#8  
قديم 11-03-2013, 10:30 PM
الصورة الرمزية Eng.Jordan
Eng.Jordan متواجد حالياً
إدارة الموقع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2012
الدولة: الأردن
المشاركات: 25,410
افتراضي

الفصل السابع :
بعض مظاهر أسس الاستراتيجية الغربية في
الوطن العربي ومحاذيرها




شهد الوطن العربي ويشهد العديد من التوترات والنزاعات، أثرت كثيراً على تكامله وعلى محاولات توحيده. وكان آخرها عاصفة الصحراء الأمريكية وحلفائها، التي شكلت التعبير الدقيق عن تلاطم وتناقض مصالح دول الاستعمار الغربي، عموماً، والولايات المتحدة، خصوصاً، مع مصالح وأهداف الأمة العربية، وشعوبها المختلفة، كما أصبحت المسألة الشرق أوسطية، التعبير الأكثر في الإشكاليات السياسية جدلاً على الساحة العربية في الآونة الأخيرة. كما أدى توقيع اتفاقيات كامب دافيد وعزل مصر العربية، وما تلا ذلك من إعلان مبادئ غزة أريحا أولاً عام (1993) إلى تصاعد الحديث والجدل عن الترتيبات القادمة التي تضع في مقدمتها ضم الكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة كقائد مهيمن، رغم وجود بعض الدول العربية خارج نطاق تلك التسوية السياسية مع ذلك الكيان الصهيوني. كما شكل مؤتمر مدريد ضربة قاضية إلى تطلعات الجماهير العربية في التحرير والوحدة، حيث جاء بعد تدمير العراق كعلامة بارزة إلى مستقبل المنطقة العربية، خاصة في مجال تمزيقها لكيانات مستقلة عن بعضها وعزل بعضها البعض.
ولابد من الانطلاق بدءاً ذي بدء من تسليط الأضواء على أهمية المنطقة، في المجالين، الموقع، وهبة السماء من النفط. وهي أحد الأسباب التي تفسر التكالب الشرس المتوحش بين الشركات متعددة الجنسية التي تنفذ سياستها الدول صاحبة العلاقة.
كما يفسر أيضاً النزاعات المستمرة بين دويلات ومشيخات المنطقة بسبب خلافات الحدود المزعومة، والتي رسمت أيضاً من قبل قوى الهيمنة، عمداً، لاستمرار الخلافات، وبالتالي النزاعات عوضاً عن أن تكون سبباً داعياً للاتحاد أو الوحدة بين تلك الشعوب الواحدة. حتى أخذ بعض الحكام يبحثون عن الأمن والاستقرار المزيف بطلب الدعم وتواجد القوات تلك التي ساهمت في يوم من الأيام بالتسبب بخلق هذه النزاعات، إلى أن وصل الأمر إلى تحقيق أهداف وأطماع تلك القوى بالهيمنة المكشوفة مع دفع نفقاتها وتكاليفها. وهكذا تحقق المزيد من هيمنة الاحتكارات الامبريالية، إلى درجة أن وضع بعض الحكام أنفسهم تحت إمرة قوى الهيمنة، وكأن جهنم أصبحت ملاذهم الآمن، وتناسوا أن ما أصاب أمتنا من كوارث، بدءاً من تقسيمنا إلى دول وتداخل في الحدود المصطنعة، وإثارة النزاعات وصب الزيت على نار، يرجع إلى قوى الهيمنة والتي تبادلت الأدوار والمهمات.
ولنلقي الضوء على بعض من خطط الدول الاستعمارية على منطقتنا العربية، باختصار شديد: فقد ارتبط ظهور وانتشار مفهوم عبارة الشرق الأوسط بالفكر الاستراتيجي البريطاني، فقد كتب فالنتاين شيرول، مراسل الشؤون الخارجية في جريدة التايمز، سلسلة من المقالات، بعنوان المسألة الشرق أوسطية، خلال الفترة، من تشرين الأول عام (1902) إلى نيسان عام (1903). ثم جمعها في كتاب صدر عام (1903) بعنوان: "الدفاع عن الهند". ثم صدر في لندن كتاب، بعنوان "مشاكل الشرق الأوسط" لمؤلفه ريتشارد هاملتون. ثم أشار اللورد كيرزون، حاكم الهند آنذاك، ممثل المملكة البريطانية العظمى، في حديث عن الشرق الأول، كمدخل للهند وذلك في عام (1911).
ثم بدأت دلالة المفهوم تتعثر، في فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى مع استخدامه للتعبير عن جزء من المنطقة الجغرافية، التي يشملها الشرق الأدنى.
وأنشأ تشرشل وزير المستعمرات البريطاني آنذاك، إدارة سماها إدارة الشرق الأوسط في وزارته، في آذار عام (1921)، وذلك للإشراف على شؤون فلسطين وشرقي الأردن والعراق، وتأكد هذا المفهوم مع قيام بريطانيا بإنشاء مركز تموين أطلقت عليه اسم مركز تموين الشرق الأوسط، للإشراف على منطقة غير محدودة، تتسع وتضيق، طبقاً لتطورات الحرب العالمية الثانية، وذلك بدءاً من عام (1940). ونجح المركز في تحقيق أغراضه المتمثلة في ضمان وتنظيم وصول إمدادات السلع الأساسية إلى المنطقة، وتوفير المواد اللازمة لقوات الحلفاء أثناء الحرب. ولم ينتج هذا النجاح من فعالية أجهزة التخطيط والرقابة التابعة للمركز فقط، الذي أصبح مقره القاهرة، لكنه نتج عن وجود إدارة سياسية بريطانية فعالة.
وهنا أيضاً، لابد من استعراض سريع لاهتمامات منظري السياسات الامبريالية في منطقة الخليج العربي، بالرجوع إلى بعض ما كتبوه، لخدمة مصالح دولهم. فقد كتب (رايموند أوشي) في كتابه، (ملوك الرمال في عُمان) (أنه يرى أن للخليج أهمية استراتيجية بالنسبة لبريطانيا، فهو شريان الحياة الرئيس بالنسبة لنا، وقد أكد اكتشاف، وتقدم الطيران، هذه الحقيقة، وسيظل الخليج العربي، يسيطر على استراتيجيتنا سنين طويلة. فهو يتوسط جميع خطوطنا البحرية والجوية الرئيسة إلى الشرق. ويحوي الموانيء والمراكز البحرية ومحطات الوقود اللازمة لأساطيلنا وبواخرنا وطائراتنا. والدول التي تستولي على الخليج، وعلى ساحل عمان، تستطيع أن تتحكم في جزيرة العرب والعراق وإيران وأفريقيا. وتستطيع أن تغلق قناة السويس، وأن تقطع خطوط المواصلات الجوية والبحرية إلى الهند وأفريقيا، وإذا قامت في الخليج دولة معادية، فإنها تستطيع أن تدق المسمار الأخير في نعش النفوذ البريطاني، بجنوب البحر الأبيض المتوسط.
هذا مثال عما يفكر به منظرو الاستراتيجيات الاستعمارية البريطانية، أما الأمثلة الأحدث، عن منظري الاستراتيجية الامبريالية الأمريكية فهي أعمق وأشد وضوحاً. إذ يقول (ديفيد نيوسوم) وهو أحد وكلاء وزارة خارجية الولايات المتحدة الأمريكيين السابقين: "إذا كان العالم دائرة مسطحة، وكان المرء يبحث عن مركزها، فيمكن إعطاء ذريعة جيدة مفادها: إن هذا المركز هو في الخليج العربي الفارسي، سواء من جانبه العربي، أو الفارسي، حسبما تنظر إليه"، ويضيف ما من منطقة هي بمثل هذه الأهمية الأساسية لاستقرار العالم الغربي وسلامته الاقتصادية".
وازدادت أهمية الخليج بعد الاكتشافات النفطية والتنافس الحاد بين الدول الامبريالية عليه. فوضعت بعض دول الهيمنة خاصة الولايات المتحدة، الخطط لتشدد من قبضتها على المنطقة، بالتعاون مع بعض الحكام فيها، تحت ذرائع مختلفة، في حين استهدف التخطيط الامبريالي، عزل المنطقة عن محيطها العربي، وحاولت أن لا تبرز قوة إقليمية تخل بالتوازن الذي رسمته. ثم دشنت الامبريالية الأمريكية مرحلة جديدة، بعد حرب الخليج الثانية، بطرح مشاريع ما سمته بالأمن، لمنع أو إعاقة بروز أية قوة يمكن أن تخرج عن إدارة وتصميم ما خططت له واشنطن.
وهنا من الجدير بالملاحظة أن نذكر بعض ما اصطلح عليه من قبل الغرب بهدف عزل الشعوب العربية عن بعضها، فأطلقوا اصطلاح الشرق الأوسط، على بعض مناطق الوطن العربي، كما أطلقوا اسم شمالي أفريقيا أيضاً، فهناك مثلاً، قاموس وبستر الشهير للقرن العشرين، الذي يعرف الشرق الأوسط، بأنه المنطقة الجغرافية التي تشمل العراق وإيران وأفغانستان، وفي بعض الأحيان، الهند والتيبت وبورما. ويضيف القاموس معنى آخر، بأنه الشرق الأدنى، باستثناء بلاد البلقان. ويحدد البلدان الواقعة بالقرب من الجزء الشرقي للبحر الأبيض المتوسط أو الشرق منه، متضمناً جنوب غربيّ آسيا ":تركيا، سوريا، لبنان، فلسطين، شرقي الأردن، المملكة السعودية".
وهكذا، إذا أخذنا بمصطلح الشرق الأوسط، فإنه لا يشمل من البلدان العربية، سوى العراق. أما إذا أخذ بمصطلح الشرق الأدنى، فهو يشمل تركيا، ويستثني مصر والعراق، وهذا يؤدي إلى عدة دلالات:
1-لا يتوجه هذا المفهوم نحو منطقة جغرافية محددة، فهو مصطلح سياسي في نشأته، واستراتيجي من حيث خدمة قوى خارجية، فالشرق الموصوف بالشرق الأوسط، يطرح التساؤل عن ماهية المرجعية التي على أساسها وُصِف بهذه التسمية.
2- يمزق هذا المفهوم أوصال الوطن العربي، ولا يعامله كونه وحدة متميزة، بل يُدْخِلُ ضمن تعريف الشرق الأوسط بلداناً غير عربية. وهذا ما يجعل البلدان العربية مجرد جزء من منطقة فسيفساء وموازييك، تضم خليطاً غير متجانس من القوميات والشعوب والأديان، والهدف غير المعلن هو تحطيم الأساس الحضاري والثقافي للوحدة العربية.
3- إن هذا المفهوم، يستهدف تبرير شرعية وجود الكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة، بإدراجه الدول العربية ضمن منطقة ما يسمى بالشرق الأوسط، وليس الوطن العربي.
ويقود ذلك للقول، بأن الهدف الأمريكي الكيان الصهيوني ليس إنشاءنادٍ يضم الجميع في الشرق الأوسط، وإنما تحديد إطار مرجعي للتعاون يكون شرق أوسطياً مرناً ومفتوحاً، وينسحب من ذلك، إنشاء أنساق إقليمية وظيفية، مما يعني بدوره بلورة مجموعة من القواعد والمعايير والأنماط للتعاون في ضوء كل جزئية محددة، أو المضي خطوة إلى الأمام في حالات أخرى لإنشاء مؤسسات إقليمية جديدة، وفي الحالتين يقوم التعريف الإقليمي على المعيار الاختصاصي والمصلحي، وليس الجغرافي الضيق، بحيث يضم دولاً من خارج المنطقة الجغرافية، دون أن يضم جميع دول هذه المنطقة بالضرورة.
وهناك عدة محاور تحكم الرؤيا الأمريكية للمسألة الشرق أوسطية:
آ-لا يحقق النفوذ الأمريكي المتزايد، بعد حرب الخليج الثانية عام (1991) وما ترتب عليها من علاقات متميزة مع الكيان الصهيوني، ومحاولة ربطه اقتصادياً وعسكرياً وسياسياً مع بعض دول المنطقة أو كلها لا يحقق بأوضاعه الحاضرة الاستقرار المطلوب لهذا النفوذ. إذ توجد عناصر أساسية في المنطقة، تشكل مصادر للأزمات "حسب المفهوم الأمريكي"، وفي مقدمتها العراق، ثم إيران، ضمن مدىً، في منطقة الخليج العربي/ الفارسي. ثم هناك المسألة الفلسطينية وتوابعها، وما يترتب عن عدم الوصول إلى حل من سلبيات على أهداف الولايات المتحدة، خاصة تصاعد ما تسميه أجهزة المخابرات الأمريكية بـ "الإرهاب والعنف".
لذلك، يؤدي إحداث تحريك في القضية الأساسية كإعلان المبادئ بالطريقة الأمريكية، والاتفاقيات المنفردة. المشابهة لكامب دافيد الخ والمؤتمرات تحت مسميات مختلفة كالاقتصادية والمياه تقود إلى تقوية النفوذ الأمريكي والصهيوني، وكأن الأمر يتعلق باقتصاد ورفع مستوى المعيشة وليس بحقوق مغتصبة وكرامات مهدورة، مما يساهم في تشجيع واشنطن على بلورة مفهوم الاندماج الإقليمي كهدف استراتيجي، بغية الانتقال إلى هوية تعاونية بين الحكام العرب والكيان الصهيوني.
ب-تقسيم الوطن العربي إلى مناطق إقليمية كمجلس التعاون الخليجي.. الخ كما جرى في السابق، في محاولات القوى الاستعمارية القديمة لإبعاد منطقة الخليج عن محيطها العربي، وإشعار شيوخ المنطقة أن الخطر يأتي إليهم من بعض الدول العربية، وليس من قبل تواجد القوات الأمريكية الغازية، ولا حتى من خطر الكيان الصهيوني الغاصب، وبالتالي إبعاد تلك المشيخات والممالك النفطية عن الاتصال بالوطن العربي. فعلى سبيل المثال، تتبع الولايات المتحدة، ما جرى في الحقبة الاستعمارية لمنطقة الخليج العربي، عندما جرى إغلاق المنطقة في وجه الخبرات العربية، واستبدالها بخبرات وحتى بجيوش أمريكية، وكما جرى إلحاقها إدارياً بالمستعمرة البريطانية في الهند سابقاً، حيث كانت شؤون الخليج تدار من قبل حكام بومباي البريطانيين، بدلاً من مستعمراتها العربية كمصر أو العراق، وركزت مخططها على ربط المنطقة من الكويت إلى عدن بالهند، وعزلها عن محيطها العربي، وإغراق المدن الرئيسة بالجاليات الآسيوية وغيرها، وسارت من بعد ذلك، الشركات النفطية على هدي السياسة البريطانية الاستعمارية، ويجري تطبيق ذلك اليوم في منطقة ما يسمى بمجلس التعاون الخليجي في كثير من أموره خاصة في مجال ما يسمى بالأمن والاقتصاد بالاعتماد على الولايات المتحدة الأمريكية، ففي حين كانت الشركات النفطية تعتمد على الخبرات والكفاءات الهندية والآسيوية الأخرى، ووضعت العديد من القيود والحواجز أمام الكفاءات العربية، وكان الهدف خلق مجتمعات موزاييك في تركيبتها السكانية، يبهت من خلالها الطابع القومي العربي، وتتعدد الجنسيات، وبحيث تصبح ممزقة النسيج الاجتماعي من جهة ثم يزداد تدخل الدول المختلفة في الشؤون الداخلية للمنطقة بحجة الدفاع عن مواطنيها. تماماً كما يجري اليوم، حيث تسير الأمور بطرق أشد خطراً في الشكل والمضمون تحت إشراف الولايات المتحدة المباشرة، حيث تسعى واشنطن في الظروف الراهنة إلى تخويف حكام منطقة الخليج من الغول العربي، وليس من الشيطان الأمريكي والصهيوني، وأخذت تستخدم ورقة حقوق العمال الأجانب بالإضافة إلى ورقة حقوق الإنسان، باستثناء حقوق الشعب الفلسطيني، تلك الورقة، حقوق الإنسان، التي تمارسها واشنطن أنّى شاءت وحيث تشاء مصالحها الجشعة، مع ذلك، يمكن القول، هناك طرفان أساسيان يديران مثل هذه المخططات، ولهما مصلحة مؤقتة في تعويم الهوية القومية، حتى لا يكون هناك تجانس اجتماعي قادر على الفعل السياسي، وهذان الطرفان، هما الدولة المهيمنة، صاحبة الحضور العسكري والسياسي الراجح في المنطقة، أعني الولايات المتحدة، والأسر الحاكمة من الملوك والأمراء والشيوخ، وستكون نتائج إغراق المنطقة بالعمالة الأجنبية على المنطقة:


1ً- قتل الهوية القومية العربية في منطقة الخليج العربي، حيث يتم خلط الجنسيات والثقافات والأصول العرقية، بطريقة تتغلب فيها القوميات المختلطة على القومية العربية، وبالتالي جعل الإمارة أو المشيخة أو المملكة، شركات مساهمة وليست "وطناً".
2ً- تفتيت قوة العمل على أساس الانتماء القومي، خاصة وأن الغالبية الساحقة من قوة العمل الأجنبية مؤقتة، حيث شهدت المنطقة تدفقاً كبيراً للعمالة الأجنبية، وانعكست بوضوح على التركيبة السكانية، التي باتت غير متجانسة، وأصبحت عاجزة بالتالي عن الفعل للرد على خطط التدمير السياسي والاجتماعي التي مارستها وتمارسها الدوائر الأجنبية والمحلية على حد سواء، أو بعضها.
3- خلق مراكز قوى داخل المجتمع، تبعده تدريجياً عن عمقه القومي، وتخلق له سمات خاصة تتولد عبر تفاعل بطيء يُعبَّر عن المنعطفات الحادة، كما جرى في أزمة الخليج الأخيرة، بحيث يبدو وكأن لهذه المجتمعات سماتها القومية الخاصة المصطدمة ومصالح الأمة، وبالتالي ترى في الابتعاد عن الأمة مصلحة قومية لها.
4- زرع عناصر في مختلف أجهزة الدولة والمؤسسات ومواقع القرار على أن تكون مرتبطة بالدوائر الأجنبية، كالخبراء والمدربين الخ
ويمثل ذلك بالأعداد الكبيرة للأجانب في أجهزة الجيش وقوى الأمن باسم خبراء، وسوى ذلك، كما أشارت عدة تقارير إلى مخابرات الكيان الصهيوني قد نجحت في تجنيد الآلاف من مواطني الدول الآسيوية وغيرها للعمل وسط بيوت كبار المسؤولين. كما تجدر الإشارة إلى وجود عشرات الآلاف من الأمريكيين والأوربيين العاملين في الأجهزة العسكرية والإدارات الحساسة في مختلف القطاعات.
أما بالنسبة للأسر الحاكمة فإنها ترى لها مصلحة في ذلك من النواحي التالية:
1ً- تسوير إقطاعاتها عن العمق القومي العربي، خاصة بعد الاكتشافات النفطية الكبيرة، وبالتالي الحفاظ على الامتيازات الأسطورية، التي نجمت عن العائدات النفطية والتصرف بهذه الثروة الوطنية والقومية كملكية خاصة لهذه الأُسَر بعيداً عن مصلحة الشعب والأمة، بل على الضد من هذه المصلحة، ومواجهة الدعوات التي ترى بأن الخليج وثروته وأهله جزء من الوطن العربي وثروته وأمنه، وأمنها.
2ً- تعميق النزعة القطرية من خلال تصنيف فريد من نوعه في إعطاء الجنسيات ويتم تصنيف المواطنين إلى درجات: أولى وثانية وثالثة وبدون جنسية، وتوزيع فئات المائدة النفطية على المواطنين الذي وجدوا أن المواطنة، امتياز، يمكنهم أن يمارسوا من خلالها كافة الأعمال الطفيلية، بينما يمارس العمال الوافدون القسم الأكبر من الفعاليات الإنتاجية والخدمات.
3ً- تدمير النسيج الاجتماعي المحلي، وتشتيت القوى الاجتماعية، وتعويم القوى المحلية، في بحر من الموازييك البشري، بحيث يصعب على القوى التقدمية والقومية، الاعتماد على قوى اجتماعية متجانسة للنضال من أجل التغيير. ففي دولة الإمارات مثلاً، بلغت نسبة الأجانب في أبو ظبي 85% عام 1980، وفي دبي 77%، ويشكل وجود هذه الأعداد من العمالة الأجنبية، ذريعة للسلطة السياسية، لعدم قيام مشاركة سياسية وعدم وجود برلمان.
كما أن وجود أعداد هائلة من الأجانب في مواقع القرار الاقتصادي والعسكري والسياسي، وتشجيع هذا الاتجاه، من قبل قوى الهيمنة، مريح للأسر الحاكمة، التي تسعى لمواصلة السير في الطريق القديم! الاحتكار الكامل للسلطة، وعدم السماح للمواطنين بالمشاركة السياسية، ولا تتردد هذه الأنظمة عن طرد بعض المواطنين، وطرد بعض العرب، و*** أعداد متزايدة من الأجانب لتستمر السلطات باحتكار كل شيء بيد الأسر الحاكمة، ولتستمر الشركات القريبة في نهب ثروات البلاد، ويستمر الملايين من العاملين مهددين بالطرد إن أبدوا أي تذمر من أوضاعهم المزرية واللا إنسانية.
4ً- وقد ثبت أنه عندما تتصاعد لهجة التأييد للقضايا القومية، وتوجيه النقد لقوى الهيمنة، كلما زادت الإجراءات القمعية وأعمال الطرد وبالتالي زيادة الرصد على أي تحرك نضالي للمعارضة الوطنية علماً أنه يمنع كل تأطير نقابي من كل نوع. كما يجري الوقوف في وجه أي تفاعل عربي يسهم فيه المواطنون العرب والوافدون خاصة من عرب فلسطين.
وبهذا، ساهمت تلك الأنظمة وتساهم في إسقاط التحديات التي كانت تواجه شرعية وجود الكيان الصهيوني في المنطقة، خاصة بعد كامب دافيد عام
(1979). وكان مؤتمر مدريد بتاريخ 30/10/1991، بعد تدمير العراق، ومشاركة بعض الأنظمة العربية، المؤشر الجماعي الأول، إلى القبول العربي بهذا الوجود. وقد عملت استراتيجية الكيان الصهيوني، منذ عام
(1948) على أن يكون التعاون الإقليمي مع دويلات المنطقة ودولها، هدفاً رئيساً يحقق الاستقرار السياسي والاقتصادي والأمني له. وتوضح متابعة البحوث والدراسات منذ خمسينيات (1950) أن جميع محاولات التسوية، كانت ترتكز على أسس التعاون الاقتصادي وفتح الحدود وإنهاء المقاطعة الاقتصادية العربية.

5ً- ثم جاءت صيغة مدريد لتؤكد ما حدث عام (1991) التي قضت إلى تدمير العراق، وبالتالي الترويج للشرق الأوسطية، ثم الربط بين تلك الدعائم الأمريكية والرؤيا الصهيونية، كل ذلك ليؤدي إلى القول بوجود توافق مصلحي نحو شرق أوسط جديد يكون للكيان الصهيوني، دور متميز في إطار تحريك عمليات التسوية على كافة الصعد، خاصة بعد انتهاء التجاذب الأمريكي "والغرب عامة" مع الاتحاد السوفياتي السابق، وحل محله نوع من التفاهم الذي بدأ عام (1989) موعد انسحاب السوفيات من أفغانستان، والذي اعتبره المحللون انسحاب من الشرق الأوسط بأكمله.
وتتضح ملامح المشروع الشرق أوسطي من الوثيقة التي أعدتها وكالة التنمية الدولية الأمريكية في ثمانينات (1980)، تحت عنوان "دور التعاون الإقليمي في الشرق الأوسط". وقدمتها إلى الكونجرس وشاركت في إعدادها ثمان وزارات وعشرة مراكز بحوث في مقدمتها الأكاديمية الأمريكية للعلوم. وأكدت الوثيقة على أهمية العمل لبناء تعاون إقليمي فيما يسمى بالشرق الأوسط، يقوم على مُرْتَكز‍َيْن، جغرافي واقتصادي، كبديل عن التعاون الإقليمي المبني على أساس قومي عربي سياسي "القومية العربية". ويشتمل ما سبق على اعتراف العرب بالكيان الصهيوني، وإدماجه بالنظام الإقليمي للمنطقة. كما تتجه الوثيقة. من ناحية البعد الجغرافي على قيام بنية إقليمية تضم دول المشرق العربي، بجانب الكيان الصهيوني وتركيا. وتحدثت الوثيقة عن الأساس الاقتصادي وكيفية تحقيق التعاون المنشود عبر ثلاث مراحل:

آ - تطوير مصادر المياه بصفة أساسية، في المرحلة متوسطة الأجل، من خلال مشروعات مختلفة، مثل البحر الميت، خليج العقبة، نهر الأردن، الشاطئ الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، شبه جزيرة سيناء.
ب - أما في المرحلة، طويلة الأجل، يتم تجاوز البنيات الأساسية المتعارضة والمشكلات التي تعرقل العلاقات، مثل الصراع العربي الصهيوني، من خلال التنمية الاقتصادية، وفتح الأسواق المحلية أمام المنتجات الصهيونية.
ولقد أعطت الولايات المتحدة أهمية كبيرة لتدشين نظام إقليمي جديد للمنطقة، يتوافق مع التغييرات الحاصلة في المنظومة الدولية، والتي اكتسبت واشنطن وضعية القطب الأوحد، في المجالين السياسي والعسكري، في نطاق السعي الأمريكي لإقامة النظام الدولي الجديد.
ويشير "وليام كوانت" أحد أشهر خبراء السياسة الخارجية للولايات المتحدة، أن بلاده تريد السلام في صورة نظام جديد في الشرق الأوسط، ليس فقط يستهدف منع الحروب، ولكن في إحداث تغيير حقيقي في بنية النظام الشرق أوسطي، حيث ينبغي استبدال النظام العربي الذي قام على استبعاد تركيا والكيان الصهيوني، بنظام إقليمي للشرق الأوسط المتجانس، يؤدي إلى قيام اقتصاديات، على أساس سوق مفتوحة، ونظم سياسية ديموقراطية منفتحة على الكيان الصهيوني والغرب عموماً.
ويتوضح دور اتفاق أوسلو، في فتح المنطقة لآفاق رحبة أكثر، في تقرير أمريكي أعدته جامعة هارفارد في حزيران (1993)، حيث جاء فيه: "إن المطلوب عمله على الصعيد الفلسطيني الكيان الصهيوني، هو إحداث طلاق سياسي وزواج اقتصادي. وتتعدى وظيفة المفاوضات، هدف تسوية الصراع، لتصل إلى إحداث تغييرات في أنماط العلاقات وقواعد التعامل، وبلورة قيم سياسية جديدة في الإطار الإقليمي، وفي الحقيقة، فإن مؤتمر مدريد، وقبله كامب دافيد عام (1979)، ومن بعد كل ذلك اتفاق أوسلو، وما سيلي ذلك، تُشكل جميعها عملية إطلاق بناء نظام إقليمي جديد، يشبه ما حدث في مؤتمري فيينا وفرساي، بعد الحرب العالمية الأولى، لتكون هذه الصيغة بعض الأرض، مقابل الاندماج الإقليمي، وليس كل الأرض مقابل السلام، واتضح الأمر بصورة أكبر في قمة الدار البيضاء الاقتصادية عام (1994) وما تلا ذلك من قمم أخرى، مع أن أوسلو الاقتصادية دشنت النظام الشرق أوسطي الجديد، لتحقيق ثلاثة أهداف أمريكية، حسب "دان كيرتز" مساعد وزير خارجية الولايات المتحدة لشؤون ما يسمى بالشرق الأوسط:
آ-إسقاط الحواجز النفسية بين العرب وسكان الكيان الصهيوني.
ب-إطلاق نشاطات فعلية في سائر مجالات التعاون الإقليمي.
ج-الاتجاه نحو إقامة مؤسسات إقليمية كوسيلة لدفع عملية المصالحة التاريخية بين العرب وسكان الكيان الصهيوني.
وحتى تتحول الخريطة الجيوسياسية الجديدة إلى ما يسمى بالشرق الأوسط لابد من التأكيد على دور الكيان الصهيوني كحليف استراتيجي دائم للولايات المتحدة، والتعهد بالمحافظة على تفوق ذلك الكيان النوعي، لهذا، لن تُطبق عليه تدابير نزع الأسلحة وحظر تصديرها. وعلى الرغم من أن القيمة الاستراتيجية للكيان الصهيوني قد انخفضت نسبياً، بعد انتهاء الحرب الباردة السابقة، وأدت إلى انتفاء الصراع الثنائي المؤقت أيضاً، في الشرق الأوسط. لكنها عززت الحاجة للوجود الأجنبي في المنطقة بعد حرب الخليج الثانية. مع ذلك، لا يزال الكيان الصهيوني يحتفظ بأهمية بارزة لدى الولايات المتحدة عموماً. فهو حليف استراتيجي لواشنطن وحليف سياسي ذو مناعة مؤسساتية مستقرة، كما يساهم في تطوير الترسانة العسكرية التقنية للولايات المتحدة. ولهذا فقد تقرر أن يشترك ذلك الكيان في هذه المجموعة الشرق أوسطية، ولعله يصبح في قلب المنطقة، وبدت عدت مؤشرات لذلك:
1ً-استبعاد جامعة الدول العربية وبعض الدول العربية، واستبعاد أي معيار عربي للمواقف الجماعية من عملية التسوية السياسية في مؤتمر مدريد، والمفاوضات متعددة الأطراف.
2ً-وجوب التركيز على النظرة الضيقة لما يسمى بالشرق الأوسط، وفك الارتباط العضوي بين القلب المتمثل بالمنطقة الممتدة من الساحل العربي للخليج العربي، حتى الحوض الشرقي للمتوسط، وبين الأطراف التي كانت تمتد شرقاً حتى الباكستان، وغرباً حتى المغرب، وجنوباً حتى الصومال. وهنا يتم إلغاء فكرة إيزنهاور التي ظهرت عام (1957)، القائلة بضم دول القرن الأفريقي، والتركيز على الوطن العربي والكيان الصهيوني وتركيا وإيران.
3ً-أهمية استبعاد العراق، حتى يتغير نظامه الراديكالي، ويعاد ضبط الأمور بطريقة ما على هذه التركيبة السياسية التي تشكل القلب لما يسمى بالشرق الأوسط، وعلى هذا الأساس، جرى ضم تركيا إلى المنظومة الجديدة، التي تُشكّلُ على أساس جغرافي اقتصادي، وليس على أسس قومية، تاريخية وتركيا مُستأنَسَة لدى الغرب بطبيعة الحال، ويبقى الكيان الصهيوني قائداً.
ومن هنا، ركز اللقاء بين كلنتون ورابين في تشرين الثاني (1993) بالبيت الأبيض بواشنطن، على هذا الفهم الجديد لما يسمى بالشرق الأوسط والدور المؤسس للكيان الصهيوني فيه. وكان من نتائج هذا التوصل، تحريك عملية التسوية، ودفع إعلان المبادئ غزة أريحا أولاً، خطوات إلى الأمام، ومن المُتصَّوّر أن الجانب الفلسطيني تجاوب مع المفاوض الصهيوني وقدم له رؤيتية السياسية في دعم المنظور الاستراتيجي لما يسمى بالشرق الأوسط. ولقد ترافق هذا المخطط أيضاً واستكمل، بتواجد القوات الأمريكية على مجمل دول الخليج ودويلاتها، وأصبحت قادرة على فرض، حتى باستخدام القوة العسكرية، أو عبر شركاتها، وعشرات الألوف من الخبراء الذين ينتشرون في مفاصل القطاعات الهامة، وهي ليست بحاجة إلى الاستيطان المكثف، لأن هذه الدوائر تقوم بعمليات تشتيت وتدمير النسيج الاجتماعي، وإضعاف تركيبته الطبقية القومية، من حيث ترسم خطط التهجير والعمالة الأجنبية، وتستخدم مختلف الوسائل لتحقيق غاياتها من منطلقات استراتيجية واقتصادية، بحيث يبقى الخليج بمجمله مجتمعاً بشرياً غير متجانس وغير قادر على رسم مستقبله القومي.
ولقد تفاقمت الإشكالية السكانية، منظوراً إليها من زاوية الصراع على المنطقة، ومن زاوية الأمن الوطني والقومي، بعد أزمة الخليج الثانية، فقد عمدت إمارات الخليج ودولها إلى طرد مئات الآلاف من العرب، العاملين فيها، بحجة موقف حكوماتهم، وكأنهم سلع يباعون ويشترون، ولقد شكلت هذه الأعمال سابقات تاريخية خطيرة، أكدت على توجه هذه الأنظمة نحو الاعتماد على الأجنبي سواء في العمالة أم في العسكر، كما أكدت على استخفاف الحكومات العربية المتعاملة مع هذه الدول بكل القوانين والأعراف والقيم القومية والإنسانية، حيث تصرفت بالبشر وكأنهم أشياء يمكن رميهم أو ***هم حسب مشيئة هؤلاء الحكام.
وهنا تقتضي المقارنة مع ما يقوم به الكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة، وخطط تهجير اليهود من كل أطراف العالم، لتوطينهم وتجنيسهم الفوري، حيث تنظر الحركة الصهيونية إلى الاستيطان والتجنيس كقضية حياة أو موت بالنسبة لمشروعها العدواني، في حين ترفض بعض الدويلات العربية، النفطية خاصة، توطين بعض العرب القادمين إليها، خوفاً من المشاركة في فتات موائدهم العامرة، بل وتغذي النزعات الضيقة لدى المواطن ليزداد إقليمية وابتعاداً عن عمقه القومي.
لقد تمكنت الولايات المتحدة، عبر شركاتها النفطية، وكذلك شركات صناعة الأسلحة العملاقة، وذات الخبرات العالمية من السيطرة على نفط منطقة ما يسمى بالشرق الأوسط، وكذلك على تجارة الأسلحة فيها، وأن تصبح الولايات المتحدة صاحبة الكلمة المسموعة، خاصة بعد حرب الخليج الثانية، ويرى بعض الخبراء أن السيطرة الأمريكية على تلك المنطقة تعتبر من أوليات الاستراتيجية الأمريكية واهتماماتها العالمية، ويتوافق ذلك مع مساعيها لتمكين الكيان الصهيوني من تعميق جذوره في المنطقة العربية، على المستويات المختلفة، العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية الخ. ولعل أوضح ظاهرة تؤكد ذلك، ما طرحه شمعون بيرز، من أن السلم يقضي باستبدال حالة العداء بين شعبين يتنازعان على الأرض نفسها، بعملية تجارية، تشتمل كل ما يسمى بالشرق الأوسط، وتزول كل العداءات التاريخية، بل يصل الأمر إلى "غرام" فلسطيني صهيوني خاص، يتجاوز الرابطة العربية
ويطرح شمعون بيرز مشروعية الانتماء إلى الجغرافية الجديدة التي يرسمها ذلك، بناء على فشل الحروب في تحقيق كسب استراتيجي عام لما يقدمه الوضع الدولي الجديد من رؤية سياسية في حل النزاعات، ووفق التكوين الاقتصادي والاجتماعي السياسي الذي يعرفه، فإن هناك بنية فوق قومية حسب تعريفه، يجب أن تظهر وتقدر على حل جميع المشاكل، بناء على وجود ما يسمى بالشرق الأوسط بكافة إمكاناته، ويرى بيرز أن الاستثمارات الدولية، هي وحدها، القادرة على انتشال الواقع الاقتصادي العام وحل المشاكل المستقبلية، مثل أزمة المياه، والتضخم السكاني. وإذا كان المستقبل لا يمكن بناؤه على رؤية الماضي وحده، فإن بيرز يطرح عدة نقاط هامة، لما يسميه بالشرق الأوسط الجديد.

آ- مفهوم الواقع الديموغرافي، وهو أمر بالغ الحساسية، ولقد أدى في الضفة والقطاع لنشوء تناقض مع الواقع الدولي العام، ومع عملية التسوية. ولقد أدى استمرار الممارسات الصهيونية القمعية ضد المواطنين الفلسطينيين، بشكل يعاكس النتيجة التاريخية للصراع، وتحكم هذا الواقع في إعلان المبادئ، أدى ذلك، إلى استناد الحكم الذاتي على الضغط السكاني وقلة الوجود اليهودي في محيط أريحا.
ب- المفهوم الجديد للجغرافيا، التي غابت عنه مقولة شعب بلا أرض، لأرض بلا شعب. ويقول شمعون بيريز في هذا الإطار، بأن الأرض، ليست هي المشكلة التي يتعين أن نتعاطف معها، بل المشكلة هي علاقتنا المقبلة مع سكانها. ويبدو للوهلة الأولى، أن الهم التاريخي للأرض، ينحسر في التراث الصهيوني، لكنه يتطور في الواقع، بشكل جديد، حيث يمكن للحدود الجغرافية الغائبة عن دستور الكيان الصهيوني أن تحدد وفق التاريخ.
ج- المفهوم الأمني مترابط مع الشكل المقترح لما يسمى بالشرق الأوسط عملياً، والمتضمن حالة فوق قومية، تحيل العلاقات نحو تفهّم لطبيعة الإقليم، وهنا يغيب العمق الأمني، أو البعد الاستراتيجي لمقولة الأمن والاستيطان التي أسس عليها الصهاينة كيانهم في فلسطين المحتلة. فهما لا يتعلقان بالحدود الجغرافية. بل يمكن أن يعيش الجميع تحت سلطة نظام إقليمي. وبالطبع، أتاح تغير النظرة للأمن، تطبيقاً لإعلان المبادئ، وهي قد تتيح وجود مستوطنات داخل حدود الغير، مستقبلاً، أو حتى وجود صهيوني فاعل، داخل دول ما يسمى بدول الطوق، يوازي التشكيلات الفلسطينية الحالية داخل السياسة الصهيونية.
ويرى شمعون بيرز، أن الموارد المائية، ليست حكراً على بلد واحد، بل هي مملوكة لشعوبها ككل، لأن المياه بدون جنسية، وبالتالي لابد من إقامة نظام إقليمي مشترك يتم من خلاله التخطيط وتنفيذ مشروعات لتنمية الموارد المائية، فضلاً عن توظيف التكنولوجيا للحصول على المياه. وهناك إمكانية للتعاون في مجالات النقل والاتصالات والبنية التحتية. ويرى بيرز كذلك أنها حيوية، ليست لتنمية دول المنطقة فقط، بل لأنها تمثل في حد ذاتها مؤشراً على أن دول المنطقة قد اختارت السلام. بل هناك حديث لبيرز عن مثلث الازدهار، يضم الكيان الصهيوني والفلسطينيين والأردن. وهذا المثلث مطالب بعودة قوافل التجارة والثقافات والبضاعة والممرات، بدلاً من أعباء التسلح الخطيرة على اقتصاد الكيان الصهيوني.
وينظر إبراهيم تامير، رئيس جامعة بئر السبع الصهيونية، إلى السلام الشامل، كونه القادر على إزالة الأخطار، ووثيق الصلة بنظام إقليمي للأمن والاقتصاد دون الالتفات للروابط القومية. فقط في إطار دول كمونويلث، يمتلك سوقاً مشتركاً وحدوداً مفتوحة، وسيكون متاحاً الوصول إلى حلٍّ وسط بشأن الحدود الدولية، بين الكيان الصهيوني وجيرانه، فيما يسمى بالشرق الأوسط. وهذه الحدود ستكون ذات طابع إداري وليست خطوط تحصينات.
ويُغْفِل المشروع الصهيوني عن عمد قضايا الصراع الرئيسة، مثل السيادة والأرض المحتلة والاحتكار النووي والمستوطنات والحدود والدولة الفلسطينية. والقدس، كما لا يتعرض لميزان القوى الحالي الذي يميل لصالح الكيان الصهيوني بشدة، وإنما يعتبر ميزان القوى على وضعيته الحالية واستمرار الاحتلال والاحتكار النووي واستمرار الاستيطان يطرح نقاطاً أخرى أقل أهمية بفرضها كأجندة للتفاوض الثنائي ومتعدد الأطراف. مع كل ذلك، لم يحظ الكيان الصهيوني، ولن يحظى بقبول شعبي، مع أنه كسب عدة جولات عسكرية وسياسية في إطار هذا الصراع، وتشعر غالبية الشعب العربي، أن عقد بعض الدول العربية الصلح الرسمي، أو غير الرسمي، معه، هو نتيجة عجزها عن مواجهته، وليس قبولاً بشرعيته، وهذا الكيان الغريب عن المنطقة، لا يزال في نظر الشعب العربي كياناً قام ويقوم على القهر والاغتصاب بدعم غربي، وهذه الجوانب المهمة، لم يتطرق إليها شمعون بيرز، في رسمه للنظام الشرق أوسطي، وهي جوانب مهمة في الصراع العربي الصهيوني.
ويستخدم الكيان الصهيوني انفتاحه على العالم العربي لأغراض تتعلق بأمنه، على المدى الطويل، في المقام الأول، ولكي تكون روابطه مع دوائر الأعمال العربية بديلاً أمنياً عن انسحابه الكلي أو الجزئي من الأراضي العربية المحتلة، لهذا يتحدد التصور الصهيوني للشرق الأوسط القادم على عدة محاور.
آ- ضرورة إنهاء حالة العداء في إطار العلاقات الصهيونية، بكل طرف عربي على حدة، والتي اتسمت برغبة الدول العربية في إزالة الطرف الآخر. ويترتب على ذلك، إنهاء حالة الحرب، وتوقيع اتفاقيات سلام جزئية ومنفردة، ترتكز على التعاون، وإعادة رسم الحدود في المنطقة، بما ينطوي عليه ذلك، من تعديل للحدود الدولية بينه وبين دول الطوق أمام الرسم الجغرافي السياسي للمنطقة.
ب- التركيز على البعد الاتصالي في العلاقات الدولية ووصف عملية التطبيع المزعومة بالاتصالية، وذلك من خلال شبكة من العلاقات والتفاعلات النوعية في الاقتصاد والسياحة، أي هياكل ومؤسسات ومشروعات مشتركة وتيارات من الاتصال السلمي البشري والثقافي.
ج- توسيع نطاق الأطراف الإقليمية والدولية المشاركة في عملية وضع نهاية للصراع الإقليمي وإقامة ترتيبات شرق أوسطية في المنطقة لنفي الفكرة العربية، وَمَحْوِ المشروع القومي العربي. وهذه الأفكار لا يمكن أن ترى النور وتتحقق، إلا عبر الثقافة، ولهذا فإن النظام الثقافي والقيمي الجديد، سوف يتسم بالتعددية، وهذا يشير إلى أن النظام الشرق أوسطي لن يتصف بوحدة الإطار القيمي، أي الثقافة العربية والعروبة، وإنما يحدده العرض والطلب الثقافيان "أي هيمنة الثقافة الأقوى"، وهي الصهيونية، الطفل المدلل، لما يسمى بالنظام الدولي الجديد.
إن الضرورة تقتضي البحث عن المسميات الحقيقية، فالواقع أن هناك ترتيباً شرق أوسطي، وليس "نظاماً"، لأن كلمة نظام تعني وجود إرادة واضحة في تنظيم الأوضاع، بينما لا تعني الأولى إلا ملاحظة الترتيبات التي سوف تستقر عليها الأوضاع بين القوى الموجودة في الساحة. ومن مصلحة القوة السائدة أن تظهر هذا الترتيب النابع من توازن القوى، على أنه تنظيم يضمن مصالح الجميع. والترتيب قائم على حساب المصالح الغربية، لأنه من وضع الولايات المتحدة، الحليف الاستراتيجي للكيان الصهيوني، وقد أطلق عليه اسم "النظام الشرق أوسطي" وهو واحد من الأنظمة الإقليمية التي رسمت السياسة الأمريكية خطوطها الرئيسة في إطار تصورها لما تسميه النظام الدولي الجديد الذي تنفرد بقيادته.
كما يقع ضمن ترتيبات مخطط السياسة الأمريكية للمنطقة العربية، بسبب اعتمادها المتزايد على النفط، كما تكشف عن قيمته الاستراتيجية في الصراع الدولي على الموارد الطبيعية. فقد باتت السمة الطاغية لمرحلة ما بين الحربين العالميتين، هي الصراع على النفط، منذ اتخاذ قيادة البحرية البريطانية، قرارها عام (1910)، باعتماد النفط بديلاً عن الفحم، كوقود للأسطول البريطاني، وابتكرت أساليب جديدة للتشحيم والتزييت، منذ أن ظهرت محركات الديزل والطائرات عام (1930).
وتمكنت الولايات المتحدة، عبر شركاتها النفطية العملاقة، ذات الخبرة العالمية في عالم النفط، من السيطرة على نفط ما يسمى بمنطقة الشرق الأوسط، وأن تصبح بالتالي صاحبة الكلمة الأولى في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، ويرى بعض الخبراء أن السيطرة الأمريكية النفطية التي تمثلت في البداية في شركة آرامكو والكونسورتيوم النفطي في إيران، وهي من مظاهر زعامة الولايات المتحدة للعالم الرأسمالي، كما أسهمت في ترسيخ تلك الزعامة. ويجزم بعض الباحثين الاقتصاديين بأن مشروع مارشال لتعمير أوربا ما كان لينجح لولا السعر المنخفض للنفط، وبقائه طيلة عقدين من الزمن. وعبر عن ذلك أحد رؤساء الجمهورية الفرنسية، كليمنصو، بقوله: "إن البلدان الرأسمالية المتطورة قد ركبت موجة نفط الشرق الأوسط لتعبر إلى المعجزة الاقتصادية في فترة الخمسينيات (1950) والستينيات (1960)". وبات واضحاً للجميع، كما يقول: "إنه بدون النفط لم يكن ممكناً وجود الاقتصاد الحديث". كما اعترف أحد وزراء دفاع الولايات المتحدة، كاسبر واينبرغر أمام الكونجرس: "بأن هذه المنطقة، تقف وراء الازدهار الاقتصادي لكل من الغرب واليابان". أما أحد سفراء الولايات المتحدة السابقين في الجزيرة العربية، (جيمس ايكنز)، فإنه يقول "لقد سيطرت الولايات المتحدة على منابع النفط في الشرق الأوسط بعد أزمة مُصّدّق، وحصلت على 40% من شركة النفط الإيرانية الجديدة، وبفضل النفط العربي الذي تميّزَ بسهولة الإنتاج وانخفاض كلفته، استمتع العالم بمصدر طاقة، سعره زهيد في الفترة (1950-1970). وبالتالي فإن النفط العربي كان حاسماً لتقدم الاقتصاد الغربي إلى حد كبير". أما روبرت تكر، فإنه يرى بأن "الخليج يشكل المفتاح الذي لا غنى عنه للدفاع عن موقع أمريكا الدولي تماماً كما يشكل المفتاح الذي لا غنى عنه والذي بدونه لا تستطيع قوى معادية للولايات المتحدة أن تطمح جدياً إلى الهيمنة الكونية، وبالمقارنة مع المخاطر الناجمة عن السيطرة على الخليج، ليس للصراع في مناطق أخرى من العالم الثالث إلا أهمية سطحية".
وتتطور لهجة التصريحات منذ منتصف السبعينيات (1970)، وتصدر سلسلة متشنجة ضد الإمارات والمشيخات النفطية، والتهديد باستخدام القوة ضد تلك البلدان باحتلال منابع النفط، خاصة في الجزيرة العربية، ومشيخة الكويت. وبهذا الصدد يقول البروفيسور "روبرت تكر" وهو من أبرز القائلين أو الداعين باحتلال منابع النفط منذ عهد نيكسون، وحتى ريغان: "إن المنطقة الوحيدة التي تتوفر فيها هذه الشروط، على ما يبدو، هي تلك التي تمتد من الكويت على طول الساحل حتى قطر، وهي في الغالب شريط ساحلي ضيق لا يتعدى (400) ميل طولاً، ويوفر (40%) من مجموع إنتاج الدول المصدرة للنفط الحالية، وفيه أكبر كميات احتياطي في العالم على الإطلاق، أي نحو (50%) من مجموع احتياطي الدول المصدرة للنفط، و40% من مجموع الاحتياط في العالم بأسره، وبما أن هذه المنطقة لا تشمل مراكز سكانية مهمة، وهي خالية من الأشجار، فإن السيطرة عليها لا تشبه تجربة فييتنام لا من قريب ولا من بعيد".
أما كيسنجر، فقد أكد لمجلة "بزنس ويك" الأمريكية "أن الولايات المتحدة ستقوم بعمل عسكري ضد الدول المنتجة للنفط إذا استخدم النفط لإحداث حالة اختناق للعالم الصناعي، أي إذا استخدم لأهداف سياسية".
وأكد الرئيس الأمريكي فورد موافقته على هذه التصريحات بقوله: "قد لا يكون الأمر أخلاقياً، لكنني أرى أنه لو رجعت إلى التاريخ البشري لوجدت أن الحروب من أجل الموارد الطبيعية مستمرة منذ أقدم الأزمنة، وتاريخ السنوات الماضية يشير بوضوح إلى هذا الأمر كأحد الأسباب التي من أجلها تحاربت الأمم".
ومنذ ذلك الوقت، حددت الولايات المتحدة بوضوح، مصالحها الحيوية في هذه المنطقة من العالم: "باستمرار القدرة على تحصيل الواردات النفطية بأسعار معقولة وبكميات كافية، للوفاء باحتياجاتنا المتنامية واحتياجات أصدقائنا وحلفائنا الأوربيين والآسيويين". وبالتالي، فإن الدول المنتجة مطالبة بأن تراعي مصالح الامبريالية قبل مصالحها، ووصل الأمر إلى درجة تعبئة الرأي العام الغربي بأن النفط وديعة لدى الدول المنتجة، لا يحق لها استخدامه كسلاح في معاركها الاقتصادية أو السياسية، حيث يرى بعضهم: "أن على العرب أن يعوا الحقيقة المرة التي تتمثل في أن مئات الملايين من سكان العالم الذي يحتاجون لنفط البلدان العربية قد يصلون إلى قناعة بأن أفضل طريقة للحصول على هذا النفط، هو أخذه بالقوة، ولن تكون هناك معارضة ذات أهمية لمثل هذا الحل من قبل الرأي العام للدول التي تحبذ هذه الطريقة أو لمشاركة الولايات المتحدة في هذه الدعوة".
وتضيف الـ "نيويورك تايمز" قائلة: "إن عملية عسكرية لتأمين النفط للدول المستهلكة، لا تشبه أبداً التدخل العسكري الأمريكي المحدود في فييتنام. ولذلك، سيكون هناك إجماع لدى الرأي العام العالمي على مثل هذه الخطوة دونما معارضته. وعند ذلك لن يكون العرب في موقف قوي يحسدون عليه".
وفي جانب آخر، ساهمت بعض البلدان المنتجة للنفط في تدني أسعاره، بعد أن خضعت للابتزاز الأمريكي، ففي حين طالبت بعض الدول المنتجة ربط أسعار النفط مع التضخم النقدي في العالم وبالتالي زيادة الأسعار مع زيادة هذا التضخم، قامت بعض دول المنطقة، بالإصرار على السعر الأدنى الذي شهدته المنطقة منذ عام (1981)، وضاعفت بعض الدول إنتاجها لدرجة إغراق الأسواق بالنفط الذي زاد عن حاجة البلدان المستهلكة، وقد مكن ذلك الشركات العالمية والدول الغربية من تخزين كميات ضخمة من النفط وزيادة الاحتياطي الاستراتيجي لديها. وعندما حققت هذه الدول أو الدولة هدفها المتمثل في خفض الأسعار إلى أدنى حد، فرضت على بقية المنتجين توزيعاً غير عادل للحصص، يرتكز على حقها في الإنتاج الأكبر، دون الاعتبار لاحتياجات الدول النفطية ذات الكثافة السكانية العالية، أو أية اعتبارات أخرى.
ومنذ عام (1982) تضغط الدولة المعنية أو الدول لتخفيض الأسعار بإغراق الأسواق العالمية بكميات كبيرة من النفط، إما بالخضوع لأوامر الولايات المتحدة، بينما أخذت الدول الغربية تخفض من استيرادها من الدول المصدرة للنفط بالاعتماد على البلدان المنتجة الأخرى من خارج مجموعة الدول المصدرة (أُوبِّك) أو باستخدام النفط الاحتياطي الذي جرى تخزينه.
ولقد أوصلت مثل تلك التصرفات المشبوهة، منظمة الدول المصدرة للنفط إلى أزمات خطيرة متكررة في تاريخها. فقد تدهورت الأسعار بتاريخ 28/7/1986 لتصل إلى (7) دولارات للبرميل الواحد، إلى درجة أن باتت المنظمة على كف عفريت. وكان من نتائج هذه السياسة أن هبطت عائدات المشيخات النفطية إلى درجة مزرية. من جهة أخرى، قامت الحكومة البريطانية بدور تخريبي كبير وذلك بعد الاكتشافات النفطية الكبيرة في بحر الشمال، حيث رفضت على الدوام التنسيق مع الدول المصدرة، بل وأصرت على اتباع أسلوب يهدف إلى تقويض المنظمة، بالتنسيق مع الولايات المتحدة. إلى درجة أن عبر أحد رجال الأعمال الأمريكيين وهو "هـ.نيوستين" بقوله: "عاد الباعة الصغار إلى مكانهم، وأصبحنا من جديد وزراء النفط".
ولا تقتصر أهمية الخليج على وجود الثروة النفطية الكبيرة فيه، بل استتبع ذلك، انبثاق أسواق كبيرة للبضائع والمواد الاستهلاكية، كما أثرت العائدات النفطية على الأسواق المالية، وبات من الضروري العمل على إعادة هذه العائدات إلى الغرب بطرق شتى وضمن مخطط متكامل لإحكام السيطرة على الثروة النفطية وعائداتها، وحتى على شيوخها.
وأصبحت الدوائر الغربية، خاصة الأمريكية منها، تراقب بدقة زيادة عائدات النفط أو تناقصها، وبالتالي التخطيط لكيفية استعادة هذه العائدات، باستخدام كافة السبل. فعلى سبيل المثال، سجلت الولايات المتحدة الأمريكية عجزاً مستمراً في الميزان التجاري مع معظم المشيخات النفطية باستثناء الفترة الواقعة بين (1982-1987)، حيث مال الميزان التجاري لصالح الولايات المتحدة، حيث تبيع الأسلحة المنسقة من قبل الجيش الأمريكي، وبشروط أن لا تستخدم ضد الكيان الصهيوني، أو أنها لا تزودها بالأسلحة المتطورة أو الأجهزة التي يمكن أن تؤثر على ميزان القوى مع الكيان الصهيوني، ولا حتى التسبب بأي نوع من إزعاجه. مع ذلك، فقد قفزت الفاتورة النفطية للولايات المتحدة ابتداء من عام (1988) لتصل ذروتها عام (1990)، عندما استوردت ما قيمته (15) مليار دولار من النفط الخام، وتزايد استيرادها من المنطقة ليصل إلى (27.9%) من حجم استيرادها من النفط البالغ (8) مليون برميل يومياً، ليسجل أكبر عجز في ميزانها التجاري مع الإمارات النفطية، ليصل إلى (7.5) مليار دولار، وقد وصلت فاتورة نفطها المستورد لعام (1990) إلى
(58) مليار دولار، وهو متزايد باستمر
ار.
وتترافق هذه الأوضاع مع ترتيبات تجري على ساحة ما يسمى بالقضية الفلسطينية، أو أزمة الشرق الأوسط. لهذا، يعتبر الحديث عما يسمى بالسوق الشرق أوسطية قديماً، قدم المشروع الصهيوني، فهي حلم لهرتزل الذي تخيّل قيام كومونلويث شرق أوسطي، يكون الكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة فيه شأن قيادي فعال ودور متميز على الصعيد الاقتصادي كمركز لجذب الاستثمارات والتحديث التكنولوجي والخبرة التقنية.
ويعد مشروع السوق الشرق أوسطية نسخة من مشروع يعقوب ميرودور وزير المالية الصهيوني الذي عرضه بعد زيارة السادات للقدس عام (1977)، وسمي مشروع مارشال موسع للشرق "الأوسط" وتضمن عدة نقاط:
آ- يشتمل المشروع على صندوق مالي قوامه (30) مليار دولار سنوياً، ولمدة عشر سنوات، أي ما يساوي (300) مليار دولار، ويكون لكل دولة توقع اتفاق تسوية من الشرق الأوسط حق الاستفادة من الصندوق.
ب- سينصرف الصندوق إلى تمويل مشروعات اقتصادية وعلمية وصحية وثقافية، وسيكون لدى دول الشرق الأوسط ما تخسره إذا لم تنضم إلى المشروع.
ج- تقدم الولايات المتحدة ثلث المبلغ المطلوب، وتقدم السوق الأوربية المشتركة أو الاتحاد الأوربي، الثلث الثاني، وتموِّل كندا وأستراليا والدول الاسكندنافية الباقي.
د- إن أوربا تعاني مشكلة خمسة عشر مليون عاطل عن العمل، ولكن هؤلاء يجب إعالتهم بخطة عون اجتماعية، هم بالذات مصدر التحويل. فبدلاً أن تدفع الدول الأوربية معونات البطالة، تدفعها أجور عمل لأن مشروع مارشال لا يزود أوربا بالأموال، بل بطريقة لزيادة إنتاجها وتشغيل العمالة، وسوف يتيح لها تصدير وسائل الإنتاج والبنى الأساسية الصناعية كالآلات الزراعية والسلع الرأسمالية والمعدات العلمية.
هـ- إن الثلاثين مليار دولار سنوياً ولمدة عشر سنوات كفيلة بدفع الاقتصاد العالمي إلى تحقيق نُمُوٍّ يصل ما بين 4% إلى 6% سنوياً.
و- يكون الاشتراك في الصندوق، طبقاً للحاجة وعدد السكان، وبما أن الكيان الصهيوني وسوريا والأردن متساوية في الحاجات، فسوف تحصل كلها منها على مليارين ونصف المليار دولار سنوياً، بشرط تخصيص نصف مليار دولار من هذا المبلغ لتوطين اللاجئين الفلسطينيين المقيمين داخل حدودها.
وقد استجابت بعض الأوساط الأمريكية لمشروع ميرودور، فتقدم عضو مجلس الشيوخ الأمريكي فرانك تشيرش، باقتراح إلى لجنة الخارجية والأمن لِتَبنّي مشروع اقتصادي إنمائي يشمل الكيان الصهيوني، وجاراته العربيات. وجاء في ديباجة الاقتراح! "على رئيس الولايات المتحدة أن يبادر إلى دعوة مصر والكيان الصهيوني إلى مباحثات مع حكومتنا ومع حكومات دول صناعية غربية أخرى تتعلق بإمكانية بلورة مشروع مارشال جديد للشرق الأوسط يؤدي إلى تعاون كامل بين الشعبين "الصهيوني" والمصري، وجميع المقيمين فيما يسمى بالشرق الأوسط المستعدين للسلام، وبموجب هذا الاقتراح، تقوم الولايات المتحدة، ودول صناعية غربية أخرى بمهمة أساسية في بلورة هذا المشروع الذي سيكون شبيهاً بالمشروع الذي بلوره مارشال وأدى إلى إعادة بناء أوربا اقتصادياً بعد الحرب العالمية الثانية.
ولعل مشروع مارشال الشرق أوسطي هو أوضح مثال على مشروعات السيطرة للكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة وفي الوطن العربي تحت شعار السلام العادل. وقال شمعون بيرز: "إن الكيان الصهيوني يواجه خياراً حاداً: أن يكون كياناً صهيونياً الأكبر اعتماداً على عدد الفلسطينيين الذي يحكمهم أو أن يكون الكيان الأكبر اعتماداً على حجم السوق التي تحت تصرفه، وفي الحالتين لا مفر من هدف إقامة الكيان الصهيوني الأكبر والذي يكرسه إعلان المبادئ. ونجد البند الثاني عشر عنوانه : "الارتباط والتعارف مع مصر والأردن"، وينص على ما يلي: "سيقوم الطرقان بدعوة كل من الأردن ومصر للمشاركة في تشكيل المزيد من ترتيبات التعاون والارتباط بين حكومة الكيان الصهيوني والممثلين الفلسطينيين من جهة، وحكومة الأردن ومصر، من جهة أخرى، لتشجيع التعاون بينهم". كما ينص البند السادس عشر، تحت عنوان: "التعاون الفلسطيني الكيان الصهيوني، المتعلق بالبرامج الإقليمية": "ينظر الطرفان إلى مجموعات عمل المحادثات متعددة الأطراف، كأداة ملائمة لترويج خطة مارشال ببرامج إقليمية وبرامج أخرى، تشتمل على ماهو مشار إليه في الملحق الرابع، والمقصود الإشارة إلى برامج التنمية الاقتصادية في المنطقة التي تتضمن تطوير البنية التحتية، البرامج البشرية الزراعية السياحية الخ" وهكذا، فإن إعلان المبادئ هو البداية الحقيقية "لنظام" الشرق أوسطية، وهو بمثابة الإعلان عن تأسيس شركة قابضة عملاقة مركزها الكيان الصهيوني بمعاونة الفلسطينيين، وستكون الأردن ومصر الدولتين الأقرب إلى الكيان الجديد، وسيتم فتح أسواق الخليج، عبر الأردن، وستفتح عبر مصر أبواب شمالي أفريقيا كلها بما تحتويه من الأيدي العاملة الرخيصة.
وهكذا، تدخل عملية التبشير بالسوق الشرق أوسطية في حملة أمريكية صهيونية دَعّمها إعلان المبادئ بعد حرب الخليج الثانية، ولا يخفي أصحاب هذا التيار أن السوق هي التطبيع مع الكيان الصهيوني، والانتماء إليها، ليس مقصوراً على الدول العربية في المنطقة. لهذا تتصدر تركيا قائمة المؤسسين للنظام الإقليمي الشرق أوسطي، بينما يبدو أن إيران تقع خارج القائمة حالياً، لأنها لم تَتبيّن للآن هذا المفهوم، ويتذرع هذا التيار بأن العرب فشلوا في تحقيق أي نوع من الاندماج الاقتصادي الذي هو شرط من شروط التقدم في عالمنا المعاصر، والمخرج الوحيد من مأزق هذا الفشل، هو التكامل الإقليمي الواسع.
وتشير الفكرة الأساسية للسوق إلى أنه لا منتصرين في الحرب، ولأنه لابد من سياسة بديلة تتمثل بالمعاهدات والاتفاقيات الثنائية، والمتعددة التي تتجاوز حدود الدول، ويعتبر شمعون بيرز، أن قيام هيكل إقليمي جديد فيما يسمى بالشرق الأوسط، يخلق أُطراً جديدة للمنطقة، ويوفر القدرة على النمو الاقتصادي والاجتماعي، ويرى أيضاً، أن التناقض بين تطلعات الكيان الصهيوني للأمن وأمل الشعب الفلسطيني في تحرير أرضه المحتلة، لا يمكن حله من خلال المعادلة الجغرافية، فالكيان الصهيوني بحاجة للعمق الاستراتيجي، والفلسطينيون يطالبون بالأرض نفسها التي تمثل هذا العمق، ويرى الصهاينة أن خريطة بلادهم المدعى بها تبدو غير طبيعية، الأمر الذي يرفضون معه إقامة دولة فلسطينية لأسباب أمنية، حتى لو كانت الدولة المقترحة منزوعة السلاح، وأن الحل المقترح، وهو الحكم الذاتي الذي يبدأ بغزة وأريحا، يهدف إلى تغيير الجو السياسي النفسي المتخم بالذكريات والتهديدات، ولكن حقيقة أن الحل النهائي لا يزال غير متبلور يزيد من حدة الشكوك والمخاوف المتبادلة. وليس ثمة وقاية ضد احتمالات تشكيل الترتيبات الشرق أوسطية الجديدة، بسبب تفكيك النظام الإقليمي العربي إلى وحدات متنافرة متناثرة. ولعل أهم تأكيدات هذه الفرضية، أن الكيان الصهيوني سيرد للعرب أراضيهم المحتلة بصيغ مجحفة للعرب، مثل الحكم الذاتي في غزة وأريحا، مقابل الحصول على التطبيع الاقتصادي معهم.
إن التصدي لهذا المشروع يقتضي منا التأكيد على أن اقتصاديات دول المنطقة، بما فيها الكيان الصهيوني لا تكمل بعضها بعضاً، إلا في إطار ضيق، بل إنها المنافس الرئيس للعديد من الدول العربية المطلة على البحر الأبيض المتوسط في مجال الصادرات الزراعية "خاصة الحمضيات والخضار" للأسواق الغربية. وهناك العديد من المعطيات أكثر واقعية تُلْغي الخيار الشرق أوسطي بصورة الصهيونية، ولَعَلّ أهمها:
أ- لا يوجد فائض صناعي أو زراعي يُعْتَدّ به لدى الدول العربية، يمكن أن يساعد على تأسيس تجارة ذات أهمية مع الكيان الصهيوني تلبي احتياجاته، وربما كان هذا النقص بالتحديد أحد معوقات قيام تكامل اقتصادي عربي.

ب- سيعمل النظام الاقتصادي الشرق أوسطي على إحداث تغييرات هيكلية في الاقتصاديات العربية وفي اقتصاد الكيان الصهيوني. ومن شأن ذلك، أن يخلق توزيعاً جديداً للعمل الإقليمي تختص به الدولة الصهيونية بالصناعات الخفيفة وبإنتاج المواد الأولية التي تميل أسعارها إلى الانخفاض في الأجل الطويل، وسيؤدي هذا الأمر إلى تكريس التخلف في الدول العربية، خاصة في مجال اكتساب المهارات الضرورية لتحقيق أسباب النهوض الاقتصادي، وفي مضمار التكنولوجيا الحديثة، وهو ما يعني هيمنة الكيان الصهيوني، ليصبح المركز الإقليمي الأكثر تقدماً، والذي تتبعه الدول العربية.
ج- سوف يسمح النظام المقترح، بأن يؤدي الكيان الصهيوني دور الوسيط المالي غير النزيه للأموال العربية والعلاقات المالية العربية مع الدول الأخرى، وبالتالي سيعيد استثمار تلك الأموال لخدمة أهدافه، وليس من أجل إعادة تدويرها لصالح الاقتصاد العربي.
د- اختلاف التركيبة الاقتصادية الصهيونية وآلية الاستثمار الصناعي والخدماتي، وما إلى ذلك، من تخطيط وقطاع خاص مسيطر عن تلك المهيمنة على الدول العربية نتيجة الفارق الكمي بين الاقتصاد الصهيوني والاقتصاديات العربية، ويؤدي ذلك إلى تهديد الصناعات الناشئة في الدول العربية. وسيعمد الكيان الصهيوني إلى إغراق الأسواق ليقضي على بعض الصناعات، ولتحقيق مكاسب إضافية في الأسواق العربية، كما سيسمح هذا الكيان الصهيوني بتحقيق قفزة كبيرة في مجال تفعيل تشغيل مؤسساته الاقتصادية القائمة، وخلق مؤسسات جديدة، وتشغيل العاطلين، واستقطاب المزيد من المهاجرين السوفيات، وبناء المزيد من المستوطنات، في حين ستضاعف السوق الشرق أوسطية، العقبات أمام العملية التنموية في الدول العربية، فهي ستقضي عن طريق المنافسة بالجودة والسعر على صناعات قائمة، وستلغي إقامة صناعات جديدة، وستُحوّل الأسواق العربية إلى مجال حيوي للسلع الصهيونية، وسيقوم الكيان الصهيوني بدور الوسيط الناجح لشركات دولية النشاط للمنتجات الأمريكية والأوربية عامة.
وسيكون المستفيدون من الأوضاع الاقتصادية الجديدة، هم مالكو الشركات أو المساهمون الكبار. وفي حين يجري الحديث عن اقتصاد مفتوح الأبواب أمام الكيان الصهيوني، ستكون فائدة الحكم الذاتي محصورة في عدد من الرأسماليين. فأساس التسوية، هو إعطاء الشركات التي ستعمل في المناطق المحتلة بأنواعها، أي الشركات مختلفة رأس المال "الصهيونية الفلسطيني- الأجنبي" التي تحول أرباحها إلى مناطق مأمونة، غير مناطق الحكم الذاتي، وهذا بالطبع مفيد لرأس المال الصهيوني الذي سيحصل على المزيد من الإعفاءات بالاشتراك مع الشركات دولية النشاط التي ستشكل أداة للغزو الاقتصادي للوطن العربي لتحقيق السوق الشرق أوسطية.
وخلاصة القول، إن إعلان المبادئ يعمل على تكريس الوحدة الاقتصادية بين الكيان الصهيوني ومناطق الحكم الذاتي، مما يجعل اقتصاد المناطق أداة الاختراق للأسواق العربية من قبل الشركات دولية النشاط. ومن الملفت للنظر أن معظم ما يسمى بالشرق الأوسط، بعد إقرار التسوية، قد أشارت إلى أن التوسع في حجم التسويق لمنتجاتها "63% من مجموعة الشركات، هو العامل والحافز الرئيس وراء عملياتها الاستثمارية أو التوزيعية المستقبلية في المنطقة. كذلك أقرت الفروع الصهيونية لشركات دولية أمريكية، بأن النفاذ إلى الأسواق النهائية للمستهلك العربي تمثل (70%) من الدوافع لتوسيع عملياتها المستقبلية في الشرق الأوسط. ويشير العديد من الدراسات الصهيونية، إلى ضرورة التوجه نحو تطوير الصناعات التصديرية ذات التقنيات العالية، وضرورة رفع المقاطعة الاقتصادية المباشرة عن السلع الصهيونية في الدول العربية سوف يفتح أسواقاً جديدة واسعة أمام الصادرات للكيان الصهيوني في الأسواق العربية.
ويقوم الرهان الصهيوني على أن فتح الأسواق أمام الكيان الصهيوني سوف يساعد بدوره على جذب الاستثمارات الأجنبية إليه للاستفادة من موقعه كمحطة لتصدير السلع الصناعية عالية التقنية لأسواق المنطقة العربية بتكاليف نقل منخفضة. ويؤكد ذلك استطلاع قامت به مؤسسة (CRC) لدى عدد من الشركات الدولية العاملة في صناعة المنسوجات والأغذية والمنتجات الكيماوية الخفيفة سوف تتجه باستثماراتها نحو مصر، في حين تتجه الشركات العاملة في مجال الصناعات عالية التقنية التي تبحث عن يد عاملة عالية المهارة وتسهيلاً لتطوير البحوث، ستتجه باستثماراتها نحو الكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة.


وإذا عقدنا مقارنة بين الكيان الصهيوني وكل من سوريا ولبنان والأردن نجد أن الناتج القومي في الكيان الصهيوني، يصل إلى (60) مليار دولار سنوياً، في حين يصل إلى (15) مليار دولار لدى الدول العربية المذكورة، لكل من سوريا و (4) مليار دولار للبنان و (4.3) مليار دولار للأردن، أي أن الناتج القومي في الكيان الصهيوني يساوي ثلاثة أضعاف مثيله في الدول الثلاث المحيطة بفلسطين المحتلة.
إن من شأن هذا المشهد الشاحب للانخراط في مشروع الاندماج الاقتصادي الشرق أوسطي، أن يكرس التبعية الاقتصادية والسياسية وحتى الحضارية، وسوف يتم تأكيد النمو اللامتكافئ لصالح الكيان الصهيوني الذي سيصبح مقراً للمنتجات عالية التقنية ويجذب رؤوس الأموال ومراكز البحوث والتطوير، وسوف يجذب كذلك الكثير من المؤسسات والمصارف وشركات الأموال والأقراض والاستثمار ومكاسب التخطيط الريادية بينما تتركز الصناعات البدائية الوسيطة والخفيفة في البلاد العربية، وهذا يعني أن الدول العربية سوف تتخصص بإنتاج حاجات الكيان الصهيوني الريادية. إذن لابد من إعادة النظر في المشروع الشرق أوسطي، في ضوء هذه المعطيات، وكأنه نظام أو سوق أو منظومة علاقات جديدة تعيد توزيع الصلاحيات والحقوق والمصالح، وصورة تأخذ في الحساب البعد الاقتصادي والحضاري.
في الجانب الآخر، إن ما تسعى الولايات المتحدة إلى بلوغه، من عملية التسوية التي تحاول فرضها على الأنظمة العربية، فلها أسبابها العديدة، أتينا على ذكر بعض منها، وهي عديدة، ولا يتورع المسؤولون الأمريكيون عن الحديث علناً عن خطط الولايات المتحدة في المنطقة العربية بهدف تحقيق مصالحهم، وإن عملية التسوية تؤدي حسب رأي معظم أصحاب القرار الأمريكي إلى الاستقرار وبالتالي من خلال ذلك تنفذ الولايات المتحدة جميع ما يهمها. فمع تعاظم دور النفط وتأثيره على الاقتصاد العالمي، مما تسبب في إقلاق الرأسمالية الأمريكية. فعلى سبيل المثال لا الحصر، عبر نائب مساعد وزير خارجية واشنطن لشؤون ما يسمى بالشرق الأوسط في ختام مؤتمر منظمة معهد الشرق الأوسط، بقوله: "إن الناحية الاقتصادية مع دول ومشيخات مجلس التعاون الخليجي تدعو للقلق، لأن حصة الولايات المتحدة من صادراتها إلى سوق الخليج غير متوازنة، للآن، لذلك يجب رفع فاتورة الأسلحة إلى أعلى لخلق توازن بين فاتورة الواردات والصادرات". وتتهم بلدان الخليج أن لديها تراكم فائض من الأموال، لهذا، تبدي واشنطن اهتماماً متزايداً بمداخيل هذه البلدان الناتج عن بيع النفط ومشتقاته. لذلك، فقد جرى توقيع اتفاقية بين السعودية والولايات المتحدة عام (1975)، تتعهد الأولى، بمنع منظمة الدول المصدرة للنفط من رفع أسعارها بما لا يزيد عن 5% سنوياً، وشرط أن توظف مداخيلها من النفط في الاقتصاد الأمريكي، بما في ذلك سندات الخزينة الأمريكية.
إن ما يقارب من 25% من المداخيل النقدية الخليجية تعود مرة أخرى على هيئة ودائع واستثمارات متعددة الأشكال، وقد أشارت إحصائية صادرة عن المؤسسة العربية المصرفية لعام (1988) أن صافي الموجودات الأجنبية [الحساب الجاري] لدول مجلس التعاون الخليجي في نهاية عام (1987) قد بلغ (301) مليار دولار، وأن إمارة الكويت، تملك أكبر رصيد من الحساب الجاري وقدره (114.02) مليار دولار، في حين يبلغ رصيد السعودية (101.4) مليار دولار، ثم الإمارات العربية المتحدة (74.8) مليار دولار.
ولقد تكشفت حقائق مذهلة حول الأرصدة المالية لأمراء النفط في الخارج عموماً، والغرب بشكل خاص. ففي دراسة لاتحاد البنوك العربية الفرنسية بباريس، ذكر الاتحاد أن الأرصدة المالية لهؤلاء تتجاوز الـ(670) مليار دولار، في الوقت الذي وصلت فيه ديون العالم العربي إلى (208) مليار دولار. كما أن هناك سباق محموم بين البلدان الرأسمالية على أسواق إمارات النفط. كما يجري صراع خفي بين الاحتكارات، ومن ورائها الدول للحصول على الحصة الرئيسة من العائدات النفطية. وإذا كانت الولايات المتحدة، لا تزال تبذل الجهد لمجاراة اليابان وبعض البلدان الأوربية، في مجال تصدير الكثير من السلع الاستهلاكية والبضائع، فإنها تفرض عقود صفقات الأسلحة والإنشاءات الكبيرة، سواء من خلال سلاح المهندسين أو شركة بكتل أو غيرها من الشركات. مع ذلك، تبقى المنافسة للحصول على صفقات الأسلحة الضخمة مستمرة. ويقودنا كل ذلك، إلى الاعتقاد أن الغرب قد تمكن من إحكام السيطرة على هذه المنطقة من الوطن العربي في مجالات عديدة، مما أدى إلى تعميق تبعيتها الاقتصادية والمالية والعسكرية، وأشاع فيها أنماطاً من العادات الاستهلاكية المدمرة، التي تدفع باتجاه المزيد من الالتصاق بالغرب، بدلاً من التحرر وبناء مجتمعات متماسكة مستقلة، وقادرة على الاستفادة من ثروتها بشكل صحيح.
في الحقيقة، إن النفط سلعة استراتيجية لا يمكن للغرب والعالم الصناعي وكافة بلدان العالم أن تستغني عنها، طالما أنها لم تجد بديلاً لها، كما أن البلدان المنتجة بحاجة إلى بيعه، لأنه يشكل العمود الفقري لإيراداتها. وبالتالي هناك حاجة لإقامة علاقة سليمة بين المنتجين والمستهلكين، لكن يجب أن تكون علاقة متكافئة تحكمها مصالح الأطراف كلها، على أن يشمل ذلك أيضاً المواد الأولية والمصنعة كلها، بحيث يتم التوصل إلى صيغة مقبولة وعادلة للأسعار، للوصول إلى مستوى استخراج مقبول واستخدام معقول لا يؤدي إلى هدر هذه المادة النافذة. وإذا كان التعاون ضرورياً، فإن الدول الغربية لم تبنِ استراتيجيتها على حق الدول النفطية في الاستفادة من هذه الثروة، والتعامل معها على قدم المساواة، بل تتصرف بمنطق استعماري، يرتكز على النفط مادة تحتاجها عجلة التقدم الغربي، وأن من يسيطر عليه، يصبح قادراً على الإمساك بمصير العالم بأسره. ومن هذا المنطلق تتكامل الاحتكارات الأمريكية مع البلدان المنتجة للنفط، وتهددها بأساليب مختلفة للخضوع لإرادتها ربحاً وخسارة، إذ تعتبرها منطقة مصالح حيوية لها، وقد أعدت الخطط اللازمة للتصرف حسب مقتضيات الحال، إلى أن وصل الأمر إلى احتلال معظم مناطق إنتاج النفط العربي، تحت حجج وذرائع مختلفة خلقتها وطبقتها، حسب استراتيجية مدروسة.
لقد أظهرت الولايات المتحدة اهتمامها بمنطقة الخليج قبل الحرب العالمية الأولى، وتمثل ذلك في البعثات التبشيرية الأمريكية، أما بعد تلك الحرب، فمن خلال الشركات النفطية، ثم شهدت فترة بين الحربين العالميتين صراعاً حاداً بين الدول الغربية على الثروة النفطية، مع تسليم الولايات المتحدة، في تلك الحقبة، بأن هذه المنطقة، منطقة نفوذ أوربي بشكل عام، ونفوذ بريطاني بشكل خاص، غير أن الحرب العالمية الثانية، أفرزت معادلات جديدة، خاصة وأن الولايات المتحدة قد ساهمت فيها بقسط وافر، ونشرت قواتها على جميع الجبهات. وكان من ضمنها منطقة الخليج، حيث تطلّب ضمان توصيل الإمدادات العسكرية إلى الدول الحليفة و***** المرافق، تشكيل "قيادة" في الخليج، تكونت من (13) ألف جندي أمريكي.
في الوقت ذاته، أبدت الولايات المتحدة اهتمامها للدفاع عن شركاتها واستثمار وجودها العسكري للحلول محل البريطانيين، في السعودية. فجرى تقديم مساعدة مالية وعسكرية لها عن طريق برنامج الإعارة والتأجير. فوصلت هذه المساعدة إلى (100) مليون دولار في مطلع عام (1947)، إضافة إلى حضور عسكري أمريكي لتدريب الجيش السعودي، تمثل في إرسال أول بعثة عسكرية أمريكية في كانون الأول (1943)، وتَمَّ الاتفاق أيضاً على إنشاء مطار عسكري كبير في الظهران، بالقرب من آبار النفط، ثم تم الشروع بإنشاء قاعدة الظهران الأمريكية عام (1944)، وتم إنجازها عام (1946)، لتصبح من أكبر القواعد العسكرية في المنطقة العربية، وجنوب غرب آسيا، مترجماً بذلك التصريح الشهير للرئيس الأمريكي روزفلت بشهر شباط (1943)، بأن "المملكة أصبحت من الآن وصاعداً ذات ضرورة حيوية للأمن القومي للولايات المتحدة الأمريكية".
ثم شهد العالم بداية الحرب الباردة بين المعسكر الرأسمالي بزعامة الولايات المتحدة، والمعسكر الاشتراكي، بقيادة الاتحاد السوفياتي، منذ عام (1948)، وكانت ساحات الصراع الأساسية في أوربا والشرق الأقصى. لذا وضعت الإدارات الأمريكية استراتيجيتها الحربية لمواجهة السوفيات وحلفائهم في هاتين المنطقتين، واعتبرت منطقة الخليج منطقة مقلقة للمصالح الغربية وسورتها بالأحلاف التي شملت إيران والعراق، والباكستان وتركيا، في فترات مختلفة، وارتكزت الاستراتيجية الأمريكية على الثوابت التالية:
1ً- اعتبار المعركة الأساسية ضد الاتحاد السوفياتي بما يمثله من مركز الثقل في المعسكر الاشتراكي على الصعد العسكرية والسياسية والاقتصادية والعمل على محاصرته والدخول معه في سباق تسلح للتفوق عليه وإنهاكه في هذا السياق في الوقت نفسه.
2ً- وراثة الاستعمار القديم في القارات الثلاث، واعتبار العالم الثالث مسرحاً آخر للصراع ضد المعسكر الاشتراكي، وخوض أشكال من حروب التدخل ضد حركات التحرر الوطني، خاصة إذا كانت تحت قيادات قومية راديكالية أو اشتراكية.
3ً- الوصاية على الدول الرأسمالية الأخرى سواءً في أوروبا أم في آسيا كاليابان أم غيرها من الدول الصناعية، بحيث تسير هذه الدول وفق المخططات الأمريكية العامة التي تؤدي خدمة بالدرجة الأولى للاقتصاد الأمريكي والسياسة الأمريكية الشاملة. وجعلت هذه الاستراتيجية من الولايات المتحدة شرطياً عالمياً. وبرز هذا الدور في الحلقة الأضعف، وهي بلدان العالم الثالث، انطلاقاً من موقعها الاستراتيجي وما تحتويه من المواد الأولية والخام التي تحتاج إليها الصناعة الغربية إضافة إلى أسواقها.
إن هذه الثوابت في الاستراتيجية الأمريكية، هي التي تفسر مسار سياسة الولايات المتحدة، بدءاً من الحرب الكورية، ثم الإعلان الثلاثي للدفاع عن الكيان الصهيوني لعام (1951)، بين واشنطن وباريس ولندن، ثم التدخل اللاحق في إيران عام (1953) والتدخل العسكري في لبنان، وفي عدد من البلدان الأخرى..الخ، وتشير كل هذه التصرفات إلى نهج محدد يعتمد التدخل بأشكاله العسكرية والسياسية والاقتصادية في بلدان العالم الثالث. وتَطَلّب ذلك تشكيل قوات خاصة، تحت أسماء متعددة ولمهمات متنوعة مع إرسال المستشارين والخبراء العسكريين. بالإضافة إلى تدخلات وكالة المخابرات المركزية (CiA). وقد وضعت الإدارة الأمريكية استراتيجية متكاملة لمواجهة نضالات حركات التحرر الوطني في العالم الثالث، تعتمد على سياسة "العصا والجزرة"، خلال عهد الرئيس كندي، في مطلع الستينيات (1960)، حيث العمل على كسب "العقول والقلوب"، أو "سحب الماء من حول السمك الثوري"، وبشكل تسري جنباً إلى جنب مع "قِرَب الإطفاء" لإلحاق الهزائم العسكرية بالقوات الراديكالية والحركات القومية، وكأن سياسية التدخل العسكري تسير جنباً إلى جنب مع الدعوات المزيفة لاحترام حقوق الإنسان. تستخدمها متى شاءت وأنّى شاءت، من أجل الوقوف في وجه الأنظمة التقدمية التي لا تخضع لإرادة واشنطن، وكانت القوة العسكرية، هي الكفيلة حسب أقوال وزير الدفاع آنذاك روبرت ماكنامارا- "بحماية أنفسنا من التهديد المتنامي لحركات التحرر الوطني". وارتكزت نظريته على إقامة "فرقة إطفائية" احتياطية محمولة جواً، ذات موقع مركزي، "ومستعدة للتحرك السريع إلى أية منطقة تصبح فيها مصالحنا مهددة". وفي نهاية الأمر توفير الحماية العسكرية للأنظمة العميلة بإرسال تلك القوات الأمريكية لحماية تلك الأنظمة، كما كانت تلجأ أحياناً للاغتيالات الشخصية، كما عملت مع لومومبا في الكونجو.
وفي خضم هذا الصراع بحجة الدفاع عن المصالح الأمريكية غير المحدودة، والذريعة الجاهزة لاستخدام أحدث ما وصلت إليه تكنولوجيا الإنسان من أجل القتل والتدمير، تحقق الولايات المتحدة المكاسب، حتى ضد منافسيها من حلفائها الغربيين، فبقربها من آبار النفط في البحرين، حصلت واشنطن على حق استخدام جزء من القاعدة البريطانية البحرية في الجفير منذ مطلع عام
(1949) لتكون مركزاً لقيادة القوات الأمريكية العاملة في ما يسمى بمنطقة الشرق الأوسط. ثم ضاعفت واشنطن من حضورها العسكري إبان أزمة تأميم النفط الإيراني في مطلع الخمسينيات (1950) والإطاحة بمصدق، ووصلت تدخلاتها ذروتها في الشأن الإيراني الداخلي، عندما تمكن عميل المخابرات المركزية الجنرال شو
ارتزكوف من ترتيب الانقلاب الذي أطاح بالزعيم الوطني الإيراني، الدكتور محمد مصدق، وإعادة الشاه إلى السلطة عام (1953)، مما جعل الولايات المتحدة الأمريكية، صاحبة القرار الأول سياسياً وعسكرياً، في المملكة السعودية وإيران منذ ذلك الوقت، ثم زادت تدخلاتها في المنطقة كلها، بعد حرب الخليج الثانية، إلى أن أصبحت تفرض على الأنظمة كل ما تريد.
مع ذلك، لم تعط السياسة الأمريكية أهمية عسكرية لمنطقة الخليج خارج التصورات الأطلسية خلال الفترة الممتدة حتى مطلع السبعينيات (1970)، التي تمثلت في الأحلاف، وفي التقليد البريطاني للدفاع عن تلك المنطقة، وكان أول تصريح رسمي بصدد الخطط الأمريكية لمرحلة ما بعد هزيمة فييتنام، إعلان الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون في جزيرة غوام في المحيط الهادي في تموز (1969) عن عزم الولايات المتحدة لتأخذ على عاتقها اتباع سياسة جديدة ترتكز على "دعم الأنظمة المؤيدة لها، واتخذا دور رئيس في قمع من يعارض تلك الأنظمة، ثم العمل على تحمل جزء من الأعباء تتكفل بها تلك الأنظمة، ثم المشاركة الإقليمية، بحجة الحد من الدور الأمريكي المباشر، وهذا تطَلّب تزويد الدول الحليفة لواشنطن بدروع واقية، بتقديم المساعدات العسكرية والاقتصادية المطلوبة". وكانت ترجمة هذه السياسة التي سميت "مبدأ نيكسون" في الخليج العربي الفارسي، إعطاء إيران الدور العسكري الأساسي للحفاظ على الأمن في المنطقة، أي القيام بالدور الذي كانت تقوم به بريطانيا، وعلى ضوء ذلك تم تسليم الجزر العربية الواقعة على مدخل الخليج والتابعة لإمارتي رأس الخيمة والشارقة طنب الكبرى وطنب الصغرى وجزيرة أبو موسى" إلى إيران لحماية مضيق هرمز وتلبية لطموحات الشاه التوسعية.
في تلك الفترة، التقت مصالح الشاه مع مصالح الولايات المتحدة، فبالإضافة إلى الدور الذي تلعبه إيران في منظومة المواجهة الأمريكية، فقد أصبحت أقدر من يوكل إليها دور الشريك الإقليمي لحماية مصالح الغرب في منطقة الخليج بالدفاع عن مضيق هرمز لضمان تدفق النفط ومواجهة حركات التحرر الوطني في المنطقة. ثم اعتمدت واشنطن نظرية الركيزتين في الخليج، إيران والسعودية، لضمان استقرار المنطقة لصالحها.
وسعت جاهدة لتخفيف حدة التوترات بين البلدين وحل مشاكل الجرف القاري والجزر المتنازع عليها. وعبر مساعد وزير الخارجية الأمريكي لشؤون الشرق الأوسط، جوزيف سيسكو آنذاك، في تقريره أمام اللجنة الفرعية للشؤون الخارجية بمجلس الشيوخ الأمريكي، صيف عام (1973) عن مدى الاهتمام الأمريكي بالخليج بقوله: "إنها منطقة نمتلك فيها مصالح سياسية واستراتيجية واقتصادية خطيرة جداً".
وهكذا، اعتمدت الولايات المتحدة على نظام الشاه في إيران كقوة عسكرية إقليمية، ممَّ أثار مخاوف بعض جيرانها العرب، كما اعتمدت على الكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة "كحاملة طائرات لا تغرق"، حسب التعبير الأمريكي، لمواجهة بعض الدول العربية التي تتمرد على السياسة الأمريكية. واعتمدت على السعودية ومنتجات النفط فيها وكقوة مالية ولعب دور المطيع المنفذ لسياسة الولايات المتحدة. ولقد أشار المتعاطفون مع الكيان الصهيوني، خاصة ماكتبه الصحفي جاك أندرسون، المعروف بصلاته الوثيقة بوكالة المخابرات المركزية الأمريكية، في صحيفة واشنطن بوست بتاريخ (8/11/1974): "بأن الاستيلاء العسكري على منابع النفط الليبية لا يلزمه سوى فرقتين من مشاة البحرية. أما الدور الذي يمكن أن يلعبه الكيان الصهيوني في هذا المضمار، فيرى أندرسون نفسه: "بأن دوره، هو الاستيلاء على آبار النفط الكويتية". وقد تصاعد التهديد بالدور العسكري الصهيوني في عهد مناحيم بيغن، الذي أكد في العديد من أحاديثه مع المسؤولين الأمريكيين بأن قوات الكيان الصهيوني قادرة على القيام بالدور العسكري المطلوب في المنطقة. وعزز آرييل شارون وزير الدفاع الصهيوني الأسبق، موقف رئيسه، بتقديم مخطط متكامل لاحتلال منابع النفط في الجزيرة العربية، حيث كتب في جريدة يديعوت أحرونوت: "لكي ننهي القضية الفلسطينية، ونسقط ورقة النفط، فإن على الجيش الصهيوني أن يتقدم ويحتل الكويت مروراً بالأردن". إلا أن واشنطن لا تعتمد على حلفائها أو ركائزها للدفاع عن مصالحها الحيوية في اللحظات الحرجة، وتدل التصريحات والدراسات أن الولايات المتحدة قد رسمت مخططات الاستيلاء على نفط المنطقة منذ أن شهر العرب سلاح النفط. وكان من أبرز المنظرين لاستخدام القوة العسكرية، الجنرال ماكس تايلور رئيس هيئات الأركان العامة للجيش الأمريكي في عهد الرئيس كندي، ففي مقالة له بعنوان "شرعية الادعاءات حول الأمن القومي" في مجلة "شؤون خارجية" الصادرة في نيسان (1974). جاء فيها: "بصفتنا القوة القائدة التي تملك الوفرة، يمكننا أن نتوقع أن يكون علينا أن نحارب من أجل قيمنا الوطنية، ضد أولئك الحاسدين المعدمين". ويضيف: "سنحتاج إلى قوات محمولة مستعدة للردع. وفي بعض الحالات لقمع، تلك النزاعات قبل أن تمتد لتصبح شيئاً آخر".
إن الرؤيا الاستعمارية التقليدية في الاستيلاء على ثروات العالم القديم خاصة في آسيا وأفريقيا، تتطلب السيطرة على طرق الملاحة والتجارة الدولية، ولم تتغير هذه الرؤيا لدى الإدارة الأمريكية التي أرادت أن تكون صاحبة القرار الأول في العالم، ولديها مطلق الحرية في الاستيلاء على النفط، أو أي مواد أولية أخرى، في أي مكان من العالم، ويرى الجنرال ماكسويل تايلور: "بأن أعباء الولايات المتحدة على نطاق عالمي، كما أن اعتمادها على سبيل لا ينتهي من واردات المواد الخام الآتية معظمها من بلدان العالم الثالث، سيجعلها عرضة للمخاطر، إذا لم تَبْنِ قوة عسكرية قادرة على السيطرة على الطرق البحرية الأساسية من وإلى تلك المناطق". ويضيف: "يجب تشكيل قوات ردع كفيلة بإلحاق الخسائر لأي من يحاول اعتراض تحقيق أهدافنا. لأن التاريخ يزخر بأمثلة لدولة تعرضت لمصائب أثناء سعيها لتحقيق أهداف سياسية طموحه تَعَدَّتْ الوسائل العسكرية المتوفرة لإسنادها".
وهكذا، تطورت مجموع المشاريع العسكرية الأمريكية المباشرة وغير المباشرة بمعزل عن التصريحات المزيفة الصادرة عن المسؤولين الأمريكيين "السلمية". أو حقوق الإنسان. ويتضح بجلاء أن الولايات المتحدة، التي تزداد غروراً وغطرسة مع تنامي قوتها العسكرية، خصوصاً مع نهاية الحرب الباردة "إن انتهت"، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، فإنها تعتبر اليوم أن ثروات العالم، وتحقيق مصالحها، ملكاً لاحتكاراتها، وعلى شعوب العالم أن تقبل هذا الأمر، ولا تتصرف بثرواتها حسبما تمليه عليها مصالحها الوطنية، بل حسب ما تمليه مصالح الولايات المتحدة. وإذا تمردت هذه الشعوب وشقت عصا الطاعة، فإنها تعتبر أنها تهدد بعملها هذا، مصالح الإمبريالية الأمريكية، وعليها أن تتحمل عواقب مثل ذلك التصرف، بالتدمير والقتل والتجويع.
هذا المنطق، يعني إعطاء حق استخدام الثروات الطبيعية لطرف عالمي وحيد، ويمنع على الأطراف الأخرى صاحبة الثروة من استخدامها لتطوير أضاعها الاقتصادية والتصرف بها. لكن يسود منطق السياسة العدوانية الأمريكية، المتمثلة بسياسة البوارج والصواريخ وحاملات الطائرات، وبالتجويع والتدمير، والقيام بالغزوات العسكرية، واستخدام مجلس الأمن كوسيلة لتحقيق الهيمنة لواشنطن، حسبما تمليه مصالحها.



¾¾¾





الفصل الثامن :
تحصين الفكر العربي من الفكر الغربي الدخيل




ما هو الفكر؟ هو سلوك أو ملكة التفكير، الذهن، الذكاء، هو الكرامة وعزة النفس، حسب تعريف "باسكال". كذلك طريقة للرؤيا، للحكم الخاص بالفرد أو الجماعة.
يدين الجنس البشري الذي مُنِحَ بسخاء ملكات فطرية متنوعة للاتصال، بنجاحه كجنس، لكل من قدرته التنظيمية، والقدرة التي أظهرها في تحسين وتطوير وتوسيع مواهبه الطبيعية. والتي يؤثر بها في تطوره البيولوجي الخاص. ولقد كان من اهتمامات الإنسان الأولى، أن يزيد من أثر وتنوع ووضوح وسائله، في الوقت الذي يطور فيه قدرته على تفسير وسائل الآخرين وفك رموزها.
وقد سعى الجنس البشري عبر التاريخ إلى تحسين القدرة على تلقي واستيعاب المعلومات عن البيئات المحيطة به. كما سعى في الوقت نفسه إلى زيادة سرعة ووضوح وتنوع أساليب أفراده في بث المعلومات. وقد كان هذا ضرورياً في البداية لخلق الوعي بالمخاطر التي يحتمل أنها كانت كامنة، ومن ثم المشاركة في رؤية الإمكانات الاجتماعية لمواجهة هذه المخاطر.
ولقد بدأ البشر بأبسط الإشارات الصوتية والحركية المرتبطة ببنيتهم الجسدية، وطوروا مجموعة كاملة من الوسائل غير اللفظية لنقل الرسائل: "الموسيقى، الرقص، وسائل الطبول، الإشارات النارية، الرسوم، والأشكال الأخرى، كالرموز المنقوشة، والتماثيل الخ. وكذلك الصور "البكتو غرام" التي تمثل أفكاراً، والتي جاءت الرموز الكتابية، "الإيديو غرام" في أعقابها، وتتسم بأهمية خاصة لأنها ربطت عرض شيء ما بفكرة مجردة. لكن تطور اللغة، هو الذي جعل الاتصال الإنساني قوياً، على نحو خاص. وجعل الجنس البشري يتفوق على عالم الحيوان. وهو تطور هام من حيث الاتساع والعمق المحتملين اللذين أضفاهما على مضمون الاتصال، وكذلك بالنسبة إلى ما كفله من دقة وتفصيل في التعبير. وكانت هذه الطرق والوسائل مستخدمة في الوقت نفسه، ولا غنى عنها لإبقاء الأفراد الذين كانوا ينظمون أنفسهم في مجتمعات متنوعة، من ثم، كانت تتطلب، على حد سواء، أساليب لتبادل المعلومات فيما بين الأشخاص وفيما بين الجماعات.
والواقع إنه لا توجد حدود لتنوع وبراعة أساليب الاتصال التي استخدمها البشر حقاً. فقد تطورت أشكال الاتصال ومحتويات وسائله المستخدمة كما تنوعت باستمرار. وقد ظهرت لغات مختلفة نتيجة لعدم وجود الصلات بين شعوب المناطق المتباعدة. ولكنها ظهرت بصفة خاصة لأن المجتمعات ذات التقاليد الثقافية والاقتصادية والأخلاقية المتمايزة احتاجت إلى مجموعات خاصة من المفردات اللغوية، وإلى هياكل لغوية معينة. ولكن في الوقت نفسه، نجد أنَّ الفوارق بين الطبقات الاجتماعية- حتى داخل المجتمع الواحد- وخاصة بين الصفوة المسيطرة وجماهير السكان- قد انعكست على الاختلافات في الاصطلاحات وفي المفردات، وفي المعاني التي تضفي على كلمات معينة، وفي النطق كذلك. واليوم يتحدث الملايين من الناس لغات لا تفهمها المجموعات المجاورة لها، رغم أن صلات اقتصادية واجتماعية وثيقة قد أُقيمت فيما بينها، ورغم أن السكان قد امتزجوا. وهكذا، فإن الثراء والتنوع في اللغة، يمكن أن يجعلا من الاتصال أمراً صعباً تماماً، مثلما يمكن أن يؤدي تطويرها وإتقانها إلى دوام امتياز فئات أو مجتمعات على غيرها على ما في ذلك من تناقض بَيِّن.
إن بعض اللغات التي أدخلها الزعماء الدينيون والعلماء والغزاة واكتسب مكانة خاصة، أصبح أحياناً مصدراً للقوة والامتياز. ويمكن أن تصبح لغة تتحدث بها الأقلية أداة للثقافة والحفظ في السجلات والاحتفالات الدينية، مثل السنسكريتية في الهند، أو اللاتينية في أوربا، في العصور الوسطى، واللغة العربية في العالم الإسلامي، فاللغة التي أدخلها الغزاة الذين أصبحوا هم الصفوة الحاكمة المالكة للأرض، كان لابد وأن تستخدم في التجارة والإدارة والقانون. وخلال عصر الاستعمار، أمست لغات الدول الاستعمارية هي لغات الإدارة والقانون والتشريعات والتعليم العالي والعلم والتكنولوجيا في مستعمراتها. وبذلك أعاقت تطور اللغات القديمة التي استعيدت من هذه المجالات. ولا تزال لغات، مثل الإنجليزية والفرنسية، تحتفظ بهذه المنزلة، بدرجات متفاوتة، لدى بعض شعوب آسيا وأفريقيا المستقلة حالياً. وقد خلق ذلك مشكلات داخل هذه الدول، وكذلك فيما بين البلدان المتجاورة- خاصة في أفريقيا الغربية، ومنطقه الكاريبي- التي تخلصت من الخضوع للسلطات الأجنبية المختلفة.
ونظراً إلى أن الكلمات أصبحت رموزاً للتجربة الإنسانية، فإن المدركات المستمدة منها، قد تعرضت للتغيير المستمر، الذي يكون تدريجياً أحياناً وسريعاً أحياناً أخرى، وذلك أنها تستجيب للاحتياجات الفنية الإنتاجية وفي العلاقات الاجتماعية، وفي البنى الاقتصادية والسياسية، ومن ثم تتغير معاني الكلمات وتكتسب استخدامات متجددة، وتنتقل المصطلحات الفنية إلى دائرة الاستخدام العام، ويتم ابتكار كلمات جديدة. وفي أي وقت معين، هناك فارق بين اللغة الرسمية ولغة الحديث اليومي، وبين كلام الجيلين القديم والجديد، وتذكرنا هذه العملية، بأن اللغة ليست مجموعة كاملة من المعارف، بل هي أداة يتم تطويعها وفقاً لأغراض الإنسان.
وتُضفي الكتابة، ثانية كبريات الإنجاز البشري، صفة الدوام على الكلمة المنطوقة. وفي قديم الزمان تم تسجيل القوانين والقواعد الخاصة بطقوس الاحتفالات والشعائر- على لوائح من الصلصال، أو على أحجار، أو في لفائف الرق التي تعمر طويلاً. ولقد كان لتطور الكتابة فضل الحفاظ على أهم الرسائل المحملة بالرموز والتي كُفِلَتْ بدورها الوجود المستمر للجماعة. أما الكتب التي كتبت واسْتُنْسِخَت باليد، فإنها ترجع إلى ثلاثين قرناً مضت. وباتساع نطاقها، أصبح الكتاب مستودعاً لا تقدر قيمته بالنسبة للفكر والمعرفة في كثير من الحضارات في العصور القديمة الكلاسيكية. فمنذ ما يزيد عن ألفي عام، بدأ أباطرة الصين مشروعاً لتسجيل كل المعارف المتوافرة وقتذاك- العملية والتاريخية منها الخاصة- في سلاسل من الكتب، وكانت هذه أول موسوعة، ومع ذلك، فإنه يتعين الإشارة إلى أن المكتبات الكبيرة في العصور القديمة كانت مخصصة لاستخدام الدارسين، والعلمانيين والدينيين، والحاكمين. وقد مضى وقت طويل قبل أن تبدأ محاولة نشر هذه الكتب خارج هذه الدائرة المحفوظة.
ومنذ وقت مبكر، خضع الاتصال باعتباره وظيفة اجتماعية للتقاليد والشعائر والمحرمات في مجتمع معين أو قطاع محدد من المجتمع، ومن ثم، فإن وسائل الاتصال التقليدية ورموزها تباينت إلى حد كبير فيما بين الحضارات والثقافات. وتبين دراسة المجتمعات التقليدية- تلك التي تطورت منها المؤسسات الثقافية والقانونية والأخلاقية والدينية.
وعلى مدى قرون كثيرة، بل على مدى آلاف السنين في بعض الأماكن، عاشت الغالبية العظمى من سكان الكرة الأرضية كلية داخل إطار وحدتهم الاجتماعية الصغيرة- القبيلة والقرية- وكان الاتصال فيما بين الأشخاص هو الشكل الأساسي لصلاتهم الاجتماعية. وأدى الظهور النادر للغرباء "المسافرين، الحجاج، البدو، الجنود" إلى قدر من الاضطراب في نظام هذا الوجود الذي لا يتأثر بالنفوذ الخارجي. وكانت الأنباء التي يحملونها أمراً هاماً بالنسبة لمختلف جوانب الحياة العامة وبالتالي للحياة الخاصة. ولقد كان هذا الاتصال فيما بين الأشخاص موجوداً دائماً، ولم يتوقف داخل الجماعات الصغيرة بخاصة، ولم ينازعه في أهميته شيء آخر. ولابد أنه استخدم في الماضي لدعم قيم الزمالة والتعاون لموازنة التجربة التي يفرضها الخضوع لسلطة أجنبية. وعلى أي حال، فقد كان له على الدوام بُعْدٌ يتصل بالتنشئة الاجتماعية يشجع العمل والحياة المتجانسة للمجموعة التي تتكاتف معاً من أجل النضال ضد القوى الطبيعية وفي اتخاذ القرارات على نحو جماعي. وسيظل مظهراً لا غنى عنه للاتصال الإنساني.
وأصبح الاتصال مؤسسياً بالتدريج في داخل المجتمعات التقليدية شأنها شأن المجتمعات الحديثة، فقد تعايش الاتصال فيما بين الأشخاص والاتصال المؤسسي العام، في شكل نشر القواعد والعادات. وعندما أصبح الاتصال مؤسسياً على هذا النحو، ظهرت فئات مهنية قامت بدور الحارس على الذاكرة الجماعية واضطلعت بمسؤولية نقل أنواع معينة من الرسائل: الشعراء القبليون والتجار المتجولون ورؤساء مجالس القرى في الهند، والحكام المحليون والراقصون والكتبة، وما إلى ذلك. وقد سار التحول المبكر للاتصال إلى مؤسسة محاذياً لتطور مجتمعات أكثر تعقيداً على نحو متزايد كما دعم من هذا التطور.
ومن حيث البعد المكاني، كان الاتصال محدوداً بتأثير بطء خطواته. فالصوت الإنساني لم يكن يصل إلا إلى من هم في مداه. ولم تكن الرسالة المكتوبة تنقل إلا بسرعة العَدّاء أو الحصان أو الطيور أو السفينة الشراعية. والواقع أنه على الرغم من هذه السرعة المتأنية، ضربت المعارف والأفكار بجذورها عميقاً في مناطق تبعد كثيراً عن موطنها الأصلي. وتعد المعابد الهندوكية في بلدان جنوب شرقي آسيا برهاناً ساطعاً على انتشار الأفكار وتدفق المعلومات. وقد انتقلت تعاليم بوذا والمسيح والرسول العربي، بصورة فعالة إلى أماكن نائية في عصر كان السفر فيه بطيئاً وشاقاً وخطراً. ولم يتطلب الأمر موجات كهرومغناطيسية لإحداث تغييرات في فكر ومعتقدات الملايين من الناس. ومع ذلك، فإنه يتعين الربط بين بطء التغيير في معظم المجتمعات- حتى في المجتمعات التي أحرزت إنجازات ثقافية رفيعة- وبين بطء وسائل الاتصال سواء داخل المجتمعات أو فيما بينها.
ومع ذلك، فحتى في هذه المرحلة المبكرة، كان تداول الأنباء مظهراً لكل مجتمع منظم، يغطي مجالات كثيرة للحياة الاجتماعية. ومن العسير أن نتصور أي تقدم في الإدارة والتجارة والتعليم والتنمية الاقتصادية والفكرية كان يمكن تحقيقه بدون نشر الأنباء. ولكن الأنباء التي كانت تصل، اتسمت بأنها كانت محدودة النطاق، وبأنها كانت عشوائية، سواء بالنسبة لمصدرها، أو للجمهور الذي يتلقاها، وكانت على الأخص تَدْعَمُ التقاليد ومن ثم السلطة، وتشجيع السلبية والقدرية، وتقوي النظام القائم- سلطة الحكام أو الآلهة، أو سلطة الحكام المتسمين بصفات الألوهية، وهو الأمر الذي لم يكن نادر الحدوث. ومن ثم، فقد كان للاتصال داخل المجتمعات، وفيما بينها، أهمية حاسمة لنشر الأفكار العظيمة، والعلاقة بين السلطات وبين غالبية السكان- وكذلك الحفاظ على المجتمعات واستقرارها.
إن هذه النظرة السريعة إلى الماضي، ليست استعراضاً لا مبرر له، ذلك أنها تستهدف تبيان أن منافع الاتصال الحديث ومضاره تضرب بجذورها في الماضي البعيد، لكنه ماضٍ لا يزال موجوداً معنا اليوم، سواء في وسائل الاتصال التي لا تزال مستخدمة في أنحاء مختلفة من العالم، أو في التراث الاجتماعي الذي يعد نتيجة وسبباً لتطور الاتصال. إن أشكال الاتصال التقليدية لا تزال مقيدة في حد ذاتها في بعض الظروف. ليس هذا وحسب. بل يمكن أن يكون لها أيضاً تأثير تصحيحي على تشوهات الاتصال الحديث بصفة عامة. وإن تقييماً أفضل للطرق التي تطورت بها وسائل الاتصال، والأشكال التي اتخذتها في الماضي، وأهدافها، يمكن أن يبشر بالنجاح في المستقبل. ويمكن أيضاً، حتى في هذه المرحلة المبكرة من هذا الموضوع أن نحدد القضايا التي ستتكرر بالضرورة، وهذه القضايا هي:
آ- القوة التي يملكها من يسيطرون على وسائل الاتصال ويوجهونها.
ب- أثرها على الفروق الاجتماعية ومن ثم على العمل الاجتماعي.
ج- عدم المساواة فيما بين المجموعات أو الطبقات المختلفة داخل كل مجتمع.
د- السيطرة التي ترتبت على الحكم الاستعماري أو على الأقل المزايا المستخدمة من عملية تنمية أسرع وأسبق، غير أنه، عندما نتصدى لهذه المشكلات، يمكننا أن نعيد صياغتها على نحو أكثر إيجابية وأكثر مدعاة للأمل، ويمكن التفكير في:
1ً- توزيع السلطة من خلال انتفاع أشمل وبمشاركة أوسع في عملية الاتصال.
2ً- الانتفاع بوسائل كأدوات التعليم وللتنشئة الاجتماعية.
3ً- خفض أوجه عدم المساواة من خلال إشاعة الديموقراطية
4ً- القضاء على مخلفات السيطرة عندما يصيح التحرر القومي الكامل حقيقة واقعة.
بصفة عامة يُعَدُّ تاريخ اختراع الطباعة، بداية الاتصال في العصر الحديث، وفي حين أن لهذا الاختراع أو الافتراض مشروعيته، فإنه يتعين إيراد تحفَظيْنِ عليه.
1-الأول: هو أنه من المهم أن تبرز الأسلوب الفني للاستنساخ المتعدد عن طريق الطباعة للصور والكتابات التي حفرت أولاً على الحجر أو الخشب قد ظهرت للمرة الأولى منذ خمسةٍ وعشرين قرناً مضت.
2-والثاني، أن أثر هذا الاختراع، كان في أول الأمر أكثر وضوحاً في دعم نشر وتكاثر المعرفة والأفكار "من خلال الكتب" منه في تطوير الإعلام الجماهيري، وهو الأمر الذي أصبح مفهوماً فيما بعد.
لقد كان الكتاب، المستودع الذي لا يدانى للفكر والمعرفة في الحضارات، مثل الحضارات الصينية والهندية والإفريقية والرومانية. فقد أتاح وسيلة لجمع رصيد كبير من المعلومات في حيز ضيق وشكل معمر، وجاء أول تقدم هام في إنتاج الكتاب مع اختراع الورق، المادة التي حلت محل البردي القديم أو الرق. وقد بدأ استعمال الورق في الصين في القرن الأول بعد الميلاد، وفي العالم العربي في القرن الثامن، وفي أوربا في القرن الرابع عشر. ثم كانت الخطوة الكبرى التالية إلى الأمام، هي اختراع الطباعة، وهي فن نشأ في الصين في القرن التاسع، ثم ظهر في أوربا في القرن الخامس عشر، وأصبح من الممكن إنتاج نسخ كثيرة من الكتاب نفسه دون اللجوء إلى عملية النسخ اليدوي المجهدة. ولم تتم هذه التغييرات دون مقاومة من قبل حَفَظَةِ المذاهب الدينية والسياسية. فقد كانت حرية الفكر محل نزاع بين السلطات العامة والخاصة وبين ذوي الفكر المستقل.
وقد تبع ظهور الكتب، ظهور نشرات في موضوعات رئيسة في القرن السابع عشر، ثم ظهرت الصحف بعد ذلك. وفي القرن التاسع عشر والسنوات الأولى من القرن العشرين، لم تكن هناك حرية للصحافة بعد في البلاد الواقعة تحت الحكم المطلق أو الاستبدادي، كما كان عليه الحال في روسيا القيصرية على سبيل المثال. وقد تعرضت تلك الصحف والصحفييون لجميع أنواع إجراءات القمع. وحينما ازدهرت الصحافة الجماهيرية، اختلط تأثيرها بتأثير العمليات والبنى الاجتماعية المتغيرة التي أدت إلى انتهاء العهود الطويلة التي استبعدت فيها غالبية الناس من الحياة السياسية، بسبب الجهل. وشهد العصر الحديث نمواً متزايداً في موارد جديدة وأساليب فنية ووسائل تكنولوجية حديثة في الاتصال، فقد تعاقبت الاكتشافات الواحد منها تلو الأخرى، بسرعة متزايدة. حيث اكتشف أديسون الحاكي "الفونوغراف" في بداية النصف الثاني من القرن التاسع عشر، واخترع السير شارل هويتستون وصمويل موريس، البرق "التلغراف" نحو عام (1840). وأرسلت أول برقية عامة في عام (1844). وفي عام (1876)، أرسل بيل، أول رسالة تلفونية سلكية. وفي نحو عام (1895)، نجح ماركوني وبوفوف كل منهما مستقلاً عن الآخر، في إرسال واستقبال رسائل لاسلكية. وفي عام (1906) بث فيسندر، الصوت الإنساني عبر الإذاعة. وفي عام (1839)، اخترع داجير أسلوباً عملياً للتصوير الفوتوغرافي. وتم تصوير أول فيلم عام (1894).. وفي عام (1904) تَمَّ إرسال الصور الأولى بواسطة جهاز لنقل الصور برقياً.
في حين تمت إذاعة أول صورة تلفازية في عام (1923)، وأقيمت أولى شبكات الإرسال الإذاعي في العشرينات (1920)، وبدأ الإرسال التلفزيوني الملون عام (1954). وفي عام (1957)، بدأ الاتصال السريع فيما بين القارات مع مد الكابل البرقي الممتد تحت الماء بين أمريكا وأوربا، في حين لم يبدأ تشغيل أول كابل تليفوني عبر الأطلنطي إلا في عام (1956). وأخيراً، تم إطلاق "إيرلي بيرد"، أول تابع صناعي تجاري للاتصال عام (1962).
إن هذه التكنولوجيات الجديدة التي يتركز استخدامها في عدد قليل من البلاد الصناعية أساسية، قد مهدت السبيل لعصر جديد في مجال الاتصالات. وخاصة الانترنيت. ولا تكمن أهمية وأصالة هذه العمليات في تسهيل الإرسال وتلقي المعلومات، وبث الأفكار، في التحول الرئيس في طبيعة ولغة الاتصالات الإنسانية. بل يؤدي هذا المزج من المشكلات المُقْتَرِنَة بظهور التكنولوجيات الجديدة إلى بروز القضايا الأساسية التي ستواجهها جميع المجتمعات أو تواجهها بالفعل، إلا أنه في حين تُتيح التكنولوجيا الحديثة آفاقاً جديدة لتطوير وسائل الاتصال، فإنها تخلق أيضاً مشكلات وأخطاراً جسيمة-ويجب علينا أن نحذر إغراء اعتبار التكنولوجيات الخاصة بالاتصالات أدوات صالحة لجميع الأغراض، قادرة على الحلول محل الأعمال الاجتماعية والتفوق على الجهود المبذولة من أجل إحداث تحولات بنيوية في البلاد المتقدمة، والبلاد النامية- كبلادنا العربية، بل يجب النظر إليها بحذر شديد وبالتالي معالجة السلبيات التي تحدثها، لكن معالجات إيجابية والتفاعل معها بروح العصر بالفهم والإدراك.
ويتوقف المستقبل إلى حد كبير على الوعي بالاختيارات المتاحة وعلى توازن القوى الاجتماعية، وعلى الجهود الواعية لتوفير أفضل ظروف ممكنة لتنظيم الاتصالات داخل الأمم وفيما بينها..
ويتزايد اتساع الفجوة بين من لديهم كل المعلومات والإمكانيات وبين من يفتقرون إليها. كما يتأكد الاختلال بين من يبثون المعلومات وبين من يتلقونها. ومع أنه يجدر القول بأن التدفق الدولي قد ازداد كثيراً، وأن مصادر الإعلام قد أحدثت زيادات هائلة في ناتجها، فإنه من الضروري أيضاً التأكيد على أن العاملين بالاتصالات قد دعموا سلطاتهم للتحكم والتأثير بسبب ما يتم بثه من رسائل وبين الاختيار بين المعلومات المتوافرة. كذلك، فإن أوجه الاختلال وضروب التشويه المترتبة على ذلك. تعكس بصورة ما المصالح المسيطرة في المجتمعات التي تنبثق عنها تلك المعلومات.
ولا يمكن أن يستمر هذا الوضع دون إلحاق الأضرار الكبيرة بالتفاهم الدولي والتعاون بين الأمم- على حد سواء، ودون التأثير على الظروف السياسية- الاجتماعية والثقافية- الاجتماعية- الفكرية السائدة في البلاد المختلفة، ودون الإضرار بالجهود التي تبذل من أجل الوفاء بالاحتياجات الأساسية بين الأمم ولحل المشكلات الجوهرية لسكان العالم وصون السلام العالمي.

أولاً، وقبل كل شيء، فإن أوجه النقد التي تبديها البلدان النامية ويؤيدها كثير من الباحثين والمفكرين وعلماء الاجتماع، تقوم على أساس ما يلاحظ من أن دولاً معينة ومتقدمة تكنولوجياً تستغل مزاياها لممارسة شكل أو أشكال من الهيمنة الفكرية وبث المعلومات التي تقتضيها استراتيجيتها السياسية والثقافية والأيديولوجية، وبالتالي تُعَرِّضُ الذاتية القومية للبلدان الأخرى المتلقية لأخطار جسيمة. وهذا ما يعتبره العديد من المثقفين والمفكرين وعلماء الاجتماع غزواً ثقافياً، وهو نوع من التوغل الفكري، مما يشكل إحدى المشكلات الرئيسة التي يواجهها كل شخص يتعامل مع قضايا الاتصال والإعلام الدولية، حيث أخذت الأذواق الاجتماعية الثقافية، وحتى طرز الحياة في البلدان الأجنبية، تنتشر على نطاق واسع في البلدان العربية إلى درجة أن غَدَتْ مألوفة. وتحظى بإعجاب الكثيرين، ويقلدها الناس. وقد تتخذ كمعايير للسلوك البشري في البلدان التي تتعرض لها. لكن لا يشكل فرض القيود السلبية بطرق الزجر والردع والقمع أفضل الردود على التأثير الأجنبي الضار. ذلك أن مثل هذا التدفق تبلغ صعوبة مقاومته أشدها، عندما يتجه نحو فراغ نسبي، ولا يمكن لوم الناس عندما يرحبون بأكثر أشكال المواد الترفيهية الأجنبية تفاهة وسطحية "إذ تقدم كما نعلم في إطار فني راقٍ" إذا ما سمح لأشكال الثقافة الوطنية أن تضمحل، ولكي تبقى هذه الأشكال حية وشعبية حقاً وجذابة، ولها أنصارها يدافعون عنها يجب أن يتم تجديدها دائماً بقدرات ومواهب حديثة وبمحتويات جديدة، ويجب أن يلقى الكُتّاب والفنانون، المبدعون، وفنانو الأداء، تشجيعاً كاملاً من جانب المجتمع والهيئات الحكومية المعنية، وأن يسمح لهم بإعطاء أفضل ما عندهم في جو من الحرية والأمن، ودون خوف أو إرهاب، تلك هي الحماية الحقيقية للذاتية الثقافية.
إننا حين نوضح كل المشكلات المتصلة بالتدفقات في تبادل المعلومات والوسائل والمنتجات الفكرية، لا نسعى إلى أن نجعل من وسائل الإعلام كبش فداء لكل عيوب المجتمع، كما لا نرى مبرراً لقصر اهتماماتنا على العلل التي تصيب وسائل الإعلام وممارساتها في بعض المجتمعات دون غيرها. ونحن لا نستطيع في هذه المرحلة من معرفتنا لهذه القضايا أن نتجاهل أي عامل مؤثر، وخاصة إنها بوجه عام تتداخل بعضها في بعض، بحيث يجب أن يتقاسم المسؤولية عن كثير من أوجه القصور في الاتصال على الصعيدين الوطني والدولي؛ الجميع.
ويزداد إلحاح مختلف الأمم على منح الفكر القومي مكانه من الاعتبار والتأكيد والاحترام والتقدير، لا رغبة في الانكماش على الذات ولا امتيازاً قومياً لكل أمة، ولكن بوصف الفكر القومي جزءاً من كيان الأمة في الحياة، وثروة تضاف إلى ثروات الإنسانية والهوية الفكرية يمكن وصفها بأنها النواة الحية للشخصية الفردية والجماعية والعامل الذي يحدد السلوك ونوع القرارات والأفعال الأصيلة للفرد وللجماعة والعنصر المحرك الذي يسمح للأمة بمتابعة التطور والإبداع. وإن خصوصية الفكر القومي شرط إيجابي لتحقيق التبادل الفكري في التعاون البشري- لأنه إذا افتقدت الخصوصية الفكرية، اتسم الإنتاج الفكري بالمماثلة، ولم يعد ثمة منطق لفكرة المبادلة.
وهكذا، فإن العنصر الهام في الإنتاج الفكري، هو خصوصيته وأصالته، أي هويته التي تميزه، والتي تتأبى على التقليد وعلى الاستلاب، وتقوم على العطاء- بالإضافة الفكرية المتجددة.
إن الهوية الفكرية لكل أمة تقتضي عدداً من العناصر، منها:
آ- وجود تراث روحي- مادي، يشعر كل فرد أنه جزء منه، وأنه مكون له، في الوقت نفسه.
ب- انتماء إلى ثقافة معينة يشعر كل فرد بالوجود ضمن إطارها، وبالتوحد معها، وبالمشاركة فيها، وبالحرية ضمن أجوائها.
ج- وجود شخصية اجتماعية محددة تربط أفراد الأمة بعضهم ببعض في لغة واحدة، وعادات وتقاليد متشابهة، وخصائص في العمل والتذوق وفي الإبداع الفكري والفني متماثلة. ومنظومة من القيم الروحية والأخلاقية الجماعية واحدة.
بهذا كان فكر الأمة العربية قوام شخصيتها والمعبر الأصيل عن تطلعاتها والدعامة الحقيقية لوحدتها الشاملة. وكان الحفاظ على تراثها وانتقاله بين الأجيال وتجديده، هو ضمانة تماسكها ونهوضها بدورها الإبداعي المتجدد.
وليست الهوية الفكرية مركباً جامداً من الخصائص والقيم والتقاليد، ولكنها مجموعة من المشاعر والأفعال، ومن السمات التاريخية والأبعاد الفكرية والفنية والروحية، ومن معطيات السلوك الحية النامية تُغْنى بالحوار وبالتطور وبالأخذ والعطاء والإبداع الذاتي. فهي تتجدد وتعيد خلق ذاتها في إطار خصائصها لأنها في حركة داخلية مستمرة، وَتَتَغَذّى بالموروثات العريقة للمجتمع، وبالقدرات الداخلية الإبداعية فيه، كما تتغذى، بالإسهامات الخارجية عن طريق الاستيعاب والتحوير والتمثل. إنها السعي الدائم إلى مشروع فكري جديد يكفل خلق المستقبل من أضلاع الماضي.
على أن المثقف العربي يواجه في أيامنا آفاق ثورة العلوم والمعارف، فيعي بأن أنواع الخبرات والممارسات في الحياة لا يوفرها له الفكر العربي في استمرارية خطوطه التقليدية، وثمة هوة متزايدة الاتساع باستمرار بين الفكر الذي نحياه والفكر الذي ترتسم ملامحه في الغد، وردم الهوة بين الفكرين من أولى الواجبات في أي تخطيط مستقبلي.
إن دور الفكر في حياتنا القومية المعاصرة والمستقبلية يَتَضَمّنُ بالضرورة:
آ- زرع الثقة والأمل في الجماهير العربية من جديد، بعدما أصابها من الهزائم والنكبات والإحباطات. فبدون الثقة بالذات والأمل في الغد، لا يمكن عمل شيء لإخراج هذا الوطن العربي من واقعه.
ب- وضع الأسس الفكرية للطفرة العلمية النوعية التي تحتاجها هذه الأمة، في هذا العصر، دون التفريط بالقيم الروحية والقومية والإنسانية التي تصوغ ذاتها وهويتها وتغني عطاءها الحضاري.
ج- إعادة تأكيد المحاور الأساسية والأهداف الكبرى للأمة العربية التي دار حولها نضال جماهيرها منذ عصر النهضة، وهي:
1ً- الاستقلال والتحرر في مواجهة الهيمنة الأجنبية والاستلاب.
2ً- الوحدة القومية في مواجهة التجزئة والإقليمية الضيقة
3ً- الديموقراطية في مواجهة الاستبداد والقمع.
4ً- العدالة الاجتماعية في مواجهة الاستغلال.
5ً- التنمية الذاتية في مواجهة التخلف أو النمو المُشَوّه.
6ً- الأصالة والاعتزاز بقيمها الأخلاقية في مواجهة التغريب والتبعية الثقافية.
7ً- الحضور القومي بين الأمم والإنتاج في مواجهة حضارة الاستهلاك إن صح التعبير. والتقليد لم يكن ممكناً أن تمر قرون من التخلف ومن التفكك السياسي والاقتصادي على الأمة العربية دون روابطها، وبالتالي في إضعاف فاعلية هويتها الفكرية الموحدة، وخصائصها، وهبوط قيمها الأساسية، حتى أُنْسِيَتْ الأمة العربية أن الهوية الفكرية ككل كائن حي تتغير وتتحول أولاً من داخلها، ثم تتطور ثانياً بتأثير التلاؤم مع ظروف المجتمع، وتطور العصر، وحسب التأثيرات الخارجية التي تستوعبها عن وعي ودراية فكانت الدعوة إلى إغلاق باب الاجتهاد في العصور المملوكية والعثمانية، وانتشار الفكر الغيبي، وانغلاق المجتمع العربي- الإسلامي عن العالم ثقافياً وفكرياً واجتماعياً، من أسباب سيادة التقليد في هذا المجتمع الذي لم يجد في داخله الحاجة ولا القدرة على تطوير مفاهيمه وتتغير أوضاعه من الداخل، فلاذ بقيم أصبح عاجزاً عن تطويرها.
وقد اتفق أن ظهرت حركة النهضة العربية منذ مطلعها مع زحف قوى غاشمة استعمارية عليها، فاصطرعت معها عسكرياً واقتصادياً وثقافياً. وإذا كانت قد انهزمت في المجالين الأولين، فإن عمق الجذور الفكرية العربية وقوتها الروحية واللغوية، استعصت على الهزيمة.
وانتابت العالم في فترة أواخر القرن العشرين موجة من التحولات، جعلت حياة المجتمعات كلها مختلفة، حتى في الجذور، عما كانت عليه في السابق. وهذه التحولات تشكل في حد ذاتها ثورة فكرية خطيرة، كما تفرض مجموعة من التحديات الفكرية لكل أمم الأرض.
وضمن معطيات العصر، وفي إطار الفيض من خطط التنمية الفكرية.
فلم يعد مقبولاً أن تسير هذه التنمية يوماً بعد يوم، حسب السياسات المحلية أو الإقليمية المتضاربة. كما لم يعد مقبولاً أن توضع القضية الفكرية في المركز الأخير من الاهتمام، سواء في التخطيط أو في التمويل، أو التنفيذ، أو أن توضع التنمية الفكرية في معزل عن خطط التنمية الأخرى.
بل يجب أن تكون هناك خطة فكرية للتنمية تستهدف:
آ- إغناء شخصية المواطن العربي، وتأكيد وعيه بعقيدته وبذاته وبحريته وكرامته وقدرته على مواكبة التطور الإنساني المعاصر والمشاركة الفعالة فيه.
ب- تطوير البنى الاجتماعية والاقتصادية والفكرية في الوطن العربي بوصفها ركن البناء الحضاري. والفكر ليس كياناً مغلقاً على ذاته، بل هو تفاعل دائم مع ما يحيط به.
ج- إبراز الهوية الحضارية العربية- الإسلامية وتنميتها والمحافظة عليها، بوصف الفكر مستودع الأصالة. والتراث الفكري العربي- الإسلامي كنز واسع من الخبرات والقيم والعطاء الحضاري والمادي والمعنوي، كما أنه الأساس الذي تقوم عليه الهوية الفكرية للأمة والجذر الذي يغذي طاقاتها الإبداعية، وثقتها بنفسها ويلهم تطورا لمستقبل.
د- تأكيداً لوحدة بين أقطار الوطن العربي وزيادة أواصرها. والفكر العربي، هو النسيج المكون لرابطة التآخي بين العرب والسند المرجعي فيها.
هـ- التحرر القومي، بوصف الفكر العربي عنصر مقاومة للتبعية والاستلاب والتشويه، بقدر ما هو عنصر بناء وإبداع وتأكيد للهوية.
و- تنمية التماسك الحضاري قومياً وإنسانياً، بوصف الفكر القومي مصدر إبداع وعطاء وسبيل تعاون مع مختلف الأفكار العالمية. وما من أمة تستطيع العيش في هذا العصر بعزلة حضارية. والأخذ والعطاء هما سمة هذا العصر الحديث وقانونه، وأكثر من أي عصر مضى، بسبب سرعة المواصلات والاتصالات، لدرجة أن أصبح العالم قرية صغيرة.
ز- ترسيخ المفهوم الصحيح للفكر العربي القومي من حيث هو فكر قومي وإنساني، يستند إلى أصول الأمة العربية وتراثها. ويستوعب في الوقت نفسه، تيارات العصر، ويدرك آفاقها، ويشارك مشاركة إيجابية لا سلبية متفتحة أخذاً وعطاءً في تقدم الحضارة الإنسانية بالكامل.
ح- تكوين الشخصية المتكاملة للإنسان العربي، وتهيئته للوعي بتراثه، والانتماء إلى أمته وقيمه الأصيلة. وإعداده لمعايشة عصره واستيعاب معطيات الفكر الحديث والثقافات العالمية المعاصرة، وصقل فكره ووجدانه ليكونا قوة فعالة في التقدم الحضاري لوطنه.
ط- تحقيق الديموقراطية الفكرية بالوسائل التي تكفل رسوخها وتجعلها عقداً مبروماً بين كل شرائح المجتمع العربي وأصحاب القرار فيه.
أما المبادئ الأساسية لتحقيق ما تقدم، فتقوم على:
1ً- إن الفكر هو من إبداع الشعب الحر الذي يرتبط به، ويعود إليه، وحياة الشعب، هي المنبع الأساس لكل إبداع فكري.
2ً- إن الفكر هو ما يميز أمة من غيرها، لذا فإن تنمية الفكر العربي تنمية تُمَيِّزُ أبناءها والعاملين فيه، ونعطيه دوره الخاص في النشاط القومي والإنساني، فهو أحد المبادئ الذي يحقق هذه التنمية.
3ً- حق الإنسان العربي في اكتساب الفكر الحر، وفي حرية التعبير عنه، والتمتع به. وهذا يعني تفتيح الآفاق أمام المبدعين، والالتزام بنشر إنتاجهم للجماهير.
4ً- إن عملية التخطيط التنموي الفكري، عملية متكاملة شاملة، وهذا يعني، أن الفكر بعد أساسي من أبعاد التنمية، وعلى علاقة تأثير متبادل وعضوي مع نواحي التنمية الأخرى.
5ً- إن التراث الحضاري العربي- الإسلامي، هو الركن الأساسي في تكوين الفكر العربي والنسج الأصيل فيه، قيماً وبنىً.
6ً- إن الصلة بين اللغة العربية والفكر الإسلامي، تفوق كل صلة بين أية لغة، وأي تفكير تعبر عنه تلك اللغة، ولقد أثر الفكر الإسلامي في كل الاتجاهات الفكرية من الفلسفة إلى الطب، إلى الفلك، وفي ألوانها الفنية من العمارة إلى الزخرفة الخ.
7ً- ديموقراطية الفكر، تعني الحق الإنساني في المشاركة الفردية والجماهيرية الواسعة على السواء في مجالي إنتاج الفكر والإفادة منه، باعتبار أنه مكان في الإبداع مفتوح للجميع، وغذاء مباح للجميع.
8ً- قومية الفكر، وهذا يعني، وحدة الفكر العربي، واللغة العربية هي المعبرة عنه، والتراث العربي هو ذلك التراث العريق الأصيل الموروث الذي يجده كل عربي في داخل ذاته بشكل عفوي.
9ً- تحديث الفكر: بمعنى الارتباط بتطورات اليوم والغد، واستيعاب تيارات العصر ومواكبة تحولاته عربياً وعالمياً في التحديث، مع الحفاظ على الأصالة والهوية الحضارية العربية والقيم الفكرية للأمة.
10ً- عالمية الفكر: بمعنى أن الفكر العربي متفاعل مع الأفكار الأخرى، ويشارك المشاركة الإيجابية المتفتحة أخذاً وعطاءً في تقدم الحضارة الإنسانية.
11ً- إنسانية الفكر: بمعنى أن للفكر العربي خصائص وقيماً وآفاقاً إنسانية متفردة، تجري فيها مجرى العناصر المكونة.
وتستند تلك المبادئ على ترسيخ الهوية القومية العربية، وتمتين الوحدة القومية. فالوحدة هي الشعور العميق الذي يسكن الوجدان القومي للجماهير العربية، ويشكل صور تعاطفها وأفراحها وأحزانها المشتركة. فالوحدة العربية، بمقدار ما هي واقع وجداني، هي في الوقت نفسه، هدف قومي. والوحدة قضية جماهيرية، لا في منطلقاتها فحسب، ولكن في مردودها أيضاً. إنها تبدأ مع الجماهير، لتعود فتصب فيها. لكن هذه الدورة الفكرية، لا تنبثق عفواً، ولا تتحرك بشكل ذاتي، بل تحتاج إلى قيادات فكرية تواكبها، وسياسات وأجهزة ووسائل وميزانيات سخية.
إن تقوية أواصر الوحدة فكرياً، عن طريق التنمية الثقافية الشاملة مطلب قومي. وهذا يعني أنه ينبغي أن تجند له جميع الوسائل الثقافية. من الكتاب إلى المسرح، ومن البيت إلى المدرسة، إلى وسائل الإعلام الخ. وهناك عناصر ذات شأن في توطيد الوحدة ودعمها، ومن ذلك:
آ- التاريخ القومي: الذي يجب أن تتوحد مفاهيمه ومناهجه العلمية والتعليمية، لا على الأساس الذي يجري عليه من التجزئة والاقتطاع وإبراز الجوانب السلبية، لكن على أسس إبراز وحدته الحضارية الواحدة، المتصلة بعصور الماضي.
ب- إحياء الأساليب الفنية والجمالية التراثية، ونشر تذوقها وتحليلها وتقليدها وتطويرها.
ج- تدوين التراث الشعبي العربي، سواء بتسجيله ونشره واستيعابه بتعدد ألوانه وتنوع مجالاته.
د- توسيع التواصل بين الأقطار العربية وتعميقه، ونشر المعلومات عن كل قطر لدى الأقطار الأخرى، وتيسير إجراءات التدفق الفكري فيما بينها.
ونستنتج مما تقدم أن مفهوم الوحدة القومية يرتكز على مفهوم الوعي بالانتماء القومي لدى المواطن العربي- وبقدر ما يكون الوعي بهذا الانتماء حيّاً، يكون اللقاء العربي، في سبيل العمل العربي الواحد، وبناء الكيان العربي الحضاري الموحد، أقرب إلى المنال والتحقيق.
علماً أن الانتماء القومي، في واقعه ومعطياته الراهنة، يتطلب اهتماماً خاصاً من القائمين على شؤون الفكر العربي، ذلك أن كثيراً من الباحثين والمفكرين العرب المعاصرين في دراساتهم لنزعات الشباب واهتماماتهم في الوطن العربي، خلال العقدين الأخيرين من القرن العشرين، لاحظوا ظاهرة انقسام الانتماء القومي، في شتى مجالات الحياة العربية، بنوع من الفتور، بل لاحظوا الظاهرة ذاتها بالنسبة إلى شعور الانتماء القطري لدى هؤلاء الشباب.
لاشك أن هذه الظواهر تثير الاهتمام وبعض القلق، من سلوك الشباب بخاصة، وسلوك المواطن العربي بعامة، وهي تتجلى بسمات عديدة:
من هذه السمات، تنامي الشعور بالفردية والأنانية، كذلك تفكك الروابط الاجتماعية. ومن هذه الدلالات شعور الشباب بإهمال المؤسسات الرسمية لهم وعدم اهتمامها الكافي بتوفير العمل لهم أو تقديم المعونة لهم على الحياة الكريمة. إن ثمة نوعاً من الانفصام أو من الثنائية، أخذ يتكون في المجتمع العربي المعاصر؛ ثُنائيّة السلطة الحاكمة وأجهزتها وأتباعها، في مواجهة المواطن، كان كلاً منهما عالم مختلف يساوي الآخر، كما أن من أهم السمات في مشكلة ضمور الانتماء القومي- لدى الشباب- نزعتهم المتزايدة إلى الهجرة، فما يلفت الانتباه أن يكون من أولى أمنيات معظمهم، وبخاصة الشباب المتعلمين والاختصاصيين، أن يجدوا بلداً من البلاد المتقدمة، يقبل بهم ليقيموا فيه ويعملوا دون رغبة بالعودة إلى الوطن.
إن لهذه الظواهر أسباباً عديدة، يمكن أن نجمعها في فئتين:
-أسباب عربية داخلية، وأسباب خارجية عالمية:
1- في طليعة الأسباب الداخلية، تبرز قلة العناية التي توليها الدولة بالمواطنين، إذ هي في الغالب ستستغل طاقاتهم في أنشطة موجهة للإشادة بالسلطة الحاكمة، بدلاً من الأنشطة التي تشيد ببناء الوطن وتقدس أهداف الأمة.
2- ازدياد التوتر والتباين في الرؤية والفهم والسلوك بين جيل الشباب وجيل الآباء.
3- كثرة الخصومات بين الأنظمة العربية وتعدد أسبابها والمواقف منها. وتدعيم هذه الأسباب الداخلية في الوقت ذاته أسباب خارجية عالمية.
1) استمرار الضغط الدولي على الحكام العرب لتفتيت تماسكهم وإثارة النزاعات المفتعلة بينهم.
2) تحريض الدول العظمى الدول العربية على الدخول فيما بينها في صراعات ترتدي الطابع الاقتصادي أو العقائدي، أو ترتد إلى خلافات على حدود، وهي في ذاتها حدود لم يقررها عربي.
ثم إن حماية الهوية القومية العربية من التفتت تتطلب الاهتمام الحقيقي بكل ما هو قومي، وإعطاء الأولوية على حساب الاهتمامات القطرية. وأول ذلك:

آ- الدعوة إلى قيام النظام الديموقراطي الحقيقي في البلاد العربية. لقد حان الوقت لقيام هذا النظام الذي يعود إليه أمر إعادة الاعتبار للمواطن والاعتراف بكرامته وحقوقه في بناء مستقبل أمته من خلال عمل قومي مشترك.
ب- والثاني: فتح الحدود، وإلغاء مختلف الحواجز بين الأقطار العربية ليسمح للمجموعة الفكرية العربية، أن تنتعش في مدى حيوي واسع، ويسمح للإنتاج الفكري وغيره أن ينتقل بين هذه الأقطار بحرية ويُسْرٍ لمجموعات المواطنين والشباب العرب أن تتلاقى وتتعاون وتنشط في أعمال ومشاريع قومية هامة.
ج- الثالث، نشر الفكر القومي الصحيح في أوساط المواطنين والشباب في المدرسة، والجامعة، والمعمل، والحقل، إن العواطف والأفكار لا تنشأ بالمجان، ولا من فراغ، ونشر الفكر القومي يحتاج إلى جهد دؤوب كثيف، لأنه الغذاء والركن الذي تقيم عليه الأجيال المستقبلية مستقبلها ومستقبل الوطن والأمة. وكلمة أخيرة، إن تطور الفكر العربي في إطار مواجهة العصر الذي نعيش فيه- وفي إطار قيمنا الروحية والاجتماعية، يتم من خلال البحث الفكري المستمر لفهم التراث الماضي، ولمتابعة ما يجري من تطور في الحاضر، وللرؤية الصحيحة في المستقبل، وتعتبر مراكز البحوث بأنواعها، الوسيلة الناجعة لمعالجة هذه المعادلة المعقدة.
ولقد انتهى الوقت الذي تعتبر فيه البحوث الفكرية أمراً ثانوياً يمكن الاستغناء عنه، إلى أمور أكثر جدوى، والاكتفاء بإسهامات واجتهادات الماليين ورجال المكاتب حول الحاجات الفكرية، كما يجري الآن في معظم أرجاء الوطن العربي- فلا مستقبل فكرياً جدياً دون بحوث أساسية جدية.
على أن ثمة ضرورة إلى إقامة التنسيق بين مراكز البحوث الفكرية العربية والتكامل فيما بينها، من خلال توجيه مركزي تقوم به مؤسسة قومية عليا، وإلا تعرض جهدنا في البحوث إلى التشتت والتكرار، وما يرافقهما من تبديد لا مبرر له في الوقت والجهد والمال، ونحن أحوج ما نكون إلى كل ذلك. لذا فإن التكامل القومي العربي يعتبر أمراً أساسياً في العمليات الفكرية وبحوثها، على اختلاف ميادينها، ولعلنا لا نخطئ القول حين نرى في هذا التكامل الركيزة الأساسية لتقديم الفكر القومي، والمفاهيم القومية، بوصفها وحدة متجانسة موحدة. كما أننا لا نخطئ القول حين نطالب بوضع قوانين جديدة، وتعديل ما هو موجود منها، لجعل هذا التكامل والتوجه القومي أمرين واقعين ونافذين في مختلف الأقطار العربية.
ثم إن طرح الخطة الفكرية العربية الشاملة، إنما يتم على شكله المرجو، من خلال البحث العلمي المتعمق والمستمر في شؤونها، ومن المتابعة لهذه البحوث على المستوى القومي، فذلك هو السبيل إلى تنمية الفكر العربي بشكل متجانس، وإغناء السمات الفكرية الذاتية، وتحديدها بغير حدود. وفيها يمكن التوازن بين الأنواع الفكرية، وتنويع الاهتمام بها، والتوجه للنواقص في عملياتها. وهذا كله يتم بتكثيف البحوث وتعاونها القومي، وتوحيد اتجاهاتها، وتبادل معلوماتها بقصد:
آ- توفير الوقت والجهد والمال، وتجمع الجهود المتشابهة في ميدان محدد للوصول إلى الإنتاج الفكري الأفضل.
ب- قيام بنى ومؤسسات فكرية قومية، تتمتع بالاستقلال الاقتصادي، وتعمل على التقدم الاجتماعي.
ج- تحديد الوحدة الفكرية التامة لهذه الأمة.
د- التكامل مع مراكز البحوث الفكرية العربية الأخرى- إن وجدت- وتبادل الخبرات.
هـ- مراكز التوثيق وتسجيل الخبرات الفكرية والإفادة من تجاربها.
و- الدراسة المقارنة للنشاطات الفكرية، ومدى تغلغلها بين الجماهير العربية، وقياس ردود أفعالها وتوقعاتها.
ز- على أن يوجه البحث الفكري من أجل التكامل بين الفكر والعمل، وبين الروح والمادة، وبين الفرد والمجتمع.
ح- وتوجيه التربية القومية لإعداد المواطن ليكون واعياً لحقوقه ولحقوق أمته عليه، متين الانتماء القومي، مدركاً لضرورة التعاون والتكافل، بين شعوب الأقطار العربية.
ط- التركيز على الكيف بقدر الكم، وعلى الفكر العملي بقدر النظري وعلى الطريقة والمنهج، بقدر التركيز على المعلومة والمعرفة.
إن حاجة المجتمع العربي الملحة إلى تنمية القوى البشرية فكرياً، تتطلب الاهتمام بالمبدع، والجمهور المشارك والمنشط الفكري.

والمبدع سواء أكان مفكراً أم عالماً أم أديباً أم فناناً، يقدم طاقاته الإبداعية، إلى مجتمعه إذا حقق له المجتمع المناخ الذي تسود فيه حرية التعبير، وأنزله المنزلة الاعتبارية المكافئة له، على أن الجمهور العربي، بسبب عوامل داخلية وتأثيرات خارجية- مصدرها الغزو الفكري الأجنبي من جهة، ورواج إنتاج فكري عالمي رخيص ذي طابع تجاري من جهة أخرى، هو جمهور متلق، يقبل ما يقدم له، ولا يؤثر في الإنتاج بالنقد أو الرفض وتحويل هذا الجمهور إلى جمهور واع، مشارك، نقّاد ينتخب ما يروقه وهناك مشكلة هجرة الكفايات والكفاءات العلمية، إلى بلاد الغرب المتقدمة، وما ينتج عنها من خسائر مالية وقومية وحضارية وفكرية.
ولعل أهم من ذلك كله.. أن هجرة الكفايات والكفاءات تجرف دون انقطاع طبقات الطلائع الفكرية، وتمنع تراكمها في بلادها- كما تمنع وجود نواة فكرية صلدة تقوم عليها التنمية الفكرية الضرورية:
ومن دوافع الهجرة عديدة، وقد تكون:
اً- دوافع اقتصادية، بسبب قلة العائد في البلدان النامية عموماً قياساً بارتفاعه في الدول المتقدمة وإغراءات القوى المهيمنة.
2ً- دوافع وظيفية- اجتماعية، كالاستقرار الوظيفي، والعمل وفق التخصص، وتوفر الإمكان للعمل، وأساليب وتنظيم العمل، مقابل فوضى ذلك كله في الدول النامية.
3ً- دوافع سياسية، بسبب التضييق على المفكرين والعلماء والطلائع الثقافية بحجة ***** الأمن الوطني، وليس ثمة من حل قصير المدى لنزيف الكفايات والكفاءات وخسارتها، ولكن، يمكن النضال من أجل حل في إطار عملية تنمية شاملة. إن دعوة الكفايات واستيعابها لا يتم إلا في إطار التحامها عضوياً بمشروع قومي للتنمية. وبشكل يجعل لها دوراً مجتمعياً فاعلاً في مجتمعها الأصلي. وإنها لا تعود بمجرد الدعوة القومية وتحريض الانتماء، ولا بإغراء الرفاه المادي وحده، ولكن بالعمل على كسر طوق التبعية للغرب الرأسمالي وتطوير التعليم بمختلف مراحله، واستخدام اللغة القومية فيه، وتحوير نظام التعليم لإنتاج الكفايات والمهارات الدائمة للحاجات الإقليمية والقومية. فالنظام الحالي لا يؤدي إلا زيادة النزيف، وخسارة الطبقات المثقفة والمتخصصة باستمرار.
والفكر المبدع والمحصن والمنتج لا ينمو إلا في الوسط الاجتماعي الملائم الذي تتوافر فيه حرية التعبير، وينعتق من الكبت والقمع بمختلف أنواعه. وكانت هذه المعاناة سبباً أساسياً في إلهاء الإنسان العربي عن الاهتمام بقضايا وطنه المصيرية، كما أثرت تأثيراً سلبياً، وأدَّت إلى نوع من الاغتراب.
ومن أجل أن يكون الموضوع متكاملاً، لابد من إلقاء بعض الضوء على ما يجب أن يكون عليه دور المفكر العربي، أو الباحث أو الكاتب أو الفنان الخ. والمساهمة أيضاً في تحصين الفكر العربي، من الفكر الدخيل.
إن ما يريده المفكر العربي عموماً، أو المبدع، هو تطوير المحتوى الحضاري للأمة العربية، وخدمته قضاياها المصيرية، لتحتل المكانة اللائقة بها، في اتجاهات التقدم الإنساني، بحيث لا يتكون المستقبل من بقايا الماضي وفتات أمجاده. ومن أضغاث أحلام الحالمين، فيه، بل يكون بالفعل، بديلاً عن الماضي، طامحاً إلى التفوق عليه وهذه النظرة إلى هذا الموقف، يفترض فيها أن تحملنا إلى المشاركة فيما نسميه بالعالم الخارجي، مشاركة هذا العالم في التربية والبحث والاختيار والاختراع والهندسة والتصنيع والخلق. مشاركة فعالة، حرة خلاقة. لكن يتطلب ذلك نظاماً ديناميكياً حراً ومتحرراً من كل خوف، ويسير بالعلاقات العربية نحو المزيد من الارتباط والتوحيد تدريجياً، وذلك على الصُّعد السياسية والثقافية والإنمائية والاستراتيجية، علماً أن محور الإنماء في مفهومه الحديث، هو إنماء شخصية الإنسان وذاته، بحيث يتحقق نضوجه الكلي في المجتمع المتكامل.
لا شيء تخافه معظم الأنظمة العربية، إن لم نقل كلها، أكثر من الثقافة الحقة، فهي لا تصادر فقط حرية الثقافة والمثقفين من خلال مؤسساتها هي وإنما تسعى إلى خلق "نجوم" في معركتها، أو أن تشتريهم، إذا اقتضى الأمر، بل إنها تذهب إلى أبعد من ذلك، استئجار نُقّاد للحط من قيمة كتاب أو مفكرين يمتلكون شجاعة لقول الحقائق، أو محاولة طمس أسمائهم بوسائل مختلفة، وكأنهم لم يوجدوا، إن أفضل كُتّاب ومفكري العربية، هم الملعونون المنسيون المجوعون المهملون، الذين تحاول الأنظمة تحويلهم إلى حطام بألف طريقة وطريقة. إن ثمة فارقاً في ثقافة ينعدم فيها شرط الحرية بين كاتب يخدم القمع، وكاتب يفضحه ويعريه ويراهن على حياته كلها من أجل أن يكون في مستوى الشرف الذي يرتبط بالمفكر أو الكاتب أو الفنان
فالكاتب أو المفكر يقول أفكاراً أو شهادات تمتلك عيوناً، لكن قبل كل شيء ضميراً، وحرية ضمير. وإن كاتباً يدمج شرف الحقيقة بعار القمع، مهما كانت مبرراته، ينتهي إلى الجريمة أو يبدأ بها.
وإذا افترضنا الجهل أو السذاجة عند هؤلاء الكتاب، وهذا هو الجانب الأسوأ في ثقافتنا، بل واعترفنا باعتبارات بعضهم الوطنية والقومية، فإنهم يكرسون كتاباتهم للدفاع عن أنظمة القمع والاستبداد التي يتواجدون على أرضها، أو يتواطؤون معها في تبرير مواقفها وهزائمها وجرائمها، بالاستناد إلى اعتبارات مضللة، خاصة عندما يكذبون حتى على أنفسهم، ويدعون أن تلك الأنظمة تمثلهم وتتطابق مع أفكارهم السياسية وعقائدهم الفكرية، ومثلهم الثقافية. إن كاتبا يَخْرَس أمام القمع الذي يتعرض له المجتمع العربي، أو حالة التجويع والإفقار، في أي قطر عربي كان، أو يختبئ وراء أعذار واهية وتبريرات زائفة ومزيفة، يكون بعمله هذا، يخون الاسم الذي يحمله، كاتب أو مفكر أو فنان.
ومهما كانت الظروف المحيطة بالمثقف العربي والثقافة العربية، فإن الكتابة ليست مهنة حيادية، مثل بقية المهن الأخرى، يمكن أن يتقنها صاحب المهنة بالتدريب والممارسة.
في الوقت نفسه، إن عدم الاهتمام بِدَوْرِ الثقافة والمفكرين المبدعين الأحرار، وتسخيرهم في بناء أسس الدولة الديموقراطية والمجتمع المدني الحر، وترك المجالات لقيادات انتهازية، لا تعمل إلا من أجل مصلحتها فقط، سيؤدي في النهاية، ليس فقط إلى دمار بنية الاتجاهات الديموقراطية، إن وجدت بقايا لها، في قطر ما، بل إلى زوالها نهائياً، وهنا الطامة الكبرى. والأكثر من ذلك إلى تدمير المجتمع بكامله، والسير به في اتجاهات ومتاهات قاتلة.
لكن لا يمكن للمفكر أو غيره من المبدعين أن يقف وحيداً ليواجه الوحش الذي يفترس ضحاياه، بل إن ما أريد التأكيد عليه أيضاً، من خلال هذه الرؤية المنهاجية، هو التأكيد على تلك العلاقة الجدلية بين الفكر والواقع. فأي تطور في أحد الطرفين على حساب الطرف الآخر، سيؤدي حتماً إلى إحداث خلل في توازن الطرفين معاً. وهذا الخلل، هو في حقيقة الأمر، من صلب عملية التطور التاريخي، خاصة إذا حدث هذا الخلل بصورة طبيعية، أي جاء نتيجة لتطور الوجود المادي أولاً. أما إذا كان هناك تطور في الفكر على حساب الوجود المادي، فسيحدث بالضرورة تشوه في عملية التطور، وسيبقى الفكر هنا غريباً غير منسجم مع حركة الواقع.
إن الحديث عن معوقات التطبيق الديموقراطي في الوطن العربي، يتطلب بالضرورة، من المفكرين والمثقفين والمبدعين، أن يضعوا في حسابهم طبيعة العلاقة بين الواقع والفكر عموماً، وبين الديموقراطية كشكل من أشكال الوعي، وبين الواقع العربي في جملة أوضاعه الاقتصادية، والاجتماعية والسياسية. وينبغي أن نقول هنا، إن المفكر أو المثقف العربي، عاش ويعيش في خطر داهم، فإذا لم يسقط تحت وطأة فقدان الأمل واليأس والقنوط، لأن ما تريده الأنظمة العربية في أغلبها، من المفكر أو المثقف عموماً الحقيقي، هو أن يصبح من دعاة ذلك النظام، يستخدم في دعاياتها السياسية والدفاع عن تصرفاتها القمعية- وأن يقبل أن يتحول إلى طبل يجلس النظام فوقه، ويقرع عليه، أو بوقاً ينفخ فيه، كلما احتاج إلى طبل أو مزمار. إن المعركة الحقيقية في الوطن العربي، تدور داخل الثقافة، قبل أن تدور في أي مجال آخر. وفي جميع الأحوال، فإن قوة الأنظمة العربية، أو معظمها لا تكمن في برامجها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، الغائبه فعلاً، والتي يمكن أن يقبلها الجمهور، أو أن يرفضها، وإنما في أكاذيبها، الإيديولوجية وإنجازاتها المزيفة، التي تقدمها لتبرير وجودها على رأس السلطة القمعية، وهي أكاذيب، تقوم دائماً على شعارات وطنية وقومية أو دينية عامة خادعة، مثل النضال ضد الإمبريالية والدعوة إلى الوحدة العربية، والالتزام بالقيم العربية، إلى غير ذلك من الشعارات الجذابة. لكن إن حياة الدكتاتوريات العسكرية والإقطاعية الأوتوقراطية، أو العشائرية، أو المذهبية، مرتبطة في حقيقة الأمر بقضية على غاية من الأهمية: وهي أن تبدو أنها ملتزمة حقاً بهذه الشعارات، لأنها من دون ذلك، لن تجد ما تقوله في دعاياتها الثقافية، حتى إذا كانت هي نفسها العائق الرئيس أمام تحقيق الشعارات التي ترفعها. ولذلك فإن هذه الأنظمة لا يمكن أن تنظر إلى العمل الفكري، إلا من الزاوية التي يبرر فيها وجودها، ويدافع عن أكاذيبها الإيديولوجية. إن الخطوة الأولى، إلى الإبداع العربي، تبدأ من الخطوة الأولى، في تحرير الفكر العربي من الابتزاز، وتحرير المجتمع العربي من سطوة ثقافة اللاحرية، وجميع مظاهر القمع الفكري والإنساني، وتحويل المفكرين والمثقفين إلى شحاذين يقفون على أبواب السلاطين، ولكن قبل أن يصبح المفكرون والمثقفون في الطليعة، ويحملون أفكاراً جريئة، ويعملون ويتعاملون مع الناس بحرية، ينبغي أن يمتلكوا الجرأة والتحدي. وأن يتحملوا مسؤولياتهم في مواجهة الزمن الذي يعيشون فيه، والمساهمة في تحرير الفكر العربي من الأوهام والأباطيل والأضاليل، والدفاع عن كرامة الإنسان، والمشاركة بفعالية في القضاء على سلطة القرون الوسطى المُحْتَقِرة للوعي، وأن يعتبروا الحرية جوهر كل إبداع.
إن دور المفكر أو المثقف أو هو الكشف وتبيان الحقائق والمساهمة بفعالية، لا المشاركة في الأضاليل والتضليل، وإن كل حصار أو تقييم لدوره، يجب أن لا يدفعه إلى أن يَنصرِف وينكفئ على نفسه، كالجرذ المذعور، ويبتعد عن جملة القضايا الجوهرية التي تمس حياة المواطنين، ويستغرق في ترهات الكسب الرخيص، كملاحقة القضايا الصغيرة، كستار لخوفه وجزعه من السلطة.
كما أن ابتعاد المفكر أو المثقف أو الشاعر أو عن ممارسة دور الطليعي، بتقدُّمه المسحوقين والمظلومين، لا يستحق الاسم الذي يحمله، وإلا انقلب دوره إلى بهلوان وشطارة ومراوغة. ولذلك، على هؤلاء الذين ارتضوا أن يحملوا هموم أمتهم أن يعملوا على كشف الشعارات الكاذبة، وتوضيح معاناة الجماهير التي تلهث وراء لقمة العيش. إن تكاتف المفكرين والمثقفين، يؤدي بالنتيجة إلى حصار المتسلطين مهما بغوا، ومهما صادروا الرأي الآخر. وعلى المبدعين، ومن أجل أن يصبحوا جزءاً من عصرهم، ومن أجل أن ينالوا شرف هذا الاسم، أن يتقدموا خطوتين إلى الأمام، تفرض الخطوة الأولى نزع العباءة الدينية والقومية عن بعض الحكام، والحكم عليهم من خلال البرامج الاجتماعية والثقافية والسياسية وموقفهم من احترامهم لحقوق الإنسان والحرية والديموقراطية، قبل كل شيء. وتفرض الخطوة الثانية إنقاذ الدين من الأسطورية التي ترتبط بأولئك الحكام، ونزع هالة التقديس عنهم، بل تعريتهم وإظهارهم على حقيقتهم، وكذلك إبعاد الجهلة وأيتام الثقافة عنهم. إن مأزق المفكرين والمبدعين العرب ليس في موهبة فكرهم وإبداعهم، وإنما في مأزق الشرط الثقافي المفقود الذي يتحملون مسؤوليته مع الأنظمة العربية.
إن كاتباً ليس حراً في أن يكتب بحرية، ودون خوف من سلطة تعتقله أو تمنع كتابه، فيسيء بذلك إلى رسالته أكثر من كاتب يلجأ إلى الصمت خوفاً ورعباً، ويعتصم بسلامه الداخلي مع نفسه.
كما أن قارئاً لا يملك الحرية فيما يقرأ، وكما يشاء، ينمسخ هو الآخر، روحياً وثقافياً، ويصبح بهلواناً، يرقص على أنغام السلطة التي تريد منه أن يكون كذلك.
إن ممارسة المفكر أو الكاتب لدوره الحقيقي في الحياة العامة بالشكل الديموقراطي، دون خوف، سيجعله قادراً على كشف، معظم العوامل الإيجابية والسلبية التي تعترض طريق مجتمعه في التقدم وصون كرامته الإنسانية، وممارسة حريته ومشاركته في تطوير بلاده، وحتى الإنسانية بكاملها. ويكشف المفكر أو المثقف، أن تحقيق الطموحات يتطلب جهوداً كبيرة من قبل كل الأطراف المعنية في المجتمع كما على المجتمع أن يشارك المشاركة الإيجابية بالنشاطات التي تؤدي إلى خدمة مجتمعه بالكامل. أما في حال غياب هذه الحرية، فسيعمل المفكر أو المثقف، وبوعي، في حديثه أو صمته أو نشاطه على اتخاذ مواقف سلبية. وما هذا إلا سيزيد من ظهور الاندفاعات الهوجاء المدمرة نتيجة القهر والتزوير والقمع.



¾¾¾





الفصل التاسع :

أوراق تراثية تربط الماضي بالحاضر.



القرنان السادس والسابع للهجرة من أغنى العصور العربية بازدحام الحوادث وسرعة تواليها، وشدة تعقدها، وأفعلها بالمفاجآت، مثلها مثل ظروفنا الحالية مع بداية القرن الخامس عشر الهجري.
ففي الحقبة الأولى، تبدو المملكة الإسلامية واسعة الرقعة، مترامية الأطراف، فسيحة الأرجاء شرقاً وغرباً(1)، وهي على ازدحامها ممالك وإمارات تلوح أمام الناظر كقطرات من قبضة اليد، إذا قبضت عليها انداحت بقوة من بين الأصابع شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً حسب المفاهيم الدارجة في ذلك العصر. كأن الوحدة غريبة عنها، وكأنها جُبِلَتْ على التفرد والانفصال والانعزال، وصار التمزق الإقليمي سمة يطبع تاريخنا العربي قديماً وحديثاً.
واليوم أيضاً، كل أزمة لها أجواؤها ولها أصواتها، ولها ألوانها، رائحتها ومذاقها الذي يبقى في الحواس، ويستعيدها حية من مخزونات الذاكرة، مهما تباعدت السنون. ينطبق ذلك على أزمات العالم الكبرى. كما ينطبق على أزمات العرب، ومنها ما أخذت الأمة العربية بالمفاجآت، ثم أفزعتها التداعيات، ثم قسمتها الخلافات، ثم ساقتها الفتن إلى طرق وعرة ليس بينها درب أمان، بل اعتراف بالعجز واستسلام لليأس وتخبط في الظلام.
أمة مسلحة، ولكن للاقتتال، وليس للقتال، وأمة غاضبة لكنه غضب بغير كبرياء، وأمة حزينة، وليس لديها وسيلة لتعلو بها على أحزانها، هذا هو واقع أمتنا اليوم، لا تعرف في أي مكان هي، ولماذا، وإلى أين.
في تلك الأيام الغابرة، تلوح أمام الباحث صورة الدولة الإسلامية، إمارات مستقلة واهية البنيان، وممالك كبيرة دبَّت الشيخوخة في أوصالها، فسقطت كالذبيحة بين شدقي الغازي الصليبي من الغرب والقادم المغولي من الشرق(2)، فسقطت كأوراق الخريف، لا تجد من يغار عليها أو يحميها.
مطامع صليبية اتَّشَحَتْ برداء الدين، وأضمرت جشعها الاقتصادي، وظمأها التوسعي، فتوجهت بحقدها غارسة مخالبها في الأرض العربية، زارعة الخراب، والدمار أينما رحلت وحيثما حلت.
وتحفز مغولي للانقضاض على الفريسة الحبلى بالآلام والأوجاع. يدفعه ظمأ رمال الصحارى إلى مياه الغرب. وقد زحفت صحارى الشرق، على خضرة الغرب، فصبغت أسوار إيران، ومآذن العراق، بلونها الأصفر البربري، مبدلة نهار الحضارة بظلام الجهل، مطفئة شعلة النور، مزيحة الستار عن واقع هدتْهُ الانقسامات والفتن والأهواء.
والغريب في التاريخ العربي، وليس جديداً، أن ينقلب العدو صديقاً والصديق عدواً، وأن تتحالف الأضداد المتنافرة دونما اعتبار لتنافرها وتباعد مذاهبها. في الماضي، عُرِفَ المرابطون ببأسهم وقسوتهم على أعدائهم الاسبان، وعدم تهاونهم في الدفاع عن الثغور الإسلامية حتى أن ابن تاشفين خاطب أتباعه قائلاً: "ولئن عشت لأعيدن جميع البلاد التي ملكها الروم، ولأملأنها عليهم خيلاً ورجالاً(3).
وسرعان ما ترتد جيوش المرابطين عن الأمر الذي ندبت إليه، وتتوجه إلى محاربة الموحدين، تاركة ثغور الأندلس لقمة سائغة في أفواه الاسبان، وينقلب القائد العربي "ابن غانية" الذي صد الاسبان مرة عن أسوار قرطبة إلى قائد يأتمر بأوامر الأعداء، ويستل سيفه ليبطش بأبناء قومه وأهل ملته(4).
واليوم يعيد التاريخ نفسه، فيما يسمى بحرب الخليج الثانية، عندما أمسكت الولايات المتحدة الأمريكية بكل خيوط الأزمة من بدايتها حتى نهايتها، نسجتها بدقة وإتقان بالتعاون مع عملائها في المنطقة أو مع زبائنها، وراحت تغزل فيها وفق رسم خططت له، وأغلقت الأبواب أمام العراق، بتوجيه الإنذارات الواحد تلو الآخر، دون ترك أي باب يطرقه، إذ أُغْلق الباب العربي، لأن الولايات المتحدة لا تريد أن يفتح باب أو نافذة أمام بغداد، كما أغلق باب الأمم المتحدة، وأصبح باب بقايا حطام الاتحاد السوفياتي مغلقاً، وهكذا، تآلفت كل الظروف، وتجمعت السحب السوداء فوق بغداد. ويحاصر النمر العراقي، وتبدأ حملة تزييف لم يسبق لها مثيل في التاريخ، يشارك فيها بعض الحكام العرب، حقداً ولؤماً وتآمراً، بعد أن حقق العراق بعض الانتصارات على المستوى الداخلي والإقليمي.
ويترافق ذلك، مع أكبر حشد للقوات والمعدات القتالية، من أحدث ما أنتجته آلات الحرب الأمريكية، وأشدها فتكاً. ثم يحاصر العراق ويجوع شعبه. ثم يفرض عليه حظر يخالف كل القوانين الدولية والأعراف الإنسانية، وَيُجوّع شعب ويمنع عنه حتى الدواء.
ولنعود في هذه المقارنة التاريخية إلى الماضي، فتوصف تلك الحقبة بأنها حقبة عصور الظلام، فتزداد الأمور سوءاً، فكان يجري إبعاد الرجال الأكفاء عن سدة الحكم وممارسة السلطة، وحتى المشاركة في الرأي، وإعداد ما يلزم. فاختفى العدل، وصار القضاة يشترون مناصبهم، وهي هامَّةٌ في تلك الأيام، ولها دلالات عن واقع الأمور، ولقد أثار ذلك التصرف السخط في أواسط الناس، بعد أن عمت الفوضى وساد حكم الجهلة والانتهازيين والأذلاء، وغابت العقول النيرة عن الساحة. فتداعى الرجال من ذوي الهمم إلى الثورة(5)، لكن كانت الفوضى قوية، والإصلاح عسيراً على الرجال، الأمر الذي شجع الاسبان على القيام بحملات، أخذوا يشترون فيها القلاع والحصون العربية.
وتدق أجراس النهاية المشؤومة، حين يلوح في الأفق اتحاد القشتاليين وليون وتوجههم إلى محاربة خليفة الموحدين(6)، المنغمس في اللهو والترف، المعتكف في قصره. وقد نسي نفسه بين أبقاره فعجَّلتْ إحداها بذهاب روحه.
وتمهد وفاة المستنصر بالله للأقارب الذين كانوا يحكمون المقاطعات لتحقيق مطامعهم، فصار النزاع حول العرش مقدمة لحرب أهلية انتهت بانهيار الدولة الموحدية في الأندلس، وقيام أمير من سلالة بني هود بالاستيلاء على مرسية(7)، والانفصال عن جسد الدولة الموحدية.
وتخرج الأندلس نهائياً عن طاعة الموحدين الذين أسرعوا في الهبوط سرعة المياه في انحدارها، والذين تنازعوا ففشلت ريحهم، وجاءت تباريحهم مسجلة أول نكبة في تاريخنا السياسي، أودت بحياة الألوف من العرب وسلخت الأندلس وأعادتها إلى سكانها الأصليين(8).
لقد كانت هزيمة الأندلسيين أمام أعدائهم، وانهيار دولتهم أو دولهم، هما سبب بلائهم ومصدر شقائهم. وكانت الهزيمة والانهيار نتيجة حتمية لخلافاتهم ولنزاعاتهم، وعجزهم عن الاتحاد والتضامن أمام الأخطار. لقد عانى الأندلسيون الكثير من النزاعات التي وقعت بينهم. وقد استمرت هذه النزاعات، إلى أن أدركوا حقيقة ما جَرّتْهُ عليهم هذه النزاعات من بلاء وكوارث. وكان من المفترض فيهم أن يتعظوا بما جرى، فقد رأوا كيف شجعت هذه النزاعات والخلافات أعداءهم، في حين كان من المفترض أن يحافظ الأندلسيون على وحدتهم، كيلا تتجدد خلافاتهم، فينتهزها عدوهم، ويذكي نارها إستعارا
وهكذا، كانت الخلافات والنزاعات تتجدد، وتعم الفوضى، ويأخذ كل فريق يستعين بالأعداء لتثبيت مراكزه. وإذا كانت أحداث التاريخ تروى لتكون عبرة وذكرى للأحياء، يتأملون دروسها، ويستخلصون العبر منها، فإن أمتنا اليوم أحق الناس بالتأمل فيما جرى.
تلك كانت حال أهل المغرب، فكيف كان حال أهل المشرق؟
لم يكن حال المشرق الإسلامي سياسياً، بأوفر حظاً من حال مغربه، إذ كان يعاني الأمرين من انقسام وحدة المسلمين من جهة، والغزو الصليبي والمغولي من جهة ثانية.
وهكذا، لقد بدت وحدة المسلمين مستحيلة التحقيق، صعبة المنال، ما دام البناء السياسي مشروخاً بشروخ مذهبية، باعدت بين أبناء الأسرة الواحدة، وفرضت لغة السيف وسيلة للإقناع لا لغة العقل والمنطق.
فقد ناصبت السلطة السياسية السنية في بغداد- الحكم الفاطمي والإسماعيلي، في القاهرة وإيران، العداء. واستنجد كل من الأطراف بالعدو المشترك، مع العلم أن كل طرف، كان يعاني من آلام الموت البطيء(9).
وتزحف جيوش الصليبيين مستهدفة بيت المقدس(10)، مستغلة العداء المذهبي الذي أوهن الأمة، وأضعف كيانها، ملقية الضوء على كيانات هدتها الخلافات، وأعمتها عن رؤية الخطر الحقيقي الذي يهدد العالم الإسلامي ومقدساته..
أمام هذه الصورة المؤلمة، بدا البناء السياسي للدولة الإسلامية المشرقية، مشرفاً على الانهيار، والأمل بوقف الزحف الصليبي مفقوداً، ما لم تسعف الأمة دماء جديدة، تبعث فيها الحياة، وتوحد ما فرقته المذاهب وباعدته الشروحات والتفسيرات.
ويذكر ابن الأثير أن أحد حوافز الغزو الصليبي، وعلى نحو مطول، هي الشقاقات والنزاعات التي كانت تخيم على العالم الإسلامي، بالإضافة إلى وجود حكام مسلمين ليسوا عرباً، إضافة إلى الانقسام بين السنة الذين كانوا يستندون إلى حكم الخلفاء العباسيين ولو اسمياً في بغداد، والشيعة اللذين يعترفون بالخليفة الفاطمي في القاهرة. فهذا الانقسام الذي يرجع تاريخه إلى القرن السابع الميلادي، وهو في الأصل نزاع سياسي، تَمَّ تحويله إلى نزاع ديني، واستغل في الحقيقة من قبل أولئك الذين يتربصون بالإسلام والعروبة شراً. وقد أدى ذلك النزاع إلى صراعات شديدة أحياناً، أضعفت العروبة والإسلام، وهي صراعات لا يرضى عنها بالتأكيد رسول الله وابن عمه الإمام علي. وتهديداً للبعض أن الكفاح ضد الشيعة لا يقل أهمية عن الكفاح ضد الصليبين، بالنسبة لرجال الدولة الأيوبية، وَيُتْهم الهرطقيون على أنهم هم الذين تسببوا في جميع الأضرار التي لحقت بالعروبة والإسلام، وليس من المدهش، أن يكون الغزو الصليبي قد ساهم في دسائسهم. ويقال إذا كانت دعوة الفاطميين إلى الصليبيين مجرد خيال، فإن فرحة حكام القاهرة بوصول الغزاة الصليبيين هي حقيقة.
لقد هنأ الوزير الأفضل بحرارة البيزنطيين عند سقوط نيقيا. كما زار معسكر الصليبيين وفد فاطمي كلف بتقديم التهاني الحارة للصليبيين، قبل ثلاثة أشهر من استيلاء الغزاة على أنطاكية. وقد تمنى ذلك الوفد الانتصارات المقبلة للصليبيين، واقترح عليهم إقامة تحالف بينهما. ويقال إن الأفضل، يرجع في أصوله إلى عائلة أرمنية، وهو لا يحمل أي تعاطف مع السلجوقيين الذين قلص تقدمهم مناطق حكم الخليفة الفاطمي منذ نصف قرن. كما جرى ذلك التوسع السلجوقي على حساب الإمبراطورية البيزنطية في الوقت نفسه.
وفي الوقت الذي كان يرى فيه البيزنطيون أن أنطاكية وآسية الصغرى قد أفلتت من سيطرتهم، يرى الفاطميون، أنهم فقدوا دمشق والقدس، اللتين كانتا تابعتين لهما خلال قرن من الزمن. كما توطدت صداقة قديمة بين القاهرة الفاطمية، والقسطنطينية البيزنطية، كما هي بين الأفضل وألكسي. فكانا يتشاوران بصورة منتظمة، ويتبادلان المعلومات، ويعدان المشاريع المشتركة. وقد قابلا بارتياح دمار الإمبراطورية السلجوقية، نتيجة النزاعات الداخلية، التي أدت إلى نشوء العديد من الدويلات الصغيرة في سورية وآسيا والصغرى. ولم يتحدث الوفد الفاطمي الذي أُرسل للغزاة الذين كانوا يحاصرون أنطاكية، عن معاهدة عدم اعتداء، لأن ذلك الأمر كان بديهياً بالنسبة للأفضل. وأن ما اقترحه الوفد على الصليبيين، هو قسمة مشتركة، بحيث يكون للغزاة سورية الشمالية، في حين تصبح سورية الجنوبية، بعبارة أخرى فلسطين ودمشق والمدن الساحلية حتى بيروت، تابعة للدولة الفاطمية. وكانت قناعة الأفضل أن الغزاة سيقبلون تلك العروض المخبرية، لكن الغريب أن يكون جوابهم غامضاً، إذ طالبوا بإيضاحات وتدقيقات.خصوصاً حول القدس ومصيرها. في الوقت نفسه، أظهروا لذلك الوفد، أنهم الأصدقاء الأوفياء، لدرجة أن عرضوا عليهم مشهداً لحوالي ثلاثماية رأس مقطوع من رؤوس المدافعين عن أنطاكية. مع ذلك، رفضوا عقد أي اتفاق، واحتار الأفضل لذلك الأمر.
وتردد حاكم القاهرة الفاطمي فيما يتعلق بالسياسة الواجب اتباعها عندما وصلته أنباء سقوط انطاكية على أيدي الغزاة الصليبيين في سهر حزيران
(1098)، وتبع ذلك الهزيمة المشينة التي تعرض لها كربوغا، في أقل من ثلاثة أسابيع، عندها وجب عليه التحرك بسرعة للتأكد ممن هم أعداؤه ومن هم حلفاؤه. وينقل ابن القلاسني: "أن القائد العام أمير الجيوش، الأفضل، غادر مصر بشهر تموز، على رأس جيش كبير، وضرب حصاراً حول القدس، حيث كان يتواجد فيها الأتراك السلجوقيون، ويهاجم المدينة، ويستولي عليها. وكان لا يعلم، حتى ذلك الوقت اتجاه ونوايا الصليبيين. وعندما عاودوا سيرهم في شهر كانون الثاني عام (1099)، نحو الجنوب، خيم على الأفضل القلق، وأرسل أحد رجاله الثَّقاة على عجل إلى القسطنطينية لاستشارة إمبراطور بيزنطة ألِكْسي. لكن هذا الأخير رد برسالة يقول فيها، إن البيزنطيين لم يعد لهم أية سيطرة على الصليبيين. وإن الأخيرين مصممون على إقامة دولهم الخاصة، كما رفضوا إعادة أنطاكية إلى الامبراطورية البيزنطية، على عكس ما كانوا أقسموا عليه، ويبدو أنهم مصممون على احتلال القدس، وأية مناطق أخرى يستطيعون الاستيلاء عليها. وأن ما ادعوه من توجيه البابا لهم للقيام بحرب مقدسة لاستحواذ قبر المسيح، ما هو إلا ذريعة كاذبة، إلا لماذا يقومون بالمذابح أينما توجهوا. وأَنّا حلوا، وأين أخلاق الحج
ُّاج من أولئك الوحوش الضارية التي لا ترحم، آكلة لحوم البشر".
عندها شعر الأفضل بالندم، وعند ذلك تتضاءل المطامع، وتتقارب الأبعاد، وتلتقي الروافد في نهر الأمة الواحد.
وتتميز الدماء الجديدة في تاريخنا السياسي بانبعاثها عند منعطف خطر، يهدد سلامة الأمة وحياتها. وسرعان ما تتلاشى، ويجف فيها روح الحياة، وتغرب عن الجسد، ليعود الكل أبعاضاً، والبناء حجارة متهدمة.
ويشهد الثلث الأول من القرن السادس للهجرة، ميلاد جبهة إسلامية موحدة، على يد صلاح الدين، الذي أدرك خطورة الغزو الصليبي المحدق بالمنطقة العربية، فراح يعمل جاهداً على إقامة دولة إسلامية واحدة، حدودها الجنوبية مصر الفاطمية، وحدودها الشمالية الديار السورية.
وسرعان ما اصطدمت أحلام صلاح الدين بحلف دفاعي غير مقدس، أقامه الفاطميون مع الصليبيين والنورمانديين والحشاشين(11)
وشعر حكام مصر بدنو أجلهم، وأدرك الصليبيون أن نجاح صلاح الدين، يوقعهم في براثن قوى التحرر، فانقلب الصديق عدواً، والعدو صديقاً، وتحالف الجميع لرد الخطر على العروبة والإسلام. ويعبِّئ صلاح الدين قواه تجاه الغزو الصليبي، فيتوجه إلى حطّين أولاً، مسجلاً نصراً باهراً على العدو(12)، ومتابعاً زرع رايات النصر على أسوار عكا والناصرة وقيسارية وحيفا وصفورية وصيدا وبيروت وجبيل وطرابلس واللاذقية، ويتوجه بعد ذلك لفتح باب المقدس، سنة (583) للهجرة.
فتنكمش إثر تلك الانتصارات، الممالك الصليبية وتضيق رقعها الجغرافية، الأمر الذي رفع صوت البابوية عالياً، يدعو ملوك أوربا إلى القيام بحملة صليبية ثالثة(13) لتسترد بيت المقدس، وتثأر للهزائم الصليبية الفادحة.
ويستجيب ملوك أوربا لنداء البابوية، ويتوجهون بأحقادهم إلى عكا، لكن سرعان ما ينهار الحلف الأوربي، غير المقدس، منتهياً بنصر العرب المسلمين، بصلح ينص على ملك العرب لبيت المقدس(14).
ويموت صلاح الدين عام (589) للهجرة، تاركاً خلفه دولة مترامية الأطراف، وجبهة موحدة لأبنائه السبعة عشر(15)، يتقاسمون التركة الواسعة من بعده الذين شهروا السيف لإقناع بعضهم وأخوتهم، متناسين أن السيف الذي ينصر الأخ سوف ينقلب عليه، بعد فترة وجيزة- ويتشتت تبعاً لذلك، البناء السياسي للدولة الأيوبية، وتحفر الروافد قرارها خارج النهر الواحد، ويسير نهر الأمة متباطئاً في سيره وجريانه، هزيلاً في تياره، يبكي مجداً ضائعاً، ودولة بناها الجد، وأضاعها الأبناء والأحفاد.
وتبدأ إثر تقسيم التركة، حروب الوراثة، بين أبناء البيت الواحد، ويطمع الأخ في ملك أخيه، ويسعى جاهداً للإطاحة به وضم أملاكه إلى دولته، كل ذلك، والعدو الصليبي، لا يزال رابضاً، يتحين الفرص للانقضاض على القوى التي أنهكتها الخصومات وزعزعتها الخلافات بين الإخوة. فقد عُرِفَ عن أحدهم، وهو الأفضل، كونه شاباً مستهتراً، ضعيف السيرة، مقبلاً على اللهو والشراب، حتى مَلَّهُ الناس. فركب أخوه العزيز يريد إصلاح أخيه(16)، رافعاً في الظاهر شعار محاربة الصليبيين الذين استغلوا ضعف الأفضل، فاحتلوا جبلة، وراغباً في الباطن ضم دمشق إلى أملاكه.
إلا أن الأفضل يستنجد بأخيه الظاهر غازي، وعمه الملك العادل(17).
وتلتقي الجيوش خارج أسوار دمشق، وتصلح حكمة العادل ما اعتور النفوس من أحقاد ومطامع، إذ أدرك العادل أن الخصام الأخوي يخرب البيوت، ويدخل عليها الآفة. فقال مخاطباً العزيز: "العدو وراءنا، وقد أخذوا جبلة، فلا تكسر حرمة دمشق، وتطمع فيها كل أحد"(18).
ويتضامن الإخوة فترة وجيزة، في مواجهة الحروب الصليبية، ويقفون يداً واحدة، يشد الواحد منهم إزار الآخر. لكن سرعان ما ينفرط الحلف الأخوي، ليحل محله التناحر والخصام(19). فقد اعتدى المُعَظَّم على أملاك إخوته وأقاربه. وشهر سيف الحرب في وجه أخويه، مستنجداً بالخوارزمية(20)، مزيناً لهم جمال الشام وخيراتها، ووفرة غلالها وثراء أهلها.
أما الكامل، فقد دعا الصليبيين إلى تدعيم سلطانه، واعداً إياهم بمكافأة يقدمها ثمناً لنصرته، وهي بيت المقدس(21). ويلبي الإمبراطور فريدريك. الثاني، دعوة الكامل، فيصل دمشق عام(625) للهجرة، وتنتهي الزيارة بتسليمه مفاتيح بيت المقدس(22)، في وقت ارتفعت فيه صيحات المغول، ناشرة الخراب والدمار على الجناح الشرقي من العالم الإسلامي.
إزاء هذا التناحر والتفكك السياسي، تبدو صورة الأرض العربية صفراء الجبين، وقد غطتها أوراق الفناء، ورقصت في ساحاتها عرائس التشتت والتمزق والانهيار، في إيقاع جنائزي، تعزفه جوقة حكام المسلمين بآلات العبث واللهو والخصام والمطامع.
فقد قام جنكيز خان(23)، بإسقاط الدولة الخوارزمية، واستولى على بخارى، وبلاد ما بين النهرين(24)، إثر دعوة تلقاها من الخليفة العباسي، الناصر لدين الله(25)، حيث اكتشف الخليفة أطماع الخوارزميين الإسلام في ملكه، وتأكد له إصرارهم على غزو بغداد. فرأى في جنكيز خان، الرجل الوحيد، الذي يوقف الخوارزميين، عند حدهم، مطبقاً مبدأ، عَلَيَّ وعلى أعدائي يا رب،(26)، وَعَمِيَ عن بصره أن الجيش الذي سينصره سوف ينقلب عليه بعد حين، ويزيل دولة العباسيين.
ولم تكن بدعة الاستنجاد بالمغول مقصورة على الخليفة العباسي، فقد راسل الاسماعيليون(27) جنكيز خان، لما شعروا بقوة الخوارزمية، وَحَثّوهُ على مناهضة الدولة الخوارزمية، بل أرسلوا مقدمهم إلى المغول يطلعونه على مواطن الضعف عند أعدائهم، الأمر الذي جعل الطريق ممهدة أمام الفاتح المغولي ليزرع رايات الدمار والخراب، على الأرض العربية.
وقد قضى المغول نهائياً على الخوارزميين عام(618) للهجرة(28)، ولم يبق من يقارعهم سوى العباسيين- إلا أن المغول أدركوا أن الاسماعيليين سيكونون شوكة في خاصرتهم وحلوقهم، يحولون دون تحقيق أطماعهم في السيطرة على القسم الغربي في العالم الإسلامي، مدفوعين بعامل هام شجعهم على مهاجمة القلاع الاسماعيلية، وهو "المسلمون أنفسهم اللذين كانوا تحت حكم المغول، ولاسيما أهل قزوين الذين اعتنقوا مذهب أهل السنة"(29) ويظهر ذلك، في رنة الفرح التي عمت العالم الإسلامي إثر اندحار الاسماعيليين، ورغم ما كان يتوقعه المسلمون على أيديهم من أحداث جسام(30).
كل ذلك، يظهر مدى الفساد والتمزق اللذين سادا في تلك الحقبة من تاريخنا السياسي. وقد سقطت قلعة "الموت" عام (657) للهجرة، ثم دمشق عام (657) للهجرة(31). وغابت رايات الإسلام والعروبة عن سواري تلك الإمبراطورية التي بناها الأجداد، وأضاعها الأحفاد.
وهنا،بعد هذا العرض التاريخي السريع، والمختصر جداً، لابد من العودة لربط الماضي بالحاضر. ربما كان الغزو الصليبي أو المغولي، قد تم تحت شعار الخوف من "الإسلام"، لكن الغزو الاستعماري المعاصر بمختلف أشكاله وألوانه وشعاراته، وأهدافه المعلنة والمستورة يتم تحت شعار الهيمنة السياسية والعسكرية والسيطرة الاقتصادية على المنطقة العربية. وإن وجود العرب مقابل أوربا، جعلهم الأقرب منالاً جغرافياً، والأصعب تطويقاً فكرياً وسياسياً، وها نحن اليوم نعاني من محاولات الغرب المتمثل بالولايات المتحدة بعودة الهيمنة بأشكال جديدة، وبأساليب خادعة، من جديد، على منطقتنا العربية. ولقد تأكد تفرد الولايات المتحدة بقيادة "النظام الدولي الجديد" بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، والكتلة الاشتراكية السابقة. وأصبحت الولايات المتحدة البلد الوحيد في العالم الذي يمتلك (المنظومة الكاملة للقوة)، وأنه ما من أحد يستطيع مجاراتها في هذا المجال في هذه الحقبة الزمنية ولا سبيل لتحديها.
وحتى تتوضح "الهيمنة الأمريكية" في إطارها الصحيح، ودون الدخول في الجدال الدائر حول مستقبل النظام الدولي الجديد"، فهناك حقيقة لا تقبل الجدال، تتمثل بوجود منظومة "رأسمالية عالمية"، أصبحت تشكل، دون أي تحد خارجي يذكر، قلب النظام الدولي كله، وتقبضُ بأحكام على الدّفَّة الموجهة لمساره، ولهذه "المنظومة" مكونات ثلاثة: أولها الدول الرأسمالية السبع المتقدمة. وثانيهما الشركات متعددة الجنسية. وثالثهما المؤسسات الاقتصادية الدولية "صندوق النقد الدولي البنك الدولي للإنشاء والتعمير، منظمة التجارة الدولية".
وقد أصبحت "دبلوماسية" هذه المؤسسات، بديلاً أو بالأحرى رديفاً لدبلوماسية البوارج، التي عُرِفَتْ في مطلع القرن التاسع عشر، وهنا تتضح مداخل منظومة الهيمنة الأمريكية وأدواتها ووسائلها، مع إدراك حجم الدور الأمريكي في تشكيلها وأبعاده.
ويتمثل إدراك طبيعة توجهات تلك "المنظومة الرأسمالية العالمية" قبل كل شيء، هو أن مكونات هذه المنظومة تعمل معاً وفي تناغم كل شيء، من أجل تحويل "العالم" إلى "سوق موحدة" تعمل وفقاً لآليات النظام الاقتصادي الرأسمالي وقيمه ومفاهيمه. إن الترجمة المباشرة لهذا "الأصل" في مواجهة النظام العربي، تنصرف عملياً ومن الناحيتين الاقتصادية والسياسية، إلى تصفية "الصراع العربي- الغربي" باعتباره "الصراع الأساسي"، وفي سياق ذلك تجري تصفية "الصراع العربي- الصهيوني" باعتباره "الصراع المباشر" بحيث تتحقق الهيمنة المباشرة للمركب الامبريالي- الصهيوني، وتسقط "القومية العربية"، وتندثر وتتلاشى.. مرة واحدة، وإلى الأبد.
وفي سياق هذا الأصل، يتعرض الوطن العربي، بأقطاره وشعوبه، إلى ضغوط مكثفة ومتصاعدة لإتمام عملية إعادة دمج اقتصادياتها في إطار الاقتصاد الرأسمالي العالمي، ولإسقاط كافة الحواجز التي تحول دون تحقيق هذا الهدف، بصرف النظر عن التكلفة السياسية والاجتماعية والثقافة لهذه العملية، من وجهة نظر السياسات المحلية. ومعنى ذلك، أن الأقطار العربية تنخرط، رغم إرادتها، في خضم عملية تحول كبرى في هياكلها الاقتصادية والاجتماعية، مدفوعة في ذلك، بضرورات المواءمة مع مقتضيات النظام الدولي "الجديد"، بصرف النظر عن الاعتبارات الخاصة بالمصالح الوطنية لتلك الأقطار.
ويبدو أن الغرب قد استوعب جيداً كل دروس المراحل السابقة، فلم يعد يسمح لنفسه بأي وهم في تقييم مدى ثبات الأسس التي يبني عليها مصالحه ومشاريعه في الوطن العربي. ذلك أن الدوائر الغربية، والصهيونية، تدرك أكثر من غيرها، أن ما تم حتى الآن، ليس الرضى العربي التاريخي النهائي بالكيان الصهيوني في فلسطين، بل الاعتراف العربي الرسمي بالعجز أمام المشروع الصهيوني. والفارق بين الأمرين، كبير للغاية. فالأول صامد ثابت، والثاني متغير زائل. وصحيح أن الغرب ما يزال يبني مشاريعه في المنطقة، ويقيس "واقعيتها" على أساس "العجز العربي"، إلا أنه تعلم من مرحلة الخمسينيات
(1950) والستينيات (1960) التي شهدت ذروة الصراع العربي- الغربي، أن العجز العربي، حالة لا يمكن أن تستمر إلا بفرض وترسيخ ظروف استمرارها المادية والمعنوية.

ولقد ساعد على ذلك، أن القيادات التي تتصدى لاتخاذ قرارات مصيرية، تمس المستقبل العربي كله، وتتصل بحقوق أجيال لا يجوز التصرف فيها، تعمد تحت شعار "الواقعية" إلى عزل الظواهر عن الأسباب، وتبخس الذات العربية، وتغالي في تضخيم قدرات العدو، وتتخذ من معاناة الجماهير سوطاً تلهب به ظهرها لتدفقها قسراً، ودون إرادة واعية للقبول- وبحماس أحياناً- بما يتعارض مع مصالحها وطموحاتها، بل وحقوقها غير القابلة للتصرف، وبالرغم من محدودية مجموعات النخبة المستغلة للأمر الواقع، إلا أن صمت الأغلبية بعد النجاح في تغييبها، عن ساحة الفعل السياسي، جعل منها قاعدة واسعة لقيادة لا يربطها بأي نسب صحيح. وشكل الجميع تجمعاً يتسم بالإدراك القاصر للواقع، والفهم الناقص للواقعية، والاستجابة شبه التلقائية لدعوات اليأس والإحباط، والقبول-ولو على مضض- برموز هذه "الواقعية" والنظر إلى هذه الرموز باعتبارها تجتهد في "إنقاذ ما يمكن إنقاذه".
وفي ظل هذه "الواقعية" صدرت تصريحات رسمية من أكثر من حكومة عربية- تحت ستار دعاوى تاريخية وثقافية مغلوطة- تدافع عن بعض دول الجوار التي نجحت باختراق جدار الأمن القومي العربي، وتُمارس عدواناً مباشراً على حقوق جوارها ومصالحها.
ولابد من الإشارة، إلى أن الأعوام الأخيرة من القرن العشرين شهدت، وقد تشهد بعد ذلك، استمرار وتعزيز نمطين من أنماط التفاعلات الدولية: أولهما أن التفاعلات العربية الدولية مصدرها الطرف الدولي، حيث استقرت مكانة "العرب" كطرف مُتَلَقّ لا يمتلك قدرات الحد الأدنى اللازمة لممارسة دور فاعل على الصعيد الدولي، وثانيهما أن الوطن العربي مازال أكثر الأقاليم في العالم، تعرضاً للاختراق الأمريكي، على المستويات السياسية والاستراتيجية والثقافية. ويتضح ذلك من متابعة دبلوماسية "عملية التسوية" الجارية للصراع العربي- الصهيوني، ومحاولات تأسيس هيكل أمني في الخليج.
ومن الملاحظ أن القوى العالمية الكبرى الأخرى، كانت تلتزم في حركاتها تجاه الوطن العربي بهذين النمطين، مع بعض التمايزات، ساعدها على ذلك "غياب العرب" شبه الكامل في مجال صياغة سياسية أو حتى سياسات، تجاه هذه القوى الكبرى، حتى ولو من قبيل موازنة التواجد الأمريكي الكثيف، ودعمه غير المحدود للوجود الصهيوني وانتشاره، الذي عمد إلى تصعيد توجهاته العدوانية والعنصرية، باعتبارها لصيقة بهذا الوجود- ولا علاقة لها بأية "تسوية". كذلك، فإن المأزق العربي نفسه قد تجلى بصورة واضحة في إدارة العلاقات العربية مع دول الجوار الآسيوي والإفريقي، التي يظل من الممكن اعتبارها "رصيداً للعرب في معاركهم المتواصلة، من أجل تحرير الإرادة الوطنية، و***** الأمن القومي، وحماية الهوية العربية، على قاعدة من التنمية الشاملة المستقلة.
ولا يزال الوطن العربي، يشهد تعزيزاً لنمط معين من التفاعلات العربية الدولية مفاده أن مصدر هذه الأخيرة- يشكل شبه كلي تقريباً، هو الأطراف الدولية، فيما ظهر العرب كطرفٍ مغلقٍ لهذه التفاعلات، نظراً لغياب قدرات الحد الأدنى المشترك. كما ازدادت ظاهرة الاختراق الدولي، وبالأخص الأمريكي للوطن العربي. كما تدل على ذلك جملة من العوامل أهمها: التأثير الأمريكي الكبير في صياغة الأجندة العربية، وتحديد الأولويات الفعلية، والتدخل الفاعل في العلاقات العربية- العربية، وكذلك في العلاقات العربية- الإقليمية.
ويمكن النظر إلى السياسة الأمريكية تحت عنوانين رئيسين: أولهما دبلوماسية عملية التسوية. وهي دبلوماسية تتخطى هدف تسوية الصراع لتصل إلى محاولة إعادة صياغة العلاقات العربية، مع الكيان الصهيوني والإقليمية عموماً، وإرسائها طبقاً لقواعد ومفاهيم جديدة، تسقط كلياً مفاهيم العروبة والهوية والقومية والعمل العربي المشترك.
والعنوان الثاني لاستراتيجية الولايات المتحدة في الوطن العربي، يتعلق بالهيكل الأمني في الخليج العربي/ الفارسي، حيث شهدت سياسة واشنطن مزيداً من الهجوم الدبلوماسي، والعسكري، وذلك بمتابعة توجيه الضربات العسكرية على العراق وإنشاء جماعات معارضة من الهاربين من العراق، تقوم بتمويلهم ودعمهم، في الوقت نفسه، محاولات الضغط أحياناً على إيران، وأحياناً أخرى، تكليف بعض حلفائها في المنطقة للتقارب من إيران. لكن واجهت هذه الاستراتيجية التي أطلقت عليها واشنطن اسم "الاحتواء المزدوج" مزيداً من الانتقاد الدولي، ولدى الجماهير العربية، لجملة من الأسباب، من أهمها، فشل هذه الاستراتيجيا، نتيجة لسياسات أصدقاء الولايات المتحدة أنفسهم، تجاه العراق، وازدياد بعض الأعمال التي تطلق عليها الولايات المتحدة، اسم "الإرهابية" ضد القوات الأمريكية، إلى جانب غرق دول مجلس التعاون الخليجي في خلافاتها.
وتبدو الولايات المتحدة الأمريكية، كما لو أنها تقف وحيدة على الصعيد السياسي في الخليج العربي/ الفارسي، وبأنها عاجزة عن الإمساك ببعض الأوراق الإقليمية التي تصطدم أحياناً بمصالحها، مثلاً في محاولة الحصول على غطاء الشرعية الدولية، عندما قررت توسيع مناطق الحظر الجوي في العراق.
ولابد من الإشارة مع الإصرار إلى التحديات التي تواجه الأمن القومي العربي، خاصة في ظل تيار العولمة أو الأمركة، بكافة أبعاده السياسية والاقتصادية والإعلامية والثقافية، مع التركيز على أن الآثار السلبية لهذا التيار لا يبغي أن تصرف المثقفين العرب خاصة والجماهير العربية عامة عن تحمل المسؤوليات الذاتية للعمل على تغيير هذا الواقع العربي، على النحو الذي يكفل التعامل مع العولمة بِشَكلٍ يحفظ للعرب وجودهم القومي، وخصوصيتهم الثقافية، والمساعدة على تحقيق أهداف الأمة العربية، والمشاركة بصورة إيجابية، في صنع الأحداث الدولية.
كما أن المنعطف الخطير الذي يمر به الصراع العربي- الصهيوني، يمثل أخطر تَحَدٍّ للأمن القومي العربي في الوقت الراهن- مع التأكيد على مواجهة ما تتطلبه مواجهة هذه التطورات من ضرورة إحداث نقلة نوعية في التعامل العربي مع هذا الصراع، بوصفه صراع وجود ولا نزاع حدود. وعلى الجماهير العربية، أن تتحرك بمعزل عن الأنظمة العربية لمقاومة ما يجري على الساحة العربية، لما يسمى بعمليات التطبيع، وما تَجُرُّهُ من تغييرات في التاريخ والجغرافيا والثقافة كما يجب على الجماهير العربية، وعلى المثقفين خاصة، فضح خطورة استمرار الوجود العسكري الأجنبي بكل أشكاله على الأرض العربية، مهما كانت الأسباب وتعددت المبررات بكل أشكاله على الأرض العربية، كما يجب توجيه الاهتمام لدى الجماهير العربية إلى تفعيل التضامن العربي، والتنسيق، وتنفيذ القرارات التي تتخذها المؤتمرات العربية وذلك بتفعيل منظمات العمل العربي المشترك والتجمعات العربية الإقليمية.
كما يجب على المثقفين الاهتمام بقضية الديموقراطية وحقوق الإنسان وتشخيصهم لعوائق الانتقال إلى الديموقراطية، مع التأكيد على عدد من الآليات الكفيلة بتسهيل هذا الانتقال، وأهمها آلية الوفاق والحوار الوطني المؤسسي بين السلطة والمعارضة، وتفعيل مؤسسات المجتمع المدني، وحرية انتقال الأفراد والأفكار، واعتماد مبدأ الحوار والقبول بوجود رأي آخر، كما يجب التأكيد على أهمية تعزيز استقلال القضاء، وضرورة الاهتمام بالانتخابات المحلية وتوسيع قاعدة المشاركة السياسية وإزالة العقبات التي تحول دون ممارسة المرأة وأية شرائح اجتماعية أخرى لحقوقها السياسية والثقافية والفكرية.
ولابد من الإشارة أيضاً إلى عجز برامج التنمية القطرية والحاجة إلى تبني نماذج شاملة لقضية التنمية، ترتبط بقضايا الانتماء الوطني والقومي والبناء الديموقراطي، كما يجب التعامل مع تيار العولمة الاقتصادية من خلال التوصل إلى التكامل بين الاقتصاديات العربية. كما لابد من الإشارة أيضاً أنه من الضروري إقامة كتلة اقتصادية عربية، وذلك بإقامة منطقة تجارة حرة عربية.
وفي الختام يتوجب الإشارة إلى الخطر الصهيوني في فلسطين المحتلة، فهو نموذج فريد في الاستيطان الاقتلاعي في التاريخ، لا يحاكيه إلا استيطان الجماعات الأوربية لأمريكا الشمالية على أنقاض شعوبها الأصلية، التي اصطلح على تسميتها بالهنود الحمر. فالصهاينة المهاجرون لا يدعون حقاً تاريخياً بأرض، وينازعون عليها شعباً مُتَجَذِّراً فيها منذ قرون عديدة فحسب، بل هم ينهضون أيضاً إلى تحقيق ذلك بأيديولوجيا هجومية احتقارية، تستبيح الانتقام لليهود المضطهدين في العالم، بقهر العرب واقتلاعهم من جذورهم، وإقامة دولة لليهود، تكون جزءاً من السور الغربي المرفوع في وجه العرب، وحاجزاً يفصل المشرق العربي عن مغربه، وحارساً لمصالح الإمبريالية في المنطقة العربية، ومانعاً لوحدتها، وحليفاً للإمبريالية، وعندما يكون الصراع على هذا المستوى، من العداء والمرارة والحرارة، يصبح الأمن هاجساً مقيماً، والتسوية أمراً مكروهاً. ولقد رَكّز الكيان الصهيوني وجوده بدعم سخي، سياسي واقتصادي وعسكري من الغرب، وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية، منذ قرار التقسيم المشؤوم، وقبله وعد بلفور. ثم أخذ ذلك الكيان باستغلال الضعف العربي، في قضم الأراضي العربية، ثم استكمل أحد مشروعاته باحتلاله الكامل للتراب الفلسطيني، في حرب الأيام السته، في حزيران عام (1967)، كما سيطر على سيناء وعلى الجولان، ثم مناطق حدودية لبنانية، بحجة الأمن، أمن المعتدي والقاتل، النظرية النازية نفسها، والأمن ليس له حدود، فهو يبدأ ثم يأخذ بالتوسع والامتداد.
لكن، بقدر ما تبدو القدرات الصهيونية ممركزة وفاعلة، تحكمها قيادة سياسية واحدة، بجهاز عصبي مركزي عالي الكفاءة، والحساسية، ومدعوم من قوى الاستعمار والإمبريالية، بقدر ما تبدو القدرات العربية مشتتة مشرذمة، عاجزة عن إيجاد حد أدنى من التنسيق والانتقام في نسق معقول للتضامن القومي. وأصبح وضع التجزئة والتشرذم مقترناً بالصراعات العربية، نتيجة غياب الديموقراطية والأنظمة الاستبدادية في الوطن العربي عموماً، وخلق الصراعات والأزمات بين الأنظمة العربية، عوضاً عن توجيه الطاقات، نحو العدو المشترك، في الوقت نفسه، بات الكيان الصهيوني تمتلك ترسانة ضخمة من أسلحة الدمار الشامل بمعونة الغرب ودعمه، بالإضافة إلى جميع أنواع الأسلحة المتطورة وأحدثها، مع قدرات على تصنيع الأسلحة، في حين تمنع أية تكنولوجيا عسكرية عن العرب، لا بل شارك العرب في تدمير ما حققه قطر عربي من تطور في هذا المجال عوضاً عن المساعدة لمواجهة ذلك الخطر الصهيوني.
من جهة أخرى، تتمثل القاعدة المادية الأساسية التي تقوم عليها الاستراتيجية الغربية بصورة رئيسة، في مجموع المصالح والامتيازات الاقتصادية والتجارية والمادية التي تستحوذ عليها الشركات متعددة الجنسية، وتستنزف بواسطتها الثروات القومية، وعلى رأسها النفط، والأموال التي تنتج عنه، بصورة وحشية، وقد ترافق نمو هذه المصالح، بتزايد النفوذ والتأثير السياسي وتقوية المواقع العسكرية للغرب عموماً، والإمبريالية الأمريكية خصوصاً في العديد من الدول العربية. وتؤكد الوقائع كل يوم، وبصورة قاطعة، التوافق المصلحي للكيان الصهيوني، مع تقدم الاستراتيجية الغربية في المنطقة العربية. بل كان الكيان الصهيوني في فلسطين ولا يزال- حتى بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، أحد أدوات تنفيذ هذه الاستراتيجية، وقد لا ندهش في يوم من الأيام، أن يحدث تحالف ما بين ذلك الكيان الغريب عن المنطقة، وبين بعض الحكام العرب، لكن علمنا التاريخ، أن الانتصار للشعوب في آخر الأمر، وويل للمتخاذلين.

¾¾¾



¡ الهوامش

1- امتدت المملكة الإسلامية شرقاً فشملت: الدولة الخوارزمية في إيران، وبلاد ما بين النهرين. والسلجوقية في شمال سوريا وآسيا الصغرى. والعباسية في بغداد. والأتابكية في حلب والموصل. والفاطمية في مصر وجنوب سوريا وفلسطين. وتمتد غرباً لتشمل الدولة الموحدية في الأندلس والشمال الأفريقي.
2- ابتدأ الزحف الصليبي عام (1095)م والمغولي عام (1258)م.
3- المراكشي: ص226، وعلام: ص142.
4-هو القائد يحيى بن غانية، آخر ولاة المرابطين في الأندلس، الظافر على النصارى في معركة أفراغة التي هلك فيها الفونسو المحارب، ثم انقلب إلى حليف للأسبان. وكذلك القائد سعيد بن مردنيش، تاريخ (567) للهجرة، الذي لم يتردد في طلب العون من الإسبان ضد أبناء قومه. وكثير من القادة ساروا على منوالهم، كابن هود، وابن همشك: ابن صاحب الصلاة، ص115، وابن الأبار، ص220، وأشباح ص229، وعلام ص161 و 175، والحلل السندسية: شكيب أرسلان ج3 ص514، مكتبة الحياة بيروت 1936.
5- أشباخ من 401و 402و 403.
6- أشباخ ص405.
7- مَرْسِيَّة: مدينة في جنوبي الأندلس، بناها الأمير عبد الرحمن بن الحكم سنة 216 للهجرة، وأضحت قاعدة حكم آل هود، راجع في ذلك، ابن صاحب الصلاة ص115، د. شكيب أرسلان ج3 ص533.
8- يعلل ابن الآبار أسباب سقوط الأندلس، في كتابه، ص327-333 فيقول: "دناءة الملوك، وعدم رعايتهم لحرمة النفس الإنسانية، والانقسام المخيف الذي ظهر بين عرب الأندلس، هو الذي مكن سكان البلاد الأصليين، من القضاء عليهم، وبالتالي أجبرهم على الخروج نهائياً من شبه الجزيرة. ثم عقلية أمراء وولاة المغرب في الأندلس، وكيف يسعون إلى الحياة المترفة الهانئة، التي سادت الأندلس في أواخر أيامه، وفي أشد الساعات حراجة، ثم أخلاق الأمراء والقضاة وسعيهم للحكم والسيطرة، وكيف أنهم فطروا على المكر والخديعة.
9- آ-استنجد الخليفة العباسي الناصر لدين الله "575-622" للهجرة، بالمغول ليخلصوه من الخوارزميين والاسماعيليين. راجع الكامل في التاريخ لابن الأثير؛ ج9 ص361 و 362.
ب- وتجد اسماعيلية إيران، يقتلون الخليفة العباسي، المسترشد سنة (529) للهجرة، ويتصل مُقَدَّمَهُمْ بجنكيز خان، يحثه على مناهضة العباسيين والخوارزميين.
وراجع: تاريخ الخلفاء للسيوطي من (433)، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، القاهرة (1952). والمغول في التاريخ؛ فؤاد الصياد ج1 ص84 دار النهضة العربية: بيروت 1970.
ج- ثم ترى حلفاً فاطمياً صليبياً للقضاء على الأيوبيين. راجع النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، لابن تغردي بردي ج6 ص6، المؤسسة العامة للتأليف والترجمة والنشر، القاهرة.
د- المختصر في أخبار البشر، لابن الوردي: ج2 ص115-119، دار المعرفة بيروت 1970.
هـ-ثم تجد راشد الدين بن سنان يعمل على قتل صلاح الدين، ويقيم حلفاً مع عموري، صاحب بيت المقدس، وملك صقلية، النورماندي، لمهاجمة الشواطئ المصرية، بغية القضاء على الأيوبيين، راجع مصر في العصور الوسطى. د. علي إبراهيم حسن ص173-174، دار النهضة المصرية 1964.
9-أما السلاجقة، فكانوا في حرب دائمة مع غيرهم من سلاطين المسلمين، راجع د. الصياد ص89-90.
10-زحف الصليبيون على سوريا عام (1095)، وأسسوا إمارات الرها وانطاكية وطرابلس وبيت المقدس.
11-راجع: ابن تغردي بردي ج6 ص6، والروضتين للمقدسي ج1 ص329-335. والمختصر في أخبار البشر لابن الوردي: ج ح ص115- 119، دار المعرفة، بيروت 1970. ومصر في العصور الوسطى: ص173-174. "حيث يجمع المؤرخون على اتحاد الفاطميين والحشاشين والنورمانديين وملك صقلية للفتك بصلاح الدين. ثم اتفاق راشد سنان الدين زعيم الإسماعيلية مع عموري صاحب بيت المقدس وملك صقلية على مهاجمة الشواطئ المصرية".
12-ابن تغردي بردي: ج6 ص31، وابن شداد ص75. وقد جرت المعركة سنة 583 للهجرة.
13-ملوك أوربا هم: فيليب أوغست، ملك فرنسا، وفريدرك بربوسيا، امبراطورية ألمانيا، وريتشارد قلب الأسد، ملك إنجلترا، وهي الحرب الصليبية الثالثة، عاشور ص56.
14-تشتت الحملة عام 586هـ، إثر صلح الرملة، الذي عقد بين صلاح الدين وملك الإنجليز. راجع ابن تغردي بردي ج6 ص47-48، وعاشور ص59.
15-ابن تغردي بردي: ج6 ص62 "كانوا- أولاد صلاح الدين- ستة عشر ذكراً، وابنة واحدة، أكبرهم الأفضل علي، ولد بمصر سنة 565هـ، ثم الظاهر، وقطب الدين موسى 573هـ، والملك العزيز عثمان 067هـ، وأخوه يعقوب، والملك القاهر غازي، والملك زاهر داوود، والملك المعز إسحاق، والملك المؤيد مسعود، والملك الأشرف محمد، والملك محسن محمد، والملك الغالب ملكشاه، ما لبثت مؤمنة خاتون، وقد تزوجها ابن عمها، الملك العامد بن الملك العابد.
16-مفرج الكروب في أخبار بني أيوب: جمال الدين بن واصل. ج3 ص14- دار القلم بمصر.
17-راجع ترجمة العادل ت 596هـ في: ابن تغردي بردي ج6 ص160.
18-المرجع السابق: ج6 ص121.
19-المرجع السابق ج6 ص229- 234 واصل من 104-120.
20-أصل الخوارزميين أتراك- يدينون بالإسلام، وينتسبون إلى "توشكين" الذي كان عبداً اشتراه أحد أمراء السلاجقة، ثم نصبه حاكماً على إقليم خوارزم، وتلقب بـ"خوارزمشاه" 450 هـ. وقد بلغت الدولة أقصى اتساعها في عهد السلطان علاء الدين خوارزم شاه
(596-617)هـ.

21-عاشور: ص75.
22-المرجع السابق: ص86 "وَتُعْرف هذه الحملة تاريخياً، باسم الحملة الصليبية السادسة. وهي ملعونة من البابا لحرمان رئيسّها من عطف البابوية".
23-جنكيز خان: (1115-1227)م، اسمه الحقيقي تيمورجين بن بسكاي بها در بن برتار بهادر. وقد لقب بجنكيز خان، عندما صار ملكاً على المغول، راجع المقريزي في السلوك لمعرفة دول الملوك، ج1 ص307. نشر الدكتور محمد مصطفى زيادة، القاهرة، عام 1934، ود. الصياد، ص39-40-41-48.
24-بدأ الزحف المغولي على الأقاليم الخوارزمية عام 616هـ، وانتهى عام 618هـ، راجع: د. الصياد ص112.
25-الناصر لدين الله العباسي (575-622)هـ راجع د الصياد ص72.
26-يقول صاحب الكامل في التاريخ: "إنه- أي الناصر- هو الذي أطمع التتر في البلاد، وراسلهم في ذلك. فهو الطامة الكبرى التي يصغر عندها كل ذنب عظيم".
ويقول المقريزي: ج1 ص218: "وفي خلافة الناصر، خرب التتر بلاد المشرق، حتى وصولاً إلى همذان. وكان هو السبب في ذلك، فقد كتب إليهم بالعبور إلى البلاد خوفاً من "علاء الدين خوارزمشاه".
27-الإسماعيلية: إحدى الفرق الباطنية. نادى أتباعها بإمامة إسماعيل بن جعفر الصادق. وأطلق عليهم لفظ الحشاشين، لأنهم كانوا يستعينون بمخدر الحشيش في الترويج لمذهبهم، وفي حوادث الاغتيال السياسي. ويُعْتَبَر الحسن بن الصباح، المؤسس الحقيقي لفرقة الحشاشين في إيران، عام (483)هـ، راجع الفصل في الملل والنحل والأهواء، لابن حزم: ج4 ص182، 183، مطبعة التمدن بمصر 1321هـ ود. الصياد حتى 74-75.
28-د. الصياد: ص235
29-المرجع السابق ص244
30-المرجع السابق ص252
31-المرجع السابق ص237-260-295.

¾¾¾





الفهرس


مقدمة 5
الفصل الأول : آ-تاريخ العلاقات الدولية بين الحرب والسلم9
الفصل الثاني : عولمة وتصدع شمال- جنوب. 51
الفصل الثالث : المسرح السياسي الأوراسي "أوربا –آسيا" الكبير
من وجهة نظر الولايات المتحدة:
83

الفصل الرابع : النظام الدولي الجديد، معاد النظر به109
نحو حرب باردة جديدة120
الفصل الخامس : "الاستراتيجية الشاملة" للولايات المتحدة الأمريكية حرب على المنافسين: أعداء وحلفاء157
الفصل السادس : معركة الاقتصاد، وحرب الاستعلام174
الفصل السابع : بعض مظاهر أسس الاستراتيجية الغربية في
الوطن العربي ومحاذيرها
174

الفصل الثامن : تحصين الفكر العربي من الفكر الغربي الدخيل. 174
الفصل التاسع : أوراق تراثية تربط الماضي بالحاضر.174


¾¾

لائحة بأعمال المؤلف، أو بعض منها:

مواليد قرية الطيبة –محافظة درعا- عام 1932

1-الحرب العالمية الثالثة مترجم عن الإنجليزية.
2-الأمن الأوربي في الثمانينات مترجم عن الفرنسية.
3-البدو في الصحراء مترجم عن الإنجليزية.
4-فترة من الانفراج الدولي مترجم عن الفرنسية.
5-التصدع العالمي مترجم عن الإنجليزية.
6-الحروب الخفية. المخابرات الأمريكية مترجم عن الفرنسية
7-حرب أخلاق وفكر استراتيجي في العصر النووي الحراري مترجم عن الفرنسية.
8-التحولات الأوربية مترجم عن الفرنسية.
9-مصير كوكب الأرض في حال نشوب حرب نووية مترجم عن العربية
10-باسْمِ الرب مترجم عن الإنجليزية.
11-الصراع على العالم مترجم عن الفرنسية.
12-الكساد الكبير في التسعينيات مترجم عن الإنجليزية.
13-ليلة في غرفة تشريح الجثث –رواية- مترجم عن الإنجليزية.
14-العالم الثالث، حقائق وتناقضات تأليفاً.
15-أنظام دولي جديد، أم هيمنة امبريالية جديدة تأليفاً.
16-السياسة الدولية في نهاية الحرب الباردة تأليفاً.
17-المتغيرات الدولية وانعكاساتها على الوطن العربي تأليفاً.
18-كي لا ننس التاريخ تأليفاً.
19-ما الذي تغير في الحضارة الغربية، الاستراتيجية أم اكتلتيك؟ تأليفاً.
rr




رقم الإيداع في مكتبة الأسد الوطنية

دراسات في الفكر الاستراتيجي والسياسي: / موسى الزعبي دمشق: اتحاد الكتاب العرب، 2001 313 ص؛ 24سم.


1- 327.1 ز ع ب د 2- العنوان
3- الزعبي

ع- 1995/10/‏2001‏ مكتبة الأسد
qq
__________________
(اللهم {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (البقرة:201)
رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية

الكلمات الدلالية (Tags)
الاستراتيجي, الفكر, دراسات, فـي, والسياسي


يتصفح الموضوع حالياً : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
أدوات الموضوع

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


المواضيع المتشابهه للموضوع دراسات فـي الفكر الاستراتيجي والسياسي
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
الفكر الاستراتيجي للقادة: دروس مستوحاة من التجارب العالمية والعربية Eng.Jordan بحوث ومراجع في الإدارة والإقتصاد 3 11-03-2013 08:33 PM
الفكر الاستراتيجي في العصر النبوي Eng.Jordan دراسات ومراجع و بحوث اسلامية 0 06-13-2013 10:44 AM
دراســـات فـي الفكر الاستراتيجي والسياسي Eng.Jordan كتب ومراجع إلكترونية 0 02-19-2012 11:45 AM
تحديات الفكر والثقافة العربية في الفكر والأدب Eng.Jordan دراسات و مراجع و بحوث أدبية ولغوية 0 02-19-2012 09:36 AM
تحديات الفكر والثقافة العربية في الفكر والأدب الدكتور سليمان الأزرعي مهند دراسات و مراجع و بحوث أدبية ولغوية 0 01-09-2012 06:47 PM

   
|
 
 

  sitemap 

 


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 10:52 AM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.12 by vBS
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع المواضيع والمشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59