, مما يحتم أولاً العودة إلى حظيرة الدين, لينعم الإنسان بظلال الشريعة الوارفة, ويمارس عمليًا حقوق الإنسان ويطبقها فعلاً وليس دعاية أو شعارًا(10).
ولهذا فإن من الأهمية بمكان بحث هذا الأمر وتأصيله شرعيًا وتربويًا، ولذا لابد من تقرير أن من أهم أهداف الشريعة الإسلامية هو "تحرير الإنسان ورفع شأنه وتوفير أسباب العزة والشرف والكرامة له(11). كما أن من أهداف التربية الإسلامية المتعلقة بهذا المجال "مساعدة الإنسان المسلم، وفهم معنى وأبعاد الكرامة التي قررها القرآن الكريم, وتبصير الإنسان المسلم بضرورة احترام الحقوق العامة التي كفلها الإسلام وشرع حمايتها حفاظًا على الأمن وتحقيقًا لاستقرار المجتمع المسلم في الدين والنفس والنسل والعقل والمال"(12). كما أن العدل والإحسان في علاقة الإنسان بالإنسان يحققان شعار فلسفة التربية الإسلامية" بقاء النوع البشري ورقيّه "(13) وقد أولت التربية الإسلامية اهتماماً بالإنسان وتحديد حقيقته ، ووجوده وغايته.،... ومنهجه الذي يجب أن يكون عليه في حياته لتحديد ما ينبغي أن تكون عليه تلك الحياة من أنماط معرفية وسلوكية واجتماعية تحقق له الخير والسعادة"(14)
ولعلي في ختام هذه المقالة أبرز بعض النقاط التي تؤكد أهمية التربية على حقوق الإنسان:
1. نظراً لأهمية التربية في حياة الأمة إذ هي التعبير الصريح عن عقيدتها وفلسفتها تنعكس من خلالها تصوراتها وأهدافها من الإنسان وتعكف على تحقيق غايتها منه.
2. إن أولى المختصين بالحديث والاهتمام بحقوق الإنسان، وتأصيلها هم التربويون ذلك أن التربية صنعة مادتها وخامتها الأولى الإنسان وغايتها بناؤه.
3. عدم وجود إطار مرجعي تربوي يوضح المبادئ والأسس النظرية للتربية الإسلامية على حقوق الإنسان، ويجلّي أهدافها ومصادرها وطرقها وخصائصها المميزة لها.
4. ندرة الدراسات التربوية التي تناولت هذا الموضوع - مقارنة بحجم القضية وزخمها العالمي- وهذه الدراسات تنطلق من حقوق الإنسان بتقنينها الغربي، وقد جاءت في مجملها محاولات باهتة، غايتها نقل التطبيقات والممارسات، و صبّ الأفكار الإسلامية في أطر وقوالب غربية بعيدة عن التأصيل التربوي الإسلامي الذي يعكس جوهر المنظومة القيمية الإسلامية متجاهلةً اختلاف و تباين الأنساق المعرفية بين النموذج الغربي والنموذج الإسلامي.
5. استجابةً لتوصيات منظمة المؤتمر الإسلامي، وبرنامجها العشري في قمتها الاستثنائية الثالثة المنعقدة في مكة المكرمة في الفترة 5 - 6 ذو القعدة 1426هـ والمتضمنة الدعوة لوضع ميثاق إسلامي لحقوق الإنسان، وتدريس التربية والثقافة والحضارة الإسلامية وتطوير مناهج دراسية تعزّز قيم التسامح وحقوق الإنسان.
الهوامش :
(1) نقد المعرفة التربوية المعاصرة. د.على خليل أبو العينين. ص7 بحوث مؤتمر نحو بناء نظرية تربوية إسلامية. عمان. الأردن. 1411هـ
(2) المرأة والعمل السياسي. رؤية إسلامية. هبة عزت. المعهد العالمي للفكر الإسلامي.1995 .ص 84
(3) النظرية السياسية الإسلامية في حقوق الإنسان. دراسة مقارنة د. مفتي وال****.كتاب الأمة .1410هـ ص 41.
(4) استناداً على قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1966م وتوصية اللجنة الدولية لحقوق الإنسان قامت منظمة اليونسكوعام1972م باقتراح يحث الدول الأعضاء على تبني تدريس مبادئ تدريس حقوق الإنسان ضمن المناهج الدراسية. (حقوق الإنسان في الإسلام - إبراهيم المرزوقي - 1997م). وانظر (إعداد وثيقة التربية على حقوق الإنسان) ورشة عمل عُقدت في الدوحة دولة قطر مابين 24- 28/12/1424هـ حضرها ممثلو الدول من معدي السياسات التربوية في وزارة التربية والتعليم، وأشرف على إدارتها خبراء عرب وأجانب برعاية المفوضية السامية لحقوق الإنسان واليونسكو واليونيسيف. وأوصت بالتوسع في تضمين مبادئ وأهداف التربية على حقوق الإنسان في التعليم (المعرفة -127- شوال- 1426هـ).
(5) موقع الدورة الاستثنائية الثالثة لمؤتمر القمة الإسلامي 7-8 ديسمبر 2005م
http://www.oic-oci.org/ex-summit/arabic/ex-summit.htm . وقد كان الاهتمام واضحاً بموضوع حقوق الإنسان فقد ورد في البيان الختامي وتقرير الأمين العام وفي البرنامج العشري تحت مادة ثالثاً: الإسلام دين الوسطية وفي ثامناً: حقوق الإنسان والحكم الرشيد، وفي ديباجة البرنامج.. قرّرنا نحن ملوك ورؤساء الدول الأعضاء وحكوماتها في منظمة المؤتمر الإسلامي المصادقة على برنامج العمل العشري التالي من أجل تنفيذه فوراً، والالتزام بمراجعته في منتصف هذه الفترة العشرية.
(6) إشكالية حقوق الإنسان ضمن الوضع العربي الراهن,حميد مجدي, مركز أمان للدراسات الأردن ص3 www.amanjordan.org .
(7) يذكر الدكتور معروف الدواليبي أن (جان جاك رسو) كان له أستاذ عربي مسلم اسمه (أبوزيد)، وأن (روسو) أخذ مقولة عمر بن الخطاب: "متى استعبدتم الناس، وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً"، وانطلق يتكلم في حقوق الإنسان، وأصدر عقده الاجتماع في أوروبا الإقطاع. مذكرات الدواليبي. عبدالقدوس أبو صالح. العبيكان. 1425هـ
(8) إشكالية حقوق الإنسان ضمن الوضع العربي الراهن,حميد مجدي, مرجع سابق ص5
(9) المرأة والعمل السياسي. رؤية إسلامية. .هبة عزت. مرجع سابق .ص 84، وانظر خطاب إلى الغرب. مجموعة مؤلفين. غيناء للنشر .1424 . ص 210
(10) الإسلام وحقوق الإنسان. ضرورات لا حقوق.محمد عمارة. القاهرة دار الشروق .1989 . ص14
(11) حقوق الإنسان في الإسلام. النظرية العامة. جمال الدين عطية. 1987 ص 20.
(12) حقوق الإنسان محور مقاصد الشريعة. أ. د. الريسوني وآخرون, كتاب الأمة ــ عدد 87, محرم 1423هـ.
( 13) حقوق الإنسان في الإسلام ، زكريا البدري, دار الكلمة الطيب, القاهرة, 1997, صـ 7.
(14) فلسفة التربية الإسلامية . ماجد عرسان الكيلاني .دار القلم .1423 هـ .ط2 ، ص 155
(15) نقد المعرفة التربوية المعاصرة . علي أبو العينين مؤتمر نحو بناء نظرية تربوية معاصرة .عمان . الأردن .1411هـ
==============
#لسنا الطّرف الأضعف في صراعٍ يُفرض علينا
د. محمد بن سعود البشر 28/12/1425
08/02/2005
لسنا مع القائلين بالصراع بين الحضارات، ولسنا مأمورين في شريعتنا الإسلامية التي جاءت رحمة للعالمين بالدخول في صراع من أي نوع مع من لم يعتد علينا، ولسنا –أيضًا- متربّصين بمن أخطأ في حقّنا لكننا رغم ذلك لسنا الطرف الأضعف في أي صراع قد يُفرض علينا.
أقول هذا بعد ما هالني الكم الكبير من الأُطروحات والمقالات وحتى الرسائل العلمية التي قدمها المفكرون والمثقفون من العرب والمسلمين في إعلان موقف الإسلام الرافض لنظريّة (صمويل هنتجتون) والقائلة بصراع الحضارات، والمرجِّحة أن الصراع القادم أو لنقل الحالي هو بين حضارة الغرب والحضارة الإسلاميّة.
ومع كل الاحترام للكتابات القيّمة والموضوعيّة التي تعرض الأدلة العقليّة والنقليّة على أن الحضارات لا تتصارع بل تتفاعل وتتلاقى وتتلاقح لخير الإنسانية، إلا أنه مما يُؤسف له أن كثيراً من الكتابات والأُطروحات وضعتنا ووضعت حضارتنا الإسلاميّة وديننا الإسلاميّ في موقف المتهم الذي يقبع خلف ا لقضبان، ويجتهد قدر استطاعته لتقديم أدلّة براءته.
وإذا كانت القاعدة الفقهيّة والقانونيّة تقول: إن البينة على من ادّعى فإن (صمويل هنتجتون) ومن يقول مثل قوله هم المطالبون بأن يقدموا الأدلة التي تفيد تورّط الحضارة الإسلاميّة في أي صراع آنيٍّ أو مستقبليٍّ مع غيرها من الحضارات، أو حتى وجود نوايا لدى المسلمين لقهر حضارة الغرب، عبر صراع من أيّ نوع، ولتكن دعوتنا نحن المسلمين بعد ذلك، للعالم أن يصدر في موضوعيّة ومصداقيّة هذه الأدلة، وهل تديننا أم تدين قائلها، وتكشف نواياه ونوايا بعض المنتسبين لحضارة الغرب في إشعال نار صراع بين المسلمين والغرب؛ لأسباب لن تبدو ساعتها بخافية على ذي لبّ... لكن ما حدث أن المدّعي ألقى تهمته وأشعل قتيل الصّراع دون دليل، وانساق المتحمسون من أبناء أمتنا لدفعها قبل أن يطالبوا بإثبات صحة الاتّهام.. والدلائل التي لا بد أن تتوافر لقبول الدعوى شكلاً أو موضوعًا.
وإنما كان من البدهيّات أن الصراع بين أي طرفين لا يعني أن كليهما راغب فيه، فيكفي أن يكون أحدهما هو الساعي إليه مغترًا بقوته، أو باحثاً عن مصلحة، أو مدفوعًا بأحقادٍ انتقامية، أو غير ذلك من أسباب الصراع، فعندها لن يجد الطرف الآخر سوى الدفاع عن نفسه بكل ما أوتي من قوّة.
إنّ الترويج لنظريّة الصراع بين الحضارات، وجعل الحضارة الإسلامية الخصم الرئيس لحضارة الغرب، نذير سوء بأن ثمّة محاولات جادّة لتوريطنا في صراع مع الغرب، أو بالأدق فُرِض هذا الصراع علينا، ظنًا من القائلين بالصراع أننا الطرف الأضعف، وأن هزيمتنا وانكسارنا نتيجة حتمية مسلَّم بها.
ولا شك أن التفوق للحضارة الغربيّة الماديّة يُرجّح –بالمفهموم المادي الصرف- هزيمتنا الحضاريّة لو أصبح هذا الصراع حتميًا ومباشرًا وهو ما دفع بكثير من مفكّرينا ومثقفينا إلى الإسراع في دفع هذه التهمة.
لكن القارئ المدقق لوقائع التاريخ يدرك أن تفوّق الغرب أو لنقل تفوق الحضارة الأمريكيّة -إن جاز التعبير- لا يجعلنا الطرف الأضعف في حالة نشوب الصراع. ولا يجب أن توهم بذلك، فصراع الحضارات ليس معركة عسكريّة، وقوة السلاح لا تبيد حضارة إنسانيّة، وإن دمّرت مظاهرها؛ لأن الحضارة هي الإنسان بتاريخه وأفكاره وثقافته قبل أن تكون بمنجزاته الماديّة.
وميراثنا من هذه الحضارة يتجاوز أربعة عشر قرنًا تشكلت خلالها قواعد الشخصيّة الإسلاميّة وترسّخت من جيل إلى جيل، ربما دون وعي أو التفات إلى ملامح هذه الشخصيّة، لكن في لحظات الخطر والتحدي تظهر الملامح القويّة لشخصيّة المسلم رغم كل محاولات تشويهها، وفصلها عن قواعدها الحضاريّة لتقول لكل من أرادها بسوء: إنّنا لسنا الطرف الأضعف.
==============
#شباب الأمة .. وتحديات المرحلة !
رضا عبد الودود / القاهرة 15/7/1426
20/08/2005
طالب المشاركون في الدورة الحادية عشر لمخيم التضامن الإسلامي الذي نظمته الندوة العالمية للشباب الإسلامي في مدينة بور سعيد المصرية ، خلال الأسبوع الأول من أغسطس الجاري تحت عنوان "الشباب الدور الغائب والفاعلية المطلوبة" بضرورة اضطلاع مؤسسات وحكومات العالم الإسلامي بتفعيل دورهم الحضاري نحو صياغة مناهج تربوية وتعليمية تتسق مع القيم الإسلامية من اعتدال ووسطية
وجاءت الدورة الحادية عشر لمخيم التضامن الإسلامي لتؤكد حقيقة أساسية مفادها أنَّ الالتزام بمنهج الإسلام الصحيح الوسطي ضرورة لسلامة السلوك وانضباط الأخلاق واضطلاع الشباب بدروهم الحضاري في بناء الحضارة الإسلامية.
وفي بداية المخيم طالب د. حمدي المرسي- مدير مكتب الندوة العالمية بالقاهرة- صياغة استراتيجية إسلامية لتخليص الشباب المسلم من حالة عجز الثقة التي تحول دون الاستفادة من طاقات الأمة، مؤكدًا على أهمية البناء الشامل في الأمة ومحذرًا من دعوات الهدم الكثيرة التي تواجهها.
تنقية عقيدة التوحيد أساس للنهضة
وفي هذا الإطار أكد أ. د. صلاح الصاوي- أستاذ الشريعة بجامعة الأزهر والأمين العام للمجمع الفقهي الإسلامي ومفتي أمريكا الشمالية- ضرورة تفعيل دور التوحيد الذي قام عليه أمر الدين، لمواجهة التحديات التي تواجه الأمة الإسلامية بمعناها الواسع والذي يشمل الأرض كلها؛ انطلاقًا من عالمية الإسلام التي رعت العلم والعلماء.
وأضاف الصاوي أنَّ الشريعة الإسلامية ليست مجرد خطاب موجه للحكام فقط، بل هي موجهة لكل الأفراد في العلاقات والمعاملات، ومن ثمَّ فمن الظلم اختزال الشريعة كقضية كبرى لمجرد تكليف يتجه به الخطاب للقيادة السياسية.
وطالب الصاوي علماءَ الأمة وقادتها بضرورة صياغة أُسس صحيحة لمناهج التربية والتعليم؛ لكونها هي الحافظة لشباب الأمة من الانحراف، وحذر من أنه ما لم ينضبط المنهج في فهم أصول الدين فسيظهر الكثير والكثير من مظاهر الانحراف والاختلالات السلوكية التي ستصيب الأمة في مقتل، من أعمال عنف أو تكفير أو تشدد وغلو أو انحراف وتساهل واستهانة بأمور الدين.
أزمات الأمة وبشائر التمكين
وعلى الرغم من حجم الأزمات والإحباطات التي تُحيط بالمسلمين إلا أنَّ محاضرة الأستاذ الدكتور عبد الله حسن بركات أستاذ قسم الأديان والمذاهب بكلية الدعوة الإسلامية بجامعة الأزهر جاءت كالماء البارد على الظمأ؛ حيث ساق الكثير من المبشرات التي تحيط بالأمة الإسلامية بالرغم من التحديات التي تواجه المسار الحضاري للأمة الإسلامية، ومن المبشرات تجمع كثير من البشر باختلاف ألوانهم وألسنتهم في ظل الدين الإسلامي الحنيف باعتباره الرسالة الخاتمة ،
ومن ضمن هذه المبشرات أيضًا حالة الواقع الغربي ذاته من إفلاسٍ أخلاقي وشذوذ فكري وسلوكي؛ مما زاد عدد المرضى النفسيين ومن ثمَّ الأطباء النفسيين، وكثرة اليأس في قلوب الغربيين (فالسويد مثلاً بها أعلى نسبة دخل قومي في العالم، ومع ذلك فهي أعلى دولة في نسبة الانتحار).
ويضيف بركات: وحتى نكون أكثر واقعيةً في التعامل مع المبشرات التي تؤكد سيادة الأمة الإسلامية وتقدمها لا بد أن نوقن بضرورة التضحية وبيع النفس لله تعالى، وإدراك حقيقة العبادة لله ومعرفة حقيقة خلق الله لعباده، وكذا ضرورة اعتماد التعاون الجاد والإيجابي رافعين شعار ما استحق الحياة من عاش لنفسه أبدًا مع الإخلاص لله في الأقوال والأفعال.
قاب قوسين من النصر
وفي هذا الإطار أيضًا أكد أ. د. راغب السرجاني المفكر الإسلامي وخبير التربية في محاضرته التي جاءت بعنوان "زمن وضوح الرؤية" على أن الأمة الإسلامية باتت قاب قوسين من تحقيق النصر، وما على الشباب إلا الإعداد المتين لمرحلة التمكين والتي ستظهر قبلها فتن ومحن شديدة نحن بصددها الآن، وبالرغم منها فإنَّ أهل الباطل يخافون أهل الحق برغم صغر عددهم إلا أنَّ تماسك أهل الحق هو سر قوتهم ورهبة عدوهم منهم، كما الوضع في فلسطين؛ حيث تخشى الترسانة الصهيونية بكل جبروتها من قوة المقاومة برغم صغر عددها وقلة إمكانياتها.
كما أكد السرجاني أهمية عدم التعجل في التربية لأنها هي أساس التمكين وبقدر جودتها وعمقها يحفظ الصف المسلم من الفتن والمحن التي تواجهه الآن ومستقبلاً.
إصلاح الخطاب الديني
كما أكد الدكتور جمال عبد الستار- الأستاذ بكلية الشريعة بجامعة الملك خالد في أبها بالسعودية- أنَّ موجات الإصلاح والتغيير التي تموج بالساحة العربية والإسلامية تستلزم تطوير الخطاب الدعوي ، وذلك لكي يتواصل المسلمون مع العالم الخارجي الذي بات أكثر طلبًا للتعرف على الإسلام، وكذا فعلى الدعاة أيضًا أن يُفعِّلوا من أسلوبهم لإقناع المسلمين بالوسطية والرشادة التي نحن في أمس الحاجة إليها في ظل حملات التشويه والتحريف الموجهة للإسلام كدين.
ولكي لا يصبح الدعاة إلى الله مجرد سهام موجهة للدين يُساء فهمها لا بد من أن يرتكز الخطاب الدعوي على مرتكزات عدة.
أولها: فهم مقاصد الإسلام، والتي رعاها الإسلام في كل ما جاء من أمور ونواهٍ، وتلك المقاصد مجرد بوصلة لا بد الالتزام بها والسير حسب اتجاها، وما من حكمٍ شرعي إلا ويحقق مصلحة (حفظ العقل- كمال الدين....).
ثانيًا: مراعاة آداب الاختلاف: فالخلاف أمر طبيعي، فكما أنَّ العقول مختلفة فلا بد وأن الآراء ستختلف، فطرة الله التي فطر الناس عليها.
فلا إرغام على أحد بفكرٍ معين والقرآن نفسه ثلاثة أرباعه ظني الدلالة يقيني الثبوت، أي أنَّ العقول تختلف في فهم الإسلام نفسه، لذا فعلى الدعاة إلى الله احترام المخالفين لهم في الرأي سواء كانوا مسلمين أم كفارا.
ثالثًا: مراعاة فقه الأولويات: فلنبدأ بالمتفق عليه، ومراعاة ظروف الناس وعاداتهم وأن نخاطب الناس قدر عقولهم وأفها مهم.
رابعًا: التفريق بين الدعوة والفتوى: فالدعوة واجبة على كل مسلم، "بلغوا عني ولو آية"، وللأسف لم يقم المسلمون بواجب الدعوة وتفرَّغ كثيرٌ منهم للفتوى، بدليل بقاء أربعة أخماس العالم غير مسلمين، مع أنَّ معظم أهل الغرب يتوق لمعرفة صحيح الإسلام، إذ أسلم أحد السويديين لما سمع أحد المسلمين يقسم بالله الذي رفع السماء بلا عمدٍ، قائلاً: "والله أول مرة أعلم أنَّ السماء بلا عمد".
ويأتي في هذا المضمار دور الإعلام غير النزيه الذي يشوه الإسلام بتقديمه لغير المسلمين على أنه دين العنف ، متجاهلين سماحة الإسلام وعدله ، ومنهج خاتم الأنبياء والمرسلين – صلى الله عليه وسلم - باعتبار بعثته هداية ورحمة للعالمين !
============
#بين عقليّتين ونهجَين
د. عدنان علي رضا النحوي 13/8/1426
17/09/2005
انطلق العقل الغربي في العصور الحديثة من خلال تاريخ طويل استغرق قروناً، وتفاعلت فيه عوامل كثيرة وأحداث متعاقبة، لكنها كلها انطلقت من الوثنية اليونانية، وما حملت من علم ونظرة خاصة بالفنون والأدب، ونظرة خاصة للحياة والكون، اجتمعت كلها لتكوّن الفلسفة اليونانية الوثنية.
ولكن لابد أن نسرع فنقول: إن هذه الوثنية لم تكن هي أول أمر هذه الشعوب.
قد كان أول أمرهم الذي يعنينا هو رسالة الإيمان والتوحيد التي لا شك أنها بلغتهم كما بلغت كل أمة أخرى في التاريخ البشري، فقد بعث الله برحمته رسولاً إلى كل أمة أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت:
(وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ)] النحل: 36[
وكما كان شأن كثير من الأمم، فقد انحرفت اليونان عن التوحيد وغلبتها الوثنية بصورة شديدة، وعبدوا آلهة ابتدعوها من أنفسهم، وأقاموا لها التماثيل، ودخلت هذه الوثنية في جميع ميادين حياتهم وتصوّراتهم وأدبهم.
ولما قامت دولة الرومان لم يكونوا أهل أدب أو فكر، فأخذوا كل ذلك عن اليونان، وأصبح فكرهم وأدبهم امتداداً لفكر اليونان وأدبهم، ولما جاءت النصرانية إلى أوروبا اصطدمت بهذه الوثنية الطاغية على الحياة، وعانى رجال النصرانية معاناة شديدة مدة تزيد على ثلاثمائة سنة، أمكن بعدها التفاهم مع "قسطنطين" على أن يعينوه على الوصول إلى سدة الإمبراطورية الرومانية، مقابل تنازلات، ومقابل رفع الأذى عنهم.
خلال هذه المدة تأثرت النصرانية بالوثنية، ووقع خلاف بين النصرانيين أنفسهم، فريق يدعو إلى عقيدة التثليث، وفريق يرى أن عيسى عليه السلام ليس ابن الله ولا شبيها لله، ولكنْ رسول من عند الله، ونالت طائفة التثليث الدعم من الدولة، وأخذت بعض طقوسها من الوثنية الرومانية، وبدأت التساهل مع النصرانية الجديدة التي انحرفت عن رسالة عيسى عليه السلام، وفي سنة 311م وقع الإمبراطور جاليريوس مع ثلاثة آخرين بإعطاء حرية العبادة للنصارى.
ولما أصبح قسطنطين الأول (280 – 337م ) هو الإمبراطور اعترف بالدين الجديد، الذي لم يكن لديه النص الرباني الأصلي الذي جاء به عيسى عليه السلام، وإنما كان ما تناقله أتباعه وما دوَّنه علماؤه بعد عيسى عليه السلام بزمن غير قصير.
دعا الإمبراطور قسطنطين رجال الكنيسة إلى اجتماع في "نيقية Nicaea " سنة 325م في محاولة لتصفية النزاع بينهم وبين الأريوسيين الذين يقولون بأن عيسى عليه السلام ليس مشابهاً لله في الجوهر، والذين ينتسبون إلى آريوس الإسكندرية (ت:326م)، ولكن المجمع المنعقد في "نيقيه" أصدر قراراً يتبنى الطبيعة الثلاثية لعيسى عليه السلام (trinity) وتسمى هذه" بعقيدة نيسين Nicene Creed" .
هذه العقيدة كانت نتيجة التأثر بالتصورات الوثنية تأثراً انحرف بها عن التوحيد الخالص الذي جاء به عيسى عليه السلام.
ولما جاء الإمبراطور ثيودوسيس ( 346 – 395 ) فرض الكنيسة الكاثوليكية في جميع الإمبراطورية، وفرض القرار النيسيني، والتطور الثلاثي لطبيعة عيسى عليه السلام، ولإنهاء الصراع مع الأريوسيين دعا إلى لقاء كنسي سُمِّي فيما بعد "المجمع العالمي Ecumenical council " سنة 381م في مدينة القسطنطينية، وأقر هذا المجمع التصور الثلاثي والعقيدة النيسينية، وأخذ في مطاردة الأريوسيين واعتبرهم هراطقة.
لقد انتهى الصراع بين الوثنية والنصرانية إلى قيام الكنيسة الكاثوليكية التي تتبنى العقيدة النيسينية، وتطور الطبيعة الثلاثية لعيسى عليه السلام، والذي أصبح مذهب الإمبراطورية الرومانية كلها، وأصبح للكنيسة سلطان كبير على السلطة المدنية.
وبدأ صراع جديد بين الكنيسة والسلطة الزمنية من ناحية، وصراع بين الكنيسة والعلماء امتد زمناً غير قليل، ولقد حملت هذه الأحداث كلها امتداد التأثير الواضح للوثنية اليونانية في عصور أوروبا المختلفة: العصور الوسطى، أو عصر الظلمات، عصر النهضة، عصر التنوير، والعصر الحديث، وامتد التأثير إلى أعماق الفكر الأوروبي، وكان من أهم آثار هذا الصراع الممتد أن برزت العلمانية في أوروبا تحمل الرغبة الحاسمة للتحلل من الدين وعزله عن حياة المجتمع، وحصره بين جدران الكنيسة، ولقد حمل هذا الاتجاهَ عددٌ غير قليل من الفلاسفة الأوروبيين، واستقرَّت العلمانية في العالم الغربي توجِّه الفكرَ والأدب والأخلاق، والسياسة والاقتصاد، وأعطت الحرية الفرديةَ تفلُّتاً واسعاً في الجنس، وحرية في الرأي لا تعطِّل القرار الذي يتخذه القادة بين الكواليس، ويستغلون الدين كلما احتاجوا إليه.
وقد جعلت العلمانية رأس الأمر كله ومدار اهتمامهم الأول هو المصالح المادية الدنيوية الخاصة، فمن أجلها تدور الحروب أوالسلام، والوفاق أو الشقاق.
ولكن هذه الشعارات كانت تغلف بشعارات عامة مزخرفة كالديموقراطية والحرية وحقوق الإنسان ومساواة الرجل بالمرأة وغير ذلك.
إلا أن الديموقراطية في حقيقتها لم تشهد إلاّ الحروب التي تشعلها المصالح الخاصة والتنافس عليها واستغلال الشعوب بالإغراء أو القوة والبطش، ولا أظن أن تاريخ البشرية شهد استبداداً أشد من استبداد الأسلحة المدمرة الفتاكة التي تطلقها أمريكا على أجزاء كبيرة من العالم لفرض ما تسميه " الديموقراطية والحرية" ، ثم لا تجد إلا الخداع والكذب، والأشلاء والجماجم.
من خلال مسيرة العقل الأوروبي والغربي مع مسيرة العلمانية قدَّر الله أن ينهض الغرب بنهضة علمية وصناعية كبيرة، زوّدتهم بالقوة المادية الكبيرة والسلاح المدمر، وكان أساس هذا التطور ما أخذوه عن المسلمين عندما كان المسلمون في أوج تطورهم وازدهارهم العلمي، وأوروبا في ظلال الجهل.
وفي الوقت نفسه قدَّر الله أن يقع المسلمون في غفوة طويلة وغفلة كبيرة من خلال تاريخ طويل من الانحراف.
وعندما كانت أوروبا تغطُّ في ظلمات الجهل والتخلف، كان المسلمون هم قادة العالم بالعلم في ميادينه المختلفة، وقدّموا العلم ونشروه مع نشر رسالتهم ودينهم حيثما امتدوا.
برزت عبقريات المسلمين في شتى أنواع العلوم كالرياضيات والطبيعيات والطب والفلك والجغرافية، والاكتشافات الجغرافية، وفنِّ العمارة، وغيرها من العلوم.
كانت العبقريات قد انطلقت من الإسلام من الإيمان، من جميع الشعوب الإسلامية، لتخدم البشرية كلها نوراً وهداية، وعلماً وعدالة، وحرية ومساواة.
مهما وقعت انحرافات أو أخطاء في مسيرة المسلمين، فإنها لم تصل أبداً إلى ما بلغه الغرب من إفناء وتدمير ووحشية، لقد كان الإسلام يكبح نزعات الفتك الإجرامي، ولقد وجدت الشعوب التي دخلها الإسلام عدالة لم تعهدها في تاريخها، وحرية كريمة منضبطة تسود الجميع، وديناً يجمع البشرية كلها في ظلال الإسلام وأنداء الإيمان، ويضع الحقوق الصادقة لكل فئة أو طائفة، لينسجم الجميع تحت حكم الإسلام وشريعة الله الحقة.
لقد جمع الإسلام شعوباً مختلفة الأجناس واللغات لأول مرة في التاريخ البشري، عندما أعاد الإنسان إلى الفطرة التي فطره الله عليها، إلى حقيقة الفطرة السليمة غير المشوهة أو المنحرفة.
فانطلقت قوى الشعوب كلها منسجمة متآلفة، وجمع الإسلام بذلك طاقات الشعوب ومواهبها بعد أن آمنت وأسلمت لله رب العالمين، وبعد أن ذابت العصبيات الجاهلية من حزبية أو عائلية أو قومية، وبعد أن وجد كل شعب أنه آمن، ينال حقوقه كما تناله الشعوب الأخرى، على ميزان رباني عادل أمين.
فانطلقت بذلك الحضارة الإسلامية تصب فيها مواهب الشعوب كلها وقدراتها، وخيرات بلادها في مجرى واحد صافٍ، تقودها عقلية إسلامية صاغها القرآن الكريم وسنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، عقلية تنطلق من الفطرة السليمة التي أعاد الإسلام الناس إليها.
هذه الحضارة الإسلامية، ليست حضارة شعب واحد ولا حضارة بيئة واحدة، إنها حضارة الشعوب كلها، الشعوب التي تآلفت على الإسلام فطرةً وإيماناً وتوحيداً، وعلماً بمنهاج الله، وصراطاً مستقيماً واحداً، يجمع الناس كلهم على استقامته التي لا يضلُّ عنها مؤمن، وعلى تفرُّده بأنه سبيل واحدة لا سبل شتَّى، فلن يختلف عليه المؤمنون.
هذه الحضارة وهذه العقلية تميزت أيضاً بأنها جمعت المؤمنين كلَّهم على مدار التاريخ البشري أمة واحدة، على أسس واحدة وحق واحد.
فسورة الأنبياء، بعد أن تستعرض مسيرة عدد من الأنبياء والرسل عليهم السلام، وتبيِّن أنَّهم كلهم كانوا يدعون إلى دين واحد هو الإسلام، ولعبادة رب واحد هو الله الذي لا اله إلا هو، تختم السورة الكريمة هذا العرض بالآية الكريمة:
(إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) ]الأنبياء: 92[
ويتكرر هذا المشهد العظيم في سورة "المؤمنون"، حيث تستعرض السورة مسيرة الرسل والأنبياء الذين دعوا إلى دين واحد هو الإسلام، وإِلى عبادة رب واحد هو الله، تختم هذا العرض والمشهد بقوله سبحانه وتعالى:
(يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) ] [المؤمنون: 51-52[
هذه هي معركة التاريخ البشري تدور بين عقليتين ونهجين: عقلية تنطلق من الفطرة السليمة، ونهج رباني من عند الله على سبيل واحدة وصراط مستقيم، تتلقاه الفطرة السليمة بالإيمان والاتباع، وعقلية تنطلق من عواطف الأهواء وصراع المصالح، ومناهج بشرية تتلون من أرض إلى أرض، ومن مصلحة مادية إلى مصلحة، فيصارع بعضها بعضاً، كلٌّ يغلف أهواءه ومصالحه بزخارف كاذبة وزينة خادعة، سرعان ما يكشف الواقع كذبها وخداعها.
من هنا يعتبر الإسلام أن الحقَّ الأول للإنسان هو حماية فطرته التي فطره الله عليها، حمايتها من أن تفسد أو تلوَّث أو تنحرف، وجعل هذه الحماية مسؤولية الوالدين أولاً في الأسرة والبيت، ثم مسؤولية الأمة كلها بمختلف مؤسساتها، ابتداءً من المدارس والمسجد وامتداداً إلى سائر المؤسسات، ولنتدبَّر هذه الآيات الكريمة تعرض لنا خطورة أمر الفطرة:
( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) ]الروم: 30[
ولنتدبر حديث رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يرويه أبو هريرة رضي الله عنه:
"ما من مولود إلاَّ ويولد على الفطرة وأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحس فيها من جدعاء" [أخرجه الشيخان وأبو داود ، صحيح الجامع الصغير:5784]
هذه القضية، قضية الفطرة وحمايتها، أهملتها جميع المؤسسات التي تدّعي أنها ترعى حقوق الإنسان، وأهملتها نظريات التربية المادية المختلفة، وأنى لهذه المؤسسات كلها بعد هذا الإهمال أن تصدق في رعاية حقوق الإنسان، أو في تربيته وتعليمه وبنائه.
بعد إهمال الفطرة وحمايتها، ستخرج عقليات مختلفة متعددة متناقضة مضطربة، وستُخرِج هذه العقليات تبعاً لذلك مناهج شتّى وسبلاً شتّى ومصالح شتى يدور بينها الصراع، ليمثل هذا الصراع الجزء الأكبر من التاريخ البشري بين بحار من الدماء وأكوام هائلة من الجماجم والأشلاء.
ولذلك كانت هذه العقلية ومنهجها منذ بدايتها التي أشرنا إليها في الوثنية اليونانية، قد أهملت فطرة الإنسان وأهملت حمايتها في مسيرة طويلة حتى يومنا هذا.
ويبين الله لنا هذا الاختلاف الواسع بين هذين النهجين والعقليتين بقوله سبحانه وتعالى:
(وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) ]الأنعام: 153[.
فهنا صراط مستقيم وسبيل واحدة، وهناك سبلٌ شتى ودروب معوجة، هنا يلتقي الناس على دين واحدٍ و إيمان وتوحيد، وشريعة واحدة تنظم الحياة كلها وتبين الحقوق والواجبات والحدود، وهناك يلتقي الناس على مصالح ويفترقون عليها، وعلى شرائع شتى لا تلتقي إلاَّ على فتنة وفساد يخفونها تحت زخارف من شعارات الحرية والديموقراطية وغير ذلك.
تسعى أمريكا اليوم حسب دعوة بوش إلى جمع الناس على ما تسميه الديموقراطية، وما تدّعيه من حرية.
وفي هذه وتلك لا يوجد من حقيقة ثابتة إلاَّ الزخرف الذي سرعان ما ينكشف عن أقسى ما عرفته البشرية من مآس نشاهدها جليّة في بقاع متعددة من الأرض.
أنى التفتنا لا نجد إلاّ الأطماع الهائجة المتصارعة التي لا يكون اللقاء معها إلاَّ لقاءً آنيًّا قد ينقلب بعد حين إلى عداء و صراع.
فلا يمكن لدعوة الديموقراطية ولا الاشتراكية ولا العلمانية، مهما زينوها بالزخارف أن تجمع الشعوب كلها، وإن جمعت أحداً فإنها تجمعه تحت قهر القوة الجبارة والسلاح المدمر ليكون جمعاً آنيّا.
لا يمكن أن تجتمع البشرية إلاّ على الحق البين، إلاّ على دين الله الحق، دين الإسلام بجلائه وسموِّه وصدقه، فهو النهج الوحيد لدى البشرية كلها، النهج الذي يمكن أن يجمعها لتجد في ظلاله العدالة الأمينة غير المزيفة، والحقوق الصادقة لكل إنسان: للرجل والمرأة والتوازن الدقيق بين الحقوق والواجبات، والحرية المنضبطة للرجل والمرأة، للناس كافة.
إنه النهج الوحيد الذي يضع المرأة في ميادينها الحقيقية، والرجل في ميادينه الحقيقية، ويبني المجتمع على نظام دقيق، يعرف الرجل فيه مكانه و تعرف المرأة مكانها، ويعرف الجميع ميادين التعاون، عندما تعرف المرأة دينها وتؤمن به وتخضع له، ويعرف الرجل دينه ويؤمن به ويخضع له، سيعرف كلٌّ حدوده على صورة تتكامل فيها الجهود.
أما إذا غلب الجهل وثار الهوى، فتصدر عندئذ الفتاوى والآراء والاجتهادات مضطربة متناقضة لا تخضع إلى ميزان أمين، وتنحرف الآراء حتى تطلب المرأة أن تتساوى مع الرجل في كل نشاطاته، وربما ينقلب الوضع فيصبح الرجل يطلب المساواة بالمرأة، يسعى كثير من المفسدين في الأرض أن يحرفوا دين الله ويؤوِّلوه، حتى يكاد يصبح ديناً جديداً منبت الصلة عن دين الله. وسيدرك بعض المسلمين الذين يدعون إلى شعار مساواة المرأة بالرجل، عاجلاً أم آجلاً، أنهم إِنما يدعون إلى هلاك المرأة وهلاك الرجل وهلاك المجتمع.
ومهما حاول المفسدون والضعفاء أن يغيروا في دين الله فإن الله قد تعهد بحفظ دينه ولغة دينه، وإنما هي سنن لله في هذه الحياة الدنيا، يُبتلى بها الإنسان ويُمحَّص حتى تقوم الحجة له أو عليه يوم القيامة.
ولحكمة يريدها الله جعل من أوجه الابتلاء والتمحيص في هذه الحياة الدنيا بروز المفسدين والمجرمين، ليميز الله الخبيث من الطيب، فكم من الناس يخفون الوهن والانحراف في صدورهم، فتأتي سنن الله فتكشف هؤلاء وما يحملون وما يخفون.
إننا نعيش اليوم في مرحلة من مراحل التاريخ البشري، يقف فيها المسلمون موقف الوهن والضعف والهوان، والمجرمون في الأرض ملكوا القوة القاهرة والتطور المادي الكبير، على تخلّف خطير في قيم الدين، وعلى كبر واستكبار.
وفي الوقت نفسه جعل الله ما في السماوات والأرض مسخَّراً للإنسان، لكل من يسعى ويبذل، ويظل السعي والبذل باب ابتلاء واختبار، الميدان مفتوح للجميع، للمؤمنين وغير المؤمنين، كل يجني ثمرة سعيه:
(أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ) ] لقمان: 20[
وكذلك قوله سبحانه وتعالى:
(وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ)]الزخرف: 33 – 35[
فالمؤمنون يسعون في الحياة الدنيا، أو يجب أن يسعوا، ليمتلكوا القوة من العتاد والعلم، ليوفوا بالأمانة التي خُلِقوا للوفاء بها، وليس لزخرفٍ في الحياة الدنيا ومتاعها، إنَّ المؤمنين يحملون أمانة عظيمة في الأرض ولا بد أن تكون في يدهم أسباب القوة والمنعة، ليبلِّغوا دين الله للناس كافة كما أُنزل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولتكون كلمة الله هي العليا، وشرعه هو الذي يحكم، ليأخذ كل إنسان حقه العادل، ويقف عند حدوده العادلة، وأما المجرمون في الأرض فيسعون ليمتلكوا القوة من عتاد وعلم، ليفسدوا في الأرض، ويعتدوا ويظلموا، وينهبوا ويقتلوا، ظلماً وعدواناً.
( فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ) ] هود: 116[
أيها الناس إنكم تحملون أمانة عظيمة فانهضوا إليها، واصدقوا الله في أمركم كله، وكونوا صفاً واحداً لتوفوا بأمانتكم، ولا عذر لكم أن تقولوا: إن المجرمين يملكون القوة، فانهضوا واصدقوا يمكِّنكم الله من القوة ما آمنتم وأطعتم وصدقتم:
( إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) [غافر: 51[ (وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) ] الصف: 13 ] (...وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) ] الروم:47[ أيها المسلمون كونوا مؤمنين ينصركم الله ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ ....) [النساء: 136[.
============
#حول قداسة الحكّام في تاريخنا
أ. د. عماد الدين خليل 21/9/1426
24/10/2005
[ 1 ]
طالما ردّد الكثير من الباحثين في دوائر الاستشراق النصراني أو الماركسي، بأن هناك صعوبة كبيرة تقف في وجه الدارس للتاريخ الإسلامي، وهي أن الشخصيات الإسلامية أُحيطت بالقدسية ولاسيما الخلفاء، بل إنه حتى أولئك الخلفاء الذين بلغوا أقصى حدّ من الانهيار والانحراف، ظلّوا محاطين بالتقديس ما داموا يستمدون سلطتهم من الدين بصفتهم منفّذين للشريعة ومفسّرين لكلمة الله!
والحق أن هذه المقولة قد لا تعني شيئاً على الإطلاق إن لم تُضبط وتُحدّد تحديداً
دقيقاً، ومن ثم فإن إطلاقها على عواهنها قد يكون نوعاً من التعميم الذي هو نقيض البحث العلمي الجاد.
فإذا أُريد بالقدسية: العصمة أو التنزيه عن الخطأ والنقد والاعتراض ـ وهذا هو الراجح ـ فإن الشخصيات الإسلامية، بما فيها الخلفاء، كانت تجتهد رأيها فتصيب وتخطئ. وكلنا يذكر عبارة مالك بن أنس (رحمه الله): " كل بني آدم يُؤخذ منه ويردّ عليه إلاّ صاحب هذا القبر" ويعني النبيّ المعصوم عليه أفضل الصلاة والسلام. بل إن الخلفاء الراشدين (رضي الله عنهم) قالوها مراراً وأعلنوها تكراراً: إنهم جاؤوا لكي ينفذوا أمر الله، ويلتزموا شريعته المتضمنة في كتاب الله وسنة رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) فإن أصابوا فبها، وإن أخطؤوا فإن من حق الأمة التي ارتضتهم أن تقوّمهم وتردّهم إلى الطريق.
وكلّنا يذكر خطبة أبي بكر الصديق (رضي الله عنه) التي استهلّ بها خلافته "أيها الناس، إني قد وُليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأطيعوني، وإن أسأت فقوّموني .. أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم .." .. ويذكر خطبة عمر بن الخطاب (رضي الله عنه): "ولست أدع أحداً يظلم أحداً حتى أضع خدّه على الأرض، ثم أضع قدمي على الخدّ الآخر. ثم إني أضع خدّي على الأرض لأهل العفاف وأهل الكفاف".
ويذكر غير هذا وذاك الكثير من الوقائع في هذا الاتجاه. قال حذيفة بن اليمان: دخلت على عمر بن الخطاب ـ يوماً ـ فرأيته مهموماً حزيناً فقلت له: ما يهمك يا أمير المؤمنين؟ قال: إني أخاف أن أقع في منكر فلا ينهاني أحد منكم تعظيماً. فقلت: والله لو رأيناك خرجت عن الحق لنهيناك!! ففرح عمر وقال: الحمد لله الذي جعل لي أصحاباً يقوّمونني إذا اعوججت!
ويوماً صعد على المنبر وقال: يا معشر المسلمين ماذا تقولون لو ملْتُ برأسي إلى الدنيا كذا؟ فقام إليه رجل فقال: أجل .. كنا نقول بالسيف كذا (وأشار بالقطع). فقال عمر: إياي تعني بقولك؟ أجاب الرجل : نعم إياك أعني بقولي. فقال عمر: رحمك الله! الحمد لله الذي جعل في رعيّتي من إذا تعوّجت قوّمني!
وعن الحسن بن علي (رضي الله عنهما) قال: كان بين عمر بن الخطاب وبين رجل كلام في شيء، فقال له الرجل: اتّق الله. فقال رجل من القوم: أتقول لأمير المؤمنين اتق الله؟ قال عمر: دعه، فليقلها لي، نِعْم ما قال. لا خير فيكم إذا لم تقولوها، ولا خير فينا إذا لم نقبلها!
ويوماً نادى: الصلاة جامعة .. فلما اجتمع المسلمون صعد المنبر وقال: أيها المسلمون، لقد تذكرتني وأنا أرعى لخالات لي من بني مخزوم فيقبّضنني القبضة من التمر أو الزبيب. ثم نزل. فقال له عبد الرحمن بن عوف: ماذا أردت بهذا يا أمير المؤمنين؟ فأجاب: ويحك يا ابن عوف ، لقد خلوت إلى نفسي فقالت لي: أنت أمير المؤمنين، وليس بينك وبين الله أحد؛ فأنت أعلى الناس، فأردت أن أعرّفها قدرها!
وعثمان بن عفان ( رضي الله عنه ) وقف ـ فيما يحدثنا الطبري في تاريخه ـ يدافع عن نفسه أمام جموع الثائرين، ويدلي بحججه واحدة تلو أخرى وهم يثنّون عليها، وأبى أن تُسفك من أجله قطرة دم واحدة ، فضلاً عن أن يحتمي ـ وحاشاه ـ بقدسية مزعومة تضع بين خلفاء رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وبين جماهير أمتّهم سدًّا ، وتدمّر حقهم في الاعتراض.
وعلي بن أبي طالب (رضي الله عنه) وقف متهماً جنباً إلى جنب مع المدّعي
عليه، وهو أمير المؤمنين، والمدّعي يهودي من غير أبناء الأمة المتفوّقة .. يقف قبالة القاضي لكي يدفع التهمة عن نفسه.
وعمر بن عبد العزيز (رحمه الله) يعلن عن جائزة قدرها ثلاثمائة دينار لكل
من يقطع الطريق الطويل، ويجيء إلى دمشق ـ قاعدة الخلافة ـ لكي يقول هناك كلمة
(الحق) في مواجهة أمير المؤمنين!
[ 2 ]
تجاوز الخلفاء الراشدون (رضي الله عنهم) ما يسمى بالديمقراطية التي عرفها الغرب والتي كانت في كثير من الأحيان لا تعبّر سوى عن مصالح شرائح محدّدة من
المجتمع .. تجاوزوها إلى نوع مركّب من الديموقراطية (إذا استخدمنا تعبير مالك بن نبي رحمه الله) .. فكانوا يطلبون من جماهير أمتهم أن تنقدهم وتقوّمهم، ويحضّونها على ذلك، ويربّونها عليه.
بل إن الراشدين يمضون إلى ما هو أبعد من هذا، فيقاتلون شبح الافتتان في أنفسهم وعند الآخرين .. والافتتان وجه من وجوه القداسة، ومقاتلته تعني إشهار الحرب ضد القداسة الموهومة التي لا تقوم على أساس، والتي تقترب بالناس ـ أحياناً ـ من حافات الصنمية التي جاء الإسلام ثورة حاسمة لاستئصالها من الضمائر والنفوس.
لقد عزل عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) قائده الفذّ خالد بن الوليد خشية افتتان الناس به بسبب من انتصاراته العجيبة فيما تذهب إليه أرجح الروايات.
وهو يلاحق جذور الافتتان في أعماق نفسه من أجل أن يستأصلها، وهو من أجل ذلك يمارس نوعاً من تعرية الذات في مواجهة (الآخر) كي يحقق هدفه بأكبر قدر من الدفع والتكشّف، فيما مرّ بنا قبل قليل.
والمواقف كثيرة مزدحمة، والراشدون يمنحون تاريخ البشرية غنى عجيباً في دائرة حرية التعبير، والنقد، والمعارضة. وغير الراشدين ممن ساروا على هديهم، واقتفوا خطواتهم حكاماً وخلفاء وأمراء، قدّموا مثلاً عملياً على إسقاط مفهوم القداسة بمعنى التنزّه عن النقد والمعارضة والإدانة .. وبمعنى الافتتان بالذات، والارتفاع فوق رؤوس الناس، وتدمير تحرّرهم الوجداني الذي هو قاعدة شهادة (لا إله إلا الله) كما يفهمها المسلمون بعفوية وصدق بالغين!
وإننا لنذكر ها هنا ـ فضلاً عما أوردناه ـ ما فعله السلطان المجاهد نور الدين محمود ( 541-569 هـ ) في أعقاب انتصار من انتصاراته الحاسمة ضد الصليبيين عند قلعة حارم في شمالي الشام عام 559 هـ؛ إذ يتقدّم منه قاضي قضاته الشيخ النيسابوري ويقول له: لولا بلاؤك ما تحقّق لنا النصر! فماذا يكون الجواب؟: " مَنْ نور الدين محمود الكلب
حتى تقول له هذا؟ قبلي من حفظ الإسلام وبعدي من سيحفظه، ذلك هو الله الذي لا إله إلاّ هو !!".
وفي فترات زمنية سابقة كان الخليفة العباسي قد اعتقل مالك بن أنس وأبا حنيفة النعمان (رحمهما الله) لأنهما أصدرا فتوى بشرعية إحدى الثورات ضده!! وضرب خليفة عباسي آخر الإمام أحمد بن حنبل بالسياط؛ لأنه رفض الاعتراف بالمذهب الاعتزالي
الذي أعلنته الدولة مذهباً رسمياً!! وهؤلاء هم فقهاء الأمة وممثلوها أمام الله .. والسلطان .. والحق .. فلو كان الخليفة العباسي "مقدّساً" أو "محاطاً بهالة من القدسية" -كما يدّعي العلمانيون والماركسيون ونصارى الاستشراق ويهوده - فكيف يبيح هؤلاء الفقهاء لأنفسهم خرق قدسية تستمدّ مقوّماتها من الدين الذي يعبّرون عنه ويذودون؟
وليس مهمّا أن يدّعي بعض خلفاء بني العباس قدسية ما أنزل الله بها من سلطان، يذودون بها عن سلطتهم .. وليس مهّما ـ أيضاً ـ ادّعاؤهم حق التفويض الإلهي بحكم المسلمين حكما مطلقاً .. ولكن المهم هو موقف الخلفاء الأكثر تمثيلاً لحقيقة هذا الدين إزاء هذه القضية، وقد أشرنا إلى نماذج منه .. كما أن من المهم موقف جماهير الأمة وقادتها من المسألة نفسها، وقد عرضنا لشاهد منه ..
وما لنا ألاّ نرجع إلى الرسول المعلّم نفسه (عليه أفضل الصلاة والسلام) وهو النبيّ المبعوث، لنعاين بعض مواقفه إزاء القدسية المزعومة هذه .. تلك المواقف التي تصفع مقولات كذَبَة العصر الحديث ودجّاليه من أعداء هذا الدين ..
رأى (صلى الله عليه وسلم) رجلاً يرتعد أمامه تعظيماً وخوفاً فقال له: هوّن عليك فإنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد وتمشي في الأسواق!
وكان يقول لأصحابه: لا تقوموا لي كما تقوم الأعاجم لأكاسرتها! وعندما خرج لتشبيع ابنه الصغير إبراهيم .. حدث وأن تعرّضت الشمس لكسوف جزئي فقال بعض المشيعين: إنها كسفت لموت إبراهيم .. فردّ رسول الله: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا تنكسفان، ولا تنخسفان لموت أحد من الناس ..
وعندما دخل مكة فاتحاً .. وهو حلمه الكبير الذي انتظره السنوات الطوال، دخلها وهو يطأطئ رأسه حتى مسّت لحيته الشريفة ظهر ناقته القصواء شكراً لله سبحانه، وعرفاناً بالنصر الذي منحه إياه ..
نقارن هذا بصورة نابليون بونابرت المعلّقة على جدران اللوفر في باريس، لحظة دخوله برلين فاتحاً بعد معركة (ينّا) ضد الألمان عام 1807م .. كان منتفخ الأوداج .. مصعّر الخدّ .. دافعاً بصدره إلى الأمام غروراً واستكباراً ..
فأين هو ادّعاء القدسية يا أدعياء البحث العلمي في التاريخ ؟!
[ 3 ]
فماذا عن موقف "مؤرّخينا" من مسألة القدسية المزعومة هذه؟
مع اعترافنا المحتوم بحشود الأخطاء التي وقع فيها معظمهم، مبالغة أو تحزّباً أو تحريفاً أو قبولاً للأكاذيب، مما دفع مؤرّخاً كابن خلدون إلى وضع (مقدمته) المعروفة لصياغة معايير منهجية من أجل حصر وتجاوز هذه الأخطاء في التعامل مع المرويات التاريخية .. رغم هذا، فإن معظم هؤلاء المؤرخين حكوا عن الأسود والأبيض في سير الخلفاء وغير الخلفاء .. والتقديس الذي أحاط به بعض الخلفاء أنفسهم، لم يمنع العديد من المؤرخين من سرد الحقائق كما هي حتى وإن كشفت عن عيب أو نقيصة في هذا الخليفة أو ذاك .. بل إن مؤرخاً كبيراً كالطبري رفض قبول أي هدية من السلطة من أجل ألاّ يكون ذلك على حساب تحرّره من أي ضغط، وقدرته على سرد الحقيقة كما هي دون زيادة أو نقصان.
وثمة فرق كبير بين اعتبار الخليفة محوراً أساسياً تتمحور عنده الرواية التاريخية بسبب من دوره الأساسي في صناعة الحدث التاريخي، وبين إحاطته بالقدسية التي تخرجه بالكلية عن دائرة النقد والتقويم، وتحيطه بالهالة التي يخدع بها عامة المسلمين، والتي تجعل المؤرخ أو دارس التاريخ الإسلامي لا يستطيع أن يتناسى هذه القدسية التي أُضفيت على الخلفاء وغير الخلفاء، ولا يستطيع أن يجرّدهم من الهالة الدينية التي زادها مرور الزمن شدة وقوة! كما يزعم خصوم هذه الأمة!
وبمقدور أي قارئ عادي، فضلاً عن الدارس المتخصّص، أن يرجع إلى أي من مصادرنا التاريخية: ( المسعودي في مروج الذهب، أو الطبري في تاريخ الرسل والملوك، أو الدينوري في الأخبار الطوال، أو ابن الأثير في الكامل، أو ابن كثير في البداية والنهاية .. وغيرهم) لكي يرى بأم عينيه حشوداً من الروايات التي تمدح هذا الخليفة أو ذاك، وحشوداً أخرى تقدح فيه، وتنشر مثالبه أمام الأجيال! وهو أمر قد لا يحتاج بأكثر من إلقاء نظرة عجلى على معطيات تلك المصادر.
وثمة ما يجب أن نقف عنده لحظات ها هنا، ذلك أن تراث الأجداد في ميدان البحث التاريخي لا يقتصر على نمط واحد فحسب هو التاريخ السياسي العام، كالذي أنجزه المؤرخون الذين أشرنا إليهم، لكي نبني عليه حكماً عاماً ينطوي على كونه تاريخاً للفئة الحاكمة أولاً، وعملاً يتجاوز النقد ويتحاشى الكشف عن العيوب والأخطاء بسبب من إحاطة أفرادها بالقدسية، من جهة ثانية .. فنحن ـ حتى على فرض التسليم بهاتين المقولتين اللتين قد ترتبطان بمصنّفات التاريخ السياسي العام ـ فإن علينا أن ننتبه إلى الأصناف الأخرى من التآليف في حقل التاريخ والحضارة الإسلامية. وأوّل ما يلفت النظر في هذا السياق، ذلك الصنف المعروف "بكتب التراجم"، والتي تمثل الصنف الأكثر كثافة وازدحاماً في المكتبة التاريخية الإسلامية؛ إذ تكاد تغطي نسبة سبعين إلى ثمانين بالمائة من رفوف هذه المكتبة.
وكتب التراجم هذه، بمساحتها الواسعة تلك، لا تتعامل -إلاّ في حالات محدودة- مع الفئة الحاكمة، وتقف عندها، ولكنها تمضي إلى قلب المجتمع، إلى كل أولئك الذين أغنوا الحياة الفكرية والثقافية في تاريخ الأمة المسلمة، علماء وفقهاء ونحاة وأطباء وقضاة ولغويين ومحدّثين وشعراء ومعماريين ومهندسين وفلاسفة وفلكيين ومفسّرين وجغرافيين ومؤرخين .. إلى آخره .. بصرف النظر عن قربهم أو بعدهم عن السلطة .. وبالتالي بصرف النظر عن كل محاولات القداسة التي يدّعي الباحثون إياهم أن رجالات السلطة قد أحاطوا أنفسهم بها، فصدّوا البحث التاريخي بالتالي، عن أن يمضي قدماً للكشف عن الحقائق بشكل موضوعي غير متحيّز.
إننا، في دائرة كتب التراجم هذه، نلتقي بمئات، بل بألوف الناس الذين جاؤوا من قاع المجتمع حيناً، ومن طبقاته الوسطى حيناً آخر، والذين ما كانت لهم أيما علاقة مباشرة أو غير مباشرة بمراكز الحكم والسلطان، ومن ثم فإن بمقدور الباحث في العصر الحديث أن يجد أمامه واحدة من أوسع الشرائح في مجموعة المصادر التاريخية بعداً عن ادّعاءات التأثيرات الخاصة بقدسية الحكام!
فإذا أضفنا إلى كتب التراجم، الأنماط الأخرى التي تغذّي البحث التاريخي، والتي لا ترتبط هي الأخرى بمراكز الحكم والسلطان، من مثل كتب الجغرافيا والرحلات، والتاريخ المحلّي، وتواريخ المدن والأقاليم، وكتب الخطط، ومصادر التاريخ الأدبي، والمصنفات الموسوعية .. إلى آخره .. أدركنا كم أن القياس على مصادر التاريخ السياسي العام وحدها يتضمن قدراً من التعميم الخاطئ الذي هو نقيض المطالب المنهجية. هذا رغم أنه ـ مما يتناقض مع هذه المطالب كذلك ـ اعتبار مصادر التاريخ السياسي العام انعكاساً لحالة التقديس ـ المبالغ فيها ـ والتي قال الأدعياء بأن الخلفاء والحكام أحاطوا بها أنفسهم، فصدّوا المؤرخين عن إنجاز أعمال تتسم بالدقة والموضوعية كما خُيّل إليهم ..
[ 4 ]
ثمة ما يرتبط بما ذكرناه لدى قساوسة الاستشراق وحاخامات التفسير المادي للتاريخ وأنصاف الملاحدة من العلمانيين .. وكلهم من خصوم هذه الأمة وعقيدتها وتاريخها، رغم أن بعضهم من المحسوبين على الجغرافيا الإسلامية ويحملون في دفاتر نفوسهم أسماء إسلامية!!
إنهم يخلطون بين الخلفاء الراشدين ومن تبعهم بإحسان، وبين غيرهم من سلاطين المسلمين وخلفائهم وحكامهم .. ثم هم يخلطون هؤلاء جميعاً بأباطرة النصرانية وملوكها وباباواتها في القرون الوسطى؛ إذ لا اعتراض ولا نقد؛ لأن الاعتراض يعني الكفر،
والنقد يعني الهرطقة .. وصكوك الغفران تمضي بهؤلاء وهؤلاء إلى حافات الذّل والعذاب في الحياة الدنيا، وتدمغهم بالطرد من الجنة في الآخرة .. ثم هم يمضون خطوة أخرى فيعلنون أن أوروبا قدرت على فصل الدين عن السياسة في نهاية الأمر، فحرّرت السلطة هناك من القداسة، ومكنّت المؤرخين ـ بالتالي ـ من أن يكتبوا تاريخاً أشد دقة وإحكاماً، بينما عجز الشرق الإسلامي عن تحقيق هذا الفصل فامتلأ تاريخه بالتزوير والتحوير! وأصبح من ثم بحاجة-بعد إذ تحقق الفصل الموعود- إلى أن يُكتب من جديد!
لقد كان اقتران الديني بالدنيوي في أوروبا ـ ولأسباب تاريخية ليس هذا مجالها ـ نقيضاً لحرية التعبير الفكري أو المذهبي أو الذاتي، بل نقيضاً حتى لحرية التعبير العلمي، ومن ثم جاءت خطوة فك الارتباط بين الحلقتين -وبعد صراع مرير- لصالح الحرية الإنسانية في مجالاتها كافة، بما فيها البحث العلمي والتاريخي على وجه الخصوص؛ إذ لم يعد ثمة ما يصدّ الباحث عن المضي قدماً في التحقق بأكبر قدر من الموضوعية.
وعلى العكس تماماً، فإن اقتران الديني بالدنيوي في عالم الإسلام، كان تأسيساً للحرية وتأكيداً لها في سائر السياقات الفكرية والمذهبية والذاتية، ودفعة قوية في مجال حرية التفكير وإنشاء مؤسسات وتقاليد ومناهج البحث العلمي الذي يؤكد الغربيون اليوم كم أنهم في حضارتهم المتفوّقة الراهنة مدينون بصدده لعالم الإسلام وحضارته وتقاليده.
وهؤلاء الأدعياء يتوهمون، أو يتعمدون التوّهم، بأن هناك توازياً بين التجربتين النصرانية والإسلامية، ويصرّون على استخدام عبارة "العصور الوسطى" كإطار زمني للتجربتين من أجل تأكيد وهمهم هذا، وهو أسلوب في التعميم لا يستند إلى أساس سليم. فليس المهم أن تحدث التجارب في زمن واحد، وإنما المهم هو طبيعة التجربة ومكوّناتها الأساسية، وتوجّهاتها الرئيسة. فها هنا بصدد الطبيعة والمكونات والتوجهات، نجد التجربتين تفترقان ابتداء، وعلى زاوية مائة وثمانين درجة، فتذهب إحداهما في اتجاه وتمضي الأخرى في اتجاه معاكس تماماً، ومن ثم فإن أي مقارنة بين التجربتين تحترم العلم والمنهج، يجب أن تلحظ هذا، وإلاّ فإنه التعصّب الأعمى، أو الجهل، مما يجعل أدعياء العلمية هؤلاء يخلطون بين التجربتين، ويضعون البيض كلّه في سلة واحدة.
لقد كانت إحدى أهم نقاط الارتكاز في العقيدة والتصور الإسلاميين هو التحرّر العقلي والسلوكي والوجداني من أي شبهة قد تقود إلى القداسة والصمنية والافتتان، وإقامة الأسلاك الشائكة ضد النقد والتقويم. ولقد كان هذا أمراً طبيعياً؛ لأنه ينبثق عن قاعدة الإسلام الأساسية: التوحيد المطلق لله سبحانه، وضرب كل صور الشرك والعبودية لغيره. حتى إننا لنجد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يبذل جهداً صعباً مع أصحابه الكرام (رضي الله عنهم) فيربّي فيهم هذا الحسّ بدءًا من التعامل معه كنبيّ، وأن عليهم أن يفرّقوا بشكل حاسم بينه كرسول ينقل إليهم تعاليم السماء، ويفسّرها، ويوضحها، وبينه كإنسان (بشر) فيما أكده القرآن الكريم أكثر من مرة: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ...)[الكهف: من الآية110]، (...قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً)[الإسراء: من الآية93].
بينما في التجربة النصرانية المحرّفة تصير القاعدة هي الشرك والتثليث، وتصبح قداسة الأشخاص وصنميات التسلسل الكهنوتي حاجزاً عالياً صعباً يصدّ المنتمين للنصرانية عن أي محاولة للتحاوز بالنقد والتقويم والاحتجاج؛ لأنهم ـ ابتداءً ـ انكسروا من الداخل .. اعتادوا الانحناء للرموز النصرانية وعدم مواجهتها بسبب من أنهم مُرّرت عليهم أسطورة التثليث والقداسة فتكيّفوا عقلياً وسلوكياً ووجدانياً وفق مطالبها الموهومة.
ولقد انعكست كل من التجربتين الإسلامية والنصرانية على التاريخ.. على معادلات الزمان والمكان، فتشكلت أولاهما وفق مبادئ ومنطلقات تختلف في جوهرها عما تشكلت به الأخرى
============
#كيف واجهت الحضارة الإسلامية مشكلة المياه؟
عرض : طارق ديلواني 8/5/1427
04/06/2006
- تأليف :د. خالد عزب
- صدرعن المنظمة الإسلامية للتربية والثقافة والعلوم (الاسيسكو).
صدر مؤخراً عن المنظمة الإسلامية للتربية والثقافة والعلوم (الاسيسكو) في المغرب، كتاب «كيف واجهت الحضارة الإسلامية مشكلة المياه؟»، للدكتور خالد عزب مدير إدارة الاعلام بمكتبة الإسكندرية، وقدمه الدكتور عبد العزيز التويجري مدير عام (الاسيسكو).
الكتاب حاول أن يلخص تعدد مجالات الإبداع في الحضارة الإسلامية، حيث ازدهرت العلوم والمعارف والآداب والفنون، وفي مقدمتها علم المياه الذي يبحث في خصائص الماء، وفي تصريفه، وفي استغلاله.
وفي استخراجه من باطن الأرض، وفي بناء السدود، وتشييد الجسور، وفي كل شأن من الشؤون المتعلقة بالمياه، وأكد "التويجري" أن العرب تفوقوا في هذا الحقل العلمي تفوقاً باهراً، ووجّه الشكر لمؤلف الكتاب على جهوده؛ إذ سبر غوْر علم صعب المنال للكثيرين.
ويعنون (خالد عزب) الفصل الأول من كتابه «الماء في الشرع الشريف» وذكر فيه أن الرؤية الإسلامية للماء على كونه أصل الحياة، هبة من الله، وشراب المعرفة، وله أيضاً معنى تطهيرياً؛ لأنه يطهر المسلم خارجياً (جسده)، وداخلياً (روحه)، وأن إمداد الآخرين بالماء، سواء كان إنساناً أو حيواناً، يعد زكاة في الإسلام.
ثم يتناول المؤلف علم استنباط المياه عند المسلمين، مستعرضاً مؤلفات علماء المسلمين في علم استنباط المياه، وأول كتاب عُرف في هذا العلم «علل المياه وكيفية استخراجها واستنباطها في الأرضين المجهولة» الذي ألفه ابن وحشية، من أهل المئة الثالثة الهجرية.
ويكشف الكتاب عن أن مدينة مدريد الإسبانية تدين بفضل وجودها لشبكة المياه التي مدها العرب ببراعة من خارج المدينة إلى طرقاتها، وهي ممدودة بمناسيب محسوبة بدقة، واسم مدريد نفسه يدل على ذلك (مجري ـ يط) وهما كلمتان عربية ولاحقة لاتينية دارجة تدل على التكثير أي تكثير المياه.
ويطوف بنا المؤلف في الفصل بين العديد من تجارب المدن الإسلامية في مواجهة مشكلة المياه من فاس إلى مراكش إلى الجزائر إلى بلغراد ثم سمرقند، ومستعرضاً الأساليب التقنية الخاصة لحل مشكلات المياه، سواء الأفلاج في الإمارات وعمان، أو الخيول في اليمن أو المواجل في تونس.
لكن الكتاب يفتح الباب للجدل حول قضية في غاية الأهمية، وهي قضية الأمن المائي العربي في عصر العولمة حالياً؛ إذ تتسارع الخطا لأن تكون حروب العالم المقبلة على قطرة الماء.
ولا يمكن لنا أن ننكر أن ثمة تحدياً قادماً يواجه أمتنا العربية هو تحدي المياه، ففي غضون الـ (20) عاماً المقبلة ستصل أزمة المياه إلى ذروتها، وستعاني الأمة –برمتها- من "الفقر المائي".
و"إسرائيل" التي استولت على 60% من احتياجاتها المائية بقوة السلاح من العرب منذ عام 1967 لم تكتف بذلك، بل إنها تحاول العبث بمقدرات العرب بتشجيع أوغندا وتركيا على إقامة السدود حتى لا تصل المياه إلى الدول العربية من خارجها!
وعلى هذا فإن الأمن المائي في هذا القرن سيكون عنصراً أساسياً في تحديد مسار الأمن السياسي لكثير من الدول.
وتوضح التقارير أن استهلاك المياه في العالم قد ارتفع من (1360) مليار كيلو متر مكعب عام 1950 إلى (4310) مليار كيلو متر مكعب عام 1990، وتستهلك الصناعة 23% ثم الاستخدامات المنزلية 8%، ويرى الكثيرون أن العالم مقبل على مشكلة نقص المياه في القرن الحادي والعشرين، ومن هنا أوصت المؤتمرات المعنية بإنشاء وكالات متخصصة لحماية أحواض الأنهار مثل حوض النيل وحوض الفرات، لتطرح حلولاً دبلوماسية هادئة تستأصل جذور الصراع حول المياه وتحويلها إلى عنصر جاذب لدول الحوض ..وتوحّد جهودها من أجل احترام حصصها وحمايتها من التلوث.
ويعاني الوطن العربي من ندرة موارده المائية، فالجزء الأكبر منه يقع في المناطق الجافة .. التي تتميز بأن معدلات هطول الأمطار فيها غير منتظمة وغير متوقعة، وعلى الرغم من أن مساحة العالم العربي تشكل نحو 10% من إجمالي مساحة الكرة الأرضية، إلاّ أن معدلات هطول الأمطار بها لا تزيد عن 2% فقط من أمطار العالم، كما أن حوالي 55% من إجمالي الطلب على المياه في الدول العربية يتم توفيره من الموارد المائية (السطحية ـ الجوفية) المشتركة مع الدول المجاورة خارج المنطقة العربية، مما سيؤدي إلى حدوث عواقب سلبية داخل الوطن العربي، فضلاً عما يصاحب هذه المشكلة من تعقيدات سياسية واقتصادية واجتماعية، ويُقدّر حجم إجمالي الموارد المائية في الدول العربية بحوالي (328) مليار م 3/ سنة، والذي يمثل حوالي 0.8% من إجمالي الموارد المائية المتجددة في العالم، وتمثل المياه الجوفية ما يقرب من 14 % من الموارد المائية.. ويصل متوسط نصيب الفرد من المياه المتاحة المتجددة في الإقليم إلى حوالي (1.278) م3/فرد/سنة، بينما يصل هذا المتوسط في غالبية دول هذا الإقليم إلى أقل من خط "الفقر المائي"؛ إذ يُقدّر الحد الأدنى للحاجة من المياه بمقدار (1000) م3/فرد/سنة.
وفي ظل الندرة النسبية للموارد المائية المتاحة بالوطن العربي ومحدودية هطول الأمطار، وبداية بوادر استنزاف المياه وتدهور نوعيتها، إلى جانب ارتفاع معدلات النمو السكاني بالإقليم العربي.. والنمو الحضري السريع في مشروعات الري ستؤدي كل هذه العوامل إلى تفاقم المشكلة المائية عاماً بعد عام.
يشير الباحث أحمد سيلمان في دراسته القيمة "مستقبل الأمن المائي العربي في عصر العولمة: رؤية حضارية" إلى أن إسرائيل تطمع في زيادة مواردها من خلال مشروعات تعاون إقليمية مع الدول المحيطة بها لتحقق لها أمنها القومي، وتستوعب الزيادة السكانية المقدرة بنحو (1.6) مليون نسمة من المهاجرين الجدد فضلاً عن التوسع الزراعي بنحو (2.16) مليون فدان جديدة، الأمر الذي يساعد إسرائيل على زيادة قوتها البشرية والعسكرية وقدرتها الشاملة على حساب الدول العربية.
وبالعودة إلى الرؤية الإسلامية التي يطرحها الكاتب الدكتور خالد عزب نجد إن نصوص الشريعة الإسلامية أجمعت على المحافظة على موارد المياه، وعلى حمايتها من كل العوامل التي تسبب فسادها.
وجاءت أحكام الشرع لتنبه إلى أهمية الماء في الحياة، وتحظر من الإسراف في استهلاكه في أغراض الشرب والصناعة والزراعة وفي مجال العبادات سواء أكانت هذه المياه متوفرة بكثرة أو محدودة الكمية؛ لأن العبرة بالتصرف الأخلاقي المتوازن فيها وليس بالنظر إلى كثرتها أو قلتها حتى تحتفظ البيئة بهذا المورد المهم.
=============
# شهادة التاريخ..ما الذي فعلناه وما الذي فعلوه؟
أ. د .عماد الدين خليل 1/12/1426
01/01/2006
[ 3 ]
وما هي إلا لمحات فحسب مما تحدّث عنه توماس أرنولد فأطال الحديث، ولن تغني الشواهد هنا عن متابعة هذا الكتاب ـ الوثيقة ـ الذي يجيء على يد باحث يحترم العلم بالقدر الذي لم نألفه لدى الغربيين في تعاملهم مع عقيدتنا وتاريخنا إلا نادراً(1).
ما الذي كان يحدث في المجتمعات الأخرى بين أبناء الدين الغالب وبين المنتمين للأديان والمذاهب الأقل انتشاراً؟
يقول غوستاف لوبون: "لقد أُكرهت مصر على انتحال النصرانية، ولكنها هبطت بذلك إلى حضيض الانحطاط الذي لم ينتشلها منه سوى الفتح العربي. وكان البؤس والشقاء مما كانت تعانيه مصر التي كانت مسرحاً للاختلافات الدينية الكثيرة في ذلك الزمن. وكان أهل مصر يقتتلون ويتلاعنون بفعل تلك الاختلافات، وكانت مصر، التي أكلتها الانقسامات الدينية وأنهكها استبداد الحكام، تحقد على سادتها الروم، وتنتظر ساعة تحريرها من براثن قياصرة القسطنطينية الظالمين"(2).
ويقول الندوي: "ثارت حول الديانة النصرانية وفي صميمها مجادلات كلامية شغلت فكر الأمة واستهلكت ذكاءها وتحولت في كثير من الأحيان إلى حروب دامية، وقتل وتدمير وتعذيب ، وإغارة وانتهاب واغتيال، وحوّلت المدارس والكنائس والبيوت إلى معسكرات دينية تتنافس، وأقحمت البلاد في حرب أهلية، وكان أشد مظاهر هذا الخلاف الديني ما كان بين نصارى الشام والدولة الرومية، وبين نصارى مصر، أو بين الملكانية والمنوفيسية بلفظ أصح. وقد اشتد الخلاف بين الحزبين في القرنين السادس والسابع حتى صار كأنه حرب بين دينين متنافسين، أو كأنه خلاف بين اليهود والنصارى، كل طائفة تقول للأخرى: إنها ليست على شيء... وشهدت مصر من الفظائع ما تقشعر منه الجلود، فرجال كانوا يُعذّبون ثم يُقتلون إغراقاً، وتوقد المشاعل وتسلط نارها على الأشقياء حتى يسيل الدهن من الجانبين إلى
الأرض، ويُوضع السجين في كيس مملوء من الرمال ويُرمى به في البحر، إلى غير ذلك من الفظائع "(3).
وحدث بين اليهود والنصارى ما هو أشد هولاً، ففي السنة الأخيرة من حكم فوكاس
(610م) على سبيل المثال، أوقع اليهود بالمسيحيين في أنطاكية، فأرسل الإمبراطور قائده أبنوسوس ليقضي على ثورتهم، فذهب وأنفذ عمله بقسوة نادرة، فقتل الناس جميعاً،
قتلاً بالسيف، وشنقاً وإغراقاً وتعذيباً ورمياً للوحوش الكاسرة. وحدث ذلك بين اليهود والنصارى مرة بعد مرة. وهذه واحدة من نماذج التعامل بين الطرفين يوردها المؤرخ المصري المقريزي: " في أيام فوقا ملك الروم بعث كسرى ملك فارس جيوشه إلى بلاد الشام ومصر فخرّبوا كنائس القدس وفلسطين وعامة بلاد الشام، وقتلوا النصارى أجمعهم، وأتوا إلى مصر في طلبهم، وقتلوا منهم أمة كبيرة، وسبوا منهم سبياً لا يدخل تحت حصر، وساعدهم اليهود في محاربة النصارى وتخريب كنائسهم، وأقبلوا نحو الفرس من كل مكان فنالوا من النصارى كل منال، وأعظموا النكاية فيهم، وخرّبوا لهم كنيستين في القدس، وأحرقوا أماكنهم وأسروا بطريك القدس وكثيراً من أصحابه... وكان هرقل قد ملك الروم، وغلب الفرس، ثم سار من قسطنطينية ليمهد ممالك الشام ومصر ويجدد ما خربه الفرس، فخرج إليه اليهود من طبرية وغيرها وقدموا له الهدايا الجليلة، وطلبوا منه أن يؤمنهم ويحلف لهم على ذلك، فأمّنهم وحلف لهم، ثم دخل القدس وقد تلقاه النصارى بالأناجيل والصلبان، فوجد المدينة وكنائسها خراباً، فساءه ذلك، وأعلمه النصارى بما كان من ثورة اليهود مع الفرس، وأنهم كانوا اشد نكاية لهم من الفرس، وحثوا هرقل على الوقيعة بهم وحسنوا له ذلك، فاحتج عليهم بما كان من تأمينه لهم وحلفه، فأفتاه رهبانهم وبطاركتهم وقسيسوهم بأنه لا جرم عليه في قتلهم، فمال إلى قولهم وأوقع باليهود وقيعة شنعاء أبادهم جميعهم فيها، حتى لم يبق في ممالك الروم بمصر والشام منهم إلا من فر واختفى"(4).
أما ما فعله النصارى بالمسلمين عندما تمكنوا منهم، فيكفي أن نشير إلى ما نفذته السلطة والكنيسة الاسبانيتين عن طريق محاكم التحقيق مع بقايا المسلمين في الأندلس بعد سقوط آخر معاقلهم السياسية: غرناطة، مما قصه علينا بالتفصيل العلمي الموثق محمد عبد الله عنان في كتابه القيم (نهاية الأندلس وتاريخ العرب المتنصرين)(5)، وما فعلته قوى الاستعمار الصليبي في آسيا وإفريقية مع الشعوب الإسلامية عبر القرون الأخيرة، وما تفعله القيادات الإفريقية النصرانية مع المسلمين.
[ 4 ]
في العصر الأموي والعصور العباسية التالية، حين ازداد المجتمع الإسلامي تعقيداً واتساعاً، و أخذت منحنيات الإبداع الحضاري تزداد صعوداً واطراداً، وتزداد معها المؤسسات الإدارية نضجاً ونمواً، أخذ الموقف من غير المسلمين يتألق بالمزيد من صيغ التعامل الإنساني أخذاً وعطاء.
لقد فتح المسلمون، قواعد وسلطة، صدورهم لغير المسلمين يهوداً ونصارى ومجوساً وصابئة، وأتاحوا للعناصر المتميزة من هؤلاء وهؤلاء احتلال مواقعهم الاجتماعية والوظيفية في إطار من مبدأ تكافؤ الفرص، لم تعرفه أمة من الأمم عبر تاريخ البشرية كله: لقد ساهم غير المسلمين في صنع الحضارة الإسلامية وإغنائها، دونما أي عقد أو حساسيات من هذا الجانب أو ذاك، كما فُتح الطريق أمامهم للوصول إلى أعلى المناصب، بدءاً من الكتابة في الدواوين وانتهاء بمركز الوزارة الخطير نفسه، وأُتيح لأبناء الأديان والمذاهب الأخرى أن يتحركوا في ساحات النشاط الاقتصادي والمالي بحرية تكاد تكون مطلقة، فنمّوا ثرواتهم وارتفعوا بمستوياتهم الاجتماعية بما يوازي قدراتهم على العمل. والنشاط، وملؤوا بهذا وذاك مساحة واسعة في ميدان النشاط الاقتصادي والمالي جنباً إلى جنب مع مواطنيهم المسلمين، بل إن بعض الأنشطة المالية والاقتصادية كادت تصبح من اختصاص أهل الكتاب، تماماً كما كانت الترجمة في المجال الثقافي من نصيبهم، وكما كانت بعض الوظائف الإدارية والكتابية في المجال الإداري من نصيبهم كذلك.
إنه مجتمع تكافؤ الفرص، والحرية العقديّة، والانفتاح. لقد استجاب المسلمون للتحدي الاجتماعي، وكانوا في معظم الأحيان عند حسن ظن رسولهم - صلى الله عليه وسلم- بهم، وهو يوصيهم قبل انتقاله إلى الرفيق الأعلى أن يكونوا رفقاء بأهل الذمة!!
الوقائع كثيرة، تيار من المعطيات التاريخية نفذت في ساحة المجتمع الإسلامي عبر القرون الطوال، نفذت على مختلف الجبهات ووفق سائر الاتجاهات الحضارية والإدارية والاقتصادية، والاجتماعية عموماً.. ونلتقي بشهادة فيليب حتي في كتابه (تاريخ العرب المطول) فهي تحمل دلالتها ولا ريب كشاهد على معطيات هذا التيار الواسع: " تمتع أهل الذمة بقسط من الحرية لقاء تأديتهم الجزية والخراج. وارتبطت بالفعل قضاياهم في الأمور المدنية والجنائية برؤسائهم الروحيين، إلا إذا كانت القضية تمسّ المسلمين... ".
" لقد كانت ميسون زوجة معاوية نصرانية، كما كان شاعره نصرانياً، وكذلك كان طبيبه وأمير المال في دولته... "(6).
"وأقام الذميون في مزارعهم ومنازلهم الريفية، وتمسكوا بتقاليدهم الثقافية، وحافظوا على لغاتهم الأصلية؛ فكانت لهم الآرامية والسريانية لغة في سوريا والعراق، والإيرانية في فارس، والقبطية في مصر... وفي المدن تقلد النصارى واليهود مناصب هامة في دوائر المال والكتابة والمهن الحرة، وتمتعوا في ظل الخلافة بقسط وافر من الحرية، ونالوا كثيراً من التساهل والعطف. وشهد بلاط العباسيين مناقشات كتلك التي جرت في بلاط معاوية
وعبد الملك، وقد ألقى تيموتاوس بطريك النساطرة في سنة (781 م) دفاعاً عن النصرانية أمام المهدي، لا يزال محفوظاً نصه إلى اليوم. كذلك تحدّرت إلينا رسالة للكندي تصرح أنها بيان لمناقشة جرت سنة (819 م) في حضرة المأمون في مقابلة بين محاسن الإسلام والنصرانية...
" وكان للعهدين القديم والجديد من الكتاب المقدس ترجمات عربية معروفة، وهناك أخبار تذكر أن رجلاً يُدعى (أحمد بن عبد الله بن سلام) كان قد ترجم التوراة إلى العربية منذ ولاية هارون الرشيد. ولدينا ما يثبت أيضاً أقساماً من التوراة كانت قد نُقلت إلى العربية في القسم الأخير من القرن السابع.
" ثم إننا نعرف وزراء نصارى قاموا في الشطر الثاني من القرن التاسع منهم عبدون بن صاعد.. وكان للمتقي وزير نصراني، كما كان لأحد بني بويه وزير آخر. أما المعتضد فقد جعل في المكتب الحربي لجيش المسلمين رئيساً نصرانياً. وقد نال أمثال هؤلاء النصارى من أصحاب المناصب العالية ما ناله زملاؤهم المسلمون من الإكرام والتبجيل... وكانت أكثرية أطباء الخلفاء أنفسهم من أبناء الكنيسة النسطورية. وقد نُشر أخيراً براءة منحها المكتفي سنة ( 1138 م ) لحماية النساطرة، وهي توضح مدى العلاقات الودية بين رجال الإسلام الرسميين وبين رجال النصرانية.
" ومن أعجب الظواهر في حياة النصرانية في ظل الخلفاء، أنه كان لها من القوة والنشاط ما دفع بها إلى التوسع فافتتحت لها مراكز تبشيرية في الهند والصين..".
" ولقد لقي اليهود من محاسن المسلمين فوق ما لقيه النصارى بالرغم مما في بعض الآيات القرآنية من تنديد بهم. والسبب أنهم كانوا قليلي العدد فلم يُخش أذاهم. وقد وجد المقدسي سنة (985م) أن أكثر الصيارفة وأرباب البنوك في سورية يهود، وأكثر الكتبة والأطباء نصارى. ونرى في عهد عدد من الخلفاء وأخصهم المعتضد أنه كان لليهود في الدولة مراكز هامة. وكان لهم في بغداد مستعمرة كبيرة ظلت فيها مزدهرة حتى سقوط المدينة. وقد زار هذه المستعمرة بنيامين التطيلي حوالي سنة (1169م) ، فوجد فيها عشر مدارس للحاخامين، وثلاثة وعشرين كنيساً، وأفاض بنيامين في وصف الحفاوة التي لاقاها رئيس اليهود البابليين من المسلمين، بصفته سليل بيت داود النبي عليه السلام ورئيس الملة الإسرائيلية، وقد كان لرئيس الحاخامين هذا من السلطة التشريعية على أبناء طائفته ما كان للجاثليق على جميع النصارى.
وقد روى إنه كانت له ثروة ومكانة وأملاك طائلة فيها الحدائق والبيوت والمزارع الخصبة.
وكان إذا خرج إلى المثول في حضرة الخليفة ارتدى الملابس الحريرية المطرزة، وأحاط به رهط من الفرسان، وجرى أمامه ساع يصيح بأعلى صوته: " أفسحوا درباً لسيدنا ابن داود .."(7).
وما يُقال عن العصرين الأموي والعباسي، يمكن أن يُقال عن العصور التي تلتهما: الفاطميون والأيوبيون والمماليك والعثمانيون، لولا بعض ردود الأفعال الغاضبة التي
اعتمد فيها العنف لأول مرة بسبب من مواقف عدائية معلنة اتخذتها هذه الفئة أو تلك من
أهل الكتاب، فمالأت خصوم المسلمين، ووضعت أيديها بأيدي الغزاة الذين قدموا لإبادتهم وإفنائهم، وتآمرت سراً وجهراً لتدمير عقيدتهم وإزالة ملكهم من الأرض. ويمكن أن يذكر المرء ـ ها هنا ـ المواقف العدائية العديدة التي اتخذها نصارى الشام والجزيرة والموصل والعراق عامة، خلال محنة الغزو المغولي؛ إذ رحبت جماعات منهم بالغزاة، وتآمرت معهم ضد مواطنيهم المسلمين، فاحتضنهم الغزاة واستخدموهم في فرض هيمنتهم، واتخذوهم مخالب لتمزيق أجساد المسلمين الذين عاشوا معهم بحرية وإخاء عبر القرون الطوال، ويمكن أن نتذكر كذلك التجارب المرة نفسها التي مارستها جماعات من اليهود والنصارى في العصر العثماني، وردود الأفعال العثمانية إزاءها.. الخ. لكن هذه الحالات لم تكن في نهاية التحليل، ومن خلال نظرة شمولية لحركة المجتمعات الإسلامية عبر التاريخ، سوى استثناءات أو نقاط سوداء محدودة على صفحة واسعة تشع بياضاً، على العكس تماماً مما شهدته المجتمعات الأخرى؛ حيث كانت حالات الحرية والعدالة وتكافؤ الفرص بين أصحاب الدين الحاكم ومخالفيه نقاطاً استثنائية بيضاء في صفحة تنفث حقداً ودخاناً.
ومن عجب أن مرحلة الحروب الصليبية نفسها، تلك التي دامت حوالي القرنين من الزمن، وكان الغزاة فيها يحملون الطائفية والكراهية ضد كل ما هو إسلامي، والتي
جاءت لكي تدمر على المجتمع الإسلامي أمنه واستقراره، وتفتنه عن دينه لصالح الكنيسة المتعصبة، هذه التجربة المرة لم تسق القيادات والمجتمعات الإسلامية إلى ردود فعل طائفية تقودهم إلى عدم التفرقة، وهم يتحركون بسيوفهم، بين الغزاة وبين النصارى المحليين، رغم أن فئات من هؤلاء تعاونت علناً مع الغزاة ووضعت أيديها في أيديهم، وتآمرت معهم على إنزال الدمار بالإسلام والمسلمين.
ولحسن الحظ فإن الغزاة الذين انطلقوا أساساً من نقطة التعصب والمذهبية، مارسوا الطائفية نفسها إزاء رفاقهم في العقيدة ممن ينتمون لأجنحة نصرانية أخرى، بدءاً من البيزنطيين الأرثوذكس، وانتهاء بجل الفئات النصرانية المحلية، ممن لم تدن بالمذهب الكاثوليكي الذي انضوى تحت لوائه معظم الغزاة، ولولا ذلك لامتدت مساحة التعاون بين الطرفين، فيما كان يمكن أن يؤدي إلى نتائج أكثر وخامة.
المهم إننا لم نشهد عبر مرحلة الحروب الصليبية هذه، بثوراً طائفية، في نسيج المجتمع الإسلامي، كرد فعل لغزو وهو في أساسه ديني متعصب.. لم نسمع بمذبحة ارتكبها المسلمون ضد رفاقهم في الأرض، ولا بعمل انتقامي غير منضبط نفذوه ضد مواطنيهم وأهل ذمتهم!!
وما من شك في أن هذا الانفتاح الذي شهده المجتمع الإسلامي إزاء العناصر غير الإسلامية، والفرص المفتوحة التي منحها إياهم، قاد بعض الفئات ـ كما رأينا ـ إلى ما يمكن عدّه استغلالاً للموقف السمح، ومحاولة لطعن المسلمين في ظهورهم، وتنفيذ محاولات تخريبية على مستوى السلطة حيناً، والعقيدة حيناً، والمجتمع نفسه حيناً ثالثاً،
وإننا لنتذكر هنا ـ على سبيل المثال كذلك ـ ما فعلته الطوائف اليهودية بدءاً من محاولات السبئية، وانتهاء بمؤامرة الدونمة لإسقاط الخلافة العثمانية، وما فعلته بعض الطوائف المجوسية في العصر العباسي فيما يشكل العمود الفقري للحركة الشعوبية، التي استهدفت العرب والمسلمين على السواء.
لكن هذه الخسائر التي لحقت بالمسلمين، من جراء تعاملهم الإنساني، مع مخالفيهم في العقيدة، والمخاطر التي تعرضوا لها عبر تاريخهم الطويل، من قبل هؤلاء الخصوم الذين استغلوا الفرصة، وسعوا إلى ممارسة التخريب والتآمر والالتفاف، لا تسوّغ البتة، اعتماد صيغ في التعامل، غير تلك التي اعتمدها المسلمون في تاريخهم الاجتماعي الطويل .. وتقاليد غير تلك التي منحهم إياها، ورباهم عليها كتاب الله، وسنة رسوله عليه السلام، وتجارب الآباء والأجداد.
إن الخسائر الجزئية ـ مهما كانت فداحتها ـ لأهون بكثير من الخسارة الكبرى ذات البعد الإنساني، وإن الإسلام نفسه - قبل غيره من الأديان- كان سيخسر الكثير، لو حاول أن يسعى إلى تحصين نفسه بالحقد والطائفية، والردود المتشنّجة التي تجاوز حدودها المعقولة والمسوّغة.
وإن الإنسان نفسه كان سيغدو الضحية، لو أن المجتمع الإسلامي خرج على التقاليد النبيلة المتألقة التي علّمه إياها رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ؛ لأنه ـ فيما عدا التاريخ الإسلامي ـ فإنه ليس ثمة في تاريخ البشرية، قديماً وحديثاً، مرحلة كتاريخ الإسلام احترم فيها فكر المخالفين وصينت عقائدهم، وحُميت حقوقهم، بل كانوا ـ على العكس تماماً ـ هدفاً للاستعباد والهوان والضياع، بل التصفية والإفناء.
لم يكن هدف الفتوحات الإسلامية جميعها، منذ عصر الرسول القائد - صلى الله عليه وسلم- وحتى سقوط العثمانيين، فرض العقيدة الإسلامية بالقوة كما يتعمد البعض أن يصور أو يتصور.
إنما نشر السيادة والمنهج الإسلامي في العالم. إنها محاولة جادة لتسلم القيادة من الأرباب والطواغيت، وتحويلها إلى أناس يؤمنون بالله واليوم الآخر، ولا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً.
وتحت ظلال هذه القيادة، كان بمقدور الناس، وقد حُرّروا تماماً من أي ضغط أو تأثير مضاد أن ينتموا للعقيدة التي يشاؤون، ولما كانت عقيدة الإسلام هي الأرقى والأجدر والأكثر انسجاماً مع مطالب الإنسان بأي مقياس من المقاييس، كان من الطبيعي أن تنتشر بين الناس، وأن ينتمي إليها الأفراد والجماعات بالسرعة التي تبدو للوهلة الأولى أمراً محيراً، ولكن بالتوغل في الأمر يتبين مدى منطقية هذا الإقبال السريع الذي يختزل الحيثيات، انتماءً إلى الإسلام وتحققاً بعقيدته.. إنه الجذب الفعّال الذي تملكه هذه العقيدة، والاستجابة الحيوية لحاجات الإنسان في أشدها اعتدالاً وتوازناً وانسجاماً، تلك التي يحققها هذا الدين.
إن سير توماس أرنولد، وهو رجل من الغرب سبق وان أشرنا إليه، يتفرغ السنين الطوال لمتابعة هذه المسألة، ثم يعلنها في كتابه المعروف (الدعوة إلى الإسلام) بوضوح لا لبس فيه، واستناد علمي على الحقائق وحدها بعيداً عن التأويلات والتحزّبات والميول والأهواء. ونكتفي هنا ببعض الشهادات التي قدمها هذا الباحث كنماذج تؤكد البعد الإنساني للسلوكية التي اعتمدها الإسلام في الانتشار. يقول الرجل: "يمكننا أن نَحكُم من الصلات الودية التي قامت بين المسيحيين والمسلمين من العرب بأن القوة لم تكن عاملاً حاسماً في تحويل الناس إلى الإسلام. فمحمد نفسه عقد حلفاً مع بعض القبائل المسيحية، وأخذ على عاتقه حمايتهم ومنحهم الحرية في إقامة شعائرهم الدينية، كما أتاح لرجال الكنيسة أن ينعموا بحقوقهم ونفوذهم القديم في أمن وطمأنينة"(8). "إن الأخبار الخاصة بزوال المسيحية من بين القبائل العربية النصرانية التي كانت تعيش في بلاد العرب الشمالية، لا تزال بحاجة إلى شيء من التفصيل، والظاهر أنهم قد انتهوا إلى الامتزاج بالمجتمع الإسلامي الذي كان يحيط بهم عن طريق ما يسمونه الاندماج السلمي، والذي تم بطريقة لم يحسسها أحد منهم، ولو
أن المسلمين حاولوا إدخالهم في الإسلام بالقوة عندما انضووا بادئ الأمر تحت الحكم الإسلامي، لما كان من الممكن أن يعيش المسيحيون بين ظهرانيهم حتى عصر الخلفاء العباسيين"(9) ، "ومن هذه الأمثلة التي قدمناها عن ذلك التسامح الذي بسطه المسلمون الظافرون على العرب المسيحيين في القرن الأول من الهجرة، واستمر في الأجيال المتعاقبة، نستطيع أن نستخلص بحق أن هذه القبائل المسيحية التي اعتنقت الإسلام إنما فعلت ذلك عن اختيار وإرادة حرة، وإن العرب المسيحيين الذين يعيشون في وقتنا هذا بين جماعات مسلمة لشاهد على هذا التسامح"(10) ، "لما بلغ الجيش الإسلامي وادي الأردن وعسكر أبو عبيدة في فحل، كتب الأهالي المسيحيون في هذه البلاد إلى العرب يقولون: (يا معشر العرب أنتم أحب إلينا من الروم وإن كانوا على ديننا، أنتم أوفى لنا وأرأف بنا وأكف عن ظلمنا وأحسن ولاية علينا. ولكنهم غلبونا على أمرنا وعلى منازلنا) ، وأغلق أهل حمص مدينتهم دون جيوش هرقل، وأبلغوا المسلمين أن ولايتهم أحب إليهم من ظلم الإغريق وتعسفهم"(11) ، " أما ولايات الدولة البيزنطية التي سرعان ما استولى عليها المسلمون ببسالتهم، فقد وجدت أنها تتمتع بحالة من التسامح لم تعرفها طوال قرون كثيرة، بسبب ما شاع بينهم من الآراء اليعقوبية والنسطورية، فقد سُمح لهم أن يؤدّوا شعائر دينهم دون أن يتعرض لهم أحد، اللهم إلا إذا استثنينا بعض القيود التي فُرضت عليهم منعاً لإثارة أي احتكاك بين أتباع الديانات المتنافسة. ويمكن الحكم على مدى هذا التسامح ـ الذي يلفت النظر في تاريخ القرن السابع ـ من هذه العهود التي أعطاها العرب لأهالي المدن التي استولوا عليها، وتعهدوا لهم بحماية أرواحهم وممتلكاتهم وإطلاق الحرية الدينية لهم في مقابل الإذعان ودفع الجزية(12) " وقد زار عمر الأماكن المقدسة يصحبه البطريق، وقيل: إنه بينما كانا في كنيسة القيامة- وقد حان وقت الصلاة- طلب البطريق إلى عمر أن يصلي هناك، ولكنه بعد أن فكر اعتذر وهو يقول: إنه إن فعل ذلك فإن أتباعه قد يدعون فيما بعد أنه محل لعبادة المسلمين"(13) " وكان المسيحيون يؤدون الجزية مع سائر أهل الذمة الذين كانت تحول ديانتهم بينهم وبين الخدمة في الجيش مقابل الحماية التي كفلتها لهم سيوف المسلمين"(14) ، " ولما كان المسيحيون يعيشون في مجتمعاتهم آمنين على حياتهم وممتلكاتهم، ناعمين بمثل هذا التسامح الذي منحهم
حرية التفكير الديني، تمتعوا- وخاصة في المدن- بحالة من الرفاهية والرخاء في
الأيام الأولى من الخلافة"(15) ، " زار راهب دومنيكاني من فلورنسا ويدعى
(Ricoldos de Monre Crucis) بلاد الشرق حوالي نهاية القرن الثالث عشر وبداية القرن الرابع عشر، وتحدث عن روح التسامح التي تمتع بها النساطرة إلى عصره في ظل الحكم الإسلامي فقال: "قرأت في التاريخ القديم وفي مؤلفات للعرب موثوق بها أن النساطرة أنفسهم كانوا أصدقاء لمحمد وحلفاء له، وأن محمداً نفسه قد أوصى خلفاءه أن يحرصوا على صداقتهم مع النساطرة، التي يرعاها العرب أنفسهم حتى ذلك اليوم بشيء من العناية"(16) ، وإذا نظرنا إلى التسامح الذي امتد على هذا النحو إلى رعايا المسلمين من المسيحيين في صدر الحكم الإسلامي، ظهر أن الفكرة التي شاعت بأن السيف كان العامل في تحويل الناس إلى الإسلام بعيدة عن التصديق"(17) ، "إننا لم نسمع عن أي محاولة مدبرة لإرغام الطوائف من غير المسلمين على قبول الإسلام، أو عن أي اضطهاد منظم قُصد منه استئصال الدين المسيحي. ولو اختار الخلفاء تنفيذ إحدى الخطتين لاكتسحوا المسيحية بتلك السهولة التي أقصى بها فرديناند وإيزابيلا دين الإسلام من أسبانيا، أو التي جعل بها لويس الرابع عشر المذهب البروتستانتي مذهباً يعاقب عليه متبعوه في فرنسا، أو بتلك السهولة التي ظل بها اليهود مبعدين عن إنجلترا مدة خمسين وثلاثمائة سنة. وكانت الكنائس الشرقية في آسيا قد انعزلت انعزالاً تاماً عن سائر العالم المسيحي الذي لم يوجد في جميع أنحائه أحد يقف في جانبهم بصفتهم طوائف خارجة عن الدين. ولهذا فإن مجرد بقاء الكنائس حتى الآن ليحمل في
طياته الدليل القوي على ما قامت عليه سياسة الحكومات الإسلامية بوجه عام من تسامح نحوهم"(18) ، " *** الفتح الإسلامي إلى الأقباط في مصر حياة تقوم على الحرية الدينية التي لم ينعموا بها قبل ذلك بقرن من الزمان. وقد تركهم عمرو أحراراً على أن يدفعوا الجزية، وكفل لهم الحرية في إقامة شعائرهم الدينية، وخلصهم بذلك؛ من التدخل المستمر الذي عانوا من عبثه الثقيل في ظل الحكم الروماني.. وليس هناك شاهد من الشواهد يدل على أن ارتداد الأقباط عن دينهم ودخولهم في الإسلام على نطاق واسع كان راجعاً إلى اضطهاد أو ضغط يقوم على عدم التسامح من جانب حكامهم الحديثين. بل لقد تحول كثير من هؤلاء القبط
إلى الإسلام قبل أن يتم الفتح، حين كانت الإسكندرية حاضرة مصر وقتئذ لا تزال تقاوم الفاتحين، وسار كثير من القبط على نهج إخوانهم بعد ذلك بسنين قليلة"(19).
هذه لمحات عن منطقة محدودة فحسب هي العراق والشام، ومصر إلى حد ما، من العالم الذي امتد إليه الإسلام وتعامل معه، فهنالك بلاد فارس وأواسط آسيا، وإفريقية، وأسبانيا، وجنوبي أوروبا وشرقيها، والهند والصين، وجنوب آسيا، مما تحدث عنه أرنولد فأطال الحديث.
(1) ينظر المرجع نفسه للإطلاع على المزيد من الشواهد.
(2) حضارة العرب ، ترجمة عادل زعيتر ، ط3 ، دار إحياء الكتب العلمية ، القاهرة
ـ 1956 م ، ص 336.
(3) ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ، ط5 ، مكتبة دار العروبة ، القاهرة ـ 1964 م ،
ص 29 ـ 30.
(4) المرجع نفسه ، ص 36 ـ 37.
(5) وهو الكتاب الرابع من دولة الإسلام في الأندلس ، ط2 ، مطبعة مصر ، القاهرة
ـ 1958 م.
(6) تاريخ العرب المطول ، ط4 ، دار الكشاف ، بيروت ـ 1965 م ، 1/ 301 ـ 302.
(7) المرجع نفسه 2 / 432 ـ 438 وينظر : ول ديورنت : قصة الحضارة ، ترجمة
محمد بدران وآخرين ، ط2 ، لجنة التأليف والترجمة والنشر ، القاهرة ـ 1964 ـ 1967 م، 13 / 131 ، وآرثر ستانلي تريتون : أهل الذمة في الإسلام ، ترجمة وتعليق د. حسن حبشي، ط2 ، دار المعارف ، القاهرة ـ 1967 م ، ص 170.
(8) الدعوة إلى الإسلام ، ص 65.
(9) المرجع نفسه ، ص 68.
(10) المرجع نفسه ، ص 69 ـ 70.
(11) المرجع نفسه ، ص 73.
(12) المرجع نفسه ، ص 74.
(13) المرجع نفسه ، ص 75.
(14) المرجع نفسه ، ص 79.
(15) المرجع نفسه ، ص 81.
(16) المرجع نفسه ، هامش 1 ، ص 81.
(17) المرجع نفسه ، ص 88.
(18) المرجع نفسه ، ص 98 ـ 99.
(19) المرجع نفسه ، ص 123 ـ 124.
==============
#حول الوحدة والتنوّع في تاريخنا
أ. د. عماد الدين خليل 4/10/1426
06/11/2005
[ 1 ]
عندما تُطرح قضية التعدّدية في واقعنا المعاصر على بساط البحث، فإنها ستثير العديد من الأسئلة، قد يأخذ بعضها طابع التحدّي الذي يتطلب استجابة ما وينتظر جواباً
مقنعاً، وقد يبرز من بين هذه سؤالان أساسيان، يمضي أحدهما صوب المستقبل لكي يتابع طبيعة المتغيّرات التي يمكن أن تتمخّض عن أي محاولة جادّة تدخل في حوار فعّال مع ظاهرة التنوّع أو التعدديّة في الحياة العربية الإسلامية، ويمضي ثانيهما عائداً باتجاه الماضي موغلاً فيه حتى الجذور، لكي يتفحص حجم المحاولة على مستوى التاريخ، ولكي يضع يديه على مصداقيتها المتحققة في الزمان والمكان، ويؤشر بالتالي على فاعلية وخصوصيات التعامل الإسلامي مع الظاهرة على مستويي النوع والعدد.
وبالتأكيد، فإن القضية لا تتخلّق في الفراغ، كما أنها إذا استندت –فحسب- على أصولها العقديّة التصوّرية بعيداً عن تماسّها مع الواقع، وقدرتها على إعادة تشكيله، فإنها قد لا تمنح ـ بالنسبة لفئة من الناس ـ القناعات المتوخّاة.
بعبارة أخرى، إننا إذا قدرنا على وضع أيدينا على مجموع الوقائع التي شهدها التاريخ في هذا السياق، بعد إضافة المؤثرات الإسلامية على الظاهرة .. إذا قدرنا على تحديد النتائج المتميزة التي تمخّضت عن هذا التعامل بين العقيدة والتاريخ، فإننا سنعطي القضية المزيد من المسوّغات، وسنمنحها عمقاً تاريخياً واقعياً يُعدّ واحدة من الفرص الأساسية في اختبار الأفكار والعقائد والتصوّرات، وفي امتحان المحاولات التي تسعى إلى تشكيل المستقبل المنظور على هدْيها.
إن البُعد التاريخي لأي دعوى سيظل مطلباً لاختبار مصداقيّتها جنباً إلى جنب مع البعد التصوّري، ومدى ما يملكه من شمولية وتماسك وقدرة على الاستمرار بموازاة المطالب الإنسانية وتحديات التاريخ.
ولطالما دَرَسْنا التاريخ الإسلامي أو دُرِّسناه وفق منطلقات خاطئة متعمَّدة حيناً، وغير متعمدة أحياناً، ولكن النتيجة كانت في معظم الأحيان تعميق الخندق بين طرفي القضية، وكأن ليس هناك تأثير ذو فاعلية عالية يلتقي فيه التصوّر مع الواقع لكي يعيد بناءه أو
تشكيله، أو لكي يجري في تركيبه على الأقل تغييراً من نوع ما يعبّر في نهاية الأمر ليس فقط عن رغبة هذا الدين في إعادة صياغة العالم وفق منظوره ومقولاته، ولكن ـ أيضاً ـ عن قدرته على تحقيق هذا الهدف العزيز.
ومنذ بداية تشكّله الأولي وحتى العصر الحديث، تضمّن مجرى التاريخ الإسلامي خبرات وحدوية غنية متواصلة تجعل المرء يميل إلى الاعتقاد بأن التوجّه الوحدوي للأمة الإسلامية، على مُستويَي القواعد والقيادات، ليس مجرد خصيصة من خصائصها، بل هو محرك أساسي لمساحات واسعة من تحقّقها التاريخي.
لكن هذا ليس سوى أحد وجْهَي الظاهرة أو الحالة التاريخية، وإن كان هو الوجه الأكثر ثقلاً وامتداداً، فهناك بموازاته، بل في نسيجه، تعدّدية من نوع ما .. تنوّع هنا
وهناك، في السياسة، وفي الاجتماع، وفي الثقافة، وفي الفكر والمذهب، بل حتى في الدين. ( لنتذكر ـ أيضاً ـ أحادية الماركسية ومصادرتها لفكر الآخر وعقيدته ودينه. لنتذكر أيضاً محاولة الكاثوليكية الإسبانية المسيّسة على يد فرديناند وإيزابيلا ورجال الدين، تلك التي ألغت أمة كاملة من الحساب. لنتذكر هذا قبالة تنوّع النسيج الديني في معظم مساحات التاريخ الإسلامي، حيث أُتيح للنصراني واليهودي والمجوسي والصابئي والبوذي والهندوسي .. إلى آخره .. أن يعبّر عن نفسه وأن يقول كل ما يريد أن يقوله، وأن يمتلك مقوّمات الديمومة والبقاء والامتداد في بيئة إسلامية لم تمارس-في الأعم الأغلب- أي مصادرة أو قسر أو نفي لعقائد الآخرين).
ولكن ـ أيضاً ـ وبمتابعة متأنية للتعددية أو التنوع في خبرتنا التاريخية، فإننا سنجد كيف أنها تتناغم ـ أحياناً ـ مع التوجّه الوحدوي بل قد ترفده وتدعمه وتغذَّيه، جنباً إلى جنب مع حالات الانشقاق والتضادّ والتنافر التي شكلتها بعض صيغ التعددية المتطرفة في موقفها إلى حدّ الخصومة والعزلة والانغلاق، بل ـ ربما ـ الإفساد والتخريب.
[ 2 ]
لنتابع ـ بالإيجاز المطلوب الذي يتيحه مقال كهذا ـ ثنائية العام والخاص، أو الوحدة والتنوع، في تاريخنا، في محاولة للإمساك ببعض خيوطها على الأقل.
فمنذ لحظات الرسالة بدا بوضوح ذلك التدرّج المرسوم من الخاص إلى العام: الإنسان والدولة والأمة؛ إذ يغدو التوحّد هدفاً عقدياً وسياسياً وتشريعياً.
أما في العصر الراشدي فقد شهد التوجّه الوحدوي للأمة الناشئة تحركاً
على مستويين: تمثل أوّلهما في التصدّي الحاسم للردّة والتمزق والتفوّق عليهما، على الرغم من ضراوتهما، إزاء انحسار القدرات السياسية والعسكرية للدولة الإسلامية. وتمثل ثانيهما في حركة الفتوحات الشاملة التي استهدفت تكوين الوحدة الإسلامية العالمية، وتمكنت ـ بالفعل ـ من تحقيقها، فيما لم يشهد التاريخ مثيلاً له في كثافة معطياته واختزاله الزمني.
وكما كانت حركة الردّة حالة عارضة طارئة باتجاه التمزّق، ما لبثت القيادة الراشدة أن طوتها لكي تواصل الطريق صوب العالمية، فإن الفتنة التي شهدتها دولة الإسلام في أواخر خلافة عثمان (رضي الله عنه) قدمت نموذجاً لحالة اعتراضية أخرى، مارست فيها (القبلية) تأثيراً ملحوظاً، وكادت تُلحق بوحدة المسلمين أذى كبيراً، ثم ما لبثت أن طُويت فيما سُميّ بعام الجماعة ( 41 هـ ) وهي تسمية تحمل دلالتها ولا ريب، حيث أُتيح للقيادة الأمويةـ بغض النظر عن الجدل حول مسألة الحكم أو الشرعيةـ أن توحّد الأمة، وأن تمضي خطوات أخرى باتجاه توحيد العالم تحت ظلال الإسلام.
ثم جاءت العصور التالية لكي تشهد صيغاً متنوعة للممارسة الوحدوية يمكن تصنيفها وفق السياقات الأساسية الآتية:
أولاً: مجابهة محاولات الانشقاق والتفكك (التحدّيات الداخلية).
ثانياً: الدفاع عن وحدة الأرض الإسلامية (التحديات الخارجية).
ثالثاً: ظهور التنوّع في القيادات السياسية والإقليمية وتأكّده، مع الحفاظ على الوحدة في الأسس والأهداف والملامح العامة.
وإذا كان السياقان الأوّلان واضحين إلى حدّ كبير في توجّهاتهما الوحدوية فضلاً عن أنهما قيل فيهما الكثير، فإن من الضروري أن نقف لحظات عند السياق الثالث لتبيّن طبيعة العلاقة بين الثوابت الوحدوية وبين التنوّع والتغاير الذي قد يتحرك في إطار هذه الثوابت، وقد يخرج عنها ـ بدرجة أو أخرى ـ إلى حالة من التفكّك الذي يندفع باتجاه التشرذم العرقي حيناً، أو التعبير عن طموح فرديّ أو سلاليّ حيناً آخر.
وفي الحالتين كانت الظاهرة التعدّدية تتحرك بشكل عام باتجاه مضادّ لوحدة الأمة والدولة، وتضع الخلافة (الأم) أمام الأمر الواقع، فتقرّ بقبولها حيناً فيما يصطلح عليه الفقهاء بـ (إمارة الاستيلاء)، أو تعلن الحرب عليها حيناً آخر. وثمة حالة ثالثة كانت الخلافة تستبق فيها المتغيرات التاريخية الضاغطة فتسارع في تصميم أو قبول (الكيان الإقليمي) الذي يعينها على مجابهة هذه المتغيّرات أو التخفيف من نتائجها، ويكون (لها) بدلاً من أن يكون (عليها).
ولقد انطوت التعدديّة السياسية في تاريخ الإسلام على الإيجاب والسلب معاً، ذلك أن التفكك ـ ابتداءً ـ ظاهرة تتعارض مع التوجّهات الوحدويّة التي سهر الإسلام وقياداته السياسية على صياغتها وحمايتها، بل إنها قد تندفع ـ كما ألمحنا ـ باتجاه التشرذم العرقي أو السلالي، وقد تعبّر عن طموح فردي، هذا فضلاً عن أنها فتحت الطريق لخصوم الأمة لكي يدلوا بدلوهم ويقيموا دولهم وكياناتهم السياسية التي رفعت سيف المذهب أو القوّة في مواجهة قناعات الأمة وثوابتها العقدية والسياسية ( كما هو الحال في بعض التجارب الإسماعيلية والباطنية).
لكن هذا كله ليس الوجه الوحيد للظاهرة، فهناك الوجه الآخر الذي ينطوي على معطيات إيجابية، بدءًا من قبول الخلافة والأمة للتعدّديّة في بعض الأحيان وعدم رفضها أو إعلان الحرب عليها، وانتهاءً بالجهد العقديّ والسياسيّ الذي نفذه العديد من الكيانات الإقليمية لصالح الأهداف العامة للأمة والخلافة، دفاعاً عن دار الإسلام، ونشراً للعقيدة خارج الأرض الإسلامية، أو تأكيداً لحيثياتها في مواجهة الخصوم في الداخل، هذا فضلاً عن إثراء حضارة الإسلام بمفردات خصبة في هذا السياق أو ذاك.
ويصعب على المرء أن يخضع الحركة التاريخية للقياس بالمسطرة، وبالتالي فإننا لا نستطيع أن نصدر حكماً أحادي الرؤية على التنوّع أو التعدّديّة السياسية في تاريخنا؛ فهي قد تضمنّت ـ كما رأينا ـ السلب والإيجاب معاً، فلم تكن شراً كلها، كما أنها لم تبلغ
الحالة الإيجابية التي تختار فيها الجماعات ـ في إطار الثوابت الإسلامية بطبيعة الحال ـ
(تنظيمها) لحياتها بما يضمن لها حقوقها وحرّياتها في الرأي والتعبير والاجتماع والمشاركة في تقرير السياسة على قدم المساواة مع غيرها، مهما كان حجمها، مع التزامها ـ مرة أخرى ـ بالواجبات التي يفرضها عليها انتماؤها للأمة الواحدة.
وعلى الرغم من ذلك فإن بمقدور المرء أن يلحظ كيف أن التعدّديّة السياسية في تاريخنا لم تبلغ- إلاّ في حالات استثنائية لا يُقاس عليها- أن تدخل عنق الزجاجة أو تصل إلى الطريق المسدود، فتكشف عن وجه عرقي يميل إلى اعتزال قضايا الأمة أو ربما إعلان الحرب عليها، فيما يضعه في خط التشرذم الإقليمي الذي عانت منه أمتنا، ولا تزال في أعقاب الصدمة الاستعمارية وقبول فكر الغالب.
[ 3 ]
إن حضارة الإسلام وتاريخه عموماً- كما لاحظ كثير من المؤرخين والمستشرقين- هي حضارة (الوحدة والتنوّع)، ولقد انعكس ذلك على ظاهرة نشوء الدويلات والكيانات الإقليمية في عالم الإسلام، فصرنا نجد تنوّعاً في التشكيلات السياسية التي انشقت عن جسد الدولة، ونجد في الوقت نفسه وحدة وتجانساً وتكاملاً في العطاء الحضاري، وفي الأساليب والأهداف الكبرى.
وفيما عدا حالات محدودة شاذة عن القاعدة الشاملة، حالات ظهر فيها عدد من الدويلات تبنّت مبادئ وعقائد باطنية وشعوبية ذات جذور غريبة عن عقيدة الإسلام وتصوّراته وقيمه، ومارست قواها الذاتية لا في الدفاع عن أرض الإسلام وعقيدته ووحدة مقدّراته، وإنما ضدّها (كما فعلت دولة قرامطة البحرين على سبيل المثال) ، بل إن بعضها (كالدولة البابكية في أذربيجان) سعت إلى عقد محالفات ومواثيق مع الأعداء الخارجيين المتربّصين على الحدود .. فيما عدا هذه الحالات فإن معظم التشكيلات السياسية التي شهدها عالم الإسلام، شاركت حسب قدراتها وطاقاتها في خدمة وحدة هذا العالم عقدياً وسياسياً وحضارياً، ولن تغني الأمثلة الموجزة هنا عن واقع تاريخنا نفسه.
إن حضارة الإسلام إذ تقوم على قاسم مشترك من الأسس والثوابت والخطوط العريضة، بغض النظر عن موقع الفعالية الحضارية في الزمان والمكان، وعن نمطها وتخصّصها، فإنها تنطوي ـ في الوقت نفسه ـ على حشد من الوحدات المتنوعة بين بيئة ثقافية وأخرى في إطار عالم الإسلام نفسه، بحكم التراكمات التاريخية التي تمنح خصوصيات معينة لكل بيئة، تجعلها تتغاير وتتنوّع فيما بينها في صنوف من الممارسات والمفردات الثقافية.
إنها جدلية التوافق بين الخاص والعام، أو ما يمكن عدّه أممية إسلامية تعترف بالتمايز بين الجماعات والشعوب والأمم، ولكنها تسعى في الوقت نفسه لأن تجمعها على صعيد الإنسانية، وهي محاولة تختلف في أساسها عن الأممية الماركسية التي سعت ـ ابتداءً وبحكم قوانين التنظير الصارمة- إلى إلغاء التنوع، ومصادرته، وإلى تحقيق وحدة قسرية ما لبثت أن تأكد زيفها وعدم قدرتها على التحقّق تاريخياً. وبمجرد إلقاء نظرة على خارطة الاتحاد السوفياتي حتى قبل حركة (البرسترويكا) والرفض المتصاعد الذي جوبهت به الأممية الماركسية من قبل الجماعات والأقوام والشعوب التي تنتمي إلى بيئات ثقافية متنوعة، ومقارنة هذا بما شهده التاريخ الإسلامي من تبلور كيانات ثقافية إقليمية متغايرة في إطار وحدة الثقافة الإسلامية وثوابتها وأسسها الواحدة وأهدافها المشتركة، يتبين مدى مصداقية المعالجة الإسلامية وواقعيتها في التعامل مع هذه الثنائية كواحدة من حشود الثنائيات التي عولجت بالقدرة نفسها من الانفتاح في الرؤية والمرونة في العمل.
لقد شهد عالم الإسلام ـ بموازاة التنوع السياسي ـ أنشطة ثقافية متمايزة على مستوى الأعراق التي صاغتها: عربية وتركية وفارسية وصينية ومغولية وبربرية وإسبانية وزنجية وكردية وأفغانية وسلافية .. إلى آخره. كما شهدت أنماطاً ثقافية على مستوى البيئات والأقاليم: عراقية وشامية ومصرية وسودانية ومغربية وإسبانية وبحر متوسطية وإفريقية وأوروبية شرقية وإيرانية وتركية وتركستانية وصينية وهندية .. إلى آخره.
وكانت كل جماعة ثقافية تمارس نشاطها بحرية، وتعبر من خلاله عن خصائصها، وتؤكد ذاتها، ولكن في إطار الأسس والثوابت الإسلامية، بدءًا من قضية اللغة والأدب، وانتهاء بالعادات والتقاليد، مروراً بصيغ النشاط الفكري والثقافي بأنماطه المختلفة. ولم يقل أحد إن في هذا خروجاً عن مطالب الإسلام التوحيدية، كما إن أحداً لم يسع إلى مصادرة حرية التغاير هذه. وفي المقابل فإن أياً من هذه المتغيّرات لم يتحول ـ إلاّ في حالات شاذة ـ إلى أداة مضادّة لهدم التوجهات الوحدويّة الأساسيّة لهذا الدين
===============
# محاولة خائبة لجاهليّ معاصر
"قسّ ونبي: بحث في نشأة الإسلام"
أ. د. عماد الدين خليل 2/11/1426
04/12/2005
[ 1 ]
هذا هو عنوان بحث صدر حديثاً لرجل يدّعي أن اسمه ( أبو موسى الحريري )! يعالج فيه قضية تاريخية تنطوي على بعدها الديني بكل تأكيد، إلاّ أنها ـ ابتداءً ـ حلقة تاريخية تتطلب، للتعامل العلمي الجادّ مع مفرداتها، منهجاً تاريخياً يستقصي المرويّات
كافة حول الموضوع بأكبر قدر من الأمانة، ويحذر عن مظنة الانتقاء الكيفي لتأكيد استنتاج مسبق، فيما هو ضد المنهج أساساً.
وبإحالة هذا الذي كتبه (أبو موسى الحريري) في (قس ونبيّ: بحث في نشأة الإسلام) على عشرات، بل مئات الدراسات التي شهدتها مكتبة السيرة النبوية، سيجد المرء نفسه إزاء حالة استثنائية شاذة لا تدعمها المرويّات التاريخية واليقين العلمي، وإنما تستند إلى جملة من الأوهام والظنون والتخمينات التي تنتقي وتستبعد وتفترض، وأحياناً ترغم الواقعة التاريخية على ما لم يكن في تكوينها أساساً.
ليس بحثاً جاداً هذا الذي أنجزه الرجل، وإنما عبث بالحقائق التاريخية التي أجمع عليها الباحثون في الشرق والغرب بخصوص هذه المفردة الصغيرة في سيرة رسول الله
(صلى الله عليه وسلم)؛ إذ لم يكن قد التقى ورقة قبل أن تأخذه إليه زوجته البارّة خديجة
(رضي الله عنها) لتلقّي جوابه إزاء هزة الوحي الأولى التي أصابته بالحمى لوقعها المفاجئ الثقيل، وحيث أكّد ورقة، وهو الرجل الذي كان قد قرأ العهدين القديم والجديد بالعبرانية حتى كلّت عيناه، وعرف من خلال ما تبقى من معطياتهما الأصيلة، أن هذا الرجل هو النبي الذي بشّر به عيسى (عليه السلام)، والذي سيتلقى الناموس الذي تلقاه موسى (عليه السلام)، والذي يعرفه اليهود والنصارى من كتبهم كما يعرفون أبناءهم!
إن هذا الذي يتخيّله (أبو موسى الحريري) ويفرضه على الواقعة التاريخية لكي يطوّعها لاستنتاجاته المسبقة، ليس كشفاً جديداً، لقد قاله العرب الأميّون قبله، زمن رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وحاولوا - من أجل حماية وثنيتهم- اتهام الرسول (صلى الله عليه وسلم) بتلقّي كتابه عن القسس والرهبان، دون أن يدركوا أنهم وضعوا أنفسهم في مفارقة لا يمكن قبولها: إن هؤلاء الذين يلقّنون رسول الله (صلى الله عليه وسلم) (أعاجم) في أصولهم أو في ثقافتهم ولغتهم، وإن القرآن يتنزّل بأسلوب عربي معجز مبين: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ). [النحل:103] وها هو ذا (أبو موسى الحريري) يعيد الدور نفسه، ويقع في الأكذوبة ذاتها. فإذا كان القدماء قد فاتتهم المفارقة المذكورة، فإن هذا الباحث المحدث، وهو يحاول أن يدعم نصرانيته في مواجهة الإسلام، فاتته مفارقة لا تقل ثقلاً: تلك هي أن المضامين القرآنية تنطوي على جملة خصائص تجعل مسألة التلقّي المزعومة عن (القسّ ورقة) مستحيلة بكل المقاييس. ولن يتسع المجال للاستفاضة فيها، ولذا سيتم الاكتفاء بمجرد التأشير على ثلاثة منها فحسب.
[ 2 ]
إن القرآن الكريم نفسه، بسبب من مطابقته التامة للحقيقتين التاريخية والدينية، يؤكد في حوالي عشرين موضعاً، أنه مصدّق لما بين يديه من التوراة والإنجيل، أي مطابق لبعض ما ورد في هذين الكتابين. ولكنه لا يقف عند هذا الحدّ قبالة كتابيْن تعرّضا لتحريف خطير، وإنما يمضي لتأكيد وظيفته الأخرى: تعديل الانحراف وكشف الزيف، واستئصال الأكاذيب، وإعادة الخطاب الديني الذي جاء به الأنبياء جميعاً (عليهم السلام) إلى قاعدته التوحيدية التي هي أسّ الأسس في النبوات جميعاً: ()وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ...) [المائدة: من الآية48].
فها هو ذا كتاب الله يحقّ الحق، ويبطل الهوى، ويدعو إلى الالتزام بهذا الحق، وعدم اتباع أهواء الآخرين من اليهود والنصارى (أي المغضوب عليهم والضالين) ، ولن يتحقق هذا على يد نبيّ أريد له أن يكون تلميذاً مخلصاً لقسّ يبشر بموروث أهل الكتاب.
وامتداداً لهذا الصدق الرّباني، يدعو القرآن الكريم المؤمنين كافة إلى الإيمان، ليس بالقرآن فقط، وإنما بالكتب التي نزلت قبله. ولكن أية كتب هذه؟ إنها الكتب الأصيلة قبل أن تطالها يد التزوير، وليست تلك المساحات الواسعة من الكذب والتحريف التي تولّى كبرها اليهودي السابق: (القدّيس بولص) وكل المحرّفين الذين سبقوه وأعقبوه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيداً) [النساء:136]
ليس هذا فحسب، بل إن القرآن الكريم يكشف، بمعطياته الإلهية المنزّهة عن المداخلات البشرية الوضعية، ما كان أهل الكتاب أنفسهم يخفونه من كتبهم: (يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبيّن لكم كثيراً مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير، قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين) ( سورة المائدة 15 ).
ويمضي القرآن الكريم لكي يؤكد علم أهل الكتاب السابقين بأن القرآن منزّل من الله سبحانه بالحق، وليس بالتلقّي عن قسّ يحمل في موروثه الصدق والكذب .. الأصيل والمحرّف.. اليقيني والظنّي على السواء، بغض النظر عن أن مؤلف الكتاب يسعى لإعادة تشكيل شخصية القسّ (ورقة) بما يشتهي لكي يحقق المطابقة الجاهزة بين الدعوتين:
(أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) [الأنعام:114-116]. مهما يكن من أمر فان السؤال الذي يتبادر إلى الذهن هو: ألم يكن الأولى بالنسبة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أجل التعتيم على تلقّيه عن كتب السابقين، ألاّ يشير إلى تصديقه لهذه الكتب والأخذ عنها؟!
هذا إلى أن القرآن الكريم محّض مساحات واسعة لسياقات ثلاثة لا نكاد نجد لها مكاناً في العهدين القديم والجديد، ولاسيما آخرهما، وهي:
أ ـ التشريع.
ب ـ يوم القيامة: البعث والحساب والجنة والنار.. إلى آخره ..
جـ ـ الإبداع الإلهي في الخلق الكوني ..
فإذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- عاجزاً عن أن يأتي بمواعظ التوراة
والإنجيل وقصصهما التاريخي، فكيف كان قديراً، وبالأسلوب نفسه من الأداء اللغوي والبياني المعجز، على أن يأتي بهذه المساحات الواسعة، والمؤكدة في كتاب الله، بخصوص السياقات الثلاثة المذكورة؟ وأين هو القسّ الذي تعلمّ منه النبي؟ أم لعل (الحريري) يعمل فكره في البحث عن قسّ آخر تلقى منه النبي هذا الجانب من القرآن الذي لا نكاد نجد له أثراً في التوراة والإنجيل؟!
[ 3 ]
أخيراً .. لنفترض مع أبي موسى الحريري أن محمداً - صلى الله عليه وسلم- تلقى كتابه عن القسّ ورقة، فمن الذي أعطاه القدرة التي تتجاوز الحدود البشرية بكل المقاييس على إخضاع الكتب الدينية السابقة بخصوص المعطيات المعرفية، للاختبار الدقيق الصارم في ضوء كشوف لم يزح عنها النقاب وتدخل دائرة الضوء إلاّ بعد ثلاثة عشر قرناً من لقاء النبي بالقس؟!
إن الباحث الفرنسي المعاصر (موريس بوكاي) في دراسته المقارنة للكتب السماوية الثلاثة، والتي استغرقت عشرين عاماً، وصدرت بعنوان: (القرآن الكريم والتوراة والإنجيل والعلم: دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة) (عن دار المعارف ، القاهرة ـ 1978 م) يمارس مهمته كما يقول بعقل علماني ملحد لا يؤمن بأي من الأديان، ولا يسلّم بكتبها، ولكنه يخلص إلى جملة من الحقائق والاستنتاجات التي سأورد بعضها نصّاً نظراً لأهميتها البالغة فيما نحن بصدده:
(1) " لقد قمت أولاً بدراسة القرآن، وذلك دون أي فكر مسبق، وبموضوعية تامة، باحثاً عن درجة اتفاق نصّ القرآن ومعطيات العلم الحديث. وكنت أعرف ، قبل هذه الدراسة، وعن طريق الترجمات، أن القرآن يذكر أنواعاً كثيرة من الظاهرات الطبيعية، ولكن معرفتي كانت وجيزة. وبفضل الدراسة الواعية للنصّ العربي استطعت أن أحقق قائمة أدركت بعد الانتهاء منها أن القرآن لا يحتوي على أية مقولة قابلة للنقد من وجهة
نظر العلم في العصر الحديث. وبنفس الموضوعية قمت بنفس الفحص على العهد
القديم والأناجيل. أما بالنسبة للعهد القديم فلم تكن هناك حاجة للذهاب إلى أبعد من الكتاب الأول، أي سفر التكوين. فقد وجدت مقولات لا يمكن التوفيق بينها وبين أكثر معطيات العلم رسوخاً في عصرنا. وأما بالنسبة للأناجيل.. فإننا نجد نصّ إنجيل متي يناقض بشكل جليّ إنجيل لوقا، وأن هذا الأخير يقدم لنا صراحة أمراً لا يتفق مع المعارف الحديثة الخاصة بقدم الإنسان على الأرض" (صفحة 13).
(2) لقد أثارت الجوانب العلمية التي يختص بها القرآن دهشتي العميقة في البداية. فلم أكن أعتقد قط بإمكان اكتشاف عدد كبير إلى هذا الحدّ من الدعاوى الخاصة بموضوعات شديدة التنوّع، ومطابقته تماماً للمعارف العلمية الحديثة، وذلك في نصّ كتب منذ أكثر من ثلاثة عشر قرناً. في البداية لم يكن لي أي إيمان بالإسلام. وقد طرقت: دراسة هذه النصوص بروح متحررة من كل حكم مسبق وبموضوعية تامة " (صفحة 144).
(3) تناولت القرآن منتبهاً بشكل خاص إلى الوصف الذي يعطيه عن حشد كبير من الظاهرات الطبيعية. لقد أذهلتني دقة بعض التفاصيل الخاصة بهذه الظاهرات، وهي تفاصيل لا يمكن أن تدرك إلاّ في النص الأصلي. أذهلتني مطابقتها للمفاهيم التي نملكها اليوم عن نفس هذه الظاهرات، والتي لم يكن ممكناً لأي إنسان في عصر محمد أن يكوّن عنها أدنى فكرة" (صفحة 145).
(4) " كيف يمكن لإنسان ـ كان في بداية أمره أمّياً ـ.. أن يصرح بحقائق ذات طابع علمي لم يكن في مقدور أي إنسان في ذلك العصر أن يكوّنها، وذلك دون أن يكشف تصريحه عن أقل خطأ من هذه الوجهة؟" (صفحة 150).
(5) إن اليهود والمسيحيين والملحدين في البلاد الغربية يجمعون على الزعم، وذلك دون أدنى دليل، بأن محمداً كتب أو استكتب القرآن محاكياً التوراة. مثل هذا الموقف لا يقل استخفافاً عن ذلك الذي يقود إلى القول بأن المسيح أيضاً قد خدع معاصريه باستلهامه للعهد القديم. فكل إنجيل متي يعتمد على تلك الاستمرارية مع العهد القديم. أي مفسّر هذا الذي تعنّ له فكرة أن ينزع من المسيح صفته كرسول لله، لذلك السبب؟ ومع ذلك فهكذا يعلن في الغرب .. " (صفحة 148 ـ 149) وذيوله من أمثال الحريري!!
(6) " مقارنة العديد من روايات التوراة مع روايات نفس الموضوعات في القرآن تبرز الفروق الأساسية بين دعاوى التوراة غير المقبولة علمياً، وبين مقولات القرآن التي تتوافق تماماً مع المعطيات الحديثة.. وعلى حين نجد في نصّ القرآن .. معلومات ثمينة تُضاف إلى نصّ التوراة .. نجد فيما يتعلق بموضوعات أخرى فروقاً شديدة الأهمية تدحض كل ما قيل من ادّعاء ـ دون أدنى دليل ـ على نقل محمد للتوراة حتى يعدّ نصّ القرآن".(صفحة 285 ـ 286).
(7) لو كان كاتب القرآن إنساناً، كيف استطاع في القرن السابع (الميلادي) أن يكتب ما اتضح أنه يتفق مع المعارف العلمية الحديثة، في الخلق وعلم الفلك وعلوم الأرض والحيوان والنبات والتناسل الإنساني، التي تعكس التوراة أخطاء علمية ضخمة بشأنها؟ ليس هناك أي مجال للشك، فنصّ القرآن الذي نملك اليوم هو فعلاً نفس النص الأول.. وليس هناك سبب خاص يدعو للاعتقاد بأن أحد سكان شبه الجزيرة العربية.. استطاع
(يومها) أن يملك ثقافة علمية تسبق بحوالي عشرة قرون ثقافتنا العلمية فيما يخص بعض الموضوعات" (صفحة 145).
هذه التأشيرات تكفي، وهناك عشرات غيرها لن يتسع لها المجال، والأفضل
ألاّ يتسع؛ إذ ليس مقبولاً أن يضيّع المسلم الجاد وقته وجهده في الردّ على ترّهات كهذه التي نجدها في كتاب رجل يوحي حتى اسمه بالتعتيم والتزييف لتمرير اللعبة الماكرة، وهي ـ مرة أخرى ـ لعبة سبق وأن مارسها الجاهليون القدماء، وها هم الطائفيون الجدد يعيدون تمثيلها من جديد:(وقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْماً وَزُوراً وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً) [لفرقان:4-6].
==============
# الحوار بين الحضارات
د. خالد بن عبد الله القاسم 25/7/1427
19/08/2006
أولاً: الإسلام دين الحوار:
ثانيًا: أهم أهداف الحوار في الإسلام:
ثالثاً: آداب الحوار:
وقبل الدخول في حوار الحضارات نمهد بتعريف الحوار والحضارات.
أما الحوار في اللغة من الحور وهو الرجوع ويتحاورون أي يتراجعون الكلام(1).
وقد ورد في ثلاثة مواضع في القرآن الكريم كلها تظهر الاختلاف بين المتحاورين ومحاولة إقناع بعضهم بعضاً، الأول ورد في قصة أصحاب الجنة "فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً" [الكهف:34]، والثاني فيها أيضاً "قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً" [الكهف:37]. والثالث في أول سورة المجادلة "قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا" [المجادلة:1]. ونفهم من هذه المواضع الثلاثة أن الحوار مراجعة الكلام وتداوله بين طرفين مختلفين.
ويتفق الحوار مع الجدل والمناظرة والمحاجة في كونه مراجعة الكلام وتداوله بين عدة أطراف إلا أن الجدل يأخذ طابع القوة والغلبة والخصومة وهو مأخوذ من معناه اللغوي حيث يسمى شدة القتل جدل، والجدال من الإبل الذي قوي ومشى مع أمه(2).
ولفظة الجدل مذمومة في غالب آيات القرآن الكريم، حيث وردت في تسعة وعشرين موضعاً(3)، مثل قوله سبحانه: "مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً" [الزخرف:58]، ولم يمدح الجدل إلا إذا قيد بالحسنى وجاء ذلك في موضعين، في قوله سبحانه: "وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ" [العنكبوت:46]، وقوله سبحانه وتعالى: وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125].
وأما الحضارة فهي في اللغة من الحضر وهي الإقامة في المدن والقرى وهي ضد البداوة، قال القطامي:
فمن تكن الحضارة أعجبته فأي رجال بادية ترانا(4)
وفي العصر الحديث أطلق البعض هذا المصطلح على كل نتاج مادي لأمة من الأمم من عمران ومخترعات وابتكارات وتنظيمات. وتوسع النطاق ليشمل بالإضافة على النتائج المادية القيم الدينية والثقافية(5).
وعليه فكل أمة تشترك في هذه المعاني لها حضارة تخصها، فهناك الحضارة الإسلامية، والحضارة الأوروبية الغربية المسيحية، والحضارة الأوروبية الشرقية المسيحية، والحضارة الهندية، وحضارة الشرق الأقصى(6) وغير ذلك.
أولاً: الإسلام دين الحوار:
الحوار منهج قرآني, فقد كلم الله ملائكته واستمع منهم "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ" [البقرة:30] وكذلك رسله "وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ" [المائدة:116]، وحتى مع الكافرين "قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى" [طه:125-126]. وحتى مع إبليس "قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ" [الأعراف:12]. والقرآن مليء بمحاورات الرسل مع أقوامهم "قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ" [إبراهيم:10] .
وتأمل حوار إبراهيم عليه السلام مع مدعي الربوبية "أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ" [البقرة: 258].
وحوار موسى مع فرعون مدعي الألوهية والربوبية في سور عديدة في القرآن وكذلك بقية الرسل عليهم صلوات الله وسلامه حيث يحاورون أقوامهم بالحكمة لدعوتهم إلى الله وبيان الحق لهم والرد على شبهاتهم.
وهذا القرآن يحكي حوار النبي –صلى الله عليه وسلم - مع امرأة "قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ" [المجادلة: 1].
وحضارتنا الإسلامية على مدى التاريخ هي حضارة الحوار فقد حاور علماء المسلمين كافة أهل الملل والنحل بالمنهج القرآني والدعوة إلى الخير(7).
ثانيًا: أهم أهداف الحوار في الإسلام:
1 – الدعوة إلى الإسلام, وعبادة الله وحده لا شريك له وهذا أسمى هدف "وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ" [فصلت: 33] ومعرفة الله هي أعظم حقيقة وعبادته هي الحكمة من خلق البشر "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ" [الذاريات: 56], ويترتب عليها سعادة البشرية في الدنيا والآخرة " فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى" [طه: 123, 124].
ويدخل في ذلك إبراز محاسن الإسلام والرد على شبهات أعدائه وإيضاح الحقيقة العظيمة في الحكمة من خلق البشر وما يُراد منهم وما يراد بهم وما مصيرهم.
فالحوار مطلب إسلامي لكي نقوم بواجبنا تجاه الأمم الأخرى ليس لافادة أنفسنا فحسب بل لفائدة الأمم الأخرى أيضًا لنوصل إليها الخير الذي أمرنا به.
فالأمة الإسلامية هي صاحبة الرسالة الأخيرة, وعليها واجب البلاغ، قال تعالى: "كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ" [آل عمران: 110].
2- تحقيق وظيفة الإنسان في الأرض وهي الخلافة وعمارة الأرض "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً" [البقرة: 30] (8).
3- تبادل العلوم النافعة، وحل الإشكالات القائمة والتعاون على الخير "وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ" [المائدة: 2].
وليس من أهداف الحوار موالاة الكفار ومودتهم من دون المؤمنين، فقد جاءت النصوص القطعية في النهي عن ذلك، قال الله تبارك وتعالى: "لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ" [آل عمران: 28].
كما أن الحوار لا يهدف إلى التنازل عن شيء من ثوابتنا العقدية أو الشرعية، أو المشاركة في الدعوات المغرضة لوحدة الأديان التي تساوي الإسلام بغيره وخلط الحق بالباطل، أو مشاركة الكفار في باطلهم، وقد نهى الله نبيه عن ذلك فقال سبحانه: " قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [الكافرون: 1-6]، وقال أيضاً: "وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ" [القلم: 9] وقال سبحانه: "وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً" [الإسراء: 74] كما يجب التفريق بين الكفار المحاربين الذي يجب معهم الجهاد في سبيل الله "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ" [الممتحنة: 1]، وقال سبحانه: "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ" [التوبة: 73]، والمسالمين الذين قال الله فيهم: "لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ" [الممتحنة: 8].
ثالثاً: آداب الحوار:
من أهم آداب الحوار:
1- حسن القصد من الحوار: وذلك بالإخلاص لله والرغبة في طلب الحق، قال تعالى: "وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ " [البينة: 5].
2- العلم: فلا حوار بلا علم، والمحاور الجاهل يفسد أكثر مما يصلح، وقد ذم الله سبحانه وتعالى المجادل بغير علم "وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ" [الحج: 8]، وذم أهل الكتاب لمحاجتهم بغير علم كما في قوله تعالى: "هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [آل عمران: 65-66].
العلم عام في كافة مواضع الحوار، فيشمل العلم بالإسلام وعقيدته وحضارته والعلم بالمحاورين وخلفياتهم وكافة ما يحتاج إليه في الحوار.
فالمحاور المسلم داع إلى الله يجب أن تكون دعوته بعلم وبصيرة كما قال سبحانه "قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي" [يوسف: 108].
فالعلم بالإسلام وحضارته وشبهات المخالفين في غاية الأهمية في حوار غير المسلمين لإقناعهم ورد شبهاتهم فضلاً عن عدم الانخداع والتأثر بها.
3- التزام القول الحسن، وتجنب منهج التحدي والإفحام، حيث أن أهم ما يتوجه إليه المحاور التزام الحسنى في القول والمجادلة، ففي محكم التنزيل: "وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ" [سورة الإسراء: 53] "وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ" [سورة النحل: 125] (9).
وعلينا أن ننأى بأنفسنا عن أسلوب الطعن والتجريح والهزء والسخرية، وألوان الاحتقار والإثارة والاستفزاز.
4- التواضع واللين والرفق من المحاور وحسن الاستماع وعدم المقاطعة والعناية بما يقوله المحاور، فهو أدعى للوصول إلى الحقيقة واستمرار الحوار، وهذا ما علمناه القرآن، فقد أمر الله نبيه موسى وأخاه هارون عليهما السلام عند مخاطبة فرعون الذي طغى وتجبر وادعى الألوهية والربوبية، فقال سبحانه : "فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى" [طه: 44].
5- الحلم والصبر، فالمحاور يجب أن يكون حليماً صبوراً، فلا يغضب لأتفه سبب، فإن ذلك يؤدي إلى النفرة منه والابتعاد عنه، والغضب لا يوصل إلى إقناع الخصم وهدايته، وإنما يكون ذلك بالحلم والصبر، والحلم من صفات المؤمنين قال تعالى: "وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ" [أل عمران: 134]. وعندما قال رجل للنبي – صلى الله عليه وسلم - أوصني، قال: (لا تغضب) (10) وكررها مراراً.
ومن أعلى مراتب الصبر والحلم مقابلة الإساءة بالإحسان، فإن ذلك له أثره العظيم على المحاور، وكثير من الذين اهتدوا لم يهتدوا لعلم المحاور واستخدامه أساليب الجدل، وإنما لأدبه وحسن خلقه واحتماله للأذى ومقابلته بالإحسان، وقد نبه الله عز وجل الداعين إليه إلى ذلك الخلق الرفيع وأثره وفضل أصحابه، فقال تعالى: "وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ" [فصلت: 33-35].
6- العدل والإنصاف؛ يجب على المحاور أن يكون منصفاً فلا يرد حقاً، بل عليه أن يبدي إعجابه بالأفكار الصحيحة والأدلة الجيدة والمعلومات الجديدة التي يوردها محاوره وهذا الإنصاف له أثره العظيم لقبول الحق، كما تضفي على المحاور روح الموضوعية.
والتعصب وعدم قبول الحق من الصفات الذميمة في كتاب الله فإن الله أمرنا بالإنصاف حتى مع الأعداء فقال: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى" [المائدة: 8]، ومن تدبر القرآن الكريم وذكره لأهل الكتاب وصفاتهم الذميمة يجد أن المولى عز وجل لم يبخسهم حقهم، بل أنصفهم غاية الإنصاف، ومن ذلك قوله تعالى: "وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً" [آل عمران: 75]، وقوله تعالى: "لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ" [آل عمران:113]. يقول ابن القيم:
وتعر من ثوبين من يلبسهما *** يلقى الردى بمذمة وهوان
ثوب من الجهل المركب فوقه *** ثوب التعصب بئست الثوبان
وتحل بالإنصاف أفخر حلة *** زينت بها الأعطاف والكتفان(11)
ويأمر الله بمحاورة أهل الكتاب بلغة الإنصاف والعدل: "قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً" [آل عمران: 64].
والإسلام ينطلق في الحوار من التكافؤ بين البشر لا تفاضل لعرق كما حكى الله عن اليهود قولهم: "نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ" [سورة المائدة: 18] أو لون كما يدعى العنصريون البيض في أوروبا، أو طبقية كما هي عند الهندوس، وإنما بصلاحهم، ولنتأمل آية قرآنية مفتتحة بالمبدأ ومقررة وجود الاختلاف ومبينة أهمية التعارف وخاتمة بميزان التفضيل "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ" [الحجرات: 13].
وهذا الاختلاف من آياته سبحانه "وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْعَالِمِينَ" [الروم: 22].
فالإسلام يقرر أن الاختلاف حقيقة إنسانية طبيعية ويتعامل معها على هذا الأساس "لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ" [المائدة: 48].
فوجود الاختلاف أمر واقع وله حكم إلاهية ويجب التعايش وفق ما أمر الله من الدعوة والنصيحة(12).
وأخيراً هذه نظرتنا للحوار والاختلاف، ولكن عندما ننظر إلى الواقع ودعوات الحوار الصادرة من الغرب لنا أن نتساءل: كيف يؤتي الحوار ثماره في العالم اليوم بين الشرق والغرب أو بين الشمال والجنوب وهو يصاحب الهيمنة والاستعلاء، والظلم والجور، والاحتلال ولغة السلاح.
إن التكافؤ بين المتحاورين مهم جدًّا ليحقق الحوار أهدافه(13).
أن الحوار لا يحقق أهدافه مع المجازر المستمرة في فلسطين والاحتلال في العراق وأفغانستان؛ بل كيف تتفق لغة الحوار ع الجدار العنصري في الأرض المحتلة على الرغم من إدانة العالم في الأمم المتحدة (باستثناء بعض دول الغرب المنحازة للصهيونية).
أي حوار ينادي به الغرب مع هذا العدوان والظلم ولغة الاستعلاء، وفرض المصطلحات واستغلال التفوق الإعلامي لتشويه الآخرين.
كيف نثق بهذا الحوار الذي يهدف إلى نمط جديد من الدبلوماسية لتكريس الظلم ومصالح تتعلق بالاقتصاد والسياسة ومواصلة الحرب والصراع والاحتلال(14).
إن الغرب مطلوب منه قبل أن يتحدث عن الحوار ونشر الديموقراطية (والشرق الأوسط الكبير) إن كان يريد خيرًا بالآخرين يجب تقليص الهوة السحيقة بين البلدان الغنية والفقيرة, وعليه مساعدة البلدان على التنمية لا توريطها في الديون والفقر، وفرض الإملاءات عليها، ومساعدة البلدان التي خربتها الحروب كالصومال وأفغانستان وغيرها على إنهاء ذلك الوضع, بل أن تكف يدها عن إشعال الفتن في تلك البلدان.
بعد ذلك يُقال أننا نرفض الحوار والتسامح؛ ومن يتهمنا بذلك؟ إنه المستعلي الظالم المحتل لأرضنا والساعي لتشويه ديننا وثقافتنا، ومع ذلك فلا نزال نقول إننا مع دفاعنا عن ديننا وثقافتنا وأرضنا وأنفسنا فإننا نرى أن الحوار هو خيار مهم لتحقيق أهدافنا العليا القائمة لمصلحة البشرية.
(1) لسان العرب، ابن منظور (4/217-218).
(2) لسان العرب، ابن منظور (11/103).
(3) انظر: أصول الحوار، الندوة العالمية للشباب الإسلامي، الطبعة الثانية، 1408هـ - 1987م، ص: 9. وانظر: الحوار مع أهل الكتاب، د. خالد بن عبدالله القاسم، دار المسلم، الطبعة الأولى، 1414هـ، ص: 104.
(4) لسان العرب، (4/196).
(5) انظر: الحضارة والعالم الآخر، د. عبدالله الطريقي، دار الوطن، الرياض، الطبعة الأولى، 1415هـ، ص: 16-17.
(6) انظر: الحضارة، حسين موسى، عالم المعرفة، 1998م، ص: 220.
(7) انظر: موقف الإسلام من الحضارات الأخرى، د. محمد نورد شان، بحث مقدم إلى ندوة الإسلام وحوار الحضارات، غير منشور، مكتبة الملك عبد العزيز، الرياض – السعودية، محرم 1423هـ، ص: 6.
(8) انظر: مدخل إسلامي لحوار الحضارات، لمحمد السعيد عبد المؤمن ص(11-12)، بحث مقدم لندوة الإسلام وحوار الحضارات، مكتبة الملك عبد العزيز، 1423هـ غير مطبوع.
(9) أصول الحوار وآدابه في الإسلام، صالح بن عبدالله بن حميد، ص: 13.
(10) أخرجه البخاري، ك الأدب، باب الحذر من الغضب، رقم (5765).
(11) الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية، ابن القيم، دار المعرفة، بيروت، 1345هـ، ص: 19.
(12) انظر: مجلة العرفة، العدد 101 شعبان 1424هـ، موضوع قيم الإسلام، الحوار الانفتاح على العالم، ص: (18 – 26).
(13) انظر: من أجل حوار بين الحضارات (9) روجيه جارودي دار النفائس، الطبعة الأولى 1411هـ.
(14) انظر: حوار الحضارات، محمد خاتمي (50) ضمن كلمة الرئيس الإيراني في اليونسكو (بتصرف) في فرنسا 30/10/91 دار الفكر دمشق الطبعة الأولى 1423هـ.
==============
#أمتنا وشخصيتها الحضارية التاريخية
د. غازي التوبة 15/11/1427
06/12/2006
عرّفت الموسوعات السياسية الأمة فقالت: "أمة (Nation) مجموعة بشرية يكون تآلفها وتجانسها القومي عبر مراحل تاريخية تحققت خلالها لغة مشتركة، وتاريخ وتراث ثقافي ومعنوي وتكوين نفسي مشترك، والعيش على أرض واحدة ومصالح اقتصادية مشتركة، مما يؤدي إلى إحساس بشخصية قومية، وتطلعات ومصالح قومية موحدة ومستقلة.
ومع هذا فهذه الشروط ليست نهائية ولا قاطعة؛ فهناك أمم لا تتوفر فيها كل هذه الشروط، وهناك شعوب توفرت فيها ولم تبرز إلى حيّز الوجود كأمم، بل جماعات قومية داخل أمم متفرقة أخرى" (موسوعة السياسة، ج1 ص305).
إذا دققنا في التعريف السابق لنرى مدى مواءمته للأمة الإسلامية، ومدى مناسبته لها لوجدناه منطبقاً عليها، متحققاً فيها، وقد جاء التجانس والاشتراك والوحدة في الثقافة والتراث واللغة والمصالح والتكوين النفسي، جاء كل ذلك من الوحدة الثقافية التي كانت تقوم على الدعامتين الرئيسيتين: القرآن والسنة اللتين أعطتا المسلمين تصوراً واحداً عن الكون والحياة والإنسان، ورسمتا لهم أهدافاً واحدة تزاوج بين التطلع إلى الآخرة وإعمار الدنيا، وحددتا لهم قيماً واحدةً تقوم على التطهّر والتزكّي، وأوجبتا عليهم واجبات واحدة تعود على الفرد والمجتمع بالخير في الدنيا قبل الآخرة، وملأتا قلوبهم بتعظيم الله ورجائه وحبّه، مما أورثهم غنًى نفسياً وامتلاءً معنوياً تجسّد في أوقاف بلغت ثلث ثروة العالم الإسلامي، ووجهتا عقولهم إلى التفكر والتدبر والأخذ بالتجريب، والابتعاد عن الأوهام والظنون، مما جعلهم يبتكرون مخترعات تغني الحياة البشرية في مختلف العلوم والمجالات: كالفيزياء والكيمياء والميكانيكا والرياضيات والفلك والطب والأدوية والصناعة والزراعة...الخ
إنّ وعْي علماء الأمة وقادتها أهميةَ الوحدة الثقافية في استمرارية وحدة الأمة جعلهم يتوجهون إلى دعامتي الوحدة الثقافية الأساسية: القرآن والسنة، فيحرصون على جمعهما، ويبتكرون العلوم التي تساعد على ضبطهما، ويخترعون الأدوات التي تساعد على توحيد فهم حقائقهما، فكانت علوم المكي والمدني، والناسخ والمنسوخ، والنحو والصرف والبلاغة والبديع ومصطلح الحديث، وترجمة الرجال وعلوم الدراية والرواية، وعلم أصول الفقه ومدارس التفسير ومعاجم اللغة... الخ
من هذه الزاوية يمكن أن نقرر أنّ اهتمام علماء الأمة لنصي القرآن والسنة لم يكن لقدسيتهما فقط، ولكنه اهتمام مرتبط بوعي أهميتهما في حفظ وحدة الأمة وتعزيزها، وتحقيق استمرارية وجودها.
وإنّ مقارنة وضع الأمة الإسلامية التاريخية بالتعريف الذي ورد في الموسوعة السياسية السابقة نجد أنّ الأمة الإسلامية لم تحقق الوحدة فقط بل حققت آفاقاً أخرى رسمها الإسلام لها وهي:
الأول: أفق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي جاء في قوله سبحانه وتعالى: (كنتم خَيرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ للناسِ تَأْمُرونَ بالمعروفِ وتَنْهَوْنَ عنِ المنكرِ) (آل عمران،110). وقد أورث ذلك الأفق الأمة حيوية في مواجهة أمراضها الداخلية، وقد تجسدت تلك الصفة بمؤسسة الحسبة التي كان المقصود منها ضبط السلوك العام للمسلمين، وجعل السلوك المستقيم سجيةً وطبعاً عندهم وليس أمراً خارجياً؛ لأنّ الحدود كان المقصود منها أن تكون رادعة للمسلم، لذلك أناطتها الحكومة الإسلامية بالقاضي، وهي تحتاج إلى إقامة البينة والشهود، وتدرأ عند الشبهات، أما الحسبة فهي تشجيع على الخير وتوجيه وتنبيه وتأديب وزجر وردع، ثم تأتي العقوبات والتعزير، ويجب ألاّ تصل بحال من الأحوال إلى مستوى حد من الحدود، وللمحتسب واجبات متعددة منها: منع التعديات على الشوارع، والحفاظ على قواعد الاحتشام، ومراقبة الأسواق، والاطمئنان على النظافة العامة...الخ
الثاني: أفق الشهادة الذي يتمثل في قوله سبحانه وتعالى: (وكذلك جَعَلناكُم أُمَّةً وَسَطاً لتكونوا شُهداءَ على الناسِ ويكونَ الرسولُ عليكم شَهيداً). [البقرة:143]. وقد تجسدت الشهادة بوعي واقع الآخرين والحرص على هدايتهم، لذلك أصبح المسلم داعياً إلى الله في كل أحواله: حين يتاجر، وحين يسافر، وحين يتعبد، وحين يتعلم... الخ وقد كانت النتيجة انتشار الإسلام عن طريق الدعوة أكثر من انتشاره عن طريق الفتوح. ففي الواقع انتشر الإسلام في إفريقية من الصومال شرقاً إلى السنغال غرباً عن طريق التجارة، فقد قامت شبكة القوافل التي كانت تعبر الصحراء الكبرى بهذا الدور، ولم يكن العرب هم الذين قاموا بالدور الحاسم في غرس الإسلام في هذه المناطق، لكن الفضل الأكبر يعود إلى البربر أصحاب الجمال الذين كانت قوافلهم تجوب دروب الصحراء، وفي الشمال الشرقي من إفريقية لعب الصوماليون دوراً مماثلاً كتجار قوافل في الركن الشمالي من القرن الإفريقي، وكان هناك جماعات محلية أخرى مثل الهوسا وريولا في غرب إفريقية قامت بعد اعتناقها الإسلام بنشر الدين من خلال علاقاتها التجارية الواسعة.
أما شرقي آسيا فوصل الإسلام فيه إلى إندونيسيا وماليزيا والفلبين عن طريق التجار المسلمين في الهند، ووصل إلى سهولها الداخلية عن طريق المتصوفة والمبشرين الدعاة المسلمين، وعندما جاء القرن السادس عشر كانت جميع الشعوب التركية في أوراسيا مسلمة تقريباً، وبهذا يكون الإسلام قد حل مكان الأديان التي كانت منافسة مثل المسيحية والمانوية والبوذية.
الثالث: أفق العالمية: وقد تحقق هذا الأفق؛ لأنّ الرسول صلى الله عليه وسلم بُعِث إلى الناس كافة وليس للعرب وحدهم، قال سبحانه وتعالى: (وما أرسلناكَ إلا رَحمةً للعالمين) (الأنبياء،107)، وقال سبحانه وتعالى أيضاً: (وما أرسلناك إلا كافَةً للناسِ بشيراً ونذيراً) (سبأ،28)، وقال سبحانه وتعالى أيضاً: (قُلْ يا أَيُّها الناسُ إني رَسولُ اللهِ إليكم جَميعاً) (الأعراف،158). وأكد الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك في أحد أحاديثه فقال: "فُضّلت على الأنبياء بست: أُعطيت جوامع الكلم، ونُصرت بالرعب، وأُحلّت لي الغنائم، وجُعلت لي الأرض طهوراً ومسجداً، وأُرسلت إلى الخلق كافة، وخُتم بي النبيون" (رواه مسلم).
وقد تحقق أفق العالمية لأنّ القرآن الكريم كتاب الله إلى الناس جميعاً فقال سبحانه وتعالى: (إنْ هو إلا ذِكْرٌ للعالمينَ) [ص:87]، ولأنّ الإسلام أقام الرابطة بين الناس على أساس الإيمان بالله ولم يقمها على جنس أو نسب أو قبيلة فقال سبحانه وتعالى: (إنما المؤمنونَ إخوةٌ) [الحجرات:10]، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "يا أيها الناس إنّ أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، لا فضل لعربي على أعجمي إلاّ بالتقوى".
لذلك مزجت الأمة الإسلامية مختلف الأجناس والأعراق والقبائل والشعوب في بوتقتها، وهذا المزج هو ما حلم به الفيلسوف أرسطو وتلميذه القائد العسكري اسكندر المقدوني، وسعياً إلى تحقيقه بمزج العرقين: اليوناني والفارسي في بابل من خلال زواج اسكندر المقدوني بابنة كسرى ملك الفرس، وزواج كبار ضباطه بشريفات الأسر الفارسية، لكن هذه المحاولة انتهت بوفاة الاسكندر المقدوني.
وقد أثمرت عالمية الأمة الإسلامية حضارة عالمية كان للعرب دور مستقل في بداية ظهور الإسلام ولفترة وجيزة، لكن الشعوب الأخرى شاركتهم بعد ذلك في كل عناصرها العلمية والثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية...الخ، لذلك نجد أنّ الصرح العلمي في الحضارة الإسلامية بناه علماء من العرب والفرس والهنود...الخ، وأنّ الأرض الإسلامية دافعت عنها قبائل وأسر سلجوقية وزنكية وكردية وتركمانية وشركسية وعثمانية...الخ، وأنّ القيادة السياسية تسلمها العرب والبربر والترك والفرس...الخ
ومما ساعد في تحقيق هذه الحضارة العالمية اعتبار الإسلام الأمة الإسلامية مع أمم الأنبياء السابقين أمة واحدة فقال سبحانه وتعالى: (وإنَّ هذه أُمَّتُكُم أُمَّةً واحِدَةً وأنا رَبُّكُم فاتَّقونِ) (المؤمنون،52)، وقال سبحانه وتعالى: (إنَّ هذه أُمَّتُكُم أُمَّةً واحِدةً وأنا رَبُّكُم فاعْبُدونِ) (الأنبياء،92)، وقد جاء الوصف بالأمة الواحدة في السورتين بعد حديث تفصيلي عن معظم الأنبياء السابقين ومنهم: موسى، وهارون، وإبراهيم، ولوط، وإسحاق، وداود، وسليمان، وأيوب، وإسماعيل، وإدريس، وذو الكفل، وذو النون، وزكريا، ويحيى، وعيسى...الخ
ومما عزز هذه العالمية إفراد مساحة تشريعية خاصة في التعامل مع أهل الكتاب: أتباع موسى وعيسى عليهما السلام؛ إذ أباح الإسلام أكل ذبائحهم والزواج من نسائهم فقال سبحانه وتعالى: (وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) (سورة المائدة: من الآية 5)
إنّ هذه الآفاق الحضارية التي حققتها الأمة الإسلامية في التاريخ جديرة بأن تكون محل بحث تفصيلي لكي نحسن فهم واقعنا، ونحسن التعامل معه حاضراً ومستقبلاً
==============
#كلمات في الفن الإسلامي
أ. د. عماد الدين خليل 9/5/1428
26/05/2007
لم تنفصل الفنون الإسلامية عن العقيدة التي صاغتها، والبيئة التي تخلقت في رحمها، بخلاف العديد من الاستنتاجات الخاطئة التي تشبثت بها بعض الدراسات الحديثة حول
الموضوع، ولذا سنقف عند هذه المسألة بعض الوقت.
إن عقيدة الإسلام، بانقلابها على سائر الجاهليات والوثنيات منحت الفن منظوراً توحيدياً أصيلاً كان في نهاية الأمر بمثابة كسب مهم لمفاهيم التجريد التي لم تبلغها الفنون الأخرى في العالم إلاّ في القرن الأخير.
لقد وضع الإسلام ضوابط ومعايير ألزم بها فنانيه، فدفعهم إلى التخلي عن بعض صيغ التعبير، ولكنه ـ بهذا ـ فتح أمامهم مجالات أخرى لم يسبقه إليها أحد، وشهد عالم الإسلام مهرجاناً خصباً من معطيات فن ينبثق عن رؤية عقديّة متميزة يلتزم بمفرداتها ومطالبها، فيبدع ويتفوق.
إن الطاقة الإبداعية تبحث ـ بالضرورة ـ عن متنفسها.. عن فرصتها للتحقق. ولقد كان الفنان المسلم أهلا لإيجاد البدائل المناسبة، ومن ثم فإن غياب فنون كالنحت والرسم ـ إلى حد كبير ـ قاد بالمقابل إلى حضور فاعل في مجالات أخرى كالخط والزخرفة والمعمار. وكما يقول الباحث الإنكليزي (روم لاندو): "فمن حيث حُرّم على المسلمين الاهتمام بالفن التشبيهي، فقد تعين على مواهبهم الفنية أن تلتمس منافذ لها في اتجاهات أخرى. ومن خلال هذا السعي أحدثوا فناً يستطيع أن يدعي ـ بصرف النظر عن محاسنه أو نقائصه الأخرى ـ أنه واحد من أصفى الفنون التي نعرفها ". وهو ـ أي روم لاندو ـ يضع يديه على بعض مقومات هذا الفن: التجريد الجمالي الخالص، رفض التشخيص احتراماً للمنظور العقدي، تجاوز الطبقية، والقدرة على الانتشار الجغرافي.
وهو يتحدث عن إبداعية الخط العربي والمساحة الواسعة التي غطاها في الحياة الفنية الإسلامية بتعاشقه مع فن الزخرفة "ذلك النظم المعقد للأشكال الهندسية والعناصر النباتية المكيفة وفقاً لطراز بعينه والخطوط العربية. النظم الذي انتهى إلى أن يصبح بمثابة "دمغة المصوغات" بالنسبة إلى الفن الإسلامي والذي شغل حيزاً هائلا من العبقرية الفنية في الإسلام".
وهو يستنتج أن "العنصرين اللذين يشكلان المحتوى الرئيس لفن الزخرفة العربي ـ النمط والكلمة، الشكل والمعنى ـ يفيدان على التعاقب مبدأ الحقيقة المادية ومبدأ الحياة، وبكلمة أخرى: مبدأ الوجود كما يراه الله.. وهكذا يصبح هذا الفن رمزاً حقيقياً لموقف صاحبه من الله ومن العالم الذي يحيا فيه".
وثمة ملمح آخر يكتشفه (روم لاندو) وهو يتحدث عن فن الزخرفة والخط ذلك الإيقاع المتوحد في حضارة الإسلام بين الفنان والمفكر والعالم، ذلك العشق للتناغم والتناسق، وذلك الولوع بالنظام: "إن الفنان المسلم شارك المفكر والعالم المسلمين ولوعهما بالنظام والجدولة Tabulation والتناغم. فقد التمس الفلاسفة كما نعلم تفسيرات عقلانية لخلق الله الكون، ولم تكن قلوبهم لتطمئن إلاّ إذا أظهرت تفسيراتهم منطق التناغم الكامل. أما الرياضيون وعلماء الفلك فالتمسوا أكمل شكل من أشكال التناغم، أعني المعادلة الرياضية. وبطريقة مماثلة اهتم الفنان المسلم بتنسيق التصاميم والأنماط التي كانت صفتها الهندسية الطاغية تساعد بصورة رائعة على النظم ..".
وبصمات الإسلام ورؤيته للكون والعالم تمتد في مجال الفن لكي تشمل التكوين المعماري نفسه، انطلاقاً من المسجد الذي هو البدء والمنتهى، والذي اكتسب ملامحه الأساسية من طبيعة وظيفته التي أُريد له أن يؤديها، وانتهاء بالمدن الإسلامية المنتشرة في مشارق الأرض ومغاربها : بخارى وسمرقند ودلهي وأصفهان وبغداد وأسطنبول ودمشق والقاهرة وفاس وقرطبة وغرناطة وأشبيلية، تلك التي وضعت حجارتها الأساسية باسم الله، بدءاً من أعماق تركستان وانتهاء بالحمراء في الأندلس، مروراً بحافات الصحراء حيث أقيمت المدن الأولى بمواجهة تحديات الامتداد والفناء: البصرة والكوفة والفسطاط والقيروان…
يصف روجيه جارودي في كتابه المعروف (وعود الإسلام) الجامع بأن "حجارته نفسها تكاد تصلي" وأنه "مركز الإشعاع لجميع فعاليات الأمة الإسلامية، ونقطة الالتقاء لجميع فنونها" وأن "كل الفنون في البلاد الإسلامية تؤدي إلى المسجد، والمسجد إلى الصلاة ".
وجارودي بملاحظاته الدقيقة هذه يؤكد الارتباط الحميم بين الرؤية والمعمار، وهي تذكرنا بما سبق وأن قاله (روم لاندو)، من "أن حافزاً لا إرادياً نحو دمج السماوات دمجاً رمزياً في بيت العبادة، هو الذي قاد المسلمين إلى تبني القبة وإلى إتقانها حتى الكمال. وفي إمكاننا القول بأن المكعب والقبة معا يمثلان رمزاً كاملاً لماهية الإسلام: وحدة العالمين المنظور وغير المنظور، عالمي الأرض والسماء". وبعبارة جاك ريسلر، وهو يرى ويسمع إيقاع العقيدة في المعمار:
"في المسجد ينبض قلب الإسلام.. وفي أرجائه يحس المرء إحساساً حياً أنه بحضرة الله. الحق أنه لا شيء في المسجد إلاّ البساطة والجمال والتجانس".
وفيما كان بناء المساجد ينتشر شرقاً حتى بلغ الصين، وغربا حتى وصل الأندلس "كان نمط البناء يتأثر بعناصر محلية من غير أن تتبدل خطته الأساسية تبدلاً يُذكر. ولما كان المسجد مكاناً للعبادة فإن بناءه عموماً ظل معبراً عن الإسلام تعبيراً عظيماً. وأما في أثناء تطوره في التاريخ فإنه كان صورة مصغرة لتطور الثقافة الإسلامية، تلك الثقافة التي كان المسجد تعبيراً صحيحاً عنها ـ فيما يتعلق بالأمم المختلفة ـ إذ هو يمثل بصورة ملموسة ذلك التفاعل بين الإسلام و جيرانه".
ليس الجامع وحده، وإنما المعطيات المعمارية كافة كانت تخفق بالنبض نفسه وتعبر عن رؤية إسلامية أصيلة ومتميزة. وعلى أية حال، كما يؤكد مؤرخ الفن المعروف جورج مارسيه فإنه "يكاد لا يوجد في البلاد الإسلامية منشآت عامة أو خاصة لا تحمل طابع الدين، فلقد تغلغل الإسلام في الحياة البيئية، كما دخل حياة المجتمع، وصاغت الطبائع التي نشرها شكل البيوت والنفوس". وهكذا "فإن الإسلام وضع طابعه على إطار الحياة اليومية، وحتى عندما يكون الفن مطبقاً في أمور دنيوية، فإن فن البلاد الإسلامية يبقى فناً مسلماً" بل إن غارودي يذهب إلى أبعد من هذا وهو يعاين ذلك الإيقاع المتصادي العميق المتبادل بين الإسلام وفنونه كافة، فيقول: "لا مندوحة لي من أن أشهد بتجربتي الشخصية: ذلك أنني انطلاقاً من تأمل فنون الإسلام ومساجده إنما شرعت أفهم العقيدة الإسلامية بتأكيدها الجذري على التعالي.."، مشيراً إلى رحلة الصعود للمسلم الفرد وللأمة الإسلامية عبر محطات الإسلام والإيمان والتقوى والإحسان.. إلى حركة الخروج بالناس من ضيق الدنيا إلى سعتها..
و على الرغم من أن المعماريين المسلمين تأثروا بالنماذج الرومانية والفارسية والبيزنطية فإنهم "مع ذلك وُفّقوا دائماً إلى إبداع آثار لا ريب في سمتها الإسلامية الخالصة". وتمكنوا من امتصاص عناصر منبثقة من أشد الينابيع تنافراً لكي يدمجوها في تركيب Synthesis جديد متجانس. ليس هذا فحسب، بل إنهم عادوا لكي يعطوا الأمم الأخرى الكثير من إبداعاتهم المعمارية فيما تحدث عنه الباحثون ومؤرخو الفن فأطالوا الحديث.
باختصار شديد، فإن فن المعمار الإسلامي، ارتبط بشكل حميم، وكما هو الحال بالنسبة للعديد من مفردات الحضارة الإسلامية، برؤية هذا الدين الأمر الذي دفع (أوليغ غرابار) إلى القول بأنه "نقل بصري لرؤية العقيدة الإسلامية الكونية
============
#التعايش مع الآخر حقيقة تاريخية وضرورة واقعية
محمد الحسن الددو 13/6/1428
28/06/2007
خلق الله الإنسان وسخر له الكون ليكون خليفة الله في الأرض ، قال الله تعالى : { إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان.. }
ومن قديم الزمان انقسم بنو الإنسان إلى مؤمن وكافر وبر وفاجر، ولم يمنع ذلك من عيشهم على هذا الكوكب ؛ بل وتعاونهم في شؤونهم اليومية في غير أوقات الحروب والنزاعات .
وبحكم الاختلاف الحتمي والطبيعي بين الناس فليس أمامهم من خيار غير التعاون في المتفق فيه الذي يفترض أن يتوصل إليه بواسطة حوار بناء أطرافه متكافئة ومتسامحة وبهذا يمكن التعايش بين الناس وإن اختلفت عقائدهم وتعددت مشاربهم وتباينت أهدافهم وبغيره يقع ما لا تحمد عقباه من تنافر وتناحر يقطع الأرحام ويهلك الحرث والنسل ويأتي على الأخضر واليابس ومحاولة لبيان هذا الموضوع أكثر أورد النقاط التالية :
المحور الأول: من نحن ومن الآخر ؟
أما المقصود بعبارة ( نحن ) فهم من عنتهم الآية الكريمة { يأيها الذين امنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلوة وآتوا الزكوة واعتصموا بالله هو موليكم فنعم المولى ونعم النصير}
وأي فرد شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وعمل بمقتضى ذلك ، داخل في هذا التعريف ، ولما كان محمد صلى الله عليه وسلم آخر نبي وآخر رسول وكانت أمته آخر أمة أنزل إليها وحي من الله – لما كان ذلك كذلك – اقتضت حكمة الله أن تكون هذه الأمة متميزة عن غيرها من الأمم وهذا التميز شامل لمناحي الحياة ، عقدية واقتصادية وسياسية واجتماعية .
إذ ليس مقبولا شرعا ولا مستساغا عقلا أن تكون آخر أمة أخرجت للناس لتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله تابعة لأمة أخرى مهما علا شأنها قال تعالى : { وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا }
أما الآخر فنعني به من لا يعتقد عقيدتنا ولا يؤمن بديننا وهذا التعريف يشمل أتباع الديانات السماوية السابقة يهودا ومسيحيين كما يشمل من يدينون بديانات أخرى ، ومن لا يدينون بشيء مع استحضار واستدراك المكانة الخاصة لأهل الكتاب لدى المسلمين والفروق بين الفريقين (المسلمين وغيرهم)؛ عديدة لكنها لا تصل إلى التضاد والتناقض المطلق، ولا تمنع التعايش ولذا لزم البحث عن أرضية مشتركة يمكن أن يقف عليها الفريقان ليعيشا في سلام وأمان ويعملا لتعمير الأرض وسعادة الإنسان …
المحور الثاني: أرضية التعايش
لا يخفى على دارس تعدد وتنوع واختلاف عقائد وعادات وتقاليد البشرية ، فلكل قوم ملتهم ومذهبهم ونظرتهم إلى الكون وإلى الحياة وهذا التنوع الذي قد أوجد هذا الاختلاف يمكن فهمه والتعايش معه إذا وجد الجميع أرضية صلبة يقفون عليها يرتضونها جميعا .
وللوصول إلى تلك الأرضية أقترح ما يلي :
أ. أن ينطلق الجميع من حقيقة لا جدال فيها وهي أن الناس لا يمكن أن يكونوا نسخة مكررة لأن الله لم يفطرهم على ذلك بل جعل الاختلاف سنة فيهم قال تعالى : { ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم ...}الآية 118 و 119 من سورة هود ، أي لو شاء الله لجعل الناس كلهم مؤمنين مهتدين على ملة الإسلام ولكنه لم يفعل ذلك لحكمة.
( ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ) أي ولا يزالون مختلفين على أديان شتى وملل متعددة ما بين يهودي ونصراني ومجوسي إلا ناسا هداهم الله من فضله وهم أهل الحق ( ولذلك خلقهم ) اللام لام العاقبة أي خلقهم لتكون العاقبة اختلافهم مابين شقي وسعيد ، قال الطبري : المعنى للاختلاف بالشقاء والسعادة خلقهم ..
ب. احترام المعتقدات والمبادئ الأساسية لكل طرف :
وهذه مسألة بالغة الأهمية ولها أثرها الطيب على العلاقات بين الأمم والمجتمعات فلكل أمة عقيدة أو مبادئ تقدسها وتلتزم بها وتعتبرها أسمى من غيرها ويدخل في هذا أركان الإيمان عند المسلمين ، من إيمان بالله وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر ، والقدر خيره وشره .. ولغير المسلمين ما يقدسونه ويحتفون به من آلهة يعبدونها ، أو مبادئ يعتزون بها .. ومبدأ الاحترام مبدأ قرآني أصيل دل عليه قوله تعالى : { ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم ..} الآية 108 من سورة الأنعام .
أي لا تسبوا آلهة المشركين وأصنامهم فيسبوا الله جهلا واعتداء لعدم معرفتهم بعظمة الله ، قال ابن عباس : قال المشركون لتنتهين عن سبك آلهتنا أو لنهجون ربك فنهاهم الله أن يسبوا أوثانهم .
ومعاملة أي من الطرفين للآخر بعدم احترام وخاصة في هذا الجانب لها آثار مأساوية ، وأنصع مثال على ذلك ما اقترفته الصحيفة الدانمركية ورساميها من تعريض وسخرية بمحمد صلى الله عليه وسلم وهو المكر الشنيع الذي أوقد نارا لا تزال مشتعلة ، وقد أتى حريقها على الأرواح والأموال ... وسبب هذا المنكر الشنيع شرخا يصعب تجاوزه بين المسلمين والغرب مالم يبادر الغرب إلى الاعتذار وتشريع ما يحول دون فعل مماثل .
ج. العمل على إرساء مبدأ التعاون والتشارك بدل الاستعمار والاستغلال والقهر ..
وفي هذا السياق على الغرب أن يقنع أن ثروات المسلمين وبقية العالم الثالث ليست ملكا للغرب ينهبها مباشرة أو عن طريق أعوان يصنعهم على عينه ويتعاهد هم بحمايته ورعايته بل هي ملك للشعوب التي جعلها الله في أرضها وخصها بها ... وليس خافيا أن نهب الدول الغربية لثروات الغير في الماضي والحاضر سبب مجاعات وكوارث لا حصر لها .
د. احترام المبادئ الإنسانية المشتركة كالحرية والديموقراطية وحقوق الإنسان :
فهذه قيم إنسانية سامية إن لم تتخذ مطية للإساءة إلى الغير والتهجم عليه بحجة حرية التعبير ... ويؤخذ على الغرب ترسيخه لهذه القيم في دوله وتشجيعه للاستبداد والظلم في الدول الأخرى ، وخاصة في بلاد المسلمين وهو أمر له ضرره البين على الجانبين .
هـ. احترام إرادة الشعوب في الاختيار :
اختيارها لدساتيرها وقوانينها ... ومن يحكمها ولا مجال لوصاية أمة على أخرى فكما لا تقبل الدول الأوربية مثلا أن تحكم بشريعة الإسلام ، عليها أن لا تحاول فرض نموذجها العلماني الليبرالي على المسلمين وما الضجة الكبرى التي أعقبت الفوز الساحق لحركة المقاومة الإسلامية ( حماس ) في فلسطين وما رافقها من تهديد ووعيد إلا دليل صارخ على النفاق والأنانية وحتى العنصرية المتنامية في الدول الغربية .. وقد آن الأوان لاعتراف الرجل الأبيض أنه ليس وحده القاطن في هذا الكوكب .. وليس وحده المؤهل للتفكير والتنظير والتنفيذ أصالة عن نفسه ونيابة عن غيره، فتلك مرحلة في طريقها إلى الانتهاء بعد عودة المسلمين إلى أصالتهم وحضارتهم وبزوغ نجم الصين والهند كدولتين تزداد قوتهما البشرية والاقتصادية.. ليستمر التدافع والتوازن الذي إذا اختفى اختفت الحياة ، قال تعالى:
{ ولولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض }
و. إعادة النظر في المؤسسات الدولية القائمة :
كالأمم المتحدة ومؤسساتها المختلفة من مجلس أمن .. إلخ لأن النظام الذي تقوم عليه يخدم الأقوى ولا مصلحة فيه للضعيف ، والعلاقة بين البشر لا يمكن أن تكون قائمة على ذلك ، وقد باتت المؤسسات الدولية تابعة لدولة واحدة هي الولايات المتحدة تغزو بها من تشاء ، وتحاصر من تريد ، وتكافئ من يدور في فلكها .. وهو أمر أفقد المؤسسات الدولية مصداقيتها ومبرر وجودها .
ز. وضع أسس جديدة للاقتصاد العالمي :
بخلاف ما هو قائم من سيطرة البنك وصندوق النقد الدوليين على مقدرات الشعوب المختلفة لتسخيرها لخدمة دول بعينها هي أمريكا وأوروبا ولو هلك بقية الخلق عن بكرة أبيهم .. ولابد أن تكون الأسس الجديدة مبنية على ما يخدم مصلحة الجميع وأن تتيح للأمم المختلفة إبراز مبادئها وخصوصياتها ، وفي هذا السياق ليس من حق النافذين في العالم العربي أن يفرضوا على المسلمين التعامل بالربا ... وهو في دينهم من أعظم المحرمات قال تعالى : { يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله ... } الآية
وفي الصحيحين : «اجتنبوا السبع الموبقات ، قالوا وما هي يا رسول الله ، قال : الشرك بالله ، و***** ، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات».
ح. إتاحة فرص التطور التكنولوجي والاقتصادي والسياسي .. أمام كل الأمم :
فالسياسة الحالية التي يحتكر فيها الغرب الصناعي إبراز العلوم والتقنيات ، والسعي الحثيث بوضع القواعد الصارمة لحرمان المسلمين خاصة من التكنولوجيا المتقدمة .. تنكر لأيادي المسلمين البيضاء وأنانية وعنصرية يتحتم التخلي عنها واستبدالها بنشر أسرار العلوم التجريبية لتعم فائدتها الجميع .
ط. معالجة الأزمات الكبرى : بعدالة تزيل أو تقلل الشعور بالظلم والمهانة السائد بين المسلمين بسبب سلب أرضهم وانتهاك عرضهم ونهب ثرواتهم واستهداف مقدساتهم ... والأمثلة على هذا أوضح من الشمس في رابعة النهار:
ففلسطين مغتصبة والأقصى مدنس والعراق تسيل الدماء فيه كالأنهار وأفغانستان مستباحة والشيشان مستلبة ... والاستمرار في هذا الطريق لا يترك للمسلمين إلا خيارا واحدا هو خيار الجهاد والمقاومة قال تعالى : { ولولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ..... } .
ي. أن لا تكون التكتلات الكبرى حكرا على غير المسلمين
فالولايات المتحد موحدة ، والاتحاد الأوروبي مجتمع ، والصين تجمع شملها ... أما المسلمون فيفرض عليهم التشرذم والتفرق والتجزؤ .... لإبقائهم ضعافا مفككين عاجزين .... رغم أن دينهم لا يقرهم على ذلك ولا يقبله منهم قال تعالى : { ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم } .
المحور الثالث: فوائد التعاون
التعايش والتفاهم والتعاون بين الأمم المختلفة أمر تحتاجه الإنسانية حاجة ماسة ، وقد شرع الإسلام التسامح وأمر بالعدل والرحمة والبر بين البشرية ، قال تعالى : { لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين } الآية 8 من الممتحنة .
وقال : { إن الله يأمر بالعدل ولإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي }
وقد ضرب المسلمون طيلة تاريخهم أنصع مثال على حسن معاملة غيرهم فلم يفعلوا ما فعلته أوروبا باليهود ، كما لم يقتر فوا الأسبان بالمسلمين .
وامتدت معاملة المسلمين الحسنة لغير المسلمين قرونا عديدة ولا تزال إلى اليوم ويشهد لذلك وجود النصارى وغيرهم بين المسلمين في أماكن كثيرة ...
والتعاون بين بني الإنسان لا غنى عنه وفيه فوائد كثيرة منها :
- انتشار المبادئ والأخلاق الأكثر إقناعا وجاذبية كالمساواة والحرية والديمقراطية والعدالة .. والصدق والأمانة .. والوفاء .
- استفادة كل فريق من خبرات وتجارب الفريق الثاني في كل مناحي الحياة : سياسية ، اقتصادية ، اجتماعية ، وإعلامية .
- تنمية وتعزيز القوا سم المشتركة بين الفرقاء جميعا لأن مركبا واحدا يجمعهم وأي خلل فيه سيدفع الجميع ثمنه غاليا .
- ازدهار العلوم والفنون المختلفة بتلاقح الحضارات وإثراء بعضها للبعض الآخر .
- سرعة التطور العلمي والتكنولوجي لما فيه مصلحة الإنسانية .
- تكامل الموارد الاقتصادية بتبادل السلع والخدمات بشكل منصف يكفل للكل العيش الكريم للفرقاء جميعا .
- حرية التنقل والتملك .
- الشعور بالأمان والسلام .
المحور الرابع: أضرار التصادم
التصادم بين الحضارات والأمم عواقبه مدمرة لا تخفى على أحد ولا يسعى إليها عاقل وقد روج العديد من المنظرين الغربيين لصراع الحضارات كالأمريكي هنكتتن وغيره ، والهدف الأول لهم المسلمون والحضارة الإسلامية وإن عدوا معها أحيانا الحضارة الصينية .
ومالم يبادر العقلاء إلى استدراك الأمر والسعي للسير بالبشرية في الطريق الآخر طريق تعاون وتكامل الحضارات فإن الحياة على هذه الأرض لن تكون سعيدة، بل ستكون مليئة بالأحزان والأحقاد التي هي حتمية للظلم والجور والقهر ...
خاتمة :
مرت حتى الآن حقب طويلة على الجنس البشري على هذا الكوكب الأرضي تراوحت العلاقة فيها – بين بني الإنسان – بين التفاهم والتكامل ، والتعاون ... وبين الخلاف والنزاع والشقاق ..
وكانت نتيجة الأولى إيجابية على الجميع ، أما الثانية فكانت سلبية بكل المقاييس ، ولذا من المصلحة بل من المتحتم أن يعمل المخلصون لمبادئهم وأوطانهم .. للوصول إلى قواسم مشتركة يتفق عليها الجميع ويعمل من أجلها لتقل أسباب ودواعي صراع وتصادم الحضارات الذي أباد أمما وشعوبا في الماضي والحاضر، وقد يبيدها في المستقبل – لاقدر الله – مالم يتدارك الموقف..
والمسلمون – من جانبهم – ممثلين في التيار الوسطي العقلاني المعتدل جاهزون للتعاطي إيجابيا مع أي قوم يعاملونهم باحترام ، ويضعون قدراتهم وإمكانياتهم معهم في خدمة الإنسانية
==============
#الإنسان والكون
منصور الزغيبي 11/7/1428
25/07/2007
(مدارك البشر ومعارفهم، هي مقربات الرؤية الكاشفة لأبعاد هذا الكون، ويتسع مجال الرؤية لهذه المقربات بقدر اتساع المعارف، ونضج المدارك).
د. راشد المبارك.
إن الكون والإنسان من أعظم المخلوقات الموجودة، ومن أكثر الكائنات الأخرى اتصالاً وارتباطاً بينهما، والعلاقة بينهما جدلية، منها الواضح، ومنها الغامض وهو الأكثر نسبة..!
إن (الكون) كلمة ضخمة تشمل كل ما في الوجود من المخلوقات الحية والجامدة..
وهي لم ترد في القرآن الكريم بهذه الصياغة تماماً، ولكن وردت بأسلوبٍ آخر.. (كن ) من التكوين.. (إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ) [سورة آل عمران:47].
فالكون في التعريف: هو (الفضاء الواسع وهو السماء). وعند اللغويين: (هو كل ما علاك فأظلك). وفي علم الفلك: (هو كل ما يحيط من أجرام ومجرات ونجوم وسدم وكواكب وفراغ بينهما) وعند الجرجاني هو: (عبارة عن وجود العالم). وإن كان البعض من العلماء المتخصصين وغيرهم، يرى أن إطلاق كلمة (كون) في العصر الحديث تختلف عن إطلاقها في الزمن التراثي المتقدم، والفارق هنا، أن المتأخرين من المعاصرين يقصدون بالكون كل ما هو متعلق ومتصل بعلم الفلك، وأما المتقدمون من التراثيين فيطلقونها على كل الموجودات في الكون.
إن العقل البشري يعيش قلقاً فكرياً منذ القدم من أجل اكتشاف هذا العالم الكوني، فمن ضمن الأسئلة التي أشغلته كثيراً: ما هو عمر الكون؟
طبعاً تبقى آراء العلماء مختلفة في التحليل، فمنهم من قدره بحوالي (15-20) مليار عام، وهناك حساب آخر حوالي (12.7) مليار سنة. وهذا من خلال التحليل الدقيق لأقدم نجوم المجرة وقياس عمرها، وهذا النجم الذي يُعرف باسم (31082- csool)، ورأي آخر كذلك على حسب نظرية الانفجار العظيم هو: (7-13) مليار سنة.
ومن ضمن الأسئلة متى وُجد الكون؟
لقد خلق الله هذا الكون من العدم، وبكلمة واحدة (كن) (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [سورة يس: 82] وكان مدة الخلق في ستة أيام: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ)[سورة ق:38] وبالنسبة للأيام المذكورة في الآية مختلف فيها بين العلماء، هل هي مساوية لهذه الأيام التي نعيشها؟ أَتختلف؟! والصحيح من رأي أهل العلم أنها تختلف.. والمقصود بالسموات في هذه الآية من كلام المفسرين كالرازي: أنها أفلاك السيارات السبعة وهي الشمس، والقمر، وعطارد، والزهرة، والمريخ، والمشتري، وزحل.
والإنسان كذلك مساوٍ لخلق الكون من هذه الناحية السابقة، وهي إيجاده من العدم، قال تعالى (هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا) [سورة الإنسان:1]. وهو في الحقيقة من الطين وروح الله (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ، فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ) [الحجر:28- 29].
والإنسان دوره في الأرض عمارتها بالعدل وكل ما فيه رقي يعود له وللطبيعة. وحياته محدودة في الأرض التي هي جزء من الكون: (وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ) [سورة البقرة:36]. والإنسان أكثر الكائنات تكريماً من الرب (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ) [سورة الإسراء:70].
وكان اتصال الإنسان بالكون حسب أدوات بسيطة، كانت العين المجردة هي الأداة الرئيسة التي يتعامل بها مع علامات الكون في تنقّله وترحاله، ومعرفة ظروف تغير المناخ، مع الفارق أساساً في أداة الإنسان (العين) ورموز الكون. مع تقدم الزمن يتطور تفكير الإنسان وتواصل الحضارات اكتشافاتها العلمية التي تكمل بعضها بعضاً، والحضارة الإسلامية استفادت كثيراً من الحضارات الأخرى في دراسة الكون، حتى طُوّرت آلة (الإسطرلاب) وغيرها من الإنجازات التي كانت في ظل الحضارة الإسلامية، والعقلية الغربية اهتمت أكثر من غيرها في اكتشاف وتطوير هذه الآلات المساعدة للإنسان في فهم نظام هذا الكون، لقد اكتشف العالم الفيزيائي الرياضي نيوتن (ت 1727م) التلسكوب العاكس. والفلكي وليم هرشل (ت 1822م) ساهم في تطوير جهاز التلسكوب، والاكتشافات متوالية لكنها تبقى مجهولة، ولم تُعطَ حقها في التعريف، ولو بشكل قريب للأذهان.
إن الإنسان مطالب شرعاً وكوناً بالبحث عن المعرفة التي تجعله يدرك ويفهم نظام الكون: (وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا) [سورة طه:114].
كان الاعتقاد السائد أن الكرة الأرضية هي مركز الكون، والشمس كالكواكب الأخرى تدور حول الأرض، وبعد اكتشاف العالم الفلكي البولندي نيكولاي كوبر نيكوس (1473-1543م) الذي عكس النظرية، وأصبحت الشمس مركز الكون، والأرض كالكواكب الأخرى في الكون، التي تدور حول الشمس؛ هذا الانفجار العلمي غيّر الكثير من المفاهيم في عالم الفلك.
إن النظام الكوني في حالة توسّع وتغيّر مستمرين، وأول من اكتشف هذا القانون هو الفلكي الأمريكي (أدوين هابل)، والعالم الفيزيائي الرياضي (ألبرت اينشتاين) (1879-1954). أخذ بقانون (هابل).
ومن ضمن الأسئلة التي تواجه العقل البشري كذلك: أيهما أعظم الإنسان أم الكون؟
فعملية الكون أقدم من عملية الإنسان: (لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) [سورة غافر:57].
التعمق في المسائل العلمية الكونية، واكتشاف أسرار الكون وفق القوانين الطبيعية من قبل العلماء في مختلف التخصصات مطلب ديني وحضاري وعلمي، لكن البعض يرفض ذلك بحجج واهية، كدخول الإنسان في عالم الشك والحيرة والتناقض، والحقيقة أن عمليتي البحث والتأمل تغذيان الإيمان والطمأنينة لدى الإنسان:
(سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [فصلت:53].
إن المتابع للحركة العلمية المهتمة بعلم الكون يجد أن الفيلسوف أكثر من غيره من المتخصصين في ميادين المعرفة غوصاً واشتغالاً في الأبحاث المرتبطة بالكون والإنسان والحياة والغيبي وغير الغيبي، أمثال فلاسفة اليونان أفلاطون وأرسطو وبطليموس وغيرهم من الفلاسفة، وأما الآن فأصحاب التخصصات الأخرى من الفيزيائيين والفلكيين، هم الأكثر بحثاً من غيرهم.
هذا الكون المتكامل والمتناسق في تراكيبه وصوره الرائعة وضوئه الساحر، ينتظر من العلماء والباحثين تقريب جماله وتناسقه وتراكيبه وصوره وسحره إلى العقل البشري أكثر، في الاجتماعات، والقاعات الدراسية، ووسائل الإعلام
=============
# محاور الإلحاد العلمي في الحضارة الغربية
العلم هو وسيلة للمعرفة بهدف الوصول إلى الحقيقة؛ لاستخدامها في مصلحة الإنسان في ظل احترام القيم والكرامة الإنسانية، وفي الحضارة الغربية نجد أن العلم يُعرِض عن الحقيقة الوحيدة التي يدل عليها وجود هذا الكون؛ وهي خالق هذا الكون وفاطره ومبدعه - سبحانه وتعالى، ويعتبر العلماء الغربيون أن الحياة في الأرض إنما نشأت بمحض الصدفة، وتبعاً لذلك فلا يوجد أي هدف محدد للوجود الإنساني في نظر هؤلاء العلماء، والأخلاق الإنسانية ليست مطلقة؛ بل هي خاضعة للمعرفة العلمية، ويعني ذلك إقصاء الدين عن الحياة وعدم الخضوع للأخلاق الإنسانية المبنية على الدين.
والعلماء الغربيون وغيرهم يعتمدون على العقل المجرد والتكنولوجيا التي توصلوا إليها وسيلةً وحيدة للبحث عن أسرار ونشوء هذا الكون وتفسير الوجود الإنساني، ونتج عن ذلك ظهور العديد من النظريات التي تتحدث عن نشوء هذا الكون، مثل نظرية «الانفجار الكبير» (Big Bang Theory)؛ ونظرية «كل شيء» (Everything Theory)؛ وأحدث نظرية كونية وهي نظرية «الأوتار الفائقة» (Superstring Theory)، وكل هذه النظريات تحيد عن حقيقة أن هناك خالق عظيم لهذا الكون، وأنه سبحانه وتعالى واحد لا شريك له وقادر على كل شيء، وأنه لم يَخلق هذا الكون عبثا ولعباً، وإنما خلقه لحكمة يعلمها هو سبحانه وتعالى.
ولقد احتارت عقول العلماء الغربيين في تفسير كثير من الأشياء، فالعقل البشري عاجز عن إدراك حقائق الكون، والعلماء – برغم هذا التطور الهائل في التكنولوجيا التي أوصلتهم إلى تحديد الخارطة الجينية للإنسان– يعجزون عن إدراك حقائق جسم الإنسان ونفسه، ويعجزون عن تفسير العديد من الظواهر البسيطة التي يدور رحاها في جسم الإنسان في كل لحظة. والعقل البشري - المحدود - إنما يتحرك ضمن نطاق القوانين الفيزيائية للعالم الذي نعيش فيه والذي استطاع الإنسان أن يتوصل إلى قوانينه بحواسه وبمساعدة التكنولوجيا التي صنعها، وكلما توفرت لدى العلماء أدوات تكنولوجية ومعرفية جديدة تعَّرف هؤلاء العلماء على المزيد من الحقائق المذهلة عن هذا الكون، وكلما أدى ذلك إلى زيادة علامات الاستفهام حول الكثير من الظواهر الكونية، مما يجعل العلماء في تعطش إلى المزيد من المعرفة والدراسة والبحث، وإعادة النظر فيما توصلوا إليه من نظريات علمية.
ولقد توصل العلماء إلى نظرية الانفجار الكبير بعد تحقق قدرتهم على تحليل ألوان الطيف وأشعة جاما، حيث اتضح للعلماء أن كل شيء في هذا الكون يبتعد عن كل شيء، فالكون يتسع باستمرار، وقد يكون هذا مطابقا لما جاء في لقرآن الكريم؛ حيث يقول الله تعالى: {وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} (سورة الذاريات: 47)، ولكن لا بد من ملاحظة أن الاسم: «الانفجار الكبير»، الذي اختاره العلماء لهذه النظرية هو اسم مُضلل، وفيه إلحاد بعلم الله وقدرته ودقة صنعه، فالانفجار يكون عشوائيا - هكذا يعتقد العلماء الغربيون - وبذلك فإن وجود ظروف مناسبة للحياة بشكل دقيق جداً جاء من قبيل الصدفة، والأمر الآخر في التضليل هو أن الانفجار لا بد له من زمان ومكان، وحسب ما يقول العلماء فإن المكان والزمان وكل القوانين الفيزيائية هم جميعاً من آثار هذا الانفجار ومقتضياته، لذلك فإن القوانين الفيزيائية تتبدل وتتغير، كما يرى هؤلاء العلماء.
والعجيب أن العلماء المسلمين يستشهدون بنظرية الانفجار الكبير للتدليل على الإعجاز العلمي المتمثل في قوله تعالى: {أَولَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ} (الأنبياء:30)، دون مراعاة لما تقتضيه هذه النظرية من إنكار لوجود الله تعالى، فلماذا لا يضع العلماء المسلمون التصور الإسلامي لنشأة الكون في ضوء ما توصل إليه العلم من حقائق ونظريات؟ وأقل ما يمكن أن يقوم به العلماء المسلمون هو تقييم هذه النظرية وأمثالها تبعاَ للتصور الإسلامي، ويمكن للعلماء المسلمين أن يقوموا بأكثر من هذا بكثير، فمثلا لو كانت الآية الكريمة المذكورة تتوافق مع نظرية الانفجار الكبير، فالأولى أن يسميها المسلمون «نظرية الرتق» بدلا من نظرية الانفجار الكبير المضللة.
والقوانين الفيزيائية التي عرفها الإنسان لا تستطيع تفسير العالم الذي نعيش فيه، ولكنها تعمل على وصفه، فهناك أسئلة عادية في مظهرها وليس لها معنى فيزيائياً مثل: «ماذا كان يوجد قبل بداية الكون؟» أو «ما هو الحيز الذي ولد فيه الكون؟»، وهذا ما تحاول أن تجيب عليه نظرية «كل شيء» التي تنص على أن كل شيء في هذا الوجود يمكن تفسيره بنظام (أو مجموعة مترابطة) من المعادلات الرياضية التي توحد بين الأشكال المتعددة للطاقة، وهذه النظرية تبحث عن الشرارة الأولى التي أحدثت الانفجار الكبير - على حد زعم العلماء، علما بأن المكان والزمان لم يوجدا قبل المادة، وإنما وجدا بعد خلق هذا الكون.
أما نظرية الأوتار الفائقة فقد نجحت في التوحيد بين صور القوى (الطاقات) الأربعة في عالمنا: الجاذبية؛ الكهرومغناطيسية؛ النووية؛ والنووية الضعيفة المتمثلة في الاضمحلال الإشعاعي، ونجحت هذه النظرية في التوفيق بين «نظرية الكم» و «نظرية النسبية العامة» في انسجام عجيب، وبحسب هذه النظرية فإن الكون ما هو إلا سيمفونية أوتار فائقة متذبذبة، والوتر المتذبذب يجعل الفضاء المكاني الزماني المحيط به يلتوي حوله، وبحسب هذه النظرية فإن الكون له عشرة أبعاد بالإضافة إلى البعد الحادي عشر وهو بعد صغير جدا.
وبحسب نظرية الأوتار الفائقة فإن الكون الذي نعيش فيه ليس وحيدا، وإنما هناك أكوان عديدة متصلة ببعضها البعض كالعنقود، ويرى العلماء أن هذه الأكوان متداخلة ولكل كون قوانينه الخاصة به، بمعنى أن الحيز الواحد في عالمنا قد يكون مشغولاً بأكثر من جسم ولكن من عوالم مختلفة، وقد يكون هذا صحيحا في التصور الإسلامي حيث نؤمن نحن المسلمون بالجن والملائكة الذين لهم طبيعة خاصة بهم تختلف عن طبيعة ما نعرفه في عالمنا المحسوس، ومشكلة هذه النظرية من المنظور الإسلامي أنها تقتضي ضمنياً شركاً وكفراً بوحدانية الله تعالى، على كل حال على العلماء المسلمين والعلماء الشرعيين أن يبينوا للناس وجهة النظر في كل هذه النظريات ذات الطابع الإلحادي المتمثل في الفوضى الكونية، والعشوائية للوجود الإنسانية، وأن الإنسان وباقي الأشياء ما هي إلا أوتار متذبذبة بترددات مختلفة ... الخ.
لذلك فإن الإلحاد المتمثل في الإعراض عن حقيقة الخالق العظيم لهذا الكون؛ والذي هو نتاج التفكير الضيق الذي يعتمد على الإدراك البشري المحدود بما توصل إليه العلم من اكتشافات؛ والذي هو نتاج التفكير العقلي المحدود بقدرة الإنسان على الإدراك، هو سبب التيه والضلال الذي يعاني منه البشر، ولقد ضل العلماء الغربيون وتاهوا بحثاً عن الوهم الإنساني القديم عن الخلود في هذه الأرض بدلاً عن الإيمان بخالق هذا الكون؛ لأن هذه الأرض ليست مكاناً لهذا الخلود ولا محلاً له، ولن تجدي الإنسان محاولة البحث عن حياة أخرى في هذا الكون؛ بسبب حاجزي الزمان والمكان، ولن يصل إلى أي شيء طالما تجاهل حقيقة أن الله وحده هو خالق هذا الكون، يقول تعالى: {وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} (يوسف: 105)، {وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ}، ومن يعرض عن آيات الله فمصيره التيه والضلال.
المحور الأول للإلحاد (نشوء الحياة صدفةً):
اعتقد العلماء طويلا أن الحياة نشأت على الأرض في ظروف خاصة جدا وغير متوقعة، ثم اكتشف العلماء بعد ذلك أن الحمض النووي DNA - الذي لا تنشأ الحياة بدونه – لم يتكون في الأرض وإنما جاء من السماء، وأثبت العلماء وجود هذا الحمض النووي فعلا في السماء، ثم بدأ العلماء البحث عن كيفية وصول هذا الحمض النووي إلى الأرض، وفي العصر الحالي يعتقد العلماء الغربيون أن الشهب التي تأتي من السماء لتسقط على الأرض، هي التي أتت بالكربون والأكسجين والهيدروجين إلى الأرض، ثم كونت هذه المواد فيما بعد البروتين والماء، ثم تحول البروتين إلى الحمض النووي من نوع RNA ثم تحول هذا إلى حمض نووي من نوع آخر وهو DNA، وبحسب ما يقول العلماء الغربيون بدأت الحياة صدفة في لحظة غير متوقعة، حيث ظهرت أول خلية حية، ثم يمضي السيناريو قدما حسب نظرية داروين التي تدعي أن الإنسان إنما هو نتاج تطور الخلايا الأولى التي نشأت بالصدفة.
وهذا هو أسوأ محور للإلحاد في الحضارة الغربية، والله سبحانه وتعالى لا يخفى عليه هؤلاء العلماء، ولا يخفى عليه ما يضعون من نظريات لهذا الكون، إذ يقول سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (فصلت: 40)، وأيضا {مَا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا} (الكهف: 51)، والغريب أن المحطات الفضائية العربية لا تكف عن الحديث عن كل هذه النظريات وعن تطور الإنسان، بل وتعتبرها من المسلمات التي يجب أن نؤمن بها، وهنا يكمن الخطر على المثقفين وعلى الأجيال الناشئة الذين لا يعرفون - أو لا يلتزمون - التصور الإسلامي في هذه الأمور، مما يؤدي إلى تشكيكهم في دينهم وعقيدتهم الإسلامية، علماً بأن نظرية التطور غير مسًّلم بها في الأوساط العلمية في العالم.
المحور الثاني للإلحاد (الثورة على السنن الكونية):
تنظر الحضارة الغربية إلى الإنسان على أنه مجرد جسد تدب فيه الحياة، وأن هذه الحياة هي مجرد تفاعلات كيماوية تجري في خلايا الجسم، ويؤمن العلماء الغربيون بأن طريقة تطور الإنسان يمكن أن تأخذ أي شكل آخر غير الشكل الحالي، ولهذا فهم يعتقدون بأن تبادل الأدوار بين المرأة والرجل، أو توزيع هذه الأدوار بطريقة مختلفة هو شيء طبيعي، ومعنى هذا التمرد على الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وعلى السنن الكونية التي وضعها الله تعالى في هذا الكون، فالغربيون ينظرون إلى السنن الكونية على أساس أنها قوانين الطبيعة التي يمكن أن يفسروها بالقوانين والنظريات الفيزيائية، وبالتالي يمكن أن يثوروا عليها ويغيروها، ولذلك فهم يحاولون التخلص من مقتضيات الفروق البيولوجية بين المرأة والرجل، ليعيدوا توزيع الأدوار بينهما فيما يتعلق بالحمل والولادة والأمومة عند المرأة، وهم - بالفعل - يحاولون الحصول على طرق أخرى للتكاثر مثل أطفال الأنابيب، والاستنساخ، وغير ذلك.
وأخطر توابع هذا الإلحاد هو قيام العلماء الغربيين بإجراء التجارب على البشر بدون أي ضوابط أخلاقية أو إنسانية، فهم يحاولون - من خلال تعديل الجينات الوراثية - الحصول على كائن بشري ذي خصائص يطمحون في تحققها، ليستخدموا هذا الكائن البشري في الحروب وفي الاقتصاد، وغير ذلك من الأفكار الشيطانية، التي تهدف إلى الهيمنة على العالم، ويحاول العلماء الغربيون في هذا الوقت تخليق الأعضاء البشرية في مختبراتهم ليبيعوها إلى الشركات، ولا ندري كيف سيتم استخدام هذه الأعضاء! أضف إلى ذلك الآثار التخريبية التي تصاحب التجارب التي يقومون بها على البشر، وعلى سبيل المثال هناك من يعزو انتقال مرض نقص المناعة المكتسبة «الإيدز» من القرود إلى البشر نتيجة عن محاولة تلقيح بويضة امرأة أمريكية بنطفة قرد أفريقي مصاب بالإيدز، وفي كل هذا يقول الله تعالى عن اتخاذ الغرب الشيطان ولياً لهم من دون الله تعالى: {وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا} (النساء: 119).
المحور الثالث للإلحاد (الفوضى الكونية):
وهو الزعم بأن الحياة على هذه الأرض مهددة بسبب فوضى في الكون، مثل الاقتراب من ثقب أسود، أو ارتطام كواكب أخرى بالأرض، أو سقوط شهب محملة بالماء في المحيطات، ... الخ. ويصور العلماء الأمريكيون أنهم قادرون على حماية هذه الأرض من كل ما يحيط بها من تلك المخاطر، ولكن الله سبحانه وتعالى يقول في ذلك: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} (فاطر: 41)، إن ادعاء العلماء الغربيون أن الحياة على الأرض دمرت قبل ملايين السنين، حيث انتهت حقبة الديناصورات على الأرض، هو مجرد ظن لا دليل عليه، وحتى لو حدث هذا، فإنه ما كان قد حدث إلا بأمر الله تعالى وإرادته، ومحاولة العلماء الأمريكيين حفظ الحياة في الأرض هو من قبيل الغرور والكفر بقدرة الله تعالى على حماية الأرض، وعلى إنفاذ أمره إن شاء بتدمير البلاد التي تحتضن محاور الإلحاد، إذاً فالعملية هي تحدٍ لله عز وجل.
المحور الرابع (الكفر بقدرة الله على الرزق):
يدعي الغرب وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية أن الغذاء غير كافٍ لمليارات البشر الذين يعيشون في الأرض، وهم يطلقون التحذيرات تلو التحذيرات لإجبار الناس على الخوف على مستقبلهم، ولإجبارهم على التسليم بما تمليه عليهم الولايات المتحدة من قوانين للحفاظ على الحياة، والله تعلى يقول {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} (هود: 6)، ويقول تعالى: {وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} (الذاريات: 22)، وفي هذه الآية الكريمة إشارة إلى دور الشمس في إمداد الأرض بالماء والطاقة اللازمة لنمو النبات وتكوين المواد التي يتغذى عليها الإنسان والحيوان، وقد يستطيع الإنسان في المستقبل استغلال الطاقة الشمسية في الحصول على كميات هائلة من الغذاء تكفي للتخلص من الجشع الذي يعاني منه الأمريكيون والأوروبيون الغربيون.
والولايات المتحدة تنظر إلى أن الإنسان - حتى يكون كريما منعما - لا بد له من أن يكون مستهلكا بنفس درجة استهلاك الغربيين والأمريكيين، حيث لا يشعر هذا الإنسان بالشبع إلا بتوفر الفواكه واللحوم وجميع ما يعرفه الإنسان من أغذية بحرية ونباتية وحيوانية على مدار السنة، ولا بد أن يأكل اللحوم ثلاث مرات يوميا على الأقل، بالإضافة إلى الخمور والمخدرات وكل أدوات التلذذ والتمتع، وبالإضافة إلى امتلاك كل شيء من السيارات وأدوات الترفيه والأدوات التكنولوجية التي توفر الراحة لهم وتجعلهم متفرغين لطلب المتع والملذات، بدون أي أخلاق أو هدف.
الخلاصة:
ينظر كثير من مثقفي هذه الأمة إلى الولايات المتحدة على أنها قدوة في مجال التقدم العلمي والتكنولوجي، ويستشهد هؤلاء بإحصائيات تنشرها الولايات المتحدة عن النسب العالية للإنفاق على البحث العلمي، وفي ذلك تضليل للأجيال الناشئة لهذه الأمة، إذ أن معظم الأبحاث العلمية التي تجريها الولايات المتحدة هي لخدمة الأغراض العسكرية التي تهدف إلى الهيمنة، وهي غير مقيدة بأي ضوابط أخلاقية ولا شرعية، وأغلب هذه النفقات تذهب إلى ما يضر الحياة البشرية مثل الأبحاث على الطاقة الهيدروجينية والنووية (التي أدت إلى تلوث البيئة وإحالتها إلى مكان غير مناسب للحياة في البحر وعلى الأرض وفي الجو)، ويجدر النظر إلى كيف أن هذه الدول تقوم بدفن النفايات النووية في مناطق دول العالم الثالث؛ للتدليل على انحطاط الحضارة الغربية، ولا بد من معرفة كيف أن الأغذية المعدلة وراثيا واستخدام المبيدات الحشرية أدى إلى انتشار أمراض السرطان وغيرها من الأمراض التي تفتك بعشرات بل بمئات الألوف من البشر سنويا، وكذلك الإنفاق على حرب النجوم، وعلى أشعة الليزر والبلازما لاستغلالها في الهيمنة على الآخرين، واستغلال ثرواتهم وخيرات بلادهم.
إن هذا الإنفاق الهائل على البحث العلمي يأتي في إطار ضمان امتلاك أسباب القوة والتفوق على الآخرين بعيداً عن أي قيم وأخلاق إنسانية، بل على العكس تماماً؛ يأتي كل ذلك في إطار النظرة المادية إلى الحياة والإنسان الذي تعتبره الحضارة الغربية على أنه آلة، وفي إطار اقتصادي استغلالي لا يرحم الشعوب المظلومة المغلوبة على أمرها.
إن على المثقفين من الأمة العربية والإسلامية أن يوجهوا الأجيال الناشئة - التي هي مستقبل هذه الأمة - لإتباع المنهج الإسلامي في البحث والعلم والتعلم، ويجب أن يصبغ العلماء المسلمون أبحاثهم بالصبغة الإسلامية وأن لا يكونوا مجرد متبعين للعلماء الغربيين؛ ينصهرون في بوتقة الحضارة الغربية الظالمة، ويجب أن يقوموا بنشر التصور الإسلامي عن الكون والإنسان والحياة في الأرض، بهذا يصبح هؤلاء الباحثون والعلماء منتمين إلى الإسلام العظيم.
د. محمد الغزي
كاتب واستاذ جامعي فلسطيني
=============
#فاعلية المسلم المعاصر
رؤية فى الواقع والطموح
إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور انفسنا ومن سيئات اعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادى له .
وأشهد ان لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، وأشهد ان محمداً عبده ورسوله.
( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون) آل عمران :102]
( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذى خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءاً واتقوا الله الذى تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا) [ النساء : 1]
( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً) [الأحزاب :71]
أما بعد :
فإن أصدق الحديث كلام الله ، وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم ، وشرّ الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة.
تقديم
فهذا الكتاب الاول من سلسلة كتاب الإعتصام التى تنهض بإصدارها جمعية الكتاب والسنة يحمل القائمين عليها توجه صادق ، وأمل واثق فى تقديم ما يمكن ان تكون مضامينه محملة بإضافات حقيقة فى عالم الفكر والمعرفة ، وميادين الدعوة والحركة ، إذ أن كثيراً من الإنتاج التأليفى الإسلامى المعاصر ، يغلب عليه التكرار والاجترار ، فهو فى غالبه لحم جمل غث على رأس جبل وعر ، لا سهل فيرتقى ، ولا سمين فينتقى .
يفترض فيمن يتصدى للكتابة والتأليف ان يتحسس إشكاليات معرفية قائمة ، واضطرابات فكرية سائدة ، ومشاكل عملية مائلة ، فيعالجها معالجة علمية هادئة ، تجيد توظيف آليات البحث العلمى الشرعى مع معرفة مناهج البحث الععلمى المعاصرة ، أما ذاك النمط من الكتابات ( التجارية ) التى يهجم فيها على التأليف ، ويتجرأ على الكتابة من لم يمتلك أدوات البحث ، ولم يتسوعب مادة العلوم ، وما غاب عنه يفوق ما اطلع عليه بأضعاف مضاعفة ، فهو تكريس لجمود العقل المسلم ، وتمكين لواقع الركود الفكرى ، وتثبيت لأركان التخلف فى مجتمعاتنا.
إن الكتابة والأعمال التأليفية إن لم تسهما فى توثيق عرى مشاريع النهضة والتغيير فما ثمرتها إذا ؟ هل ثمة حاجة حقيقة لكثير من الرسائل ، والكتب التى تخرج من رحم المطابع تباعاً ؟ إن ساحة العمل الإسلامى تفتقر الى دراسات نوعية ومؤلفات إبداعية ، وهى التى تتطلب طول نفس فى البحث والدرس واطلاعاً واسعاً على المعلومات فى مظانها ، يعجب المرء كثيراً حينما يقرأ أو يسمع ان أحدهم كتب رسالة او كتابا فى ظرف أيام لا تبلغ أيام الأسبوع !
كم هى القضايا والمسائل والإشكالات ، سواء منها القديم ( التراثى ) ، أو الحديث ( المعاصر) التى يقف امامها المسلم المعاصر حائراً ، فما منهجية المعرفة ، أو ما هى ضوابطها ؟ وهل ثمة تعارض بين العقل والنقل ؟ وما هى الحدود التى يسمح للعقل التحرك فيها لدراسة النصوص ؟ لماذا لا نجد عقائد اهل السنة محررة بوضوح وتكامل ، حتى يتسنى للمنتسب لهم ان يتبنى عقائدهم دون كبير عناء وطول بحث وتنقيب ؟ وهل تغنى محاولات بعضهم – فى هذا الصدد – التى تتخذ من تراث شيخ الإسلام ابن تيمية مرجعية تجيد العزو إليه ، وتحسن النقل منه ، بيد انها تقصر عن استيعابه ، وتمثله ، لافتقارها الى الآليات التى امتكلها ابن تيمية رحمه الله ، لأنه – على سبيل المثال – حينما تصدى للرد عل المنطقين ، واتجه لنقض المنطق ، كان عالماً بالمنطق ، وبمبباحثه وموضوعاته ، ومتمكناً من موضوعات الفلسفة ، ومذاهب الفلاسفة ، فكيف يتسنى لمن يروم والمعرفة ، ومن ثم إبطال عقائد المخالفين المبنية فى كثير من اصولها ، وطرق الاستدلال عليها ، على المنطق اليونانى ، والفلسفة الإغريقية ، وليس له من المعرفة بالمنطق والفلسفة إلا السماع باسميهما ؟ . . . الخ
أين هى الدراسات التاريخية التحليلة والتفسيرية ، التى تقدم احداث التاريخ الإسلامى وفق رؤية منضبطة بأصول اهل السنة ؟ كيف يفهم المسلم المعاصر احداث الفتنة بين الصحابة رضى الله عنهم ؟ وكيف يسلم من مسالك الاتجاهات التى تجنح بعضها الى عصمة علىّ رضى الله عنه ! ويتجه الآخر منها الى تفسيق معاوية رضى الله عنه ! وكيف يقرأ الحركات المعارضة والخارجة على حكم الأمويين والعباسيين ؟ فما هى اسباب المعارضة ؟ وما هى عوامل الخروج ؟ . . .. الخ
أين يقف المسلم المعاصر من إشكالية الأصالة والمعاصرة ؟ فهل تستغرق دراسة ( التراث) ، والعناية به كل اوقاته ، وتستنفد جميع طاقاته ؟ فيعيش واقعه وهو غارق فى الماضى ، فيصدق فيه حينذاك قول الشانئنين من العلمانيين بأنه ينتسب الى فكر( ماضوى) منطقع الصلة بالواقع ، غائب عن همومه المعاصرة ، غير مكثرت بقضاياه الراهنة ، أم يتحرر من تلك الوشائج ، التى تربطه بالماضى ، وتصله بالجذور ، وينعتق من اصوله ، ويتنكر لتراث اجداده وأسلافه ، وتصله بالجذور ، بحق يعيش العصر بروحه ، ويتقن لغته ، ويجيد اساليبه ! !.
إن الأنموذجين السابقين جانحان عن جادة الصواب ، فالذين انغلقوا على الدراسات التراثية ، وتقوقعوا فيها ، وغابوا عن العصر وهمومه ، وانخلعوا من مشاكله وقضاياه ، ليسوا بمنأى عن القصور والتقصير ، كما إن الذى تضيق صدورهم بمطالعة ( الكتب الصفراء) ويعرضوا عن قراءة مؤلفات السلف الاقدمين ، ويحسبون انهم قادرون على مقاطعة التراث ، غارقون فى الخيالات والأوهام ، ذلك أنه ( لا سبيل الى الانفكاك عن حقيقة التراث التاريخية ، ولو سعى المرء الى ذلك ما سعى ، لأنها ، وإن بدت فى الظاهر حقيقة بائنة ومنفصلة بحكم ارتباطها بالزمان الماضى ، فهى فى جوهرها حقيقة كائنة ومتصلة ، تحيط بنا من كل جانب وتنفذ فينا من كل جهة ، كما أنه لا سبيل الى الإنقطاع عن العمل بالتراث فى واقعنا ، لأن اسبابه مشتغلة على الدوام فينا ، آخذة بأفكارنا وموجهة لأعمالنا ، ومتحكمة فى حاضرنا ومستشرفة لمستقبلنا ، سواء أأقبلنا على التراث إقبال الواعى بآثاره التى تنمحى أم تظاهرنا بالإدبار عنه ، غافيلن عن واقع استيلائه على وجودنا ومداركنا(1)
لقد كتب فى فقه الإختلاف وآدابه كتابات عديدة ، غير ان الرسالة لم تبلغ المعنيين ، فما زالت الحركية الاستعلائية عالية ، كما ان المنطق الدعوى الاحتكارى سائد قائم ، ودعاة الوعى السياسى يشمخون بوعيهم على غيرهم ، أولئك يرون أنهم الجماعة (الأم) ، والآخرون يعتقدون انهم ( الفرقة الناجية والطائفة المنصورة) وثالثتهم يشتط منهم من يرمى الأمة بالضلال المنهجى ، ذلك أنه لم يفهم الإسلام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة الكرام ، فهماً عميقاً صحيحاً ، حتى نهض مؤسس حزبهم فأفقام الأمة على فهم سوى مستقيم !! الكل منهم يدعى انه يمتلك النهج الأصوب ، والطريقة الأكمل ، والعمل الأشمل ، ولو انصفوا وأقاموا موازين القسط والعدال فى الحكم والتقييم والمراجعة ، لأدركوا بلا تردد ، وقرروا من غير تهيب ، أن ما ينقص كل طائفة منهم لا يقل عما حسبوه الأكمل والأصوب والأشمل.
تلك الاختلالات فى التصورات ، والسلبيات فى الممارسات ، ينبغى لكتابات ( النقد الذاتى) أن تتكفل بتصويبها ، مع تعميق المفهومات التى تسعى لتقرير (بشرية) مناهج العمل الإسلامى المعاصر ( وإنسانية ) اجتهادات الإسلاميين ، إذ أنها خاضعة للنقد ، لا تستعلى على الأخذ والرد ، وتكتسب الصواب والحق بموافقتها الأصول المعصومة من الكتاب والسنة ، وإجماع سلف الأمة.
تلك موضوعات ورد ذكرها للتقريب والتمثيل ، وثمة قضايا ومسائل أخرى توقع العقل المسلم فى حيرة واضطراب ، ذلك ان مادتها متناثرة هنا وهناك ، كما ان الأقوال فيها متضاربة ، والإجتهادات بشأنها متباينة ، وهذا هو الحقل والميدان الذى يتوجب على حملة الأقلام من المفكرين والعلماء ان يلجوه ، ويقتحموا ساحاتة.
تسعى جمعية الكتاب والسنة من خلال سلسلة كتاب الإعتصام الى تبنى وانتقاء الدراسات والكتابات التى تصب بهذا الاتجاه ، وهى تهيب بالفقهاء والعلماء وطلبة العلم ان يمدوا لها يد العون العلمى ، بتقديم دراساتهم وأبحاثهم الجاهزة او التى يتفق على إعدادها وإنجازها ، لتقوم لجنة البحوث والدراسات الإسلامية فى الجمعية بدراستها ، ومن ثم نشر ما يستوفى شروط ( السلسلة) منها ويحقق مقاصدها.
يتصدى الكتاب الأول من هذه السلسلة ، فاعلية المسلم المعاصر رؤية فى الواقع والطموح للدكتور ابن عيسى باطاهر ، لمعالجة قضية لها ارتباط وثيق بمشاريع النهضة ، وتعلق مباشرة بمناهج التغيير ، ولا أحسب أننا نجانب الحقيقة ، أو نغرب فى القول إذا ما قررنا أن محدودية إنتاجية تلك المشاريع ، وعجز المناهج إياها عن إحداث التغيير المنشود ، يعود الى جملة اسباب وعوامل ، يأتى فى مقدمتها انطفاء فاعلية العاملين فى ساحة العمل الإسلامى ، إذ ثمة ظاهرة بارزة تتمثل فى تراجع الهم الدعوى ، وغلبة الهموم الذاتية والحياتية فى اوساط آلئك العاملين ، كما أن الدوافع الإيمانية الرافعة للهمم ، والحاملة على العمل قد غشاها الضعف واعتراها الوهن.
إن الروح السلبية المستشرية فى أواسط المسلمين ، والتى أنتجت حالة مزرية يتحلل فيها المسلم من أية التزامات تخدم عملية التغيير ، وتسهم فى مشاريع إنهاض الأمة ، جاء بفعل شيوع وتحكم أنماط من التدين طغت فى بلاد المسلمين ، كالفكر الإرجائى ، ومقولات الجبرية ، والتدين الصوفى.
يقوم الفكر الإرجائى فى قاعدته الأساسية على الاعتقاد بانه لا يضر مع الإيمان شئ ، وأن الإيمان إقرار باللسان ، وتصديق بالجان ، مع إخراج العمل مع مسمى الإيمان وقد ساهم هذا الفكر بشكل سئ فى توسيع دائرة التفلت مع الإلتزام الشرعى ، والتحلل من تكاليف الإيمان ، والتغافل عن مقتضيات التوحيد ، وقديما أنكر أئمة السلف على من أخرج العمل من الإيمان إنكاراً شديداً ، وجعلوه من الأقوال المحدثة المردودة على اصحابها ، يقول سفيان الثورى – رحمه الله : (هو رأى محدث أدركنا على غيره )(2) ، يقول الإمام الأوزاعى – رحمه الله : ( وكان من مضى من السلف لا يفرقون بين العمل والإيمان(3) ، وقيل لسفيان بن عينية – رحمه الله -: ( إن قوماً يقولون : الإيمان كلام ، فقال : كان هذا قبل ان تنزل الأحكام ، فأمر الناس ان يقولوا لا إله إلا الله ، فإذا قالوها عصموا دمائهم وأموالهم ، فلما علم الله صدقهم امرهم بالصلاة ففعلوا ولو لم يفعلوا ما نفعهم الإقرار (4) . . فذكر الأركان الى ان قال : فلما علم الله ما تتابع عليهم من الفرائض وقبولهم قال : ( اليوم اكملت لكم دينكم . . . )(الآية) ، فمن ترك شيئاً من ذلك كسلاً او مجوناً أدبناه عليه وكان ناقص الإيمان ، ومن تركها جحوداً كان كافراً(5) ، وكتب عمر بن عبد العزيز الى عدى بن عدى ( عامله على الجزيرة) : ( إن للإيمان فرائض وشرائع وحدوداً وسنناً ، فمن استكملها استكمل الإيمان ، ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان . . . (6) ، ويقول ابن تيمية : ( والسلف اشتد نكيرهم على المرجئة لما أخرجوا العمل من الإيمان ، وقالوا إن الإيمان يتماثل الناس فيه ، ولا ريب ان قولهم بتساوى إيمان الناس من أفحش الخطأ ، بل لا يتساوى الناس فى التصديق ، ولا فى الحب ، ولا فى الخشية ، ولا فى العلم ، بل يتفاضلون من وجوه كثرة(7)
حقاً إن دراسة حياة الصحابة رضى الله عنهم ، والتابعين ؛ توصل الى نتيجة يقينة بأنهم لم يكونوا يفرقون بين الإيمان والعمل ، بل أن صدق الإيمان وعمق اليقين ، الذين استقرا فى قلوبهم ، اطلقا جوارحهم بالعمل البناء المثمر ، وجعلهم يسطرون بفاعليتهم وحركيتهم صفحات فى ميادين الفضيلة ، ودروب البر والخير.
فما الذى حمل حنظلة (غسيل الملائكة) – رضى الله عنه – على مفارقة فراش زوجه الوثير ، فى ليلة عرسه ؟ وهو القادر لو شاء أن يلتمس من الأعذار ما يعفيه من اللحاق بقافلة المجاهدين ؟ .
وما هى الدوافع التى حملت ألئك الكرام على التسابق فى الإنفاق ، والتنافس فى البذل والعطاء ؟ يقول عمر – رضى الله عنه -: ( أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدق ، فوافق ذلك مالاً عندى ، فقلت : اليوم اسبق ابا بكر إن سبقتة يوماً ، فجئت بنصف مالى ، وأتى ابو بكر بكل ما عنده ، فقال له النبى صلى الله عليه وسلم : يا أبا بكر ما أبقيت لأهلك ؟ قال : أبقيت لهم الله ورسوله(8) .
وما الذى حدا بأبى طلحة حينما وقف على قوله تعالى : ( انفرا خفاقاً وثقالاً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم فى سبيل الله . . . ) [التوبة : 41] ، أن يقول لأبنائه : أرى ربما استنفرنا شيوخاً وشباناً ، جهزونى يا بنى ، فقال بنوه : يرحمك الله ، قد غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مات ، ومع ابى بكر حتى مات ، ومع عمر حتى مات ، فنحن نغزو عنك ، فأبى ، فركب البحر فمات ، فلم يجدوا له جزيرة يدفنونه فيها إلا بعد تسعة ايام ، فلم يتغير ، فدفنوه بها(9) .
وهذا الصحابى عمرو بن الجموح – الأعرج شديد العرج – كان له أربعة بنين – شباب – يغزون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غزا ، فلما توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم الى أحد ، أراد ان يتوجه معه ، فقال له بنوه : إن الله قد جعل لك رخصة ، فلو قعدت ونحن نكفيك ، وقد وضع الله عنك الجهاد ، فأتى عمرو بن الجموح رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله ، إن بنى هؤلاء يمنعونى أن أخرج معك ، والله إنى لأرجوا ان استشهد ، فأطا بعرجتى هذه الجنة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما أنت فقد وضع عنك الجهاد ، وقال لبنيه : وما عليكم أن تدعوه ، لعل الله عز وجل أن يرزقه الشهادة ، فخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتل يوم أحد (10)
إن الإيمان قوة دافعة ومحركة ، وحينما يفهم على أنه مصدر إشعاع ، ومفجر للطاقات ، فإن رياحه حينما تهب تأتى بالأعاجيب ، وتغير مجرى التاريخ ، وتحدث انعطافاً حاداً فى مسيرة الزمن ، ( فإذا هبت ريح الإيمان جاءت بالأعاجيب فى العقيدة ، والأعمال ، والأخلاق ، ورأى الناس روائع من الشجاعة واليقين ، والعفة والأمانة ، والإيثار وهضم النفس ، وروح التطوع والإحتساب ، والتواضع فى المظاهر ، وكبر النفس ، وسمو النظر ، ورأوا آيات من العدل والرحمة ، والمحبة والوفاء ، كادوا ينسونها ، ويقطعون منها الرجاء(11) .
وماذا يبقى للإيمان من دور فاعل فى الحياة ، حينما يحصر فى التصديق والإقرار ؟ وهل ثمة إيمان قلبى تام لا يلازم عمل بدنى ظاهر ؟ ثم أليس الإيمان القلبى يستلزم الأعمال الظاهرة ؟ يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : ( فأصل الإيمان فى القلب وهو قول القلب وعمله ، وهو إقرار بالتصديق والحب والانقياد ، وما كان فى القلب فلابد ان يظهر موجبه ومقتضاه على الجوارح ، وإذا لم يعمل بموجبه ، ومقتضاه دل على عدمه أو ضعفه ، ولهذا كانت الأعمال الظاهرة من موجب إيمان القلب ومقتضاه ، وهى تصديق لما فى القلب ، ودليل عليه ، وشاهد له ، وهى شعبة من مجموع الإيمان المطلق ، وبعض له . . . )(12)
كيف يتحقق الإيمان ؟ وكيف يظهر صدق ذلك ؟ أيتحقق الإيمان بتصديق قلبى مع امتناع الجوارح عن العمل ؟ أم بإقرار لسانى مع مقارفة جميع المنكرات ، وموافقة كافة الموبقات والمهلكات ؟ يقول ابن تيمية : ( والله سبحانه فى غير موضع يبين ان تحقيق الإيمان تصديقه بما هو من الأعمال الظاهرة والباطنة ، كقوله : ( إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم ، وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون . والذين يقيمون الصلاة ووما رزقناهم ينفقون أولئك هم المؤمنون حقاً )، قال : ( إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم فى سبيل الله أولئك هم الصدقون) ، وقال تعالى : ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا فى انفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً)(13).
ويقول رحمه الله : ( فلا يجوز ان يدعى أنه يكون فى القلب إيمان ينافى الكفر بدون أمور ظاهرة ، ولا عمل وهو المطلوب – وذلك التصديق – وذلك لأن القلب إذا تحقق ما فيه أثر فى الظاهر ضرورة ، لا يمكن انفكاك أحدهما عن الآخر ، فالإدارة الجازمة للفعل مع القدرة التامة توجب وقوع المقدور ، فإذا كان فى القلب حب الله ورسوله ثابتاً استلزم موالاة أولياته ، ومعاداة أعدائه ، ( لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله . ولو كانوا آبائهم أو أبنائهم أو إخوانهم أو عشيرتهم ) ، ( ولو كانوا يؤمنون بالله والنبى وما أنزل إليه ما أتخذوهم أولياء ) فهذا اللازم أمر ضرورى (14)
وفى بيان التلازم بين الإيمان القلبى ، والعمل البدنى ، يقول ابن تيمية : ( وإذا قام بالقلب التصديق به والمحبة له ، لزم ضرورة أن يتحرك البدن بموجب ذلك من الأقوال الظاهرة ، والأعمال الظاهرة ، فما يظهر على البدن من الأقوال والأعمال هو موجب ما فى القلب ولازمه ، ودليله ومعلومه ، كما أن ما يقوم بالبدن من الأقوال والأعمال له ايضا تأثير فيما فى القلب ، فكل منهما يؤثر فى الآخر ، لكن القلب هو الأصل والبدن فرع له ، والفرع يستمد من أصله ، والأصل يثبت ويقوى بفرعه ، كما فى الشجرة التى يضرب بها المثل لكلمة الإيمان ، قال تعالى : ( وضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة اصلها ثابت وفرعها فى السماء تؤتى اكلها كل حين بإذن ربها ) وهى كلمة التوحيد ، والشجرة كلمة قوى أصلها ، وعرق وروى قويت فروعها ، وفروعها ايضا إذا اغتذت بالمطر والريح اثر ذلك فى اصلها(15)
لقد كان لاختلال مفهوم الإيمان وتسرب مقولات الإرجاء الى تصورات المسلمين ، ومن ثم انعكاسها على سلوكهم ، تأثير بالغ وكبير فى انطفاء فاعليتهم ، وجمود حركتهم ، ويقوى ذلك ويزيده استقراراً ورسوخاً ذلك النمط من المفكرين ذوى السوابق غير الإسلامية حينما يتحولون الى دائرة الفكر الإسلامى ، حيث انهم يسلمون فكرياً مع عدم التحرر الكامل من أصولهم الفكرية السابقة ، فيبقى إسلامهم مشوباً بكدورات الماركسية والعلمانية واليبرالية ، أما إسلام العمل والإلتزام فغالبهم فيه من غلاة المرجئة.
مقولات الجبرية : ما دمنا نتحدث عن الإصابات والعلل التى أدت بهذه الامة الى واقع (القصعة) فإن الحاجة تبدو ملحة لإظهار الصلة الوثيقة بين عقيدة الجبر وما ترتب على انتشارها ، وتمكنها من قلوب عامة المسلمين من آثار شنيعة ، دفعت بالأمة الى حالة (اللافاعلية) الأمر الذى أسهم بقوة فى إيصال الأمة الى حالة من الجمود والتراجع ، قد طالت وامتدت الى واقعنا المعاصر .
لقد عرف الشهر ستانى( الجبر) بأنه : ( نفى الفعل حقيقة عن العبد ، وإضافته الى الله (16) فالعبد – عند الجبرية – مجبور فى افعاله ، ويعتقدون انه لا فاعل على الحقيقة إلا الله ، وأما العباد فإن الفعل ينسب اليهم مجازاً !! وهذا القول أدى فيما أدى إليه الى القول بوحدة الوجود ، الى جانب إلغاء (قانون السببية) ، أى : ربط الأسباب بمسبباتها ، والنتائج بمقدمتها . وهذا الإلغاء هو علة قادحة وسوؤة ظاهرة تنافى عقيدة عقيدة الإسلام القائمة على هذا القانون ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - : (فليس فى الدنيا والآخرة شئ إلا بسبب ، والله خالق الأسباب والمسببات(17)
وفى توضيح ( قانون السببية) وتوكيده ، قال ابن القيم – رحمه الله -: ( . . . والقرآن الكريم مملوء من تريتب الأحكام الكونية والشرعية ، والثواب والعقاب ، على الأسباب بطرق متنوعة ، فيأتى بباء السببية تارة ، كقوله تعالى : (كلوا وشربوا هنيئاً بما اسلفتم فى الأيام الخالية ) ، ويأتى باللآم تارة ، كقوله تعالى : ( كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات الى النور بإذن ربهم) ويأتى بذكر الوصف المقتضى للحكم تارة ، كقوله تعالى : ( ومن يتق الله يجعل له مخرجاً) ، فالله تعالى اقتضت حكمته ربط المسببات بأسبابها(18)
إن مذهب (الجبر) الضال الذى ابتدعه الاجهم بن صفوان ، ما كان له أن يستقر فى قلوب عامة المسلمين ، لولا وقوع الأمة زمن الإنحطاط والتخلف فى حماة الفكر الأشعرى ، حين اصبح أئمة المسلمين هم ممن يحمل المنهج الأشعرى ، فاجتمع لهم قوة وسلطان ، والناس على دين ملوكهم ! .
لقد كان لمنهج الأشاعرة أسوأ الأثر فى تشويه حقيقة التوحيد ؛ شرعية : إذ جاء بالإرجاء وقدريه : إذ قال ( بالكسب ) و ( الكسب) ليس سوى (الجبر) وإن ظهر فى اللفظ وكأنه شئ آخر ، فمفهوم (الكسب) عند الأشاعرة مضطرب متباين التعريف بين منظرى الأشاعرة ، إلا أن قاعدته التعريفية العريضة تعنى : احترام وجود إرادة قلبية للإنسان ، لكنها لا تأثر لها ، ولا قيمة لوجودها !؟ إى أنها إرادة غير مؤثرة !
وهنا يظهر التوافق بين جوهر مقالة الجبرية ، ونظرية الكسب الأشعرية ، وإن بدا ان هناك اختلافا صوريا فى اللفظ وتركيب العبارات ، فإن نظرية الكسب بدورها نفت اى قدرة او تأثير للعبد.
ولكشف صورة الاضطراب الملازم لأى بدعة ، نلقى الضوء على واقع الحيرة بين ائمة الاشاعرة ، فى التفريق بين الفعل الاختيارى ، وبين الفعل الاضطراى للإنسان ، فقد ذهب الرازى فى إيضاح الأمر الى القول : ( بأن الإنسان مجبور فى صورة مختار)(19) أما الغزالى فقد انتهى الى : ( أن العبد مضطر فى جميع افعاله ومشيئته ، وإنه مجبور على الاختيار ، وأنه محل لإرادة حدثت فيه جبراً(20) ثم شبه أفعال المخلوقات بالدمى ، التى يراها الناظر وهى تتحرك فيظن انها تتحرك من تلقاء نفسها (21)
وكأى بدعة ؛ خضعت فكرة (الجبر) و (الكسب) للزيادة والنقصان ، والتعديل والتنميق لتكيف بحسب الواقع الذى توجد فيه ، والحالة التى يراد التطبيق عليها ، ولن يحرم صاحب ضلالة ما يستشهد به على ضلالته !
وقد وفق الله تعالى آئمة الهدى والسنى ، لرد عادية أهل الكلام والهوى ، فقاموا بتنفيذ مزاعمهم الباطلة ، إحقاقاً للحق ، وبقاءاً على العهد ، فإن كان الإنحراف قد طال الأمة ولا زال ، فإن نفراً من الطائفة المنصورة فى كل عهد ، اختصها فى كل عهد ، اختصها الله للذب عن هذا الدين ، بالقلم واللسان والسنان ، ليبقى هذا الدين محفوظاً من الزوال ، قال ابن تيمية – رحمه الله – فى بيان حقيقة القدرة والإرادة البشرية : ( الذى عليه السلف واتباعهم وأئمة اهل السنة وجمهور اهل الإسلام المثبون للقدر، المخالفون للمعتزلة : إثبات الأسباب ، وإن قدرة العبد مع فعله ، لها تأثير كتأثير سائر الأسباب فى مسبباتها ، والله تعالى خلق الأسباب والمسببات ، بل لابد لها من اسباب أخر تعاونها ، ولها مع ذلك أضداد تمانعها ، والسبب لا يكون حتى يخلق الله جميع اسبابه ، ويدفع عنه اضداده المعارضة له ، وهو سبحانه يخلق جميع ذلك بمشيئته وقدرته كما يخلق سائر المخلوقات ، فقدرة العبد سبب من الأسباب ، وفعل العبد لا يكون بها وحدها ، بل لابد من الإرادة الجازمة مع القدرة ، وإذا أريد بالقدرة القوة القائمة بالإنسان فلا بد من إزالة الموانع كإزالة القيد والحبس ونحو ذلك، والصاد عن السبيل كالعدو وغيره(22) ومن أقوالهم الدالة على أن السبب إنما يستوجب مسببه عند تحقق شروط العمل بهذا السبب ، واستدعاءه لمسببه ، وأنه لابد من انتقاء الموانع المعيقة لهذا العمل ، قول الفقيه الشاطبى : ( وأما إذا لم تفعل الأسباب على ما ينبغى ، ولا استكلمت شرائطها ، ولم تنتف موانعها فلا تقع مسبباتها شاء المكلف أو أبى ، لأن المسببات ليس وقوعها أو عدم وقوعها لاختياره . . وايضا فإن الشارع لم يجعلها اسباباً مقتضية لمسبباتها إلا مع وجود شرائطها وانتفاء موانعها ، فإذا لم تتوفر لم يستكمل السبب أن يكون سبباً شرعياً ، سواء علينا أقلنا إن الشروط ، وانتفاء الموانع اجزاء أسباب ام لا ، فالثمرة واحدة (23) ، وقد حث أئمة اهل السنة على مباشرة الأسباب ، وعدم إسقاطها ، قال ابن القيم – رحمه الله -: ( . . . والله أمر بالقيام بالأسباب ، فمن رفض ما أمره الله ان يقوم به فقد ضاد الله فى امره ، وكيف يحل المسلم ان يرفض الأسباب كلها ؟(24)
وفيما يتصل بالأثر الحاصل نتيجة إسقاط الأسباب والإعراض عنها ، فإنه يمكننا تصوير حالة المسلم المنكوب بهذه العقائد الفاسدة ، بإنسان يعتقد ان من تمام التوكل على الله ، ألا يحمل الزاد فى سفره فيدخل الصحراء بلا زاد ولا ماء !؟ وصورة أخرى تتجلى فى مسلم امتلآ قلبه بحكايات الأولياء ، الذين ساروا على الماء ، وطاروا فى الفضاء ، وبلغوا أعلى الدرجات ، ونالوا الكرامات ، لأنهم ما تدنسوا بمخالطة الناس ، ولأنهم كانوا أحلاس بيوتهم وزواياها !؟ . يتسامران مع الأموتا ، ويقيموا الحضرات بحضرة الأنبياء ! . . . وصورة أخرى لمسلم يتعب نفسه فى طلب شئ من العلم ، يعزل نفسه به ترفعاً عن المجتمع الذى يعيش فيه ، بدعوى ( أن من السياسة ترك السياسة) وأن ( أقم دولة الإسلام فى قلبك تقم على أرضك)!
إن من أسباب تمكين عقيدة (الجبر) السالبة للإنسان قدرته على الفعل والتغيير ، والمجمدة لفاعلية الأمة ، تلك الأفكار ، والدعوات التى ينادى بها علماء ومشايخ ، حيث يقول قائلهم : ( إن مصائر الأمة ومقاليدها صارت الى ايدى أعدائها ، وإنها لذلك لا تملك لنفسها معهم نفعاً ولا ضراً)!!.
أليس مؤدى هذه الأفكار والمقولات هو حمل الأمة بعلمائها ودعاتها ومفكريها ومجموع أبنائها على الاستسلام ، والرضوخ للواقع الآليم ؟ وهل اصبحت مهمة العلماء المعاصرين او غدى واجبهم تنويم الأمة ، وقتل إرادتها ، وشل حركتها ، وتكريس خضوعها لما يريده اعدائها منها ؟!.
إننا أمام هذه الأفكار ، والمقالات ، نستذكر طوداً شامخاً ، وعلماً سامقاً ، من أعلام العلم والفكر ، والحركة والجهاد ، يستحضره المعاصرون فى جزيئات العبادات وفروزع المسائل ، ويغيبونه فى الأصول وجليل المواقف ، وعظيم التضحيات، لقد نشأ شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – فى عصر علا فيه سلطان التتار الغزاة علاى امصار بلاد الإسلام ، فهل كان موقفه متخاذلاً مثبطاً مرجفاً ؟ ينادى فى الناس ان استكينوا واستسلموا للقضاء والقدر ، فإن مصائركم ومقاليد اموركم صارت الى أيدى أعدائكم ، وأنتم أعجز من أن تملكوا لأنفسكم معهم نفعاً أو ضراً ؟ ! لقد تولى الشيخ مهمة التحريض على القتال ، وحث المسلمين على الثبات ، وعدم الفرار من دمشق امام التتار ، وسافر الى مصر لحث السلطان على المجئ ، وإرسال الجيش ، وقد اثمرت جهوده ، وآتت أكلها ، ونفع الله به وبجهاده وحركته الإسلام والمسلمين ، وأمام كل هذا نتساءل : لماذا يغيب نفس شيخ الإسلام الثائر على الظلم والظالمين ، المستنهض لهمم الحكام والعلماء ، والمحرض لأبناء الأمة للتصدى للأعداء الغازين ، ومجابهتهم بهمم عالية ، ومجاهدتهم بنفوس شامخة ؟
أني جهود علماء الأمة فى مواجهة مقولات الجبر التى تسربلت حديثا فى جبرية معاصرة تروم تسكين الأمة وتخذيلها امام اعدائها وإشاعة روح اللآمبالاة تجاه مظاهر الظلم والإنحراف والتسلط والإستبداد ؟ إن الأمة بأمس الحاجة الى نمط مميز من العلماء والفقهاء ، ينفضون عن واقعها روح اليأس والقنوط ، ويحمونها من تأثير مقولات دعاة الجبرية المعاصرين ، الذين حملهم سوء فهمهم للقدر على الاستكانة والتخاذل.
التدين الصوفى : اختلف الناس كثيراً بشأن الصوفسة والتصوف ، كما أن المكتبة الإسلامية أتخمت بدراسات وكتابات عديدة ، منها ما تمتدح الصوفية وتثنى عليها ، وتجتهد فى دفع شبهات خصومها ، والاتجاه الآخر ؛ رأى فى الصوفية شراً كبيراً ، وخطراً عظيماً ، يتهدد المسلمين فى عقائدهم وعباداتهم ، فكثف خطابه فى مجابهتها ، وكشف زيفها ، وبيان ضلالاتها وشطحات اربابها ، وليس من اهداف هذه المقدمة التعرض لبيان تلك الإنحرافات والشطحات والضلالات ، وما تهدف إليه ينحصر فى تقرير وتوكيد مدى تأثير التدين الصوفى فى إشاعة روح التعبد الذاتى – على ما يصاحبه من بدع وضلالات – والتقوقع فى الزاويا ، والاستغراق فى الأذكار والمداومة على الأوراد ، مع غياب تام عن واقع الأمة.
ان الصوفية فى زماننا تعدت عن كونها ابتداعاً فى الإيمان والعقيدة ، وابتداعاً فى العبادات والنسك الى كونها طريقة حياة ، ومنهج تفكير ، واسلوب عمل ، ولم تعد محصورة فيمن ينتسب الى طريقة او مشيخة صوفية فحسب ، بل قد يقع بعض من يكثر الحديث عن انحرافات التصوف ، وضلال الصوفية ، فى منهج التفكير الصوفى ، فى فهمه للحركة والحياة .
فما هو هذا المنهج ؟ وما هى اركانه ؟ أو كيف كان تأثيره على حركة المسلم فى حياته ؟ والأمة فى مجموعها ؟
لن تكون الإجابة على هذه التساؤلات بمعزل عما قدمنا عند حديثنا عن الفكر الإرجائى ، ومقولات الجبرية ، إذ أن منهج التفكير الصوفى تكون من تداخل افكار ومناهج زائغة منحرفة ، انتسبت للإسلام زوراً وبهتاناً.
واهم ما توسلت به فى صياغة مناهجها ؛ فكرة الإرجاء المناقضة لتوحيد الشرع ، وعقيجة الجبر المناقضة لتوحيد القدر ، وبذلك تبلور مفهوم هذا المنهج ، واصبح من اليسير تحديد معالمه ، التى تناقض مبادئ الإسلام على الجملة !؟
لقد سعى الصوفى للتحرر من الإرادة البشرية ، كأسمى شئ يحققه فى وجوده ، وجاهد نفسه لينعق من أغلال الطباع الإنسية !؟ كحاجته للمأكل والمشرب ، وحاجته للنكاح . . . الخ . إن سعى الصوفى الدائم للتفلت من إنسانيته ، يعطينا الحق ، فى إطلاق وصف الجنون على كل من تصوف ، وهذا عين ما فعل الإمام الشافعى – رحمه الله – إذ يقول : ما تصوف رجل عاقل قط واتت عليه صلاة العصر إلا وهو مجنون !؟
فالعاقل صاحب إرادة ، وهو مكلف بالتزام الشريعة ، ولا ينقض هذا الإلتزام سوى ذهاب العقل عن المكلف ، وبه يسقط عنه التكليف.
إن منهج التفكير الصوفى ، يفرز الوانا متعددة ، واشكالا مختلفة ، لكنها تعكس حقيقة الصوفية الفكرية ، فإذا كانت الصوفية فيما مضى قد اسلبت المنتسبين لها الفاعلية تحت شعار (اريد ان لا اريد) فإن صوفية هذا الزمان تلتقى مع هذا الشعار ، ولكن بصياغات مختلفة ، لا تأثير لها على جوهر منهج التصوف ، الذى يربأ بالإنسان المتطلع لمرضاة ربه ان يأبه لما يحدث على هذه الأرض ، كيما يذهل عما فوق السماء ، وعما فى باطن الأرض !؟ وللأسف ؛ فإن التدين الصوفى هذا قد استوعب قطاعات كبيرة من الأمة ، وأغرى فئات ممن ينتمون ال الفكر ، ويدعون العلم والوعى ! وليس البسطاء والسذج فقط!
فى ضوء ذلك يمكن ان نفسر قابلية الأمة ، واستمرارها لتحييد شرع الله عن شوؤن الحكم فى مجتمعاتهم ، واستبداله بالقانون الوضعى.
لقد هان على أمة جعلت وظيفة الدين فى الحياة تنحسر لتصبح جزءاً من عبادة فردية ، لا ثمرة لها فى نفس المسلم ، ولا فى مجموع الأمة ، أن ترفع شعارات تقرر العلمانية ، وتعيدنا الى الجاهلية ، من امثال : (دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله ) و ( وقيصر ظل الله فى الأرض ، من اهان سلطان الله ، أهانه الله) ، والقائمة فى هذا تطول.
إن الإسلام جاء ليضع البشرية فى المسار الذى تستقيم معه الحياة ، ولن تستقيم إلا حين تنسجم من السنن الإلهية ، ويحدث التوافق معها ، وعند وقوع تصادم معها فإن ثمة فساد واختلال يؤثر فى المسار سلباً.
وهذا هو قانون الله فى هذا الوجود ، والكل خاضع ومنقاد لهذا القانون ، لا يستطيع منه فكاكاً أو خلاصاً ، وهذا فى حقيقته إذعان وخضوع للملك الجبار ( له اسلم من فى السماوات والأرض طوعاً وكرها وإليه ترجعون) [آل عمران:83]
ومن السنن الإلهية التى لا تتبدل ولا تتغير ؛ سنة الله فى التدافع بين اصحاب الحق ، واصحاب الباطل ، وانه لابد للباطل من قوة تطغى اهله ، وانه لابد للحق من قوة تحمة ذويه . . ومن سننه تعالى : ان ينصر المؤمنين المستوفين عوامل النصر ، وأن النصر للمؤنين قد يسبقه أذى من العدو وغلبة له . . ومن سننه جل وعلا : ان ترك الجهاد مدعاة الى العذاب ، وأن إعداد القوة من فروض الإسلام . ..
إن منهج التفكير الصوفى قد تجافى عن هذه السنن الإلهية وغيرها ، وولى عنها مدبراً ولم يعقب !؟ الأمر الذى دفع المنتمين الى هذا (المنهج) – وهم كثر – لاعتقاد ان الابتعاد عن شؤون الحياة ، مع القيام ببعض اعمال التعبد ، كالصلاة ، والصيام ، والحج ، الذكر ، وطلب العلم ، . . . الخ بعيداً عن السعى الجاد والحقيقى لاستئناف حياة إسلامية والذى يستوجب مجاهدة الظلمة ، ومقاومة الكفر ، هو غاية التدين وحقيقة الدين !؟ بل تعدى الأمر هذا الاعتقاد الى تبنى أراء جديدة تحرم الاهتمام بشؤون الواقع ، وقضايا السياسة ، بحجة انها تشتت الهمة ، وتفرق القلب ، وتحبب فى الدنيا ، وتصرف الناس عن العلم النافع ، والعمل الصالح !؟ وزاد بعض المخرفين للتدليل على رأيهم الباطل انه لم تكن امور السياسة والواقع ضمن دائرة اهتمام السلف الصالح ، بل انهم كانوا ابعد ما يكونون عن السلطان ، والاشغال بأمور السياسة !! وهذا القول إضافة الى ما فيه من تزوير للحقيقة ، وافتراء وخجاع ، فهو فى غاية القبح والتشويه لمنهج السلف الصالح ، الذين ما فتئوا يبنون للأمة الحق ، ويقودونها فى سبيل إحقاقة.
ولعل من أسوء إفوازات هذا المنهج المنحرف ، ذلك الأنموذج (المأزوم) الذى يتسربل بالعلم – زوراً – ويتبجح باتباع السلف – بهتاناً- فما هو إلا نابتة سوء اغتدت من معين منهج التصوف الفكرى – رغم عدائها الظاهر للمتصوفة التقليديين – فما ظنكم بمن يستدعى أمواتاً ، ومقولات بدعية غائبة منسية ، ماتت بموت أصحابها وقائليها . . ثم يأخذ يناوش ويصارع ويقاتل اشباحاً لا حقيقة لها !؟ والأدهى والأمر ، ان تصل الحماقة بهؤلاء حدا يستنهضون معه الأمة لتلتف حولهم فى خوض معركتهم الكبرى ، فى مقابر التاريخ ، وعلى مشارف او مجاهل الماضى السحيق !؟
إننا اليوم ؛ أمام من ينكر القرآن جملة وتفصيلاً ، ولسنا امام من يقول بخلق القرآن ! ونحن نعيش فتنة فصل الدين عن الحياة، وحبسه تحت قباب المساجد ، وحصره ببعض حصص مادة التربية الإسلامية فى المدارس ، ولسنا فى زمن جود بعض الإنحرافات فى الفكر والسياسة والإقتصاد والإجتماع فحسب !؟
نحن أمة دلفت الى حالة التبعية والخذلان امام كل الأمم والشعوب ، ولسنا فى وقت نبحث فيه عن ضعف الفتوحات ، وقلة الانتصارات !؟
وبعد : فالكتاب الذي بين يديك أيها الأخ الكريم ، يلقى الضوء على مشكلة الفاعلية عن المسلم المعاصر ، بذل فيه الأخ د. ابن عيسى باطاهر ، جهداًُ طيباً ، وارتاد ميداناً قل سالكوه ، وقد جاء بحثه معتمداً فى غالب افكاره ومضامينه على كتابات الأستاذ المفكر / مالك بن نبى – رحمه الله – والذى يعتبر بحق أحد رواد هذا الميدان المبدعين – عفا الله عنه ، وغفر لنا وله – وشكر للمؤلف سعية وجهده.
لجنة البحوث
والدراسات الإسلامية
مقدمة
الحمد لله الذى انزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً ، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين وعلى آله صحبه الطيبين الطاهرين ، وبعد :
فإن الأمة الإسلامية تعيش الأن أزمة حضارية جعلتها تتخلف عن اداء دور الشهادة على الناس ، ووظيفة الإيمان والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، كما هيأها الله لذلك فى قوله ( وكذلك جعلناكم امة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس) [ البقرة : 143] وقوله تعالى : كنتم خير امة اخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله) [آل عمران : 110] .
وهناك تحديات كثيرة تحاصر الأمة فى هذا الواقع الجديد ، واسباب مختلفة تقف عائقاً امام استرجاعها لمركز الريادة من جديد ، وتبوئها لمكانة سامقة فى هذا العالم المتغير ، بعد نزعها وخلعها للباس الغثائية الذى التصق بها منذ فترة من الزمن.
وهذه الدراسة تبحث فى أحد الأسباب المساهمة فى صحة الأمة وقوتها ، وهو ما يسمى بالفاعلية Efficancy وهى مبدأ حضارى قل او انعدم من مجتمعاتنا الإسلامية ، فى حين اصبح على راس سلم القيم فى المجتمعات المتحضرة.
وقد قسمت هذه الدراسة الى تمهيد وخمسة فصول ، تناولت فى الفصل الأول مفهوم الفاعلية فى اللغة والاصطلاح . محدداً مفهوماً جديداً لها ، وبسطت الحديث فى الفصل الثانى عن الفاعلية فى التاريخ الإسلامى مركزاً على التفسير الإسلامى للتاريخ ، وقيمة الإنسان فى الإسلام ، وفاعلية الرسول صلى الله عليه وسلم ، وفاعلية صحابته رضوان الله عليهم ثم تجدد الفاعلية عبر التاريخ الإسلامى.
اما الفصل الثالث فقد خصصته لبحث واقع الفاعلية فى امتنا الإسلامية ، وذلك بعرض أبرز المعوقات التى تحول دون تحقيق شروط الفاعلية .
وأما الفصل الرابع فقد تناولت فيه مقومات الفاعلية ، وهى تمثل الطموح الذى نرجوه حتى تعود العافية الى الأمة . وأما الفصل الخامس فقد خصص لبعض التوصيات التى قد تفيد امتنا فى واقعها المعاصر.
لقد تمت هذه الدراسة بعون الله وتوفيقه وهى – باعتبارها جهداً بشرياً – بحاجة الى قدر من التمحيص والنقد حتى تستفيد منها مدارس التغيير التى تسعى لإنهاض الأمة عن طريق الخطاب الإسلامى المتكامل المؤصل اعتماداً على منهج السلف فى تلقى مصدرى الوحى ، الكتاب والسنة ، والتفاعل معهما ، لأعادة بناء الأمة المسلمة ودروها الريادى فى القيادة من خلال إعادة تحكيم شرع الله سبحانه وتعالى فى الحياة . والله الموفق الى الصواب.
وأنا سعيد الى الإشارة الى تلك الجهود والتوجيهات التى بذلها اخى وزميلى الدكتور (إبراهيم احمد العسعس ) فى إخراج هذه الدراسة فى صورتها النهائية فجزاه الله خير الجزاء .
وختاماً أسأل الله سبحانه وتعالى ان يكون عملى المتواضع هذا خالصاً لوجه الكريم ، وأسأله ان يرزقنا السداد فى القول ، والإخلاص فى العمل ، والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
د. ابن عيسى باطاهر
عمان 15 / 8 / 1995م
تمهيد
يقرر المفكر الفرنسى الشهير ألكسيس كاريل Alexis karel أن الحياة جد وعمل ، وأن العضلات والأعضاء والذكاء والإرادة وكل اجزاء الكائن البشرى لا تقوى إلا بالعمل(25) . وحين صنف العالم الأمريكى مايكل هارت Micheal Hart كتابه المشهور (المائة الأوائل) جعل الرسول صلى الله عليه وسلم على رأس قائمة صانعى التاريخ فى العصر القديم والحديث ، وقد استحق محمد صلى الله عليه وسلم هذا التقديم لتحقيقه شروط صناعة الحياة ، ومقاييس الريادة على المستوى الدينى والدنيوى ، وكان مقياس الفاعلية فى الحياة هو المقياس الأساسى فى التقويم(26).
والأمة الإسلامية التى مارست دور الشهادة على الناس يوماً ما ، ورثت مقوم الفاعلية عن رسولها صلى الله عليه وسلم ، فكان أن دخلت التاريخ من ابوابه الواسعة ، وكونت حضارة متميزة فى مستوياتها الدينية والدنيوية ، وقد عرفت بتقديرها للعمل ، وحرصها على النفع ، وتوجيهها للطاقات نحو عمل الخير ، فاستحقت بذلك التكريم الإلهى ( وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس) [ البقرة :143]
ومرت الأمة الإسلامية فى دورتها الحضارية ببعض المعوقات التى جعلتها تتخلف عن اتجاهها الروحى ، وتتجه اتجاهاً عقلياً ، ثم انفصلت نهائيا عن دائرة العقل والروح لتهوى فى مكان سحيق سيطرت فيه الغرائز والأهواء ، وتمثل هذه المراحل رحلة الحضارة الإسلامية منذ شروقها الى ان فتر توهجها ، وكاد ينطفئ سراجها ، ولكنها فى كل الأحول خرجت من التاريخ لتترك زمام المبادرة لأمم أخرى عرفت كيف تستفيد من تراثها ، وتراث امتنا الإسلامية على وجه التحديد ، وعرفت كيف توجه سنن الله فى الكون ، وعرفت قدر العمل ، وأهمية الفاعلية فى البناء والتكوين ، فكانت بداية مدنية جيدة لكنها لم تحقق الضمانات الكافية لسعادة الإنسان فى هذه الحياة.
والأمة الإسلامية مع هذا كله مازالت تسعى بشوق وتلهف الى ان تأخذ مكانها الريادى مرة أخرى ، وهى تبذل فى سبيل هذا الهدف جهوداً كبيرة ، وتعمد الى وسائل مختلفة ، ولكن مع هذه النهضة التى عقبت النوم الطويل ما زال الجهد المقدم غير كاف ، وما زال الوهن يحد من الجهود الكثيرة ، ولا زالت ترى كثيرا من الطاقات المعطلة تحتاج الى توجيه وإرشاد.
وإن الدعاة والمفكرين ما فتئوا يشكون من مرض اللافاعلية الذى اصاب أبناء الامة الإسلامية فعطل من طاقاتهم ، وقلل من نشاطهم ، فهذا الشيخ (محمد الغزالى) – رحمه الله تعالى – ينقد حال الأمة قائلاً : ( إن الرجل عندنا قد ينال أعلى الأجازات العلمية فى الطب او القانون ، وقد يعين فى أعلى المناصب بأوروبا وأمريكا ، لكن صلته بدينه صفر ، وعلاقته بحنسه هواء ، على حين يكون زميله اليهودى كالإعصار فى خدمة الصهيونية ، وزميله النصرانى أسرع من البرق فى خدمة الاستعمار ، فهل هذا المسلم البارد الشعور ، أو المرتد القلب يجدى على أمته شيئاً . ، أنه كالجندى المرتزق بسلاحة يخدم أى مبدأ على ملء بطنه وإيثار عاجلته(27)
وهذا مالك بن نبى – رحمه الله – يأسف لواقع الأمة فيقول : (العالم الإسلامى لم يبلغ بعد درجة النشاط ، أو العمل الفنى الذى يعد وحده كفيلاً بتحديد مكانه فى العالم الحديث الذى يحتل مبدأ (الفاعلية) اول درجة فى سلم القيم ، وهذا المبدأ من أحوج الأمور بالنسبة لنا)(28)
ويقول ايضا : (ألسنا نشعر مثلاً بأن ديننا وهو أوضح – من حيث الصحة – من شمس النهار ، إنه الى حد ما وبسببنا نحن ، وبسبب تقاعسنا وتكاسلنا ونومنا فى النهار فقد بعض صلاحيته(29)
ويقول محمد قطب : ( لقد وعت اوروبا ان الإنسان هو القوة العاملة فى الأرض ، وان الطاقة البشرية هى أداة الإصلاح ، من اجل ذلك اتجهت هتمهم لتجنيد هذه الطاقة ، وتوجيهها الى العمل المنتج فى واقع الحياة ، ووصلوا فى ذلك الى درجة معجبة من النشاط والتنظيم والدأب المنتج المعجيب ، ذلك ما نسيه المسلمون اليوم وهم يتواكلون ويتقاعسون وينتظرون وهم قاعدون(30)
ويقول أيضاً : ( إن أمام المسلمين الكسالى اليوم قدوة فى رسول الله تنفعهم إذا فتحوا لها بصائرهم ، وتدبروا معنيها ، إن عليهم ان يعملوا دائما ولا يكلو .. . يعملوا جهد طاقتهم ، وفوق الطاقة ليعوضوا القعود الطويل ، يعملوا فى كل ميدان من ميادين العمل : فى ميدان العلم ، وميدان الصناعة ، وميدان التجارة ، وميدان الاقتصاد ، وميدان السياسة ، وميدان الفن ، وميدان الفكر )(31)
وتجمع أغلب الآراء على ان الخلل الذى اصاب الأمة الإسلامية فى سعيها نحو النهضة والحضارة هو إنعدام الفاعلية وقلة النشاط والعمل ، وعدم الاستفادة من الوسائل المتاحة ، فلم يكن ينقص الفرد المسلم منطق الإخلاص بقدر ما كان ينقصه منطق العمل والحركة ، فهو يفكر ولكن لا ليجسد فكرته فى عمل مثمر ، وإذا عمل لا يقدم الجهد المطلوب لتحقيق النتائج المرغوبة.
والذى يؤسف له ان وضع الأمة الإسلامية فى قلة فاعليتهما – مقارنة مع غيرها من الأمم التى سلكت سبيل التحضر – قد عزى الى الإسلام نفسه كما ذهب الى ذلك المفكران الغربيان (رينان) و (لامانس) فقد قالا عن الإسلام : إنه دين الركود والتخلف ، ونسبا الفاعلية للأوروبيين(32) وهذا الرأى ليس غربيا كذلك على دعاة الحداثة والتغريب اليوم ، لأنهم ينظرون الى الإسلام من خلال معطيات الواقع الذى يعيشه المسلمون اليوم ، ومن خلال فهمهم للتفسير الإسلامى للتاريخ ، ونظرته الى الإنسان فالنظرة المتداولة عندهم هى ان التاريخ فى نظر المسلمين هو قضاء وقدر ، وان الإنسان ريشة فى مهب الريح لا يملك من امر نفسه شيئاً ، فكيف يملك صناعة التاريخ ؟!
والمتأمل فى تاريخ الأمة الإسلامية يدرك ان كثيرا من هذه الأفكار القاتلة فد تسربت الى المسلمين منذ زمن بعيد ، وكان أن امتزجت بعقول وقلوب الناس مما ادى بعد فترة من الزمان الى هذا الانحصار الحضارى الذى نعيشه اليوم ، والى الابتعاد عن دور الشهادة على الناس ، وقد كان للاستعمار الذى عرفته الشعوب الإسلامية درو فى بث الأفكار الميتة ، وبعث روح الهزيمة ، ومركبات النقص فى النفوس ، مما ساهم فى نقص الفاعلية عند ابناء الأمة ، غير اننا لا يمكن بأى حال ان نحمل الاستعمار تبعة ما نحن فيه ، لأن قضية الفاعلية قضية نفسية مرتبطة بالبناء النفسى والرؤية الحضارية عند ابناء الأمة ، فهى تقع حقيقة حيث تتحقق مبررات وجودها.
وإذا كانت الأمة الإسلامية قاطبة تتحمل مسئولية هذا العجز ، فإن الصحوة الإسلامية تتحمل جانباُ كبيرا من هذه المسئولية ، لأنها أخذت على عاتقها إعادة المشروع الإسلامى الكبير ، والعودة بالأمة الإسلامية الى ميدان الصدارة ، والسير من جديد فى ركب الحضارة ، وكان ان تحملت مسئوليات جسام لتغيير الواقع بدءاً من تغيير النفوس ، ولكن عقبات الطريق ، وصعوبة المسلك ، وطبيعة التغيير النفسى ، كل هذه الأمور جعلت المشروع الحضارى الكبير يتأخر لأسباب كثيرة نعد منها قلة الفاعلية فى اداء الواجبات المنوطة بعاتق العاملين للإسلام ، فلم تكن الاعمال الفردية والجماعية فى مستوى الجهد المطلوب الذى ينبغى ان نصل إليه ، ولم تستخدم جميع الوسائل ، ولم تجند كل الطاقات للوصول الى العمل المثمر الناجح وكل ما تحقق ليس كافيا لإقلاع الحضارى ، وكان التخلف عن ادءا دور الشهادة على الناس نتيجة حتمية لعدم انسجامنا مع سنن التغيير المطلوبة ، قال تعالى ( ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) [الرعد : 11] وقال ايضا : ( يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا اتلله ينصركم ويثبت اقدامكم ) [ محمد :7]
فمبدأ الفاعلية فى الفكر والعمل – الذى اصبح ظاهرة عند الأمم التى دخلت التاريخ الحاضرى – ليس مبدأ مناسباً للإمكانيات المتاحة فى العمل الإسلامى ، فالواقع يشهد بقلة الفاعلية ، والطموح ، فى أن يصبح العمل عندنا قراراً فردياً وجماعياً يصل الى أعلى درجات الحركة والنشاط.
أم المجتامع الإسلامى المعاصر إنما هو الآن فى مرحلة ما قبل التحضر (33) غير انه مجتمع عرف الحضارة فى يوم من الأيام ، وقد ورث تراثاً زاخراً من الأفكار والثقافات ، واصبح مع هذه الظروف لزاماً عليه ان يعيد توجيه ثقافته من جديد ، وبناء قدراته وفق منهج مؤصل يجمع بين الأصالة والتجديد ، ويستفيد من تجارب الأمم المتحضرة التى ركزت على بناء الإنسان وتوجيه فكره وثقافته نحو الأهداف السامية للأمة ، وتعليمة لغة الفاعلية فى التعامل مع الأشياء.
إن العقيدة الإسلامية التى يعد بثها من أولويات العمل الإسلامى قد أخذت حيزاً كبيراً فى الأبحاث والدراسات ، مع ان حجمها يسير ، ولكنها للأسف لم تتحول الى قوة دافعة ، وحركة تصنع الأحداث ، ذلك ان التركيز لم يكن منصباً على توضيح رسالة العقيدة بقدر ما انصب على بيان العقيدة فى صورتها التجريدية ، مع ان العقيدة الإسلامية ينبغى لها ان تعرض فى صورتها التجريدية ، وصورتها الحركية ، كى يصبح صاحب العقيدة إنساناً ذا رسالة فعالة فى التاريخ يستطيع من خلالها ان يسعى سعياً دؤوبا نحو تحقيق وظيفة الشهادة على الناس.
والعمل الإسلامى اليوم ينطلق من مبدأ فهم الكتاب والسنة باعتباره المرجع الأساس فى النظرية والتطبيق ، وباعتباره الدواء الحقيقى لجميع الأمراض التى لحقت بالأمة الإسلامية ، ومن هنا كان واجباً عليه ان يستخلص من هذا الفهم طريقة المعالجة التى لا تأتى إلا من خلال العمل الدؤوب ، والفاعلية المتوقدة فى جميع قطاعات الأمة ، وان تربى الناشئة على كيفية استثمار الوسائل المتوفرة لصنع شئ له قيمة فى الحياة ، وكيفية التعامل مع الأفكار النافعة ، والأفكار القاتلة ، وإيجاد الإنسان الذى يفكر ليعمل ، لا ليقول كلاماً عاطفياً لا يقدم ولا يؤخر شيئاً فى عملية البناء والتغيير ، وعليه كذلك ان يربى ابناء الأمة على سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم التى اتسمت بالفاعلية فى الفكر والعمل منذ اليوم الأول الذى سمع فيه الرسول صلى الله عليه وسلم كلمة ( إقرأ ) التى تبعتها كلمة ( قم ) فكان ان مارس القراءة التى تعنى الفهم عن الله طيلة حياته ، وماس القيام يعنى التطبيق لهذا الفهم حتى التحق بالرفيق الأعلى ، يقول الرازى : ( إنه عليه السلام تحمل فى أداء الرسالة انواع المشاق والمتاعب ، فلم يتغير عن المنهج ولم يطمع فى مال احد ، وفى جاهه ، بل صبر على تلك المشاق والمتاعب ، ولم يظهر فى عزمه فتور ، ولا ف اصطباره قصور )(34)
وإذا كان الاستاذ مالك بن نبى – رحمه الله – يرى ان نقصان الفاعلية فى العمل الإسلامى ناتج عن مواقفنا تجاه الأشياء فنحن إما ان ننظر إليها على انها سهلة وإما أنها مستحيلة وكلتا النظرتان تنقصان من الحركة والنشاط ، لأن السهولة تقود الى نشاط اعمى ، وأما الاستحالة فتصيب النشاط بالشلل(35) ، فنحن نرى ان نقصان الفاعلية ناتج عن اسباب كثيرة معقدة يتصل بعضها بالنفس البشرية وبالمحيط الذى تربت فيه ، وبالثقافة التى رتعت منها.
والفاعلية تتصل بداية بالبناء النفسى الذى تحتمه مبررات شرعية واجتماعية تجعل من الحركة والنشاط غاية أولى فى السير نحو مثل أعلى تنوى تحقيقه ، ولكن مع صعوبة تدريب النفس على الفاعلية فإن تحقيق هذا الهدف ليس مستحيلاً فى المجتمعات الإسلامية ، وبخاصة ونحن نرى نماذج للفاعلية تستحق الإشادة والتقدير فى جميع الميادين الاجتماعية والعلمية والفكرية وغيرها ، وإن كان
طابع الفردية يغلب عليها ، ولا يمكن بأية حال تحقيق الأهداف الكبرى إلا بتضافر هذه الجهود الفردية لتصبح جهوداً جماعية تصب فى المصلحة الكبرى للعمل الإسلامى.
الفصل الأول
مفهوم الفاعلية
1. الفاعلية فى اللغة :
الأصل اللغوى للفاعلية هو الفعل (فعل) الذى مشتقاته (فاعل) و(فعال) والفاعلية مصدر صناعى ، اختاره مجمع اللغة العربية بالقاهرة ، للدلالة على وصف الفعل بالنشاط والاتقان(36) .
وورد فى القرآن الكريم لفظ : (فعال) فى قوله تعالى ( فعال لما يريد) [البروج : 16] وهو اسم من اسماء الله الحسنى يدل على ان ما يريده تعالى وما يفعله فى غاية الكثرة(37) ، وصيغ من هذا الاسم مصدر آخر هو (الفاعلية) الذى كثيراً ما كان يتسعمله المفكر الإسلامى المعروف (مالك بن نبى) فى كتاباته.
ويبدو أن مصطلح (الفاعلية ) هو الأكثر استخداماً وشيوعاً بين المثقفين ، ولذلك اخترناه على غيره فى هذه الدراسة.
2. الفاعلية فى الاصطلاح:
تقابل كلمة (الفاعلية) العربية كلمة( Efficancy)
فى المعاجم الغربية وهى تتحدد عندهم بكونها وصفاً لكل شئ فعال(38) وجاء فى كتاب البحث التحليلى لأوروبا ان الروح – ويقصد بها الفاعلية – هى ذلك الشعور الفردى فى الإنسان الذى تصدر عنه مخترعاته وتصوراته ، وتبليغه لرسالته ، وقدرته الخفية على إدراك الأشياء(39)
ويعرف مالك بن نبى الفاعلية بأنها : حركة الإنسان فى نصاعة التاريخ ، قال – رحمه الله – (إذا تحرك الإنسان تحرك المجتمع والتاريخ ، وإذا سكن سكن المجتمع والتاريخ ، وهذا يضعنى امام مشكلة تتصف تحت عنوان الفاعلية)(40).
والفاعلية عند (مالك) هى جزء من الثقافة التى يتصف بها الفرد والمجتمع ، فعناصر الثقافة اربعة هى : المبدأ الأخلاقى ، والذوق الجمالى ، والمنطق العملى ، والتوجيه الفنى او الصناعة ، وتشكل هذه العناصر السلوك الاجتماعى للفرد فى المجتمع ، والمنطق العملى هو الفاعلية فى مستواها الفردى والجماعى يقول مالك بن نبى: ( لسنا نعنى بالمنطق العملى ذلك الشئ ) الذى دونت اصوله ووضعت قواعده منه ارسطو ، وإنما نعنى به كيفية ارتباط العمل بوسائله ومقاصده ، وذلك حتى لا نستهل او نستصعب شيئاً دون مقياس ، يستمد معايير من الوسط الاجتماعى وما يشتمل من إمكانيات ، وليس من الصعب على الفرد المسلم ان يصوغ مقياساً نظرياً يستخرج به نتائج من مقدمات محددة غير انه من النادر جداً أن يعرف المنطق العملى ، اى اتسخراج ما يمكن من الفائدة من وسائل معينة ونظرة الى ما حولنا تكفينا لكى نلاحظ ان ضروب نشاطنا غالباً ما تتسم بالشلل وانعدام الفاعلية فى الجانب الخاص والعام(41)
وارتباط الفاعلية بالثقافة هى حقيقة نشاهدها اليوم فى البلاد المتحضرة حيث يوجه الفرد منذ نشاته الأولى الى الاستفادة من وقته ، واستثمار جميع الوسائل لاستخلاص الفائدة من الاشياء التى لها قيمة ، حتى اصبح ذلك سلوكاً اجتماعياً يرتبط بجميع نشاطات الحياة.
ويعرف (جودت سعيد) الفاعلية بقوله : ( هى قدرة الإنسان على استعمال وسائله الآولية واستخراج اقصى ما يمكن ان يستخرج منها من النتائج (42).
فالإنسان الفعال هو القادر على استخدام الوسائل المتوفرة مهما قل شأنها فى صنع شئ له قيمة فى الحياة وهذا مرتبط بالثقافة التى يحملها ، والفكر الذى يتبناه ، ولذلك حرص (جودت سعيد) على اعتبار الإنسان هو المحرك الأول للطاقات ، والإمكانيات التى يملكها ، واستند فى هذا على منهج القرآن الذى فرق بين صنفين من البشر فقال تعالى( أفمن يمشى مكباً على وجهه أهدى أمن يمشى سوياً على صراط مستقيم)[الملك:23] وقال تعالى: ( وضرب الله مثلاً رجلين أحدهما ابكم لا يقدر على شئ وهو كلُّ على مولاه اينما يوجهه لا يأتى بخير هل يستوى هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم) [النحل :76]
فكلمة (الكل) هى الكلمة القرآنية المقابلة لمصطلح اللافعالية والسلبية ، بل كلمة القرآن أدل على هذا المعنى بحيث ان كلمة (الكل ) لا تدل على اللافعالية فحسب بل تدل على انه عبء على من يتولاه سواء كان فرداً او مجتمعاً ، كما وأن كلمة (العدل) فى القرآن تقابل مصطلح الفعالية بشكل أدق ، لأن الفعالية لا تشترط دائما ان تكون فيما بل قد يكون المرء فعالاً فيما يضر ، أما كلمة العدل ففعاليته فىالحق دائماً(43)
فالفاعلية التى نريد هى الفاعلية التى يتحرك بها الإنسان مع ما لديه من وسائل أولية ليحقق نفعاً خاصاً أو عاماً ، وهذا هو المعنى الذى حرص عليه المنهج القرآنى ، وبيته أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ، المذموم فى الشريعة الإسلامية التى من ابرز مقاصدها درء المفاسد و*** المنافع.
3. الفاعلية فى مفهوم جديد :
إن الفاعلية هو نوع من القوة التى تمنح للإنسان ليتحرك فى الحياة مبلغاً لرسالته ، وصانعاً لتاريخه ، وناشراً لفكره ، ودينه يستفاد هذا من قوله تعالى ( يا يحيى خذ الكتاب بقوة) [مريم : 21] والقوة المراد بها قوة معنوية ، وهى العزيمة والثبات ، فى العمل بالكتاب وحمل الأمة على اتباعه ، فقد أخذ الوهن يتطرق الى الأمة اليهودية فى العمل بدينها(44) فأمر يحيى – عليه السلام – ونودى ليحمل هذه الأمانة فوة وعزم ، وبمفهومنا الحديث بفاعلية ونشاط حتى يحقق مراد الله تعالى.
ويبين الرسول صلى الله عليه وسلم هذه القوة فى الحديث المشهور الذى رواه أبو هريرة – رضى الله عنه – قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( المؤمن القوى خير واحب اللى الله من المؤمن الضعيف ، وفى كل خير ، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز ، وإن اصابك شئ فلا تقل : لو أنى فعلت كذا وكذا ، ولكن قل قدر الله وما شاء فعل ، فإن لو تفتح عمل الشيطان)(45)
قال النووى فى شرح معنى القوة : ( المراد بالقوة عزيمة النفس ، والقريحة فى أمور الآخرة ، فيكون صاحب هذا الوصف اكثر إقداماً على العدو فى الجهاد ، وأسرع خروجاً إليه ، وذهاباً فى طلبه ، وأشد عزيمة فى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، والصبر على الأذى فى كل ذلك ، واحتمال المشاق فى ذات الله تعالى ، وأرغب فى الصلاة والصوم ، والأذكار وسائر العبادات وأنشط طلباً لها ، ومحافظة عليها ، ونحو ذلك)(46) .
والحديث بجملته يتحدث عن فاعلية الؤمن وعلاقة هذه الفاعلية بقضاء الله وقدره وقد فسر الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الفاعلية بأنها الحرص على النفع وترك العجز بعد الاستعانة بالله تعالى ، ومن هنا يتحدد المفهوم النبوى للفاعلية بأنها العمل والحرص على ما ينفع ، وترك الكسل والعجز ، ومن هذا المفهوم تخرج كل المعانى الأخرى للفاعلية التى قد يستخدمها الإنسان فى حركته نحو الفساد والإضرار بنفسه وبالآخرين ، كالفاعلية التى نراها عند يهود للإضرار بالإنسانية ، وعند غيرهم من الأمم والشعوب الكافرة.
ويمكن ان نصل الى مفهوم شامل جديد للفاعلية اعتماداً على هذا الحديث فنقول : إنها قوة فى النفس تستوجب الحرص على النفع وترك العجز.
.:. .:. .:.
الفصل الثانى
الفاعلية فى التاريخ الإسلامى
1. التفسير الإسلامى للتاريخ
إن النظرة الإسلام الى التاريخ قضية ذات اهمية كبيرة فى تحديد الموقف العملى للإنسان المكلف تجاه الأحداث التى يتفاعل معها كل يوم ، سواء أكان صانعاً لها بإرادته ام خاضعاً مستقبلاً لها دون اى تدخل من تلك الإرادة.
وأهمية هذه النظرة تكمن فى ارتباطها بقضايا العقيدة وبخاصة عقيدة القضاء والقدر ، التى تشكل الأساس الفكرى الذى يحدد موقف الإنسان المسلم من العمل فى الحياة الدنيا وتصوره للدائرة التى يمكل حرية التحرك فيها ، والدائرة التى لا يملك فيها اية إرادة للحركة والعمل .
إن عقيدة القضاء والقدر التى اختلف المسلمون – باستثناء سلفنا الصالح – فى فهمها وتفسيرها ، كانت عنصراً من عناصر الخلاف الذى استمر قروناً وما زال مستمراً الى الآن ، تعد من أهم الأسباب الموصلة الى تفسير التاريخ ، وفهم موقع الإنسان فيه ، وبناء تصور عنه يعطى للإنسان مكانة اللائق به كصانع للتاريخ ، ومساهم مساهمة حقيقة فى توجيه الأحداث ، وأن هذا كله لا ينافى الإرادة الإلهية ، وسيرورة قضاء الله وقدره فى هذا الكون .
لم يكن عدم فهم عقيدة القضاء والقدر فهماً سلمياً سبباً فى الخلاف الذى وقع بين المسلمين فحسب ، بل إنه ومع مرور الوقت اصبح يشكل اتجاهاً يبعث السلبية واللافاعلية ، والركون الى التواكل ، والتقليل من قيمة العمل ، وبخاصة ذلك الذى يتعلق بالأمور الحياتية المهمة ، كتلك التى ترتبط بمصير الأمة.
والخلل الذى وقع فى فهم هذه العقيدة انعكست أثاره على الواقع العملى للمسلمين ، فى فترات زمنية معلومة وبخاصة فى العصر الحديث ، الذى عرف أشكالاً جديدة من التحديات الاستعمارية ، وانواعاً من الأخطار والمشكلات الحضارية ، واصبح المسلم مع هذا الفهم الخاطئ ينتظر الخوارق ، ويرنو الى المعجزات ليحل مشكلاته المستعصية ، وذلك بعد تقزيمة للبعد الايمانى ، وتشويهه لمفهوم العبادة ، وتجسد لديه المبدأ الحياتى القائل : ( آكل القوت وانتظر الموت)(47) وأصبح جزءاً من ثقافته.
ما هى النظرة التى يفسر بها الإسلام التاريخ اعتماداً على عقيدة القضاء والقدر ؟ ، هل التاريخ فى نظر الإسلام مجرد أحداث تتعاقب دون ان يكون للإنسان أية مساهمة فى صنع او توجيه هذه الأحداث ؟ أم انه يشارك فى صنعها مشاركة حقيقة ويكون مسؤولاً عنها ؟ وبعبارة أخرى هل التاريخ قضاء وقدر لا يد للإنسان فيه ؟ أم ان الإنسان هو المسؤول الحقيقى عما يجرى فى التاريخ ؟
إن الإجابة عن هذه الأسئلة لا تؤدى الى مواقف نظرية فحسب بل الى نتائج عملية تتصل بحركة الإنسان فى هذه الحياة ، لأن التصور العقدى الذى سينبنى على هذه الإجابة سيكون له أكبر الأثر فى تحديد الإرادة البشرية ، ومواقفها امام المشكلات التى تواجهها فى الحياة ، وإن كان كثير من الناس يعتقدون ان هذه القضية هى قضية نظرية فلسفية ليس لها اى بعد اجتماعى ونفسى فى الواقع ، وهى على العكس من ذلك قضية خطيرة لما ينبنى عليها من تصورات تحدد مواقف الإنسان وحركته فى الحياة.
إننا إذا نظرنا الى التاريخ باعتباره مجرد حوادث تتعاقب دون ما ربط جدلى بينها ، فإن هذه نظرة تؤدى الى نتائج معينة ليست هى التى تنتج عن نظرنا إليه حينما نعتبره سيراً مضطرداً تترتب فيه الحوادث ترتيباً منطقياً كما تترتب عن الأسباب مسبباتها ، فإن النظرة الأولى تؤدى الى تسجيل ما يضطرد من حوداث فى انفسنا ، وفى مذكراتنا على انه من حكم القضاء والقدر اى من حكم لا يد للإنسان فيه ، ولا يسعه امامه سوى الإذعان ومسايرة الظروف أو كما يعبر البعض الاستسلام للواقع ، فهذه النظرة تجلعنا نطأطئ الرؤوس امام الأحداث لأن جهلنا بأسبابها ونتائجها يؤدى بنا الى ان نحنى لثقلها ظهورنا ، فإذا ما وضعتها عن ظهورنا يد الموت ألقتها على كاهل الأجيال من بعدنا . أما نظرتنا الثانية إليه فإنها بدلاً من ان تلقى على اكتافنا ثقل الأحداث ، تجلعنا نحدد إزاءها مسؤولياتنا ، فبقدر ما ندرك اسبابها ، ونقيسها بالمقياس الصحيح ، نرى فيها منبهات لإرادتنا وموجهات لنشاطنا ، وبقدر ما نكشتف من اسرارها نسيطر عليها ، بدلاً من أن تسيطر علينا ، فنوجهها نحن ، ولا توجهنا هى ، لأننا حينئذ نعلم ان الأسباب التاريخية كلها تصدر عن سلوكنا وتنبع من انفسنا(48)
إن الإسلام يفسر التاريخ تفسيراً يتبوأ فيه الإنسان مكانة عظيمة ، باعتباره المنفذ الحقيقى لقضاء الله وقدره فى هذه الأرض ، فالتاريخ هو صناعة بشرية بإرادة الله وعلمه وقدره ، والإنسان المستخلف فى هذه الأرض مكلف بالحركة والنشاط وفق النواميس الإلهية حتى ينسجم مع الكون الذى من حوله ، وحتى يحقق وجوده كإنسان مستحق للتكريم الإلهى.
والمنهج القرآنى واضح فى تحديد المسؤولية البشرية فى صناعة التاريخ ، فقد بينت الآيات أن الإنسان خلق ليعمل وفق منهج محدد وضع له ، أما إذا تجاوز ذلك فسيكون مسؤولاً امام الله وامام التاريخ وأمام البشرية كلها لينال جزاء ما فعل قال تعالى: ( ظهر الفساد فى البر والبحر بما كسبت أيدى الناس ليذيقهم بعض الذى عملوا لعلهم يرجعون) [الروم : 41]
فهذا الفساد الذى ظهر على هذه الأرض وشمل برها وبحرها هو من صنع الناس ، لأنهم هم الخلفاء عليها ، وهم اصحاب الإرادات العاملة فيها ،إن كل ما على هذه الأرض من كائنات إنما تتحرك حركة منبعثة من طبيعتها التى اودعها الله سبحانه وتعالى فيها دون ان تخرج عليها ، وقوله تعالى : ( بما كسبت أيدى الناس ) إشارة الى ان هذا الفساد والاعوجاج الذى ظهر على هذه الأرض هو مما كسبته ايدى الناس ، فهو من صنعهم ، ومن فعل إرادتهم الحرة ، ولهذا فهم محاسبون عليه مؤاخذون به)(49)
ويشغل الحديث عن الأمم السابقة حيزاً كبيراً فى القرآن الكريم ، حتى إنه اخذ مساحة كبيرة تمثل الربع تقريباً ، وذلك راجع لأهمية عرض أحداث التاريخ امام البشر لأخذ العبرة وربط النتائج بالأسباب ، والأشباه بالنظائر ، ولتوجيه الإنسان لمعرفة السنن الإلهية المضطردة فى بناء الحضارات وخرابها ، وفى تقدم الأمم وتخلفها ، ولاعطائه الوقود الروحى الكافى كى يتحرك ويأخذ بالأسباب المتاحة ، والوسائل المتوفرة حتى يحقق مهمة الخلافة وعمارة الأرض التى كلف بها.
وكثيراً ما يأتى قوله تعالى : ( تلك امة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون ) [البقرة :134] فى سياق السرد التاريخى لرسالات الأنبياء التى لم تعرف سوى العمل المتواصل ، والجهد المستمر ، تحقيقاً للنفع ، ودفعاً للضرر ، وربطاً للأرض بالسماء ، والمادة بالروح ، كما فى قوله تعالى : ( وإذ رقع ابراهيم القواعد من البيت واسماعيل ربنا تقبل منا انك انت السميع العليم ) [البقرة : 127] ، وفى قوله تعالى : ( قل اتحاجوننا فى الله وهو ربنا وربكم ولنا اعمالنا ولكم اعمالكم ونحن له مخلصون) [البقرة:139]
وتأتى كلمة الكسب وكلمة العدل وما كان فى معناهما فى سايق حيدث القرآن عن التاريخ لبيان الأهمية الكبرى للجهد البشرى فى صناعة التاريخ ، ولإبعاد فكرة (الجبر) عن الناس حتى لا تأخذ طريقها الى عقولهم وقلوبهم ، فتبعث فيهم السلبية والركون ، وتكبلهم بأغلال العجز والقعود ، قال تعالى : ( يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً إنى بما تعلمون عليم) [ المؤمنون :51] ، وقال تعالى : ( ومن آياته خلق السماوات والأرض وما بث فيهما من دابة وهو على جمعهم إذا يشاء قدير وما اصابكم من مصيبة فبما كسبت ايديكم ويعفوا عن كثير )[الشورى : 29 -30] ، وقال تعالى ايضا: ( قالوا أوذينا من قبل ان تأتينا ومن بعد ما جئتنا قال عسى ربكم ان يهلك عدوكم ويتسخلفكم فى الأرض فينظر كيف تعلمون )[ الأعراف : 129]
فالتاريخ هو عمل وكسب ، وحركة ونشاط ، وهو سلسلة من الأسباب والأحداث التى تصنع بجهد البشر ، (وإن صنع الأسباب يكون بالاختيار لا بالحتم ، كما ان الإنسان حين يغفل عن سنن الله ، فإن سنن الله لا تغفل ان تأخذ طريقها دون شعور من الإنسان الغافل ، وحينئذ لن يتمكن الإنسان ان يرى للتاريخ أسباباً وإنما يرى أحداث حتمية ، لا دخل لجهد الإنسان فيها ، فمن هذه النظرة تنشأ (القدرية) ، ويتبين مما قدمنا ان القرىن يؤكد تدخل جهد البشر فى صناعة أحداث التاريخ ، بمقدار وضوح هذه الحقيقة فى آيات القرآن فإنها غامضة بالنسبة للمسلمين(50)
يقول سيد قطب – رحمه الله – فى التفسير الإسلامى للتاريخ : ( هو التفسير الذى جعل ( الإنسان ) – ومن ورائه قدر الله – هو المؤثر الأول فى خط سير التاريخ ، وفى الأطوار التى تنقلب فيها الحياة ، والذى يجعل كل تغيير وكل تطور إنما يبدأ أولاً فى ضمير الإنسان وعقله ، ثم يتخذ طريقه للتحقق فى عالم الواقع ، باعتبار أن الإنسان هو الكائن المستخلف فى هذه الأرض ، الذى ينفذ قدر الله فى الأرض ، وفى الحياة الأرضية من خلال نشاطه الشعورى والحركى . . . والدليل على هذا هو الواقع التاريخى الذى أنشأه الرسول صلى الله عليه وسلم(51)
وقال فى مكان أخر مبينا أهمية الجهد البشرى فى صنع التاريخ : ( هناك حقيقة أولية عن طبيعة هذا الدين وطريقة عمله فى حياة البشر ، حقيقة أولية بسيطة مع بساطتها كثيراً ما تنسى ، أو لا تدرك ابتداء . فينشأ عن نسيانها او عدم إدراكها خطأ جسيم فى النظر الى هذا الدين : حقيقة الذاتية وواقعه التاريخى ، حاضره ومستقبله كذلك ، إن البعض ينتظر من هذا الدين مادام منزلاً من عند الله ، إن يعمل فى حياة البشر بطريقة سحرية خارقة غامضة الأسباب ، ودون اى اعتبار لطبيعة البشر ولطاقاتهم الفطرية ، ولواقعهم المادى فى أية مرحلة من مراحل نموهم ، وفى أية بيئة من بيئاتهم ، وحين لا يرون أنه يعمل بهذه الطريقة ، وحين يرون ان الطاقة البشرية المحدودة ، والواقع المادى للحياة الإنسانية ، يتفاعلان معه فيتأثران به – فى فترات – تأثيراً واضحاً ، على حين انهما فى فترات اخرى يؤثران تأثيراً مضاداً لاتجاهه . . . وحين يرون هذا فإنهم يصابون بخيبة امل لم يكونوا يتوقعونها ، أو يصابون بخلخلة فى ثقتهم بجدية لمنهج الديتى وواقعيته ، او يصابون بالشك فى الدين إطلاقاً، وهذه السلسلة من الأخطاء تنشأ كلها من خطأ واحد اساسى ، هو عدم إدراك هذا الدين وطريقته او نسيان هذه الحقيقة البسيطة الأولية(52) .
والقضية المهمة التى يشير إليها سيد قطب فى ثنايا كلامه هى ان تعطيل الطاقة البشرية ، والتقليل من أهمية الجهد البشرى فى صناعة التاريخ من شأنهما ان يساهما فى إنعدام الفاعلية عند الناس وبخاصة أولئك الذين يحملون رسالة تغييرية حضارية لإسعاد البشرية.
إن فهم أحداث التاريخ بهذا التاريخ بهذا الشكل الذى يتدخل فيه جهد البشر ، يساهم مساهمة كبيرة فى إيجاد شرط اساسى من شروط الفعالية ، وذلك لأن ذهه النظرة لا تؤدى الى نتائج نظرية فحسب ، بل تتداخل فى تكييف سلوك الإنسان امام الأحداث ، وتضع الإنسان فى المكان المناسب له فى هذا الكون(53) .
وفى السنة النبوية منهج واضح يبين العلاقة بين التاريخ وحركة الإنسان فيه ، وعلى غرار القرآن الكريم يضع الرسول صلى الله عليه وسلم الإنسان فى مكان يليق به كمستخلف فى هذه الأرض ، ونراه يوجهه نحو العمل وبذل الجهد لصناعة التاريخ الذى يرضى عنه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وينهاه عن الكساد والتواكل ، والركون الى فلسفات العجز التى تفسر القضاء والقدر تفسيراً خاطئاً يجعل الإنسان ريشة فى مهب الريح ، جاء فى صحيح مسلم ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ذات يوم جالساً وفى يده عود ينكت به ، فرفع رأسه فقال : ( ما منكم من نفس إلا وقد علم منزلها من الجنة والنار ). وقالوا : يا رسول الله : فلم نعمل ؟ ألا نتكل ؟ قال : لا اعملوا فكل ميسر لما خلق له )(54)
وفى السنن انه ( قيل : يا رسول الله : أرأيت أدوية نتداوى بها ، ورقى نسترقى بها ، وتقاة نتقيها ، هل ترد من قدر الله شيئاً ؟ ، فقال : ( هى من قدر الله) . ولهذا قال العلماء : ( الالتفات الى الأسباب شرك فى التوحيد ، ومحو الأسباب أن تكون اسباباً تغير فى وجه العقل ، والإعراض عن الإسباب بالكلية قدح فى الشرع)(55)
إن إنكار الأسباب الذى مؤداه التقليل من قيمة العمل هو قدح فى الشرع كما يقول ابن تيمية – رحمه الله – وهو إضافة الى ذلك جهل الشرع ي*** عجزاً يقيد النشاط ويعطل الحركة ، ويؤدى الى فقد الوجود الاجتماعى ، روى ابو داود فى سننه ان النبى صلى الله عليه وسلم قضى بين رجلين فقال المقضى عليه : حسبى الله نعم ال**** ، فقال النبى صلى الله عليه وسلم ( إن الله يلوم على العجز ، ولكن عليك بالكيس ، فإن غلبك امر فقل : حسبى الله ونعم ال****)(56)
فهذا الرجل الذى وجهه الرسول صلى الله عليه وسلم الى الاعتماد على وسائله المتاحة ، والتحرك ضمن الدائرة التى يملك فيها حرية الحركة باختياره وإرادته ، وأمره بترك العجز ، فإذا فقد هذه الوسائل بعد تقديمه للجهد والطاقة المطلوبين اصبح ضمن الدائرة التى يملك فيها حرية الحركة باختياره وإرادته ، وأمره بترك العجز ، فإذا فقد هذه الوسائل بعد تقديمه للجهد والطاقة المطلوبين اصبح ضمن دائرة أخرى لا يملك فيها سوى التسليم والخضوع لقضاء الله تعالى ، وفى هذا الموقف ينسجم قوله (حسبى الله ونعم ال****) مع عمله وفعله.
وروى ابو عبد الرحمن السلمى قال : حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن ، كعثمان بن عفان ، وعبد الله بن مسعود ، وغيرهما : أنهم كانوا إذا تعلموا من النبى صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم بجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل ، قالوا : فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعاً(57)
لقد كان العمل عنصرا اساسياً فى التربية النبوية لكونه عاملاً يجسد القيم الى حقائق واقعية ، ولأهميته الأكيدة فى عملية البناء والتكوين الحضارى ، ومن هنا حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على ربط المفاهيم بالعمل ، والعقائد بالسلوك ، وكان هذا كله منبثقاً من فهمه للمنهج القرآنى الذى يرى ان التاريخ صناعة بشرية بقضاء الله وقدره ، وأن الإنسان هو المنفذ الحقيقى للقضاء والقدر ، وأنه يجب عليه ان يعمل بفاعلية مع له لديه من وسائل لتحقيق المنافع ، و*** المصالح التى يقتضيها الإستخلاف وعمارة الأرض.
2. قيمة الإنسان فى الإسلام :
إن موضوع (قيمة الإنسان فى نظر الإسلام ) له علاقة وطيدة بالموضوع السابق ( التفسير الإسلامى للتاريخ ) لأن صناعة التاريخ تقتضى وجود صانع فعال ، ومحرك رئيس للأحداث ، وهو الإنسان الذى يختلف حضوره الاجتماعى من مجتمع الى مجتمع ، ومن بيئة الى بيئة حسب تكوينه الثقافى ، وحسب التوجيه الذى يخضع له.
فالإنسان باعتباره صانعاً للتاريخ او باعتباره معطلاً له ، هو العنصر والمقوم الحضارى الأول الذى اهتمت به جميع الرسالات الروحية ، والفلسفات المادية قديماً وحديثاً ، فهو البانى للحضارات ، والمؤثر الحقيقى فى سير المدنيات ، وهو ايضا المتسبب الرئيس فى جميع المشكلات التى تواجه الأمم والمجتمعات.
إن مشكلة كل شعب هى فى جوهرها مشكلة الإنسان بالدرجة الأولى ( ولا يمكن لشعب ان يفهم او يحل مشكلته ما لم يرتفع بفكرته الى الأحداث الإنسانية ، وما لم يتعمق فى فهم العوامل التى تبنى الحضارات او تهدمها ، وما الحضارات المعاصرة ، والحضارات الضاربة فى ظلام الماضى ، والحضارات المستقبلة إلا عناصر للملحمة الإنسانية منذ فجر القرون الى نهاية الزمن ، فهى حلقات لسلسلة واحدة تؤلف الملحمة البشرية منذ أن هبط آدم على الأرض الى آخر وريث له فيها ، ويا لها سلسلة من النور ، تتمثل فيها جهود الأجيال المتعاقبة فى خطواتها المتصلة فى سبيل الرقى والتقدم(58)
وإذا كان الإنسان هو المؤثر الحقيقى فى سير احداث التاريخ ، فقد اختلفت المذاهب والنظريات الدينية والوضعية وغيرها من الفسلفات البشرية فى كيفية التعامل مع هذا الكائن المتميز ، وكيفية توجيهه التوجيه الذى يحقق له قيمته الاجتماعية .
وتميزت النظرة الإسلامية عن غيرها من النظريات والمذاهب الأخرى ، حيث رأت فى الإنسان كائناً مستحقاً للتكريم الإلهى منذ الخلق الأول ، وكائناً له قيمة فى الحياة بما يقوم به من دور اجتماعى بناء يساهم فى البناء الحضارى ، ويحقق السمو للنوع البشرى ، وإذا تخلف هذا الإنسان عن اداء دوره المنوط به فإن الإسلام ينزله من قمة التشريف والتكريم الى اسفل سافلين ، وهذا ما دلت عليه الآيات فى قوله تعالى : ( لقد خلقنا الإنسان فى احسن تقويم ثم رددناه اسفل سافلين إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير منون) [ التين : 4 -6 ]
فالإنسان فى نظر الإسلام له قيمتان : ( قيمته كإنسان ، وقيمته ككائن اجتماعى ، قيمة توهب له فى طينته بما وضع الله فيها من تكريم ، وليس لظرف من الظروف ، ولا لأحد من الناس ان يغير منها شيئاً كما انه لا يمكن لآى ظرف ان يغير شيئاً من خصائص عينة الزنك ، وقيمة اخرى تعطى له بعمليات اجتماعية معينة ، تماما كما تعطى العمليات الصناعية لعينة من الزنك فيمتها العملية ، وبعبارة أخرى إن الأنسان يمثل معادلتين , معادلة تمثل جوهره كإنسان صنعه من أثقن كل شىء صنعه , ومعادلة ثانية ثمثله ككائن اجتماعى يصنعه المجتمع ؛ ومن الواضح أن هذه المعادلة الأخيرة هى التى تحدد فعالية الإنسان ، كإنسان فى جميع أطوار التاريخ لا يتغير فيه شئ ، بل تتغير فعاليته من طور الى طور(59) .
إن القيمة الأولى هبة من الله , لكن ليس لها علاقة بفاعلية الإنسان فى الأرض ، لأنها تمثل تكريماً إلهياً يعطى الإنسان الاستعداد الضرورى لأداء الدور ، ويبقى العمل بفاعلية لأداء هذا الدور منوطاً بالإنسان نفسه ، فقد خلق الإنسان مزوداً بالعقل ، ومسلحاً بالإرادة ، وفوق ذلك كله سخر له الكون ، ومهدت له الأرض ، ووضعت أمامه السنن ، كى يؤدى وظيفته ، قال تعالى : ( لقد خلقنا الإنسان فى أحسن تقويم ) [التين :4] ، وقال تعالى ايضا : ( ولقد كرمنا بنى آدم وحملناهم فى البر البحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً ) [الأسراء : 70] ، وقال تعالى ايضاً : ( ولقد مكناكم فى الأرض وجلعنا لكم فيها معايش قليلاً ما تشكرون) [الأعراف : 10]
أما القيمة الثانية فهى التى تزود الإنسان بالفاعلية والعزم لأداء دوره ووظيفته ، لأنها قيمة تتعلق بالرسالة الاجتماعية التى يقوم بها فى الحياة ، ومن هنا قوم الإسلام الإنسان على أساسها ، وربط مصيره الدنيوى والأخروى بها ، قال تعالى : ( والعصر إن الإنسان لفى خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر) [ العصر : 1- 3]
إن الإنسان من خلال هذه الأبيتا ليس له قيمة تذكر ، بل هو فى خسر وضلال حتى يؤمن ويعمل صالحاً ويتزود بالأخلاق والقيم المشروعة ، وهذا كله يعبر عنه بالحضور الاجتماعى الذى يحقق مصلحة الإنسان ومصلحة مجتمعه ، فالإنسان مكلف بأداء رسالة فى مجتمع ، وإذا تخلى عن هذه الوظيفة فقد أبرز المقومات فى البناء ولن تفيده شيئاً فى حياته ومسيرته الحضارية .
ويأخذ حديث القرآن عن رسالة المسلم الاجتماعية طابع التنوع والإسهاب ، لأهمية هذا المبدأ فى بناء التصور الإسلامى عن الإنسان وعلاقته بالكون الذى من حوله ، فكثيراً ما يعرض الإيمان مقروناص بالعمل ، والعقيدة ممزوجة بالسلوك ، ويرفع فى اثناء ذلك من قيمة العمل الصالح الذى يمثل الوظيفة الاجتماعية ، ويجعله سبباً للنجاح الدنيوى والأخروى ، وأساساً للاستحقاق والرفعة ، قال تعالى : ( كنتم خير امة اخرجت للناس تأمرون بالمعروف ، وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ) [ آل عمران : 110] وقال تعالى ايضا : ( ولتكن منكم امة يدعون الى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هو المفلحون) [ آل عمران : 104]
والمعروف فى أعم صورة ، والمنكر فى اشمل معانية ، يكونان جوهر الأحداث التى تواجه المسلم يومياً كما يكونان لب التاريخ(60)، ومن هنا حرص القرآن على تذكير المسلم برسالته دائماً ، وحثه على اداء هذه الرسالة الاجتماعية بفعالية ليكون عنصراً إيجابياً يحقق الخير والنفع للبشرية فى جميع مستويات الحياة ، قال تعالى : ( يا يحيى خذ الكتاب بقوة ) [ مريم : 12] وقال تعالى ايضا: (فاستبقوا الخيرات) [ البقرة :148] وقال تعالى ايضاً : ( وسارعوا الى مغفرة من ربكم ) [ آل عمران:133] .
وفى السنة النبوية أحاديث كثيرة تبين أهمية البعد الاجتماعى لدور المسلم ورسالته الحضارية ، فكثيراً ما وجه الرسول صلى الله عليه وسلم المسلم لأداء وظيفته بتقديم الجهد المطلوب ، والعمل الصائب ، وفضل صلى الله عليه وسلم المسلم الفعال على المسلم غير الفعال ، قال عليه الصلاة والسلام : ( المؤمن القوى خير واحب الى الله من المؤمن الضعيف ، وفى كل خير ، أحرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز)(61) وقال صلى الله عليه وسلم : ( من رأى منكم منكراً فليغيره بيده ، فإن لم يتسطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان)(62)
وقيمة العمل فى المنهج النبوى – أيضاً – لا تضاهيها قيمة ، لأن العمل هو الحركة فى الحياة ، وهو الذى يجسد الحقائق النظرية فى قوالب تطبيقية تعود بالخير والنفع على الإنسان ومجتمعه ، قال صلى الله عليه وسلم : ( مثل ما بعثنى الله به من الهدى والعلم ، كمثل غيث أصاب أرضاً فكانت منها طائفة قبلت الماء فأنبتت الكلآ والعشب الكثير ، وكان منها أجادب امسكت الماء فنفع الله بها الناس ، فشربوا ، وسقوا ، وزرعوا ، وأصاب منها طائفة أخرى ، إنما هى قيعان لا تمسك ماء ، ولا تنبت كلأ ، فذلك مثل من فقه فى دين الله ، ونفعه ما بعثنى الله به ، فعلم وعمل . . . ومثل من لم يرفع بذلك رأساًًَ)(63)
وهو المنهج الذى تبناه أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم ، فقد روى عن عبد الله بن عمر – رضى الله عنهما – أنه قال : كان الفاضل من اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فى صدر هذه الأمة ، لا يحفظ من القرآن إلا سورة أو نحوها ، ورزقوا العمل بالقرآن ، وأن آخر هذه الأمة يقرأون القرآن ، منهم الصبى والأعمى ولا يرزقون العمل به )(64)
ويظهر هذا المبدأ بوضوح فى الحديث الذى رواه الإمام احمد فى مسنده قال : ذكر النبى صلى الله عليه وسلم شيئاً فقال : ( وذلك عند ذهاب العلم) قلنا : يا رسول الله ، كيف يذهب العلم ، ونحن قرأنا القرآن ، ونقرئه أبنائنا ، وأبناؤنا يقرئونه أبنائهم ؟ فقال : ( ثكلتك أمك يا ابن لبيد ، إن كنت لأراك من أفقه رجل فى المدينة ، أوليست هذه اليهود والنصارى بأيديهم التوراة والإنجيل ، ولا ينتفعون مما فيها بشئ)(65)
إن العجز المقصود فى هذا الحديث هو (عدنم القدرة على الإفادة من المنهج النبوى ، فى مجال التغيير والبناء الحضارى . . . والأزمة الحقيقة التى نعانى منها ، أو الأزمة الفكرية هى أزمة فهم عملى ، وأزمة تعامل مع قيم الكتاب والسنة ، وتحويلها الى برامج ، من خلال مسيرة السيرة النبوية ، أو بكلمة مختصرة : أزمة تعامل مع معرفة الوحى بشكل عام ، أو استيعاب المنهج النبوى فى البناء والتغيير )(66).
والإنسان حين يفقد قيمته الإجتماعية يتحول من إنسان فعال ، الى كائن عاجز لا يحسن استثمار الوسائل التى بين يديه فى تحصيل احسن النتائج ، لأنه فقد اساساً حسن التعامل مع السنن الإلهية ، ويصبح حينئذ عالة على المجتمع(67) ، وهذا العجز هو الذى تشير إليه الاية القرآنية : ( أفمن يمشى مكباً على وجهه أهدى أمن يمشى سوياً على صراط مستقيم) [ الملك : 22]
لقد ذكرنا – فيما سبق – أن البعد الاجتماعى فى حياة الإنسان هو الذى يمنحه الفاعلية والتوتر اللازمين للقيام بدوره ورسالته ، فنراه ينقلب من إنسان خارج التاريخ الى إنسان صانع للتاريخ ، ويبقى السؤال الملح ، ما هى الظروف التى تجعل المجتمع يمنح الفرد القيمة التى تبعث فيه الفاعلية ؟
يقول مالك بن نبى – رحمه الله - : ( إن المجتمع يكون احياناً فى حالة ركود وكساد ، ولو أننا قد حللنا فى مثل هذه الحالة الوضع النفسى الذى يكون عليه الفرد فإننا نراه يتمتع بصورة واضحة بشعور الاستقرار ، فلا يحتويه اى قلق ، وبالتالى فإنه لا يبذل أى محاولة لتغيير الوضع من حوله : إذ تسير الأشياء والحوادث دونما تدخل من إرادته ، وهنا يصبح التاريخ سيلاً يجرفه الى حيث لا يدرى مستسلماً له الاستلام المطلق ، فإذا ما حدثت فى المجتمع حالة جديدة غيرت هذه الأوضاع كلها ، فإن موقف الإنسان هنا يتغير امام الحوداث والأشياء ، وبالتالى يتغير مجرى التاريخ)(68)
وحالة القلق هذه التى يتحدث عنها مالك هى ظاهرة إيجابية ضرورية فى اى إقلاع حضارى ، فهى تشبه التيار الكهربائى الذى ينطلق فى الجهاز السليم فيبعث الحياة فى كامل اجزائه ، اما كيف نصل الى هذا المستوى من القلق الذى سيكون سبباً فى الفاعلية التى تشمل جميع افراد المجتمع ، فهذا ما سنحاول الإجابة عنه فى فصل قادم – إن شاء الله تعالى .
ويبقى ان نشير الى ان السيرة النبوية تمثل نموذجاً لقيمة المسلم الفردية ، وقيمته الاجتماعية ، فالرسول صلى الله عليه وسلم قبل البعثة لم يكن سوى إنسان ضال ، أى بلا رسالة فى الحياة ( ووجدك ضالاً فهدى) [ الضحى :7] ، وأما ما ذكر التاريخ من قيم أخلاقية تجسدت فى شخصه صلى الله عليه وسلم فلم يكن لها سوى بعد فردى ، لقد كان إنساناً خارج التاريخ حتى إن كتب السير والتاريخ حتى ان كتب السير والتاريخ اعطتنا صورة مقتضبة لفترة تقدر بأربعين سنة ، بل انها فى كثير من الأحيان تعجز عن ذكر أية أحداث خلال سنوات كثيرة من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم(69) ولا تحسبن ان هذا يعد نقصاً فى السيرة النبوية ، ولا تقصيراً من الناقلين والمؤرخين ، لأن السنن الإلهية تجعل ميلاد العظماء ساعة يحملون رسالة التغيير والبناء فى الحياة ومن هنا يبدأ التاريخ.
لقد دخل الرسول صلى الله عليه وسلم التاريخ ساعة كلف بالرسالة فأصبح بذلك إنساناً آخر يتحرك فى مجتمع ، يربى ويوجه ، ويقوم ويبنى ، ويسعى بكل ما لديه من طاقة فى سبيل تحقيق رسالته فى الحياة ، قال تعالى : ( يا أيها المدثر قم فأنذر) [ المدثر : 1 ، 2] ، وقال تعالى : ( إنا سنلقى عليك قولاً ثقيلاً) [ المزمل : 5]
فالقيام لأداء اعباء الرسالة التى عبر عنها فى الآية الكريمة بالقول الثقيل ، يحتاج الى جهد كبير ، وعمل دؤوب وفاعلية متوقدة ، وهذه هى الأبواب التى يدخل منها الى التاريخ.
وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم بعد حمل الرسالة مثالاً رائعاً للإنسان المستخلف ذى القيمة الاجتماعية التى تحقق الخير والنفع للمجتمع ، وللإنسان العامل الفعال الذى يعمل للدنيا والأخرة بثقة وعزم ، واضعاً امام عينية هداية السماء ، وإعانة الله ، وبين يديه اسباب النصر والنجاح ، حتى ترك لنا تاريخاً شهد له الأعداء قبل الأصدقاء بالفضل والخيرية ، واستحق صلى الله عليه وسلم بذلك تزكية الله له عل مر القرون والأجيال ( لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً) [الأحزاب : 21]
3. فاعلية الرسول صلى الله عليه وسلم
يعد الأنموذج الإسلامى الذى مثله الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته من بعده خير مثال يمكن ان تنطلق منه لتفسير الظروف الاجتماعية والنفسية التى حدثت لتلك الفئة المؤمنة ، فى بيئة لم تكن تملك من مبررات الانطلاق ، وعوامل النهضة ، وشروط التحضر شيئاً ، حتى حدثت تلك ( الثورة) التى هزت المشاعر الجامدة ، وفجرت الطاقات المكبلة ، فانطلقت النفوس مزودة بفاعلية فى الفكر والعمل لتغير مجرى التاريخ ، ولتمد الإنسانية بفيض من القيم المادية والروحية مشكلة الأنموذج الحضارى ، الذى يتطلع إليه كل إنسان سليم القلب والروح.
لقد كانت الفاعلية من أبرز الخصائص الإجتماعية والنفسية للمجتمع الإسلامى فى تلك الفترة ، وكانت توجيهات القرآن ، وتطبيقات الرسول صلى الله عليه وسلم هى الوقود الذى يمنح النفوس المؤمنة تلك القوى الانفجارية التى غيرتها فجأة من حال الى حال ، من حال الركود الى حالة الحركة ، ومن حال الجمود والسبات الى حال العمل والنشاط.
وما من ريب أن تأثير القرآن كان له اكبر الأثر فى حدوث التغيير الذى غير مسار التاريخ ، وبخاصة انه اختار الزمان والمكان المناسبين ، ونزل فى بيئة تحترم الكلمة ، وتقدس الأدب ، فكان أن (سحر العرب منذ اللحظة الأولى ، سواء منهم فى ذلك من شرح الله صدره للإسلام ، ومن جعل على بصره منهم غشاوة ، وإذا تجاوز عن النفر القليل الذين كانت شخصية محمد صلى الله عليه وسلم وحدها هى داعيتهم الى الإيمان فى أول الأمر ، كزوجة خديجة ، وصديقه ابى بكر ، وابن عمه على ، ومولاه زيد وأمثالهم ، فإننا نجد القرآن كان العامل الحاسم أو أحد العوامل الحاسمة فى إيمان من آمنوا أوائل أيام الدعوة(70) قال تعالى : ( وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدرى ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نهدى به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدى الى صراط مستقيم) [ الشورى :52]
وتسمية القرآن بالروح لها دلالات اجتماعية ونفسية ، على اعتبار ان الروح هى التى تمنح الحياة للجسد ،ولا قوام له إلا بها ، وكذلك القرآن الذى يبعث فى النفوس روحاً فيهبها الحياة ويحييها من جديد( أو من كان ميتاًَ فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشى به فى الناس)[الأنعام : 122] الى جانب وجود الرسول صلى الله عليه وسلم الاجتماعى كان له دور كبير فى إيمان واستجابة كثير من الناس قال تعالى : ( ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك) [آل عمران: 159] وقال ايضا ( محمد رسول الله والذين معه اشداء على الكفار رحماء بينهم) [الفتح :29]
لقد كان صلى الله عليه وسلم بتطبيقه العملى لتوجيهات الوحى يعلم ان الرسالة التى كلف بتبليغها ، هى رسالة تحتاج الى جهد وعمل ، وقيام وحركة ، وعلم انه مسؤول عن التلبيغ ومقتضياته ، فلم يلبث ان تسلح بسلاح الفاعلية وانطلق بإيمانه وعقيدته يصنع التاريخ مع الفئة التى آمنت برسالته ، واقتنعت بمبدئه ، كانت الأهداف التى يصبو إليها صعبة المنال – بل مستحيلة فى نظر العيان الساذج – ولكن صدق المبدأ ، وقوة الحرص عليه ، أبعدتا العجز والكسل عن ان يكون لهما طريق الى الحسن والشعور وبهذه الفعالية المكتسبة من تعلميات الوحى استطاع الرسول صلى الله عليه وسلم بتأييد من الله ان يحقق مع الفئة القليلة التى كانت معه النصر تلو النصر ، والنجاح تلو النجاح حتى ظن كثير من الناس ممن يجهل سنن الله فى الكون ان الخوارق والمعجزات تدخلت لتعمل بطريقتها *****ة الخارقة فى صنع الأحداث ، وتوجيه التاريخ ، الذى عرفته تلك الفترة من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم .
إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقدم سوى الجهد البشرى المطلوب ، ولم يعمل وإلا وفق سنة الله فى التغيير والبناء ، فقد اقتضت هذه السنة أن من يعمل ويجتهد يصل الى شئ ( من كان يريد الحيوة الدنيا وزينتها نوف إليهم اعمالهم فيها وهم فيها يبخسون)[هود : 15] . . وإن كانت سنته قد اقتضت كذلك ان يضيع هذا الشئ فى النهاية ما لم يسر فى الطريق الذى رسمه الله(71)
وقد تحدثنا ـ فيما سبق ـ أن الإسلأم يحرم الإنسان بقيمته الإجتماعية لإنه خليفة الله فى الأرض , فكهذا اقتضت إرادة الله , وهكذا فهم الرسول عن ربه بأن الإنسان هو القوة العاملة فى هذا الوجود , وهو الذى يغير الواقع , وهو الذى ينشىء النظم ويقوم الأوضاع , فهو القوة الإيجابية فى الأرض ذات اللحظة التى يسلم كيانه كله لله , بل من هذا الإسلام الكامل لله , يستمد الإنسان طاقته الإيجابية كلها فى الأرض(72) ومن هذا الفهم تكتسب صلى الله عليه وسلم فاعليته التى تجسدت فى عمله الصائب المخلص.
إن المتأمل فى السيرة النبوية فى كل حلقة من حلقاتها يدرك مدى الجهد الذى بذله الرسول صلى الله عليه وسلم فى سبيل انجاح رسالته ، وتجلى ذلك واضحاً فى جميع المستويات الدينية والدنيوية ، قال الرازى : (إنه عليه السلام تحمل فى اداء الرسالة انواع المشاق والمتاعب ، فلم يتغير عن المنهج البتة ، ولم يطمع فى مال أحد ، وفى جاهه ، بل صبر على تلك المشاق والمتاعب ولم يظهر فى عزمه فتور ، ولا فى اصطباره قصور(73).
وهذا هو الجهاد بمعناه الواسع الذى ورد فى قوله تعالى : ( وجاهدوا فى الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم فى الدين من حرج) [الحج :78] ، وهو بمعنى : ( استفراغ الطاقة لتحقيق الأهداف التى توجه إليها الرسالة الإسلامية فى ميادين الحياة الفكرية والاجتماعية والاقتصادية والعلمية والعسكرية وغيرها فى أوقات السلم والحرب سواء . . . فهو : ( تكنولوجيا الإسلام) التى توفر العمل والإنتاج فى أوقات السلم ، والمنعة فى أوقات العدوان(74)
فالجهاد ليس مقصوراً على (القتال) فقط – وقد ترسب فى اذهان كثير من المسلمين اليوم ان الجهاد هو القتال بالسيف – بل هو نوع من الفاعلية التى تشمل جميع ميادين الحياة ،وهو الشئ الذى تمثل فى سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ، منذ اليوم الذى كلف فيه بأداء الرسالة ، يقول ابن قيم الجوزية – رحمه الله – فى هديه صلى الله عليه وسلم فى الجهاد : ( لما كان الجهاد ذروة سنام الإسلام وقبته ، ومنازل أهله أعلى المنازل فى الجنة ، كما لهم الرفعة فى الدنيا ، فهم الأعلون فى الدنيا والآخرة ، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الذروة العليا منه ، واستولى على انواعه كلها ، فجاهد فى الله حق جهاده بالقلب ، والجنان ، والدعوة ، والبيان ، والسيف ، والسنان ، وكانت ساعاته موقوفة على الجهاد بقلبه ، ولسانه ، ويده ، ولهذا كان أرفع العالمين ذكراً ، وأعظم عند الله قدراً(75)
ثم يتحدث ابن القيم عن جهاده صلى الله عليه وسلم خلال مسيرة الدعوة ، ويورد صوراً حية كثيرة تدل كلها على الفاعلية المتوهجة التى كان يتميز بها صلى الله عليه وسلم ومدى صبره وقوة بأسه فى مواجهة المشكلات التى تعترض طريق الرسالة.
عن جابر ان النبى صلى الله عليه وسلم لبث بمكة عشر سنين يتبع الناس فى منازلهم فى المواسم ، ومجنة ، وعكاظ ، يقول : ( من يؤوينى؟ من ينصرنى ، حتى أبلغ رسالات ربى ، وله الجنة ، فلا يجد أحداً ينصره ولا يؤويه ، حتى ان الرجل ليرحل من مضر او اليمن الى ذى رحمه ، فيأتيه قومه فيقولون له : ( أحذر غلام قريش لا يفتنك ، ويمشى بين رجالهم ويدعوهم الى الله عز وجل ، وهم يشيرون إليه بالأصابع ، حتى بعثنا الله من يثرب ، فيأتيه الرجل منا فيؤمن به ويقرئه القرآن ، فينقلب الى اهله ، فيسلمون بإسلامه ، حتى لم يبق دار دور الأنصار إلا وفيها رهط من المسلمين يظهرون الإسلام ، وبعثنا الله إليه ، فأتمرنا واجتمعنا وقلنا : حتى متى رسول الله صلى الله عليه وسلم يطرد فى جبال مكة ويخاف ، فرحلنا حتى قدمناه عليه الموسم ، فواعدنا بيعة العقبة ، فقال له عمه العباس : يا ابن أخى . ما ادرى ما هؤلاء القوم الذين جاؤوك ، إنى ذو معرفة بأهل يثرب ، فاجتمعنا عنده من رجل ورجلين ، فلما نظر العباس فى وجوهنا ، قال : هؤلاء قوم لا نعرفهم ، هؤلاء أحداث ، فقلنا : يا رسول الله علام نبايعك ؟ قال : ( تبايعونى على السمع والطاعة ، فى النشاط والكسل ، وعلى النفقة فى العسر واليسر ، وعلى الأمر بالمعروف ، والنهى عن المنكر ، وعلى ان تقولوا فى الله لا تأخذكم لومة لائم ، وعلى ان تنصرونى إذا قدمت عليكم ، وتمنعونى مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ولكم الجنة)(76)
فهذا نموذج واحد من سيرته صلى الله عليه وسلم المليئة بالعطاء والجهد ، والفاعلية والحزم ، وقد اخترناه فى هذا المقام للدلالة على جوانب من جهاده وحرصه على التزام انصاره واتباعه بالقيم والمبادئ التى يتبناها كما هو من ظاهر فى شروط البيعة مع الأنصار ، فقد اشترط عليهم السمع والطاعة والإنفاق لتحقيق الوحدة والتكامل فى شبكة العلاقات الاجتماعية ، وطلب منهم القيام بواجب الجهاد الذى يتمثل فى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، وقول الحق ، ونصرة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وكل هذا يمثل جوهر الأحدث اليومية التى تحقق للمجتمع تماسكه واستقراره ، ورضوخه لمنهج الإسلام فى عمارة الأرض ، وإسعاد البشرية.
ونخلص من هذا البحث الى ان فاعلية الرسول صلى الله عليه وسلم حقيقة تاريخية نتج عنها أبرز الحضارات التى عرفها التاريخ البشرى ، من حيث تميزها فى جميع المستويات ، ومن حيث ربطها بين المادة والروح ، والدنيا والأخرة، وإعطاء الإنسان المكانة التى يستحقها ، وان الواجب الذى ينتظر ابناء الأمة الإسلامية اليوم هو الاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم فى هذه القيم التى تبنى الحضارات ، وتصنع التاريخ ، وبخاصة فى مبدأ الفاعلية الذى يعد فى واقعنا المعاصر أحد الأسباب الأساسية فى نهضة أية أمة .
إن الاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم سينتج عند ابناء الأمة المبررات الكافية للعمل والحركة لأداء رسالتهم الحضارية فى هذه الحياة وسيرته صلى الله عليه وسلم ينبغى ان تمتزج بعقولهم وقلوبهم لما فيها من معالم هادية ، يقول محمد عبد الله دراز – رحمه الله -: ( ما ظنك بهذه الحياة النبوية التى تعطيك فى كل حلقة من حلقاتها مرآة صافية لنفس صاحبها ، فتريك باطنه من ظاهره ، وتريك الصدق والإخلاص ماثلاً فى كل قول من أقواله ، وكل فعل من افعاله ، بل كان الناظر إليه إذا قويت فطنته ، وحسنت فراسته ، يرى اخلاقه العالية تلوح فى محياه ولو لم يتكلم او يعمل (77)
4. فاعلية الجيل الفريد :
ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاته جيلاً فريداً من البشر اجتمعت فيهم جميع خصائص الخيرية والفضل ، والوسطية والعدل ، وكان قرنهم خير القرون ، وجيلهم من احسن الاجيال التى عرفها التاريخ الإسلامى ، فقد قال صلى الله عليه وسلم : ( خير القرون قرنى ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم(78)
وتميز هذا الجيل من الصحابة ، واختصاصهم بالخيرية والفضل فى الزمان والمكان ، امر افرزته اسباب كثيرة لم تتوفر لغيرهم من الأجيال ، نذكر منها وجود النبى صلى الله عليه وسلم بشخصه بينهم ، فقد كان اسوتهم فى كل شئ ، وكانوا يستمدون من حياته وشخصيته كل الصفات والقيم التى تكون شخصية المسلم ، ولعل من ابرز تلك الصفات فاعليته وحرصه الشديد على اداء دوره ورسالته فى هذه الحياة ومن هنا نشأ هذا الجيل وهو يملك رصيداً حياً من مبررات الانطلاق والحركة التى أخذها وتربى عليها فى مدرسة النبى صلى الله عليه وسلم.
وإن اقتناع الصحابة برسالة نبيهم صلى الله عليه وسلم الذى نشأ عنه ذلك الانطلاق الحضارى الكبير فى التاريخ الإسلامى ، يعد عاملاً اساسياً فى توفير البناء النفسى الكافى الذى سيعطى النفوس مبررات الحركة لعلم شئ له قيمة فى الحياة.
وهذا البناء النفسى الذى يعد شرطاً ضروياً للفاعلية استمده الصحابة من توجيهات القرآن ، وتطبيقات الرسول صلى الله عليه وسلم وقد انسجم مع عنصر آخر اكثر أهمية هو الرؤية الحضارية ، الذى يوجه الطاقات نحو ما ينفع البشرية ، ويجعل الفاعلية سبيلاً ايجابياً يحقق الخير والمصلحة للناس.
وبهذه الروية الحضارية انطلق الصحابة – رضى الله عنهم – لتغيير العالم كله ، بعدما ترسخ لديهم ان الرسالة التى يحملونها هى المنقذ الوحيد لهذا العالم ، فهذا ربعى بن عامر – رضى الله عنه – البدوى القادم من الصحراء يخاطب رستم قائد الفرس قائلاً : (الله ضيق الدنيا الى سعة الدنيا والآخرة ، ومن جور الأديان الى عدل الإسلام).
ولكن يبقى السؤال : كيف وصل الصحابة الى هذا المستوى من البناء النفسى والرؤية الحضارية ؟ ولماذا لم يتكرر هذا الوضع باضطراد فى الأجيال التى جاءت بعدهم؟(79) والإجابة تقتضى ان نعرف الظروف الاجتماعية والنفسية التى توفرت لذلك الجيل الفريد.
( إنهم – فى الجيل الأول – لم يكونوا يقرؤون القرآن بقصد الثقافة والاضطلاع ولا بقصد التذوق والمتاع . لم يكن أحدهم يتلقى القرآن ليستكثر به من زاد الثقافة لمجرد الثقافة ولا ليضيف الى حصيلته من القضايا العملية والفقهية محصولاً يملأ به جعبته ، إنما كان يتلقى القرآن ليتلقى امر الله فى خاصة شأنه وشأن الجماعة التى يعيش فيها ، وشأن الحياة التى يحياها هو وجماعته ، يتلقى ذلك الأمر ليعمل به فور سماعه ، كما يتلقى الجندى فى الميدان ( الأمر اليومى ) ليعمل به فور تلقيه ، ومن ثم لم يكن احدهم ليستكثر منه فى الجلسة الواحدة ، لأن كان يحس انه يستكثر من واجبات وتكاليف يجعلها على عاتقه ، فكان يكتفى بعشر آيات حتى يحفظها ويعمل بها . . . هذا الشعور .. . شعور التلقى للتنفيذ . . . كان يفتح لهم من القرآن آفاقاً من المتاع وآفاقاً من المعرفة ، لم تكن لتفتح عليهم لو أنهم قصدوا إليه بشعور البحث والدراسة والاضطلاع ، وكان ييسر لهم العمل ، ويخفف عنهم ثقل التكاليف ، ويخلط القرآن بذواتهم ، ويحوله فى نفوسهم وفى حياتهم الى منهج واقعى(80)
لقد كان النبع الذى استبقى منه ذلك الجيل صافياً لم تكدره بعد فلسفات وثقافات الأمم الأخرى . من فرس ويونان ويهود ونصارى وغيرهم ، كما حدث فى فترات متأخرة من التاريخ الإسلامى ، إضافة الى ذلك معايشتهم الواقعية لسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وتعلمهم منه ربط الفكر بالعمل ، والثقافة بالسلوك ، فقد ذكروا مراراً انهم تعلموا القرآن والعلم والعمل جميعاً(81)
والأمثلة على فاعلية الصحابة – رضى الله عنهم – كثيرة متنوعة ، ومن يتأمل فى سيرتهم وجهادهم لا يرى سوى صفحات مشرفة من التاريخ الذى صنعوه بجهدهم وكفاحهم ، وذلك بحصرهم الشديد على اداء رسالتهم الحضارية فى هذه الحياة ، مع توفيق الله لهم ، وقد تعتريك الدهشة والإعجاب حين تعلم ان قبور كثير منهم موجودة خارج الجزيرة العربية.
وسنختار لك مثالاً واحداً لصاحبى جليل هو ( أبو ايوب الأنصارى) – رضى الله عنه – الذى كان شعاره الذى يردده دائماً ، فى ليله ونهاره ، فى جهره وإسراره قوله تعالى : ( انفروا خفاقاً وثقالاً) [التوبة : 41]
لم يختلف أبو ايوب عن معركة كتب على المسلمين أن يخوضوها ، مهما يكن بعد الشقى ، وفداحة المشقة ، مرة واحدة فقط تخلف عن جيش جعل الخليفة اميره واحداً من شباب المسلمين ، لم يقتنع (ابو ايوب) بإمارته ، ومع هذا فإن الندم على موقفه هذا ظل يزلزل نفسه طول حياته.
وفى غزوة القسطنطينية لم يكد يبصر ( ابو ايوب) جيش المسلمين يتحرك ، حتى ركب فرسه ، وحمل سيفه ، وراح يبحث عن الشهادة فى سبيل الله مع كبر سنه ، وقلة زاده.
وفى هذه المعركة اصيب ، وذهب قائد الجيش يعوده ، وكانت انفاسه تسابق اشواقه الى لقاء الله ، فسأله القائد ، وكان ( يزيد بن معاوية ) ما حاجتك أبا ايوب؟ ترى ، هل فينا من يستطيع ان يتصور ، او يتخيل ماذا كانت حاجة ابى ايوب؟ لقد طلب من ( يزيد) إذا هو مات ان يحمل جثمانه فوق فرسه ، ويمضى به اطول مسافة ممكنة فى ارض العدو ، وهناك يدفنه ، ثم يزحف بجيشه على طول هذا الطريق ، حتى يسمع وقع حوافز خيل المسلمين فوق قبره ، فيدرك آنئذ ، أنهم قد أدركوا ما يبتغون من نصر وفوز !!
وفى قلب القسطنطينية – وهى اليوم اسطانبول – يثوى جثمان هذا الرجل العظيم ، وإنك لتعجب إذ ترى جميع المؤرخين الذين يسجلون تلك الوقائع يقولون : ( وكان الروم يتعاهدون قبره ، ويزورونه ، ويستقون به إذا قحطوا (82)
لقد حقق هذا الصحابى الجليل شروط الفاعلية حيا طيلة حياته ، وحققها وهو ميت يرنو الى انتصار الإسلام ، وعزة المسلمين وإسعاد البشرية بالدين الجديد ، وسيبقى التاريخ شاهداً على هذه النماذج البشرية الحية التى لم تكن تعرف فى حياتها سوى الحركة والجهاد والفاعلية.
5. تجدد الفاعلية عبر التاريخ الإسلامى :
بلغت الفاعلية فى زمن الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته – رضى الله عنهم – أقصى درجات التوهج ، واستمر هذا الوضع بعد ذلك فى جيل التابعين ومن تبعهم بإحسان ، ولكن مع مرور الوقت ، ولأسباب سياسية واجتماعية ونفسية كثيرة بدأت الفكرة الدينية تفقد وظيفتها الاجتماعية شيئاً فشيئاً ، وبدأ مرض الكساد ينتشر فى جسم الامة.
إن الظروف التى اوصلت الأمة الإسلامية الى تفضيل جانب الغريزة على جانب الروح ، أدت الى نتائج خطيرة كان من ابرزها انقسام العالم الإسلامى الى دويلات ، وانفكاك القاعدة الاجتماعية للأمة ، حتى سقطت بغداد فى ايدى المغول ، وبدأت مشكلات السقوط الحضارى تظهر فى الآفاق ، واصبحت التحديات والأخطار تحاصر المجتمع الإسلامى من كل الجهات.
حين تفقد الفكرة الدينية وظيفتها الاجتماعية تبدأ القيم الروحية بالانحسار لتترك المجال مفتوحاً للغرائز والشهوات التى تقوم بدور المخدر الذى يدخل الجسم السليم فيسلبه كل طاقاته الايجابية ويحوله من جسم فعال متحرك الى جسم عاجز عن أداء أية حركة ، وهو الشئ الذى حدث للمجتمع الإسلامى فى فترة سقوطه الحضارى.
يقول ابن الأثير ( 630هـ) واصفاً حالة المجتمع الإسلامى زمن الحروب الصليبية : ( كانوا كجاهلية ، همة احدهم بطنه وفرجه ، لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً (83)
وكنا نجد من يقول متذمراً :
كيف يرجى الصلاح من أمر قوم .:. .:. .:. ضيعوا الحزم فيه اى ضياع
فمطاع الكلام غير سديد .:. .:. .:. وسديد المقال غير مطاع
وعلى الرغم من هذه الأسباب المعطلة للطاقات ، المكبلة للقدرات التى عرفها التاريخ الإسلامى ، كنا نشهد من فترة الى اخرى تجدد الفاعلية بين ابناء الأمة لمواجهة المشكلات الصعبة التى تعترض طريقهم ، وبخاصة حيث يحسون ان الأخطار التى تهدد الأمة تمس كيانهم الدينى الذى يحفظ وجودهم ، كما حدث فى عصر الحروب الصليبية ، وما تبعه من حروب ضد الهجمة المغولية وما حدث فى العصر من ثورات ضد الاستعمار الغربى.
فإذا أخذنا مثلاً ما حدث فى فترة الحروب الصليبية نجد أن الفاعلية قد انتشرت بين ابناء الأمة كلها ، كانتشار الدم فى الجسم ليغذى جميع اجزائه ، وهذه الفاعلية الجماعية هى التى تبنى التحضر ولا مناص لمن يبتغيها ان يستخدم كل وسائل التوجيه للوصول إليها وهو ما فعله ( نور الدين زكى ) وصلاح الدين الأيوبى من بعده.
ولعل مما ساهم فى زيادة الفاعلية بين افراد الأمة فى تلك الفترة ، التزام القائمين على الأمور من الحكام والأمراء بمبادئ الرسالة التى يحملونها ، وحرصهم على ان يكونوا قدوة الناس فى الجهاد والعمل والصبر ، مما حفز الناس على زيادة العطاء والجهد.
فهذا ( نور الدين زنكى) يعيد للأمة سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته فى تطبيقاته العملية ، حتى عدة المؤرخون سادس الخلفاء الراشدين ، يقول ابن الأثير : ( قد طالعت سير الملوك المتقدمين فلم ار فيها بعد الخلفاء الراشدين ، وعمر بن عبد العزيز ، سيرة احسن من سيرته ، ولا أكبر تحرياً منه العدل . . . . وقد اتسع ملكه فشمل الشام وديار الجزيرة ومصر ، وخطب له بالحرمين الشريفين وباليمن ، وأبلى فى حروبه للفرنج ، وأسر بنفسه فى بعض الغزوات بعض ملوكهم ، وكان يعظم الشريعة ، ويقف عند حدودها ، وأنشأ من المدارس والجوامع والطرق ، والجسور ، ودور المرضى ، والبائسين ، والخانات ، والحصون ما لم يسبق الى مثله (84)
وفى فترة ( نور الدين زنكى) نجد ان سياسة الدولة اتجهت الى الأمور التالية كى تعيد الفاعلية للأمة: (85)
أولاً : إعداد الشعب إعداداً إسلامياً وتطهير الحياة الدينية والثقافة من التيارات الفكرية المنحرفة كالباطنية وآثار الفلسفة اليونانية، والممارسات الفاطمية للعبادات والشعائر.
ثانيا : صبغ الإدارة بالصبغة الإسلامية ، وإشاعة العدل والتكافل الاجتماعى
ثالثاً: نبذ الخصومات المذهبية ، وتعبئة القوى الإسلامية ، وتنسيق جهودها ضمن منهاج عمل موحد ، وقيادة متكاملة متعارفة .
رابعاً: ازدهار الحياة الاقتصادية ، وإقامة المنشآت والمرافق العامة
خامساً: بناء القوة العسكرية ، والعناية بالصناعات الحربية
سادساً: القضاء على الدويلات المتناثرة فى بلاد الشام ، وتحقيق الوحدة الإسلامية بين الشام ومصر والجزيرة العربية .
لقد ركزت السياسة فى زمن ( نور الدين) على الإنسان المسلم باعتباره اسسا النهضة ، ودعامة البناء فى الأمة المسلمة، ولذلك الإعداد والجاهزية لمواجهة التحديات ، ( وفى هذه الخطة تكاملت المؤسسات والهيئات ، فاشتملت على التعليم الذى ركز بالدرجة الأولى على الأجيال الناشئة ، واشتلمت على التوجيه والإرشاد الذى استهدف توجيه جماهير العامة ، واشتملت على الإعداد العسكرى الذى استهدف تعبئة قوى الأمة تعبئة عامة لمواجهة الأخطار والتحديات القائمة(86).
إن الإهتمام بالجوانب الفكرية عند ابناء الأمة – وهو ما يسمى بتوجيه الثقافة – من شأنه ان يعيد الروح فى طاقات الأمة التى كبلها العجز والتواكل ، كما حدث فى زمن الدين زنكى ، ومن بعده صلاح الدين الأيوبى ، فكان ان تجددت الفاعلية ، وعادت العافية الى الأمة لكى تواجه الأخطار التى هددت هويتها ووجودها.
وتجدد الفاعلية عبر التاريخ الإسلامى القديم والحديث دلالة عل ان الأمة المسلمة قد تعرف المرض والوهن ، ولكنها لا تعرف الفناء والذوبان ، وهى خصيصة تعود الى الإسلام العظيم الذى سيبقى فى حلبة الصراع مع الباطل الى يوم الدين ، قال صلى الله عليه وسلم : ( لا تزال طائفة من امتى ظاهرين حتى يأتيهم امر الله وهم ظاهرون.)(87)
الفصل الثالث
معوقات الفاعلية ( الواقع )
لقد قررنا فى بداية هذه الدراسة ان الخلل الذى اصاب الأمة الإسلامية اليوم فى سعيها نحو المشروع الحضارى الكبير هو قلة الفاعلية فى العمل ، وعدم تقديم الجهد المطلوب ، وعدم الاستفادة من الوسائل المتاحة ، فلم يكن ينقص الفرد المسلم منطق الإخلاص بقدر ما كان ينقصه منطق العمل والحركة ، فهو يفكر ولكن لا ليجسد فكرته فى عمل صائب ، وإذا عمل لا يقدم الجهد المطلوب.
وإن من يعقد مقارنة بسيطة بين حال الأمة الإسلامية ، وحال غيرها من الأمم التى سلكت سبيل التحضر يدرم مدى الفرق الواضح فى هذا المقوم الحضارى بين ما هو عندنا ، وما هو عند غيرنا ، فالفرد المسلم عندنا ما زال لا يحسن التعامل مع الأشياء بفاعلية – باستثنار حالات فردية خاصة – أما فى تلك المجتمعات فإنه يقدم اعلى درجات الفاعلية ، حتى إننا نسمع عن موت الأفراد عندهم من كثرة العمل كما هو الحال فى المجتمع اليابانى.
والذى يؤسف له ان كثيراً من المسلمين يعزون قلة الفاعلية فى الأمة الى قلة الوسائل المتاحة ، والإمكانيات الموجودة بين أيديهم ، ويرون ان الإنطلاق الحضارى لابد له من وسائل كبيرة للتغلب على مشكلات الحياة كالفقر ، والأمية ، والبطالة والكساد ، وغيرها من المشكلات ، ويجلهون ان تلك المجتمعات المتحضرة لم تكن تملك ساعة انطلاقها سوى الأشياء الآولية الضرورية لأى إقلاع حضارى، وينسون بذلك سنن الله فى التغيير التى تبدأ من الإنسان نفسه ، حين يعرف كيف يستثمر المعطيات الموجودة عنده لحيقق بها احسن النتائج فى ميدان الحضارة والبناء .
وبعضهم يعلل هذا العجز بالقضاء والقدر كما هو الحال عند اكثر العزام الحيارى ، وهو ما جعل الأمير شكيب أرسلان يصرخ قائلا:
( المسلم الجامد لا يدرى انه بهذا المشرب يسعى الى بوار ملته وحطها عن درجة الأمم الأخرى ، ولا يتنبه لشئ من المصائب التى جرها على قومه اهمالهم للعلوم الكونية حتى اصبحوا بهذا الفقر الذى هم فيه وصاروا عيالاً على اعدائهم الذين لا يرقبون فيهم إلا ولا ذمة ، فهو إذا نظر الى هذه الحالة عللها بالقضاء والقدر بادئ الرأى ، وهذا شأن جميع الكسالى فى الدنيا يحيلون على الأقدار(88)
لابد ان نعلم ان الوهن الذى اصاب المسلمين اليوم هو ما كسبت ايديهم ، وهو نتيجة حتمية لتقاعسهم عن اداء رسالتهم فى الحياة ، ومهما كانت اسباب هذا الوهن ، فهو مرض مزمن يحتاج الى علاج فعال ، يقضى عليه من جذوره.
إن هناك اسباباً نفسية واجتماعية كثيرة تقف عائقاً امام تحقيق شروط الفاعلية عند المسلمين ، وهى اسباب موضوعية منسجمة مع سنن الله فى التغيير ، اى ان توفير الظروف المناسبة ، وتوجيه المسلمين التوجيه الصحيح ، مع شأنهما ان يبعثا الحركة والحياة فى النفوس الجامدة ، ويعطيها المبررات الكافية للانطلاق من جديد .
وهذه الدراسة تحاول ان تكشف عن بعض المعوقات التى وقفت فى طريق الفاعلية عند المسلمين ، وهى معوقات كثيرة لها علاقة مباشرة بالنواحى النفسة والاجتماعية وحسبنا ان نشير الى بعض تلك المعوقات التى نراها اكثر تأثيراً فى النفوس من غيرها.
1. الخلل فى فهم العبادة :
العبادة هى حركة المسلم فى الحياة وفق النواميس الإلهية ، وهى تعنى الاعتراف لله بحق من حقوقه على العباد ( ألا له الخلق والأمر) [الأعراف : 54] وهى فى المنهج القرآنى السبب الذى قام عليه الخلق كله ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) [ الذاريات : 56] ، قال انب تيمية – رحمه الله -: العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة(89)
ومن أهم خصائص العبادة فى الإسلام الشمول ، اى انها تتسع للحياة كلها ، فلا تقتصر على الشعائر التعبدية المعروفة من صلاة وزكاة وصيام وحج ، بل تشمل كل حركة ، وكل عمل ترتقى به الحياة ويسعد به الناس(90)
إن كل نشاط يقوم به المسلم يدخل فى باب العبادة إذا تحقق فيه شرطا الأخلاص والصواب ، قال الفضيل بن عياض : ( لا يقبل الله عملاً حتى يكون مخلصاً صواباً )(91)
ومن هنا يتسع مفهوم العبادة ليشمل كل حركة يقوم بها المسلم ، سواء أكانت شعائر تعبدية محضة ، أم أعمالاً يومية فى مجالات الحياة المختلفة ، المهم ان تتحقق فيها النية الصادقة ، والمنهج الصائب ، وهذا هو معنى الإحسان الذى أشار إليه النبى صلى الله عليه وسلم فى قوله : ( الإحسان ان تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك)(92)
وحين يدرك المسلم هذا البعد الكبير للعبادة ، وأن حركته فى الحياة كلها عبادة ، فإن هذا الفهم يمنحه تصوراً إيجابيا عن الحياة ، يصبح به شديد الحرص على تقويم اعماله وتوجيهها نحو أهداف نبيلة تحقق الخير والنفع له ولمجتمعه ، وتتسم حركته بفاعلية اكثر لوجود الحوافز المادية والمعنوية التى وضعها الشرع للعبادة.
أما حين لا يصبح للعبادة هذا المعنى الشمولى فى حياة المسلم ، تصبح العبادة فى نظره مجرد شعائر وطقوس يقوم بها يومياً ، وهى تأخذ من وقته جانباً ضئيلاً ، فإن سلوكه الاجتماعى فى الحياة سيختلف ، لأن مفهوم العبادة تقزم عنده ، فالحياة التى يعيشها كل يوم ، والنشاطات الحيوية التى يمارسها فى كل حين ، وتأخذ جانبا كبيراً من وقته ليس لها اى وزن فى مقاييس الدين عنده ، ومن هنا بدأ الخلل يتسرب الى الفكر ، وينعكس على الفاعلية.
إن الخلل فى فهم العبادة الذى تسرب الى المسلمين جعلهم يفصلون بين عمل الدنيا وعمل الآخرة ، ويقيمون جداراً فاصلاً بينهما ، ويجعلون العمل الآخروى فى مرتبة عليا لا يرتقى إليها بأية حال العمل الدنيوى من حيث القيمة المعنوية والأجر الأخروى ، وترتب على هذا الخلل فى الفهم عدم الاهتمام بقضايا الدنيا الهامة التى لها علاقة مباشرة بواقعهم الاجتماعى المعاش ، ومن هنا قل نشاطهم ، وتراجعت فاعليتهم اعتماداً على هذا التصور الخاطئ.
إن غياب الأبعاد الحقيقة لمفهوم فروض الكفاية ، وموقعها كواجبات اجتماعية ، تساهم بتماسك نسيج الأمة الاجتماعى ، وتشعر بالمسؤولية التضامنية ، وتنتهى بها الى مرحلة الاكتفاء الذاتى ، على مختلف الأصعدة ، لقد همشت فروض الكفاية ، حتى كادت تقتصر على قضايا المصير وكل ما يتعلق بحالات الوفاة ولوازمها من التغسيل والتكفين ، وحمل الجنازة ودفنها ، بعيداً عن إبراز دورها فى آفاق الحياة المتعددة فى كل ماله علاقة بمهمة الاستخلاف الانسانى والتعمير الحضارى ، واهمية تقديمها على الفروض الفردية ، وإدراك دورها فى حياة الأمة(93)
لقد ظل المسلمون قروناً طويلة يزهدون فى فروض الكفاية التى تتصل اتصالا مباشرا بالقضايا الحياتية الهامة مثل الواجبات اليومية ، والأعمال المنوطة بعاتق كل فرد ، والزهد فى الشئ والتقليل من شأنه يورث نوعاً من التقاعس فى أدائه ، ولهذا السبب لم يعمل المسلمون بفاعلية تامة فى هذه الميادين الخطيرة ، لفقدهم الحوافز المعنوية اللازمة التى يملكونها حيث يمارسون بعض الاعمال التعبدية المحضة.
فالخلل فى فهم العبادة بمفهومها الشامل قلل من فاعلية المسلمين فى هذا العصر ، على العكس فهم سلفنا الصالح للعبادة الذى جمع بين البعد الدنيوى والآخروى ، هو المستفاد من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم الذى كان اتقى الناس فى ربطه بين الدنيا والآخرة ، وهو القائل : ( إن قامت الساعة وبيد احدكم فسيلة ، فاستطاع ألا تقو حتى يغرسها ، فليغرسها فله بذلك أجر)(94)
إنه طريق واحد أوله فى الدنيا واخره فى الآخرة ، وهو طريق لا يفترق فيه العمل عن العبادة ولا العبادة عن العمل ، كلاهما طريق لا يفترق فيه العمل عن العبادة ولا العبادة عن العمل ، كلاهما شئ واحد فى نظر الإسلام ، وكلاهما يسير جنباً الى جنب فى هذا الطريق الواحد الذى لا طريق سواه .. . وتوكيد قيمة العمل وإبرازه والحض عليه فكرة واضحة شديدة الوضوح فى مفهوم الإسلام ولكن الذى يلفت النظر هنا ليس تقدير قيمة العمل فحسب ، وإنما هو إبرازه على انه الطريق الى الآخرة الذى لا طريق سواه(95)
إن الفكرة تحتاج الى فاعليو لتأخذ مكانها فى الواقع ، ولا سبيل امام المسلمين اليوم إلا الربط بين الفكر والعمل ، والعبادة والفاعلية ، ليتنبوؤا مكاناً لائقاً بين الأمم التى سلكت سبيل التحضر .
2. فقدان المبررات :
المبررات هى الأسباب والدوافع القريبة والبعيدة التى تدفع الى إيجاد نشاط فعال فى المجتمع ، فهى إذن شروط الفاعلية لأن الإنسان حين يملك المبررات يحدث عنده شعور خاص يحس من خلاله بأن لديه شيئاً يمكن ان يقدمه للأخرين ، فحدوث هذا الشعور عنده يكون سبباً لفعاليته ونشاطه(96)
والمبررات عنصر ضرورى لقيام أية حضارة لأنها توجد العمل والفاعلية ، وتحرك الطاقات الاجتماعية ، وتدفع النشاط الفردى والجماعى الى اعلى قمة ، يقول مالك بن نبى – رحمه الله -: ( إن المبررات هى التى تحرك الطاقات الاجتماعية وتوجهها الى مستوى أعلى من مستوى الحيوان الذى يحيا حياة فردية ، وهى التى تدفعها اتلى مستوى مصلحة الأخرين ، فإن فكرة الفاعلية او التوتر تمس الواقع الاجتماعى فى كل الظروف ، بحيث يضعها كل مجتمع او لا يضعها وراء اعماله وسلوكه ، فالتوتر حالة اجتماعية دل التاريخ على انها تنشأ فى ظروف معينة ثم تزول فى ظروف أخرى ، وان المبررات هى التى تكون الدوافع الإنسانية التى يدفع النشاط الى اعلى قمة(97)
وحين يفقد المجتمع مبرراته فإنه يفقد وجوده الاجتماعى وينقلب من مجتمع متحرك فعال الى مجتمع جامد ، لأن كل فرد فيه يصبح عاجزاً عن تقديم اى شئ للأخرين ، بل إنه قد يفقد الرغبة فى الحياة ويفضل الاستقالة منها عن طريق الانتحار ، سواء أكان هذا الانتحار مادياً ، كما هو الحال فى بعض الدول الغربية – أم روحياً كاتباع طريق العزلة والتصوف وفك الروابط التى تربطه بالمجتمع كما هو حال بعض ( الدراويش) فى مجتمعاتنا الإسلامية ، ومن هنا فإن فقدان المبررات فى اى مجتمع يعنى السقوط فى هاوية العجز والوهن ، وبداية الدخول فى ليل التاريخ.
وهناط ظروف اجتماعية ، واسباب دينية – فى غالب الأحيان – وراء بروز المبررات فجأة فى مجتمع من المجتمعات ، فينطلق افراده بدوافع نفسية قوية لأداء رسالة فى التاريخ ، وهذا الحال ينطبق على جميع المجتمعات التى عرفت الحضارة ، فإذا أخذنا مثلا المجتمع الإسلامى فى بداية رحلته الحضارية نجد ان المسلمين اكتسبوا من المبررات ما جعلهم ينطلقون بفاعلية كبيرة لم يشهد التاريخ مثلها ، لأنهم اقتنعوا بأنهم يملكون شيئاً فيه الخير والنفع للإنسانية ، فكان الواحد منهم يشعر بأن لديه رسالة عظيمة فى التاريخ لا يجوز ان يقوم بها احد غيره ، انها رسالة تخرج الناس وتحررهم من قيود العبودية للبشر الى عز العبودية لرب البشر.
لقد حدث فى المجتمع الإسلامى الأول انفجار للطاقات الاجتماعية التى توجهت كلها نحو العمل ، كخلية النحل ، تعمل بدقة ونظام ، كل واحد من عناصرها يقوم بعمله ووظيفته ، وتجتمع كل هذه الطاقات لتصب فى مصب واحد هو مصلحة الخلية ، لقد كنت ترى المسلم يندفع بقوة وعزم ليجسد فكره فى عمل مثمر فى ميادين الحياة المختلفة ، وتراه يتسفرغ طاقته كلها ليحصل على اجر الجهاد فى سبيل الله ، وحب الجهاد عنده جعله يسأل بتوتر منقطع النظير عن الشئ الذى يعدله او يفوقه حتى يعمل به ، فعن أبى هريرة – رضى الله عنه – قال : قيل يا رسول الله ، ما يعدل الجهاد فى سبيل الله ؟ قال : لا تستطيعونه ، فأعادوا عليه مرتين او ثلاثتً ، كل ذلك يقول: لا تستيطعونه ثم قال : مثل المجاهد فى سبيل الله كمثل الصائم القائم لا يفتر من صلاة وصيام ، حتى يرجع المجاهد فى سبيل الله(98)
ومن هذا الفهم للعبادة ، ولرسالة الجهاد يبدو لنا الجهد الكبير فى موقف الصحابى الجليل ( عمار بن ياسر) الذى حمل حملين بدل حمل واحد كما كان يعل كل صحابى فى مشروع بناء المسجد النبوى(99) ، وهذا مثال واحد من فيض كثير من المواقف البطولية التى سجلها التاريخ للمسلمين الأوائل.
لقد كان للمبررات التى جاء بها الإسلام دور كبير فى إحداث التوتر الاجتماعى الذى يدفع الى العمل والحركة بقوى وفاعلية ، ولهذا السبب كون ابناء الإسلام حضارة متميزة خلال فترة قصيرة من الزمان.
ولكن – مع الأسف – ومع مرور الزمن بدأ الفتور يمتد الى عزائم المسلمين وبدأت نفوسهم تفقد شيئاً فشيئاً توهج الروح ، كل ذلك نتج عن فقدان المبررات ، حتى وصل بهم الأمر الى الخروج من دائرة التحضر ، وقديماً حاول العلماء المجددون إعادة المبررات النفقودة الى المجتمع الإسلامى ، كشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وحديثاً حاول ويحاول رجال الإصلاح وحركات الصحوة الإسلامية إعادة تلك المبررات الى ابناء الأمة ، وتوجيه الطاقات نحو بناء المشروع الإسلامى من جديد.
إن توفر عنصر المبررات فى الأمة الإسلامية يعنى حياة جديدة لها ( يا ايها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم) [الأنفال : 24] لأن المبررات هى بمثابة الوقود الذى يبعث الحياة فى الأجسام الخاملة، وهى السبب فى ارتفاع درجة الفاعلية التى تشيع فى جميع افراد الأمة من صغيرها الى كبيرها ، ومن رجالها الى نسائها فإن هذه المفاهيم كالغيث إبان الربيع يساهم فى تحريك النباتات والبراعم فى كل مكان(100)
ونخلص الى ان فقدان المبررات هو أحد المعوقتا الأساسية التى جعلت المسلم فى هذا العصر يشعر أنه لا يملك شيئاً يمكن ان يقدمه للآخرين مما ساهم فى تقليل نشاطه ، وتفتير عزائمه ، وجعله مسلماً عاجزاً لا يقدر على *** احترام الاخرين له.
3. ضعف الإيمان :
الإيمان هو المنبع الوحيد للطاقة الإنسانية ، وهو الذى يبث إشعاع الروح فى الضمائر والنفوس فينقلها من عالم الموت الى عالم الحياة ، وقد قرر بعض علماء الاجتماع ( أن الحضارة تولد مرتين: أما الأولى : فميلاد الفكرة الدينية ، وأما الثانية : فهى تسجيل هذه الفكرة فى الأنفس (الإيمان) اى دخولها فى أحداث التاريخ(101)
فأية حضارة فى طور النشوء لابد ان تنبنى على فكرة دينية يؤمن بها اناس بدائيون ، وهذا الإيمان يمنحهم من المبررات ما يجعهم بنطلقون بحرارة وقوة لتحقيق رسالتهم الحضارية ، وينطبق هذا على جميع الحضارات التى عرفتها البشرية ، ومن هنا كان الإيمان مقوماً حضارياً ، وليس فلسفة نظرية ليست لها أية أبعاد اجتماعية.
وإذا أخذنا الحضارة الإسلامية – مثلاً – نجد ان الإيمان بالفكرة الجديدة قلب هؤلاء العرب البسطاء من أجلاف متناحرين ، الى دعاة اسلاميين تتمثل فيهم رسالة الإسلام بما فيها من قيم حضارية ، ومبادئ اخلاقية تنفذ الإنسان من ضيق الأرض وترفعه الى سعة السماء ، لأنهم اقتنعوا بأن ايمانهم يجعل منهم اصحاب رسالة خالدة ، وليس مجرد إيمان بارد ليس له أية رسالة فى الحياة.
إن الإيمان رسالة فى الحياة ، وليس مجرد فلسفة نظرية – كما هو الحال عند كثير من الناس – وبما انه رسالة فى الحياة فإن له ابعاداً اجتماعية كثيرة لعل ابرزها توفير المبررات اللازمة للإنطلاق الجماعى نحو التحضر ، ومنح المسلم الفاعلية الكافية لتغيير الواقع الفاسد ( كنتم خير امة اخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله) [ آل عمران :110]
أما حين يصبح الإيمان إيماناً جذبياً – اى مادياً – دون إشعاع ، أعنى نزعة فردية ،فإن رسالته التاريخية تنتهى على الأرض إذ يصبح عاجزاً عن دقع الحضارة وتحريكها , إنه يصبح إيمان رهبان , يقطعون صلاتهم بالحياة , ويتخلون عن واجباتهم ومسؤولياتهم(102)
فالإيمان قوة روحية تدفع المجتمع بكامله نحو أداء رسالته الحضارية ، وذلك بدينهم ، فهم بلا شك مقتنعون – على الأقل من الناحية النظرية – بأن دينهم حق ، ومن يحاول ان يقنع المسلمين فى هذا الجانب فإنما يضيع وقته ، ولكن الذى ينقصهم هو الاقتناع بأن لهم رسالة يقتضيها ويتطلبها هذا الإيمان ، وبذلك اصبح الإيمان عندهم مجرد عقيدة باردة ليس لها اى بعد اجتماعى.
ومن هنا ينبغى لنا ألا نخلط بين الايمان كعقيدة فردية تطلب النجاة فى الأخرة ، والإيمان كرسالة اجتماعية تسعى نحو النجاح فى الدنيا والآخرة ، يقول مالك بن نبى – رحمه الله -: ( إن الإيمان لم يفقد مطلقاً سيطرته فى العالم الإسلامى ، حتى فى عهود الانحطاط ، بل ان هذه الملاحظة تصبح جوهرية حين يكون الأمر امر تقويم أخروى للقيم الروحية ، أما حين نتناول المشكلة من الوجهة التاريخية والاجتماعية فينبغى ألا نخلط بين نجاة المرء فى عاقبة امره ، بتطور المجتمعات(103)
إن المسلمين اليوم فقدوا الرغبة فى العمل والعطاء ، وتسرب إليهم الوهن والعز لضعف إيمانهم ، وفتور هممهم، فالقوة الإيمانية التى دفعت اسلافهم نحو البناء الحضارى ، لم تعد تملك الوقود اللازم الذى يتمثل فى شرارة الروح ، ووضوح الفكرة ، وبذلك اصبح المسلمون عاجزين عن اداء رسالتهم الحضارية ، لأن من يفقد قوة الدفع اللازمة ، سيبقى ثابتاً فى مكانه يدور حول نفسه.
ويبين الرسول صلى الله عليه وسلم فى حديث القصعة المشهور حالة الأمة حين تفقد رسالتها الإيمانية فيقول : ( يوشك ان تداعى الأمم عليكم كما تداعى الأكلة الى قصعتها) قالوا : أومن قلة نحن يومئذ يا رسول الله ؟ قال : ( لا ، بل أنتم كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل : ولينزعن الله فى صدور أعدائكم المهابة منكم ، وليقذفن فى قلوبكم الوهن ، قيل : وما الوهن يا رسول الله ؟ قال : حب الدنيا وكراهية الموت(104)
إن هذا الحديث يقدم تفسيراً واضحاً للأزمة الحضارية التى تمر بها الأمة الإسلامية فى هذا العصر ، مع ما لديها من كثرة فى العدد ، ووفرة فى الوسائل ، فالرسول صلى الله عليه وسلم وصف الأمة بالغثائية ، وهى تعنى فقدان الفكر والمنهج ، لأن السبيل المتدافع ليس له هدف يسير إليه ، وهو فى سيره يحمل ركاماً من الأشياء التى ليس لها اية قيمة فى نظر الإنسان ، وهذه الغثائية التى تتجلى فى فقدان الفكر والمنهج هى نتيجة حتمية للوهن او اللافاعلية ( وليقذفن فى قلوبكم الوهن) ، أما الظروف الكامنة وراء وصول الأمة الى حالة الغثائية فهى بتعبير الرسول صلى الله عليه وسلم : ( حب الدنيا وكراهية الموت) وبتعبيرنا نحن ( ضعف الإيمان) او فقدان الرسالة الاجتماعية.
إن حب الدنيا وكراهية الموت يعنى التخلى عن رسالة الجهاد ، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، وهى الرسالة الاجتماعية التى يقتضيها الإيمان بالله تعالى ، ومن هنا كان ( ضعف الإيمان) أحد المعوقات الأساسية امام المسلمين فى هذا العصر ، فقد دب فيهم مرض الوهن ، وتسرب إليهم العجز ، واصبحوا يشعرون بأن رسالتهم فى هذا الزمان محدودة ، وأنهم لا يملكون شيئاً يمكن ان يقدموه للأخرين ، وهذا العجز اطمع الأمم الأخرى فيهم ، لأن الضعف – كما يقول المثل – يغرى بالعدوان .
4. التقليد :
التقليد هو الصورة المضادة للاجتهاد ، وهو يعنى اخذ القول دون دليل او برهان ، قال ابن قيم الجوزية – رحمه الله -: ( التقليد ثلاثة انواع ، احدها : الإعراض عما أنزل الله وعدم الالتفات إليه اكتفاء بتقليد الآباء ، الثانى : تقليد من لا يعلم المقلد انه اهل لأن يؤخذ بقوله ، الثالث : التقليد بعد قيام الحجة ، وظهور الدليل على خلاف قول المقلد(105)
والتقليد مذموم فى الشريعة الإسلامية لأنه من الظواهر السلبية فى الحياة الفكرية للأمة – وقد ذمه القرآن الكريم وعبر عنه بالآبائية التى تعنى اتباع الآباء ، أو من لهم رأى أو سلطة دون دليل او برهان ، قال تعالى : ( وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان أباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون) [ البقرة : 170] ، وقال تعالى : ( وإذا قيل لهم تعالوا الى ما أنزل الله والى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعلمون شيئاً ولا يهتدون) [ المائدة:104]
أما الإجتهاد فقد عبر عنه القرآن الكريم ( بالبرهانية) أى الدعوة الى اتباع الدليل والبرهان للوصول الى الحقيقة ، وترك التقليد المذموم الذى يقود الى الجهل والعصبية ، قال تعالى : ( قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين) [ البقرة : 111]
إن التقليد عامل طارئ على العالم الإسلامى ، فلم يكن معروفاً فى القرنين الأول والثانى ، وقد توافرت جملة من الأسباب النفسية والاجتماعية التى أدت الى ظهوره فى العصور المتأخرة ولعل أبرز هذه الأسباب قصور الهمم عن الاجتهاد بعد ان بدأ المجتمع الإسلامى يفقد شيئاً فشيئاً مبرراته الاجتماعية(106)
لقد كان علماء السلف يحذرون من خطر التقليد حتى انتشرت بينهم المقولة الشائعة : ( لا تقلدنى ولا تقلد مالكاً ولا الشافعى ، ولا الاوزاعى ، ولا الثورى ، وخذ من حيث اخذوا)(107)
وحين اصبح التقليد يهدد ثقافة الأمة قامت صيحات كثيرة تدعو الى الاجتهاد وترك التقليد ، كما حدث مع ( ابن حزم الظاهرى) الذى صرخ بأعلى صوته ( التقليد حرام)(108) ، لأنه شعر بأن التقليد المذهبى قيد الكثير من الطاقات الفكرية ، وجعلها تدور فى دائرة ضيقة لا تخرج عنها ، وكما حدث مع ابن تيمية – رحمه الله – الذى كثيراً ما ذم التقليد واتباعه ، وهو الذى يقول ( لا يجب على احد من المسلمين تقليد شخص بعينه من العلماء فى كل ما يقول ، ولا يجب على احد من المسلمين التزام مذهب شخص معين غير الرسول صلى الله عليه وسلم فى كل ما يوجبه ويخبره به ، بل كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم(109)
وقد حذر كثير من العلماء فى عصرنا الحديث من خطر التقليد الذى اضعف القاعدة الفكرية للأمة ، منهم محمد رشيد رضا – رحمه الله – الذى يقول : ( إن فى تحريم التقليد) وتصريح الكتاب العزيز بأن الله تعالى لا يقبله ، ولا يعذر صاحبه به فى الآخرة لتأكيداً شديداً لإيجاب العلماء الاستقلالى الاستدلالى فىالدين(110) ، وقال مالك بن نبى – رحمه الله -: ( ان التقليد الخلفى يقتضى التخلى عن الجهد الفكرى حتماً ، أى عن الأجتهاد الذى كان الوجهة الاساسية للفكر الإسلامى فى عصره الذهبى(111)
إن التقليد هو مرض من الأمراض الفكرية التى أثرت بشكل مباشر فى مسيرة الأمة الإسلامية ، وكانت من العوامل المساهمة فى اقولها ، وإن من يستقرئ تاريخ الاجتهاد فى حياة الأمة الإسلامية ( يلاحظ ان هناك علاقة عنصرية بين ازدهار هذا الاجتهاد وتقدم الأمة وقوتها ، وإن ضعف الأمة وتخلفها كان من وراء تخلف الاجتهاد وضعفه ، وهذا يعنى ان الاجتهاد مناط القوة والتقدم للأمة الإسلامية ، لأن مدلوله لا ينصرف الى استنباط الأحكام العلمية فحسب ، ولكنه يشمل كل مجالات الحياة المختلفة من حيث إنه قوة تحرك كل الطاقات نحو العمل المتقن فى شتى الميادين(112).
وإذا كان الاجتهاد قوة محركة للطاقات الفكرية نحو العمل والفاعلية ، فإن التقليد عامل يصيب الأمم بالسلبية والكساد ، ويؤثر تأثيراً سلبياً فى التفاعل الحضارى وتقدمه ، وإن من يتأمل فى حال بعض الأمم التى سلكت سبيل التحضر يدرك أنها تخلصت من الافكار الميتة الموروثة ، وجددت قاعدتها الفكرية والثقافة بتوفير كل الظروف للاجتهاد والبحث العلمى الجاد حتى يبقى المجتمع متجدداً فى فكره وفاعليته ، وهو ما حدث (لليابان) حين اتخذ موقفاً تاريخياً من الأفكار الموروثة من عهد ( الشوغون)(113)
وفى الواقع المعاصر ما زال التقليد منتشراً بين الكثير من ابناء الأمة الإسلامية حتى على مستوى المذاهب الفقهية ، ومع حداثة الوسائل فى نشر ( التراث) ، وتحقيق المصادر القديمة ، وطبع المراجع الحديثة ، ما زالت الهمم مقيدة بحبل التقليد والتبعية ، وباستثناء بعض الأنماذج الفردية التى تسير فى طريق الاجتهاد – ما زال العمل الاجتهادى بعيداً عن اداء رسالته الحضارية الجماعية .
ونخلص الى نتيجة مهمة وهى ان التقليد بمظاهره المختلفة هو احد الاسباب المعطلة للفاعلية فى الأمة ، وإنه لا سبيل الى التحضر إلا بنبذه وبث روح الاجتهاد والبحث العلمى الجاد بين جميع المسلمين خاصتهم وعامتهم.
5. التعصب المذهبى والحزبى :
إن وحدة الأمة الإسلامية فى العلم والمنهج ، والثوابت والأهداف هى الركن الأساس الذى قامت عليه الدعوة الإسلامية الموجهة الى الناس اجمعين ، ولقد استجاب لها المسلمون فى اول عهدهم فاكسبتهم قوة وغلبة عزت بها الدينية فانتشرت ، وانتصرت وصدت من عارضها ، ففتحت امامها الطرق ، واتسع لها الأفق ، واصبحت عنواناً للإسلام ومصدراً لتفجير الطاقات المعلطة ، ووسيلة لتوجيه النفوس المكبلة.
ولقد دعا القرآن الكريم الى اجتماع الأمة كلها على منهج واحد ، وعدم الاختلاف والتفرق فيه قال تعالى : ( إن هذه امتكم أمة واحدة وانا ربكم فاعبدون ) [ الأنبياء :92] ، وقال ايضاً : ( واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم اعداء فألف بين قلوبكم فاصبحتم بنعمته إخواناً) [ آل عمران :103] وقال ايضا : ( ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البيات) [ آل عمران:105]
وقد شبه الرسول صلى الله عليه وسلم المؤمنين بأعضاء الجسد الواحد(114)، ولم يكن شئ ابغض إليه بعد الكفر بالله من الاختلاف والتنازع ، ولو فى الأمورالعادية والاختلاف الذى ذمه صلى الله عليه وسلم ليس ذلك الاختلاف الطبيعى الذى جبل عليه الناس ، وإنما ما كان داعياً الى الخصومة والنزاع ، يقول محمد رشيد رضا – رحمه الله -: ( لما كان الاختلاف فى الفهم والرأى من طباع البشر ( ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم )[هود : 118 – 119] خص الاختلاف المذموم فى الإسلام بما كان عن تفرق او سبباً للتفرق ، وجرى على ذلك السلف الصالح ، فحظروا فتح باب الآراء فى العقائد واصول الدين ، وحتموا الاعتصام فيها بالمأثور من غير تأويل ، وخصوا الاجتهاد بالأحكام العملية ، ولا سيما المعاملات ، وكان بعضهم يعذر كل من خلفه فى المسائل الاجتهادية ولا يكلفه موافقته فى فهمه(115)
لقد جاء التوكيد فى مصادر الوحى على أن ملة الإسلام هى ملة واحدة ، وان المستحق للعبادة والخضوع هو الله وحده ، وعلى اساس هذه القاعدة يجب الاجتماع والوحدة ولكن الذى أحدثه المسلمون – بعد القرنين الأول والثانى – هو تمزيق هذه الوحدة الجامعة ، حيث جعلوا دينهم مجموعة من المذاهب والأحزاب و ( كل حزب بما لديهم فرحون) [ المؤمنون :53] ، وكان هذا التفرق سبباً رئيساً فى تردى الأمة وضعفها ، وأدى الى مشكلات حضارية وفكرية ما زالت تعانى منها الأمة الإسلامية حتى الان .
إن هناك اسباباً اجتماعية وفكرية وسياسية كثيرة كانت وراء ظهور المذهبية والحزبية فى تاريخ الأمة الإسلامية لعل ابرزها الاختلاف فى نظرية المعرفة بتن المسلمين , مما أدى إلى ذلك الخلل فى فهم مراد الله , وهذا أدى بدوره إلى تفكيك القاعدة الفكرية , وتجزئة التصور الإسلامى , حتى وصل الأمر بالمسلمين إلى تكفير القاعدة والإصل , وانتشر بينهم الحديث الموضوع :" اختلاف أمتى رحمة "(116) الذى كان له دور سلبى فى
ضعف الأمة , وزعزعة تماسكها الداخلى 0
يقول ابن تيمية ـ رحمه الله ـ :" إن سبب الاجتماع والألفة جمع الدين والعمل به كله , وهو عبادة الله وحده لا شريك له , كما أمر به باطناً وظاهراً , وسبب الفرقة ترك حظ ما أمر العبد به , والبغى بينهم , ونتيجة الجناعة رحنة الله ورضوانه وصلواته , وسعادة الدنيا والأخرة , وبياض الوجوه , ونتيجة الفرقة عذاب الله ولعنته وسواد الوجوه "(117) 0
فسبب الانسجام والوحده بين المسلمين ـ كما يرى ابن تيمية ـ هو الولاء المطلق لله ولرسوله وللمؤمنين الذين ينتمون إلى المبدأ نفسه لأن هذا الولاء من شأنه أن يؤسس شبكة العلاقات الاجتماعية التى تجتمع لتصب فى مصب واحد هو مصلحة الدين والأمة 0
وإذا كانت المذهبية الفكرية سبباً أساسياً فى الفرقة بين المسلمين قديماً , فإن الحزبية التى اتخذت أشكالاً سياسية ودينية وعرقية وغيرها 000 هى من أهم عناصر الاختلاف فى هذا العصر , حتى إنك تجد الخلاف عميقاً ضمن الاتجاه الواحد , وقد يصل أحياناً إلى المجابهة المادية (118) , مما أوهن قوى الأمة الإسلامية ، وقلل من احترامها امام الأمم الأخرى التى تتربص بها الدوائر.
إن التجمع الحزبى هو فى حقيقتهخ وسيلة من الوسائل التى يلجأ إليها لتحقيق اهداف كبرى ، والمتأمل فى تاريخ الأحزاب عامة يجد ان اى حزب منها هو فى الغالب ثمرة فكر رجل واحد تجلت لديه بعض القدرات الاجتهادية ، ثم يتجمعه حوله مجموعة من الأتباع يتخذون من تجمعهم وسيلة لتحقيق غايات زعيمهم النظرية ، ولكن الذى يحدث مع مرور الزمن – وبخاصة بعد وفاة الزعيم – هو تقليد الأتباع لزعيمهم ودورائهم فى فلك افكاره ، ويحدث عن هذا التقليد نوع من التعصب للأفكار يصبح بعدها الحزب غاية فى حد ذاته ، الأفكار التى تخالف مبدأه ، ويصبح لسان حاله وقاله يقول: لن أبنى نفسى إلا إذا هدمت غيرى !.
وإذا كانت الأحزاب فى بعض الدول المتحضرة أدوات فعالة تتاسبق كلها لخدمة المجتمع ، فإنها فى بلادنا الإسلامية عاجزة عن توجيه الطاقات – باستثناء بعض النماذج الإسلامية – وهى فى اغلبها بؤر لتجميد تلك الطاقات ، حيث انها تقيدهم بقيود الحزبية ولا تعطيهم مجالاً للتحرك خارج إطارها ، حتى وإن كان ذلك إبداعاً أو إجتهاداً او نقداً ذاتياً بناء.
إن توجيه العمل والفاعلية فى مرحلة التكوين الاجتماعى عامة يعنى سير الجهود الجماعية كلها فى اتجاه واحد(119) ، ومع وجود التعصب الحزبى والمذهبى لا يمكن تحقيق الوحدة الفكرية والثقافية بين المسلمين.
6. فقدان الحرية ( القهر ) :
يعد مصطلح (الحرية) من اكثر المصطلحات شيوعاً فى هذا العصر ، ومن اكثرها دوراناً على الألسنة ، واستخداماً بين الناس ، فما من مذهب دينى او علمانى او لاهوتى ، وما من زعيم مخلص أو مقهور او مخادع . إلا وتجده داعياً الى مبدأ الحرية ، واضعاً إياه على رأس قائمة الأولويات ، وذلك لما لكلمة (الحرية) من سحر وجذب وسيطرة على النفوس ، ولا شك أن توجيه الجماعات فى هذا العصر اصبح يعتمد على تلك الوعود بتوفير الحرية ، وكسر قيود العبودية والأذلال.
ولقد ظلت ( الحرية) على مدار التاريخ عرضة لعلميات ( تحجيم) ماكرة يراد منها ان تخدم مصالح بعض اصحاب القرار ، الذين لا يؤمنون اصلاًَ بالحرية إلا بمقدار ما تمنحهم هذه الحرية من (سلطات) إضافية ، تضاف الى رصيدهم من التسلط والطغيان والجبروت(120) ، ولم تعرف البشرية معنى (الحرية) الحقة إلا فى ظل الإسلام الذى جعل العبودية لله طريقاً لتحرير الإنسان ، كما شهد بذلك المنصفون من علماء الغرب - ، يقول جوستاف لوبون : ( تشتق سهولة الإسلام العظيمة من التوحيد المحض ، وفى هذه السهولة سر قوة الإسلام ، والإسلام وإدراكه سهل ، خال مما نراه فى الأديان الأخرى ، ويأباه الذوق السليم ، خالياً من التناقضات والغوامض ، ولا شئ اكثر وضوحاً وأقل غموضاً من اصول الإسلام القائلة بوجود إله واحد ، وبمساواة جميع الناس امام الله)(121)
ومبدأ مساواة الناس جميعاً امام الله هو اساس التحرر البشرى من عبودية الإنسان ، هذه العبودية التى تتخذ ألواناً شتى ، وإن من أشدها خطراً ، وأبعدها أثراً من خضوع الإنسان لإنسان مثله ، يحل له ما شاء متى شاء ، ويحرم عليه ما شاء كيف شاء ، ويأمره بما اراد ، فيأتمر ، وينهاه كما يريد فينتهى ، وبعبارة اخرى يضع له ( نظام حياة )(122)
لقد جاء الإسلام ليعلن تحرير الإنسان من عبودية البشر ، قال تعالى : ( يا أهل الكتاب تعالوا الى كلمة سواء بيننل وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضناً بعضا أرباباً من دون الله ، فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون) [آل عمران:64] ، وهذا هو المفهوم الإسلامى للحرية ، المفهوم الذى يجعل الإنسان حراً كلما خضع فى تصوراته ومناهجه لله ، وإن هناك فرقاً كبيراً بين هذا المفهوم ، ومفهوم الفلسفة الغربية الحديثة التى تجعل الإنسان حراً فى كل شئ ، ولا توجد قيود تقيده ما دام هو واضع المناهج والتصورات ، وقد قادت هذه الحرية التى التناقض والاختلاف ، والى سيطرة الأهواء البشرية والشهوات الإنسانية وما زال الإنسان عبداً للإنسان.
إن شعور المسلم بالحرية فى العصور الأولى للإشعاع الروحى كان يمنحه نوعاً من العزة والثقة بالنفس ، وفى الوقت نفسهخ كان يعيطه دافعاً معنوياً قوياً نحو العمل لانقاذ البشر المكبلين بحبال العبودية ، وقد كان قولهم : ( جئنا لنخرج الناس من عبادة العباد الى عبادة رب العباد) رصيداً حضارياً يجوبون به الأفاق ، ويحررون به البشر.
لم تكن ( الحرية) عند المسلمين شعاراً براقاً ليس له أية علاقة بالواقع العملى ، ولم تكن أكذوبة يضحكون بها على الناس ، كما تفعل القوى الكبرى اليوم مع الشعوب المقهورة ، وكما هو الحال فى مبادئ حقوق الإنسان التى خلفتها الثورة الفرنسية ، التى أثبت الواقع العملى انها فكرة تجسد سيطرة الإنسان القوى على الإنسان الضعيف.
إن الحرية تربى وتطلق الطاقات(123) ، وهى وقود ضرورى للفاعلية فى اى مجتمع من المجتمعات المتحضرة ، وحين تفقد (الحرية) يحل محلها القهر والاستعباد وتتراجع النفوس عن أداء دورها ورسالتها الحضارية.
وإن نظرة فاحصة الى واقع ( الحريات) فى المجتمعات الإسلامية المعاصرة تقودنا الى تسجيل بعض الملاحظات منها:
أولاً: كان لخروج الاستعمار من البلاد الإسلامية إيجابيات كثيرة منها : عودة الشعور بالحرية ، وعودة الأمل عند المسلمين لبناء حياة جديدة يسودها الخير والعدل والمساواة ، ولكن لم يكتمل الشعور ، ولم يتحقق الأمل لوجود عقبات أخرى انشأتها الظروف الجديدة.
ثانياً: الأنظمة المختلفة التى قامت بعد الاستعمار وعدت المسلمين بالحرية شريطة الرضا بالأوضاع القائمة حتى وإن كان فيها مخالفة واضحة للإسلام ، وحين قامت قوى الرفض تطالب بتصحيح الاوضاع قوبلت بالقهر المادى والمعنوى ، ودفنت الحرية فى ليل الزفاف بثوبها.
ثالثاً : أصبح المسلم يشعر بنوع من القهر الاجتماعى يقيد حركته ويعطل نشاطه وبخاصة حين يحمل فكرة تغييرية فى المجتمع ، بحيث يمارس المجتمع ضده نوعاً من القهر ، ليجعله فى نظر الناس إنساناً شاذاً يعيق حركة المجتمع نحو التقدم والتطور ، ومن هنا استطاعت بعض الأنظمة والأوضاع ان تقيم حاجزاً بين الناس وبين الدعاة العاملين.
رابعاً: كان القهر الاجتماعى والسياسى سبباً فى هجرة كثيرة من المسلمين الى بلد تشيع فيها بعض الحريات مما أعطاهم دوافع جيدة للفاعلية والإبداع ، فى مجالات مختلفة من الحياة ، وتسبب هذا فى تفريغ بلاد المسلمين من طاقاتها العاملة .
ويبقى أن نشير الى أن فقدان الحرية هو أحد معوقات الفاعلية الأساسية التى تعيق الحركة ، وتقلل النشاط ، وتكبل الطاقات.
7. حالات نفسية سلبية :
ذكرنا فيما سبق ان البناء النفسى هو من اهم مقومات الفاعلية ونقصد بالبناء النفسى جاهزية النفس من حيث توفر المبرر ، ووجود الوقود لأداء رسالتها الحضارية فى الحياة.
وعملية البناء النفسى هذه ليست بالعملية السهلة ، لأن النفس البشرية هى ذات تركيب معقد ، ويتطلب بناؤها وتغييرها شروطاً كثيرة ، ولكنها شروط موضوعية تخضع للسنن الاجتماعية التى بينها الله سبحانه فى كتابه حيث قال : ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم )[الرعد:11]
وقد تشترك اسباب وظروف اجتماعية كثيرة فى نشأة بعض الحالات النفسية السلبية التى تقف عائقاً امام الشروط اللازمة لبناء نفسى متكامل، ولعل أخطر هذه الحالات تأثيراً فى النفوس حالة اليأس والقنوط التى تسبب السلبية ، وتفقد مبررات العمل ، وتقلل من الفاعلية ، وقد تقود احياناً الى العزلة والتصوف ، أو الى الانتحار والاستقالة من الحياة.
وحلاة اليأس والقنوط تقود كذلك الى فقد الثقة بالنفس ، والرضا بالواقع بما فيه من سلبيات وعيوب ، ولخطر هذه الحالة على الأمة الإسلامية لا زال كثير من العلماء والدعاة يحذرون منها ، ويدعون الى القضاء على اسبابها ، يقول الأمير شكيب ارسلان: ( قد انضم الى الجبن والهلع اللذين اصابا المسلمين اليأس والقنوط من رحمة الله ، فمنهم فئات قد وقر فى انفسهم ان الإفرمج هم الأعلون على كل حال ، وإنه لا سبيل لمغالبتهم بوجه من الوجوه ، وإن كان مقاومة عبث ، وإن كل مناهضة خرق فى الرأى ، ولم يزل هذا التهيب يزداد ويتخمر فى صدور المسلمين امام الأوروبيين الى ان صار هؤلاء ينصرون بالرعب ، وصار الأقل منهم يقومون للأكثر من المسلمين(124)
ويقول محمد احمد الراشد : ( وفى المسلمين اليوم إحباط وتراجع وانسحابية ونفسية انهزامية لا يعالجها إلا وجود مثل هؤلاء القدوات الذين يتركون الخنادق والمعتزلات وينزلون الى مخالطة الناس_(125)
إن هذه الحالات النفسية السلبية التى أصابت المسلمين فى هذا العصر ، هى نتيجة حتمية لفقد المبررات ، فأصبح المسلم مع هذا الفقدان يشعر بأنه لا يملك شيئاً يمكن ان يقدمه للآخرين ، وبدل ان يبحث عن مبررات جديدة راح يلعن الواقع ، ويفرغ سخطه على الإعداء ، مما اكسبه نفسية انهزامية وافقده الرغبة فى الحركة نحو التغيير.
وإن من أخطر النتائج المترتبة على حالات اليأس والقنوط التى اصابت بعض المسلمين فقدان الثقة بالإسلام نفسه . ونسب العجز له لا لأتباعه ، وترتب على ذلك نشوء جماعة من أبناء المسلمين يدعون جهاراً الى الحداثة والتغريب ، وهم يرمون من وراء الدعوة الى الحداثة والتجديد ، الاستغناء عن قيم الإسلام التى يرونها لا تتناسب مع العصر ، وانه لا سبيل الى الحضارة إلا بالسير على منهج ( الغرب) ، واقتفاء اثرهم فى كل شئ ، وإن هذه الدعوة الخطيرة هى فى حقيقتها محاولة لإيجاد مبررات جديدة ، ولكن بمنهج خاطئ.
إن الإسلام لا يمكن ان يكون سبباً فيما اصاب المسلمين من تخلف وتراجع وانهزامية ، بل إنه قوة دافعة ، وعامل محرك ، يحارب العجز ، ويمقت التواكل ، وينبذ القنوط ( قل يا عبادى الذين اسرفوا على انفسهم لا تقنطوا من رحمة الله) [ الزمر :53] ، (ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرين) [ يوسف :87] وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعيذ فى إصباحه وإمسائه من الهم والحزن ، والعجز والكسل(126) ، ولحرصه الشديد على نفسية المسلمين الإيجابية ، كان يستعمل كل وسائل التربية والتوجيه حتى تبقى النفوس مؤمنة فعالة ، يقول عبد الله بن سمعود – رضى الله عنه : ( كان رسول صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة خشية السآمة )(127)
هذا فى مستوى الوعظ الذى كان يراعى فيه صلى الله عليه وسلم مقامات النفوس ، شخية ان تتسرب إليها السآمة والملل واليأس ، وحتى لا تفقد الوقود الروحى الذى يمنحها الدوام والاستمرارية والفاعلية .
ونخلص الى ان اليأس والقنوط والانهزامية هى رحالات نفسية نتجت عن فقدان المبررات فى المجتمع ، فالمسلم مع ابتعاده عن حرارة الايمان ، وإشعاع الروح ، اصبح يشعر انه إنسان لم يخلق لأداء رسالة فى الحياة ، وان الواقع الذى يعيشه ناقم عليه ، ولم يجدد سبيلاً للخروج من هذا المأزق سوى اللعن والقنوط ، ونسى انه يدل ان يلعن الظلام فليوقد شمعة.
إن الفاعلية تتعلق أساساً بقضايا نفسية معقدة ، وقد حاولنا فى هذا الفصل ان نذكر بعض المعوقات التى رأينا أنها اكثر تأثيراً فى نفوس المسلمين من غيرها ، ولا شك ان هناك عوامل أخرى تساهم فى قلة الفاعلية او إنعدامها ، تتعلق بالبيئة والمحيط الاجتماعى ، وبالثقافات السائدة ، والثقافات المستوردة ، وبالأفكار الميتة ، والأفكار القائلة ، وبنظرة المسلم عامة ، وبمركزه فى الحضارة الحديثة.
الفصل الرابع
مقومات الفاعلية ( الطموح )
1. الإقتناع أولاً:
الفاعلية حركة ، والحركة تحتاج الى وقود يعطى النفوس دفعاً الى الأمام ، وقوة نحو العمل والإنتاج ، وبما أن الإرتفاع الى مستوى الشهادة لا يكون إلا بفاعلية – اى بمساهمة كل فرد فى المجتمع بنصيبه فى البناء – فإن البحث عن الوقود الضرورى لها هو من اهم الغايات التى تسعى نحوها جميع الحركات السائرة فى طريق التحضر.
وإذا بحثنا عن هذا الوقود الضرورى للفاعلية فى جميع الحضارات التى عرفتها البشرية ، فإننا سنجده فى ذلك الإشعاع الروحى الذى يدخل النفوس فسيحولها من نفوس حائرة كاسدة ، الى نفوس مؤمنة متحركة ، تعرف طريقها ، وتسعى بوعى لأداء رسالتها الحضارية فى الحياة .
والحضارة الإسلامية انموذج واضح لدور القيم الايمانية فى تغيير النفوس ، وبناء الحضارات ، فحين مست شرارة الروح أولئك العرب البسطاء حولتهم من بدو متناحرين الى دعاة اسلاميين ، يحملون رسالة الخير والعدل لإنقاذ البشرية الضالة ، وقد استطاعوا فى فترة قصيرة ان يكونوا حضارة متميزة فى مستواها الدينى والدنيوى.
ولم يكن الإيمان فى حس المسلمين الأوائل الذين صنعوا الحضارة فكرة نظرية ، او عقيدة لاهوتية ، او دعوة انعزالية ، او ثقافة ترفية - بل كان رسالة تغييرية ، وفكرة واقعية ، ودعوة حضارية لها دور تريد تجسيده فى الواقع ، وبهذا الفهم يصنع التاريخ ، وتبنى الحضارات ، وهو فهم غائب عن كثير من المسلمين فى واقعنا المعاصر.
لقد قمنا – فى فصل سابق – إن المسلمين اليوم لا ينقصهم منطق الإيمان كعقيدة فردية ليس لها اى بعد اجتماعى ، ولكن ينقصهم الحياة ، والحركة اى ان يتحول هذا الإيمان الى رسالة تغييرية فى الحياة ، ويمكننا ان نقول ان شروط الإقناع لم تتحقق بكاملها عندهم ، اى ان هناك خللاً فى عملية الإقناع بالرسالة الاجتماعية للإيمان لدى الغالبية العظمى منهم.
إننا نرى ان المسلمين اليوم لم يحققوا شروط الإقناع الكامل برسالة الإيمان الاجتماعية والحضارية ، لأن الاقتناع عملية نفسية تشارك فيها جميع قوى النفس ، ولا يمكن فى هذه العملية ان نفصل بين العقل والعاطفة ، لأن إرضاء أحدهما لا يعنى بالضرورة رضا الأخر ، فقد يميل العقل الى حجة او برهان فى حين تجد العاطفة مضطربة غير مطمئنة لذلك الموقف(128)
فالمسلمون يدركون بالعقل ان الايمان ضرورة حياتية ، ولكنهم فى الوقت نفسه يشبعوا جانب العاطفة والضمير بفكرة ان الايمان رسالة اجتماعية ، وذلك راجع الى سيطرة الغرائز على الأفكار ، ومن هنا لم يتحول اقتناعهم الناقص الى إرادة وعمل ، ويمكننا فى هذه الحال ان نشبههم بحالة الإنسان المدخن الذى تجده مقتنعاً بعقله بضرر التدخين ، ومع ذلك لا يستطيع تركه والإقلاع عنه لسيطرة قوى العاطفة عليه بتسجيلها الإحساس باللذة ، ولهذا كانت عملية الإقناع ناقصة لوجود الموانع كالشهوة وغيرها.
إن الإقتناع هو امتزاج الأمر الشرعى بالعقول والقلوب ، بحيث يتحول هذا الاقتناع مباشرة الى إرادة وعمل ، واى خلل فى هذه العملية سيعطل الإرادة ، ويفقد العمل ، وهذا الاقتناع ضرورى للمسلمين فى هذا العصر ، لأن فاقد الشئ لا يعيطه ، ولأن الفكرة الكامنة فى النفوس إذا لم تتحول الى رسالة متحركة فى الحياة ، فهى كالماء المخزون فى سنام البعير .
كالعيس فى البيداء يقتلها الظمأ
والماء فوق ظهورها محمول
ويقول مالك بن نبى – رحمه الله – إن المسلم لا يستطيع ان يقوم برسالته فى الثلث الأخير من القرن العشرين إلا إذا حقق كمنطق خاص لرسالته كل شروط الإقتناع ، وكل شروط الأقناع(129)
وهو يقصد بشروط الاقتناع ، ان يقتنع المسلم بأنه له رسالة يجب ان يقدمها للآخرين ، ولا يكون ذلك إلا بتغيير فى داخله ، وفى أغوار نفسه ، وحوله فى محيطه الخاص او فى محيطه العالمى(130)
وإن المسلم الذى يكره الموت ويحب الدنيا – كما جاء فى حديث القصعة – وهو مسلم انحرف عن مسار الرسالة التى خلق من اجلها ، وهو عاجز عن اداء دوره الاجتماعى ، واستحق بذلك وصف ( الغقائية) ووصم ( الوهن) .
وإنه لا سبيل الى الحياة عاملة نشيطة إلا بعودة الشعور الحركى للمسلم ، الشعور الذى يرفعه من مستوى (الأنا) الى مستوى (النحن) ، والذى يمنحه الوقود اللازم للانطلاق نحو كسب احترام الاخرين له بما يؤدى من عمل ، وبما يزرع من خير ، وبما يقدم من جهد ، وهذا هو دورالشهادة على الناس الذى ينتظره منه كل الناس .
إن المسلم اليوم فى حاجة ماسة الى الاقتناع برسالته وبدوره الحضارى ، وهذا الاقتناع الذى سيمنحه وقوداً لأداء وظيفته بفاعلية وثبات ، وسيكون بذلك واراثاً للنبوة ، وداعياً الى الوسيطية والعدل ، ومنقذاً للبشرية التائهة ، ومنفذاً لأمر الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم : ( لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليبعثن الله عليكم قوماً ثم تدعونه فلا يستجاب لكم)(131)
2. المبررات والبناء النفسى :
المبررات هى الدوافع التى تحرك الطاقات الاجتماعية وتدفعها الى اعلى مستوى من النشاط والفاعلية ، وهى أحد العوامل الأساسية فى البناء النفسى لأى شعب يريد التحضر ، وهى مثل الكريات الحمراء فى الدم إذا فقدت لسبب من الأسباب ، أصيب الجسم كله بمرض (فقر الدم) الذى يكسب الجسم ضعفاً ووهناً .
والإسلام هو مجموعة من المبادئ والقيم الروحية التى جاءت لتزود البشرية بمبررات جديدة ، لتحيا حياة حقيقة وفق منهج إلهى شامل ( يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم) [ الأنفال : 24] ( وكذلك اوحينا إليك روحاً من آمرنا ما كنت تدرى ما الكتاب ولا الايمان ولكن جعلناه نوراً نهدى به من نشاء من عبادنا) [الشورى :52] ، فهذه الروح الموحى بها والتى لا قوام للجسد إلا بها ، ما هى إلا تلك المبررات التى تعطى للإنسان قيمته الاجتماعية ، وتحوله من إنسان ضال الى إنسان يسير على هدى وبصيرة( ووجدك ضالاً فهدى) [ الضحى :7] .
والمتأمل فى القرآن الكريم يدرك انه دعوة عالمية محدودة التكاليف يسيرة الرسالة ، وإنما كثرت سوره ، واستبحرت اياته لكى يتسنى عرض الحقائق الدينية فى اسلوب عامر بالإقناع ، فياض بالأدلة (132) ، ولأنه يريد ان يهدم الأسس الفكرية للمناهج الباطلة ، ويبنى النفوس بناءاً نفسياً قائماً على مبررات جديدة ، فيها كل مقومات العمل الايجابية.
وكذلك جاءت السنة النبوية لتزود المسلم بمبررات وجوده ولتذكره دائما بدوره ورسالته فى الحياة يقول الرسول صلى الله عليه وسلم لأحد الصحابة : ( لئن يهدى الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم)(133)
ويقول محمد المبارك : ( إن الله أمرنا ألا نرضى بالظلم والفساد ، والشرك والجهل والتغيير ، بل محاربة هذه الظاهرات الاجتماعية لإحلال العدل والفضيلة والإيمان والعلم محلها ، وما يصاب به الإنسان من مرض او هلاك نفس او مال ، عليه ان يدفعه عن نفسه(134) وهذه المفاهيم الإسلامية هى التى تحدد مركز المسلم فى هذا العالم المتصارع ، كشاهد على الناس فى فكرة وسلوكه ، بما لديه من قيم حضارية ، فيها الخير والسعادة للاخرين.
ومرت الأمة الإسلامية – بعد عصرها الذهبى – بظروف اجتماعية وسياسية ونفسية سيطرت فيها الغرائز والإهواء ، وسادت فسيها العصبية والشحناء ، حتى تكالبت عليها الأمم ، وطمع فيها الأعداء ، وظهر هذا الإنحراف بشكل واضح فى طبقة القائمين على امور المسلمين ، حتى قال فيهم ابن الأثير قولته المشهورة : ( كانوا كالجاهلية ، همة احدهم بطنه وفرجه ، لا يعرف معروفاً ، ولا ينكر منكراً)(135)
وهذا الوضع الذى وصلت إليه الأمة بعد فقدها للمبررات التى كانت تمنحها الحركة ، والحياة فى اول امرها ، جعل الدعاة المصلحين والمجددين ينهضون بعزم وثبات لأعادة الأمة الى وضعها الطبيعى ، ولتغيير تلك المبررات المفقودة بأخرى جديدة ، مثلما يجدد العود حياته بعد يبسه ، ومثلما يغير الفجر ثوبه بعد غسله.
وما الصحوة الإسلامية التى شهدها العالم الإسلامى كله إلا ثورة لأعادة تلك المبررات المفقودة الى الأمة ، وبناء الجيل الجديد بناءاً نفسياً يتجاوز كل العقبات والمعوقات للسعى نحو إعادة المشروع الإسلامى الكبير ، واستئناف الحياة الإسلامية من جديد ، وما زالت الجهود المقدمة لا تصل الى مستوى الطموح الذى تسعى إليه الصحوة ، وهو ان يحمل كل مسلم هم تبليغ رسالته ، والإرتفاع بسلوكه الى مستوى الحضارة.
إن على المسلم اليوم ان يشعر بأنه يملك شيئاً يمكن ان يقدمه للأخرين ، وبخاصة فى هذا العصر ، الذى تتصارع فيه الأفكار والثقافات ، واصبح لزاماً على كل شعب ان يقدم ما يملك من امكانيات حتى يعلم حظه بين الشعوب(136)
ودور المسلم يتمثل فى تحقيق الممارسة التطبيقة والسلوك العملى للآية الكريمة ( ولتكن منكم امة يدعون الى الخير يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون) [ آل عمران: 104] ، فإذا ما تحقق هذا المبدأ فى سلوكه فإنه سيوفر لرسالته شروط الفاعلية والنشاط ، وسي*** احترام الاخرين له بما لديه من قيم شرعية.
إن الفاعلية تكون اقوى فى الوسط الذى ينتج اقوى الدوافع ، وأقوم التوجيهات ، وأنشط الحركات(137) وهى نتيجة طبيعية للمبررات التى تدفع المسلم نحو العمل ، وتحرره من القيود التى تشل تفكيره وحركته ، وإنه لا سبيل امام المسلم اليوم إذا أراد ان يمارس دور الشهادة على الناس ، فى هذا العصر الى تتهاوى فيه القيم والأخلاق ، إلا العودة الى ينابيع الوحى ليغرف منها مادة الحياة ، ويمزجها بشعوره وفكره ، ثم ينطلق الى الواقع ليعمل بيده ، وقلبه ، وفكره ، ليصنع تاريخاً مشرفاً فيه ارضاء لله ورسوله ، وللأجيال القادمة من بعده.
ومسؤولية هذه الأزمة الحضارية التى تعانى منها الأمة الإسلامية اليوم تقع عل عاتق كل مسلم يؤمن برسالته فى الحياة ، وبخاصة ذلك المسلم الذى تهيأ نفسياً وعملياً لقيادة الأمة ، وتوجيه الطاقات ، وتفجير القدرات ، وهو الدور الغائب فى واقعنا المعاصر .
3. النظرة الإيجابية:
النظرة الايجابية فى الحياة هى التى تحدد موقف المسلم تجاه الأشياء ، وهى التى تحدد ايضا مكانته وقيمته الاجتماعية فى الحياة ، لأنها سبب فى العمل والحكرة ، وعامل فى الفاعلية والعزم ، وهى فى حقيقتها تجسيداً لمبدأ التوكل على الله الذى يربط فيه المسلم بين الثقة بقدر الله ، وبين الأخذ بالأسباب التى نصبها الله لعباده .
يقول ابن قيم الجوزية – رحمه الله - : ( من تمام التوكل استعمال الأسباب التى نصبها الله لمسبباتها قدراً وشرعاً ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم واصحابه اكمل الخلق توكلاً ، وإنما كانوا يلقون عدوهم وهم متحصنون بأنواع السلاح ، ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة والبيضة على رأسه ، وقد انزل الله عليه ( والله يعصمك من الناس) [المائدة :67] (138)
والمسلم اليوم ؛ إما انه يخطئ فى فهم التوكل على الله ، فيركن إلى التواكل ، ويترك العمل بالأسباب ، وإما انه يعمل بالأسباب ولكن يمنهج خاطئ ، وذلك حي? ينظر الى الأشياء بنظرة فيها تساهل وغباء مما يقود مالك بن نبى – رحمه الله : ( نحن ننظر الى الأشياء على انها (سهلة) وهو قائد ولا شك الى نشاط اعمى ، وإما ان يأخذ النظرة إليها على انها ( مستحيلة) فيصاب النشاط بالشلل(139)
فالنظرة الى الاشياء عند المسلم ينبغى ان تتسم بالإيجابية التى لا تعرف إفراطاً ولا تفريطاً ، ومثل هذه النظرة المعتدلة ستمكنه من التفاعل مع الواقع بثقة وحزم ، وفاعلية وعزم ، وأن عليه تقديم العمل الصائب ليحصل على أحسن النتائج ، أما إذا تخلفت النتائج فسيكون مطمئناً راضياً بقضاء الله وقدره.
ولنا فى القرآن الكريم انماذج حية لمواقف المؤمنين الإيجابية تجاه الأشياء ، فمن ذلك قصة ( ذى القرنين) ذلك الرجل الذى طاف مشارق الأرض ومغاربها ناشراً للعدل والفضيلة ، قامعاً للظلم والرذيلة وهو يمثل انموذجاً رائعاً للمسلم الفعال الذى لا يعرف عجزاً ولا جبناً ، وانظر معى الى موقفه الايجابى تجاه المشكلات التى واجهته ، قال تعالى : ( ثم اتبع سبباً . حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوماً لا يكادون يفقهون قولاً . قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون فى الأرض فهل نجعل لك خرجاً على ان تجعل بيننا وبينهم سداً . قال ما مكنى فيه ربى خير فأعينونى بقوة أجعل بينكم وبينهم ردماً . آتونى زبر الحديد حتى إذا ساوى بين الصدفين قال انفخوا حتى إذا جعله ناراً قال أتونى افرغ عليه قطراً . فما استطاعوا ان يظهروه وما استطاعوا له نقباً . قال هذا رحمة من ربى فإذا جاء وعد ربى جعله دكاً وكان وعد ربى حقا) [ الكهف: 81 – 89]
إن موقف ( ذى القرنين ) متسم – كما هو ملاحظ – بالايجابية فى التعامل مع هذه المشكلة وتظهر الايجابية اولاً فى التوكل على الله ( قال ما مكنى فيه ربى خيرا) ثم فى الأخذ بالأسباب ( آتونى زبر الحديد) ، ثم فى الاستعانة بالسنن ( ثم اتبع سبباً) ، وهذا الموقف الايجابى هو الذى حقق تلك النتائج العظيمة ، التى لم يحققها فاتح فى تاريخ البشرية.
إننا لم نلاحظ فى موقف هذا العبد الصالح اى نوع من انواع التبرير او السلبية او العجز ، فهو لم يلجأ الى الدعاء مثلاً لتبرير عجزه ، ولتخليص هؤلاء الكسالى من بغى يأجوج ومأجوج ، وهو ايضا لم يعتمد على منطق الاستحالة لرد عدوان هؤلاء المفسدين ، بل انطلق لحل الأزمة معتمداً على الله ثم على ما بين يديه من وسائل بشرية.
وهناك قضية اخرى تتعلق بموقف المسلم تجاه الأشياء ، وهى ان بعض المسلمين يعتقدون ان العمل الناجح لا يؤدى بالضرورة الى النتائج المرجوة ، وهذه النظرة قد تؤدى بهم الى تقديم العمل دون فاعلية كافية لأنهم لا ينتظرون نتيجة إيجابية لجهدهم المقدم.
يقول جودت سعيد : ( إن اعتقاد المسلمين بأن النجاح ليس نتيجة حتمية للسعى الصالح هو من اشد المعوقات التى تمنع المسلمين من مراجعة اعمالهم ونقدها ، لأنهم لا يفرضون فيها الخطأ بل يفرضون انها كانت صائبة ولكن لم تأت النتيجة لأمر اراده الله(140)
ولا ينبغى ان نخلط هنا بين من يعتقد بأنه يملك العمل ولا يملك النتائج ، وبين من يعمل اى عمل دون مراعاة شروط الصواب ، ثم يقول: إن النتائج بيد الله ، ويحمله تعالى تبعة اخطائه.
إن على المسلمين اليوم إذا ارادوا ان يزيلوا عنهم وصف الغثاثية – وهم بهذا الكم الهائل- ان ينطلقوا الى الحياة بأفق حضارى واسع ، ويخلعوا عنهم لباس الوهن ، وينظروا الى الواقع نظرة إيجابية تبعد كل دواعى اليأس والقنوط ثم ليوقنوا بأن نصر الله لن يتخلف عنهم إذا هم حققوا النصر على انفسهم و ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) [ الرعد : 11]
وهذه النظرة الإيجابية من شأنها تزويد المسلمين بالطاقة والفاعلية ، لأنها جزء من الإيمان ، ( هذا الايمان الذى لا يمس قلب شخص إلا ويكون أول اعماله تقديم ماله وروحه فى سبيل الايمان ، لا يراعى فى ذلك عذراً ولا تعله ، وكل اعتذار فى القعود عن نصرة الله فهو اية النفاق ، وعلامة البعد عن الله )(141)
4. التوتر والحماس الذاتى :
التوتر هو نوع من الحيوية الدافعة التى تميز اى مجتمع فى بداية حضارته ، وتستمر معه هذه الحالة طيلة رحلته الحضارية ، وهو ايضا حماس ذاتى يدب فى المجتمع فينطلق جميع افراده لانقاذ انفسهم ، وتحقيق وجودهم ، وتطوير مجتمعهم .
ويرى مالك بن نبى – رحمه الله – ان التوتر الذى يمد المجتمع بالفاعلية ما هو إلا حالة نفسية يمكن ان نسميها قلق ، وليس المقصود هنا الحالة النفسية المرضية ، وإنما هو حالة صحية لأنه علامة الحياة الأولى ، وعلامة الولادة الجديدة ، فإن الطفل يستبشر أهله بولادته ولادة سليمة حينما يبكى ، يقول – رحمه الله - : ( نحن إذ يعترينا القلق فى حياتنا نشعر بأنا قد ولدنا ولادة جديدة ، فقد عشنا قرونا طويلة لا نشعر فيها بأى قلق ، فحياة جدى رحمه الله كان يحتويها جو من الطمأنينة فقد كان رجلاً فاضلاً مؤمنا يقوم بواجباته كمسلم ، ولكنه لا يشعر فى يوم من الأيام بوجود المشكلات تواجهه رويداً رويداً وبدأ يشعر شيئاً ما بالقلق ، ثم أتى جيلنا فتعلقت على رأسه الاف من المشكلات ، ونقط الاستفهام ملحة للجواب عليها ، ملحة لدارستها لأنها تتصل بجوهر الحياة كيانناً(142)
ولكن كيف يحدث هذا الشعور بالقلق ، وما هى الظروف التى تنشئ حالة التوتر التى تبعث الحياة فى المجتمع.
إن الشعور بالخطر هو السبب الذى يضع الإنسان امام تحدى مشكلاته ، ويشكل عنده ما يسمى بحالة ( إنقاذ) وأول ما يكون من اثر هذه الحالة فى فنسه أنها تحرمه الشعور بالإستقرار بما يعتريه ويسيطر على مشاعره من قلق لا يمكن دفعه إلا بتغيير الوضع ، بتغيير الأشياء بالوقوف امام الحوادث لتوجيهها لغايات واضحة وقريبة فى شعور الفرد ، سواء اكان الواقع يؤيد هذا الشعور أو لا يؤيده(143)
والشعور بالخطر ليس باعثاً دائماً لحالة القلق التى تدعو الى الحركة نحو التغيير ، إلا إذا صاحب هذا الشعور دافع ايمانى قوى ، لأن كثيراً من الأمم والشعوب تحاصرها المشكلات ، وتهددها الأخطار ، ولا تجد عندها اى شعور بالقلق يدفعها الى تغيير وضعها ، وذلك لفقدها الطاقة الايمانية الضرورية فى مثل هذه الظروف.
وقد ظهرت حالة التوتر بشكل واضح فى بداية الإنطلاقة الإسلامية ، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم ، أول إنسان مسته شرارة الروح ، فكان ان شعر بالقلق بعد نزول الوحى عليه ، هذا القلق الذى سيكون من اقوى الدوافع لديه نحو الحركة ، والتغيير وقد سجل القرآن الكريم والسنة النبوية هذه الظاهرة التى حدثت للرسول صلى الله عليه وسلم ، قال تعالى ( فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً ) [ الكهف :6] ، وقال تعالى : ( فلا تذهب نفسك عليهم حسرات) [ فاطر : 8] ، فسلوك النبى صلى الله عليه وسلم هنا ناتج عن حرصه الشديد على إنقاذ أمته ، وقلقه المستمر على تغيير الوضع الجاهلى السائد ، ولذلك وصف فى القرآن بأنه ( حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم ) [ التوبة : 128]
وتسجل كتب السيرة ان الرسول صلى الله عليه وسلم عانى من القلق فى نفسه فى بداية امره ، هذا القلق الذى سيقوده الى مواجهة المشكلات التى يعانى منها مجتمعه وسيظهر صلى الله عليه وسلم عبقرية ذات رحابة لا مثيل لها ، مستهدياً بالوحى الذى يجئ حاملاً دائماً الشعاع العلوى ، والكلمة الأخيرة، وسيكشف الرجل عن ذكاء عجيب ، وعن حكم على قيم الأشياء ، وعلى نفسية الرجال ، منزه تقريباً عن الخطأ ، كما يكشف عن إرادة لا يعتريها الوهن (145)
إن هذه الإرادة التى لا يعتريها الوهن ، وهذا الحماس والحيوية والتوتر الذى تجسد فى شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم سيكون أحد مقومات الفاعلية فى الأمة الإسلامية التى ورثت كل صفات الكمال عن نبيها صلى الله عليه وسلم ويبقى وقوداً دائماً لها لمينحها الحياة المتجددة.
وإذا كانت حالة التوتر والحماس لأداء الرسالة الحضارية قد قلت او انعدامت فى الأمة الإسلامية اليوم ، فإنها فى امم اخرى اكثر حرارة وتوقداً ، ومثال ذلك ما يشهده شعب يهود من فاعلية وتوتر وحماس لتحقيق اهدافه الكبرى ، فهو قد استمد هذه المقومات الأساسية من طبيعة الديانة اليهودية ، وواقعها التاريخ ، واستوحى العديد من التعاليم والعقائد الدينية التى تداخلت فى نسيج الحركة الصهيونية الرامية الى الاستيلاء على فلسطين ، وجعلها قاعدة انطلاق لاستعمار يهود فى العصر الحديث(146) يقول: (هرتزل) مؤسس دولة يهود : ( نحن نشعر برابطتنا التاريخية فقط عن طريق إيمان الأباء والأجداد . .. فالإيمان يوحد فميا بيننا ، والمعرفة تمنحنا الحرية(147) وهو يقصد أن إيمان بالعقيدة اليهودية سيبقى المحرك للطاقات ، والموحد للصفوف عند جميع يهود.
وهناك شعب أخر ما زال يحقق التفوق تلو التفوق فى ميادين الحضارة وهو الشعب اليابانى الذى عرف منذ انظلاقه فى القرن الماضى ( سنة 1868) توتراً وفاعلية وحماساً بين جميع افراده ، وحقق بذلك انتصارات كبيرة فى ميادين الحياة المختلفة ، و*** احترام الأمم والشعوب له ، ,اصبح عندهم أنموذجاً يقتدى به.
إن التوتر والحماس الذاتى هما شرطان أساسيان للفاعلية المرجوة عند المسلمين فى هذا العصر ، ولن يحصل ذلك إلا بالإيمان والإرادة ، وكما يقول الأمير شكيب ارسلان – رحمه الله : ( إن ملاك الأمر هو الإرادة فمتى وجدت الإرادة وجد الشئ المراد(148)
5. المحيط الاجتماعى ( الثقافة) :
المحيط الاجتماعى هو الثقافة التى تعكس حضارة معينة ، وكل مجتمع له ثقافته التى تميزه عن بقية المجتمعات ، من حيث العادات والتقاليد والقيم ، ومن حيث – وهذا هو المهم – السلوك الحضارى ، والذوق الجمالى ، والعمل الحركى.
فالثقافة التى تيمز الحضارات ليست مجموعة من المعارف النظرية التى يتعملها الإنسان – كما يعتقد كثير من الناس – ولكنها سلوك عملى فى المجتمع يحدد مستواه الفكرى وقيمته الاجتماعية ، ومن هنا كان المبدأ الاخلاقى والذوق الجمالى من العناصر الأساسية فى الثقافة ، لأنهما ينتجان الفاعلية ، أو ما يسميه مالك بن نبى ( بالمنطق العملى ) .
إن كل ثقافة تتضمن علاقة ( مبدأ اخلاقى – ذوق جمالى ) تكون ذات دلالة عن نوع عبقرية مجتمع معين ، وهى ليست تطبع إنتاجه الأدبى بطابع خاص فحسب ، وإنما تحدد اتجاهه فى التاريخ ايضا(149) لأن المبدأ الأخلاقى هو الذى يكون شبكة العلاقات الاجتماعية التى تتجه كلها فى اتجاه واحد نحو البناء والتكوين الحضارى ، أما الذوق الجمالى فهو الذى تنبع منه الأفكار ، وتتجه نحوه الأعمال.
وإذا كان للثقافة هذا البعد الاجتماعى ، فينبغى ان نوضح الخلاف الجوهرى بين الثقافة التى تتضمن كشرط اولى تحديد الصلات بين الأفراد ، وبين العلم الذى لا يهتم إلا بالصلات الخاصة بالمفاهيم والأشياء ( فالرجل العالم قد يكون عنده إلمام بالمشكلة كفكرة غير انه لا يجد فى نفسه الدوافع التى تجعله يتصورها كعمل ، فى حين ان الرجل المثقف يرى نفسه مدفوعاً بالمبدأ الأخلاقى الذى يكون أساس ثقافته الى عمليتين : عملية هى مجرد علم ، وعملية أخرى فيها تنفيذ وعمل(150)
إن من أبرز الملاحظات فى القرن العشرين ان الفرد اصبح يؤثر بثلاثة مؤثرات هى : الثقافة ، والعمل ، والمال ، وتعد الثقافة احد الأسلحة الفعالة المستخدمة فى قضية الصراع الفكرى بين الشرق والغرب ، بل إننا نشهد صراعاً ثقافياً بين المجتمعات الغربية نفسها.
وإن أمام المسلم فى هذا القرن تحديات حضارية كبيرة منها التحدى الثقافى الذى يفرض عليه منطق الفاعلية ان ينتصر فيه ، لأنه كى يتمكن من مجابهة الثقافات الخاصة بمجتمعات اليوم المتحركة يجب عليه ان يعيد الفاعلية للدين الإسلامى لتأخذ مكانها بين الأفكار التى تبنى الحضارة وتصنع التاريخ.
ومع ان المحيط الاجتماعى الذى يتربى فيه المسلم اليوم اكسبه بعض العادات السيئة كحب الراحة والسكون ، وتفضيل العجز والتواكل نظراً للخلل الموجود فى شبكة العلاقات الاجتماعية ، إلا أن التحديات الحضارية تفرض عليه توجيه ثقافته وسلوكه نحو العمل الذى وحده يخط مصير الأشياء فى الإطار الاجتماعى ، ولا يكون ذلك إلا بتغيير نفسه اولاً ، والارتفاع بها الى مستوى الحضارة.
لابد للمسلم اليوم ان يعرف ان المعرفة التى يملكها لا قيمة لها إذا لم تتحول الى ثقافة متحركة ، وقوة دافعة ، وإذا لم تساهم فى توحيد العلاقات الاجتماعية ، واجتماع الجهود الفردية والجماعية لتصب كلها فى خدمة الأمة الإسلامية ، والعمل على إخراجها من الأزمة الحضارية التى تعانى منها.
6. الاجتهاد وروح المبادرة:
لقد تحدثنا فى مبحث سابق عن العلاقة العضويى بين ازدهار الاجتهاد وتقدم الأمة وقوتها ، وان ضعف الأمة وتخلفها كان من ورائه تخلف الاجتهاد وضعفه ، وذلك باتباع ( التقليد) الذى اصاب القاعدة الفكرية للأمة بالسلبية والكساد.
والاجتهاد عملية عقلية وفق ضوابط خاصة تتوخى استنباط الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية ، فالمجتهد ينظر فى الأدلة النصية كالقرآن والسنة ، او يستهدى روح الشريعة ومقاصدها ويبذل جهده فى سبيل التعرف على الحكم الشرعى (151)
وهو عملية تتطلب أقصى الجهد فى معرفة الحقيقة سواء أكانت شرعية ام اجتماعية ام ثقافية ام سياسة وغيرها ، اى انه نشاط فكرى يشمل جوانب الحياة المختلفة ، من حيث انه قوة تحرك كل الطاقات نحو العمل المتقن فى شتى الميادين.
لقد كان الاجتهاد سمة بارزة للفكر الإسلامى فى عصره الذهبى ، وكان قوة دافعة نحو الفاعلية والعمل فى كل الفترات التى عرفت نهضة وازدهاراً فى التاريخ الإسلامى ، وقد دلت التجارب الاجتماعية ان الاجتهاد بالنسبة للأمة الإسلامية لا يعدو كونه جامعاً بين الفكر والواقع فحسب ، بل هو روح تبعث الحياة المتجددة فى الأمة ، وترقى بها الى مستوى الأمم التى تصنع التاريخ.
وفى هذا القرن وقعت الأمة الإسلامية فى خطأ كبير من حيث لا تدرى ، فقد اعتقدت ان طريق التطور والاجتهاد يكمن فى تقليد الغرب ، يقول مالك بن نبى – رحمه الله - : ( حينما استيقظت الشعوب العربية الإسلامية على خطر الاستعمار ، فقد كانت يقظتنا الفجائية دافعاً من دوافع الحياة ، وفى الوقت نفسه دافعاً من دوافع الخطأ ، فكان مثلنا كنائم استيقظ فجأة فوجد النار فى غرفته ، ودون اى تفكير ألقى بنفسه من نافذة الغرفة التى هى فى الدور الرابع أو الخامس لينجو من النار ، فنحن قد ألقينا بأنفسنا من حيث لا نريد فى هوة التقليد حتى ننجو من الاستعمار ، اننا لم نفكر فى الخلاص تفكيراً معقداً ، وإنما دفعتنا دوافع لا شعورية لتقليد حضارة الاستعمار حتى نعصم انفسنا منه(152)
إن التقليد – سواء أكان للغربيين ام لغيرهم – قد جمد الكثير من الطاقات الفكرية المتعطشة الى الإبداع وتقديم الجهد الفكرى الذى يجسد شخصية الأمة وطابعها الحضارية ، وما على الأمة الإسلامية اليوم ان هى أرادت الخروج من ازمتها الحضارية إلا إعادة روح الاجتهاد الى ابنائها ، وذلك بتشجيع روح المبادرة ، وتوفير ظروف الابداع ، واطلاق الحريات ، وإعطاء الحوافز المادية والمعنوية ، فكل هذه الأسباب من شأنها ان تعيد للأمة حيويتها وفاعليتها.
فالاجتهاد المطلوب اليوم هو ذلك سيعيد للأمة عافيتها فى جميع مجالات الحياة ، وينبغى ان يهتم بالجوانب التالية:
اولاً: تصفية الأفكار الميتة ( وهى بعض الأفكار الموروثة التى ليس لها اى سند شرعى ، أو بعد حضارى )
ثانياً : تنقية الأفكار القاتلة ( وهى بعض الافكار المستوردة التى فيها نوع من التهور وليس التطور)(154)
ثالثاً: تشجيع موهبة النقد الذاتى – وبخاصة فى ميدان العمل الإسلامى – حتى تقوم الأعمال ، وتصحح الأخطاء.
7. الحافز والحرية :
إن الحرية تربى وتفجر الطاقات ، وهو وقود ضرورى للفاعلية فى اى مجتمع من المجتمعات المتحضرة ، وقد ذكر فى مبحث سابق ان شعور المسلم بالحرية فى العصور الأولى للإشعاع الروحى كما يمنحه نوعاً من العزة والثقة بالنفس ، وفى الوقت نفسه كان يعطيه دافعاً معنوياً قوياً نحو العمل لإنقاذ البشر المكبلين بحبال القهر والعبودية.
أما فى واقعنا المعاصر فإن المسلم اصبح يشعر بنوع من القهر ، ولم يعد يملك الحرية الكافية للحركة والعمل ، وذلك للقيود التى وضعها الواقع الاجتماعى والسياسى فى المجتمعات الإسلامية بعد خروج الاستعمار منها ، وإن المتتبع لمسيرة الصحوة الإسلامية يدرك مدى القيود والعقبات التى وضعت فى طريقها من قبل اعدائها فى الداخل والخارج حتى تشل حركتها ، وتقيد حريتها ، وتجهضها فى مهدها.
ومع هذه الظروف كلها مازال المسلم يطمح فى ان يحال بينه وبين الواقع ، وان ترفع عنه تلك القيود التى تكبله ، وانه لينظر احترام الى تلك المجتمعات التى حققت لأفرادها بعض الضمانات الاجتماعية مثل العدل والحرية ، ويرجو ان تعود الفاعلية الى الأمة الإسلامية بعودة الحس الإيمانى وقيم الخير والعدل والحرية.
والى جانب اهمية الحرية فى تفجير الطاقات ، وتوجيهها نحو العمل المبدع ، والنشاط المتقن ، لابد من توفير عنصر آخر ضرورى لتحقيق شروط الفاعلية وهو الحافز المادى والمعنوى الذى يساهم فى خلق المبررات التى تحرك الطاقات الاجتماعية ، وتدفع النشاط الفردى والجماعى الى اعلى قمة.
إن الحافز المعنوى يأتى فى الدرجة الأولى من حيث الأهمية ، فهو الباعث للشعور الذى يدفع الإنسان نحو الحركة والعمل ، وهو عامل اساس فى إيجاد الإرادة ، وتوجيه الثقافة ، ومن هنا يلاحظ فى الشريعة الإسلامية ذلك الربط القوى بين المبادئ والحوافز المعنوية لمنح الإنسان جملة من الدوافع المؤدية الى العمل ، ومن هذا الجانب يفهم حديث الرسول صلى الله عليه وسلم فى مبايعة الأنصار حديث قال : ( تبايعونى على السمع والطاعة فى النشاط والكسل وعلى النفقة فى العسر واليسر ، وعلى الأمر بالمعروف ، والنهى عن المنكر ، وعلى ان تقولوا فى الله لا تأخذكم لومة لائم ، وعلى ان تنصرونى إذا قدمت عليكم ، وتمنعونى مما تمنعون منه انفسكم وازواجكم وابناءكم ولكم الجنة )(155) والوعد بالجنة حافز كرره الرسول صلى الله عليه وسلم مع كثير من الوفود التى قدمت لمبايعته ونصرته.
أما الحافز المادى الذى يقلل كثير من المسلمين من اهميته ، فهو على درجة كبيرة من الأهمية فى رفع مستوى الفاعلية ، لأن له ابعاداً اجتماعية كثيرة منها توفير الأمن الاجتماعى والإطمئنان النفسى ، وقد أغنى الله نبيه صلى الله عليه وسلم بمال خديجة حتى يستطيع تأدية رسالته قال تعالى : ( ووجدك عائلا فأغنى) [ الضحى : 8] ، ويأتى وعد الله للمؤمنين بالتأييد المادى فى ساعات الشدة كما فى قوله تعالى : ( وإن خفتم عليه فسوف يغنيكم الله من فضله)[التوبة: 28] ، وقوله تعالى فى مقام الإمتنان : ( وإن خفتم إذ أنتم قليل مستضعفون فى الأرض تخافون ان يتخطفكم الناس فئاواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون)( [الأنفال :26]
إن الإسلام دين واقعى يراعى حالات النفوس ، ويلبى حاجات الناس الفطرية ، وما اهتمامه بتوفير الحافز المادى للنفس البشرية إلا دليل على واقعيته ووسطيته ، وإنا نظن ان كثيراً من المسلمين حين فقدوا الحوافز المادية لسبب من الأسباب قل نشاطهم ، وخف تحمسهم للعمل ، مع العمل ان الواحد منهم حين يتوفر لديه هذا الحافز فى اى ظرف من الظروف تجده يقدم اقصى الجهد ، ويعمل ليلاً ونهاراً كى يحقق شيئاً فى حياته ، وإن كثيراً من العقول المهاجرة ترفض الرجوع الى بلادها الإسلامية لجملة من الأسباب لعل ابرزها فقدان الحوافز المادية ، ومن هنا فقد العالم الإسلامى كثيراً من طاقاته الإبداعية لهذا السبب.
ونخلص الى ان توفير الحافز والحرية يساعد فى رفع مستوى الفاعلية عند المسلمين ، وإنه لا سبيل الى تحسين المسلم إلا بتوجيهه نحو العمل ، وإقداره على ان يتجاوز وضعه المألوف.
8. الوقت وسنة التغيير:
الوقت بالنسبة للإنسان المتحضر عملة نادرة لا يضاهيها الذهب ولا الفضة ، لأنه يعلم انه الحياة التى يحيا ، والواقع الذى يعيش ، وهو يعرف ان قيمته الاجتماعية ، ودوره الحضارى مرتبطان بالساعات اليومية التى يقدم فيها عملاً ، ويبذل فيها جهداً.
لقد عد الوقت من العناصر الأساسية التى تكون الحضارات ، فما من شعب يستيقظ ليبدأ رحلة التحضر إلا ويصبح للوقت عنده قيمة لا تقدر بثمن ، ولا تقوم بمال ، وتستمر قيمة الزمن ، لأنه يتحول الى عدم ، وقد اقتضت سنة التغيير الاجتماعى ان يكون الوقت احد الوسائل الهامة فى قلب الأحوال ، وتغيير الظروف ، ومن هنا كان لزاما على الإنسان الراغب فى تغيير نفسه ان يصبح الوقت لديه اغلى شئ فى الحياة.
إن الشعوب التى دخلت التاريخ المعاصر قد عرفت الفاعلية فى مجالات الحياة المختلفة بسبب تقديرها لقيمة الوقت ، وأهميته فى اللحظات الحاسمة التى تخطط مصير المجتمعات ، وإننا لنشهد الأن صراعات حضارية يعد الوقت فيها احد مقومات الرقى والتحضر لكونه يخط مصير الأشياء ويرتبط بمستقبل اية امة تطمح الى صناعة التاريخ.
وإننا لنعجب مثلاً للشعب اليابانى الذى بدأ نهضته فى القرن الماضى ، و*** احترام الأمم والشعوب له بما حقق من مكاسب وانتصارات فى ميادين العلم والتحضر ، كل ذلك كان نتيجة قراره التاريخى بالتوجيه نحو الحضارة والاستفادة من الوقت ، ومنح الإنسان اليابانى جميع الضمانات كى يحقق وجوده.
أما العالم الإسلامى اليوم فإن الوقت لديه شكل ثقباً فى مشروعة الحضارى ( فحظ الشعب العربى والإسلامى من الساعات كحظ اى شعب متحضر ، ولكن . . . عندما يدق الناقوس منادياً الرجال والنساء والاطفال الى مجالات العمل فى البلاد المتحضرة .. . اين يذهب الشعب الإسلامى ؟ تلكم هى المسألة المؤلمة . . . فنحن فى العالم الإسلامى نعرف شيئاً يسمى ( الوقت) ولكنه الوقت الذى ينتهى الى عدم ، لأننا لم ندرك معناته ولا تجزئته الفنية ، لأننا لا ندرك قيمة اجزائه من ساعة ودقيقة وثانية ، ولسنا نعرف الى الأن فكرة ( الزمن ) الذى يتصل اتصالاً وثيقاً بالتاريخ(156)
إذن لم يتحدد مفهوم الوقت عند المسلم من حيث دخوله فى الفكرة والنشاط ، مع ان شعائر الإسلام كلها تؤكد قيمة الوقت(157) ولهذا كان واجب الإنسان المسلم نحو وقته ان يحافظ عليه كما يحافظ على ماله ، بل اكثر منه ، وان يحرص على الاستفادة من وقته كله ، فيما ينفعه فى دينه ودنياه ، وما يعود على أمته بالخير والسعادة ، والنماء الروحى والمادى ، وقد كان السلف – رضى الله عنهم – أحرص ما يكونون على اوقاتهم لأنهم كانوا أعرف الناس بقيمتها ، يقول الحسن البصرى : أدركت أقواماً كانوا على اوقاتهم اشد منكم حرصاً على دراهمكم ودنانيركم(158)
ويقول مالك بن نبى – رحمه الله - : ( نحن فى حاجة ملحة الى توقيت دقيق وخطوات واسعة لكى نعوض تأخرنا(159) وإن الفاعلية التى نرجو ان يتصف بها المسلم فى واقعنا المعاصر لا يمكن ان تكتمل شروطها إلا بنظرة جديدة تعيد الوقت قيمته فى الحياة.
الفصل الخامس
توصيات
1. دور العلماء :
العلماء هم ورثة الأنبياء – كما ورد فى الحديث الصحيح(160) ووراثة النبوة تعنى استمرار الوظيفة النبوية بعد وفاته صلى الله عليه وسلم ، وذلك بقيام العلماء بالدور نفسه الذى أداه طيلة حياته الجهادية ، وهو دور حمل الرسالة ثم تبليغها ، قال تعالى : ( إنا سنلقى عليك قولاًَ تقيلاً) [المزمل :5] وقال ايضا : ( يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته) [ المائدة :67]
ومن هذا الواجب الثقيل اصبح العالم مكانة عظيمة فى الإسلام باعبتاره وراثاً للنبوة ، وقائداً وموجهاً للأمة ، قال تعالى : ( يا أيها الذين امنوا أطيعوا الله واطيعوا الرسول واولى الأمر منكم ) [المائدة : 67]
وأولى الأمر الذين تجب طاعتهم هم العلماء العاملون ، وهو تفسير جمهور السلف – رضى الله عنهم (161)
وقبل الحديث عن الدور الذى ينتظر العلماء لابد من توضيح أمرين :
أولاً : تحديد صفة العالم الذى يريده الإسلام ، لأن نظرة كثير من المسلمين اليوم الى العالم قد شابها كثيراً من الخطأ ، وعدم الوضوح ، فكثيراً ما يخلطون بين العالم وغير العالم ، ويترتب على ذلك مواقف فى غاية الخطورة ، فالعالم الذى يريده الإسلام هو العالم العامل – بتعبير الأقدمين – وهو المهيأ نفسياً وعلمياًَ لقيادة الأمة – بتعبيرنا الحديث – وبدون صفة العمل التى تجعل منه وريثاً للنبوة ، لا يمكن بأية حال اعتباره من علماء الأمة الموثوق بهم.
ثانياً : إزالة تلك المفهومات الخاطئة التى ترسبت فى عقول كثير من المسلمين عن العلماء ، وذلك بربطهم بين العلم والكم المعرفى ، أو ما يمكن ان نسميه ( بالبنكية ) فى المعرفة ، اى كثرة المعلومات ددون ان يكون لها أية وظيفة حياتية ، يقول سيد قطب – رحمه الله -: ( اليوم لا قيمة للمعرفة التى لا تتحول لتوها الى حركة ، لا قيمة للدراسات الإسلامية فى شتى مناهجها وشتى معاهدها ، لا قيمة لاكتظاظ رفوف المكتبات بالكتب الدينية ولا باكتظاظ الأدمغة بمضومنات هذه الكتب ، إذ ليس هذا هو الإسلام ، وليس هذا هو العلم الدينى ، العلم شئ يزاول فى الحياة ، ويطبق فى المجتمع ، ويعيش فى الواقع ، ويتمثل فى نظام(162)
فالعلم الذى تحتاج إليه الأمة وهى تعيش أزمتها الحضارية هو ذلك العلم الذى يزاول حياة المسلمين ، ويحدد مصير الأشياء عندهم ، ويوجه سلوكهم نحو العمل والفاعلية ، أما إذا اصبح العلم ترفاً فكرياً أو وسيلة للانتفاع والتنافس الفردى فإنه لن يقدم للأمة شيئاً ، بل سيكون عاملاً سلبياً يساهم فى ترسيخ العجز والضعف.
إن الدور المنتظر من العلماء هو تحريك الأمة والارتفاع بها الى مستوى الشهادة وذلك بالتركيز على جانبين :
أولاً: البناء النفسى : وهو ربط المسلمين بدينهم ربطاً نفسياً يجعل منهم اصحاب رسالة تغييرية فى الحياة ، ويحفزهم نحو العمل بفاعلية وحزم لتحقيق اهداف دعوتهم.
ثانياً : الرؤية الحضارية : وهى إقتناع المسلمين بأنهم دعاة حضارة متميزة فى مستواها الدينى والدنيوى ، وانهم يملكون وسائل النجاة والسعادة للبشرية كافة.
ولو أدى العلماء هذا الدور الكبير لارتفع مستوى الأمة الفكرى ، ولأصبحت تنافس الأمم الأخرى فى قيم الحضارة ، يقول الشيخ محمد عبده – رحمه الله : ( لو قام العلماء الاتقياء وأدوا ما عليهم من النصيحة لله ولرسوله وللمؤمنين ، وأحيوا روح القرآن ، وذكروا المؤمنين بمعانيه الشريفة ، واستلفتوهم الى عهد الله الذى لا يخلف لرأيت الحق يسمو ، والباطل يسفل ، ولرأيت نوراً يبهر الأبصار ، وأعمالاً تحار فيها الأفكار(163)
ولكن فى واقعنا المعاصر يلاحظ ان هناك عجزاً واضحاً للعلماء ، وهذا العجز افقد الكثير من المسلمين الرؤية الصافية ، والتوجه الصادق نحو الإسلام ، لأن من يفقد المرجعية يعطل طاقاته الإبداعية ويسير على غير هدى ، ورحم الله الشهيد عن القادر عودة ( الذين بين هذا العجز فى كتابة المشهور بين الجهل أبنائه وعجز علمائه) حيث قال : ( علماء الإسلام يحملون وزر ما نحن فيه ، وإثم ما اصيب به الإسلام . . . يحملون اوزار المستعمرين الغافلين عن الإسلام والخارجين عليه . .. وعلماء الإسلام أغمضوا أعينهم وأطبقوا افواههم ، ووضعوا اصابعهم فى آذانهم ، وناموا عن الإسلام ، ولما يستيقظوا من عدة قرون ، فنام وراءهم المسلمون ، وهم يعتقدون ان الإسلام فى آمان ، وإلا ما نام عنه علماؤه الأعلام . إن علماء الإسلام ناموا عن الإسلام زمناً طويلاً فما هاجموا وضعاً من الأوضاع المخالفة للإسلام ، ولا حاولوا إيقاف امر او حكم مخالف لأحكام الإسلام ، وما اجتمعوا مرة يطالبون بالرجوع الى احكام الإسلام(165)
إن العلماء هم القدرة والمرجع للأمة ، فينبغى ان يحققوا فى انفسهم أولاً كل صفات الفضل ، وقيم الحضارة ، كالفاعلية والحزم والثبات ، ثم ينطلقوا لقيادة الأمة نحو الريادة والشهادة على الناس ، وبذلك كله سيكونون اهلاً لوراثة النبوة.
2. الواجبات قبل الحقوق :
إذا كان العلماء هم قادة الأمة وقدوتها ، فإن الأمة الإسلامية بأبنائها المخلصين هى القاعدة الأساسية التى ينطلق منها اى إقلاع حضارى ، لأنها منبع الطاقات ، ومستودع القوى ، ولا يمكن بأية حال ان نتوقع السلامة من المرض فى اى جسم بشرى إلا إذا تعافت جميع الأجزاء المكونة له ، وأدى كل جزء دوره اللائق به.
وإن الاستخلاف يبدأ فى حقيقته من مرحلة الواجبات التى يقوم بها كل فرد من افراد الأمة ، هذه الواجبات التى تجتمع كلها لتشكل الجسم السليم والمعافى والنشيط ، الذى يؤدى رسالته الحضارية بثقة ووعى ، وحزم وثبات . يقول مالك بن نبى – رحمه الله - : ( إن التاريخ لا يبدأ من مرحلة الحقوق ، بل من مرحلة الواجبات المتواضعة فى ابسطة معنى الكلمة ، الواجبات الخاصة بكل يوم ، بكل دقيقة ، لا فى معناها كما يعقده عن قصد أولئك الذين يعطلون جهود البناء اليومى بكلمات جوفاء ، وشعارات كاذبة ، يعطلون بها التاريخ ، بدعوى انهم ينتظرون الساعات الخطيرة ، والمعجزات الكبيرة(166)
إن المتأمل فى الشريعة الإسلامية يدرك انها تؤكد على تقوية روح المسؤولية فى المسلم ، وهى تحفزه دائما الى ضرورة ربط الفكر بالعمل ، والواجب بالسلوك وتنبهه الى اهمية القيام بواجبه الدينى والدنيوى ، وأن يعمل بجد حتى لا يكونم كلاً على الآخرين ، وعالة على المجتمع ، قال تعالى : ( وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون الى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعلمون) [ التوبة: 105] وقال صلى الله عليه وسلم : ( لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتى بحزمة من الحطب على ظهره فيبيعها فيكف الله بها وجهه ، خير له من ان يسأل الناس اعطوه او منعوه)(167)
قال ابن حجر العسقلانى – رحمه الله – فى شرح هذا الحديث : ( فيه الحص على التعفف عن المسألة والتنزه عنها ، ولو امتهن المرء نفسه فى طلب الرزق ، وارتكب المشقة فى ذلك(168) ، وفيه ايضا دعوة صريحة الى القيام بالواجب ، وبذل الجهد ، والشعور بالمسؤولية الاجتماعية ، حتى يكون المسلم فعالاً نشيطاً ، نابذاً للعجز والكساد.
والمسلم العاجز هم اداء دوره فى هذا العصر يتطلع الى مستقبل مشرق يستعيد فيه وظيفة الشهادة على الناس ، ولكنه لا يقوم بواجبه بشكل سليم ، وكما يقتضيه الواقع المتسارع من حوله ، بل إنه فى كثير من الأحيان يطالب بحقوقه الحياتية دون ان يبادر الى تقديم الى جهد يستحق الإشادة والتقدير ، وهناك فكرة خاطئة ترسخت عنده، وعند الكثير من ابناء الأمة ، وهى المطالبة بالحقوق ، وانتظار المعجزات ، وكأن المشكلات لا تحل لديه إلا بطريقة سحرية تحول الواقع من سئ الى احسن ، ونسى ان الواجبات هى اللبنات الأولى فى بناء أية حضارة متفوقة.
إن الأهتمام بالواجبات اليومية – حتى فى ابسط صورها – كفيل بأن يعيد الفاعلية الى مستويات عليا عند المسلم ، ويصبح بذلك مهيمناًُ حقيقياً لأبناء الحضارات الأخرى التى تسود الآن ، التى اتخذت من العمل وروح المبادرة والفاعلية سبيلاً نحو إثبات الذات ، وتحقيق الوجود الحضارى.
وطموح المسلمين جميعهم الآن من ان تعود شرارة الروح إليهم ، وأن يعودوا الى مركزهم الريادى ، ولا سبيل الى ذلك إلا بالجهاد ، يقول الأمير شكيب أرسلان – رحمه الله -: ( فلننفض غبار اليأس ، ولنتقدم الى الأمام ، ولنعلم أننا بالغوا كل امنية بالعمل والدأب والأقدام ، وتحقيق شروط الإيمان التى فى القرآن ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين ) [ العنكبوت :69)(169)
3. التغيير النفسى المطلوب :
إن تغيير الحال التى نحن عليها اليوم من العجز والضعف واللافاعلية لا يمكن ان يتم إلا بتغيير نفسى شامل وفق السنة الاجتماعية التى قررها الله سبحانه وتعالى فى كتابه حيث قال : ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) [ الرعد : 11] . إن تغيير ما بأنفسنا يعنى إقدارها على أن تتجاوز الوضع المألوف ، وهو كما يقول مالك بن نبى – رحمه الله – علم تجديد الصلة بالله (170) أى أن يعود الوقود الروحى الى النفوس من جديد فيغيرها من حال الى حال ، من حال الكسل والخمول الى حال الحركة والتوتر ، وهذا هو التغيير النفسى المطلوب ، الذى هو بعبارة أخرى فكرة دافعة للنفوس والمجتمعات.
ويرى مالك ان هذه الفكرة الدافعة لا يمكن تعليمها بنظرية ولا بأى شكل تعليمى ، ولا يدعى العلم أنه يصنعها فى النفوس (171) غير أن سيرة الأنبياء والوقائع التاريخية المختلفة وحوادث التاريخ المعاصر تثبت غير هذا ، ويكفى ان نشير الى ما صنعه كتابات ( ابن تيمية) و ( سيد قطب ) فى تاريخنا القديم والحديث ، وما فعلته المدرسة النظامية فى زمن الحروب الصليبية ، ويكفى ان نشير ايضا الى ما فعلته كتابات ( جان جاك روسو) و ( فولتير ) وغيرها فى قيام الثورة الفرنسية ، وما فعله بعض الزعماء المعاصرين فى تحريك روح الجماعات.
ومن أهم شروط التغيير النفسى ان يكون جماعياً لا فردياً وهو ما أشارات إليه الآية الكريمة فى كلمة ( ما بقوم) و ( حتى يغيروا) يقول جودت سعيد : ( إن مجال التغيير الذى يحدثه الله ، هو ما بالقوم والتغيير الذى اسنده الله الى القوم ، مجاله ما بأنفس القوم . . . ما بقوم (يشمل الكثير ، ويشمل اول ما يشمل ما يمكن أن يلاحظ ويرى من اوصاف المجتمع ، من الغنى والفقر ، والعزة والذلة ، والصحة والسقم ، وينبغى ان نتذكر هنا ان القصد ليس الفرد ، كل فرد بذاته ، وإنما المجتمع العام ، وأن التغيير الذى يحدثه الله من الصحة والسقم ، والغنى والفقر ، والعزة والذلة إنما يعود الى القوم بمجموعهم لا الى فرد محدد)(172)
ومن شروط التغيير النفسى المطلوب تجديد الصلة بالله ، ويعنى اقتناع المسلم برسالته الاجتماعية ، ودروه فى الحياة وهذا هو الكفيل وحده باسترجاع المبررات المفقودة التى تمنح للمسلم ولادة جديدة يشعر فيها ان البشرية كلها فى حاجة إليه ، وأن لديه ما يقدمه لها.
ومن الشروط ايضا التى تساهم فى تغيير النفوس توحيد شبكة العلاقات الاجتماعية ، وذلك ببث الفكر الإسلامى بعد تأصيله وربطه بالفاعلية ، ونبذ الاختلاف المذموم ، والاجتماع على الدين والاعتصام بحبل الله ، وتوحيد الثوابت والأهداف.
ولعل من الشروط الضرورية لتغيير النفوس إدراك المسلم للبعد الايمانى للعمل ، وقيمته الكبيرة فى حياته ، وبدون هذا الإدراك سيبقى هذا المسلم عاجزاً عن صنع تاريخه ، يقول الأمير شكيب أرسلان – رحمه الله - : ( كيف ترى فى أمة ينصرها الله بدون عمل ، ويفيض عليها الخيرات التى كان يفيضها على آبائها ، وهى قد قعدت عن جميع العزائم التى قد كان يقوم بها آباؤها ، وذلك يكون ايضا مخالفاً للحمة الإلهية والله هو العزيز الحكيم)(173)
فلن نستطيع إنقاذ انفسنا وذريتنا المتعطشة افق حضارى متميز إلا بالعمل الشاق المتقن الذى نقوم به فى كل يوم ، وفى كل ساعة ، وفى كل دقيقة ، وعندها فقط سنستحق عناية الله وتوفيقه وتأييده.
4. التضحية:
التضحية مصطلح حديث يعنى بذل اقصى الجهد لتحقيق شئ ما فى الحياة ، وهو مبدأ ضرورى فى حياة كل من يسعى الى السيادة والعز والسلطان ، يقول (ألكسيس كاريل) : ( من المستحيل ان نوفق بين انفسنا ونظام العالم دون تضحية ، فالتضحية احد قوانين الحياة، فإنجاب الأطفال يفرض على المرأة سلسلة لا نهاية لها من التضحيات ، وعلى المرء ان يخضع نفسه لزهد قاس ليصبح بطلاً رياضياً ، أو فناناً او عالماً ، ولا يحصل الإنسان على الصحة والقوة وطول العمر إلا برفض الاستسلام لبعض الرغبات ، ليس هناك عظمة او جمال او قداسة دون تضحية)(174)
ويعبر عن التضحية فى الإسلام بلفظ ( الجهاد) بمعناه الواسع الذى يعنى استفراغ الطاقة لتحقيق الأهداف التى توجه إليها الرسالة الإسلامية فى ميادين الحياة المختلفة ، قال تعالى( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمعى المحسنين ) [ العنكبوت : 69]
وهذا الجهاد الذى يحقق هداية الله ، وينير الطريق هو ذروة سنام الإسلام كما ورد فى الحديث الصحيح(175) ، ولذلك عد من الواجبات الضرورية ، والفروض العينية التى تلازم المسلم فى حياته كلها ، يقول الأمير شكيب ارسلان : (إن الواجب على المسلمين لينهضوا ويتقدموا ويعرجوا فى مصاعد الجهد ، ويترقوا كما ترقى غيرهم من الأمم هو الجهاد بالمال والنفس الذى أمر به الله فى قرآنه مراراً عديدة وهو ما يسمونه اليوم بالتضحية فلن يتم للمسلمين ولا لأمة من الأمم نجاح ولا رقى إلا بالتضحية(176)
إن الأزمة الحضارية التى نعيشها لايوم تقتضى منا نحن المسلمين تضحيات كثيرة فى ميادين الحياة المختلفة ، ومطلوب من كل مسلم ان يستفرغ جهده وطاقته فى ميدان تخصصه ، وأن يكون نموذجاً للإحسان ، والإتقان والصواب ، وعندما تتحقق هذه الغاية سوف نرى أيى رسالة حضارية نحن منتدبون إليها ، لأننا نكون قد شرعنا فى بناء حياة جديدة ، وإعادة الفاعلية الى الآمة ، وتفجير الطاقات من جديد ، وسنكون وقتئذ جديرين بتحقيق دور الشهادة على الناس الذى خصنا الله به فى كتابه حيث قال: ( وكذلك جعلناكم امة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً ) [ البقرة : 143]
.:. .:. .:.
المصادر والمراجع
1. الاجتهاد والتقليد فى الشريعة الإسلامية – محمد الدسوقى – دار الثقافة – قطر
2. الاجتهاد ومقتضيات العصر – محمد هشام الأيوبى – ط دار الفكر عمان – الاردن
3. الإحكام فى اصول الأحكام – على بن حزم الظاهرى (456هـ) ط دار الافاق الجديدة – بيروت
4. إخراج الأمة المسلمة وعوامل صحتها ومرضها – ماجد عرسان الكيلانى كتاب الأمة رق (30)
5. أزمتنا الحضارية فى ضوء سنه الله فى الخلق – احمد محمد كنعنان كتاب الأمة رقم (26)
6. أساليب الإقناع فى القرآن الكريم – ابن عيسى باطاهر – رسالة ماجستير مكتبة الجامعة الاردنية – عمان – الآردن
7. الإسلام بين جهل ابنائه وعجز علمائه – عبد القادر عودة – ط الاتحاد الاسلامى العالمى للمنظمات الطلابية – الكويت .
8. إعلام الموقعين عن رب العالمين – ابن قيم الجوزية ط دار الجيل – بيروت
9. الإنسان حين يكون كلا وحين يكون عدلاً – جودت سعيد – ط مطعة زيد بن ثابت الانصارى – سوريا
10. البرهان القاطع فى إثبات الصانع – محمد بن ابراهيم الوزير الصنعانى (840هـ ) المطبعة السلفية – القاهرة.
11. تأملات – مالك بن نبى – ط دار الفكر – دمشق
12. تأملات فى سلوك الإنسان ( الحضارة الحديثة فى الميزان ) – الكسيس كاريل – ترجمة محمد القصاص – ط مكتبة مصر – القاهرة
13. التصوير الفنى فى القرآن – سيد قطب – ط دار الشروق – بيروت
14. تفسير التحرير والتنوير – محمد الطاهر بن عاشور – ط الدار التونسية للنشر
15. تفسير الطبرى ( جامع البيان) – ابن جرير الطبرى ( 310هـ) ط دار المعارف – مصر
16. التفسير القرآنى للقرأن – عبد الكريم الخطيب – دار الفكر العربى – مصر
17. تفسير القرطبى ( الجامع لأحكام القرآن ) – محمد بن أحمد القرطبى ( 671هـ ) ط داتر الكتب المصرية 1952
18. تفسير الكشاف – محمود بن عمر الزمخشرى (528هـ) ط دار الريان للتراث – القاهرة
19. تفسير المنار – محمد رشيد رضا – ط دار المعرفة – بيروت
20. حتى يغيروا ما بأنفسهم – جودت سعيد – ط دار الثقافة للجميع
21. حضارة العرب –جوستاف لوبون – ط مطبعة عيسى الباب الحلبى- القاهرة
22. حلية الأولياء وطبقات الأصفياء – احمد بن عبد الله الأصفهانى ( 430 هـ) ط دار الكتب العلمية – بيروت
23. الخصائص العامة للإسلام – يوسف القرضاوى – ط مؤسسة الرسالة – بيروت .
24. دور المسلم ورسالته فى الثلث الأخير من القرن العشرين – مالك بن نبى – ط دار الفكر دمشق .
25. الدولة والدين فى إسرائيل – أسعد رزوق – ط مركز الأبحاث الفلسطينية 1968.
26. رجال حول الرسول – خالد محمد خالد – ط دار الكتاب العربى – بيروت
27. الروضتين فى أخبار الدولتين – أبو شامة المقدسى (665هـ) ط دار الجيل – بيروت
28. زاد المعاد فى هدى خير العباد – ابن قيم الجوزية ( 751هـ ) ط مؤسسة الرسالة 1992.
29. سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعية – محمد ناصر الدين الألبانى – ط دار المكتب الإسلامى – بيروت.
30. شروط النهضة – مالك بن نبى – ط دار الفكر – دمشق
31. صحيح ابى داود – محمد ناصر الدين الألبانى – ط مكتب التربية العربى لدول الخليج 1989م
32. صحيح البخارى – محمد بن اسماعيل البخارى ( 256هـ) ط دار إحياء التراث العربى – بيروت
33. صحيح الترمذى – محمد ناصر الدين الالبانى – ط مكتب التربية العربى لدول الخليج 1988م
34. صحيح مسلم – مسلم بن الحجاج القشيرى (261هـ) تحقيق محمد فؤاد عبد الباقى – ط دار الفكر – بيروت
35. صحيح مسلم بشرح النووى – يحيى بن شرف النووى ( 677هـ ) ط دار إحياء التراث العربى – بيروت
36. صناعة الحياة – محمد احمد الراشد – ط دار المنطلق الإمارات العربية المتحدة.
37. الظاهرة القرآنية – مالك بن نبى – ط دار الفكر – دمشق
38. العبودية – شيخ الإسلام احمد بن عبد الحليم بن تيمية (728هـ) ط دار الكتب العلمية – بغداد
39. العمل قدرة وإرادة جودت سعيد – ط دار الثقافة للجميع 1980م
40. الفتاوى – شيخ الإسلام احمد بن عبد الحليم بن تيمية (728هـ) جمع وترتيب : عبد الرحمن بن محمد العاصمى وابنه.
41. فتح البارى بشرح صحيح البخارى – ابن حجر العسقلانى (825هـ) ط دار الريان للتراث – القاهرة
42. فى مهب المعركة – مالك بن نبى – ط دار الفكر – دمشق
43. قبسات من الرسول صلى الله عليه وسلم – محمد قطب – ط وزارة المعارف – السعودية 1986م
44. لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم – الأمير شكيب ارسلان – ط دار البشير – القاهرة
45. المائة الأوائل – مايكل هارت – ترجمة خالد أسعد عيسى – وأحمد غسان سباتو – ط 3 دار قتبية 1984م
46. المسند – الإمام أحمد بن حنبل (241هـ ) ط دار الكتب العلمية – بيروت
47. مشكلة الأفكار فى العالم الإسلامى – مالك بن نبى – ط دار الفكر – دمشق
48. مشكلة الثقافة – مالك بن نبى – ط دار الفكر – دمشق
49. مشكلات فى طريق الحياة الإسلامية – محمد الغزالى – ط دار الأمة – قطر
50. معالم فى الطريق – سيد قطب – ط دار الشروق – بيروت
51. مقدمة فى اصول التفسير – لشيخ الإسلام احمد بن عبد الحليم بن تيمية (728هـ) ط القرآن الكريم – بيروت 1971م
52. مقومات التصوير الإسلامى – سيد قطب – ط دار الشروق – بيروت
53. النبأ العظيم – محمد عبد الله دراز – ط دار القلم – الكويت
54. نظام الإسلام ( الإقتصاد ) – محمد المبارك – ط دار الفكر – بيروت 1980
55. نظرت فى القرآن – محمد الغزالى – ط دار الشهاب – الجزائر
56. هذا الدين – سيد قطب – ط دار الشروق – بيروت
57. هكذا ظهر جيل صلاح الدين وهكذا عادت القدس – ماجد عرسان الكيلانى – ط دار السعودية للنشر والتوزيع.
58. وجهة العالم الإسلامى – مالك بن نبى – ط دار الفكر – دمشق
59. الوحدة الإسلامية والأخوة الدينية – محمد رشيد رضا – ط دار المنار – مصر
60. الوقت فى حياة المسلم – يوسف القرضاوى – ط المؤسسة الرسالة - بيروت
المراجع
1. تجديد المنهج فى تقويم التراث ، د. طه عبد الرحمن
2. جامع العلوم والحكم : 24
3. جامع العلوم والحكم : 24
4. إذ ما ثمرة إقرار لا يتبعه العمل والإلتزام ؟
5. فتح البارى : 1 – 128
6. المرجع السابق : 60
7. مجموع الفتاوى : 1- 557
8. أبو داود والترمذى ، والحاكم
9. تفسير ابن كثير : 2 – 343
10. المرجع السابق
11. إذا هبت ريح الإيمان ، أبو الحسن الندوى :7
12. مجموع الفتاوى : 7 / 645
13. المرجع السابق
14. مجموع الفتاوى : 7/541 – 542
15. الملل والنحل : 109
16. مجموع الفتاوى : 8 /70
17. انظر : مدارج السالكين : 3/ 478
* من أئمة الأشاعرة
18. معالم اصول الدين : 107
19. إحياء علوم الدين : 4 /4
20. انظر : إحياء علو الدين : 4/96
21. مجموع الفتاوى : 8/478 – 488
22. الموافقات : 1/218
23. مدارج السالكين : 3/478
24. تأملات فى سلوك الإنسان ( الحضارة الحديثة فى الميزان ) ترجمة محمد القصاص ص40ط مكتبة مصر – القاهرة
25. المائة الأوائل – ترجمة خالد أسعد عيسى وأحمد غسان سباتو – ص 19 – 20ط 3/ دار قتيبة 1984م
26. مشكلات فى طريق الحياة الإسلامية – ص47 – طبعة دار الأمة –قطر
27. وجهة العالم الإسلامى – ص 166 ط دار الفكر – دمشق
28. دور المسلم ورسالته فى الثلث الأخير من هذا القرن – ط دار الفكر – دمشق
29. قبسات من الرسول صلى الله عليه وسلم – ص 58 – ط وزارة المعارف – السعودية 1986
30. المرجع نفسه – ص26
31. ينظر وجهة العالم الإسلامى – مالك بن نبى – ص 86
32. مشكلة الأفكار فى العالم الإسلامى – مالك بن نبى – ص97
33. البرهان القاطع فى اثبات الصانع – محمد بن ابراهيم الوزير الصنانعى – ص 30ط المطبعة السلفية – القاهرة
34. وجهة العالم الإسلامى – ص 88
35. اختار مجمع اللغة العربية بالقاهرة كلمة (الفاعلية) فى مقابل كلمة Efficancy فى اللغات الاوروبية – ينظر المعجم الوسيط – مادة (فعل) ط دار احياء التراث العربى
36. تفسير الكشاف – للزمخشرى – ج4 ص 733 – ط الريان للتراث
37. ينظر ( Efficace ) Grand Larousse Encyclopeidique
38. ينظر شروط النهضة – مالك بن نبى – ص 63 ط دار الفكر- دمشق
39. تأملات – ص 125 – 126 ، ط الفكر – دمشق
40. مشكلة الثقافة – ترجمة عبد الصبور شاهين – ص 85 ، 86 ط دار الفكر – دمشق
41. الإنسان حين يكون كلاً وحين يكون عدلاً – ص9 – ط مطبعة زيد بن ثابت الأنصارى.
42. ينظر الإنسان حيث يكون كلاً وحين يكون عدلاً – جودت سعيد ، ص6
43. تفسير التحرير والتنوير – محمد الطاهر بن عاشور – ج 16 ص75 ط دار التونسية للنشر .
44. صحيح مسلم – باب القدر – ج4 ص2052 – تحقيق محمد فؤاد عبد الباقى – ط دار الفكر – بيروت.
45. صحيح مسلم بشرح النووى – ج 16 ص 215 – ط دار إحيار التراث العربى
46. مثل جزائرى انتشر زمن الاستعمار الفرنسى للجزائر بين طائفة من الناس كانت ترى ان الاستعمار قضاء وقدر.
47. تأملات – مالك بن نبى – ص 126
48. التفسير القرانى للقرآن – عبد الكريم الخطيب – ج6- ص529 ، 350 ط دار الفكر العربى.
49. الإنسان حين يكون كلاً وحين يكون عدلاً – جودت سعيد – ص38
50. مقومات النصور الإسلامى – ص21 ، 22ط دار الشروق 1986
51. هذا الدين ، ص3 ، 4 ط دار الشروق بيروت
52. الإنسان حين يكون كلاً وحين يكون عدلاً – جودت سعيد –ص 41
53. صحيح مسلم – كتاب القدر
54. الفتاوى – ابن تيمية – ج8 ص 138 ، 139
55. رواه أبو داود والبيهقى والطبرانى والإمام أحمد ، وضعفه الشيخ الألبانى وإن كان معناه صحيحاً
56. تفسير الطبرى – ابن جرير الطبرى – ج1 ص80 وانظر مقدمة فى اصول التفسير لابن تيمية – ص36 دار القرآن الكريم بيروت 1971
57. شروط النهضة – مالك بن نبى – ص 21 ، 22
58. تأملات – مالك بن نبى – ص 131
59. انظر تأملات – مالك بن نبى – ص126
60. رواه مسلم ( باب القدر )
61. رواه مسلم وأحمد واصحاب السنن الأربعة
62. متفق عليه
63. تفسير القرطبى – محمد بن احمد القرطبى – ج1 ص40 ط دار الكتب المصرية 1952
64. رواه احمد فى مسند وابن ماجة فى سننه فى باب ما جاء فى ذهاب العلم
65. انظر مقدمة عمر عبيد حسنه – كتاب الأمة رقم 43
66. انظر كتاب (حتى يغيروا ما بأنفسهم) ، جودت سعيد ص 141 وما بعدها
67. تأملات – ص 132
68. مثال ذلك فترة ما بعد الخامسة والعشرين من عمره وحتى بعثته صلى الله عليه وسلم
69. التصوير الفنى فى القرآن – سيد قطب – ص11 ط دار الشروق
70. انظر : قبسات من الرسول – محمد قطب – ص59
71. انظر : قبسات من الرسول – محمد قطب – ص49
72. البرهان القاطع فى إثبات الصانع – لابن الوزير – ص30
73. إخراج الأمة المسلمة وعوامل صحتها ومرضها – ماجد عرسان الكيلانى – ص 52( كتاب الأمة رقم30)
74. زاد المعاد فى هدى خير العباد – ج3 ص5 ط مؤسسة الرسالة سنة 1992
75. المصدر السابق – ج 3 ص 45، 46
76. النبأ العظيم – ص35 ط دار القلم الكويت
77. رواه الترمذى ( انظر صحيح الترمذى ج2 ص 244)
78. لم يعرف التاريخ الإسلامى جيلاً مثل جيل الصحابة الذى اجتمعت فيه صفات الخيرية كلها.
79. معالم فى الطريق – سيد قطب – ص17 ، 18ط دار الشروق
80. انظر تفسير الطبرى – لابن جرير الطبرى – ج1 ص 80ط دار المعارف – مصر
81. انظر ( رجال حول الرسول) – خالد محمد خالد – ص 511 وما بعدها ط دار الكتاب العربى – بيروت 1987
82. الروضتين فى اخبار الدولتين – أبو شامة المقدسى – ج1 ص6 ط دار الجيل – بيروت
83. الروضتين فى اخبار الدولتين – ابو شامة المقدسى – ج1 ص4 ،5
84. انظر كتاب (هكذا ظهر جيل صلاح الدين وهكذا عادت القدس) – ماجد عرسان الكيلانى ص214 ط الدار السعودية للنشر والتوزيع.
85. المرجع السابق – ص 215
86. متفق عليه
87. لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم – ص103 ط دار البشير القاهرة
88. العبودية – ص 4 ط دار الكتب العلمية بيروت
89. انظر الخصائص العامة للإسلام – يوسف القرضاوى – ص116 ط مؤسسة الرسالة – بيروت
90. حلية الأولياء وطبقات الأصفياء – احمد بن عبد الله الأصفهانى – ج8 ص95 ط دار الكتب العلمية – بيروت
91. رواه مسلم ، باب امارات الساعة
92. انظر مقدمة عمر عبيد حسنة – كتاب الأمة رقم (30)
93. رواه احمد فى المسند
94. قبسات من الرسول – محمد قطب – ص16
95. انظر الإنسان حين يكون كلاً وحين يكون عدلاً – جودت سعيد – ص42
96. تأملات – ص38
97. رواه الترمذى وقال : حديث حسن
98. انظر تأملات – مالك بن نبى – ص37
99. انظر الإنسان حين يكون كلاً وحين يكون عدلاً – جودت سعيد – ص44
100. شروط النهضة – مالك بن نبى – ص61
101. وجهة العالم الإسلامى – مالك بن نبى ص32
102. المرجع نفسه – ص32
103. رواه ابو داود ( انظر صحيح ابى داود – ج3 ص810)
104. إعلام الموقعين – لابن قيم الجوزية – ج2 ص302
105. انظر الاجتهاد ومقتضيات العصر – محمد هشام الأيوبى – ص147 وما بعدها ط دار الفكر الأردن
106. إعلام الموقعين – لابن قيم الجوزية – ج2 ص302
107. الإحكام فى اصول الأحكام – ج2 ص 793 ومابعدها – ط دار الآفاق الجديدة – بيروت
108. الفتاوى – ج20 ص 209
109. تفسير المنار – ج1 ص114 ط دار المعرفة
110. وجهة العالم الإسلامى – ص86
111. الاجتهاد والتقليد فى الشريعة الإسلامية – محمد الدسوقى –ص 9 دار الثقافة – قطر
112. انظر ( فى مهب المعركة ) مالك بن نبى – ص 134
113. متفق عليه
114. الوحدة الإسلامية والأخوة الدينية – ص130 ط دار المنار – مصر
115. حديث لا اصل له ، انظر سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة – محمد ناصر الدين الألبانى ج1 ص 86ط المكتب الإسلامى.
116. انظر مثلاً ما حدث فى افغانستان بعد انهزام الشيوعيين فيها.
117. انظر شروط النهضة – مالك بن نبى – ص114
118. انظر ( ازمتنا الحضارية فى ضوء سنة الله فى الخلق – احمد محمد كنعان – ص107 ( كتاب الأمة رقم 26)
119. حضارة العرب – ص125ط مطبعة عيسى البابى الحلبى القاهرة
120. انظر ( الخصائص العامة للإسلام – يوسف القرضاوى – ص54
121. صناعة الحياة – محمد احمد الراشد – ص59 ط دار المنطق
122. لماذا تأخر المسلمون – ص77
123. صناعة الحياة – ص66
124. متفق عليه
125. رواه البخارى ( كتاب العلم)
126. انظر ( اساليب الإقنع فى القرآن – ابن عيسى باطاهر (رسالة ماجستير) مكتبة الجامعة الاردنية – عمان – ص5
127. دور المسلم ورسالته فى الثلث الاخير من القرن العشرين – ص53 ط دار الفكر – دمشق
128. المرجع نفسه – ص54
129. رواه احمد فى مسنده
130. انظر ( نظرت فى القرآن ) محمد الغزالى – ص 121 – ط دار الشهاب الجزائر
131. متفق عليه.
132. نظام الإسلام ( الاقتصاد ) – ص130 – ط دار الفكر – بيروت
133. الروضتين – ابو شامة المقدسى – ج1-ص6
134. تأملات – مالك بن نبى – ص203
135. المرجع نفسه – ص34
136. زاد المعاد – ج3ص 480
137. وجهة العالم الإسلامى – ص88
138. العمل قدرة وإرادة – ص92 – 93
139. تفسير المنار – محمد رشيد رضا – ج10 ص46
140. تأملات مالك بن نبى – ص122
141. المرجع نفسه – ص132
142. انظر الطاهرة القرآنية – مالك بن نبى – ص 130 ط دار الفكر – دمشق
143. انظر ( الدولة والدين فى اسرائيل) اسعد رزوق – ص9 ط مركز الأبحاث الفلسطينية 1968
144. المرجع نفسه – ص17
145. لماذا تأخر المسلمون ص 79
146. شروط النهضة – مالك بن نبى – ص110 ، 111
147. تأملات – مالك بن نبى – ص145
148. انظر ( الاجتهاد والتقليد فى الشريعة الإسلامية (محمد الدسوقى – ص19)
149. تأملات – ص 211
150. انظر وجهة العالم الإسلامى – مالك بن نبى – ص83
151. زاد المعاد فى هدى خير العباد – ابن قيم الجوزية – ج3 ص46
152. شروط النهضة – مالك بن نبى – ص 146
153. الوقت فى حياة المسلم – يوسف القرضاوى – ص6 ط مؤسسة الرسالة
154. المرجع نفسه ص 12
155. شروط النهضة – ص146
156. رواه البخارى والترمذى وغيرهما
157. انظر الفتاوى لابن تيمية – ج19 ص67
158. مقومات التصور الإسلامى – ص25
159. تفسير المنار – ج10 ص46
160. الإسلام بين جهل ابنائه وعجز علمائه – ص73 – 74 –ص 5 الاتحاد الإسلامى العالمى للمنظمات الطلابية – الكويت
161. فى مهب المعركة – ص 78
162. رواه البخارى ( باب الزكاة)
163. فتح البارى بشرح صحيح البخارى – ج 3 ص 394 – ط دار الريان للتراث – القاهرة
164. لماذا تأخر المسلمون – ص 164
165. وجه العالم الإسلامى – ص54
166. مشكللة الأفكار – ص54
167. حتى يغيروا ما بأنفسهم – ص48
168. لماذا تأخر المسلمون – ص 43
169. تأملات فى سلوك الإنسان – ص 44،45
170. رواه الترمذى ( انظر صحيح الترمذى) ج2ص 329
171. لماذا تأخر المسلمون – ص164 – ط عيسى البابى الحلبى – مصر
===============
#العنصرية والخطاب الإسلامي
السبت 14 ذي الحجة 1426هـ – 14 يناير 2006م
الصفحة الرئيسة
د. محمد يحيى
مفكرة الإسلام: ثارت منذ سنوات قضية تغيير أو تجديد الخطاب الديني الإسلامي بحجة أن هذا أمر ضروري لتحسين صورة الإسلام في الغرب التي شوهها المتطرفون والإرهابيون الإسلاميون المزعومون.
وطرحت القضية بأسرها في إطار يصور الغرب كله وبالذات أوروبا في وضع المجني عليه الذي يتعرض للهجوم والعدوان الإسلامي بينما صور الإسلام والمسلمين في وضع الجاني والمعتدي الذي انتابته لوثة فثار يدمر الحضارة الإنسانية الراقية المتقدمة.
وفي حدود هذا التصور طرحت على المسلمين ومن خلال الحكومات والنخب الثقافية العلمانية قضية ما أسمي بتجديد وتحديث الخطاب الديني ومنها قضايا أخرى تسربت تحت مسمى الاجتهاد الفقهي ومواكبة العصر وترمي كلها إلى إحداث تغيير كبير في بنية الفكر والدعوة الإسلامية وحتى في بنية العقيدة ذاتها بهدف طرح نسخة من الإسلام لا تعادي الحضارة الغربية بل تنسجم وتتسق معها وتندمج في معطياتها وتتمشى مع عملية العولمة التي تمثل أساس الطرح الفكري العالمي لتلك الحضارة في الوقت الراهن.
ولكن بينما شغل العالم الإسلامي عن بكرة أبيه بهم لتعديل وتنقيح الإسلام، بما يرفع عنه تهمة العدوان على الغرب، كانت تدور في العالم الغربي نفسه عملية أخرى جرى لفت الأنظار بعيداً عنها في إعلام البلاد العربية والإسلامية هذه العملية هي تصاعد وتكرّس التيارات العنصرية واليمينية والدينية [الصليبية الكنسية والتنصيرية] في الغرب نفسه والتي انطلقت لتمارس نشاطها ليس في الغرب وحده بل في سائر أنحاء الدنيا ولاسيما في العالم الإسلامي مستغلة العولمة ووسائل الاتصال والمواصلات الحديثة والتحرر العام في التجارة وشتى أنواع التبادل بما فيها الفكري والسياحي والثقافي بطبيعة الحال.
صحيح أن الإعلام في البلاد العربية تحدث عن صعود التيار المحافظ في السياسة الأمريكية لكنه تحدث عنه فقط في إطار النقل عن الإعلام الأمريكي وبدون إبداء أية تحليلات مستقلة وبدون أن يصور الأمر كظاهرة عامة متأصلة سواء في أمريكا نفسها أو على امتداد الساحة الغربية وصولاً إلى روسيا. وتحدث الإعلان عن هذه الظاهرة كتحول سياسي محدود وليس كظاهرة اجتماعية فكرية ثقافية عامة كاسحة عميقة الجذور واسعة التأثير ممتدة الأثر.
وإذا كنا سمعنا الكثير في هذا الصدد عن اليمين الأمريكي والمسيحية الصهيونية في أمريكا فإننا لم نسمع في المقابل الكثير عن تغوّل وتوّسع نشاطات الكنائس الغربية الكاثوليكية والبروتستانتية الكبرى وتدخلاتها المتزايدة في دنيا السياسة والمجتمع والثقافة بل والاقتصاد والتنمية والتجارة. ولم نسمع عن تحول الكنائس الأرثوذكسية في شرق أوروبا وبالذات في دول البلقان ثم روسيا إلى كيانات كبيرة متحفزة ونشطة تستوعب الدول والمجتمعات داخلها وتحركها لصالح أهدافها وتتحكم في المجريات المهمة للسياسة بل تصل إلى حد تحديد هويات تلك الدول الواقعة على امتداد شرق أوروبا على أنها هويات مسيحية أرثوذكسية وتندمج الهوية القومية والعرقية داخل الهوية الدينية.
وحتى عندما كان الإعلام العربي والإسلامي ينقل على مدى التسعينات أحداث البلقان في البوسنة وكوسوفو ومقدونيا والصرب وكرواتيا كان يصور الأمر كله على أنه ناتج من الطموحات الشخصية أو التطرف القومي لبعض القادة من الصرب والكروات وليس على أنه تحرك ضد الإسلام والمسلمين في شرق أوروبا من جانب المذهب المسيحي الحاكم في ذلك الجزء من العالم، وعندما سادت اتجاهات دينية [صليبية كنسية] معادية للإسلام بدول أوروبا الغربية في السنوات القليلة الماضية راح الإعلام الغربي يصورها على أنها مجرد أحداث محدودة يحركها حفنة من الساسة العنصريين بل ذهب العلمانيون المسيطرون على هذا الإعلام إلى حد القول والترويج لفكرة أن هذه الأحداث ليست سوى ردود أفعال منطقية ومبررة للإرهاب والتطرف الإسلامي الذي بدأ العدوان على أوروبا.
وظل هذا هو الرأي السائد في الإعلام الغربي، حتى والعديد من الحكومات الأوروبية تتحدث الآن صراحة وكجزء من السياسة الثابتة عن ضرورة إدخال تعديلات جذرية على الإسلام بما يشمل عقيدته لكي يخرج في النهاية إسلام أوروبي يخضع للثقافة السائدة هناك وهي ذات الطابع المسيحي العلماني، بل ونسمع الآن ليس فقط عن ضرورة خروج إسلام أوروبي عام متسق مع معايير الغرب بل عن إسلام خاص بكل بلد أوروبي على حدة [إيطالي / فرنسي/ ألماني/ هولندي/ دانمركي/ بريطاني] ونسمع التأكيدات بأن أي إسلام لن يسمح له بالوجود في أوروبا إلا إذا اتسق مع هذه المعايير المفروضة عليه من خارجه بل المفروضة من مخالفيه ورافضيه سواء كانوا ينتمون إلى الدين المسيحي أو إلى الفكر العلماني [اللا ديني].
وبهذا التصور تنكشف الحالة التي سيطرت على البلاد العربية والإسلامية لما يصل إلى العقد من السنين على أنها في الواقع عنصرية مستأصلة ومعتدية أفلحت بفضل السيطرة على وسائل الإعلام في تصوير الواقع على عكس ما هو عليه وأوهمت المسلمين بأنهم المعتدون وهم الذين يجب أن يحدثوا تغييرات في بنيتهم العقيدية والفكرية لكي يتوقفوا عن العدوان على الغرب في الوقت الذي كان فيه هذا الغرب نفسه هو الذي يمارس العدوان والتوسع سواء من خلال العولمة أو غيرها من العمليات السياسية والعسكرية والاقتصادية والثقافية والإعلامية.
ولكن الأحداث الأخيرة في فرنسا حيث انفجر بركان الغضب الشعبي للمواطنين الفرنسيين ذوي الأصول غير البيضاء ضد الممارسات العنصرية البيضاء كشف حقيقة الأمر على امتداد أوروبا كلها وكشف زيف ما يقال عن المبادأة الإسلامية المتطرفة بالعدوان
===============
















الفهرس العام

الباب السابع 1
الحضارة الإسلامية وأسباب سقوطها وعوامل النهوض بها (4) 1
#هويتنا والعولمة كتاب يدعو إلى تحديث الأصالة وتأصيل الحداثة 1
#ل ندع الغد يصنع بدوننا؟ 4
#المسلمون في ألمانيا بين رغبة التعايش والتحديات الداخلية 11
#نحو صورة وسطية حضارية نقدم بها الإسلام للعالم 20
#الوقف الخيري يحل المشكلات الاقتصادية في بلاد المسلمين 25
#الأمريكان وجريمة التخريب الثقافي للعراق 31
#فقه التغيير .. دراسة جديدة لفكر مالك بن نبي 41
#خمس مؤامرات كبرى على الإسلام .. أخر ما كتبه أنور الجندي 42
#مفكرة الإسلام تحاور المفكر د. جعفر شيخ إدريس 45
#كيف غير الإسلام الطب؟ مقال منشور في مجلة بريطانية 54
#الأمة الإسلامية والخروج من المأزق 56
#السقوط الحر 61
#أسس الحضارة الاسلاميه 64
#خصائص الحضارة الإسلامية 67
#الوظيفة العامة في الإسلام... فكر إداري 74
#انظروا عمَّن تأخذون دينكم ؟! 76
#المرأة الأمريكية والتاريخ!! 91
#صنعة الخط والمخطوط والوراقة والفهرسة في الحضارة الإسلامية 93
#محمد كرد علي ..علامة الشام ومؤسس أول المجامع العربية 96
#جهود العلماء المسلمين في تقدم الحضارة الإنسانية 101
#كيف يستطيع المسلمون الإفلات من طوق التخلف؟ 106
#الحرب ضد الإسلام قديمة ولا علاقة لها بأحداث سبتمبر 114
#د.محمد يحي يتحدث للمفكرة عن المشروع الإسلامي وهموم الصحوة. 123
#مصطفى صادق الرافعي- أديب كتب تحت راية القرآن 129
#خصال الشباب المتهمين بالإرهاب 134
#الإسلام والغرب .. تعاون أم مواجهة ؟! 137
#من سيملأ الأكواب لبنًا..؟؟! 149
#البرقع مقابل البكيني في سوق المرأة الأمريكية 156
#تصدير الحضارات على ظهور الدبابات 159
#قواعد التغيير 169
#أمريكا والانهيار الحضاري...حقيقة أم وهم؟! 172
#معوقات وعوامل نهضة الأمة.. قراءة تحليلية نقدية لنخبة من المفكرين والدعاة [1/2] 191
#التربية طريق التغيير الحضاري 222
#كيف تصبح شخصية فعالة - أنت مفتاح النهضة 226
#فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ 232
#خطابات الظواهري وملامح الطريق الثالث 238
#أمجادنا 243
#الفكر الغربي مارس أبشع أنواع الإرهاب تحت قناع الحضارة 247
#مُقوِّمات الأمة وأَسباب النهوض بها 255
#الوقت في حياة المسلم 267
#في التاريخ .. فكرة ومنهاج 273
#حوار الحضارات الجذور والتاريخ 281
#تأسيس جيل النصر.. نور الدين زنكي نموذجًا 286
#كيف تجعل ابنك قائدًا؟ 290
#نحن والغرب...هل لدينا رؤية صحيحة؟ 294
#الجالية الإسلامية في الغرب- ومسؤولياتها في المجتمع الغربي 300
#أسباب تصدع الأسر وتفككها 314
#ليس 'آلام المسيح' بل جهل المتعالمين 318
#وفاة رفاعة الطهطاوي ـ رائد التغريب 322
#سُكَّانُ القِمَمِ 327
#الغرب أستاذ الخداع 340
#حركة التغريب تقود بناتنا للهاوية! 346
#الخوف من الإسلام القادم 361
#كتاب [الإسلام والغرب بين التعاون والمواجهة] 375
#العولمة بين أحلام مشروعة وأوهام ممنوعة 378
#من روائع الحضارة الإسلامية .. النظام الاقتصادي في الحضارة الإسلامية 391
#الصحة الإيمانية .. وأثرها على واقع الأمة [2] 400
#وفاة طه حسين – الأكذوبة الكبرى 417
#صدور الجزء الثامن من كتاب في البناء الحضاري للعالم الإسلامي 422
#وثيقة المدينة المنورة.. كتاب عن عقد اجتماعي مبكر في تاريخ البشرية 424
#الإسلام والحضارة الغربية والصدام الحتمي 427
#الانهيار الحضاري يقع على عاتق حكام وعلماء الأمة 430
#حدود التعددية التي يسمح بها الإسلام 438
#الإحسان في الحضارة الإسلامية 445
#الخيانات العربية... محاولة للتفسير 448
#مفكرة الإسلام تفند دعاوى الرافضين للحل الإسلامي 452
#الإصلاح ... ضرورة 463
#موقف الغرب من الإسلام 472
#شاهين: أحفاد أتاتورك يمارسون مهمتهم 475
#صراع الحضارات أكذوبة غربية 479
#العولمة والإسلام 485
#قراءة في كتاب الرئيس الأميركي الأسبق " نيكسون " 502
# مركز الثقافة الإسلامية في اسطنبول..شعاع ينبعث من أرض الخلافة الإسلامية 508
#لماذا فشل مشروع النهضة التغريبي ؟ 514
#الصّفقة الخاسرة 519
#مستقبل الإسلام السياسي 525
#لا بد من المبادرة 532
#(هل يمكن أن نتعايش؟) رسالة مثقفي أمريكا الجوابية 538
#تهميش الأمة:عطل مشاريع النهضة 547
#مستقبل الإسلام في الغرب !(1/2) 554
#أسلمة العلوم .. ضرورة يفرضها الواقع الراهن 557
#تحالف عسكرى استراتيجى على أرضية صراع الحضارات ضد العرب والمسلمين 560
# أخر ماكتبه أنور الجندى 563
#السلطة السياسية في الفكر الإسلامي 566
#في المسألة الحضارية .. 571
#الحق الإسلامي في الاختلاف الفكري 586
#الاستراتيجية المقبلة لما بعدالعراق (1/2) 593
#بعث الحضارة الإسلاميّة من جديد... دور النُّخبة 602
# الأبعاد السياسية لحوار الأديان 605
#أمتنا وبعض إنجازاتها الحضارية 613
#الطريق الروحي إلى مكة (1/3) 618
#وقفات في تعاقب السنين 637
# هل يستهدف الإسلام الغرب (*) 644
#القضايا النقدية عند المفكر أنور الجندي 653
# هل الأصل في علاقة المسلمين بغيرهم السلم أم الحرب؟ 655
#المخاوف الأمريكية من الإسلام السياسي 676
#التربية على حقوق الإنسان 681
#لسنا الطّرف الأضعف في صراعٍ يُفرض علينا 689
#شباب الأمة .. وتحديات المرحلة ! 691
#بين عقليّتين ونهجَين 695
#حول قداسة الحكّام في تاريخنا 703
#كيف واجهت الحضارة الإسلامية مشكلة المياه؟ 712
# شهادة التاريخ..ما الذي فعلناه وما الذي فعلوه؟ 715
#حول الوحدة والتنوّع في تاريخنا 727
# محاولة خائبة لجاهليّ معاصر 734
# الحوار بين الحضارات 740
#أمتنا وشخصيتها الحضارية التاريخية 748
#كلمات في الفن الإسلامي 752
#التعايش مع الآخر حقيقة تاريخية وضرورة واقعية 756
#الإنسان والكون 763
# محاور الإلحاد العلمي في الحضارة الغربية 766
#فاعلية المسلم المعاصر 774
#العنصرية والخطاب الإسلامي 877
المصدر: ملتقى شذرات

الملفات المرفقة
نوع الملف: doc gjEoOJac6BlK-B1TgaB-Y7bbMoU.doc‏ (3.02 ميجابايت, المشاهدات 0)
__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية

الكلمات الدلالية (Tags)
الحضارة, الإسلامية, النهوض, سقوطها, وأسباب, وعوامل


يتصفح الموضوع حالياً : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
أدوات الموضوع

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


المواضيع المتشابهه للموضوع الحضارة الإسلامية وأسباب سقوطها وعوامل النهوض بها
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
أثر الحضارة الإسلامية في تقدم الإنسانية عبدالناصر محمود المسلمون حول العالم 0 05-05-2017 06:43 AM
الحضارة الإسلامية لم تكن مجرد فتوحات فقط عبدالناصر محمود أخبار منوعة 0 04-30-2016 06:18 AM
البيمارستانات في تاريخ الحضارة الإسلامية Eng.Jordan رواق الثقافة 0 05-23-2014 11:38 AM
عباقرة الحضارة الإسلامية ام زهرة دراسات ومراجع و بحوث اسلامية 0 05-21-2013 06:33 PM
من روائع الحضارة الإسلامية .. النظام الاقتصادي في الحضارة الإسلامية Eng.Jordan شذرات إسلامية 0 02-09-2012 12:06 AM

   
|
 
 

  sitemap 

 


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 02:36 AM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.12 by vBS
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والمشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59